فكرة وفكرة ساجد العبدلي ٢٠١١م المقدمة: وأما بعد، فهذه مجموعة من المقالات التي كنت كتبتها على فترات متباعدة، في موضوعات شتى، يربطها أنها جميعا كانت نتاج تأملات لي في الإنسان وما حوله. أعيد نشرها اليوم في هذا الكتاب، وأنا من كنت ولفترة من الزمن أقول أن لا فائدة كبيرة ترجى من إعادة نشر ما تم نشره، لكنني أرجع اليوم لأتراجع عن رأيي هذا، بعدما أدركت أن كا مقال، ومهما كان حجم الشريحة التي اطلعت عليه، فإن هناك عشرات بل مئات الشرائح الأخرى التي لا تزال لم تسنح لها الفرصة للإطلاع عليه، وكذلك أنه قلما يكون هناك القارئ الذي قد تمكن من مطالعة كل مقالات كاتب بعينه، لذلك فمن سيجد مقالا قد سبق له أن قرأه، فحتما سيجد عشرة غيره وأكثر لم يسبق له أن قرأها. لكنني وبالرغم من هذا السبب الذي جعلني أعيد جمع هذه المقالات من مصادرها للتأليف بينها في هذا الكتاب، فإنني سأقوم بتهذيبها وإعادة صياغة البعض منها، فلست ممن يرون قدسية النص المكتوب بعد كتابته ونشره، بل أرى النص في يد كاتبه له أن يظل حيا كالشجرة التي يمكن قصقصة بعض أطرافها يوما بعد يوم لإعادة تشكيلها، دون إخلال بالفكرة الأساسية طبعا. وكذلك سأخرج من كل مقالة، في الصفحة التالية لها، برسالة مركزة، أخصصها لذلك الجمهور الذي يعشق قراءة اللطائف والرسائل السريعة، فأنا أعلم تمام العلم أننا قد صرنا اليوم إلى زمن لا يتوافق وقراءة المطولات، ويبحث عن الخلاصات بأسلوب الرشقات، ليبثها على هيئة رسائل في برامج المراسلة في الهواتف النقالة، وفي شبكات التواصل الإجتماعي كتويتر وغيرها. آمل أن تجدوا في هذا الكتاب ما يجعلكم تتأملون في معانيه ودلالاته، وما يجعلكم تحاكون به حياتكم، عله يكون ذا فائدة. ساجد بن متعب العبدلي كن إيجابيا… لا أحمق! لم أكن أتصور حين بدأت تلك الحملة التحفيزية المصغرة على شبكة الإنترنت للدعوة إلى الإيجابية أن أواجه هذا العدد الكبير ممن لا يدركون المعنى الصحيح لمصطلح “الإيجابية”، فيقابلون نشاطي بالاستهزاء، بل أحيانا بالهجوم، متهمين إياي بتسطيح الأمور وتخدير الوعي وتغييبه عن إدراك الواقع وما تحيق به من صعوبات ومشاكل وآلام!
لكن من يظن حقا أن الإيجابية هي هكذا يا سادتي، يظلمها والله ظلما كبيرا، لأنها أبعد ما تكون عن هذا التصور.
الإيجابية لا تعني مطلقا أن يخدع الإنسان نفسه فيقول إن الدنيا كلها ربيع وإن الجو بديع، وإن الألوان في هذه الحياة كلها ليست سوى تدرجات عن اللون الوردي، هذا ضرب من ضروب الحماقة، بل رمي بالنفس إلى التهلكة!
الإيجابية الحقة تعني أن يكون الإنسان مدركا تمام الإدراك ما يجري حوله، وأن يعرف شكل المشاكل والمعوقات وحجمها ومصادرها، وأن يعي أن في هذا الواقع الكثير من المصائب والابتلاءات، وأن كثيرا من الناس سيواجهون الكثير من التحديات والصعوبات في حياتهم، وأنهم سيخفقون ويصابون ويتألمون، وأن هذا كله من سنن الله الماضية التي ستستمر حتى قيام الساعة.
الإيجابية الحقة تعني أن يدرك الإنسان هذا كله مؤمنا ألا مفر من وقوعه، ولكن أن يُقبِل في ذات الوقت على مواجهته متسلحا بالعزيمة المرتفعة والهمة العالية، وقبل ذلك بالإيمان بأن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
الإيجابية الحقة تعني أن يثق الإنسان أن الأمور، مهما كان شكلها اليوم ومهما بلغت درجة تعقيدها وإيلامها، صائرة إلى الأحسن بإذن الله تعالى، إن عاجلا أو آجلا، وأن يتذكر كم من المصائب والجراحات والمشاكل قد مرت على البشر منذ فجر التاريخ، وكيف أنها سرعان ما راحت وانقضت، طال عمرها أو قصر، وأن يتذكر أيضا كم من ابتلاء رآه الإنسان شرا في حينه، وإذا به بعدما تجاوزه يكون فيه خيرا كثيرا.
الإيجابية الحقة تعني أن على الإنسان عند مواجهته للمعوقات والفشل أن يفكر بالدروس الخفية والحلول المحتملة والثمرات المستخلصة منها، فيأخذها ويجعلها بذورا لمحاولات الغد السائرة به نحو النجاح، لا أن يجلس طوال الوقت يجتر مفردات المشكلة وتعقيداتها وألمها، ويرفض حتى مجرد التفكير أن هنالك حلا ما في مكان ما، كمن يقوم بلف حبل حول عنقه ليخنق نفسه، وليس في هذا القول أي دعوة بأنه لا يصح للإنسان أن يحزن مطلقا أو أن يتألم فيمارس طبيعته البشرية لبعض الوقت، بل على العكس تماما، هذا الشيء من تمام الصحة النفسية، بل إن من مكملات الإيجابية أن يعي الإنسان حاجته النفسية لممارسة ضعفه البشري وانكساره النفسي في أوقات معينة تكون له كاستراحة المحارب، يعود بها أقوى شكيمة وأصلب عودا.
كما أن الإيجابية ليست شيئا محصورا بأناس بعينهم دون سواهم، بل هي طبيعة وعادة يمكن التطبع بها والتعود عليها، وكما قال النبي الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: “العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم”، ولهذا فعلى الإنسان أن يذكر نفسه بأهمية أن يكون إيجابيا كي لا يقع فريسة للإحباط والكآبة، وعليه أن يبحث عن كل ما من شأنه أن يعزز هذه الحالة في نفسه، فيرافق الصديق الإيجابي ويرتاد المجالس الإيجابية ويتابع الأخبار الإيجابية ويقرأ الكتاب الإيجابي، وأن يبتعد في المقابل عن كل ما يرتبط بالسلبية والتشاؤم وأهلها ودروبها وأدواتها.
يا سادتي، ليس هذا كلاما إنشائيا، بل هو ما رأيناه بأعيننا، وما أثبتته تجارب الناجحين الإيجابيين عبر الأزمان والعصور في مختلف بقاع الدنيا، ولو تصفحنا سير هؤلاء  فنادرا ما سنجد منهم من واتاه النجاح من المرة الأولى، بل إن أغلبهم من أخفق وأخفق لعشرات المرات، ومن أفلس مرات ومرات، ومن واجه من المصائب والمعوقات ما لا يمكن تصوره، ولكنهم جميعا ثبتوا وثابروا ولم ينكسروا في مواجهة الدنيا، حتى تيسرت له السبل وانفتحت لهم الأبواب، فإذا بهم يتسنمون ذرى المجد! أيها العقل الباطن… ما أعظمك! أحد المرضى المواظبين على زيارة عيادتي منذ مدة طويلة يتناول علاجاً لارتفاع ضغط الدم كان قد وصفه له أحد الأطباء في بلده قبل قدومه إلى البلاد، ومنذ سنة تقريباً وبعدما قمت بإجراء العديد من الفحوصات والمتابعة المكثفة له، وصلت إلى قرار بأنه لا يحتاج إلى العلاج الدوائي مطلقاً، وبأنه لا يحتاج إلا إلى متابعة نظامه الغذائي والقيام بنشاط رياضي معقول مستمر كالمشي مدة نصف ساعة يومياً، لأجل إبقاء معدل ضغط الدم عنده في المستوى الطبيعي. إلا أن هذا المريض، وبالرغم من قيامه بضبط النظام الغذائي والالتزام بالرياضة بناء على نصيحتي، قد رفض وبإصرار غريب فكرة التوقف عن تناول الدواء، فلم أمنعه من ذلك بعدما وجدت إصراره الكبير، لكونه لم يكن يعاني أي آثار جانبية للدواء الذي كان يتناوله منذ سنوات، واكتفيت فقط بتخفيف جرعته إلى النصف، وهو مستوى أعلم بأن ليس له تأثير علاجي في الحقيقة، لوقوعه دون ما يسمى عندنا في الطب بمستوى الحث أو التحفيز، وبقيت بعدها وفي كل مرة كان يزورني فيها هذا المريض للمتابعة، أعيد تذكيره بأنه ليس بحاجة إلى الدواء.
وقد فوجئت في زيارته الأخيرة، بأنه منذ عدة أشهر، كان يقوم، وباجتهاد شخصي منه، بقص حبة الدواء التي وصفتها له آخر مرة بالسكين إلى النصف، ويكتفي بتناول نصفها في موعد الجرعة المحدد، وأن ضغط الدم عنده، وبالرغم من ذلك، لا يزال منضبطا جداً. إلا أن هذه المفاجأة أكدت لي مجدداً أنه لا يحتاج إلى العلاج الدوائي كما كنت أخبره دوماً في المرات السابقة، ولذلك دخلت معه في حوار طويل سعياً إلى استجلاء السبب الذي يجعله يتمسك بالدواء إلى هذا الحد، حتى وصلت إلى السر وهو أنه يؤمن بأنه في اللحظة التي سيتوقف فيها عن تناول العلاج سيصاب بأزمة قلبية، كما حصل لأحد معارفه، وأنه بالفعل عندما توقف مرة عن تناول الدواء ارتفع ضغطه بشكل سريع!
والآن سأخبركم بأني أصدق حكاية أن ضغط هذا المريض قد ارتفع بالفعل عندما توقف عن تناول تلك الحبة الدوائية، بالرغم من أني، وكما قلت سابقاً، أعلم تماماً بأنها غير مؤثرة علاجياً أصلاً، وذلك لأنه قد اتضح أن ما يقوم في الحقيقة بالمحافظة على مستوى ضغط الدم عنده هو عقله الباطن وقناعته التامة بأثر الدواء، لا الدواء نفسه، ولذلك فمن المنطقي تماماً أن التوقف عن تناوله سيجعل عقله الباطن يقوم برفع مستوى ضغط دمه إلى الأعلى كردة فعل. قوة العقل الباطن، وفعالية التأثير النفسي، هي أمور قد غدت مثبتة علمياً اليوم في الطب وغيره، والاختبارات الدوائية على ما يسمى بتأثير الدواء الوهمي “البلاسيبو” قد أثبتت هذا مراراً وتكراراً، وهو الأمر الذي رأيته بنفسي كذلك ولمرات عديدة في عيادتي، سواء مع هذه الحالة التي ضربتها لكم مثلاً أو مع العشرات غيرها. فهناك الكثير من المرضى الذين رأيت بنفسي كيف استطاعوا التخلص، من العلاج الدوائي لمرض ارتفاع ضغط الدم فقط من خلال ممارسة “اليوغا التأملية”، والتي يقومون من خلالها بممارسة الاسترخاء النفسي والتركيز على دفع النفس الداخلية إلى حالة من السكينة، تؤدي مع الممارسة والاستمرار، ليس إلى خفض ضغط الدم فحسب، وإنما إلى الكثير من الفوائد الصحية الأخرى، كزيادة اللياقة وانضباط النوم وسرعة التشافي من الأمراض!
لست هنا أدعو إلى “اليوغا” أو ما شابه، فهذا الموضوع عميق ويستحق بحثاً منفصلاً، ولكنني أسعى إلى تسليط بعض الضوء على هذا الأثر الخارق لقوة العقل الباطن وكيف أنه قادر على تجاوز مسألة إعطاء الإنسان حالة من الاستقرار والهدوء النفسي فحسب، وإنما إلى رفع كفاءة وفعالية جهازه المناعي، وصولاً إلى إيقاع نتائج فسيولوجية حقيقية على مستواه الجسماني، وهو أمر يجب أن ننتبه له جميعاً ولا نغفل عنه، وأن نسعى إلى البحث عن تلك الوسائل والطرق التي تجعلنا أكثر قرباً من التحكم به أو لنقل التعامل معه بإدراك.
وأما ذاك المريض الذي ذكرت قصته فسيستمر “نفسياً” بحاجة إلى ذاك الدواء، على الرغم من عدم فعاليته “كيميائياً”، وسيستمر ضغط دمه بالارتفاع كلما توقف عنه، إلى أن أستطيع أن أقنعه تماماً بأنه ليس بحاجة إليه، وأن من يقوم بضبط ضغط دمه هو عقله الباطن ولا شيء غيره! أكتب لنفسي…! يقول الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي بورخيس في عبارة مفتوحة وعميقة جدا، حين سألوه لمن يكتب: “أكتب لنفسي، وأكتب لأصدقائي، وأكتب كي أخفف من عبء مرور الزمن”.
أنا ممن يعشقون العبارات المفتوحة العميقة… العبارات حمالة الأوجه… العبارات التي لا تسلمك مفاتيح معانيها من القراءة الأولى، فهذا النوع المباشر المستسلم يهين ذكائي، ويجعلني أشعر كصبي يطالع في كتاب من كتب المرحلة الابتدائية.
العبارة الجيدة… المقالة الجيدة… الكتاب الجيد، هي جميعا تلك التي تستفزك فتلبسك ثوب المفكر رغما عن أنفك، لا ثوب القارئ المتلقي المحايد، الذي يراد لصاحبه أن يلقم كل ما سيوضع في فمه، أعني ما سيحقن في عقله… هي تلك المواد المليئة بالفراغات المعرفية والملغومة لذلك بالاحتمالات، والقابلة لثورة أفكارك المتوقعة، حتى ولو شطحت بعيدا، والمتعطشة لإضافاتك وتعليقاتك، والمستوعبة لاحتمال قبولك أو ردك لها في نهاية المطاف.
سأعود الآن إلى عبارة بورخيس، حتى لا أبتعد عنها كثيرا…
يقول بورخيس: “أكتب لنفسي”، والمراد هنا كما يحلو لي أن أتصور، أن الكاتب الحق هو من يكتب انسجاما مع أفكاره ومبادئه وآرائه، فلا يكتب مجاملة لهذا الطرف أو ذاك، ولا يكتب حتى مجاملة لمزاج وذائقة القراء… الكاتب الحق، يكتب لنفسه بل سأقول يكتب نفسه، ولا يكتب وفق ما يريده غيره… الكاتب الحق يترك على الأوراق قطعا من ذاته مع كل حرف وكلمة وعبارة ومقالة… هذا هو الكاتب الحق، أما ذاك الذي يكتب على طريقة ما يطلبه المستمعون، أو ما يطلبه القراء في حالتنا هذه، فالجدير به أن يعمل في مجال برامج المنوعات في التلفزيون أو الإذاعة… أو ربما الصحافة!
يقول بورخيس: “وأكتب لأصدقائي”، وسأتصور هنا أن المعنى يكمن في الدلالات والمعاني المترامية الأطراف للفظة الأصدقاء… أصدقائنا، وأعني هنا الأصدقاء الحقيقيين، لا من دأب الناس على تسميتهم بالأصدقاء، هؤلاء هم امتدادنا في هذه الحياة، هم عوننا وأماننا وراحتنا… هم، في كثير من الأحيان، عيوننا الأخرى، آذاننا الأخرى، ضميرنا الآخر… بورخيس يكتب لهؤلاء الأصدقاء الذين يحبهم ويحبونه. يشاركهم آماله وآلامه… أفراحه وأحزانه… انتصاراته وانكساراته… ينصحهم ويعطيهم خلاصة تجربته وعصارة أفكاره ومنتهى تأملاته في هذه الحياة، وهذه هي الصداقة الحقيقية، وهذا هو مقتضى الصداقة ومرادها وحقها.
ويقول بورخيس أخيرا في عبارته الرائعة: “وأكتب كي أخفف من عبء مرور الزمن”، وسيحلو لي أن أفسر المعنى المقصود هنا أن رحلة الزمن لا يمكن أن تمر على أي إنسان هينة سهلة إن هو سارها ليقطعها فردا وحيدا، دون رفيق أو شريك، والكاتب الحقيقي مرافق لقرائه، يخفف عن نفسه وعنهم عبء وعناء رحلة الزمن من خلال الكتابة، بإشراكه لهم في تجربته، وإنارة دروبهم بأفكاره واستنتاجاته واستنباطاته.
لهذه الأسباب يكتب الكاتب الحقيقي، لنفسه ولأصدقائه، وكي يخفف من عبء مرور الزمن، ولا خير في كتابة لم تكن مفيدة للنفس ولا للأصدقاء، ولم تخفف على كاتبها وقارئها من عبء مرور الزمن.
هكذا حلا لي أن أفهم عبارة بورخيس، وأن أتصورها، وأن أتمثلها في ما أكتب… ولكم أنتم مطلق الحرية أن تفهموها بشكل آخر وربما بأشكال أخرى، لكن المهم في كل الحالات، ألا تمر هذه العبارة- وكل عبارة- إلا وقد تركت في داخلكم معنى وتأثيرا ما، كما فعلت معي. قبل أن يسرقنا الزمان هذا المقال، كاد ألا يكتب، وذلك لأني كنت مع الأسرة في الشاليه في عطلة نهاية الأسبوع، وقرروا جميعا النزول إلى البحر، وكان إغراء الانضمام إليهم لا يقاوم، فكنت على شفا إرسال رسالة قصيرة إلى الصديق عصام دسوقي مسؤول صفحة المقالات لأعتذر له عن المشاركة بهذه المرة لضيق الوقت، لكن فكرة المقال داهمتني فوجدتها تلح أن تجد طريقها على السطور.
لطبيعة عملي، وكثرة أنشطتي خارج العمل، منذ سنوات ليست بقليلة، فأنا مشغول جداً، وقد أثر هذا الأمر بطبيعة الحال على حياتي الاجتماعية، وعلى الجانب الأسري على وجه الخصوص. وقد أدركت الأمر بوضوح منذ مدة ليست ببعيدة جداً، وأعترف بهذا. أدركت الأمر عندما كبر أولادي ووصلوا إلى المرحلة العمرية التي صاروا يشاركوني فيها أفكارهم ومشاعرهم، فصرت أسمع منهم وبشكل متكرر، وبطرق غير مباشرة غالباً ومباشرة أحياناً، أني كثير الانشغال. أعترف أني كنت أسمع ذات الأمر من أمهم في السابق، ولكنني كنت مأخوذاً بما كنت أجري خلفه، مأخوذاً بفكرة أن هناك أهدافاً حياتية لابد من تحقيقها ونيلها، فكنت أرد عليها دائما بأني مستغرق في بناء حياتنا، وأني أكد وأتعب لأجلها هي والأولاد، وكان النقاش ينتهي عند ذلك بابتسامة منها، وإن كنت أعلم، لكن أتجاهل، أن خلفها كان يوجد كم كبير من عدم الاقتناع.
لا أدري ما الذي تغير أخيراً في تفكيري ونفسي، ليتغير تفكيري حيال المسألة، لعله التقدم في السن، ومراقبتي لعلاماته وهي تظهر على جسدي، واكتشافي لحقيقة أن ما أجري خلفه سيظل دوما يتناءى حتى ولو بلغته، وأن أهداف الحياة والطموحات لا تنفك تتجدد، وأن إرجائي لعيش حياتي وسعادتي مع أسرتي إلى حين بلوغ تلك الأهداف والطموحات وتحقيقها، سيجعلني أخسر هذه الحياة والسعادة، وأني ما كنت لأعي ذلك إلا بعد فوات الأوان.
كنت أقرأ في كتب الإدارة دوما أن السعادة رحلة نستمتع بتفاصيلها ونحن نسيرها وليست وجهة نقصدها، وكنت أكرر ذلك في المحاضرات والدورات التي أقدمها هنا وهناك، لأكتشف أني كنت في الحقيقة فاقداً لتطبيق هذه القاعدة على صعيد حياتي الشخصية، وأن الزمان كان يسرق مني خفية سنوات هي الأجمل في عمر أولادي، وهم يكبرون وتتشكل أحلامهم وتتلون دلالات الأشياء في نفوسهم وأنا بعيد عنهم. أفقت في لحظة لأكتشف أني أتشارك في بيت مع أفراد عدة لا أعرف الكثير عنهم. لا أعني معرفة الأشياء البرَّانية، التي يفترض بكل رب أسرة معرفتها من حيث تحصيلهم الدراسي ووضعهم الصحي وما شابه، فقد كنت مسيطراً على هذا الجانب بفضل زوجتي التي كانت حريصة على إعلامي بكل شيء وإشراكي به، وإنما أقصد على الصعيد الداخلي وتلك الأشياء “الجوانية”، أي تلك الأشياء التي يحبونها وتلك الأمور التي يحلمون بها، وما السبب في هذا السلوك عند هذا وذاك السلوك عند ذاك وهذه اللازمة في التصرفات عند تلك.
لعل البعض مفاجأ من مسار هذا المقال، لكنني لن أكون كغيري ممن يحاولون تقديم أنفسهم للناس دوماً في صورة مثالية خارقة، فلست سوى إنسان له نجاحاته وإخفاقاته. بل سأكون صريحا أكثر فأقول أني أشعر بأن إخفاقاتي ترجح في ميزان نفسي عن نجاحاتي، لكنني في المقابل أفخر بأني تجربة بشرية متجددة، تغالب مشاكلها وتسعى لإصلاحها. وأنا اليوم مدرك لحقيقة أني كنت في فترة من عمري مقصراً على الصعيد الأسري، وها أنا أنكب لإصلاح ما يمكن إصلاحه واللحاق بقاطرة العمر، للركوب مع أولادي وهم في مقتبل عمرهم، لأصبح صديقاً لهم، يشاركونني مشاعرهم وأفكارهم، والأهم من ذلك يأتمنونني على أسرارهم.
يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”، ويا لها من نصيحة جامعة. ما قيمة خير ونجاح الإنسان في الخارج، في حين أن بيته يئن ويعاني في الداخل. لنتذكر هذا الأمر دوماً قبل أن يسرق الزمان منا أجمل السنوات في أعمار أولادنا وهم يكبرون ويتشكلون، فلا نفيق إلا وقد صاروا رجالاً ونساء، لا نعرف عنهم الشيء الكثير، وكأنهم أغراب.
أطلت الحديث، لذلك أستأذنكم الآن للحاق بالأولاد في البحر… أسعدكم الله جميعا بأهلكم وأولادكم. حكاية الفيل الأبيض حكاية الفيل الأبيض وغيرها من قصص الحيوانات، تستخدم وبكثرة في كتب التطوير الإداري، وهي وإن لم تخل من الطرافة، فإنها تحمل في طياتها في ذات الوقت الكثير من الرسائل المهمة والحكمة البالغة.
حكاية الفيل الأبيض، وهي حكاية تأتي في الأصل من الموروث الهندي القديم، تقول إنه في الهند قديما، كانوا يطلقون لقب المهراجا على الشخص عندما يبلغ مرتبة معينة من الثراء، أي أنه لقب لا يحصل عليه الإنسان لارتباطه بأصل ما أو سلالة معينة، إنما حين يبلغ ما يملكه من المال والثروة والأملاك مستوى معينا من الثراء، وبالتالي فإن المهراجا الذي يخسر ماله وثروته لأي سبب من الأسباب، يسحب منه لقبه تلقائيا، ليعود كبقية الناس العاديين، أو لنقل محدودي الثراء، حتى يعود إليه الغنى الفاحش الذي يؤهله لهذا اللقب مجددا!
ويقال كذلك إن جماعة “المهراجاوات” هناك كانوا حريصين على ألا يدخل ناديهم الخاص هذا إلا من يرضون عنه ويريدون له ذلك، وعندما تشاء الظروف أن يثرى أحد ما رغما عنهم، لسبب من الأسباب، فيصبح مهراجا وهم لا يريدون له ذلك، فإن الأمر لا يروق لهم مطلقا، لكنهم لا يجدون من وسيلة للتخلص منه وإعادته إلى مقامه الأصلي إلا أن يتظاهروا بالاحتفال به لانضمامه لجماعتهم، فيعمدون من ضمن فعاليات الاحتفال به إلى إهدائه فيلا أبيض.
ويعتبر الفيل الأبيض والذي هو من فصيلة نادرة، من الحيوانات المقدسة في الهند، وبحسب التقاليد الهندية القديمة فإن هذا الفيل لا يصح أن يجعل كبقية الفيلة للتحميل والركوب، وإنما يعامل كإله من الآلهة، ويجب أن يسكن في مكان خاص وأن يقدم له الطعام الوفير من الخضراوات والفاكهة في أوان من الذهب والفضة، وأن يجعل له من يرعاه ويقوم على خدمته ورعاية شؤونه!
ولأن هذا المهراجا المبتدئ جديد على هذه الحياة الفارهة ويريد أن يثبت لياقته واستحقاقه للمكانة الجديدة، يسارع إلى قبول هذا الفيل المقدس الذي لا يجوز رده والتعهد برعايته!
وغالبا ومع مرور الوقت يجد هذا المهراجا الجديد نفسه في مشكلة الإنفاق الشديد على هذا الفيل المقدس، وسرعان ما يكتشف أنه قد أنفق ثروته وماله على رعايته، فأصبح ما لديه من المال لا يؤهله للقب المهراجا، ليجد نفسه وقد عاد إلى طبقته الاجتماعية السابقة، ولا يفلت من مصيدة الفيل الأبيض إلا أصحاب الثروة الكبيرة حقا!
وتستخدم هذه الحكاية في عصرنا الحالي على سبيل العبرة الإدارية، حيث يقال إن فلانا تلقى فيلا أبيض كهدية، ليقصد بذلك أن من أهداه الفيل الأبيض أراد في حقيقة الأمر أن يشغله بهذه التبعة والحمولة الثقيلة، فيوقعه في فخ يحرق به جهده وطاقته، ويفشل مساعيه. ولو تلفتنا حولنا لرأينا كم هم كثر أولئك الذين يتلقون الفيلة البيضاء، خصوصا في عالم السياسة!
وهذه هي قصة الفيل الأبيض لمن سألني عنها. السيف والجوهرة والمرآة مر عليّ في قراءاتي أن القوة في الموروث والثقافة اليابانية تقوم على ثلاث: قوة السيف وقوة الجوهرة وقوة المرآة. والقوة هنا يصلح أن يراد بها قوة الفرد على مستواه الشخصي، أو قوة الجماعة كلها، أو حتى قوة الدولة.
قوة السيف، كما هو واضح من التسمية، يقصد بها القوة العسكرية أو الجسدية المباشرة، وقوة الجوهرة يقصد بها القوة المالية، وقوة المرآة، وهي ما أثار انتباهي واستوقفني، يراد بها قوة معرفة الذات والإلمام بقدرات وحدود ومواطن قوة وضعف النفس!
أهمية القوتين، الأولى والثانية، قوة السيف وقوة الجوهرة،
لاشك واضحة، وأثرهما في الحياة، سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات أو الدول، جلي ولا يحتاج كثيراً من الشرح والإيضاح. لكن هاتين القوتين بمفردهما، وهنا تتجلى الحكمة اليابانية، لا تكفيان دون وجود ثالثة الأثافي، قوة المرآة، بل إن وجود أي واحدة من هاتين القوتين وحدها أمر خطير فقد يصير سلاحا، قد لا يؤدي إلى جرح صاحبه فحسب بل لعله سيؤدي إلى تدميره، فالقوة الجسدية المباشرة، أو العسكرية، وحدها، أي قوة السيف المجرد، قد تكون مدعاة للاغترار بالنفس والتهور والرعونة والإقدام الطائش على مغامرات غير محسوبة العواقب، قد تودي بصاحبها إلى التهلكة. والقوة المالية وحدها أيضا، أي قوة الجوهرة، قد تغري صاحبها بالبذل والإنفاق غير الرشيد والإسراف بلا حساب، مما قد يوصل صاحبها إلى الإفلاس والانهيار.
وكذلك تخيلوا معي اجتماع هاتين القوتين معا، دون ثالثتهما. قوة جسدية مباشرة جبارة ومال وفير. يقول الله عز وجل «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، فما بالكم به لو زيد فوق ذلك بسطة في الجسد أو القوة والمنعة؟ كما جاء في سورة الكهف في حكاية الرجل الذي جعل الله له جنتين من أعناب ونخل وزرع، «فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا»، إنها معادلة الطغيان العظمى ولاشك، التي تورد صاحبها الهلاك الأعظم، كما حصل لصاحب الجنتين كما قال الله: «وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها»!
أما قوة المرآة فهي القوة الأساس وهي القوة التي تنبني وتقوم عليها القوتان الأخريان. إن قوة معرفة الذات هي قوة الحكمة والعقل والتخطيط. هي القوة التي ترشد المرء والجماعات والدول إلى ما يجب عمله وما لا يجب، وتهديهم إلى معرفة متى يكون الإقدام ومتى لا يكون، ومتى يكون الكر ومتى يكون الفر، ومتى يحين وقت طلب المساعدة ومتى لا يكون لذلك حاجة.
هذه القوة، قوة المرآة، قوة معرفة الذات وإدراك حجمها وقدراتها ومواطن قوتها وضعفها، هي القوة الأساس لأنها هي التي تهدي الأفراد والجماعات والدول إلى صناعة وتطوير وتطويع القوتين الأخريين. بالحكمة والعقل والتخطيط تُبنى القوة الجسدية والعسكرية، قوة السيف، وبالحكمة والعقل والتخطيط والعمل الدؤوب تُبنى القوة المالية، قوة الجوهرة، وبالحكمة والعقل والتخطيط والعمل الدؤوب والقوة الجسدية والعسكرية والمال الذي يجري إنفاقه برشد، يصمد الأفراد والجماعات والدول في هذه الحياة ويعلو شأنهم ويعيشون مستقرين قادرين على مواجهة صعابها وغوائلها.
حكمة يابانية بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة ومتشعبة في معانيها ودلالاتها، ويمكن أن يجد فيها المتأمل في كل مرة يجول فيها بنظره وفكره، الكثير من المعاني الجديدة وزوايا التفكير المختلفة. إنها يا سادتي، حكمة يصح أن تكون منهج حياة. أيتها العصفورة… هل هذا هو اليوم؟! كثيرة هي الكتب التي مرت علي، وقليلة هي تلك التي علقت في ذاكرتي، والأقل منها كثيراً هي تلك التي لم تعلق في ذاكرتي فحسب، وإنما تعدتها إلى ثنايا روحي.
من هذه الكتب السحرية التي لاتزال كامنة في نفسي، كتاب “أيام الثلاثاء مع موري”، والذي كتبه ميتش ألبوم.
أيام الثلاثاء مع موري، كتاب صغير، لكنه كتاب محتشد يلخص الدرس الأخير الذي يعطيه البروفيسور موري شوارتز لتلميذه القديم ميتش ألبوم، والذي كان قد تعهد لبروفيسوره قبل ستة عشر عاماً بأن يبقى على اتصال به، ولكنه انقطع عنه حتى رآه ذات ليلة في برنامج متلفز، فسافر إليه من ولاية إلى ولاية، ليجده على فراش المرض يقضي أيامه الأخيرة منتظراً لحظة الوداع. كان اللقاء مؤثراً جداً لميتش، لدرجة أنه استمر بزيارة موري أربعة عشر ثلاثاء تلت ذلك اللقاء، حتى لحظة وفاته.
كل يوم ثلاثاء من هذه الأيام كان عبارة عن لقاء جديد بين ميتش وموري، رسم من خلالها الكاتب، تطور حالة موري المرضية وهو يصارع مرض التصلب العضلى الجانبي، والذي هو مرض يتطور بشكل بطيء ومؤلم لينتهي بالموت. وتضمنت فصول الكتاب أيضا حوارات ميتش مع موري، والتي كانت حوارات استثنائية بحق، سافرا خلالها عبر شتى الموضوعات المثيرة، فتحدثا عن الحياة والموت طبعاً، وكيف يجب أن يستعد الإنسان دوما للنهاية، وألا تغيب عن ذهنه أبداً، ولكن بشكل إيجابي، حيث كان موري يخبر ميتش عن فكرة توجد عند البوذيين تتطلب تخيل عصفورة على كتف الإنسان، وسؤالها مع بداية كل يوم: “أيتها العصفورة، هل هذا هو اليوم الذي سأموت فيه؟”. وتحدثا كذلك عن الحب والزواج والسعادة والفرح والأمل والعطاء والندم والحزن، والعالم الذي نعيش فيه.
رجل عجوز، وشاب، وأعظم دروس الحياة. هذه العبارة العميقة وضعها ميتش ألبوم على غلاف كتابه تحت العنوان، وهي عبارة لم تغادر الحقيقة مطلقاً، فلا درس في هذه الحياة أعظم من درس الموت، وأعني درس الموت من منظور موري، الذي هو منظور مختلف جداً كما سيتبين لمن سيقرؤون الكتاب، حيث عبَّر عنه بعبارة شهيرة له قال فيها: تعلّم كيف تحيا وستعرف كيف تموت، تعلّم كيف تموت وستعرف كيف تحيا.
هذا الكتاب الصغير بحجمه، الاستثنائي بموضوعه، ينقل قارئه عبر طيف من المشاعر الجياشة، فرحاً وتوتراً وحزناً، وأحيانا وصولاً إلى ذرف الدموع، وإن بشكل سلس جداً، وذلك عبر المواقف والموضوعات العديدة التي تناولها ميتش وموري في حديثهما الممتد، ورسم وصفها ميتش بعد ذلك ببراعة واقتدار.
تلك الأفكار والإشراقات ستجعل القارئ، ولا شك، يعكسها على حياته، ليتفكر ويتأمل ويتساءل من جديد عن معان كثيرة لعلها كانت أشبه بالمسلمات بالنسبة له.
كتاب “أيام الثلاثاء مع موري”، وكل كتب ميتش ألبوم، على حد علمي لم تتم ترجمتها إلى العربية، والحقيقة أنا لا أدري، هل أتمنى ترجمتها لتصل إلى قراء العربية، أم لا أتمنى ذلك خشية أن يتم “نحرها” على مذبح الترجمة الركيكة التي ملأت مكتباتنا بآلاف الكتب الغربية الرائعة المقتولة بالترجمة؟
ومن الجدير بالذكر أيضا أن هذا الكتاب قد تم تحويله كذلك إلى فيلم جميل، بذات الاسم، من إنتاج شركة أوبرا وينفري، وهو يستحق المشاهدة بدوره.
أيام الثلاثاء مع موري، من أمتع ما قرأت، ومن أعمق الكتب التي لامست نفسي، فالكتاب لم يكن مجرد قصة، بل كان كشفاً لأعظم سر من أسرار الحياة، ألا وهو الموت، ولا تفاجأوا، فالموت سر، فهو الحقيقة الأشبه بالخيال، وهو الحقيقة التي يتحاشى الجميع أن يواجهها بكل قبول وأريحية، وهو الحقيقة التي وقف عندها موري عندما أبلغوه بتشخيص مرضه القاتل فسأل نفسه لحظتها: هل أعيش بقية أيامي زاوياً ذابلاً حتى أموت، أم تراني سأسعى للاستفادة من كل لحظاتي القادمة؟
وهذا هو السؤال الجوهري حقاً، فكلنا سنرحل، طال الزمان أم قصر، فهل سنقضي أيامنا زاوين ذابلين بلا قيمة تذكر، أم ترانا سنسعى للاستفادة من كل لحظة من لحظات حياتنا القادمة؟! بائع القراطيس في فينيسيا منذ أيام، وبينما كنت ورفيقي في السفر نمارس هواية “التوهان” في أزقة مدينة فينيسيا الضيقة، وهي هواية ممتعة، لا خوف منها فكل الطرق هناك تقود إلى ذات النقطة، توقفنا عند واجهة محل صغير يبيع الدفاتر والقراطيس والأقلام.
فاستوقفتنا الهيئة القديمة للمحل، وتلك الروح الأثرية التي كانت تلفه بهالة من الغموض، وكأنه ظهر هكذا فجأة في منتصف الزقاق بين المحال الأخرى قادما من عصر ليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو!
دخلنا المحل فاستقبلنا البائع العجوز الأنيق، الذي كان يقف هو وزوجته، الأنيقة أيضا، في الداخل بابتسامة هادئة وبالتحية الإيطالية الشهيرة، “بونجورنو”، فرددنا عليهم البونجورنو بمثلها، ولو كنا نعرف أحسن منها ما ترددنا.
المحل كان صغيرا ضيقا، ويمتلئ بعشرات الدفاتر والكراسات المصنوعة يدويا، بأغلفتها المنوعة، الجلدية والورقية والقماشية، من مختلف الأحجام، لكنه كان أشبه بالمملكة لذلك العجوز الإيطالي “فيانيللو إيليو” هو وزوجته “كارلا”، كان عشقهما للمكان واضحا في تفاصيل عنايتهما به وترتيبهما للبضاعة في داخله.
كانا يتحركان في المكان الذي يحفظان أجزاءه بدقة وتلقائية، وكأنه قد صار امتدادا لجسديهما العجوزين، ولا عجب في ذلك ففيانيللو إيليو أخبرني أنه يعمل في هذه المهنة منذ الأزل، وأبعد مما تحيط به ذاكرته، حتى خيل لي أن روحه امتداد لأرواح العشرات من أسلافه ممن توارثوا المهنة أبا عن جد منذ لحظة اختراع الورق!
قررنا أن نشتري دفترا عشقناه من النظرة الأولى، فأحضره فيانيللو إليو من أعلى الرف، وانهمك يشرح لنا ويعدد مزاياه، وكيف أن غلافه الجلدي العتيق يزداد جودة كلما تقادم الزمن، وكيف أنه يمكن نزعه بعد امتلاء الدفتر ذي القراطيس الصفراء القديمة المصنوعة يدويا، ليمكن إلحافه دفترا جديدا آخر، وهكذا حتى يعمر معي طويلا.
كنت مأخوذا، ليس بجودة وجمال الدفتر فحسب، ولكن بأناة الرجل وسعة باله واستغراقه وهو يمسك الدفتر ويقلبه شارحا مواصفاته. كان مستغرقا وكأنه يمر بطقس تأملي روحاني صوفي غاب به عن الواقع، ويتحدث بعشق وهيام، حتى ظننته في لحظة سيقول إنه لا يقوى على بيع الدفتر لأنه يحبه جدا!
دفعت ثمن الدفتر، بعدما قام بتغليفه بذات الأناة والدقة وسعة البال، ووضعه في كيس قرطاسي عتيق، وودعنا هو وزوجته بابتسامة رائقة كتلك التي استقبلونا بها، ولم يفتني بالطبع قبل أن أغادر أن ألتقط معه صورة لأحتفظ بها للذكرى.
خرجنا من عنده، وأنا أتفكر وأقارنه بالآلاف من غيره، في هذه الدنيا، ممن يعملون في مهن ووظائف، لعلها أعلى شأنا وأكثر مردودا قطعا من مهنة هذا العجوز فيانيللو إليو، وكيف أن هؤلاء بالرغم من ذلك لم يصلوا إلى عُشرِ مقدار الرضا والسعادة التي تلف هذا الرجل هو وزوجته وهما يمارسان عملهما ويستغرقان فيه طوال النهار، وظللت أتأمل بحثا عن السر.
لكنني وجدت أن السبب ليس سرا في الحقيقة، بل هو مما يردده الناس طوال الوقت، وتتحدث عنه كتب التنمية البشرية والدورات دوما. إنه “الحب” يا سادتي، فالرجل أحب عمله، على بساطته، حتى الامتزاج، أحب عمله، ورضي بنتاجه وقنع بحصيلته، حتى صار عشقه الذي يجد سعادته في ممارسته، وهذا الأمر هو ذاته الكفيل بإسعاد كل إنسان على كل صعيد، أن يعرف الإنسان مبتغاه من هذه الحياة بوضوح، ثم يسعى إلى ذلك باذلا جهده الموضوعي المفترض، متسلحا في ذات الوقت بالقناعة والرضا لسير المقادير طالما أنه قد بذل جهده، فالله ليس بظلام للعبيد.
وقد خرجت في تلك الصبيحة الجميلة من محل فيانيللو إيليو وزوجته كارلا سعيدا جدا، بعدما اشتريت منه دفترا، وحكمة وعبرة… ومقالا. وللحزن وقته أيضا! يعرف أغلب متابعيّ، سواء هنا في “الجريدة” إلى حد ما، أو في مدونتي وكذلك في شبكات التواصل الاجتماعي، أني كثير التذكير بأهمية التفاؤل والإيجابية والانشراح، في كل الحالات والظروف، حتى صار البعض يعتقد أني إنسان لا يعرف الحزن إليه طريقا، وصاروا يحسدونني على ذلك، والحقيقة أن هذا ليس بصحيح أبدا، فلست سوى إنسان له حالاته النفسية وأطواره المختلفة، كبقية خلق الله.
ولست هنا بصدد التحدث عن نفسي، إنما هو مجرد مثال استندت إليه للانطلاق نحو حديثي الآتي.
الإيجابية والتفاؤل والانشراح كنتيجة لهما، وقبل أن تكون حالات نفسية، فهي قرارات عقلية إرادية، والمراد هنا، أن على من يريد أن يكون إيجابيا، أن يقرر ذلك ويرغب فيه حقا، وأن يسعى إليه سعيا.
الإنسان، وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون قادرا على التحكم بكل الظروف المحيطة به، لكنه يستطيع التحكم وبشكل كامل بردود أفعاله وتصرفاته تجاه هذه الظروف.
خسارة إنسان لوظيفته، مثلا، قد تودي بأحدهم إلى الانهيار النفسي، وقد تكون سببا في انطلاق آخر للبحث عن فرصة أخرى لعلها تكون خيرا له من سابقتها، وهذا مجرد مثال وحيد، والأمثلة على المراد هنا كثيرة.
لهذا، فإن ما أفعله كل صباح، وبغض النظر عن كل الظروف التي قد أكون أمر بها، على أي مستوى، هو أني أقرر أن أكون إيجابيا ومتفائلا بأن القادم أجمل، وبأن الله يخبئ لي الأفضل، وأن حرماني من هذا الشيء أو ذاك ما هو إلا ابتلاء ومحنة تحمل في طياتها الخير، إما في القريب العاجل وإما البعيد الآجل المخبأ في غيب الله وتقديره، سواء في الدنيا أو الآخرة.
وأعترف هنا، بأني لست بسوبرمان، فأحيانا أنجح بالسيطرة على مشاعري وانفعالاتي، وأحيانا تخذلني طبيعتي البشرية، فأركن إلى الحزن والانطواء وألوذ بكهف الانعزال لشيء من الوقت، حتى أسترد عافيتي النفسية.
وهنا سأطرق ما كتبت لأجله اليوم، وهو ما ناقشني به كثير من الزملاء لمرات عديدة، فالحزن حالة ضرورية، وصولا إلى حد البكاء ربما في بعض الحالات، فليس إنسانا من لا تؤثر به الملمات الدنيوية، وليس إنسانا من لا يخشع قلبه ولا تذل نفسه عند الجراحات وحين المصيبات، بل على العكس من ذلك، الحزن حالة ضرورية، يجب أن يمر بها المرء، ولا يتجاهلها ويتكبر عليها، ظنا منه أن هذا من قوة الشكيمة، وثبات القلب ومن الصبر على الأذى والمكاره، بل إن الحزن ملاذ ضروري يجب أن يلوذ به الإنسان ليسترد عافيته النفسية فيغسل قلبه من الهم بين وقت وآخر.
لكن التوجيه هنا هو ألا تطغى هذه الفترة على حياة الإنسان، فتتجاوز قدرها المعقول، فتعيقه عن العودة إلى الحياة بروح وثّابة مقبلة على أنعم الله ترجو ما عنده من خير في الدارين.
إنه التوازن الشعوري يا سادتي، فقاعدة “لا إفراط ولا تفريط” النبوية الشهيرة، هي قاعدة صالحة لكثير من الأمور، ومنها على وجه الخصوص، أمور ومسائل الشعور والانفعالات. رحلة البحث عن الجيد! لا يقترب من روعة قراءة رواية جيدة سوى مشاهدة فيلم جيد، وقد كنت قلت منذ أيام إنه لا يماثل روعة الرواية الجيدة سوى الفيلم الجيد، وأظن أني اليوم سأتراجع عن استخدام كلمة “يماثل” لمصلحة كلمة “يقترب”، فبعد قراءة ومشاهدة عشرات الكتب والأفلام الجيدة وما هي دون ذلك، تولدت لدي فكرة، تكاد تقترب من الإيمان، بأن الفيلم، ومهما كان رائعاً وعبقرياً، فلن يماثل إبداع الرواية الرائعة والعبقرية التي قام عليها.
الرواية العبقرية الرائعة يستطيع المخرج المبدع أن يخرج منها بفيلم عبقري رائع أيضاً، ولكنه، أي الفيلم، سيظل دونها ولا شك، حتى إن اقترب منها حتى كاد يلامسها أو ربما يلتصق بها، وذلك لأن الفيلم يلغي تلك الفسحة التي يمنحها مؤلف الرواية، بقصد أو دون قصد، للقارئ ليملأها بخياله وتصوراته، فيساهم القارئ بنفسه في تخليق الصور والألوان والعوالم التي تتواءم ومزاجه وذائقته ونفسيته، لتزيد من متعة قراءته وامتزاجه مع النص الذي بين يديه. الفيلم، بطبيعة الحال، يأتي ليملأ هذه الفسحة ويعبئ فراغات الخيال بصور وألوان وأشكال من تخليق المخرج الذي يضعها جاهزة للمشاهد في إطار الشاشة، ولو لم يفعل ذلك لقلت جاذبية الفيلم أصلاً.
أما الرواية العادية، وربما الأقل من ذلك، فمن الممكن، بيد مخرج مبدع عظيم، وبكثير من الجهد طبعاً، أن تتحول إلى فيلم ممتاز، وربما رائع، ولكن الأمر في هذه الحالة أشبه ما يكون بعمل جديد، فالمخرج هنا يكون كمن قام بعملية إعادة بناء وتصنيع كاملة استناداً إلى أساسات “الكونكريت” من المبنى السابق لا أكثر!
لهذا، فالروائي الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو، صاحب رواية “اسم الوردة” التي حققت نجاحاً باهراً وانتشاراً واسعاً، يرى أن الفيلم الذي قام على روايته هذه هو وبكل بساطة “عمل شخص آخر”، فبالرغم من نجاح الفيلم وروعته وثقته وإعجابه بما قام به مخرج الفيلم جان كلون آنو، فإنه قد قرر عدم السماح بتحويل رواياته إلى أفلام من بعد هذه التجربة.
وللسبب نفسه، يرفض كثير من الكتّاب العظام الآخرين تحويل رواياتهم إلى أفلام، إما مطلقا وإما بعد مرور وقت طويل على صدور الرواية، وذلك خوفاً من الإساءة إليها، أو تحولها إلى عمل آخر.
لكن مع هذا، فلا يمكن أن نغفل حقيقة أن الأفلام اليوم أكثر رواجاً من الكتب بين عموم الناس، بل إن لبعض الأفلام الفضل في انتشار الروايات التي قامت عليها، حيث دفعت من شاهدوا الفيلم إلى البحث عن الرواية لقراءتها، ولهذا فلست ممن يصرون على أن الثقافة إما أن تأتي مشحونة في كبسولة الكتاب وإما فلا، وإن كنت في ذات الوقت لا أزال، وسأظل، مؤمنا بأنه لا شيء يعدل الكتاب الجيد لعملية التثقيف والمعرفة، وبالنسبة إلي، كل كتاب جيد بشكل من الأشكال، أو عند قارئ من القراء، ولكن هذا حديث آخر.
المهم اليوم، في الخلاصة، أن تجد الناس مصادر جيدة للتثقف والتعلم والاستنارة… سواء أكان هذا عبر كتاب، وهو ما أتمناه دوماً، أم عبر فيلم، وهو ما أحبه، أم عبر ندوات وجلسات حوارية شيقة مفيدة، وهو ما لا أنفك عن ممارسته.
نحن اليوم بحاجة ماسة، وقبل التفكير بأي شيء آخر، إلى أن ننهمك في إنتاج كل ما هو جيد، في كل المجالات، وأن ننشغل كذلك في البحث عن المنتجات الجيدة والإشارة إليها، وإعادة تدويرها ونشرها بين الناس… ولعلي أتحدث عن هذا بمزيد من التفصيل في وقت من الأوقات. الضحك لا يميت القلب! في كتابه Outliars الذي لم أجد لعنوانه ترجمة مباشرة، وسأترجمه بالخارجين على المعتاد، يروي مالكم جلادويل حكاية سكان قرية روزيتو الواقعة في بنسلفانيا، التي أنشأها وأقامها مهاجرون إيطاليون جاؤوا من قرية إيطالية حملت نفس الاسم.
 يقول جلادويل إن أحد الأطباء كان قد لاحظ، والحادثة قديمة جدا تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، أن سكان هذه القرية لا يصابون بأي من أمراض القلب قبل بلوغهم سن الخامسة والخمسين وألا أحد منهم قد سبق له أن أصيب بالذبحة الصدرية أو السكتة القلبية، ولهذا، مدفوعا باندهاشه من هذه المشاهدة، أجرى دراسة متعمقة في ذلك الوقت قام من خلالها بفحص جميع سكان روزيتو بحثا عن السبب، الذي لم يمنع عنهم أمراض القلب فحسب إنما جعل معدل الأمراض والوفيات عندهم أقل بأكثر من ثلاثين في المئة عن غيرهم من القرى المجاورة.
ظن د. ستيوارت وولف، وهذا اسمه، أن الأمر مرتبط بالعادات الغذائية لهؤلاء السكان في قرية روزيتو الأميركية، ولكنه وجد أن عاداتهم الغذائية لا تختلف عن سكان القرى الأخرى، بل لعلها أكثر اعتمادا على الدهون والنشويات والطعام الإيطالي الدسم الثقيل، ثم ظن أن الأمر مرتبط بالعوامل الوراثية فوجد أن أبناء قرية روزيتو الإيطالية الذين هاجروا من هناك إلى أماكن أخرى في أميركا يعانون أمراض القلب كبقية سكان أميركا، ثم ظن أن الأمر مرتبط بموقع القرية لكنه وجد أيضا حين قارنها بقرى مجاورة يسكنها آخرون أن سكانها يختلفون عنهم، وبعد زمن من البحث والتدقيق والدراسة، اكتشف د. وولف السر وراء كون سكان قرية روزيتو الأميركية لا يعانون أمراض القلب قبل بلوغ سن الخامسة والخمسين.
وجد د. وولف أن سكان قرية روزيتو الأميركية ولارتباطهم العرقي والعائلي كانوا بمنزلة أسرة كبيرة واحدة، وكانت البيوت مفتوحا بعضها على بعض، وكان الترابط الأسري قويا بين الجميع، وكان الاحترام قائما بين الصغير والكبير، وكانت هناك شبكة اجتماعية قوية لدعم المحتاجين من أبناء القرية فلم يكن هناك من يعاني الفقر، وكانت الاحتفالات الأسرية مستمرة طوال الوقت والناس في تواد وتراحم لا ينقطعان، وكان سكان القرية أشبه ما يكونون في داخل قبة زجاجية تحميهم من ضغوط ومؤثرات العالم من حولهم. كانت السعادة تغمر الجميع طوال الوقت والإيجابية والتفاؤل والفرح هي عنوان قرية روزيتو الأميركية!
هذه الحكاية الحقيقية، التي قد لا يصدقها البعض اليوم، كما لم يصدقها زملاء د. وولف من أطباء ذلك العصر، جاءت دراسة طبية حديثة أخيرا لتشير إليها، إذ ورد في مجلة النجاح الأميركية (Success)، أن الضحكة العميقة الواحدة قد تصل إلى رفع مناعة الجسم لمقاومة الأمراض لمدة ثلاثة أيام متتالية!
تخيلوا ذلك، وتخيلوا بعدها حياة ممتدة مليئة بالإيجابية والتفاؤل والسعادة والفرح وتأثيرها في صحة الإنسان جسديا ونفسيا، ولست هنا بالطبع أقلل من أهمية العوامل الأخرى للمحافظة على الصحة كالغذاء والرياضة وما شابه.
حين تحدثت عن هذا منذ أيام في “تويتر” قال لي بعضهم، ولكن الضحك يميت القلب بحسب الحديث الشريف! والحقيقة أن هذا فهم خاطئ للحديث الشريف ناهيك عن أنه بتر له، فالحديث تحدث عن كثرة الضحك لا عن الضحك بذاته، والفرق واضح وبدهي، ومن حق الإنسان، بل من واجبه، حماية لصحته النفسية والعقلية والروحية، أن يمارس الفرح والضحك والإيجابية، وديننا دين فأل حسن وإيجابية، وأما النهي فهو عن “كثرة” الضحك، أي الهزل والسماجة الممتدة التي لا تميز بين وقت الجد وغيره.
اضحكوا وتفاءلوا وأحسنوا الظن بما عند الله تصحوا وسوف تحيا قلوبكم يا سادتي، ولا يهمكم من خالفكم. ضغطة زر!  تخيل لو وضعوا أمامك صندوقا صغيرا فيه زر وحيد، وقيل لك سنعطيك مليون دينار، لو أنك قمت بضغط هذا الزر، ولكن اعلم أنه بضغطك له سيموت شخص ما، في مكان ما، ربما مكان قريب أو بعيد، لكنه شخص غريب لا تعرفه مطلقا، والناس أصلا تموت بالعشرات في كل لحظة، ولأسباب متنوعة.
 شخص واحد من هؤلاء الذين سيموتون سيموت بسبب ضغطك للزر، لكن اطمئن، فلن يمكن ربطك بموته مطلقا، فأنت فقط من سيعرف بأن شخصا ما، مجهولا تماما بالنسبة إليك، قد مات بسبب ضغطك للزر، ولعلك حتى لن تكون جازما بذلك.
ماذا سيكون جوابك حينها؟!
تمهل وتأمل، قبل أن تجيب عن السؤال… لا تتسرع في الموافقة، فهناك شخص سيموت حقا، ولا تلعب دور المثالي أيضاً، فنحن نتكلم عن مليون دينار عداً ونقداً!
هذا العرض “الفانتازي”، الخيالي بطبيعة الحال، هو مدار فيلم الصندوق “The Box”، والذي يظهر فيه فرانك لانجيلا (من قام بدور الرئيس نيكسون ببراعة في فيلم فروست/نيكسون)، بوجهه المشوه في الفيلم، ليطرق باب الزوجين كاميرون دياز وجيمس مارسدن، عارضا عليهما هذا العرض الغريب!
تتلاحق أحداث الفيلم وهي تمر بمناطق مليئة بالظلال والغموض، بوتيرة لم تعجب النقاد كثيرا، وإن كانت أعجبتني!
وما أعجبني في فيلم الصندوق هو الإسقاط الإنساني البليغ الذي بدا لي، والعبرة المستقاة منه.
لن يوجد هذا المشهد في الحياة، بطبيعة الحال، ولكن هناك الكثير مما يقترب منه ويشابهه، وربما يماثله، فيوميا، في العمل وفي الشارع وفي كل مكان، بفعل واحد… بردة فعل واحدة… بتصرف واحد… بموقف واحد… أو حتى بكلمة واحدة، تماماً كما ضغطة زر واحدة، قد يقوم الواحد منا بالتأثير في حياة إنسان آخر؛ إنسان قريب يعرفه أو ربما بعيد مجهول لا يعرفه، بتأثير قد يكون إيجابيا صغيرا، كرسم بسمة على وجهه، أو لعله يكون تأثيرا كبيرا عظيما جداً، كمساعدة أو شفاعة يحيي بها الأمل ويعيد بها الحياة في قلب هذا الإنسان.
 والعكس عكس كذلك، بفعل واحد… بردة فعل واحدة… بتصرف واحد… بموقف واحد… أو حتى بكلمة واحدة، قد يكون تأثير الواحد منا في إنسان آخر، تأثيرا سلبيا صغيرا، كجرح عابر للمشاعر، أو تأثير سلبي مدمر، ينهي مستقبله، ماديا أو معنويا، ولعله يدمره تدميراً!
لست أبالغ هنا في وصف المشهد، فكم من الناس يدينون بفضل كبير لأناس آخرين، يرون أنهم السبب في سعادتهم ونجاحهم واستقرارهم، من بعد الله، وكم من أناس يدعون بالشر ليل نهار على آخرين لأنهم كانوا في نظرهم السبب في ضياع مستقبلهم أو تدميرهم وتحطيمهم، وبين هذين الصنفين، يتدرج البشر في شعورهم بالعرفان تجاه الآخرين، أو شعورهم بكرههم ومقتهم والنقمة عليهم.
لهذا ألا ترون معي كم هو من المهم أن يعي الواحد منا تمام الوعي هذه الحقيقة؛ حقيقة أن تصرفاتنا، أفعالنا، أقوالنا، وأحيانا صمتنا وتجاهلنا، وعدم قيامنا بدورنا، كثيرا ما يكون بمنزلة “ضغطة الزر” التي يكون لها بالغ الأثر، إيجابا أو سلبا، في حياة الناس من حولنا، القريب منهم والبعيد؟
أنا أؤمن بذلك كثيرا، فلننتبه ونحن نضغط الأزرار! شاحنات القمامة من حولنا  كثير من الناس من حولنا مثل شاحنات القمامة، يعيشون ويتحركون ويتعاملون مع الناس من حولهم وهم مليؤون بالإحباط وخيبة الأمل والغضب وشتى أشكال السلبيات، وكلما امتلؤوا بهذه القمامة المتكدسة في داخلهم، كانوا بحاجة إلى رميها والتخلص منها، وإن أتيحت لهم الفرصة، فهم لا يترددون في رمي هذه القمامة على من حولهم.
هذه الفقرة، هي مدار كتاب “قانون شاحنة القمامة”، لديفيد بولاي، والذي يتحدث من خلاله عن كيفية التعامل مع شاحنات القمامة التي تتحرك من حولنا، وتلك التي قد تتحرك في داخلنا- وسأشرح هذه بعد قليل- وكيف نتحاشى أن نصبح بدورنا شاحنات قمامة تلقي بمحتوياتها على الناس من حولها.
“قانون شاحنة القمامة”، كتاب فريد ومختلف في طرحه لفكرة قد تبدو مألوفة نوعا ما عند قراء كتب التنمية البشرية والتطوير، لكنه يستحق القراءة في ظني لقالبه المتميز ولزوايا نظره غير المألوفة.
يضع ديفيد بولاي في كتابه هذا العديد من الوصايا للتعامل مع قانون شاحنة القمامة، وقد اخترت منها مجموعة رأيت أنها الأجدر بالتركيز، وسأقدمها لكم هنا بصياغتي، وهي كالتالي:
أولا، دع شاحنات القمامة، حين تأتي محملة، أن تمر من جانبك ولا تعترض مسارها، وبذا لن تعطيها الفرصة لإلقاء محتوياتها عليك، فأنت لست مسؤولا دوما عن التعامل مع قمامة الآخرين، ولست مطالبا بمحاولة مساعدة كل من يعاني من حولك، واعرف دورك، وحدود قدراتك الجسدية والنفسية بالأخص، وركز جهدك على ما تستطيع عمله، ومن تستطيع مساعدتهم حقا، وابتعد عما هو على غير ذلك.
ثانيا، أحسن التعامل مع القمامة التي في داخلك، والمراد هنا هو تلك الأفكار السلبية والإحباطات والخيبات النفسية والغضب المشتعل في نفسك، وتخلص منها جميعا بحكمة واتزان، فلا أطلب منك أن تقمتها وتكتمها، بل أفسح لها المجال، ولكن لا تعطها فرصة للتمدد والانتشار والانفلات فتفسد عليك شيئا آخر.
ثالثا، احذر أن تصبح أنت بدورك شاحنة قمامة تلقي بمحتوياتها على الآخرين، فمثلما تكره أنت هؤلاء الناس السلبيين المتذمرين المنفعلين الغاضبين طوال الوقت، فالناس تكرههم أيضا، والعالم مليء بالفعل بشاحنات القمامة، فلا تزدها شاحنة أخرى، وكذلك تذكر أنك حين تتصادم مع شاحنات القمامة، أو تواجه سلبياتهم بسلبية مضادة، ستتلوث بهم وقد تصبح مثلهم، فكن متسامحا وتجاهل وامض في طريقك بهدوء.
رابعا، ومع تذكر النقطة الأولى، يمكنك وبقدر استطاعتك ووفقا لدائرة مسؤوليتك وصلاحيتك، أن تحاول أن تساعد شاحنات القمامة على التخلص من قمامتها، فأرشدها إلى سبيل الإيجابية؛ أرشدها إلى الموقع السليم للتخلص من القمامة والطريقة الصحيحة لذلك، وركز على إيجابيات هؤلاء السلبيين من حولك، وعزز ثقتهم بذلك.
خامسا، ذكّر نفسك دوما، وافخر بكونك من الإيجابيين، ممن لم يقعوا تحت تأثير قانون شاحنة القمامة، فالإيجابية سلوك بشري يمكن لكل بشر أن يحصل عليه بالرغبة والإرادة والممارسة الدائمة، وهذا يحتاج وعيا متواصلا وتذكيرا مستمرا للنفس، فاحرص على ذلك.
سادسا، احرص على أن تسير وتعيش وتتعامل، بقدر ما تستطيع، في الدائرة البعيدة عن حركة شاحنات القمامة، وابحث عن الإيجابيين ورافقهم، فالقرين بالمقارن يقتدي، والسلبية مرض معد، سرعان ما ينتقل إلى مخالطي المريض به، خصوصا من لا يمتلكون المناعة الكافية.
سابعا، عزّزْ حالة الابتعاد عن شاحنات القمامة بإيجابيتك، وكن عنصرا إيجابيا في محيط عملك وحياتك، وكن عنصرا فاعلا، ولا تكن مجرد عنصر متلق، محايد، يكتفي برفض وجود شاحنات القمامة من حوله.
هذه كانت أبرز ملامح كتاب قانون شاحنة القمامة، شاركتكم بها، لعلنا نستفيد منها جميعا، فنكون من المبتعدين البعيدين دوما عن هذه الشاحنات. لنتعلم فن السير على الحبال! ينحدر ‘تينو واليندا’، لاعب السيرك الشهير، من أسرة كانت تمارس لعبة السير على الحبال أباً عن جد منذ أكثر من قرن من الزمان، سألوه مرة: ‘كيف تبقى ثابتا متوازنا على الحبل ولا تسقط؟’، فأجاب: ‘في الحقيقة أنا لا أكون ثابتا متوازنا على الحبل أبدا، بل أنا في اهتزاز دائم، لكنني أقوم بتعديل وضعيتي طوال الوقت حتى لا أسقط، وذلك بحركات صغيرة مستمرة في مختلف الاتجاهات، وهذه الحركات المستمرة هي ما تبقيني متماسكا على الحبل. إن الثبات على الحبل يعني، في الحقيقة، السقوط’. إجابة ‘واليندا’ جعلتني أتأمل، وأعكس الأمر على الحياة عموماً، فحياة الإنسان، مهما كان منظما مرتبا دقيقا، لا يمكن أن تكون متزنة تماما، بل هي في الحقيقة مليئة بالاهتزازات، الصغيرة والكبيرة، تماما كاهتزازات لاعب السيرك الواقف على الحبل، وذلك لأنه مهما ظن الإنسان أنه مسيطر على كل شيء في حياته، فستظل أمور كثيرة خارجة عن إرادته بطبيعة الحال، ولا يمكن له أن يسيطر على مفاجآت الزمان ولا على تقلب صروفه، ولا يمكن له كذلك أن يضمن انضباط واتزان الناس من حوله، ممن لا يمكنه إلا أن يتعامل معهم، وأن يتقاطع دربه مع دروبهم. لذا فإن هذه الحقيقة تحتم على الإنسان ألا يركن كثيرا لظنه بأن أموره تحت السيطرة تماما، بل لا يجب له حتى أن يحاول السعي إلى جعلها كذلك، لأنه سيخالف بذلك سنّة الأشياء التي أجراها الله سبحانه، ولن يفلح في ذلك أبدا. بل إن ما يجب عليه حقا هو أن يبذل جهده بالقدر الممكن والمعقول في الوقت نفسه، أي بلا إفراط ولا تفريط، وذلك لضبط الأمور في حياته، فيبقى يقظا ناحية الأشياء التي تخرج عن إطار التوازن، فيعدِّل هنا ذات اليمين وهناك ذات الشمال، ويرفع هذه ويضع تلك، ويبعد هذا ويقرِّب ذاك، وهكذا تستمر الحياة بهذه الحركات المستمرة من إعادة الضبط والاتزان. هذا الأمر مهم جدا، لأنه حين يغفل الإنسان عنه لفترة طويلة من الزمن سيجد أن الأمور التي خرجت عن مسارات الاتزان قد انحرفت بعيدا جدا، مما سيتطلب منه الكثير من الجهد جسديا ونفسيا، والكثير من الوقت حينها لإصلاحها وإعادتها إلى مساراتها، هذا إن كان يمكن له هذا أصلا آنذاك، ولم تصل الأمور إلى مرحلة مستفحلة يتعذر معها العلاج، أو مرحلة ستخلف إصابة أو جرحا بليغا على أقل تقدير. هذه الحركة المستمرة لاستعادة التوازن يجب أن تسري على كل مناحي حياة الإنسان، في عمله، وفي بيته مع أسرته، وفي المجتمع مع سائر الناس من حوله وغيرها، وهي في مجملها، أعني الحركة المستمرة، سترسم شكل إدارة الإنسان لحياته وضبطه لإيقاعاتها وصولا إلى الحالة المعيشية المتزنة الهانئة في إطارها العام. ومن الناحية الفلسفية، فإن ‘حلاوة’ الحياة وإثارتها تكون، في الحقيقة، بهذا ‘اللا إتزان’، فالثبات، تماما كما قال لاعب السيرك واليندا، يعني السقوط، وهو في حياة الإنسان موت أو شبه موت، لكن هذه الاهتزازات الحياتية المستمرة هي ما يدفع الإنسان إلى الحركة الدؤوبة، للسعي والتعديل والبناء والتحصيل… هذه الاهتزازات، صغيرها وكبيرها، هي ما يصنع من كل إنسان، عندما يتعامل معها فيتعلم منها، إنسانا أفضل. من سنغافورة مع التحية أكتب هذه المقالة من غرفتي في الفندق المطل على شارع أورتشارد الشهير، في سنغافورة العاصمة، فأنا هنا منذ أيام. سنغافورة مدينة أحبها، ولا أظن أنها لا تحبني، فقد زرتها مرات عدة قبل هذه المرة، وفي كل مرة آتيها أتوقف مشدوها عند الأمور نفسها وأكثر. فالنظام والانضباط هنا خارقان، والناس تسير في مسارات منظمة في كل شأن من شؤون الحياة، تماماً كساعات سويسرية لا تعرف الخلل، أناس قرروا جميعهم أن انضباطهم وتعاونهم واتفاقهم هي سبيل بقائهم ونجاح دولتهم. أعراق مختلفة من البشر، صينيون ومالاي وهنود وغيرهم، تمازجوا واندمج بعضهم ببعض لبناء هذه الدولة في جزيرة سنغافورة الصغيرة، التي لا يتجاوز حجمها مئة وأربعين كيلومتراً مربعاً، والتي غدت خلال السنوات العشرين الماضية، واحدة من الدول الأكثر تقدما في العالم. سنغافورة نموذج حضاري حديث يستحق التأمل كثيراً، ويستحق أن تتعلم منه بقية الدول وتقتدي به، ومسيرتها الحضارية التي قادها رئيس وزرائها السابق «لي كوان يو» هي مسيرة مبهرة مليئة بالدروس والعبر، يجب الاطلاع عليها من خلال كتاب «قصة سنغافورة» الذي نشرته دار العبيكان، وكذلك كتاب «سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول» الذي صدر عن نفس الدار، يستحق القراءة أيضاً. تقول بعض المصادر التي ورجعت إليها إن سنغافورة تعد من الدول الأقل فساداً إدارياً في العالم أجمع، والحقيقة أن هذا الشيء ما يدهشني، بل يمكن الإحساس به من خلال النظر إلى كل مناحيها وإلى حركة نموها وحضارتها، فالدولة تسابق الزمن، والتطوير فيها لا يتوقف، وفي كل مرة أزورها أنبهر عاجزاً عن حصر ما زاد فيها من عمران وتطوير. النظام السياسي في سنغافورة يكتنفه غموض، فهو ليس ديمقراطياً تماماً، والحزب الحاكم على سدة الحكم منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن الأمور تسير بانضباط عجيب، على الرغم من أصوات المعارضة التي لم يبدُ لي أنها تلقى الكثير من التجاوب من الناس هنا، فأغلب الناس منشغلة في تسيير حياتها وشؤون أعمالها وبناء دولتها، في ظل بيئة رحبة تسمح بذلك، ولا يبدو لي أنها تجد حاجة ملحة للانشغال بالهمّ السياسي، وعلى أي حال يبقى هذا الموضوع يستحق تفصيلاً وبحثاً أكثر. سنغافورة بلد يستحق الزيارة، على الرغم من رطوبته الشديدة، ومطره الذي يستمر لأيام وأيام أحياناً، ففيها من المشاهد السياحية والوجهات الكثير، وفيها من أماكن الترفيه ما يمكن أن يدهش كل الأعمار والمزاجات، وفيها الكثير من مراكز التسوق التي تكتظ بالماركات العالمية، أي أنها وبكل اختصار بلاد تناسب كل الأذواق، لكن لينتبه الجميع، فالبلد ليس رخيصا أبداً، ومن يقرر المجيء إليه، فليستعد بميزانية معتبرة. ماذا يقول القائد؟! يعد الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن (1809-1865)، اليوم، وبحسب دراسات المؤرخين والعلماء واحدا من أعظم رؤساء أميركا، بل القادة في التاريخ الحديث، إلا أن هذا الرئيس الفذ، كان قد واجه في الحقيقة خلال فترة حكمه وإدارته لمنصبه معارضة شديدة، ومواجهات عنيفة من خصومه، ولهذا كان في ذلك الوقت حين كان في منصبه من أقل الرؤساء الأميركيين شعبية، فلطالما كانت وجهات نظر ومواقف لنكولن مختلفة عمن جايلوه من الساسة، وقد بدأ الأمر يوماً عندما كان مجرد عضو في الكونغرس، حيث اشتهر آنذاك بموقفه المعارض للرئيس الأميركي جيمس بولك، إزاء الحرب في المكسيك، حيث كان لنكولن يرى أن تلك الحرب خاطئة من الأصل لأنها لم تقم على أسس عادلة. وقد تعرض لنكولن للهزيمة الانتخابية لمرات عديدة في مناصب مختلفة، منها مرتان لعضوية مجلس الشيوخ، قبل أن يتم انتخابه في منصب الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة في عام 1860، بفارق ضئيل جدا عن منافسه الديمقراطي. واستمرت حملات السخرية، بل الهجوم على مواقفه ومعارضتها من خلال الصحافة بعد توليه منصب الرئيس، إلى درجة أن أحد رؤساء تحرير واحدة من أبرز الصحف في ذلك الوقت كتب مؤلبا المقربين من لنكولن ضده، متمنيا أن يتخلص منه أحدهم كما تخلص بروتوس من قيصر بطعنة خنجر! لكن، وبالرغم من كل هذا، ولأن لنكولن امتلك الجرأة والشجاعة لاتخاذ تلك القرارات التي توافقت مع ضميره وإيمانه ورؤاه، بالرغم من أنها كانت على حساب شعبيته، وعلاقاته بأصدقائه الذين خسر منهم الكثير، أصبح اليوم نجما في سجل التاريخ الذي خلده على أنه «الرئيس الذي أنقذ الأمة الأميركية» و«القائد المحرر للعبيد»، ولكم أن تتخيلوا كيف كان سيكون شكل الولايات المتحدة الأميركية اليوم، لو لم يخرج فيها لنكولن، ذلك القائد السيئ الصيت والضعيف الشعبية في عصره! نعم للقائد الناجح خصال كثيرة، لكن أهمها من وجهة نظري هي هذه الخصلة العظيمة النادرة المتمثلة في الشجاعة والقدرة على اتخاذ القرارات غير الشعبية، والقيام بما هو مخالف لما ساد بين الناس، فهذه القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، والسباحة بها عكس التيار الذي قد يبدو أنه تيار الأغلبية، لا الاكتفاء بمجرد التفكير والتلويح بها من بعيد، هما ما يفرق بين ما يسمى بالرئيس وما يطلق عليه اسم القائد، وهو ما يجعل من ذكرى شخص ما غبارا في مهب الريح، وذكرى شخص آخر كنقش على حجر. لذا، وحتى نعرف وندرك، فلنتصفح السجلات، ولنقرأ ولنستمع لما قال، ولنتذكر ما فعل وما سيقول وسيفعل القادة، وسنعرف حينها حقيقة ما كان ومآل ما سيكون! دبي... مدينة الملائكة! دبي، ليست مدينة فاضلة... وليست مدينة «اللا أخطاء»، واللا سيئات، واللا إخفاقات، واللا تلكؤات أو عثرات... وقادتها كذلك ليسوا ملائكة! لكنها أيضا ليست مجرد مدينة من حديد وكونكريت وزجاج وأسلاك. دبي ليست مدينة حضارة مادية زائفة قامت لتسحق إنسانية الإنسان وآدميته فتجعل منه مجرد ترس أو شريحة في آلة ميكانيكية عجماء عديمة الروح. نعم، لعلها كانت كذلك في البدايات حين استغرقت في الدوران المحموم في دولاب البناء الاسمنتي، وفي تمديد أسلاك التقنية والاتصالات الحديثة، وفتح الأبواب مشرعة للسائحين من كل حدب وصوب، على حساب أهل دبي أنفسهم، ولعل من انتقدوا آنذاك كانوا على حق، ولكن أن نجد من لايزال حتى الساعة أسيراً للفكرة ذاتها، لهو دليل على أن الكثير يهرفون بما لا يعرفون وأنهم لا يتابعون ما يجري في دبي! قبل أن أسترسل لابد لي أن أقول إن دبي ليست بحاجة إلى مَن يدافع عن تجربتها، فنجاحاتها على الأرض وهي تتصل بعضها بعضاً، تدافع عن نفسها، لكن المراد لفت الانتباه إلى مَن يريد أن يستفيد من تجربة بشرية رائدة أثبتت نفسها رغم التحديات ومقولات المشككين كلها. محور التنمية في أي بلد هو الفرد، وكل تنمية لا تهدف إلى الوصول إلى خدمته والارتقاء به وتلبية حاجاته على صعدها المختلفة، تنمية عليلة، ودبي أدركت ذلك منذ زمن. وحين أقول إن دبي أدركت ذلك، فأنا أقول إن حاكمها محمد بن راشد أدرك ذلك، وحين أقول إن محمد بن راشد أدرك ذلك، فأنا أقول إن كل فريق العاملين معه، على مختلف مراتبهم، يدركون ذلك وبشكل عميق يتجاوز التصور. ما لمسته عن كثب هو أن كل مؤسسة حكومية في دبي مطلوب منها أن تعرف وعلى وجه الدقة موقعها ودورها في تنفيذ خطة دبي الاستراتيجية التي تناولت الجوانب كلها، التي يفترض أن توجد في الخطط التنموية للدول المتقدمة. عندما يكون في الخطة الاستراتيجية لبلد ما، وبشكل أساسي يشكل عمودَه الفقري برنامجٌ للتنمية الصحية والارتقاء بالخدمات الطبية، وبرنامج لتطوير قوانين الخدمة المدنية، وتنمية الكوادر البشرية بالتركيز على الجدارة والاستحقاق وتأهيل قيادات الصف الثاني عبر برامج لإعداد القادة، وبرنامج لرفع كفاءة وفاعلية الأجهزة الحكومية للارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة عبرها، حتى صارت تنافس شركات القطاع الخاص، وبرنامج للتنمية الاجتماعية ولدعم بسيطي الدخل. وعندما يراجع بلد ما سلم رواتب موظفيه بشكل دوري علمي مدروس، ويطلق برنامجاً للخيرات بضخامة برنامج دبي العطاء، وبرنامجاً للتنمية الإنسانية على مستوى المنطقة، وبرنامجاً لدعم مشاريع الشباب، وعندما يعنى بالعلوم والفنون والأدب فينشئ متحف الشرق الأوسط للفن، ويطلق 25 مشروعاً علمياً ثقافياً تعليمياً ضخماً بريادة عربية وعالمية لم يسبق لها مثيل في مجالات الترجمة والبحث العلمي والتأليف والنشر، وعندما يطلق برنامجاً خاصاً للحفاظ على البيئة وترشيد استهلاك الطاقة والموارد وصولاً إلى الاستفادة من الطاقة النووية، عندما يحصل هذا كله وأكثر لأجل الإنسان الذي هو أساس التنمية، في بلد يعرف عنه أنه بلد إنجازات حقيقية ترتبط ببرامج زمنية واضحة ومحددة وتجري متابعتها متابعة لصيقة من رأس الهرم وأعلى المستويات، حينها سنجد أننا أمام بلد أكثر بكثير من أن يكون مجرد بلد من حديد وكونكريت وزجاج وأسلاك كما يقول بعضهم! نعم، قد لايزال لدبي الكثير من الأمور التي تحتاج إلى الانتباه والعلاج، ولاتزال هناك مواطن خلل، وسيكون هناك مثلها في المستقبل، لأن هذه هي الطبيعة البشرية القاصرة، ودبي في النهاية ليست «شانغريللا» الجنة الخيالية التي وصفها جيمس هيلتون في «الأفق المفقود»، لكنها بلد تسير اليوم وبخطوات ثابتة متسارعة على طريق التقدم في المناحي كلها، بلد يعرف كيف يصحح أخطاءه ويتجاوزها، ويبني على نجاحاته ويستثمرها، حتى صار نجماً ينظر إليه الآخرون من بعيد ويسيرون على هداه! التغيير لا يأتي عنوة يا ريس ! قرأت منذ أيام في كتاب 'الوزير المرافق' للدكتور غازي القصيبي العبارة التالية: 'لقد كانت الرغبة في فرض التطور غلطة الشاه الأساسية، وكانت غلطة أتاتورك قبله'، فأعجبتني وقمت بنشرها في 'تويتر'، لأتلقى تعليقاً بعد ساعات من الزميل تركي الدخيل يفيد باختلافه مع العبارة. والحقيقة أني لم أتمكن من معرفة زاوية اختلاف الزميل تركي معها حتى ساعة كتابة هذا المقال، لكنني أراها، أي العبارة، من حيث المبدأ العام صائبة تماماً. أعتقد تماماً، والاعتقاد هو الجزم، أن كل 'تغيير' يُفرَض عنوة، غالباً ما ينتهي إلى الفشل، وهذه القاعدة قاعدة عامة تسري على أبسط المنظومات الإدارية والاجتماعية، كالأسرة على سبيل المثال، وصولاً إلى أكثرها تعقيداً، كالدول كبيرها وصغيرها، مروراً بمؤسسات العمل بأشكالها ونظمها المختلفة. والإرادة الطيبة والنوايا الحسنة التي تدفع البعض، كرب الأسرة أو مدير الشركة أو حتى رئيس الدولة، إلى فرض التغيير على أتباعه، لا تكون كافية أبداً لتمرير هذا التغيير، وتسهيل حصوله. وتلك الحكمة الشهيرة التي تقول إن الطريق إلى الجحيم مُعبَّد بالنوايا الطيبة، صادقة تماماً في هذا الصدد، ففشل الوصول إلى النتائج المرجوة من التغيير الذي تم فرضه، من بعد صرف كل تلك الجهود وإنفاق كل تلك الأموال وإضاعة كل ذلك الوقت، هو الجحيم بعينه ولا شك، وهذا يدركه كل مَن ذاق مرارة الفشل والإحباط. لذا فمن المهم، وقبل الشروع في إجراء أي 'تغيير'، فضلاً عن فرضه طبعاً، إدراك حقيقة أن الأتباع ليسوا روبوتات (رجالاً آليين) سيستجيبون لنداء التغيير بمجرد إطلاق النفير، وإنما هم، أفراداً وجماعاتٍ، منظومات نفسية وعاطفية وفكرية، مليئة بالتعقيدات والمخاوف التي تحتاج إلى معالجتها وتلبية احتياجاتها، قبل إقحامها في أي مشروع للتغيير وافتراض تجاوبها المطلق واستجابتها الإيجابية. من طبيعة البشر أنهم يقاومون التغيير، ويكرهون الخروج عما يسمى في علم الإدارة دائرةَ الراحة والمألوف (comfort zone)، وذلك لأسباب متنوعة لا يتسع المقام لتناولها، ولكنها ضرورية جداً، ومن المهم إدراكها عند كل قائد يفكر في إخضاع أتباعه لعملية تغيير ما، كبيرة كانت أو صغيرة. ولعلي كنت محظوظاً جداً لأنني حظيت في بيئة عملي بتدريس وتدريب مكثف في مجال 'إدارة التغيير'، وعايشت بعد ذلك تجارب مختلفة للتغيير على أرض الواقع وتمكنت من تطبيق تلك الأدوات التي تعلمتها، ومن ثم رصدت الإيجابيات والسلبيات، والعوامل المساعدة والمعوقات، وغيرها. والكتب في هذا المجال كثيرة، لكنَّ من أبرزها في ذاكرتي، وأكثرها تبسيطاً، كتابين أجنبيين ترجمتهما مكتبة جرير؛ الأول، هو الكتاب الشهير 'من حرك قطعة الجبن الخاصة بي'، لسبنسر جونسون، والثاني، وهو أقل شهرة من سابقه، هو كتاب 'جبلنا الجليدي يذوب'، لجون كوتر. كلا الكتابين يتكلم عن فلسفة التغيير، وعن ردة الفعل الجماهيرية تجاهها، وذلك في قالب قصصي مشوق، وكلاهما يعتمد على المنحنى الإداري الشهير للعالم كابلر روس، في هذا المجال، والذي يقول إن الناس عند تلقيهم 'خبر التغيير'، يمرون بمراحل مختلفة، يتمكن البعض من تجاوزها جميعاً، بينما يتلكأ البعض الآخر ويتباطأ، في حين قد تفشل مجموعة. كابلر روس يقول في نظريته إن هذه المراحل تتسلسل كالتالي: الجمود أو الذهول، ثم الإنكار، ثم الغضب، ثم المساومة، ثم الإحباط، ثم التجربة والاستسلام، انتهاء بالقبول. وكما ذكرت فإن الناس تتفاوت في سرعة انتقالها من مرحلة إلى أخرى، وفقاً لاستعداداتها الفطرية والفكرية، وأيضاً وفقاً لما تم تقديمه إليها من قبل 'القيادة'، لدفعها إلى التحرك على هذه السلسلة المرحلية بسلاسة. وأما القيادة التي لا تدرك هذه العوامل، وغيرها مما لم أذكره هنا، ولا تأخذها في حسبانها، ولا تضع في حساباتها أن تتعامل معها وتعالجها، ستنتهي كل محاولاتها لفرض التغيير، من أي نوع كانت، إلى التكسر على صخرة الواقع البشري العصي عادة على التغيير، وهو ما يقع فيه أغلب القادة والرؤساء والمديرين دائماً. الجنس والمدينة...حرام وممنوع! تحقيق مثير قرأته في مجلة علوم النفس 'Psychologies'، عدد يوليو الماضي (الطبعة البريطانية)، جعلني أتفكر في هذا الموضوع من زوايا لم أنظر عبرها من قبل. التحقيق يدور حول انتشار صناعة الإباحية والجنس، سواء عبر الإنترنت أو الفيديو أو المطبوعات، ويسلط الضوء على التأثيرات الاجتماعية لهذه الصناعة الآخذة في الانتشار والتزايد بلا هوادة، على المجتمعات، وعلى صغار السن على وجه الخصوص! يتحدث التحقيق عن الغرب بطبيعة الحال، حيث يوجد هناك الفكر الليبرالي المطلق، الذي ينظر إلى هذه المسألة، وكل مسألة تقريبا، على أنها 'بزنس'، وعرض وطلب، وأن فكرة المنع مرفوضة أساساً، وعلى المتضرر، أو من يخشى الضرر، أن يبحث عن الوسائل الكفيلة بحمايته، قبل أن يندفع نحو محاولة لجم 'حريات' الآخرين، وبالطبع فإن مساحات الحرية، هناك في الغرب، تكاد تكون مفتوحة لا متناهية، وبالتالي فإن هذا الكلام قد لا يكون مفهوماً أو مهضوماً جداً عندنا. لكننا في العالم العربي لسنا، بالرغم من ذلك، بمعزل عن تداول صناعة الإباحية والجنس، مهما زعمنا بأننا مجتمعات متدينة وأخلاقية محافظة، ومهما وضعنا القوانين والعقوبات الرادعة على تداول هذه المواد، لأن انتشارها كبير جداً عندنا بشهادة الواقع، بالرغم من كل محاولات المنع والرقابة والسيطرة والعقاب بالقانون، والتخويف والزجر والوعيد بالعذاب والعقاب وجهنم والسعير. وانتشار هذه المسألة قد تجاوز اليوم تداول المواد المصنعة في الغرب، من مواقع إنترنت وفيديو ومطبوعات، ووصل إلى مرحلة الإنتاج المحلي، سواء بشكل احترافي، أو بطريقة شخصية. ويدرك العارفون أن الإنترنت والهواتف النقالة، في عالمنا العربي، صارت مليئة بصور ومقاطع فيديو إباحية لأشخاص عرب، يمارسون كل أشكال الجنس والإباحية، مع تغطية الوجه، مما يدل على أن محاولات المنع والرقابة القانونية والدينية والأخلاقية، لم تجدِ نفعاً، وأنه لو تخيلنا سقوط هذه الموانع جدلاً، لانفجر في وجوهنا صندوق باندورا الممتلئ بهذا المحتوى العربي المتوحش! ما أريد الوصول إليه هنا، هو أن تعاملنا مع هذه المسألة هو ذاته مع كل المسائل المشابهة، تلك الشائكة مجتمعياً وأخلاقياً، كمسألة الطائفية والعنصرية والطبقية، حيث يكون التعامل دوماً تعاملاً خجولاً وعلى استحياء، يبقى على السطح، مكتفياً بالمنع والزجر والرقابة، ولا يغوص إلى العمق حيث دراسة المسببات والأسباب ومحاولة العلاج في ذاك المستوى. لا يوجد لدينا اليوم تعاطٍ حقيقي لهذه المسألة، أعني مسألة انتشار الجنس والإباحية، ولا دراسات تحليلية بالقدر الكافي، تستكشف أبعاد المسألة وتأثيراتها المجتمعية في الأجيال المختلفة، ولا انعكاساتها على السلوكيات الأخلاقية والعلاقات الزوجية والعائلية، ولا على أي شيء من هذا القبيل. هذه المسألة هي فقط حرام وممنوع، والسلام! من عادتنا كعرب، أن نصل متأخرين إلى كل شيء يصل إليه العالم، ويبدو أننا سنصل متأخرين في هذه المسألة أيضاً. الغرب قد احتاج إلى سنوات طويلة من تداول هذه الصناعة، ودخل في زوابع ودوامات الرفض والقبول لفترة طويلة، حتى وصل اليوم إلى مرحلة التعاطي معها بشكل علمي صحيح، فهل يجب علينا أيضاً أن نستغرق وقتاً طويلاً، حتى نقر بوجود المشكلة في مجتمعاتنا، وحتى نبدأ في البحث عن تأثيراتها فينا؟ أرفض هذا جداً، لكن يبدو أنه ما سيحصل وللأسف! ... ويبقى العلماء! الناس، في كل مكان من هذا العالم، بحاجة إلى الأمل، وبحاجة إلى من يذكّرها بأنها قادرة على عمل شيء بالرغم من كل المعوقات، وأن أمتها لاتزال بخير، ولاتزال قادرة على إنجاب أبناء لها قادرين على التغيير والنهوض بهم جميعا، وليس من أبناء على هذه الشاكلة ومن هذا الطراز كالعلماء! أشعر أنه مهما انحدرت الحالة الثقافية، وتخلف واقع المجتمعات، يبقى للعلماء، في أي مجال كانوا، مهابتهم وقيمتهم، يبقى ذلك في قلوب عموم الناس على الأقل. خصوصاً عندما لا يتلوث هؤلاء العلماء بأدران السياسة، ولا يوالون الأنظمة المتسلطة، وعندما لا يتورطون في الفتن المجتمعية التي قد تميل بهم لفئة على حساب أخرى في مجتمعاتهم. أحسست بهذا الشعور بقوة في المرة الوحيدة التي التقيت بها الدكتور أحمد زويل، العالم المصري الذي حاز جائزة 'نوبل' في عام 1999م، وكان ذلك في الدورة التاسعة من منتدى الإعلام العربي الذي عقده نادي دبي للصحافة في النصف الأول من هذا العام. هناك وحين تحدث زويل أمام المئات من الإعلاميين الذين حضروا المنتدى، شاهدت وشعرت بحجم الانبهار والإعجاب والتقدير والحب لهذا العالم الفذ، وكيف استقبله الناس بتصفيق لم يكد يتوقف، وكيف لف الصمت والوقار تلك القاعة الفسيحة من طرفها إلى طرفها حين تحدث، وكيف تدافعوا بعدها للسلام عليه ومصافحته. إن الناس، في كل مكان من هذا العالم، بحاجة إلى الأمل، وبحاجة إلى من يذكّرها بأنها قادرة على عمل شيء بالرغم من كل المعوقات، وأن أمتها لاتزال بخير، ولاتزال قادرة على إنجاب أبناء لها قادرين على التغيير والنهوض بهم جميعا، وليس من أبناء على هذه الشاكلة ومن هذا الطراز كالعلماء! حين حاز زويل جائزة 'نوبل'، كتب الشاعر الجميل فاروق جويدة في الأهرام المصرية يقول: 'إن نوبل زويل أجمل صدفة أسعدت شعبا بأكمله، رغم أن الرجل لم يصل إلى ما وصل إليه بطريق الصدفة'، وأنا أقول إن زويل لم يسعد الشعب المصري لوحده يومها، بل أسعد الأمة العربية بأسرها، وبث في أوصالها الأمل. والناس تقدر زويل وأمثاله، وتجلهم حتى وهي لا تدرك ولا تعلم ماذا فعلوا، ولا إلى ماذا توصلوا، بل لا يهمهم ذلك في الحقيقة، فحين قامت إحدى الصحف بسؤال الجماهير المصرية المحتشدة احتفالا بزويل عما فعله، كانت إجابتهم بأنهم غير معنيين بما أنجزه، بقدر ما أنه قطعة من لحمهم ودمهم، وقد أنجز ما أنجز. وأستذكر أنا كذلك كيف أن إحدى الإعلاميات في منتدى الإعلام العربي، وبعدما انتهى زويل من محاضرته، سألته عن كيفية علاج أحد الأمراض النادرة، ظنا منها بأنه طبيب، في حين أنه عالم كيمياء. ويذكر الأستاذ أحمد المسلماني، محرر كتاب 'أحمد زويل، عصر العلم'، أنه سمع زويل يقول للأديب الراحل نجيب محفوظ: 'إنني أفهم أن يلتف الناس حولك، ويحتفون بك، فأدبك معروف وسهل الفهم، ومن ثم فإن تقديرهم لك يأتي عن قراءة ووعي، ولكنني أندهش من هؤلاء الذين يتركون ما بأيديهم من عمال نظافة ومقاه ومارة في الطريق ويأتون لتحيتي... إنهم لا يعرفون ماذا فعلت... ولكنهم يقدرون'! هذا الكلام الذي قاله زويل لمحفوظ، يكاد يطابقه تماماً في المعنى ما قاله آينشتاين لشارلي شابلن، حين تزاحم الناس عليهما وهما معا في أحد شوارع هوليوود، حيث قال: 'لقد تجمع الناس لينظروا إلى عبقري يفهمونه تمام الفهم، هو أنت، وعبقري لا يفهمون من أمره شيء، وهو أنا'! يا له من شعور مشرق، ويا لها من فكرة جميلة مليئة بالأمل، بأنه بعدما ينقشع غبار اللحظات العاصفة، وبعدما يتلاشى ضجيج الأبواق والطبول الفارغة، ويتساقط الذين لم يخلّفوا أثراً حقيقياً، وتنقضي الأزمنة تباعاً، لن يسفر نور الصباح إلا عن تركة العلماء الحقيقيين، وعن ذكراهم الصالحة، وأما الزبد فيذهب جفاء. قصة قرد... بل قصة قرود! خذوا عندكم هذه القصة الحقيقية الطريفة التي قرأتها منذ سنوات، جاء أحد الصحافيين بقرد وأعطاه لوحة فارغة وألوانا، وجعله 'يشخبطها' كيفما اتفق، وبعد أن انتهى القرد 'الفنان' من لوحته، قام الصحافي بتصويرها ونسخها ومن ثم توزيعها على النقاد والكتاب والشعراء بدعوى أن صاحبها أمير خليجي، وقد أسماها 'أميركا والعالم' وأنه يعتزم عرضها في لندن، ولهذا الغرض ينوي إصدار كراسة تعريفية لها ويحتاج إلى من يكتب فقرات ومقالات عنها على أن تنشر في هذه الكراسة المقترحة. وهنا بدأت المسرحية الفكاهية! كتب شاعر معروف قائلا بأنها 'غيوم من الموسيقى والإيقاع اللوني الهادئ في صخبه، والصاخب في هدوئه'! وأنه 'يقف مبهورا أمام هذه الطهرانية وشفافية الروح التي تعثر على بلاغتها الساحرة في التجريد والإيماء'! وكتب آخر أنه 'يقف أمام هذه اللوحة مكتويا بحرائق اللون، وأمام تجربة تشكيلية باذخة في رؤاها وتبحث عن إطار تعبيري مختلف، وهي تتقدم إلى متلقيها مسكونة بحرية فائقة وتأخذنا إلى تخوم التجريد المطلق'! وقال ثالث إنه وجد في اللوحة 'رفضا لونيا أو إدانة ضوئية متوهجة عبر تجريد ذي بعد فلسفي عميق يحرص على تكريس قيم مواجهة ومقاومة لهذا التوحش الحضاري المتكئ على القوة والافتراس'! بينما كتبت فنانة تشكيلية معروفة قائلة 'إن مبدع اللوحة ترك مساحات بيضاء لإشاعة الأمل والبهجة تأكيدا لجمال وروعة الحلم، فالفنان يدعونا إلى إعادة قراءة الواقع، ويبدو كأنه يبحث عما هو أعمق من حدود المعرفة المتاحة'! وكتب زميل لها قائلا بعدما قرأ اللوحة قراءة متأنية إنها 'خطوط وألوان بعثرت بشكل فلسفي عميق يشير بكل ثقة وجرأة من خلال ألوانها المتداخلة والمتضادة، إلى طبيعة العلاقة التي تحكم أميركا والعالم'! ولكي يكمل الصحافي 'القرداتي' مقلبه، عرض اللوحة بعد ذلك على طبيب نفساني، فقام الأخير بدراستها بإمعان وخرج بتحليل قال فيه 'إن اللوحة تشير إلى أمرين: أولهما أن هذا الفنان يزدحم عقله بثقافات مختلفة وكثرة اطلاع وثانيهما أنه متشائم بدرجة كبيرة... وتشير طريقة الرسم إلى أنه كان يمر بقلاقل نفسية نتيجة مشاحنات أو مشكلات عائلية... لكن المثير في الفنان أنه يعاني أعراض فصام عقلي أصيب به في بداياته من كثرة قراءاته واطلاعه على تجارب الآخرين'! بعد كل هذا الإبداع 'الحلمنتيشي' الذي خرج به الشعراء والفنانون والنفسانيون قام الصحافي بنشر القصة كاملة في مجلته، فثارت ثائرة القوم، وتملصوا مما قالوا! هذه القصة، وعلى الرغم من تطرفها شيئا ما، فإنها تكشف وتضع يدها على كثير من الزيف والعبث والمجاملات، مما تعج به الساحة الفنية والثقافية في وقتنا الحالي. ومن هذا، مثلا، أن كثيرا ما يسمى اليوم بالفن التشكيلي هو مجرد شخابيط عشوائية، ومساحات لونية خالية من أي معنى مقصود ابتداء، وكذلك أن كثيرا من التعليقات والكتابات التي نراها وقد نشرت على إثر هذه 'الشخابيط'، سواء أكانت رسما أو ربما شعرا أو حتى نثرا، هي من قبيل المجاملات الكاذبة الفارغة في الحقيقة، وأن كل واحد من هؤلاء 'المبدعين' يحك ظهر صاحبه، من باب أنه لا يخدم بخيل! إن ما يحصل اليوم، أشبه ما يكون بسيرك كبير يا سادتي.. سيرك مليء بكثير من القرود والنسانيس.. والببغاوات.. والزمارين والمطبلين.. والراقصين! فلتشكر الله على آلامك! هل سبق لك أن شعرت بالمرارة، وربما الكراهية تجاه شخص ما، إلى الحد الذي صعُب عليك أن تفهم حتى كيف يمكن لك أن تصفح عنه أو تسامحه؟ لا أشك في ذلك، فلكل واحد منا في علاقاته مع الناس تجارب محزنة وأحياناً مؤلمة. يبلغ بعضها من الشدة أن يجعل صدر الواحد منا يشتعل ألماً وحرقة وغيظاً ممن أحزنوه أو آلموه، وقد يصل إلى حد كرههم، فيقرر أنه لن يصفح ولن يغفر لهم أبداً ما اقترفوه في حقه، والسبب في ذلك أننا نكون مدفوعين حينها بشعور أن 'الجرم' الذي وقع علينا هو من الفداحة بحيث لا يستحق من اقترفه أن يُصفح عنه أبداً، فنصدر قراراً في دواخل أنفسنا بأننا لن نغفر لهذا 'المجرم' أبداً، ولن نتوقف عن الشعور بالغضب تجاهه. لكننا في تلك اللحظة نكون نخلط بين شيئين مختلفين وللأسف، هما الصفح كشعور داخلي، والتنازل عن الحق كفعل خارجي. إن الصفح عن الآخرين لا يعني أبداً أن نتنازل عن حقوقنا، وأن نقبل بالخطأ أو الضرر الذي وقع علينا، وإنما يعني وبكل بساطة أن نتخلص فقط من ذلك الشعور الخانق الذي يعترينا تجاه من أخطؤوا بحقنا، فنقرر لأجله ألّا نصفح عنهم أبداً. عندما أغضب من 'فلان' من الناس، لأني كنت أحسبه صديقي، مثلاً، فإذا به لم يقدرني فيدعوني لحفلته مثلاً، فالحقيقة أن ما سيحصل هو أن هذا الفلان غالبا لن يكون الشخص الذي 'ستنفقع مرارته' غضباً مما حصل، ولن يكون هو الشخص الذي سيشعر بالحرقة في صدره ومعدته، بل سأكون أنا من يشتعل غيظاً وحنقاً ويختنق ضيقاً، وهكذا فإن إصراري على ألّا أتجاوز المسألة، على مستواها النفسي، لن يؤدي إلا إلى استمرار معاناتي من هذه المشاعر السيئة الثقيلة، والتي كلما أبقيتها في داخلي، ازدادت تركيزاً، والشعور بالكراهية، كما يقول المثل الغربي، كالقهوة، كلما ازدادت تركيزاً، زادت مرارتها. لنبسط المسألة لتتضح أكثر، إن فلاناً هذا الذي أخطأ في حقي هو واحد من اثنين: إما أنه شخص لا يكترث لأمري فعلا، وحينها لن يشعر بشيء البتة بل لعله لن ينتبه للمسألة برمتها، وسيعيش حياته الطبيعية، يأكل هانئاً، سليم المرارة والمعدة، وسينام قرير العين، وإما أنه شخص مظلوم فعلاً، وأن ما حصل كان خطأ غير مقصود، فإن كان هو الأول، فهذا شخص لا يستحق أن أغضب منه ولا يستحق أن أتجرع مرارة كل هذا الألم لأجله، وإن كان هو الثاني، فهذا يستحق في النهاية أن أصفح عنه وأسامحه. وبطبيعة الحال، فإن ما أقوله هنا لا يعني أن تتبلد مشاعر الإنسان، فيصبح كلوح من رخام، لا يتأثر بما يدور حوله، وإنما المقصود هو أن ينظر إلى هذه الآلام التي تلم به من زاوية أخرى، وألّا يسمح لنفسه بالاستغراق في تجرع مرارتها، وإنما أن يعمل على تجاوزها بأسرع ما يمكن، بعد أن يكون قد استقى درسه منها، والمهم أن يتذكر أن كل ألم يمر به في حياته، هو الوجه الأول من عملة، وجهها الآخر هو الخبرة والحكمة والمعرفة التي يجب أن يكون قد اكتسبها من هذه التجربة، وهنا، وهذه هي المفارقة الجوهرية، سيستحق هذا الألم، وبعد أن يتجاوزه أن يشكر الله عليه لأنه جعل منه شخصاً أفضل! يقول الدكتور فريدريك لاسكين، صاحب كتاب 'سامح للأبد'، إن الدراسات أظهرت أن الناس الذين يرفضون الصفح عن الآخرين هم الأكثر تعرضاً لاضطرابات النوم وانعدام الشهية وضمور الطاقة الحيوية، وأنهم الأكثر تعرضاً للأمراض، لذا هل ترون هذه الحقيقة المضحكة، وهي أننا وعندما نغضب من الآخرين ونرفض أن نصفح عنهم، فإننا في الواقع نحرق أنفسنا نفسياً وجسدياً أكثر بكثير مما قد نفعله بهم، وكفى بالإنسان حماقة أن يفعل ذلك! لا يتواضع إلا كبير ولا يتكبر إلا حقير! لا أكاد أصدق أحيانا ذلك الكم من التواضع الذي لمسته مرات عديدة من أناس بالغي الثراء ولهم من المكانة المجتمعية ما لهم، ولا أكاد أستوعب في المقابل، ذلك الكم الفاحش من الغطرسة والتعالي الذي أراه وقد انعكس على تصرفات وأسلوب البعض من محدثي النعمة. دخولي إلى عالم الكتابة الصحفية، ودائرة الإعلام، وكذلك إلى معترك النشاط السياسي، مكنني من الالتقاء بالكثير من الناس على مختلف المستويات، والاحتكاك بمعادنهم والتعرف عليهم عن كثب حين اقتربت منهم في مواقف كشفت لي بعدهم الإنساني، الخالي من تلك الطبقة المصطنعة، التي عادة ما يحيط بها الإنسان نفسه، شعورياً أو لا شعورياً، عند الظهور في وسائل الإعلام! كثير جداً ما يستحق الحديث عنه على هذا الصعيد، والذي من كثرته قد يستحق كتاباً، لا مقالاً واحد، إلا أن الشيء الذي لطالما لامس نفسي أكثر من غيره هو ملاحظتي أن التواضع وعدم التعالي على الآخرين، يكاد يكون سمة لازمة لمن هم من أهل المال والخير والمقام المجتمعي العالي، ممن ورثوه أباً عن جد، في حين أن التكبر والتعالي والتغطرس، تكاد تلازم محدثي النعمة! بالطبع، لكل قاعدة شواذ كما يقال، ولذلك فهناك من هم ليسوا ممن وصفت من الفئتين، أعني من أهل الخير والمقام ممن ورثوه أباً عن جد، وكذلك من محدثي النعمة، ولكن هذا الشذوذ هو نفسه الذي يثبت القاعدة، حيث إنه يكشف الصورة السائدة، ولا أشك أنه يوجد تفسير سوسيولوجي / سيكلوجي للمسألة، ولكنني أظن وبشكل مبسط، أن من عاش طوال حياته في ظل الخير والنعمة والاستقرار في هذا الجانب، لم يرتبط في وجدانه أن قيمته كفرد في مجتمعه رهينة بهذا، وأن لمجرد امتلاكه لهذا الثراء ولهذا المقام أو الاسم، صار من حقه التعالي والتكبر على الناس، بل هو يتصرف على سجيته، في حين أن محدث النعمة والجديد على عالم الثروة، وبعدما تجري النعمة في يده في لحظة من الزمن، وتنتقل حالته المادية من مستوى إلى آخر، تظل هذه المفارقة الطبقية غائرة متجذرة في نفسه، فيظل يصارعها وتصارعه، ولا يجد وسيلة للتغلب عليها إلا بارتداء ثوب التعالي والتكبر والطاووسية، ليظهر ذلك بشكل فاحش مبتذل على تصرفاته مع الناس من حوله. لا أكاد أصدق أحيانا ذلك الكم من التواضع الذي لمسته مرات عديدة من أناس بالغي الثراء ولهم من المكانة المجتمعية ما لهم، وهم من لن أذكر اسم أحد منهم حتى لا يكون في الأمر شبهة تزلف، وحتى لا يكون هناك أيضا أي قدر من حرج عليهم، ولا أكاد أستوعب في المقابل، ذلك الكم الفاحش من الغطرسة والتعالي الذي أراه وقد انعكس على تصرفات وأسلوب البعض من محدثي النعمة ممن أعرف، لمجرد أن الله قد أنعم عليهم ببعض المال، لحكمة هو أعلم بها! لكن، وهذا من السنن الجارية بين الناس، فلا شيء يجعلك تجل الإنسان وتحترمه مثل كرم أخلاقه، وعلى رأس الأخلاق: التواضع والسماحة واللين، ولا شيء يجعلك تحتقره، بل تكرهه، مثل تكبره وصلفه وثقل نفسه على عباد الله، وفي هذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي: 'يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم'! نسأل الله السلامة. حكاية جدتي! يروى أنه عندما زار العالم الشهير فخرالدين الرازي إحدى المدن، خرج الناس يتهافتون ليستقبلوه، فرأت هذا المنظر إحدى العجائز وسألت واحداً من المتجمهرين عن المسألة، فأجابها: هذا الإمام فخرالدين الرازي، زار المدينة وخرجنا لنستقبله، فقالت: ومن يكون فخرالدين الرازي هذا؟ فأجابها: هذا الذي جمع كتابا فيه ألف دليل على وجود الله، فقالت بهدوء: لو لم يكن عنده ألف شك لما جمع ألف دليل، وعندما وصل الخبر إلى الرازي قال: اللهمَّ إيمانا كإيمان العجائز. الواضح من هذه القصة، وهي قصة غير محققة ولا ثابت لصحتها بطبيعة الحال، أن المراد بإيمان العجائز هو ذلك الإيمان الفطري البسيط، الخالي من تساؤلات الشك، وهو المتبادر عند من يرددون هذا الدعاء أحيانا، إلا أنني عرفت عن قرب شكلا آخر من أشكال إيمان العجائز، شكلاً يتجاوز هذا الإيمان المقصود في حكاية الرازي، وهو الشكل الذي قد يبدو ساذجا شيئا ما عند البعض، من زاوية أن إيمانا لم يتعرض لامتحان الشك والتساؤل مشكوك في ثباته واستقراره، وهو رأي قد يختلف معه بعض آخر، من زاوية أن سماء ذات بروج وأرضاً ذات فجوج تدلان حتما على اللطيف الخبير، وكل مجال للشك بعد ذلك هو أقرب إلى السفسطة والعبث العقلي. كنت أقول إني شاهدت صنفا من إيمان العجائز، تجاوز هذا، إيمان تمثل في حالة من اليقين والتسليم البالغين للخالق المعبود، حالة استثنائية حين بلغها صاحبها، استقر في حالة مبهرة من الاتزان النفسي، والهدوء والسكينة الروحية غير المعهودة. شاهدت هذه الحالة، وعايشتها منذ سنوات، قبل أن تتوفى جدتي لأبي رحمها الله. جدتي، أم متعب، كانت امرأة ضريرة، أكل بصرها الجدري في منتصف شبابها، ولكنه لم يفلح في أن يقعدها عن القيام بواجبات حياتها في ذلك العمر، وهي ابنة البادية التي ما كانت لتعرف غير حياة الشظف والتعب والجهد بطبيعتها، لكنني لم أع شيئا من هذا كله، وقصارى ما تحصلت عليه من مشاهد وحكايات كان نقلا عنها، ومن أفواه الذين عاصروها في تلك الفترة. ما وعيته تماماً من عمر جدتي كان تلك الفترة التي كانت قد شاخت فيها وكبرت جداً، فلزمت البيت، بعدما نزل أهلنا إلى الحاضرة، فاستقرت في غرفة مستقلة لها، لا أزال أذكر هيئتها وعطرها الدافئ الحنون، وصار لها عالمها الخاص، عالمها الذي كان يخاله الرائي ظلاما دامسا، ولكنني اليوم أجزم بأنه كان منيرا طوال الوقت، فقد كان لسان جدتي رطبا في كل لحظاتها بذكر الله، وذاكرتي تبدؤني دوما حين تستدعيها بتلك التسبيحات وذلك الاستغفار الذي لم يكن يتوقف لسانها عن ترداده وتكراره في كل الأحايين. ما زلت أذكر لمسة جدتي على تفاصيل وجهي حين كنت أزورها، حين كانت تتخلل بأصابعها لحيتي، وتمسك بعدها بيدي وهي تسألني عن شؤوني وأخباري بأسئلتها الخافتة المقتضبة، ثم تسكت بعدها لترحل إلى عالمها الأثير، عالم أنوار التسبيح والاستغفار. كل من عرفوا جدتي لا يذكرون عنها اليوم أنها ذكرت أحدا بسوء، أو تدخلت في ما لا يعنيها، أو ازدرت إنسانا أو لمزت مخلوقا، كانت منشغلة في أمر نفسها طوال الوقت، وزادها صلاتها وهواؤها التسبيح والاستغفار، ومن كانوا بقربها في لحظاتها الأخيرة، قبل أن تغادر هذه الفانية، يذكرون أن لسانها لم يتوقف لحظة عن التشهد، حتى أسلمت الروح. هذا النموذج الإيماني المصبوب صبا في قالب اليقين والتسليم التامين، واستشعار المعية والرهبة والخشية طوال الوقت، هو مرتبة نورانية عالية، لا تتاح لكل بشر، إلا من أراد الله به خيرا. لا أزكي على الله أحدا، ولكن الناس شهود الله في أرضه، وما شهد الناس إلا بكل خير عن تلك العجوز. رحمك الله يا جدتي، وجعل مقامك في جنة الخلد... اللهم إني أسألك إيمانا كإيمان العجائز أنصت يحبك الناس «أنصت يحبك الناس». هذه العبارة الرشيقة الجميلة، التي لعلها قد صارت اليوم مثلاً سائراً من كثرة تردادها، هي عبارة صادقة جزلة جداً، فهي تجسد واقعاً معاشاً يمكن أن يلمسه كل إنسان، لو هو أمعن النظر في مجريات حياته الاجتماعية اليومية. سأبدأ هذا المقال، من قمة رأسه، بسرقة سافرة لعنوان الكتاب الشهير للصديق الحبيب، محمد النغيمش: 'أنصت يحبك الناس'، وذلك من باب 'الميانة الأدبية'. والميانة الأدبية مصطلح محدث، لا أظن أن أحدا من العالمين قد أتى به قبلي، فمعروف عن الأدباء والكتاب أنهم يتحسسون كثيراً، وربما يثورون، وقد يتقاتلون، بالقرطاس والقلم، إن 'مان' أحد ما، كائناً من كان على كتاباتهم، لكنني سأغامر، متكئاً على رقة طباع أخي النغيمش وذرابة نفسه التي أعرف! 'أنصت يحبك الناس'. هذه العبارة الرشيقة الجميلة، التي لعلها قد صارت اليوم مثلاً سائراً من كثرة تردادها، هي عبارة صادقة جزلة جداً، فهي تجسد واقعاً معاشاً يمكن أن يلمسه كل إنسان، لو هو أمعن النظر في مجريات حياته الاجتماعية اليومية. لطبيعة وظيفتي وأنشطتي التي يدور أغلبها في دائرة التعامل المستمر مع الأنماط المختلفة من البشر، ألتقي يومياً بعشرات الناس، ولم أجد في تعاملي معهم حتى الساعة ما هو أكثر تأثيراً وملامسة للقلوب، من الإنصات الجيد لهم، وإشعارهم بالاهتمام الحقيقي بما يقولونه ويطرحونه، حتى لو لم أستطع أن أقدم لهم في نهاية المطاف حلاً شافياً لما قد يتساءلون عنه، بل يكفي الواحد منهم ذلك الشعور بأن هناك طرفا آخر قد منحه من وقته ولو بضع دقائق للإنصات، والتفاعل مع ما قاله. والعكس صحيح أيضاً، فلا شيء يستفز الناس ويثير نفوسهم تجاه الإنسان، أكثر من إحساسهم بتجاهله لهم حين يتحدثون إليه، أو انشغاله عنهم بشيء آخر، فهذا يرسل لهم الإشارة بأنه غير مهتم بهم، أو لعله يتعالى عليهم! وأذكر يوم كنت طبيباً متدرباً في أحد المستشفيات الحكومية، كيف أن كثيراً من المرضى كانوا يحرصون على مراجعة طبيب بعينه، وهو ليس الأعلى شهادة أو الأعمق في التخصص، وينصرفون في أحيان كثيرة عن الطبيب الاستشاري الكبير، وذلك لأن لهذا الطبيب الجديد روحاً خفيفة، وحرصاً كبيراً على الإنصات لهم وإعطائهم الفرصة للتعبير عما يجول في خاطرهم في أثناء شرحهم لمشكلاتهم الصحية، على عكس الاستشاري الذي كان لا يعطيهم من وقته ولا حتى دقائق معدودة، إما لانشغاله وإما لأسباب أخرى. ولعل البعض منكم سيستغرب لو ذكرت أن بعض الدراسات الإحصائية قد أثبتت أن أكثر المرضى لا يتضايقون حين يبدي طبيبهم المعالج في لحظة من اللحظات عدم معرفته بأمر من الأمور المتعلقة بحالتهم الصحية، أو أنه قرر الاستعانة بغيره ممن هو أكثر علماً أو تخصصاً في جزئية ما من حالتهم، بل حتى لو هو وقع في خطأ ما، طالما أنه كان منذ البدء واضحاً معهم وعلى علاقة إيجابية معهم، في حين أنهم سينقضون على ذلك الطبيب المتعالي غير المنصت، لو هو وقع ولو في عثرة بسيطة، ناهيك عن أن يقع في خطأ فادح، فحينها سيفتكون به فتكاً! الإنصات الجيد من أهم المفاتيح التي تفتح مغاليق النفوس، وتكسر الحواجز بين الناس، وتقربهم من بعضهم، وكل من حاز هذه المهارة يدرك هذا جيداً، ويعرف أثره البالغ في حياته، ولهذا فستظل النصيحة الغالية والصالحة في كل مكان وزمان لكل إنسان في أي موقع كان، هي التي جعل لها صديقي محمد النغيمش كتاباً كاملا يتحدث عنها، وهي: 'أنصت يحبك الناس'! كم من قطة مربوطة في حياتنا!! تروي إليزابيث جيلبرت، في روايتها الشهيرة 'صلاة... طعام... حب'، أن لدى الهنود قصة معبرة عن معلم عظيم كان محاطاً دوماً في معتزله بالأتباع المخلصين، وكان هؤلاء الأتباع يقضون معه ساعات في التأمل كل يوم، ولكن كان ثمة مشكلة وحيدة، فقد كان لدى ذلك الشخص قطة صغيرة مزعجة، لا تفتأ تتجول في المعبد، وهي تموء وتفسد على الجميع الهدوء في أثناء التأمل، فأمر ذلك المعلم العظيم مستنداً إلى حكمته العملية البالغة، أن تقيد تلك القطة الصغيرة إلى عمود في الخارج لبضع ساعات في اليوم، وذلك في أثناء جلسات التأمل فقط، كي لا تزعج أحداً من المعتكفين. مع مضي الوقت، تحول الأمر إلى عادة، فصار كلما حان وقت جلسات التأمل، لابد أن يتم تقييد القطة إلى العمود في الخارج، ومع مرور السنوات، تحجرت هذه العادة، وتحولت إلى ما يشبه الطقس الديني، فلم يعد بإمكان أحد أن يعتكف ليتأمل من دون ربط القطة إلى العمود أولاً. في أحد الأيام، ماتت القطة، فأصيب الأتباع بالذعر، وعانوا أزمة خطيرة، كيف لهم الاعتكاف وأن يمارسوا التأمل الآن من دون قطة يربطونها إلى العمود؟ كيف سيصلون إلى الإله؟ لقد أصبحت القطة في عقولهم هي الوسيلة التي لا يمكن الوصول من دونها، بعدما نسوا، أو لعلهم تناسوا، أن معلمهم كان يربطها لمجرد التخلص من إزعاجها في أثناء جلسات التأمل لا أكثر! ذكرتني هذه القصة الأسطورية العميقة الدلالات بقصة القرود الخمسة الشهيرة، والتي سبق لي أن كتبت عنها منذ سنوات عدة، وكيف صارت القرود في تلك القصة تشارك جميعها في ضرب كل قرد جديد يدخل إلى قفصها دون أن تعرف لماذا تضربه أصلاً، وكذلك بقصة تلك الزوجة الجديدة التي كانت تحرص على قص ذيل السمكة قبل أن تقوم بقليها لمجرد أنها شاهدت جدتها تفعل ذلك، وحين سئلت الجدة عن السبب، جاءت الإجابة بأنها كانت تقص ذيل السمكة لأن المقلاة كانت صغيرة ولا تتسع لكل السمكة! لهذه القصص الرمزية الكثير مما يقابلها في حياة الناس، سواء على الصعيد الديني، أو على مستوى الحياة والعمل، فكم من الطقوس الدينية التي يأتي بها كثير من الناس، ويحرصون على التمسك بها وتأديتها، بل يرون أن عباداتهم لا تستقيم من دونها، هي في واقع الأمر ليست من الدين في شيء، وحسبها أنها عادةٌ جاء بها أحد ما في زمن من الأزمان فسارت وسرت بين الناس جيلاً بعد جيل حتى اختلطت بالدين. وكذلك كم من الممارسات الإدارية البيروقراطية في بيئات العمل المختلفة، التي يؤديها الموظفون دون السؤال عن أصلها وهدفها، لمجرد أنهم وجدوا الجميع يمارسونها كذلك منذ لحظة توظيفهم الأولى. وكذلك على مستوى الإنسان شخصياً، كم من الأمور التي اعتاد المرء القيام بها، حتى صارت جزءاً من روتين حياته، دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة ليفكر فيها، ويتفكر في فائدتها وقيمتها، وهل ستكون حاله أفضل لو هو تخلص منها ربما. القطط التي تربط إلى الأعمدة في حياة الناس اليوم كثيرة، في كل جانب من جوانب هذه الحياة، والناس تمضي في معيشتها دون أن تكلف خاطرها بالتساؤل لماذا هي مربوطة يا ترى؟! فهل ترانا نتوقف، ولو لبعض الوقت، ونتساءل عن ذلك؟! صديقي بائع الأحذية في روما! سنيور 'بييترو'، إيطالي يبلغ من العمر قرابة الخامسة والستين عاماً، التقيته في واحد من محال الأحذية المصنوعة يدوياً والمنتشرة في أزقة روما الإيطالية، دخلت محله ذات صباح، وكان منكباً، بقميصه الأبيض المنشى وربطة عنقه الجميلة، على دفتر له يكتب فيه، أظنه دفتر حسابات، وما أن شعر بدخولي، حتى أغلق دفتره، وهش لي وبش، وحياني بتحية 'الطليان' الشهيرة: 'بونجورنو'، فرددت عليه التحية بمثلها. اندفع سنيور بييترو يعرض علي بضاعته من الأحذية الجلدية المختلفة، بأشكالها المنوعة. كان يحضرها من فوق الأرفف، وهو يحملها بكل عناية وشغف، وكأنها قطع من الجواهر، لا أحذية وصنادل، ويأخذ يشرح لي مزاياها، ما بين جودة وليونة جلودها، ومرونة نعالها، وبراعة شك خيوطها، واحتواء هذا على وسائد هوائية عند الكعب، وذاك على مانع للاستاتيكا، وغيرها وغيرها، من إبداعات وتفتقات أذهان صانعي الأحذية. كان مندفعاً بابتسامة لا تفارق محياه وكأنه يترنم بقصيدة أو يتغنى بأغنية، بالرغم من أنه حتماً قد قال نفس الكلام لآلاف المرات لآلاف الزبائن غيري! كان سنيور بييترو يعرض علي الأحذية التي يحفظ أماكنها زوجاً زوجاً وكأنها قطع من روحه. كان الرجل عاشقاً لمهنته من رأسه حتى أخمص قدميه، ويلمع في عينيه طوال الوقت ذلك البريق المميز لمن تكسوهم عباءة القناعة، ويلفهم رداء الرضا. كان الرجل نموذجاً ومثالاً حياً على تلك المقولة الشهيرة التي تقول إن المحظوظين حقاً هم الذين تصبح هواياتهم هي ذاتها مجال عملهم، فحين سألته عن الزمن الذي أمضاه من عمره في هذه الحرفة، ضحك بسعادة لهذا السؤال، وقال إنه يعمل فيها منذ 40 عاماً، وإنه في الأصل رسام ومصمم للأحذية، النسائية على وجه الخصوص، وبرر ذلك قائلا بأن أحذية الرجال لا يوجد فيها هامش كبير للحركة عند التصميم، على عكس أحذية النساء! كنت قد تعلمت في الإدارة، وتعلمتها مجدداً بين يدي بييترو، أنه كي تكون سعيداً فعليك أن تعمل فيما تحب، أي أن تبحث عن ذلك العمل الذي يلامس شغاف قلبك ويعزف على أوتار هواك، وإن لم يتيسر لك ذلك، وهذا هو ما يحصل كثيراً في الواقع لكثير من الناس، فأحبب ما تعمل، وليس بالضرورة أن تحب كل شيء فيه، ولكن أن تبحث عن تلك الجوانب التي يمكن أن تحبها في هذه الوظيفة أو العمل، فليس كل وظيفة بشعة بكل جوانبها، وليس كل عمل لا يطاق بكل ما فيه. حاول سنيور بييترو أن يقنعني بشراء زوج الأحذية الثالث، وكاد أن يفلح، لولا أني قاومت إغراء ذلك اللون 'الشوكولاتي' على حد تعبير بييترو، لذلك الحذاء الجميل، خشية أن يثقل من وزن حقيبة سفري الممتلئة أصلاً. ودعني سنيور بييترو بحفاوة فاقت حفاوة استقباله لي وأهداني قطعة من الشوكولاته، بعدما نقدته تلك الأوراق النقدية الخضراء ذات النجوم الست الشهيرة المميزة لعلم الاتحاد الأوروبي. ودعني وهو يصافحني بامتنان ويقول بإنكليزية صبغتها اللكنة الإيطالية المعروفة: 'أنا في خدمتك دائماً، وكلما جئت إلى إيطاليا، فتذكر أن لك صديقاً هنا اسمه بييترو'. شكرته وخرجت من محله وأنا أقول في نفسي: يا له من سعيد، وصدق من قال إن السعيد حقاً هو من عرف كيف يهنأ بما بين يديه! أنا محجبة إذن أنا محتشمة! العبارة أعلاه ليست صحيحة دائما كعبارة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» فمن يفكر فهو موجود بالضرورة، لكن من تتحجب فهي لا تحتشم بالضرورة! أعرف أن هذه الفكرة قد تكون مزعجة شيئا ما للبعض، لكن مع الشرح سيبين المقصود. في البدء سأقول إن كلمة الحجاب صارت اليوم من الكلمات الحمالة الوجوه والمعاني، وكذلك وجوهها ومعانيها ملتبسة بدورها، لذا فمحاولة الوقوف على أرضية مشتركة بخصوص المقصود منها ليست بالأمر الهين. خذوا عندكم، هل المقصود بالحجاب صيغته المادية المظهرية، وعليه سنتساءل: أهو تلك الخرقة التي تضعها المرأة على رأسها لتغطي شعرها؟ أم أنه الغطاء الكامل لجسد المرأة كي لا يبين منها شيء؟! أم أننا نقصد به شيئا يجمع ما بين الصيغة المادية، بأي هيئة كانت وفقا للرأي الشرعي المتبع، والبعد المعنوي الذي يراد منه الاحتشام؟! منطقيا، أظننا سنقول إن المقصود من غطاء المرأة هو الاحتشام، لأن الحجاب ليس دلالة رمزية مجردة، أليس كذلك؟ وبالتالي سنقول أيضا إنه لا فائدة من غطاء تتشح به المرأة ليفضي إلى هيئة غير متوافقة مع الاحتشام أو أن يكون مصحوبا بتصرفات وسلوكيات غير محتشمة، لأنه سيكون ناقصا أو بلا فائدة البتة كونه تناقَضَ مع الجوهر المراد منه. حسنا... بالأمس القريب، وفي إحدى الجهات العامة، كانت الموظفة ترتدي غطاء للرأس، ونقابا يغطي وجهها، وعباءة طويلة تجرها من خلفها، ولا اعتراض عندي على هذا، بل تستحق عليه التحية إن كانت تؤمن بأنه الشكل الشرعي الصحيح، لكن المفارقة أن أظافرها كانت مصبوغة باللون الأخضر (إي والله أخضر فاقع) والذي كان لافتا للأنظار بشكل واضح. شعرت إزاء هذا المشهد بأن هناك شيئا خاطئا في المسألة، وأنه نابع من الارتباك في مفهوم الحجاب وفلسفته عند هذه الأخت، هذا إن كانت عندها فلسفة للحجاب أصلا! هذا المشهد قد يبدو بسيطا لاسيما إن نحن تذكرنا كيف أننا كثيرا ما نشاهد نساء يضعن على رؤوسهن قطعة من قماش، يسمينه حجابا، ويخرجن في نفس الوقت من جوانبها خصلات ملونة من شعورهن! وكذلك كيف أننا كثيرا ما نشاهد من يرتدين أغطية للوجه، يسمينها نقابات، في حين أنه قد بانت عيونهن مزدانة بالكحل وظلال الماكياج واصطبغت وجوههن بكريمات الأساس، وأضفن إلى المشهد عباءات ضيقة، بل قد وصلت الحال إلى أن تغطي بعض الفتيات شعورهن، بينما يرتدين في نفس الوقت قمصانا ضيقة وبنطلونات جينز، أو حتى تنورات قصيرة تكشف عن سيقانهن! ليس المقصود من الكلام أعلاه مجرد وصف ما وصلت إليه هيئات من يقلن إنهن محجبات، بقدر الوصول إلى أن فكرة الحجاب وفلسفته قد صارت مضطربة جدا عند الناس، حيث ابتعد عن معناه الجوهري وأصبح مجرد حالة شكلية خارجية، تحولت وتغيرت مع الأيام تحت ضغط عدم الإيمان وعدم الاقتناع، خصوصا بصوره المتشددة، وتحت وطأة العادات والتقاليد التي لا تحتمل النقاش، ومع شطحات الموضة القادرة على اختراق كل الحصون، إلى هيئات ابتعدت وبشكل صارخ عن الحشمة. أردت من هذا المقال الدعوة إلى إعمال الفكر وتمحيص نظرتنا تجاه الحجاب وتجاه معانيه الحقيقية الجوهرية، ولعلها كذلك دعوة إلى إعادة تقييم كل من تضع على شعرها أو وجهها وجسدها غطاء على معيار الاحتشام الحقيقي لنعرف إن كانت محجبة فعلا أم لا! مــاكـــدونــو!.... في روايته الشهيرة الشامخة والتي ترجمت الى أكثر من 32 لغة وحاز بها جائزة نوبل للأدب في العام 1982، مئة عام من العزلة (One Hundred Years of Solitude) يحكي الكولومبي المبدع غابرييل غارسيا ماركيز قصة قرية أصيب أهلها بوباء عجيب يسبب النسيان، فأخذت العدوى تسري بين سكانها واحدا تلو الآخر، ويحاول شاب نجا من المرض أن يوقف الضرر الحاصل فيساعد أهل قريته وذلك عن طريق وضع يافطات وملصقات كتب عليها أسماء الأشياء اليومية والأحداث,,, مثل (هذه طاولة) و(هذه بقرة يجب حلبها كل صباح),,, وعند مدخل القرية نصب لافتتين ضخمتين كتب على الأولى (اسم قريتنا هو ماكدونو),,, وكتب على اللافتة الثانية الأكبر حجما (ان الله موجود)! رواية جميلة,,, لكن من يقول أن عدوى وباء قرية (ماكدونو) حبيسة بين دفتي رواية (غارسيا),,, هذا غير صحيح فالعدوى منتشرة بيننا,,, ألستم معي بأن نسيان المبادئ,,, والأخلاق,,, والقيم,,, والخلط بين (الحلال) و(الحرام),,, صارت سمة بارزة لحياة الكثير من الناس من حولنا؟!,,, أليست الصحف تنقل لنا وبشكل يومي أخبار الفساد والرشاوى والصفقات المشبوهة والعمولات والتلاعب والسرقات على مختلف المستويات ومن مختلف الجهات؟! اذن (فالنسيان) يكتسح مجتمعنا,,, من القاع وصولا الى القمة,. يوم كنت حديث السن، كنت أنخدع كثيرا بالمظاهر الخارجية,,, فلبساطتي كنت أظن الرجل الملتحي,, أي ملتح,, هو رجل ملتزم (لا ينسى الله) أبدا,,, والمرأة المحجبة,, أي محجبة,, هي امرأة فاضلة أخلاقها (عشرة على عشرة),,, ودع عنك المرأة المنقبة، فهذه كانت في خيالي نموذجا يمشي على قدمين للدين والأخلاق والقيم! كنت أظن النائب صوت الشعب وحارس حقوقه,,, والوزير صمام أمان في البلد,,, والمحامي حامي,,, والشرطي في خدمة الشعب,,, والشيخ الخطيب مصيب,,, والدنيا ربيع والجو بديع!! وحين كبرت، عرفت أن المظاهر لا علاقة لها بالبواطن الا نادرا,,, فليس كل ملتح من أهل الله,,, ولا كل محجبة تعرف الفضل والأخلاق,,, ولا كل منقبة لها علاقة بالدين,,, عرفت أن النائب كثيرا ما يكون (نائبة),,, والوزير قد يكون ريشة في مهب الريح,,, والمحامي لعله حرامي,,, والشرطي ربما (خرطي),,, والشيخ الخطيب لا يستبعد أنه جاهل غريب,,, والدنيا (غبار) والجو (نار)!! اكتشفت أن هذه الدنيا مثل صندوق (باندورا),,, مليئة بالعجائب التي لا يمكن أن تفسر بالعقل,,, اكتشفت أن اللصوص ليسوا فقط من المحتاجين,,, بل أن هناك لصوصا من أغنى الأغنياء,,, لصوص يخطفون بلدانا بأسرها,,, بأهلها وثرواتها,, بحاضرها ومستقبلها,,, اكتشفت أن حرف الراء في معادلة (الحامي والحرامي) حرف (سرابي),,, يظهر ويختفي بحسب اتجاه الشمس!! لذلك فأنا اليوم أقول بأننا نحتاج أن نقوم بمثل ما قام به ذلك الشاب في قرية (ماكدونو),,, نحتاج أن نعلق يافطات وملصقات في الشوارع والوزارات ومقار العمل والأسواق,,, وربما حتى على ظهور الناس,,, (هذا خطأ),,, (هذا حرام),,, (هذه سرقة),,, (هذا منزل لص كبير) (هذا مسؤول غير نزيه),,, (هذا نائب يلعب بالبيضة والحجر),,, وقبل هذا كله أظن أننا نحتاج أن نعلق يافطة ضخمة جدا مثل تلك التي علقها الشاب على مدخل قرية ماكدونو,,,, (ان الله موجود)!! العلم في الراس مش في الكراس منذ فترة وأنا جالس مع أبنائي، دار حديث حول ما يتمناه كل واحد منهم في حياته، فذهبوا يحلقون في كل اتجاه على أجنحة أمنياتهم وأحلامهم، وخلال استماعي لهم، باغتني ابني الأكبر بقوله: أنا أعرف ما هي أقصى أمانيك يا أبي، فقلت له: ماذا؟ فقال: أنا واثق بأنك تتمنى أن تحصل على كل كتب العالم! أستطيع أن أخمن من أين جاء ابني بفكرة أن أمنيتي القصوى هي حيازة كل كتب العالم، فهو لا يشاهدني إلا وبيدي كتاب ما، ولا يراني داخلاً البيت أو خارجاً منه ومعي حقيبة أو كيس إلا وفيهما كتب، وكيف أني لا أستلم طرداً إلا وفيه كتب، ويشاهد كيف تمتلئ صالة البيت وغرفتي ومكتبتي بالكتب، من مختلف الأحجام والأشكال والألوان، لذلك فمن الطبيعي أن يدرك أني عاشق مغرم بها، وأنني ربما، أقول ربما، قد أتمنى حيازة كل كتب العالم، لكنني آمل ألا يراني شخص معقد مهووس! لكن ومع هذا، فكمية الكتب التي يقتنيها الإنسان، لا تقدم دليلاً يمكن الركون إليه على أن صاحبها من القراء النهمين، أو من طلبة العلم النابهين، فكثير ممن يملكون مكتبات ضخمة تحوي العشرات والمئات وربما الآلاف من الكتب، هم من الأبعد عن القراءة، وقصارى أمرهم أنهم يستمتعون بجمعها وتكديسها، إما كهواية بحتة، وإما كمظهر ووجاهة، وإما لأي سبب آخر، إلا أن هؤلاء، على سيئتهم، يظلون أفضل من غيرهم، فلعل الواحد منهم، حين يرحل عن الدنيا، سيخلف وراءه شيئاً يستفيد منه أولاده، هذا إن كان منهم من جعل الله في نفسه حب القراءة، منتصراً بذلك على قهر الجينات التي أورثها له أبوه! هذا الذي قلته، قد يكون معروفاً إلى حد ما، لكن غير المعروف كثيراً، هو أن كثيراً ممن يمارسون القراءة فعلاً ليسوا بقراء حقيقيين! ستقولون كيف؟ والإجابة هي، أن كثيرا ممن يمرون على السطور بأعينهم، ممن قد يقرؤون الكثير من المواد بشكل مستمر، لا يخرجون منها بأي حصيلة معرفية معتبرة، ولا تشعل في دواخلهم أي فكرة ذات قيمة، ولا يكون لهذه القراءات بعد ذلك أي انعكاس على منظومة تفكيرهم أو تصرفاتهم وسلوكياتهم، وبالتالي فإن عملية القراءة، قد صارت في حالتهم، أشبه ما تكون بممارسة ميكانيكية بحتة، دون ناتج 'كيميائي' قادح في العقل والنفس والذات! لهذه الفكرة صرت في الآونة الأخيرة لا أستسيغ ذلك التركيز المحموم على ما يسمى ببرامج ودورات القراءة السريعة، دون أن يواكبها، بل يسبقها التركيز على أهمية أن يكون لفعل القراءة ناتج معرفي فكري تثقيفي حقيقي، وأن يكون التدريب والتمرين مركزين على هذا. منذ يومين سألني أحد الأصدقاء عن عدد الصفحات الأقصى الذي من الممكن أن أبلغه يومياً، فأخبرته، لكنني أضفت بعد ذلك بأن هذا الأمر ما عاد يعنيني كثيراً، فقد لا أتجاوز أحيانا في اليوم بضع صفحات من كتاب ما، وربما سطور، أتوقف عند ما فيها من أفكار لساعات طويلة، وقد تصبح زاد عقلي لفترة طويلة من الزمن. هذه الفكرة/الممارسة، تجعلني اليوم أستطيع أن أتخيل أن تلك المقولة الشعبية بأن 'العلم في الراس مش في الكراس'، صادقة إلى حد كبير، إن نحن نظرنا إليها من زاوية مختلفة عن الزاوية 'الصعلوكية' التي لعلها انطلقت منها ابتداء، من ألا فائدة من الكتب والتعلم. نعم يا سادتي، إن 'العلم في الراس مش في الكراس'، فلا قيمة لآلاف السطور والصفحات والكتب و'الكراريس' التي سيقرؤها الإنسان إن هي لم تخلف ثمرة حقيقية في رأسه! تلك الأشياء الصغيرة! أحيانا، قد يشم الواحد منا عطرا جميلا أو رائحة زكية ما في الصباح، وقد يرى شيئا لطيفا، طفلا يبتسم، منظرا بهيجا، وقد يسمع تغريد عصفور، أو ضحك أولاد في الطريق، أو أي شيء (صغير) آخر، لحظتها قد يشعر بأن الموقف أضفى على نفسه قدرا من سعادة، لكنها سعادة من نوع مختلف، يحسها تعانق روحه كنسمة هواء منعشة مرت عليه خطفا ورحلت، لكنها في الحقيقة ليست كذلك أبدا! حاولوا أن تسترجعوا مثل هذه اللحظات، وحاولوا أن تستعرضوا يومكم من بعدها، أكاد أجزم بأنه كان بهيجا، أو لم يكن كئيبا على الأقل، وعلى النقيض تماما، في الأيام التي نبدؤها، أو تبدؤنا، بشيء من الحزن أو الإزعاج، تستمر كذلك لبقية اليوم، من يبدأ بـ «بهوشة» مع زوجته في الصباح، سيذهب إلى عمله ليختلق «هوشة» أخرى مع الموظفين و سوف «يفش غله» في المراجعين، سيفعل ذلك وكأنه يحافظ على لياقته ليكمل «الشوط» الثاني من «الهوشة» في البيت بعد الظهر!! الآن لنتفق، أليست الحياة أياما مجموعة؟! إذن فببساطة، من يستطع أن يظفر بالسعادة في كل يوم ولو على حدة سيظفر بها في كل حياته. البعض سيقول وأين هي السعادة لنظفر بها؟ وسأقول إن من يرغب بها فعلا سيجدها حتى في أصغر الأشياء، في ابتسامة طفل، في شذا عطر، في بريق عين محبوب، في سماء صافية، في كلمة إطراء أو شكر! أندرو ماثيو في كتابه «اتبع قلبك» يذكر شيئا جميلا، يقول: عندما نتبع قلوبنا ونعمل ما نحب (وكان هنا يتكلم عن الوظيفة) قد نصل إلى أن يعطينا ذلك مالا كثيرا، ولكنه أحيانا لا يحصل، بل قد يصبح المال أقل من أي عمل آخر لا نحبه ولكن يمكن أن نقوم به، لكننا (ركزوا مع الرجل هنا، فهذا مربط العنزة الذي لأجله نقلت كلامه) أحيانا وعندما نجد العمل الذي نحب فقد لا نحتاج بعده إلى المال الكثير! (انتهى كلامه). أندرو وكثيرون غيره مثل ديف بليزر الشهير صاحب كتاب «دروس الحياة» تحدثوا في النقطة نفسها وهم يقصدون أن الإنسان عندما يصل إلى تلك المرحلة من الانسجام في عمله الذي يحب سيكون سعيدا، وحينها ستتقلص معاني المال بالنسبة له لتصبح فقط بقدر احتياجاته، أي أن «لحافه سيكون بالضبط على قياس رجليه» وسينام هنيئا دون أن يشعر بالبرد، على عكس من يجري وراء المال (جري الوحوش) وكلما ملأ جيبه قال هل من مزيد؟! لا أدري إلى أي حد يمكن أن يقنعكم هذا الكلام، لكن لنجرب العكس، لننظر إلى «الجماعة اللي فوق»، أقصد الأثرياء (سننظر طبعا دون حسد)، من يستطيع منكم أن يجزم أنهم يمتلكون السعادة لمجرد أن أموالهم (زي الرز)؟! من يستطيع أن يجزم أنهم بلا «مطبات» اجتماعية، ولا «هوشات على الريق»، ولا «كلاكيع» نفسية؟! أسمعكم تقولون إن «الجماعة اللي تحت» أيضا عندهم نصيبهم من هذا أيضا، وهذا صحيح تماما، لكنه يثبت لي ولكم أن السعادة والكآبة ليس من الضروري أن تكونا مرتبطتين بالمال. وهنا سأعود إلى البداية، لأقول، بما أن السعادة يمكن أن نحصل عليها من الأشياء الصغيرة، فلماذا لا نعمل على البحث عنها واصطيادها؟ لماذا لا نحرص على أن نبدأ أيامنا بأشياء مفرحة، أن نجعل لكل يوم عطرا جديدا، أن نستمع لصوت العصافير، ما المشكلة في أن نشتري زوجا من الكناري ونضعه عند الباب؟ أن نحرص على تغيير مسارنا الروتيني إلى العمل إلى مسار آخر جديد حتى إن كان أطول، وما المانع أن نخرج لذلك إلى العمل مبكرا؟! أطيعوني ولنفعل ذلك، ففي كل الأحوال لن نخسر شيئا، لنتبع قلوبنا، ولنلتقط تلك الأشياء الصغيرة، ولنساهم بدورنا في نشر السعادة، لنبتسم في وجوه عباد الله، أليست الابتسامة في وجه أخيك صدقة، (يا بلاش)، تصدقوا يا جماعة بالمجان، لماذا يسير البعض وكأن تعبيرات وجوههم تقول بأنهم يعانون الإمساك المزمن؟! العمر أيام معدودة، بل الإنسان كله أيام، إذا مضى منه يوم مضى منه بعضه، وأكبر مأساة للإنسان في الحياة أن يولد على كآبة ويعيش في كآبة ويموت بين أحضان الكآبة!! ومرة أخرى...تلك الأشياء الصغيرة! كنت تحدثت في هذا الموضوع منذ فترة طويلة، إلا أنني استحضرت فكرته مرة أخرى، وبحثت عنه وأعدت صياغته اليوم، بعدما سمعت، أو قرأت بالأحرى، الزميلة إيمان البداح وهي تقول: كم هو مدهش ما تفعله حالة الطقس لمزاجك؟! كلام الزميلة البداح صحيح جداً، فمزاج الإنسان قابل للصعود والهبوط، وفقاً للمتغيرات من حوله، ومنها الطقس ولا شك، فالطقس الجيد يرفع المعنويات ويستجلب التفاؤل، والعكس صحيح. لكن الحالة المزاجية للإنسان، ليست مرتبطة بالطقس فحسب، بل بأشياء كثيرة، كثير منها صغير وبسيط وغير صعب المنال. ألا تلاحظون معي أنه، مثلا، قد يشم الواحد منا عطراً جميلاً أو رائحة زكية ما في الصباح، وقد يرى شيئا لطيفاً؛ طفلاً يبتسم، منظراً بهيجاً، أو أن يسمع تغريد عصفور، أو ضحك أولاد في الطريق، أو أي شيء 'صغير' آخر، فيشعر أن مزاجه قد تعدّل، وأن نفسيته صارت تحلق، وأن الموقف أضفى على نفسه قدراً من سعادة شفافة يحس بها تعانق روحه كنسمة هواء منعشة مرت عليه خطفاً! حاولوا أن تسترجعوا مثل هذه اللحظات، وحاولوا أن تتذكروا كيف كان يومكم من بعدها، أكاد أجزم أنه كان بهيجاً، أو لم يكن سيئاً على الأقل، وعلى النقيض تماماً، ففي تلك الأيام التي نبدؤها، أو تبدؤنا، بشيء من الحزن أو الإزعاج، نراها تستمر كذلك لبقية اليوم. من يبدأ بخناقة مع زوجته في الصباح، سيذهب إلى عمله ليختلق خناقات أخرى مع الموظفين لأتفه الأسباب، وسوف 'يفش غله' في المراجعين. سيفعل ذلك وكأنه يحافظ على لياقته ليكمل الشوط الثاني من الخناقة في البيت بعد الظهر! وما دمنا قلنا هذا الآن، فلننتقل خطوة إلى الأمام. أجيبوني، أليست الحياة أياماً مجموعة؟! ستقولون نعم طبعاً، إذن فببساطة، من يستطع أن يظفر بالسعادة في كل يوم ولو على حدة فسيظفر بها في سائر حياته. البعض سيقول: أين السعادة حتى نظفر بها؟ وسأقول إن من يرغب بها فعلاً سيجدها، فالسعادة حالة عقلية ومزاجية، وليست ظرفاً خارجياً. سيجدها إن هو فتش عنها حقاً، ولو في أصغر الأشياء، في ابتسامة طفل، في شذا عطر، في بريق عين محبوب، في طقس جميل، في كلمة إطراء أو شكر، في لحظة صفاء مع النفس! أندرو ماثيوز في كتابه 'اتبع قلبك'، يذكر شيئاً جميلاً، يقول: عندما نتبع قلوبنا ونعمل في الوظيفة التي نحب، قد نصل إلى أن يعطينا ذلك مالاً كثيراً، ولكن من المحتمل ألّا يحصل هذا، بل لعل المال سيكون أقل من وظائف أخرى كان بإمكاننا أن نعمل فيها، لكننا عندما نعمل في ما نحب فسنحصل على السعادة والاستقرار اللذين لا نحتاج بعدهما إلى المال الكثير! أندرو وكثيرون غيره تحدثوا في النقطة نفسها، وهم يقصدون أن الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الانسجام في عمله سيكون سعيداً، وستتقلص معاني المال بالنسبة له لتصبح فقط بقدر احتياجاته، أي أن 'لحافه سيكون بالضبط على قياس رجليه'، وسينام هانئاً على عكس من يجري وراء المال 'جري الوحوش'، وكلما ملأ جيبه قال هل من مزيد، دون أن يظفر بالسعادة! قد لا يقنعكم هذا الكلام، لذا فلنجرب العكس، لننظر إلى 'الجماعة اللي فوق'، أعني الأثرياء، وسننظر طبعا دون حسد، من يستطيع منكم أن يجزم أنهم يمتلكون السعادة لمجرد أن أموالهم (زي الرز)؟! من يستطيع أن يجزم أنهم بلا 'مطبات' اجتماعية، ولا 'خناقات زوجية على الريق'، ولا 'كلاكيع' وعقد نفسية؟! كأني أسمعكم تقولون بأن 'الجماعة اللي تحت' عندهم أيضا نصيبهم من هذا، وهذا ما أريد الوصول إليه تماماً، لأنه سيثبت أن السعادة والكآبة ليس من الضروري أن تكونا مرتبطتين بالمال. وهنا سأعود مجدداً إلى نقطة البداية، لأقول، بما أن السعادة يمكن أن نحصل عليها من الأشياء الصغيرة، فلماذا لا نعمل على البحث عنها واصطيادها؟ لماذا لا نحرص على أن نبدأ أيامنا بأشياء مفرحة؟ لماذا لا نجعل لكل يوم عطراً جديداً؟ لماذا لا نستمع إلى صوت العصافير؟ ما المشكلة في أن نشتري زوجاً من الكناري ونضعه عند الباب؟ لماذا لا نحرص على تغيير طريقنا الروتيني إلى العمل إلى مسار آخر جديد حتى إن كان أطول لنستمتع بمشاهد أكثر تجديدا؟! أطيعوني ولنفعل ذلك، ولنتبع قلوبنا، فلنلتقط تلك الأشياء الصغيرة، ولنساهم بدورنا في نشر السعادة. لنبتسم في وجوه عباد الله، أليست الابتسامة في وجه أخيك صدقة؟ 'يا بلاش'، تصدقوا بالمجان يا جماعة، دون صرف درهم أو دينار! ما العمر إلا أيام معدودة، بل الإنسان كله أيام، إذا مضى منه يوم مضى منه بعضه، وأكبر مأساة للإنسان أن يولد على كآبة ويعيش في كآبة ويموت بين أحضان الكآبة! الصلاة في داخل الروح كنت أقرأ في كتاب 'نبت الأرض وابن السماء' للدكتور محمد الأحمري، الذي أطل من خلاله على بعض اختيارات ونصوص الرئيس الأسبق علي عزت بيغوفيتش، ذلك العملاق السابق عصره، حول مسألة الحرية ورؤيته لآفاق الروح والفن، فاستوقفتني الفقرة التالية حول بيغوفيتش وهو يتحدث عن برنامج تلفزيوني رآه عن الزهور وما توحي به من عجائب وبديع صنع، فكتب يقول: 'شعرت وقتها بقربي من الله أكثر من أي وقت مضى عن طريق الصلوات... إذا كانت الصلاة في الروح وليس في الكلمات والحركات، فإنني وفي أثناء مشاهدتي هذا البرنامج مارست أعمق الصلوات'... وبعد أن كتب عن الزهرة، ومكوناتها وطريقة عملها قال: 'إن ذلك بالنسبة لي حدث ديني ممتاز، فالصلاة في داخل الروح وليس في خارجها، كان هذا صلاة حقيقية وصادقة أكثر من أي صلاة قمت بها في حياتي'. حين قرأت هذه الفقرات، استحضرت حديثاً دار بيني وبين صديق لي في رمضان حول صلاة القيام، حيث قال لي يومها إنه توقف عن الذهاب إلى صلاة القيام في المسجد، وحين سألته عن السبب، أجابني بأنه فقد القدرة على الخشوع هناك، مع جلبة الناس وحديثهم في آخر المسجد، وحركة دخولهم وخروجهم، وأنه وإن كان يدرك أجر الصلاة جماعة، فإنه صار يشعر بأنه يمارس حركة ميكانيكية فارغة من المضمون الحقيقي، لذلك استعاض عن ذلك بصلاته للقيام في هدوء بيته، وأنه صار يجد سكينة كبيرة وهو يقرأ من مصحفه بنفسه، ويتمعن في الآيات ويتفكر في معانيها. لست هنا، في مقام التأييد أو المعارضة، لما فعله صديقي، إنما مقصدي التوقف عند فكرة 'الخشوع'، تلك الحالة الروحية التي يقترب فيها العبد من خالقه وينفصل فيها عن المادة، تلك الحالة التي عجز صديقي عن الوصول إليها في المسجد في صلاة القيام، وشعر بها في خلوته وانقطاعه في معتزله. بيغوفيتش قفز بهذا المفهوم، أعني مفهوم الخشوع، نحو عمق أبعد ودلالة أكثر كثافة، حيث رأى أن كل حالة تدبر وتفكر في ملكوت الخالق وعظمة صنعه هي صلاة، لا أقول صلاة بمعناها المعروف طبعاً، إنما صلاة بمعنى الاقتراب من الله ومن عظمة خلقه وعظيم سلطانه ودفء رحمته وعطفه، وأن كل عمل خالص لأجل الخير الصرف، للناس وللأرض وما عليها، هو عمل يثيب الله صاحبه عليه، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما فيهما معاً. (وبالطبع فهذا الكلام لا يعني أن ذلك يغني الإنسان عن الصلاة المفروضة على المسلم، حتى لا يساء الفهم). ومما يروى عن العباس رضي الله عنه أنه قال: 'ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها'، وهو القول الذي يتوافق مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: 'إن الرجل لينصرف؛ وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها'، وهذا دليل على أن القيمة الحقة المستخلصة من الصلاة مرتبطة بتلك اللحظات التي يخشع فيها المرء لله عز وجل، وذات الأمر ينسحب بداهة على كل تفكر وعمل، فإن كان مرتقياً بالإنسان ومقرباً إياه إلى الله، فإنه مثاب عليه، وإن كان صادراً من المادة عبر المادة لأجل المادة، ولم يمر في قنوات الخشوع الروحاني، فإنه بلا مثوبة. هذه المفاهيم المختلفة، تشير في مجملها إلى أن الاقتراب من الله عز وجل، ليس بظواهر الأعمال وهيئاتها الخارجية، إنما بما يبطن في صدور الناس وضمائرهم، وأن كثرة صلاة المرء في الظاهر، قد لا تعني عند الله الكثير، إن هي كانت خالية من الصلاة الداخلية، وهي ذاتها الصلاة التي يمكن أن يمارسها الإنسان في سائر أعماله وتفكراته. وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، حين قال: 'رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره'، يقفز بنا أيضاً إلى جلاء أكبر في هذا الصدد، حيث يكشف لنا أن من الناس، من قد لا يؤبه له ويزدريه من حوله، وإذا به بنقاء روحه، وبخضوعه وبخشوعه لله، أي بصلاته الداخلية، من القرب لله أنه لو أقسم على الله لأبر بقسمه. أدرك أن هذه المعاني قد لا تكون في ظاهرها جديدة على غالب الناس، وأنهم يدركون أن 'الأعمال بالنيات'، أي بباطن ما يضمره المرء تجاهها، لكن هل ترانا نستحضر الفكرة في كل حين؟ وهل ترانا نستشعرها في كل عمل؟ وهل ترانا نمارس الصلاة الداخلية في سائر أمورنا، حتى أبسطها؟ وحتى لو كانت ببساطة التفكر في كيف خلق الله الزهرة؟! هذا هو السؤال... وهذا هو مدار الأمر كله! بائع الكتب في الزبداني ألاعيب الذاكرة لا تنتهي، ولا تنفك تفاجئ صاحبها بقفزاتها إلى حيث لا يتوقع، لذا كانت مفارقة صارخة أمام وعيي أن تتداعى ذكرى ذلك المحل الضيق لبائع الكتب الوحيد في سوق الزبداني، ذاك الذي كان قابعا بين محال الأقمشة والأدوات المنزلية والتسجيلات الغنائية وألعاب الأطفال، ومطاعم الشاورما والفلافل والحمص، في ذات الوقت الذي كنت أدخل فيه واحدة من المكتبات الضخمة التي تكاد توجد في كل شارع من شوارع روما. كثرة المكتبات في روما، وضخامتها بهذا الشكل المهيب، هو دليل واضح على أن هذه الشعوب، أعني الشعوب الغربية، هي شعوب قارئة بنهم، مهما حاول البعض منا أن يقلل من شأن هذه الحقيقة، وأن يتهم قراءاتهم بالسطحية والهامشية، وأنها روايات وقصص في غالبها، لأنه لا يمكن أن تنتشر المكتبات بهذا الشكل، إلا لأن هناك إقبالاً حقيقياً على اقتناء الكتب، وقوة شرائية مقنعة للتجار تبقيهم في هذا المجال. ولا أظن أن لي حاجة لأستذكر ذاك الحديث المكرر بأن رقي هذه الشعوب وتقدمها مرتبطان بشغفها بالقراءة، وأن ابتعادنا في المقابل عنها، هو الذي جعلنا في ذيل الأمم، وفي قاع سلم الحضارات، أم أن هناك حاجة لتكرار هذا يا ترى؟! على أي حال، لندع هذا ونعد إلى صاحبنا بائع الكتب في الزبداني، وكأني الآن فهمت سبب ذلك التعاطف الكبير الذي شعرت به نحوه، والذي أظنه نبع من شعوري بأزمتنا المرتبطة في يقيني بابتعادنا كشعوب عن الكتب، وعن الثقافة بصورها المختلفة. تعاطفت مع الرجل، بالرغم من غلاء أسعار كتبه بعض الشيء، حيث كنت سعيداً وأنا أشتري منه دون مساومة، وكأني كنت أساهم بطريقة ما بدعم صموده وبقائه سابحاً عكس تيار كل المحال والمتاجر الأخرى التي كانت تندفع من حوله في الاتجاه المعاكس تماما. الظريف أن هذا البائع، وحين دخلت محله للمرة الأولى، حاول أن يغريني بعناوين الكتب العربية الفضائحية الشهيرة، تلك التي تلعب على أوتار الثالوث المحرم الشهير، والتي تدور في أفلاك السياسة الممنوعة، والكتابات الإيروتيكية الصارخة والشاذة، والتي تحاكم الدين وتتشكك فيه بغير موضوعية، وكأنه يستجديني للشراء، وحين آنس برودي نحوها، وانصرافي إلى عناوين بعيدة عنها تماماً، وتصفحي لكتب من طراز آخر، تغير مسلكه تماماً، وتباسط معي، فتصاحبنا وصار، غسان، وهذا اسمه، يشكو لي همومه ومعاناته عبر السنوات للبقاء على قيد الحياة بائعاً للكتب، وإذا بنا نقضي الوقت نتحدث حول القراءة والثقافة وأزمتهما في العالم العربي، وغربة المثقف ومعاناة الكاتب وندرة القارئ. يقول غسان: إن بعض الزبائن وحين يدخلون لشراء كتاب ما، ويسألون عن سعره، يحملونه بأيديهم وهم يهزونه بأيديهم كمن يزن بطيخة، فيحاولون مساومتي على سعره وكأن قيمته في وزنه وكمية أوراقه وما فيه من حبر وألوان! إذن فالوضع عندنا مزرٍ بلا شك، كما انتظار هبوط الإنقاذ والإصلاح من الساسة هو انتظار سيطول، خصوصاً ونحن نشهد هذه الأيام ذات الضجة الحكومية/البرلمانية/الإعلامية الباردة الباهتة التي تجري كل عام على مشارف عقد معرض الكتاب السنوي، حول الرقابة على الكتب، وحول ما يجب منعه وما لا يجب. لكن هذا لا يضايقني كثيراً في الحقيقة، لأني أدرك أن من يريد قراءة كتاب ما، ولديه تلك الحرقة المعرفية الحقة للوصول إليه، فلن يعسره القفز فوق كل حواجز الرقابة بألف طريقة وطريقة. نعم أدرك أن مسألة رفض الرقابة هي مسألة مبدأ، ولكنني اليوم أعيش همّ نشر المعرفة والثقافة بين عموم الناس، ممن لا تعنيهم الكتب الممنوعة بشيء، أكثر بكثير من عيشي همّ رفض الرقابة على الكتب كمسألة مبدأ! أنا ما عدت اليوم مشغولاً كثيرا بالمصارعة والمناطحة، ولكن صرت أومن بأن التغيير والإصلاح يبدأ من كل فرد على مستوى نفسه أولاً، وأن على كل إنسان أن يكون هو التغيير الذي يود أن يراه في العالم، كما قالها غاندي قبل عشرات السنوات، وبالفعل، فلو كنس كل واحد منا أمام بيته، لأصبح العالم بأسره نظيفاً، فلنبدأ بتثقيف أنفسنا أولاً، ولنقرأ... لنقرأ كثيراً جداً، حتى نصل إلى تلك المرحلة التي لا يكفينا فيها المتاح من الكتب، ونحتاج إلى كسر الرقابة. هل أنا في مشكلة؟! الأميات (جمع أمية) عبر العصور أربع: أمية القدرة على القراءة والكتابة، وأمية القدرة على التحدث باللغة الإنكليزية، وأمية القدرة على استخدام الحاسوب، وأم الأميات، وأصعبهن قاطبة في قناعتي، أمية القدرة على التفكير السليم. فأما أمية القدرة على القراءة والكتابة، فهي أمر بالغ الأهمية ولا شك، فمن لا يستطيع فك الخط المكتوب اليوم، والتعبير عن نفسه برسم الخطوط المقروءة على الأوراق فاقد لأداة أساسية من أدوات الاتصال بالعالم من حوله، خصوصا في عالم أضحى يعتمد اعتمادا كليا على التعبير كتابة في كل مناحيه. وأما القدرة على التحدث باللغة الإنكليزية، على وجه الخصوص، فقد تجاوزت اليوم مرحلة القيمة الكمالية، والوجاهة الاجتماعية، ووصلت إلى مرحلة الضرورة الحياتية، فبعدما كان الإنسان ليس بحاجة لاستخدام هذه اللغة إلا عند سفره إلى الخارج، غدت أغلب التعاملات والمحادثات، الرسمية وغير الرسمية منها، تعتمد اعتمادا كبيرا على هذه اللغة، حين صارت الإنكليزية لغة التقنيات والتطورات التي تحيط الإنسان من كل مكان، ولا يكاد يعيش دونها، سواء رضي بذلك أم رفضه. وأما القدرة على استخدام الحاسوب، والأجهزة المشابهة له من هواتف ذكية وغيرها، فهي قدرة تتزايد أهميتها يوما بعد يوم، بعدما تطورت استخدامات هذه الأجهزة المدهشة وتنوعت، وما عاد استخدامها حكرا على المتخصصين ومحترفي هذه التقنيات، بل صارت متاحة ومبذولة للجميع، بل موجهة في غالبها لعموم الناس، وصار من المألوف اليوم أن ترى شيخا عجوزا، وهو مستغرق استغراقا عميقا في تصفح الإنترنت عبر 'لابتوبه' الشخصي مثلا، في حين أنه كان من النادر أن ترى مشهدا كهذا منذ عدة أعوام، أو أن ترى كثيرا من الناس يتراسلون ويتواصلون عبر هواتفهم الذكية بتقنياتها العصرية الحديثة، التي كان يراها البعض معقدة جدا قبل سنوات بسيطة. ولكن أم الأميات، وأصعبهن جميعا، فهي وكما ذكرت، ما أسميها أمية القدرة على التفكير السليم. يمكن للإنسان أن يتعلم القراءة والكتابة، حتى لو تقدم به العمر، بل ويمكن له أن يعيش حياته دون تعلمها معتمدا على الآخرين لتصريف أموره، على استحياء، ويمكن له كذلك أن يتعلم التحدث بالإنكليزية، ولو شيئا يسيرا منها، وكذلك كثيرون هم من تعلموا مبادئ استخدام الحاسوب، عندما أدركوا أهميته، لكن أمية التفكير السليم هي الأهم والأخطر من بين هذه قاطبة لأن أغلب الناس لا يدركون معناها ولا يستشعرون فقدها ناهيك عن الحاجة إلى تعلمها. تعثر كثير من الناس من حولنا في حياتهم، وتعرقل مسيرة إنجازهم، وتصدع كثير من علاقاتهم الاجتماعية، لا يعود إلى أميتهم في القراءة أو الكتابة، أو جهلهم الحديث بلغة ثانية، أو عجزهم عن استخدام الحاسوب، في المقام الأول، على ما لهذه الأمور من أهمية بأقدار متفاوتة في الظروف المختلفة لكل حالة، إنما لعدم القدرة على التفكير السليم. إن عدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والرد المناسب في الوقت الصحيح والمناسب، وعدم القدرة على ترتيب الأولويات في العمل والبيت والعلاقات الاجتماعية والحياة عموما، وعدم القدرة على إدارة الوقت وحفظه، وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين بشكل سليم وناجح، وحتى عدم قدرة الإنسان على إدراك حاجته لمعالجة أميته في القراءة والكتابة، وتعلم اللغة الثانية والحاسوب، وما شابه، هي ما تشكل في مجموعها عدم قدرته على التفكير السليم، وهي ما تقوده إلى الفشل في حياته. ما أكثر من يتقنون القراءة والكتابة، والحديث بالإنكليزية، وربما بلغات عديدة، واستخدام الحاسوب وكثير من التقنيات باحتراف وتمكن متقدم، لكنهم فاشلون ومتعثرون في حياتهم على أكثر من صعيد، لأنهم يعانون قبل هذا كله أمية القدرة على التفكير السليم، وهم لا يشعرون! إلا أن أهم ما في سائر الأمر، وخلاصته الصافية، هو أن هذه الأمية ليست داء لا شفاء منه ولا هي برمجة عقلية جبرية لا فكاك منها، بل هي أمية قابلة للمحو والتغيير من خلال التعلم والتدرب بسهولة نسبية، والوسائل لذلك متعددة ومتاحة. لكن العلاج يبدأ دوما بالإدراك الشخصي، أي بإدراك المرء لوجود المشكلة عنده، فليتوقف كل واحد منا من اندفاعه في طاحونة هذه الحياة، ولينظر إلى نفسه وحياته وليستعن بصديق عارف راجح الرأي، وليتساءل: هل أنا في مشكلة؟! إنه الموت يا سادة! في كل مرة أتلقى فيها خبر موت إنسان أشعر وكأن الهواء ينشفط من حولي، وكأن الزفير يحتبس في صدري، وفي كل مرة أذهب فيها معزيا لأحد، لا أستطيع إلا أن أجلس صامتاً مطرقاً منكفئاً على أفكاري، متذكراً حالي ومعدداً خطاياي، غير آمن على نفسي أن يكون اسمي هو القادم على لائحة الموتى، ليقيني بأن ليس أحد منا في مأمن من سهم المنايا. بالرغم من كل حرارة وصدمة خبر الموت، إلا أن ما يثير الاستغراب دوما هو تلك السرعة التي يتجاوزه بها الناس، ولا أعني هنا أن الناس لا يظلون أسرى لذكرى ميت اختاره الله فليس هذا من ديننا بشيء، وإنما المقصود هو أن الناس سرعان ما تتجاوز الاعتبار من هذا الحدث الجليل المهيب بدلالاته والثقيل على النفس بوطأته. منذ مدة كنت في المقبرة لحضور جنازة أحد الأحبة، وبينما كنا وقوفا في المصلى بانتظار مقدم الجنازة للصلاة عليها، وجدت الناس وقد انشغل أغلبهم في شتى الأحاديث الجانبية، وكأنهم في سوق أو ديوانية! يومها كان يقف بجانبي النائب الفاضل د. جمعان الحربش بهدوئه ووقاره المعروفين، وإذا بأحد الأشخاص وبعد أن سلم عليه، يشرع في فتح حديث معه عن موضوع ما، فما كان من الحربش إلا أن قال له وهو يومئ برأسه 'بعدين، بعدين'، ليفهمها الرجل ويسكت. كثير من الناس اليوم فقدوا الإحساس بمهابة الموت وعبره ومعانيه، وصار الواحد منهم لا يتورع عن الانخراط في الحديث الباسم، بل الضاحك أحيانا، حتى وهو في مجلس العزاء، فضلا عن عدم التورع عن الحديث بالهاتف النقال، دون قطرة من وجل أو خجل، ودون أدنى مراعاة لمشاعر أهل الميت الذي يفترض أنه قد جاء لتعزيتهم! للموت مهابة يا سادة، وفي كل مرة أتلقى فيها خبر موت إنسان، قريب أو بعيد، أشعر وكأن الهواء ينشفط من حولي، وكأن الزفير يحتبس في صدري، كمن تلقى لكمة بقبضة من حديد في أعلى معدته. وفي كل مرة أذهب فيها معزيا لأحد، لا أستطيع إلا أن أجلس صامتا مطرقا منكفئا على أفكاري، متذكرا حالي ومعددا خطاياي، غير آمن على نفسي أن يكون اسمي هو القادم على لائحة الموتى، ليقيني بأن ليس أحد منا في مأمن من سهم المنايا، وها نحن نشهد كل يوم رحيل شخص من معارفنا أو أقربائنا أو أصدقائنا أو أحبتنا بلمح من بصر، ولا اعتبار هنا لصغير أو كبير، أو لصحيح أو عليل، أو لغني أو فقير، فالموت يختال بيننا يقبض الأرواح بلا هوادة، تسوقه حكمة تفوق إدراكنا نحن الضعفاء. إنه الموت يا سادة، وليس منا من هو في مأمن، فاعتبروا يا أولي الألباب! بكلمتين... بكلمة... بكلمتين! سأخبركم بقصة شهيرة تتكرر في عالم الإدارة، وتنسب إلى مصادر مجهولة حسب الكتب والمواقع الإدارية المتعددة، ولا أستبعد أنها مختلقة وإن كانت جميلة ومفيدة جدا، إلا أن أطرف من سمعتهم يروونها في محاضراتهم، شخصية قيادية كويتية 'زودها حبتين' وقال إنه حوار جرى بينه وبين صديق له من المشاهير الناجحين في عالم الإدارة! القصة تقول إن مراسلا صحفيا سأل مدير بنك كبيرا ناجحا عن سر نجاحه، فأجابه مدير البنك قائلا: سأجيبك بكلمتين، 'بالقرارات الناجحة'! فقال له الصحفي، وكيف تمكنت من الوصول إلى هذه القرارات الناجحه يا سيدي؟ فأجابه المدير قائلا: سأجيبك بكلمة واحدة، 'بالخبرة'! فقال له الصحفي وكيف تمكنت من اكتساب هذه الخبرة؟ فقال له: سأجيبك بكلمتين، 'بالقرارات الخاطئة'! قد ينظر بعضكم إلى القصة على أنها لم تأت بجديد، لكنها في الحقيقة أعمق بكثير من ظاهرها البسيط الظريف، فالحقيقة أن كل حياة الإنسان بمجمل تفاصيلها وصولا إلى دقائقها، تشكلها القرارات المتتالية، سواء أكانت كبيرة وحساسة وعميقة، أو كانت قرارات بسيطة روتينية، كتلك القرارات اليومية التي يتخذها الإنسان طوال يومه. هل آكل هذا أو لا آكله؟ هل أنام أو لا أنام؟ هل أمارس الرياضة أو لا أمارسها؟ هل أسافر أو لا أسافر؟ هل أدرس أو لا أدرس؟ هل أقبل هذه الوظيفة أو لا أقبلها؟ هل أستقيل وأذهب للقطاع الخاص أو أظل في القطاع الحكومي؟ هل أستثمر في هذه الفرصة المالية أو لا؟ هل أقترض أو لا أقترض؟ هل أشتري هذه السيارة الغالية بالأقساط أو لا أشتريها؟ هل أتزوج هذه المرأة أو لا أتزوجها؟ هل أفعل هذا الشيء أو لا أفعله؟ هل وهل وهل، وعشرات الأسئلة الأخرى المبتدئة بكلمة 'هل' على مر حياة الإنسان، هي التي تشكل حياته وتصوغ مسيرتها وتحدد نتائجها ووجهاتها. وتطور حياة الإنسان، وارتقائه على سلم الحياة، عبر هذه الخريطة التي يرسمها هو بنفسه من خلال قراراته الكبيرة والصغيرة، رهين بمقدار ما يتحصل عليه من خبرات يكتسبها عبر قراراته التي ستعود عليه بنتائج إيجابية وكذلك تلك التي ستعود عليه بنتائج سلبية، وهي الأهم في نظري لأنها هي الجحور التي سيلدغ منها فيتعلم! لكن المفارقة الإنسانية المضحكة، أن أغلب الناس لا يلقون لهذا بالا، فتسير حياتهم 'بالدفع الذاتي'، وكأنهم ريش في مهب الريح، وكأنهم لا يبالون على أي أرض وقعوا وفي أي ناحية صاروا, لكن الحقيقة أنهم يبالون، بل يبالون كثيرا بما تؤول إليه أحوالهم، حتى لو أوهموا أنفسهم بعكس ذلك، والدليل أنا نراهم مستغرقين في الشكوى والتذمر من كل شيء وأي شيء يحيق بهم، والذي هو في غالبه من كسب أيديهم، أو سأقول إنها من كسب قراراتهم غير السليمة. رسالتي هنا هي أن حياتك أيها الإنسان بيدك، وإن ظهر لي من سيقول إن حياة الإنسان محكومة في نهاية المطاف بقدر الله، فسأقول له نعم، ولكنه بقراراته وحسن اختياراته وتعلمه من تجاربه سيفر من قدر الله إلى قدر الله، كما قالها يوما الفاروق عمر بن الخطاب، فأحسنوا اتخاذ القرارات وخططوا لحياتكم، لأن من يفشل في التخطيط لحياته فقد قام في الحقيقة بالتخطيط، وعن سبق إصرار وترصد، للفشل! الأفكار الجميلة وجناحا الطائر قال الجاحظ قبل مئات السنين إن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، وحين واجهت هذه العبارة للمرة الأولى، كنت أتساءل عن كيف يكون ذلك؟ وكيف تكون الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، في حين أن الفاشلين في هذه الحياة أكثر من الناجحين فيها؟! وسارت الأيام، وأخذت مني وأعطتني، وأخذت منها وأعطيتها، فتعلمت منها، شيئا فشيئا، أن النجاح يطير بجناحين... جناح الفكرة الرائدة المتميزة، وجناحا آخر، أهم، هو جناح الهمة العالية والحماس المتصل لوضع هذه الفكرة محل التطبيق. حينها، وحينها فقط، أدركت ما كان يريده ذلك العظيم الجاحظ! إن الأفكار الرائعة الجميلة، بالفعل كثيرة جدا، حتى كأنها اليوم قد صارت ملقاة على قارعة الطريق، وكثيرون هم أصحابها من حولنا، فكم من مرة رأيت من يقول لك عندي فكرة؟ مرات عديدة ولا شك، ولكن كم من مرة رأيت من يقول عندي فكرة، وبدأت بالفعل بتطبيقها والعمل على تحقيقها؟ القليل... بل لعله القليل جدا! لذلك صدق الجاحظ يا سادة... إن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، لكن الناجحين حقا هم من يملكون تلك الهمة وذلك العزم لوضع 'التفكير والكلام' محل 'الفعل'، بل إن الناجحين حقا، وهذه هي الفكرة الأهم من كل ما سبق، لم يكونوا دائما هم أصحاب الأفكار الناجحة، بل حسبهم أنهم كانوا أصحاب الهمة العالية واليقظة الحادة ممن أحسنوا التقاط الأفكار الجيدة الواعدة من حولهم... التقطوا فكرة أو اثنتين أو ثلاثا، من عشرات الأفكار التي يلقيها قليلو الهمم على قارعة الطريق يوميا، فجعلوا منها أشياء عظيمة... والتاريخ يدلنا على كثير من المخترعات العظيمة التي جاءت بهذه الطريقة، ولقد صدق أمير المؤمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: يطير المرء بهمته كما يطير الطائر بجناحيه! لقائي مع الحسين بن علي! سنحت لي الفرصة حضور منتدى الإعلام العربي الذي عقد في دبي، والتقيت هناك، بطبيعة الحال، بأغلب الأسماء اللامعة في عالم الصحافة العربية، وجلست مع كثير من أصحابها، واستمعت لهم وحادثتهم وتناقشت معهم، وبالطبع كان فيهم المتميزون العميقون الجميلون، وفيهم من هم أقل من ذلك بكثير، إلا أن المفارقة هي أن انبهاري وتأثري الأكبرين كانا في مكان آخر بعيد تماما عن المؤتمر وشخوصه ولقاءاته، وبالضبط في مدة لم تتجاوز دقائق معدودة قضيتها مع سائق تاكسي حملني في واحدة من تنقلاتي. شدني سائق «التاكسي» الباكستاني، والذي اسمه الحسين بن علي، منذ الوهلة الأولى حين حياني بلغة إنكليزية مميزة، وسألني عما إذا كنت سعيدا هذا اليوم! وحين يسألني شخص ما عن «السعادة»، متجاوزا نمطية السؤال المكرر عن الصحة، أضع احتمالا ابتدائيا بأن هذا الإنسان قد يكون لديه شيء مختلف، فأجبته لأختبره: أنا سعيد جدا، لأن أهم شيء للمرء في هذه الدنيا أن يدرك أن سعادته بيده، فلا يسمح لأي شيء مما حوله أن يسرقها منه، وإلا صار ريشة في مهب رياح الظروف. أجابني وهو يبتسم بأني مصيب، وأنه يعيش كذلك حالة من السعادة والاستقرار النفسي والسلام مع ما حوله لأنه يدرك مدلول كلمة «التفكر»، الذي جاء في الآية «ويتفكرون في خلق السموات والأرض»، وأكمل ليشرح لي سعادته الأسرية مع زوجته وأبنائه وفرحته الكبرى بابنته الصغيرة فاطمة التي يرى بهجة الدنيا في عينيها. أثارني اختلاف الرجل، فسألته عن التعليم الذي تلقاه، فأجاب بأنه يحمل شهادة جامعية في الشؤون الدولية بالإضافة إلى شهادة تخصصية ثانية، ومرة أخرى قررت أن أختبره، فسألته هل هذه هي ذاتها العلوم السياسية، فأجابني بأنها مرتبطة بها بشكل من الأشكال، إلا أنها تهتم في المقام الأول بدراسة الظواهر الدولية، والبحث في أسبابها الجذرية، وتحليل نتائجها اللاحقة! أدهشني الرجل، فقلت له كيف انتهيت مع هذه الشهادة إلى هذه الوظيفة، فقال إنه وجدها من خلال إعلان للتوظيف نشر في باكستان، لأنه لم يجد عملا في بلده، وأنه يحدوه الأمل في أن ينتقل منها إلى أخرى حين تتحسن الظروف، فهو يؤمن بضرورة أن يكون داخل نظام العمال حتى يتمكن من القفز من قطاع إلى قطاع، وألا يبقى خارجه لأن الأمر سيكون حينها صعبا جدا (وهذه عبارته بالضبط)، إلا أنه بعدما وصل إلى دبي منذ عام ونصف، حصلت الأزمة الاقتصادية، مما جعل الأمور أصعب قليلا لكنه واثق من تحسنها، ثم عرج للحديث عن الأزمة الاقتصادية وآثارها في دبي، وجدوى المعالجات التي تتم، وأي القطاعات أكثر تأثرا من غيرها واسترسل في ذلك! تحت وقع الدهشة المتزايدة، طلبت منه أن يتجول بي في دبي ليريني معالمها، وأنا راغب فقط أن أستمع إليه أكثر، فأخذ يجول، ويصف ما يصادفنا من معالم وأبنية، ولكن كذلك بشكل مختلف، حيث كان يتحدث عن العلامات والفروقات الهندسية والمعمارية بشكل لم أكن لأتخيل أن يصدر عن سائق تاكسي. جرنا الحديث بعدها إلى ذكر الحضارة الهندية، فوصل بي إلى قصة لابنة أحد المهراجات كانت تكتب الشعر، وحاول أن يترجم لي قصيدة من قصائدها، فأنشد يقول: بقطرة من بعد قطرة يكون المحيط، وبحبة رمل من بعد حبة رمل تكون الأرض، وبنبضة حب من بعد نبضة حب يكون الإنسان! وصلت إلى الفندق الذي كنت أسكن فيه، وترجلت من سيارة «التاكسي»، وأنا أقول لنفسي: يا لها من حياة مثيرة هذه الحياة، تفاجئك بما لا يمكن أن تتخيله في أغرب الأماكن. من يتخيل حكيماً من بلاد الهند يقود «تاكسي»؟! أنا... ولحظة الموت! كان موضوع هذه المقالة حبيسا في داخل نفسي منذ مدة ليست بالقصيرة، فقصتها التي لا يعرفها إلا المقربون مني، تعود إلى بضعة شهور مضت، ولكنني في كل مرة كنت أنوي الكتابة عنها أجدني وقد ترددت وتخاذلت، ربما لمهابتها أو لغرابتها، أو ربما لعجزي عن الإمساك بالخيط الوثيق الذي يمكن لي أن أنفذ إليها منه! في الصيف الماضي، وأثناء إحدى النزهات العائلية على البحر، وبينما كنت أقود دراجة مائية أو ما يسمونه بالجت سكي، انقلبت بي بعدما اصطدمت بها موجة مباغتة وأطاحتني من فوق ظهرها، بالرغم من أني لم أكن مسرعا، بل لعلي كنت أقرب إلى الوقوف مني إلى الحركة. كان الحدث مفاجئا جدا، وسريعا، ففي لحظة وجدتني وبلمح البصر تحت الدراجة التي صدمتني حافتها أثناء السقوط، وإذا بي أندفع إلى العمق محاطا بالظلام الذي تغشى بصري، ومأخوذا بصوت قرقرة الماء المكتومة التي ما كنت أسمع شيئا غيرها من حولي، وذلك التيار الضاغط الذي كان يسحبني نحو الأسفل! وبالرغم من أني قرأت الكثير عن أناس عاشوا لحظات كهذه، واجهوا فيها لحظة الموت، فإني لم أجد ما كانوا يشبِّهونه دائما بمرور شريط سينمائي لكل لحظات حياتهم، ولعبور صور الأشخاص الذين أحبوهم وعرفوهم وتلك الأحداث المفصلية التي عاشوها من أمام أعينهم، فما شهدته وعشته كان بعيدا كل البعد عن هذا، بل أعترف أنه لم يمر من أمام عيني شخص أو مشهد محدد، بل كنت أنا ونفسي وأفكاري والموت من حولنا. كنت لحظتها غارقا في البحر، وفي أعماق تلك الفكرة الكاسحة التي أطبقت على أنفاسي، حيث عشت شعورا طاغيا بسخافة الموقف، وأخذ سؤال حاد يصيح في رأسي: أهكذا يموت الإنسان؟ أهكذا بكل بساطة وبهذا الشكل المفاجئ؟ بلا مقدمات ولا علامات ولا إشارات؟! لم يستغرق الموقف بأسره إلا ثواني معدودة، فسرعان ما وجدتني أركل الماء من تحتي وأنحرف عن حاجز الدراجة الذي كان فوقي، مندفعا نحو السطح، لأستنشق الهواء بكل ما اتسعت له رئتي، لكن ذلك الموقف الآن يعدل دهرا كاملا في ذاكرتي، وهول تلك اللحظة الممتدة ومهابتها لايزال عالقا في كل تلافيف عقلي، واليوم وحتى الساعة وحين أتذكرها، لايزال لا يطبق علي سوى ذلك الصوت المكتوم وذلك الضغط الخانق، وذلك الشعور الذي لفّ اللحظة بأسرها بتفاهة كل شيء، وكيف أني كنت أقول لنفسي وأردد بلا توقف: وكيف أرحل وأنا لم أنتهِ من هذا ولم أنتهِ من ذاك، ولم أفعل هذا ولم أفعل ذاك، وكيف كنت مأخوذا بمحاسبة نفسي بأني لن أخلف قيمة حقيقية ورائي وأنا راحل الآن! تلك اللحظات الثقيلة، وموج تلك الأفكار الذي أغرقني حينها، صارت جميعها منذ تلك اللحظة، وبالرغم من أني لم أشارك بها الكثيرين إلاّ الآن، هاجسي وغذاء عقلي يوميا، فقد غدوت مأسورا طوال الوقت في التفكير في لزوم أن أترك خلفي رصيدا حقيقيا، من العمل والعطاء، يؤهلني لأن يذكرني الناس بخير من بعد رحيلي، وأن هذا الشيء هو الذي سيجعلني مستحقا لرحمة الله وعطفه بأني كنت فردا صالحا له قيمة ونفع للناس في هذا العالم. إن الناس شهود الله في أرضه، وآمل لذلك أن يذكرني الناس بخير من بعد رحيلي، عسى أن يكون ذلك شفيعا لي عند ربي. أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة. ماذا لو كان الغد هو آخر يوم في حياتك؟! في لحظة تأمل، جالت في بالي خاطرة ماذا لو كان الغد هو آخر يوم في حياتي، ما تراني كنت سأفعل؟ أخذت أقلب أفكاري، فأستذكر أخطائي ومواطن تقصيري وكيف يجب أن أعالجها تارة، وأحصر آمالي وطموحاتي التي لم تصل حتى الآن إلى مرساها تارة أخرى. وجدتني أتنازل وبكل سهولة عن كثير مما يستحوذ على أغلب وقتي ويشغل جُل تفكيري، وأتجه إلى أمور أخرى لم تكن في صدارة اهتماماتي، فأصبح الكثير من المهم لا يعني لي شيئا، وصعد كثير من المؤجل إلى أعلى سلم الأولويات! وأنا في غمرة الأفكار، أقلِّبها على وجوهها، قمت بتوجيه السؤال نفسه عبر الهاتف النقال إلى مجموعة من معارفي وأصحابي، فكتبت: ماذا كنت ستفعل لو علمت أن الغد هو آخر يوم في حياتك؟! وضغط زر الإرسال! كثير ممن وصلته الرسالة التزم الصمت ولم يُجِبْ، ولعل بعض هؤلاء قد وجد في الفكرة فألاً سيئاً، فالموت هو الحقيقة التي يراها أغلب الناس كالخيال، أغلبنا يرى الموت يأخذ الناس من حوله، لكنه لا يتخيل أن يأتيه! لكن الموت سيبقى أحق الحقائق، وغدا سيموت آلاف الناس على هذه الأرض وسيرحلون، ولا أحد منّا يمكنه أن يجزم بأنه لن يكون منهم، وعدم التفكير في الأمر لن يغيِّر من المسألة شيئاً. إجابات كثيرة وردتني، بعضها لم يخلُ من طرافة، وبعضها كان بليغاً جداً، وما بين الطرافة والبلاغة، بقيت الحقيقة ماثلة بأن الجميع سيقوم بشيء يختلف عما ينشغل به الآن. واحد أو اثنان قالا إنهما لن يفعلا شيئا مختلفا، وهذان إما أنهما على درجة عالية من الثقة بحسن مسيرتهما، وإما أنهما عجزا عن التفكير في كيفية التصرف في مثل هذا الموقف. أغلب من أجابوا قال إنه سيهرع إلى التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وبعضهم تذكر والديه فقال إنه سيقضي الوقت معهما يطلب رضاهما، وصديق قال إنه سيذهب إلى مَن أخطأ بحقهم كلهم ويعتذر منهم، وأخت قالت إنها ستقضي الوقت في الصلاة والدعاء بأن يخفف الله عنها سكرات الموت والحساب، وأخ قال إنه سيقضي وقته في قراءة القرآن لأنه يأتي شفيعا لأهله، وشخص رائق جدا قال إنه سيأخذ جلسة مساج، ومن ثم يمضي بعض الوقت مع أحبائه، ويأكل وجبة لذيذة ويتفرج على فيلم جميل، ثم ينهي نهاره بقراءة القرآن والدعاء وينام مبتسماً بعد أن يأخذ حبة مخدرة حتى لا يفكر كثيراً! حسناً، ماذا أريد من كل هذا؟ كما قلت سابقا، لا أحد يعلم متى سيموت، ولا أحد يدري لعله أول الراحلين صباح الغد، فلماذا جميعنا في هذه الغفلة يا ترى؟ ما دمنا سنهرع إلى الله، وإلى والدينا، وسنعتذر لمن أخطأنا في حقهم، وسنقضي وقتاً سعيداً مع مَن نحب، إن نحن علمنا أن الغد هو آخر أيامنا، فلماذا لا نقوم بذلك من الآن ما دام من المحتمل أن يكون الأمر كذلك؟! إنها دعوة لأن نراجع أنفسنا، ونعيد ترتيب حياتنا، ونعيد النظر في أولوياتنا ومشاغلنا، حتى نكون مستعدين للرحيل بقلوب أكثر رضا واطمئنانا بما قدمناه في هذه الحياة. تمنياتي للجميع بطول العمر، وبالحياة السعيدة الراضية المطمئنة، المليئة بالحب والنجاح الفرح. يطير المرء بهمته كما يطير الطائر بجناحيه! فكرة مقال اليوم تناولتها منذ سنتين تقريبا، إلا أنها لاتزال حية مفيدة تصلح لمعاودة الحديث عنها، خصوصا والنفوس قد تعبت من كثرة ما هي تابعت أخبار الصراعات والمعارك السياسية، وصارت تتوق للتغيير. عندما تريد أن تكون سعيدا وناجحا فعليك أن تعيش وتستمتع بالحاضر، عليك أن تركز على ما هو إيجابي في حاضرك، وأن يكون هدفك الذي تسعى إليه دائما نصب عينيك حتى تستطيع أن تحدد الشيء الأكثر أهمية والأجدر بالانتباه من كل ما يواجهك. ولكي تجعل حاضرك أفضل من ماضيك، فارجع إلى تجاربك وتعلم منها، وافعل الأمور بطريقة مختلفة عن السابق لتصل إلى نتائج مختلفة، ولكي تجعل مستقبلك أفضل من حاضرك، وصولا إلى أهدافك فعليك بالتخطيط، يجب أن تخطط بوضوح، ولا تتردد وابدأ على الفور بتطبيق تلك الخطط، وتذكر دائما أن الماضي لا يساوي الحاضر... والحاضر لا يساوي المستقبل. كانت هذه الأفكار المكثفة هي خلاصة ما أورده الدكتور سبنسر جونسون في كتابه الجميل «الهدية». يقوم الدكتور جونسون في هذا الكتاب الصغير الحجم، الكبير الفائدة، بسرد قصة طريفة تحمل في طياتها الكثير من المعاني الرائعة والمهمة, فهو يعلم قراءه كيف يصلون إلى الراحة والسلام الداخلي وكيف يكونون أكثر إنتاجية في حياتهم وأكثر غنى وعطاء في علاقاتهم، وكيف يجدون ما هو مهم في حياتهم وحياة مَن يعيشون معهم ويحيطون بهم، وذلك من خلال فهم الماضي والحاضر والمستقبل، وإدراك أهمية كل مرحلة. «الهدية»... كما يعرضه الدكتور جونسون عبارة عن قصة بسيطة تروي تجربة شخصية في الوصول إلى السعادة والتفوق, لكن أجمل ما في الكتاب أنه يذّكر الإنسان بأنه هو الوحيد الذي يمكنه منح نفسه هذه الهدية، حيث أن التغيير للوصول إلى النجاح يجب دائما أن يبدأ من النفس، ولا يمكن أن يتحقق ما لم تتوافر الإرادة الذاتية الدافعة له. على الإنسان أن يتذكر دائما أن الناجحين والعظماء والأكثر تفوقا لم يكونوا بالضرورة الأكثر ذكاء ولا الأكثر علما ولا الأكثر قوة، بل كانوا دائما الأكثر همة، والأكثر تركيزا على أهدافهم، والأكثر انشغالا بتحقيقها، كانوا لا ينتظرون الظروف لتمنحهم النجاح على أطباق من فضة، ولا المقادير لتطعمهم التفوق بملاعق من ذهب، بل كانوا منشغلين دوما بالعمل لارتقاء سلم النجاح. هذه سنة كونية، لا تفرق بين مسلم وغير مسلم، ولا تعطي للمسلم تميزا عن غيره إلا إن هو قدّم من عرقه وتعبه وجهده كل ما يستطيع لينال النجاح. ويا لها من عبارة عظيمة تلك التي أطلقها الإمام علي رضي الله عنه حين قال: «يطير المرء بهمته كما يطير الطائر بجناحيه». على من أراد أن ينجح ويرتقي، أن يخفق بجناحيه بأشد ما يستطيع، عليه أن يعمل همته من دون كلل أو ملل، أما من جلس وندب حظه وألقى باللائمة على الظروف وعلى الحظ وعلى الآخرين، فقد اختار الفشل برغبته. المعلم الأميركي الراحل روبرت كوليير قال يوما إن «لكل واحد منا نصيبه من الحظ السيىء والحظ الجيد، لكن ذلك الإنسان الذي يثابر ويستمر في الصمود خلال أيام الحظ السيىء، هو نفسه الذي سيجده الحظ الجيد حين يأتي»، وقال أيضا «إن النجاح في حقيقته هو الناتج الحتمي لتلك الجهود المستمرة والمتراكمة والتي نبذلها يوما بعد يوم بلا انقطاع». تمنياتي للجميع بالنجاح، ولهذا الوطن بالخروج من أزماته. فلسفة المتعة والحياة! ضغطت زر الطابق الذي أقطن فيه في الفندق، وأخذ باب المصعد بالانغلاق، وفي المسافة الأخيرة وقبل أن يغلق تماماً امتدت يد وأمسكت به، فعاد الباب القهقري لينفتح ويدخل رجل غربي أشقر أزرق العينين، أخاله في الخمسينيات من عمره، حياني بإيماءة صامتة، فرددت التحية بأحسن منها بإيماءة وابتسامة، كان يرتدي قميصاً بلله العرق بشكل واضح، ويضع على ظهره حقيبة رحلات، ويحيط بخصره حزام تعلقت به حقيبة صغيرة من ذلك النوع الذي يستخدم لحفظ الأشياء الثمينة قريباً من متناول اليد، كان بادياً عليه أنه قد بذل مجهوداً، حتى تخيلت أنني أسمع صوت دقات قلبه ينتقل عبر جدران المصعد، نظرت إلى حذائه الرياضي فلاحظت أنه كان مغبراً، فأدركت الحكاية. كان واحداً من آلاف الغربيين الذين يجدون متعة في المجيء إلى هذا الجزء من العالم في أشهر الصيف للسياحة، وبالأخص إلى دبي، حيث وجدوا هناك مَن قام بتحويل الشمس والحر والرطوبة إلى سلع سياحية جاذبة وممتعة. من غرائب هؤلاء، وهي كثيرة، أنهم يذهبون إلى الصحراء، حيث الشمس تذيب الحديد وتصدع الصخر، لممارسة متعة التنزه فوق الكثبان الرملية لساعات متطاولة، ليعودوا بعدها إلى فنادقهم وقد لوحت الشمس وجوههم وأحرق الهواء اللاهب أبشارهم، ونال منهم التعب! أليس غريبا أن يجد هؤلاء الناس متعة في ذات الشيء الذي نهرب منه نحن، وفي المقابل نشد الرحال إلى الأشياء نفسها التي هربوا منها؟! ألا يدل هذا على أن للمسألة برمتها سراً لا يكمن في الشيء، أو المكان الملموس، وإنما في المعنى الذي يحيط به، ذلك المعنى الذي يصنعه عقل الإنسان، وفقا لما تمت برمجته عليه؟! آلاف البشر منا يهربون، مثلا، إلى لندن سنوياً في الموعد نفسه، وينحصرون في شارعين أو ثلاثة لا يتجاوزونها، لماذا؟ هل لأن هذه الشوارع ممتعة بذاتها حقاً؟ طبعا لا، وإلا لما فر منها كثير من أصحابها وجاؤوا إلى صيفنا اللاهب وصحرائنا القاحلة. السر يكمن كما قلت، في أن عقل الإنسان تتم برمجته على أن المتعة في شيء محدد وفي وقت محدد وبطريقة محددة! وما دام الأمر كذلك، وما دامت المسألة عقلية محضة، فيمكن لنا أن نستنتج وبكل بساطة أن الإنسان قادر على أن يبرمج عقله على ما يريد، بل بأن يعيد برمجته لتغيير أفكاره التي كان يظن أنها ثوابت لا تتزحزح. ما أريد الوصول إليه هو أننا جميعاً نستطيع أن نجد المتعة، وأن نتحصل عليها، في الكثير من الأشياء من حولنا، حتى البسيطة منها، وأننا لسنا بحاجة حتى إلى إنفاق المال، إن كان ذلك غير متيسر، أو حتى تجشم الكثير من العناء، للبحث عن هذه المتعة والسعادة. كل ما نحن بحاجة إليه هو العمل على إعادة اكتشاف الحياة من حولنا، وحينئذ ستقع أعيننا وقلوبنا على مصادر السعادة والبهجة، وعلينا عندئذ أن نسارع الى الإمساك بها والتقاطها، ليعود الإشراق إلى الحياة مجدداً. السعادة اختيار، وبيد الإنسان أن يختار الحصول عليها، أو أن يستسلم للرتابة والروتين ولكلام الناس ونمطيتهم وأفكارهم المقولبة، ولضغوطات حياته اليومية، ليجد نفسه وقد انتهى مخنوقاً تحت الركام، حي ولكن أشبه بالأموات! الطريق من أمامنا ! بيل غيتس، أشهر من علَم في رأسه نار. وليس غريباً لذلك أن يعرفه حتى باعة البقالات، وصغار الصبية، ورائدات جلسات شاي الضحى، فضلا طبعاً عن المثقفين والسياسيين والكتاب والنواب وبقية الأحباب، أليس هو الذي تربّع على عرش أغنى أغنياء العالم لعدة سنوات؟ إذن فلا عجب. لكن هل غيتس مجرد ثري يمتلك مليارات الدولارات، حاله كحال مئات المليارديرات المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها؟! الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فهذا الرجل، الذي تقاعد منذ أيام وتفرغ لإدارة مؤسسته الخيرية، لم ينطلق يوم أسس شركة «مايكروسوفت» سعياً إلى تكوين ثروة، لأنه لو كان كذلك لما تبرع منذ سنوات بأغلب هذه الثروة لأعمال الخير والتنمية. هذا الرجل كان صانعاً لحضارة وبانياً لمجد يرتكز على رؤية واضحة لمآل المستقبل ومسيرة تكنولوجيا الكمبيوتر فيه. هذا الرجل كان يرى وبوضوح قبل أن تخطر حتى بوادر الفكرة في ذهن غيره بسنوات طويلة كيف أن الكمبيوتر الشخصي سيدخل كل بيت، وسيصبح جزءاً أساسياً من حياة البشر، وثروته المهولة لم تكن يوماً غاية لهذه المسيرة وإنما نتيجة حتمية لها. في 1996 أصدر بيل غيتس كتابه الشهير «الطريق من أمامنا»، وظن كثير من الناس يومها، وأنا منهم، أنه سيحكي فيه كيف قام بتكوين ثروته، لكنه لم يتطرق لذلك بتاتاً، وإنما تطرق إلى تأثير ثورة التكنولوجيا وتأثيرها المتوقع في الحياة، من خلال فلسفته الشخصية. ولد بيل غيتس في عام 1955 ابنا لمحامٍ بارز يعمل مشرعاً وعمدة، وحفيداً لنائب رئيس أحد البنوك، إلا أنه لم يرث من أهله درهماً أو ديناراً، أو لنقل سنتاً أو دولاراً، اللهم إلا الطموح غير المحدود والذكاء الوقّاد والروح التنافسية المشتعلة، والتي جعلت منه طالباً متفوقاً بالرياضيات والفيزياء ومولعاً بعالم الكمبيوتر، حتى التحق بجامعة هارفارد، الجامعة الأعرق والأقوى في العالم. ولكن الانطلاقة الحقيقية لبيل غيتس نحو المجد ابتدأت في أواخر 1974، وبشكل يكاد يكون خيالاً، إذ وجد زميله موضوعاً منشوراً في مجلة عن أول نموذج للكمبيوترات الصغيرة، وهرع إليه، لتشرق أمام الاثنين قناعة مفادها أن عصر الكمبيوتر الشخصي قد آذن بالانطلاق، وليعكفا على برمجة نظام تشغيل مبسط له، فيفوزا بعقد مع الشركة المنتجة لهذا النموذج، ويترك غيتس الدراسة في هارفارد على إثر ذلك ويؤسس وزميله شركة «مايكروسوفت»، لتصبح اليوم واحدة من الشركات الأغنى إن لم تكن الأغنى والأكثر تأثيراً في العالم كله!. غيتس وبالرغم من كل ملياراته، ليس كبقية أثرياء العالم، فهو لا يسكن قصراً، ولا يمتلك طائرة خاصة، ولا يرتدي بدلات فاخرة، ولا يركب سيارات غالية، وإنما يعيش حياة بسيطة متواضعة، ولا تكاد تميزه لو رأيته بين الحشود من فرط بساطته، ولكنه مع ذلك رجل من أولئك الذين غيروا وجه التاريخ إلى الأبد!. الآن وبعد هذه السطور لعلكم تتساءلون، ماذا أريد من ورائها؟ سأخبركم، ولكن قبلها سأعبر عن اطمئناني هذه المرة بأن أحداً من فريق الظرفاء المنشغلين، جزاهم الله على قدر نياتهم أقصى الجزاء، بمتابعة توجهاتي وتحليل مقالاتي والتقليب في أرشيف مقالاتي، لن يتفتق ذهنه هذه المرة عن تهمة جديدة لعلها تكون التزلف لبيل غيتس بحثاً عن وظيفة أو منصب، باعتبار استقالتي من «حزب الأمة»، ولن يتهمني بتحول فكري إلى الأميركيين أخيراً، بعد أن قلبوه على السلف فالشيعة ثم الإخوان وانتهاء بالليبراليين!. ما أريد قوله وبكل بساطة هو أن سيرة حياة بيل غيتس، والتي تعد عند أغلب الناس مجرد سيرة حياة لرجل فاحش الثراء، هي أكثر وأعمق من ذلك بكثير، لأنها تحفل بالكثير مما يستحق النظر فيه ودراسته، كأهمية الطموح، ومعنى النجاح، والقيمة الحقيقية للثراء، وأهمية الشهادة الجامعية، وغيرها، وكل واحد منا سيستطيع حتما أن يجد فيها شيئاً يعكسه على نفسه وحياته بشكل من الأشكال، وأظن هذا كافٍ بحد ذاته! لا تكن عبداً لهرموناتك وتخيّر معركتك! من ألزم الصفات ببدايات عمر الشباب وأوضحها، صفة الحماس والاندفاع في كل شيء. في التصديق-الإيمان وفي التكذيب-الكفر، في الحب وفي الكره، في الإقبال وفي الإدبار. لذلك ترى الشاب وحين يؤمن بشيء، لا يكاد يرى غيره، وحين يحب أحداً يهيم به عشقاً، وحين يقبل على أمر لا يكاد ينصرف عنه. في هذه المرحلة لا يمكن التنبؤ بردة فعل الشاب، فمن الممكن أن ينفجر غضبا على لا شيء، أو أن يجهش بالبكاء لأتفه الأسباب أو أن يصاب بالاكتئاب دون مبرر واضح، وهكذا دواليك! من ألزم الصفات ببدايات عمر الشباب وأوضحها، صفة الحماس والاندفاع في كل شيء. في التصديق-الإيمان وفي التكذيب-الكفر، في الحب وفي الكره، في الإقبال وفي الإدبار. لذلك ترى الشاب وحين يؤمن بشيء، لا يكاد يرى غيره، وحين يحب أحداً يهيم به عشقاً، وحين يقبل على أمر لا يكاد ينصرف عنه. في هذه المرحلة لا يمكن التنبؤ بردة فعل الشاب، فمن الممكن أن ينفجر غضبا على لا شيء، أو أن يجهش بالبكاء لأتفه الأسباب أو أن يصاب بالاكتئاب دون مبرر واضح، وهكذا دواليك! يُرجع العلماء هذا الأمر من الناحية الطبية إلى أن مرحلة الشباب تتسم بتدفق هرمونات البلوغ في جسد الشاب، والتي بيّنت الاكتشافات العلمية الأخيرة أنها تنشط في خلايا المخ فتؤثر عليها بشكل مباشر، مما يؤدي إلى تلك التقلبات الحادة التي نراها على المزاج والمشاعر عند الشباب. غالبا ما تنتهي هذه المرحلة بعدما يتجاوز الشاب سنوات المراهقة، لكنها قد تطول عن ذلك بقليل، أو حتى أكثر من ذلك عند بعضهم، فيبقى الواحد منهم على ذات الاندفاع المراهق والحماس المشتعل الذي كان يسيطر عليه في مرحلة بلوغه وسنوات مراهقته. ووفقا لدرجة الحماس والاندفاع التي تستمر عند هؤلاء البعض وانعكاساتها على حياتهم الاجتماعية وعلى خريطة تعاملهم مع الآخرين وعلى مقادير تطرفهم في معتقداتهم وأفكارهم، ينزع علماء النفس إلى تصنيفهم على درجات، أعلاها درجة تضعهم في دائرة المرضى النفسيين الذين قد يحتاجون إلى العلاج! إن عدم قدرة الإنسان على ردع نفسه من الدخول في كل معركة تلوح أمامه، وعدم استطاعته كبح جماح نفسه عن الاعتقاد أن كل صيحة من حوله تعنيه هو شخصياً، ونزوعه إلى تحويل كل حوار أو مناقشة مع الآخرين إلى معركة شخصية لابد من الانتصار فيها، قد يكون علامة من علامات هذا الاختلال النفسي، ودليلاً على عدم النضج العقلي وامتداد فترة المراهقة خارج عمرها الزمني المعتاد، أو بكلمات أخرى احتمال أن يكون هذا الإنسان لايزال واقعا تحت سيطرة هرموناته التي تسيطر على خلايا مخه فتسيره ذات اليمين وذات الشمال! ليس من السهل على الإنسان بشكل عام ألا يستسلم لذلك الشعور الحار اللذيذ الذي يتوهج في صدره عندما تلوح له فرصة سانحة للانخراط في معركة يشعر بأنها معركة سيسهل الفوز فيها، لكن من المفترض أن الأيام وبما تخلعه عليه من أردية النضج والخبرة ستكون قد علمته كيف يتخير معاركه، وكيف يزن نتائجها المتوقعة في ميزان الفائدة والقيمة، ليعرف بعدها إن كانت تستحق أم لا؟ أكون أو لا أكون..هذا هو السؤال! «أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال!» هكذا بدأت واحدة من أشهر عبارات المناجاة في دنيا الأدب العالمي, كتبها الكاتب والشاعر الانكليزي الشهير ويليام شكسبير منذ أكثر من 400 عام مضت، وأجراها على لسان شخصية من أكثر شخصياته ابهاراً وروعة. شخصية هاملت، أمير الدنمارك، في المسرحية التي حملت اسمه. هذه العبارة التي جرت الى يومنا هذا على ألسنة الآلاف ممن لا يعرفون، وربما لن يعرفوا أبداً، مصدرها، جاءت في الأصل على لسان هاملت، عندما كان يرزح تحت وطأة ما اذا كان من الأفضل له أن يعيش مثقلاً بعبء التزامه بالانتقام لوالده الذي قتله أخوه كلوديوس، أو الانتحار وانهاء حياته بقتل نفسه! من حسن حظ الأدب وعشاقه، أن هاملت لم يتخذ قراره في الموضوع، واستمرت المسرحية على مدى فصلين آخرين بعد مواجهته لهذا المفترق العسير. ورغم أن شخصية هاملت كانت على قدر بالغ من الذكاء والحكمة، الا أن شكسبير جعلها أيضاً على درجة عالية من عدم القدرة على اتخاذ القرار وحسم الأمور! فجمع فيها بين أمرين يسيران في اتجاهين متعاكسين تماماً. وكان هاملت يرى السلبيات والايجابيات في كلا الخيارين، لكنه لم يستطع أن يحسم أمره فيختار! أعتقد أن في الكثير منا يقبع هاملت خاص بهم بصورة من الصور، وبشكل من الأشكال! وحتى أستبق أفكاركم، فأقول انني لا أعني أن في الكثير منا شخصاً يرغب في الانتقام أو الانتحار, وانما أقصد أن فينا شخصاً يواجه اتخاذ القرارات الحاسمة بشكل متكرر وربما بشكل يومي، ويتمكن كثيراً من رؤية الحكمة كلها في كل الخيارات المتاحة، ويتمكن كثيراً كذلك من رؤية كل المثالب والسلبيات أيضاً. الا أنه في النهاية يستمر بلا قدرة على الاختيار والحسم باتخاذ القرار! المفارقة التي قد لا تتبين للغالبية منا هي أن عدم القدرة على اتخاذ القرار هي قرار بحد ذاته! نعم. «فمن لا يتخذ قراراً، يكون قد قرر بشكل تلقائي ألاّ يتخذ قراراً». وقرر، بلا وعي أو ادراك ربما، أن يترك الأمور تجري على عواهنها. وقرر أن يترك الأمور للتصاريف وتحكم العوامل الخارجية لتلعب بها كيف تشاء! البعض يسيء تفسير مقولة «الخيرة في مشا اختاره الله»، ويعتقد أن ترك الأمور تجري من دون تدخل منه، هو ترك لها بيد الله، وأنه عز وجل سيختار الأصلح والأفضل! وهذا، في تصوري، فهم مضحك للأمور، و«لخبطة» اعتقادية كبيرة! الله عز وجل يختار الأصلح دائماً للمؤمن. وفي كل أمر يجري على المؤمن، هناك خير، حتى وان لم يكن ظاهراً أو لم يكن عاجلاً. لكن هذا الخير لن يأتي ما لم يتخذ المرء قراره ويعمل بمقتضى هذا القرار فيتحمل توابعه. لأن السماء لا تمطر ذهباً، والخيرات لا تنبت في قارعة الطريق! لا بد من الحسم والمواجهة، وعدم ترك الأمور معلقة الى ما لا نهاية, وكل قرار، مهما كان، هو أفضل بكثير في النهاية، من اللاقرار, حتى وان تبين بعد حين أنه كان قراراً خاطئاً! فالقرار الخاطئ يمكن تصحيح تبعاته في الغالب، مهما كان الثمن غالياً. اتخاذ القرارات، صغرت أو كبرت، في قناعتي، أمر يدور بشأن محور أساسي هو السؤال «أكون, أو لا أكون؟» هل «أقرر» أن أكون سيد قراراتي واختياراتي، أم تراني «أقرر» ألا أكون كذلك, فأصبح ريشة في مهب رياح قرارات «الغير» تلعب بها كيفما تشاء؟ بالفعل، أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال! اتـــــرك يوم كنا طلبة كان ارتباطنا بكلية الطب كبيرا جدا، لا أعني الارتباط بين الطالب ومدرسته، وإنما كان ارتباطا من نوع خاص فريد، وذلك لأن اليوم الدراسي كان طويلا جدا، حيث يبدأ من الثامنة صباحا الى الخامسة مساء، ليستمر الكثير منا في البقاء في الكلية بعد ذلك للمذاكرة، وأذكر أني وبعض الزملاء كنا نبيت ليالي الامتحانات في قاعات المذاكرة وفي مكاتب هيئة التدريس الفارغة، ليس لأن (قلوبنا عودة) وليس لأننا (أمواس) دراسة، ولكن لأن الدراسة في الكلية ومع الأصحاب صارت حاجة لا يلبيها أي مكان آخر, وهكذا ارتبطنا بالكلية أكثر من ارتباطنا ببيوتنا، كنا نرتبط بها وببعضنا البعض وبالهيئة التدريسية وبالموظفين، وحتى برجال الأمن الذين كانوا يعرفوننا واحدا واحدا. وحينما تخرجنا من السنة السابعة وتوزعنا على المستشفيات المختلفة، استمر الكثير منا بالتردد على الكلية، والجلوس في (لوبي) كلية الطب (الشهير) وتناول طعامه في الكافتيريا ذاتها, واستمر هذا الأمر تقريبا حتى انتهينا من سنة التدريب في المستشفيات ليسافر أغلبنا الى الخارج لاكمال دراستهم التخصصية. أذكر أنني يوم عدت من دراستي في بريطانيا في العام 2000، ذهبت الى كليتي القديمة، فاستوقفني أحد رجال الأمن عند الباب طالبا هويتي بحكم الاجراءات المتبعة مع الزوار، أذكر انني تضايقت كثيرا حينها، وقلت له بإنني خريج من هذه الكلية، وأني قضيت عمري فيها، وغيره من الكلام (اللي يقطع القلب)، لكن لا أذكر الآن ان كانت كلماتي تلك، ودموعي، وأحزاني، قد شفعت لي عنده حينها أم لا. منذ أيام زرت الكلية مجددا، فتكرر الموقف، طلب أحد رجال الأمن هويتي، هذه المرة لم أكلف نفسي اخباره عن أيام صباي في مرابع الكلية، بل أعطيته ما أراد طوعا واستلمت منه بطاقة كتب عليها بخط كبير كلمة (زائر) علقتها على صدري. لا أريد من هذه القصة ذات النهاية (التراجيدية) أن تشاركوني (حزني) على (اللي مضى وكان) وانما أريد أن أصل معكم لشيء آخر. ألستم معي في أن في حياة كل انسان أشياء أو أشخاصاً، وبعد أن كانت وكانوا يلتصقون بنفسه وذاته وروحه الى حد الامتزاج دارت به الدنيا فأرغمته على أن يتخلى عنها وعنهم، أجبرته على أن يتقبل وضعا جديدا، شأني يوم صرت (زائرا) في الكلية نفسها التي عشت سبع سنوات من عمري فيها؟! التمسك بأهداب الماضي، والبكاء على الأطلال، وغيرها من أنغام سيمفونية العزف على أوتار الحنين للسابق، أمور يمر بها جميع الناس، لكن بمقادير مختلفة,, ولا يوجد في قناعتي انسان، مهما بدا للناس صلبا قاسيا شديدا، قادر على تجاوز ماضيه حتى دون خفقة واحدة من قلبه حنينا الى ذلك الماضي، فالانسان يبقى وكما كان يردد خالد الشيخ في أيام مراهقتنا (كتلة من الأعصاب). لكن المشكلة فيمن يبقى أسير الماضي، فيرفض التغيير ويستمر في مقاومة الواقع الجديد، يظل في صراع في كل الاتجاهات مع ذكرياته ومع واقع جديد جاء ليفرض نفسه رغما عن أنفه، ليخسر كل شيء في النهاية، تضيع من يديه فرصة الاستمتاع بالحاضر، كما ذهبت منه أيام الماضي الى غير رجعة. عند الغربيين عبارة شهيرة تقول (Let Go) أي (أترك)، يقولونها لمن يرفض أن يتنازل عن موقفه وعناده أو عن ارتباطه بماضيه الذي قد رحل، ورغم أن الامتثال لهذا العبارة قد يبدو سهلا لبعضكم، الا أنني أعلم من واقع التجربة أن الواحد منا يحتاج أن يمر بكثير من التجارب والصفعات حتى يصل الى مرحلة (الانسجام) مع نفسه لكي يستطيع بالفعل أن يترك. بالفعل، أسعد الناس، من يستطيع أن يعقد صداقة ويعيش في انسجام مع ذكرياته، سعيدها وحزينها. في أحد المنتديات الالكترونية يكتب شخص اسمه (زيبق)، كان يردد دائما بأنه قد عقد صداقة مع ذكرياته وجراحه، وأنه في الليالي (اللي ما فيهاش قمر) يخرجها من أعماقه فيفرشها أمامه، يسامرها وتسامره، الى أن يأخذ كفايته منها، فيلملمها مجددا ويلفها في طيات نفسه، وينطلق ليقبل على الواقع، كان يقول إنه صارت لديه هواية يسميها (هواية جمع الجراح). لا أدري، فلعله كان مجنونا يهذي، لكن ألم يقولوها قديما: خذوا الحكمة من أفواه المجانين؟ الديناصورات وأبو برنيطة سودا! رسالة جميلة جاءتني من صديق أجمل، تقول كلماتها: (أجمل ما في الحياة صديق، يقرأك دون حروف ويستوعبك دون كلام)! حين وصلتني هذه الرسالة (المفاجأة) شعرت بأنها ضربت على أوتار النفس، فأرسلتها بدوري الى صديق من أصحاب القبعات السوداء (وما أكثرهم) فأجاب قائلا: (هذا الصنف انقرض مع الديناصورات)! والسؤال هنا، هل صدق يا ترى صاحبي (أبو برنيطة سودا)؟ وهل (الخل الوفي) لا وجود له تماما كالغول والعنقاء؟! شخصيا، لا أعتقد أن الصورة بهذه القتامة، ومع احترامي لرأي صاحبي (أبو برنيطة سودا), الا أنني أقول إن الدنيا بخير، لكن، وهنا أتوقف لتأمين خط رجعتي، يعتمد الأمر على ما نعنيه (بالصديق) وبالتالي على ما نفترض أنه من استحقاقات (الصداقة), بكل بساطة، نحن نصدم بمن نظنهم أصدقاء لنا حين لا نجدهم بجانبنا لا لخلل بهم وانما لخلل بنا,,, فنحن من أعطيناهم أكثر من حقهم! أوضح أكثر,,, ليس كل زميل في العمل، هو صديق، وليس كل زميل في الديوانية أو المقهى هو صديق,, بل ليس كل من قد نتسامر أو نجلس معه بشكل متكرر هو صديق,,, هؤلاء جميعا، وبغض النظر عن مدى ارتياحنا لهم وبعيدا عن مميزاتهم الشخصية، ليسوا أصدقاء لنا بشكل تلقائي,,, قد يكونون أي شيء,, سمهم ما شئت، لكنهم ليسوا أصدقاء!! الصداقة، في مفهومي، استحقاقات ومتطلبات ضرورية لا يجب أن نتغاضى عنها,, والخطأ الكبير الذي يقع فيه غالبية الناس، أنهم يديرون (رحى تصنيع الصداقة) بالاتجاه الخطأ,,, يندفعون نحو وصف الأشخاص من حولهم على أنهم أصدقاؤهم، ويبدأون بعدها بمطالبتهم باستحقاقات الصداقة، ويصابون بالصدمة حينما يعجز هؤلاء عن الوفاء بهذه الاستحقاقات,, بينما الدورة الصحيحة لرحى الصداقة، ألا يتسرع الانسان في تسمية الناس من حوله على أنهم (الأصدقاء) قبل أن يثبتوا أولا له قدرتهم على استيفاء استحقاقات الصداقة! المثل القديم المعروف الذي يقول (الصديق وقت الضيق) ورغم تحوله الى (كليشيه) مستهلك لا يستشعره أغلب من يتفوهون به، يحوي في الحقيقة حكمة بالغة, فاثباتات الصداقة، لا تبرز ولا تتضح الا في (الضيق), وليس ضروريا أن يكون هذا الضيق ضائقة أو كارثة تصيبك ليبرز الأصدقاء (الحقيقيون) من حولك، وانما يكفي أن يكون موقفا يستدعي من (الصديق) أن يضغط على شهوات نفسه وراحته ومصلحته لأجلك فتعرفه حينها, والقصة الشهيرة التي تروى عن الفاروق عمر رضي الله عنه بها تشابه كبير مع ما نتحدث عنه هنا، حين قال أحدهم له، ان فلانا رجل صدق, فقال له: هل سافرت معه؟ قال: لا, قال: فهل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا, قال: فهل جاورته؟ قال: لا, قال: فأنت الذي لا علم لك به! يتعلم الانسان من تجاربه، وأقسى التجارب تكون للعاقل أبلغ الدروس,,, تجربة أخيرة تعلمت منها أنه من الأفضل أن تتحاشى التعامل بالدرهم والدينار مع من ترتاح له وتسعد بصحبته ما لم تكن متيقنا أنك تعرفه وأن المال لن يفسد عليك علاقتك به, الصديق الفعلي هو من لا تغيره الدراهم ولا المصالح الشخصية، لذا فما لم تكن متأكدا بأن هذا الانسان هو صديقك فعلا فلا تزج به في هذه الاختبارات التي ستكشف لك عن حقيقته وقد تصدم بسقوطه الذريع فيها,,, استبقه كما هو,,, زميلا (ظريفا) تستمع بصحبته لا أكثر ولا أقل! والآن نعود للبداية فنسأل هل انقرض الأصدقاء مع الديناصورات كما قال صاحب (البرنيطة السودا)؟ الاجابة: لا ليس الأمر كذلك، وانما نحن من كنا ننظر الى الصورة بطريقة خاطئة وندير الرحى بالاتجاه المعكوس!! عصر القلق عصرنا اليوم عصر الألف اسم واسم، هو عصر السرعة، وأعني السرعة في كل شيء,,, في العمل,,, في المكسب والخسارة,,, شركات ترتفع ومن ثم تهوي في لمح البصر، والسرعة في الحياة الاجتماعية، ناس ترتبط وتنفصل في غضون أيام معدودة، وهو عصر التقنية، التقنية في الخير وفي الشر، تقنية الكمبيوتر والإنترنت، لعمران الدنيا، وتقنية الأسلحة، لتخريبها، وهو عصر الإعلام الخارق، حيث لا حدود رغم آلاف الحدود ولا حواجز رغم آلاف الحواجز!. لكن جميع أسماء العصر وإن اختلفت وتنوعت تقود في النهاية إلى اسمه الجامع، عصر اليوم هو دون شك (عصر القلق النفسي)! وإن ظن البعض أنهم في معزل عن هذا فهم مخطئون, فالقلق النفسي بحسب التعريف الطبي هو تجاوب أو رد فعل من الجسم البشري مع أي تغيرات تحصل في البيئة من حوله (أو في داخله), ومن المهم أن ندرك أن التغيرات التي تسبب القلق النفسي ليست مقصورة على السلبية منها كمصاعب العمل أو فقدان قريب أو حبيب، أو المشاكل الاجتماعية الأخرى، بل حتى التغيرات الإيجابية تسببه، فالترقية الوظيفية تسببه، والمسكن الجديد يسببه، والاستعداد للسفر، وغيرها,,, كل هذه التغيرات تشكل ضغطا كبيرا على نفس الإنسان حتى وإن لم يدرك ذلك، إنها جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان الذي يعيش في العصر الحديث. هذا الفهم، هو المفتاح السحري للتعامل الناجح مع القلق النفسي، وهو الأسلوب الذي أعلمه الى مرضاي، من المهم أن ندرك أنه لا يمكن أن يتخلص الإنسان من القلق النفسي مادام يعيش في هذا العصر، لأنه ومهما فعلنا سيستمر يطاردنا بأخبار الحروب والدمار عبر الصحف والتلفاز والإذاعة والإنترنت، كما أنه سيبقى مليئا بالتحديات في كل مكان، في العمل وفي البيت وحتى في الشارع بينهما! لذلك فلا مهرب للإنسان إلا بأن يقوي نفسه من الداخل ويعزز مناعتها، ويمكن أن يحصل له ذلك من خلال استراتيجيتين متلازمتين، الأولى تتمثل في أن يسعى لأن يفصل ما بين مصادر القلق، فلا يحمل معه ضغوطات العمل إلى البيت، أو العكس، ولا يسمح لأي من المصدرين بالاستيلاء على حقه في الحصول على قسط كاف من النوم, حياة الإنسان تنقسم إلى ثلاثة أثلاث، ثلث في العمل وثلث خارجه (في البيت وأنشطته الأخرى) وثلث في النوم، والتوازن مهم وحيوي بين هذه الأثلاث، وحينما يختل فسيصبح الإنسان مكشوفا أمام سياط الضغط النفسي، هذه الاستراتيجية ليست سهلة لكنها أيضا ليست بالمستحيلة ويمكنها أن تتحقق بالتمرين والممارسة، أما الاستراتيجية الثانية، فهي أن يجعل في ما بين تلك الأثلاث الثلاثة في حياته فترات يقضيها في أنشطة تدخل الراحة على نفسه، رياضة معينة، أو هواية ما (مهما بدت سخيفة للآخرين)، ويمكن كذلك أن يقضي تلك الفترات في مجرد الاسترخاء التام والتأمل، وأعرف أن هذا قد يبدو غريبا بعض الشيء، لكنه مفيد دون أدنى شك، فالبحوث والتجارب أثبتت أنه يعيد إلى النفس الكثير من توازنها. الثابت والمتحول!! الثابت الوحيد في الكون هو التغير والتحول واللاثبات,,, وهذا الأمر يسري على كل النواحي المادية وغير المادية، فلا الأرض ثابتة ولا السماء ثابتة ولا الإنسان في صحته ولا في علاقاته ولا في مستوياته النفسية ثابت,,, بل كل شيء فيه ومن حوله متحول بشكل مستمر لا يتوقف. ورغم أن الناس يدركون هذه الحقيقة بشكل كبير، فتراها منطبعة في حكمهم وأمثالهم ومقولاتهم، فهم يقولون، دوام الحال من المحال، ولو دامت لغيرك ما اتصلت إليك، وليس للدنيا ثبوت، والدهر يومان يوم لك ويوم عليك، وغير ذلك من الحكم والأمثال الكثيرة الأخرى، إلا أنهم وحين يوضعون على محك التعامل الحقيقي مع هذه السنة الكونية تجدهم ينقسمون إلى أربعة أصناف: (1) صنف يرفض ويقاوم التغيير بشكل كبير,,, وقد يتخذ رفضه أشكالا عديدة منها إحساسه بالضياع لتراه هائما على وجهه ضائعا أو أن يتمسك بالماضي بعناد، فيصر على الثبات والجمود كعمود مغروس في الأرض، أو أن يقاوم الجديد ويناطحه كتيس يناطح صخرة!! (2) وصنف قد يرفض التغيير في البداية فيعيش في فترة من اللاتقبل والرفض قد تطول أو تقصر بحسب الظروف، ولكنه سرعان ما يتجاوز تلك المرحلة المضطربة حين يتيقن أن ما مضى قد ولى فلا يجد مناصا من أن يقدم على الحاضر ويترك العناد الذي لا يجدي نفعا. (3) وصنف ثالث مؤمن دوما بأن التحول أساس الأشياء، لذا فعينه ترقب الحاضر والمستقبل مستشعرة التغيرات وهي تقترب, وهذا الصنف على قدرة عالية للتكيف والتعايش مع الجديد حين حصوله، لأنه قادر على استجلاء إيجابياته مهما كانت صغيرة بل واستثمارها وتنميتها، بل ان البعض من هذا الصنف يكون قادرا على الاستمتاع بعملية التغيير نفسها وهي تطرأ لإيمانه أنها تسهم في بناءه. (4) والصنف الرابع، صنف لا يملك القدرة على استشعار التغيرات ولكنه رغم هذا لا يضيع وقته بالتردد أو المقاومة حال حصول التغيرات بل ينطلق نحو التعامل والتأقلم معها بروح وثابة. هذه الأصناف تمثل الأنماط البشرية وتعبر عن الأشكال الرئيسة لأساليب التعامل البشري مع الحياة، فلينظر كل منا إلى نفسه وليتعرف على موقعه على هذه الخريطة. رجل على القمر! قصة تكررت في كثير من كتب الإدارة وتطوير الذات تقول إنه في بداية الستينيات ومع السعي الحثيث لوكالة أبحاث الفضاء الأميركية (ناسا) في سبيل إيصال أول إنسان إلى القمر قبل الاتحاد السوفياتي الذي سبق الأميركيين في إرسال رجل حول مدار الأرض آنذاك، وفي زيارة للرئيس الراحل جون كينيدي إلى «ناسا» التقى برجل منهمك في تنظيف الأرضيات فسأله عن عمله, تقول القصة بأن الكناس أجاب كينيدي بأنه يعمل في المساهمة بإرسال أول إنسان إلى القمر! هذه الحكاية التي تستخدم وبكثرة في محاضرات فرق العمل وتحفيز الموظفين وما شابه، وبعيدا عن حقيقتها، تحمل رسالة مهمة يجهلها أو لا ينتبه لها الكثير ممن هم من حولنا في العمل، سواء من الرؤساء أو المرؤوسين على حد سواء. هذه الرسالة، تقول إن كل فرد في العمل أي عمل، ومهما صغر دوره، أي حتى لو كان كناسا أو عاملا لإعداد الشاي والقهوة، فهو مساهم ولو من بعيد في دفع المسيرة الكلية لهذا العمل، وهذا الأمر، ما لم يكن واضحا في ذهن المرؤوس وواضحا ومعتبرا في ذهن الرئيس أيضا فإن الإنتاجية والنجاح سيتضرران في نهاية المطاف, ويرجع ذلك إلى أنه إن لم يدرك المرؤوس أهمية دوره ومكانته في منظومة العمل، فإن هذا سينعكس سلبا على مقدار عطائه والتزامه، كما أنه وفي الجانب المقابل فإذا لم يدرك الرئيس أهمية ودور كل عضو في منظومته، فإنه لن يوفيهم حقهم من التقدير ماديا ومعنويا، وبالتالي سيخسر جهودهم ومشاركتهم الفعلية. العمل بروح الفريق، هو أساس الأساسات التي يقوم عليها كل عمل، وعندما يعتقد الرئيس بأن بإمكانه أن ينفرد أو يكتفي بمجموعة صغيرة لعمل ما يريد، فإنه وإن نجح مرحليا، فإنه خاسر حتما لتعاون وثقة وارتباط من معه في كل ما سيقدم عليه لاحقا عندما تتطور الأمور فتستدعي جهودهم. منذ سنوات، وفي عمل سابق لي، دعينا لاجتماع طارئ مع نائب للرئيس، فتحدث طويلا عن أهمية العمل الجماعي والعطاء والإحساس بالمسؤولية بين الجميع وروح الفريق, يومها ورغم حداثتي في ذلك المكان، أخبرته بأن هذه الأمور لا تنتقل للموظفين بمجرد الكلام، وإنما هي ممارسة فعلية يجب أن تبدأ من قمة الهرم أي الرئيس مرورا بكل الموظفين انتهاء بأصغر واحد فيهم رجوعا إلى الرئيس، ما لم يشعر الجميع بأنهم أعضاء فريق واحد لا فرق بينهم إلا بالمهام والأدوار، فإنهم لن يتجاوبوا معه, بعدها بأشهر بسيطة رحلت عن ذلك المكان لفرصة عمل أفضل، والآن على الرغم من تقديري لجميع الأشخاص الذين كانوا فيه على المستوى الشخصي، إلا أنني ما زلت أحمل في ذاكرتي عنه كيف أنه كان مثالا لبيروقراطية صارخة وأبواب مغلقة ومركزية ومحسوبية وشللية لا مثيل لها, وأيضا وعلى الرغم من حرصي على عدم متابعة أخبار أماكن العمل التي أتركها من باب التركيز (نفسيا) و(عقليا) على ما بين يدي، إلا أنني علمت من الأصدقاء ومن الصحف بأن الحال ما زالت على ما كانت عليه إن لم تكن أسوأ، ولا بشائر انفراج في الأفق! لكن وللأسف، فإن هذا المكان ليس فريدا من نوعه، فأغلب الإدارات الحكومية، والشركات والمؤسسات المرتبطة بالحكومة، لا تعمل وفق نظم إدارية حديثة، وبعيدة كل البعد عن مبادئ العمل الجماعي واللامركزية، وسياسات الباب المفتوح، وغارقة حتى أذنيها في البيروقراطية والمحسوبية والنفعية, لذلك فلا عجب أن نجد مدير إدارة بلا وكيل مساعد، لا يعرف ما هي الخطة الاستراتيجية لمنظومة عمله، وإن عرفها أو كاد فإنه لا يعرف دوره فيها، بل ولا يهمه أن يعرف! الخلاصة أن أمامنا طريقاً طويلة تبدأ بأن ندرك حقيقة الخلل الذي نعانيه، وبعدها أن نعلن رغبتنا الصادقة في تصحيح هذا الخلل رغبة في الارتقاء والوصول إلى الأفضل، وإلا فلا فائدة من تغيير الأسماء والمناصب والتشكيلات!!