الآثار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على المنتجات المعدلة وراثياً من الثابت تاريخياً عدم التمكن من فصل أي مجتمع عن التقانة التي تدخل عليه. فما من تقانة، بدءاً من اكتشاف النار وإنتهاءاً بتقانات الهندسة الوراثية، مروراً بالثورة الصناعية والثورة الخضراء والتقانة الحيوية التقليدية، إلا وكان لها أثر على المجتمع. حيث تتأثر مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية بدرجات متفاوتة وبطرق وسرعات مختلفة تبعاً للتقانة المدخلة. تترك الابداعات التقانية والعلمية أثراً واضحاً في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وفي الحياة السياسية لكل المجتمعات. فقد كان لإدخال الآلات الزراعية أثناء الثورة الخضراء آثاراً إيجابية كثيرة معروفة، لكنه زاد من حالة عدم العدالة بين كبار وصغار المزارعين، كما خفض عدد الأعمال الزراعية التي كانت تقوم بها المرأة خاصة. إذ أدى الإنتاج الكثيف للرز، على سبيل المثال، في بعض البلدان إلى إعادة هيكلة المجتمعات الريفية لتتولد طبقة اقتصادية جديدة من التجار مختصة في تجارة الرز، كذلك انتشرت طبقة عمال زراعيين موسميين للعمل في هذه المزارع. بنفس الطريقة، فإن مكونات المجتمع المختلفة لها أيضاً بعض التأثير على طريقة تبني تقانة ما ونشرها في المجتمع، فكان دائماً للثقافة والأخلاق والدين تأثيراً قوياً في طرق إدخال التقانات ونشرها في أي مجتمع. وهي جوانب تؤثر ببعضها البعض بشكل مباشر وغير مباشر (المخطط رقم 1). المخططرقم 1: تداخل الآثار الناجمة عن إدخال تقانة ما إلى المجتمع. يمكن للكائنات المحوَّرة وراثياً GMOs أن تسبب تغيرات غير عكوسة بيئياً واجتماعياً، وإن كان هذا الانعكاس ينطبق على كل التقانات الحديثة فإنه أكثر شدة ووضوحاً مع تقانات الكائنات المحوَّرة وراثياً. وحتى لو سُحبت هذه التقانة وتوقف الناس تماماً عن تبنيها، فإن آثارها يمكن أن تستمر وتصبح دائمة في المجتمع والبيئة. فيمكن للكائنات المحوَّرة وراثياً أن تؤثر على الأنواع النباتية البرية أو تلوث المحاصيل التقليدية لفترات طويلة بعد إيقاف زراعتها. تشير هذه الحقيقة القاسية إلى الأهمية الكبرى لتقييم كافة الآثار المحتملة للكائنات المحوَّرة وراثياً قبل وأثناء وبعد إدخالها في أي مجتمع. وقد لاقى جانب الآثار الاقتصادية والاجتماعية للكائنات المحوَّرة وراثياً اهتماماً أقل من الاهتمام الذي لاقاه الجانب العلمي والتقاني للموضوع. وبالتالي كان الحوار حول ملاءمة هذه المنتجات للاستخدام الواسع محصوراً بالجوانب العلمية والتقانية وحكراً على العلميين والأخصائيين، كذلك كان الاهتمام بالسجالات الأخلاقية والدينية متفاوتاً تبعاً للتطبيق. ومع ذلك فقد كانت الأبعاد الأخلاقية والدينية هي المسيطرة على الخلافات في العديد من الدول حيث يشغل الدين حيزاً كبيراً في المجتمع. فالأسئلة التي تخضع لها المنتجات المحوَّرة وراثياً من "حلال وحرام" عديدة في كل المجتمعات المتدينة. إن كمية المعلومات (الأدبيات) ذات الصلة محدودة لعدة أسباب، فعادة تحتاج الآثار الاقتصادية والاجتماعية لسنوات قبل أن تبدأ بالظهور بشكل ملموس، وإلى أن يبدأ أخصائيو علم الاجتماع بدراسة وتمحيص هذه النتائج، تكون الآثار قد تأصلت وتركت مفعولاً يصعب معاكسته أحياناً. جرت عدة محاولات لتعريف الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية في السياق الحالي للكائنات المحوَّرة وراثياً، ولم تكن هذه المحاولات ناجحة تماماً حتى الآن. فقد رأى البعض إمكانية إرجاء مناقشة هذا الموضوع بسبب الاعتبارات غير القابلة للضبط، وذهب آخرون للاعتقاد بضرورة تجاوزه لأنه غامض ويقع خارج نطاق الأمان الحيوي. هذه المفاهيم العصية على التعريف تأخذ بالحسبان طيفاً واسعاً من المخاوف الناجمة عن النتائج الحالية والمحتملة لمنتجات الكائنات المحوَّرة وراثياً (مثل الآثار على: دخل وصالح المزارع، الممارسات الثقافية، المحاصيل التقليدية، العمالة الريفية، الأعمال التجارية ذات الصلة ومصلحة المستهلك). مع الإشارة إلى أن هذه العناصر ليست حصرية وثابتة. الحاجة لتقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية للكائنات المحوَّرة وراثياً: تتوقف الحاجة لتقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية للكائنات المحوَّرة وراثياً على عدة عوامل مهمة، مع ضرورة وجود حس أخلاقي لإجراء تقييم حقيقي وشامل كون النتائج الاجتماعية والاقتصادية خارجة عن السيطرة. من هذه العوامل: 1. المسؤولية الاجتماعية: تقع على عاتق العلماء الذين يطورون ويدخلون تقانة ما إلى أي مجتمع مسؤولية أخلاقية عن الآثار التي قد تترتب عن إنجازاتهم في هذا المجتمع. وهذا يتجاوز آثار التقانات لما بعد المرحلة المخبرية، وخارج حدود أماكن الاختبار المحصورة في المخابر أو البيوت الزجاجية. 2. المسؤولية نحو الأجيال القادمة: يجب أن تهدف التقانات الجديدة للمساهمة بإحداث تطوير مستدام وهذا أيضاً يقع على عاتق مطوري التقانة والجهات الحكومية المشرعة. يجب أن لا يقتصر تقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية للكائنات المحوَّرة وراثياً على ضمان عدم حدوث آثار جانبية ضارة عند نشر المنتج المحوَّر، بل أن يحمي مصالح وحاجات الأجيال الحالية والمستقبلية على حد سواء، لأن الآثار الاجتماعية والاقتصادية تستمر أحياناً لأجيال. 3. القبول الاجتماعي: لا بد لمطوري التقانة والمشرعين من ضمان قبول منتجات هذه التقانة اجتماعياً بإيلاء اهتمام جدي للآثار المحتملة وإشراك فعال وواسع لممثلين اجتماعيين مختلفين ولمختلف وسائل الإعلام الملتزمة. 4. إنقاص الكلف على المدى البعيد: من الضروري إجراء تقييم لموضوع الكلف على المدى البعيد بمشاركة واسعة تضم الممولين. تشمل الدراسة مختلف العوامل المؤثرة كحماية حقوق الملكية الفكرية وانخفاض كلفة التقانات عموماً مع الزمن، بالإضافة إلى العوامل الأخرى الداخلة في حساب التكاليف، وذلك بهدف تخفيف كلف التقانة الحديثة ومنتجاتها على المدى البعيد. بفضل قوة منظمات المجتمع المدني في عدة دول متطورة، فقد لحظت الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية في بروتوكول قرطاجنة للأمان الحيوي، حيث نص البند 26 صراحة على هذا التقييم. كذلك اعترفت المجموعة الدولية أن الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية هي مكون هام في عملية اتخاذ القرار المتعلق بالأمان الحيوي. لإعطاء معنى للتدابير الاحتياطية لبروتوكول الأمان الحيوي فيما يخص الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، كان لا بد من تطوير وتطبيق أدوات تساعد في اتخاذ القرار حول القيام بالبحث والتطوير والنقل وإدخال الكائنات المحوَّرة وراثياً. إحدى هذه الأدوات هي "تقييم الأثر الاجتماعي والاقتصادي" الذي تم اقتباسه من الأدوات الموجودة في التقييم البيئي، وهي أداة تقييم تشاركية ومتعددة الاختصاصات تساعد المشرعين ومجموعات المجتمع المدني على الموازنة بين الفوائد الكامنة للكائنات المحوَّرة وراثياً وبين مخاطرها والآثار الضارة المحتملة على مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. ما الذي يتم تقييمه؟ إن المواضيع الداخلة في الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على استخدام منتجات محوَّرة وراثياً واسعة جداً، فالمجتمع "كائن" معقد بشكل كبير تتآثر (تؤثر وتتأثر) فيه كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية بطريقة معقدة. 1. الاعتبارات الاجتماعية: تلقى اعتبارات معينة تمحيصاً خاصاً نظراً لأهميتها، من هذه الاعتبارات: - ضرورة دراسة النتائج المحتملة على الممارسة التقليدية للمزارعين، وخاصة الأثر على حقوق المزارعين في حفظ وإعادة استخدام وتشارك وتبادل وبيع البذور المحفوظة في المزارع كونها من الاعتبارات الهامة في تقييم التقانة اجتماعياً واقتصادياً. فهو أمر هام في الدول النامية حيث يمارس المزارعون الأعمال التقليدية في حفظ البذور والتبادل الحر للمواد الزراعية خلافاً للدول المتطورة حيث الزراعة "الصناعية" هي المسيطرة على نظام المَزارع. إن ممارسات الحفظ التقليدي تمثل أساس التنوع الحيوي الوراثي في الزراعة، كذلك تمثل جانباً سيادياً للمُزارع، فيظل هو صاحب القرار في مزرعته. وتدل التجارب إلى تراجع استقلالية القرار مع تقدم وسيطرة التقانة كما تم أثناء الثورة الخضراء. - أثَّر إدخال هذه التقانة على عمل المرأة. فقد فقدت المرأة بعض الأعمال الخاصة بها (مثال: إزالة الأعشاب الضارة في زراعة الذرة بعد إدخال النوع المحوَّر في الفيليبين)، فأدى إلى تأثر كيانها في المجتمع الريفي كقوة عاملة. - لا يُعدُّ السعر العامل الأكثر أهمية، فهناك تقبُّل المستهلك لهذه المنتجات، الذي مازال موضع شك في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. ونرى تزايد الطلب على وجود بطاقة بيان (لصاقة واسمة) على المنتجات المحوَّرة وراثياً توضح ذلك بشكل جلي، فقد حذت اليابان وتايلاند وكوريا الجنوبية حذو الدول الأوربية في طلب وجود هذه اللصاقة الواسمة الدالة على وجود مواد محوَّرة وراثياً. - ضرورة استمزاج رأي المستهلك عن طريق استطلاعات رأي مدروسة ومجراة بمهنية وأسلوب علمي تفيد في استقراء وتحليل النتائج للاستفادة منها في اتخاذ القرارات ذات الصلة والتي يمكن أن تتأثر أو تتغير بشكل ملموس تبعاً لنتائج الاستطلاع. وكذلك ضرورة إعادة إجراء نفس استطلاع الرأي بعد مدة معينة وتكرار ذلك لأن الآراء تتغير وتتطور تبعاً للظروف والأحداث، فالتقانة والمجتمع يتفاعلان باستمرار. ففي أحد استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000 أجرته مؤسسة محترفة ومعروفة حول دور التقانة الحيوية في تقديم أغذية محوَّرة وراثياً وقبول استهلاك هذه الأغذية، توزعت الإجابات بين مؤيدين ورافضين كالتالي: 65% مؤيدين و35% رافضين، وعندما أعيد هذا الاستطلاع عام 2005 أصبحت النسب 45% مؤيدين و45% رافضين و10% بلا رأي قاطع بسبب عدم وجود معلومات كافية. 2. الاعتبارات الاقتصادية: وبالمثل هناك اعتبارات اقتصادية يجدر التوقف عندها لدى دراسة الآثار المترتبة على نشر هذه المنتجات، منها: - مراقبة الإنتاج الزراعي وعلاقته بإدخال التقانة وتحديد الربح الحقيقي الناجم عن بيع البذور المحوَّرة وراثياً بنفس السعر للجميع. فمثلا: تبيع شركة مونسانتو بذور الذرة المحوَّرة في الفيليبين بضعف سعر بذور الذرة العادية، وهو فرق كبير جداً بالنسبة لبلد حيث 60% على الأقل من مزارعي الذرة لا يملكون الأرض التي يزرعون. وبالتالي فإن مونسانتو تعتمد سوق مستهدف معين حيث تقدم بذورها للأغنياء ومتوسطي الدخل من المزارعين الذين يستطيعون دفع قيمة البذور التي ستحمي المحصول من الضرر. أي أن المستفيد هو المزارع القادر على دفع سعر مرتفع للبذور. - دراسة الآثار المحتملة على إدخال الكائنات المحوَّرة وراثياً في المناطق الريفية بشكل دقيق مع الانتباه لدروس الثورة الخضراء التي زادت الدخل بشكل غير متوازن أو غير عادل وكذلك تَوزُّع الرفاه في المناطق الريفية بالرغم من زيادة إنتاج بعض المحاصيل كالرز والذرة. ويدافع البعض عن هذا بالقول بأن زيادة دخل المزارعين الأغنياء ستساهم باستثمارات أعلى وخلق فرص عمل في الريف. - إن الكلفة المرتفعة للأدوات الزراعية المدخلة في الثورة الخضراء جعلتها بعيدة عن متناول أيدي صغار المزارعين الذين ازدادت مديونيتهم لصالح النخبة من الذين كانوا أصلاً يسيطرون على أدوات الإنتاج الأولى والذين تمكنوا من إدخال الأدوات الجديدة واستثمارها، وهو ما يمكن أن يحدث عند إدخال تقانة التحوير الوراثي. - الانعكاس على المستهلك، فقد وعدت هذه المنتجات المستهلك بأسعار أقل نتيجة الوفرة وزيادة الإنتاج المرتقب إلا أن النتيجة لم تكن دائماً واضحة. - الأخذ بعين الاعتبار الرقابة على البذور ومتمماتها لحاجات التقانة الجديدة. فالسؤال هو: هل سيقدم نشر البذور المحوَّرة وراثياً الفرصة للمزارعين الفقراء لأخذ زمام الأمور والسيطرة على أدوات الإنتاج، أم أنه سيزيد من سيطرة أجزاء من هذا المجتمع على الإيرادات والعمليات والتسويق؟ - الحفاظ على دخل آمن: فقد قلل استخدام محاصيل مقاوِمة لمبيدات الأعشاب من اليد العاملة التي كانت تُزيل هذه الأعشاب وعرَّض دخلهم لخطر محتم. - دراسة الأسواق العالمية باعتبارها تخضع لقانون العرض والطلب. فيفترض أن زيادة الإنتاج ستؤدي لانخفاض الدخل، بينما تَعِد الشركات الكبرى المزارعين الذين سيعتمدون على البذور المحوَّرة وراثياً بزيادة الدخل، إلا إذا كانت زيادة الدخل ستتحقق على حساب من فقد عمله في هذه المزراع للأسباب السابقة! - الوقوف عند إمكانية فقدان بعض الدول القدرة على المنافسة بسبب انخفاض سعر السوق العالمي. مثلاً: انخفض دخل دول فقيرة مثل غرب افريقيا من عائدات محصول القطن بسبب زراعة قطن محوَّر وراثياً في الهند والولايات المتحدة الأمريكية. - تحرّي أثر حماية حقوق الملكية الفكرية على العملية الإنتاجية والتحكم بها طوال فترة الحماية. - إمكانية زيادة أسعار المنتجات غير المحوَّرة التي يمكن أن تصبح مخصصة للأسواق القادرة على دفع ثمنها. وبالإضافة إلى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، لا بد من لحظ اعتبارات بيئية تتعلق بتعايش المحاصيل العادية والمحوَّرة وحصول تلقيح خلطي Cross-pollination أي إنتقال حبوب اللقاح (غبار الطلع) من نبات لآخر وبالتالي تلوث المنتج العضوي Organic بالمحوَّر ولو بكميات قليلة مما يؤدي لفقدانه لميزاته التفضيلية. أخيراً لا بد من الإشارة لآثار غير متوقعة للمنتجات المحوَّرة وراثياً كالأثر على القرار السيادي لبعض الدول والذي يمكن أن يكلف غالياً، مثل حالة رفض بعض الدول، مثل زامبيا التي عانت من الجفاف والمجاعة، لإعانات غذائية لأنها تحوي منتجات محوَّرة وراثياً بحجة الحفاظ على صحة مواطنيها وسلامة البيئة. الوضع الراهن: دروس وعبر تتصف الشركات المطوِّرة والمنتِجة للعناصر المعدلة وراثياً والداخلة في الإنتاج الزراعي وفي بعض الأغذية والأدوية وغيرها، بكونها شركات كبيرة جداً وذات إمكانيات وميزانيات هائلة تفوق أحياناً ميزانيات بعض الدول الصغيرة. وهي ذات سلطة وقدرة على التحكم بالسوق بشكل يصعب أو يستحيل معاكسته. وهي في الغالب شركات ذات مصداقية علمية كبيرة، تنفق مئات ملايين الدولارات على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، لذلك تبذل جهوداً جبارة لنشر مركباتها أو أصنافها النباتية المطوَّرة لاستثمارها بأفضل شكل ممكن. ولكي تتمكن هذه الشركات من تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح يناسب المبالغ التي أنفقتها على البحث والتطوير ودراسات واختبارات الأمان المختلفة للحصول على الترخيص النظامي، تسعى هذه الشركات لاحتكار منتجاتها وذلك بحمايتها ببراءات اختراع، فتوظف من أجل ذلك أهم مكاتب المحاماة المتخصصة في العالم، فتنفق المزيد من المال للتأكد من أن بقية الأطراف تلتزم بحدود الحماية التي تؤمنها براءات الاختراع التي تملكها هذه الشركات. لذلك فمن البديهي أن يترتب على كل هذه النفقات ارتفاع في أسعار البذور والمواد المحوَّرة وراثياً المنتَجة على الأقل في السنوات الأولى من طرح المنتج. كذلك يترتب على المستثمر الراغب بالاستفادة من هذه المنتجات، لزيادة إنتاجه وأرباحه، دفع مبالغ إضافية أحياناً للتأهيل والتدريب على طرق استثمار بعض المنتجات المحوَّرة وراثياً وشروط استخدامها. كل ذلك يجعل الكلف البدئية لاستثمار المواد المعدلة وراثياً كبيرة. في كثير من الأحيان عَجِز صغار المستثمرين والمزارعين من الدخول في هذا المجال، فكانت المنافسة غير متوازنة بين صغار وكبار المزارعين والصناعيين. وهذا ينطبق أيضاً على الدول، فتكاد تنحصر فوائد وعوائد المنتجات المحوَّرة وراثياً على الدول الغنية ذات الإمكانيات الكبيرة التي يمكن أن تستثمر في هذا المجال وتتحمل النفقات اللازمة للبحث والتطوير والاختبار والحماية، خلافاً لما كان قد أشيع في بداية "ثورة التقانة الحيوية الجديدة" القائمة على الهندسة الوراثية. فقد كان يعتقد أن هذه التقانات ستمثل الحل للقضاء على الجوع في دول العالم النامي، وبأنها ستقدم أصنافاً نباتية مقاومة للجفاف والملوحة، تفيد بشكل أساسي دولاً تقع في المناطق القاحلة أو قليلة الأمطار. وبعد قرابة عقدين على انتشار هذه التقانات ومنتجاتها يلاحظ أن المستفيد الأول هو شركات التقانة الحيوية العملاقة والدول الغنية التي تحتضنها. وفي بعض الأحيان نرى المستثمر في الدول النامية واقعاً بين فكي كماشة بعد إدخال هذه المنتجات إلى محيطه أو عند اعتماده عليها، فتارة تقدم هذه الشركات بذوراً محوَّرة ولكن تحوي ما يسمى بمورثة إنتحارية Suicide gene لا تسمح للبذور بالإنتاش لأكثر من مرة واحدة، وبالتالي على المزارع أن يشتري البذور سنوياً عوضاً عن الاستفادة من جزء من إنتاجه كبذور. وتارة أخرى يُمنح حق الزراعة دون حق استثمار المنتج، فيضطر لبيعه لشركة بعينها تطور المنتج النهائي وهكذا. من جهة أخرى، أدى رفض العديدين من مناهضي منتجات الهندسة الوراثية في الدول الغنية (في أوروبا تحديداً) إلى زيادة الطلب على المنتجات "الطبيعية" أو العضوية Organic، مما أدى لارتفاع أسعارها بشكل غير مبرر أحياناً. فإن كانت شعوب دول الأمريكيتين قد تقبلت عموماً المنتجات المحوَّرة وراثياً بسهولة أكثر من غالبية سكان البلدان الأوروبية، فإن البعض مازال يفضل المنتجات الطبيعية وينفق المزيد لتأمينها. يبدو أن أنصار حماية البيئة والمتشددين بفحوص الأمان والاختبارات البيئية البعيدة المدى في أوروبا قد نجحوا بلجم انتشار المنتجات المحوَّرة وراثياً في بلدانهم مقارنة مع نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والأرجنتين وغيرها من الدول المنتجة لمحاصيل محوَّرة وراثياً. فقد تمكن مناهضو هذه المنتجات في غالبية دول أوروبا من الحد من انتشار زراعتها وإدخالها في الأغذية والصناعات الغذائية، وقد كان لذلك آثاراً اقتصادية متفاونة يصعب حصرها وتقييمها. في الحقيقة يصعب اليوم الحكم بشكل قاطع على الجدوى الاقتصادية لهذه المنتجات، ويتعذر الجزم بأن المنتجات المحوَّرة وراثياً هي أرخص أو أغلى من المنتجات الطبيعية وذلك بسبب سلسلة من العمليات التي تسبق وتلي عمليات الإنتاج والنشر والتسويق. إذ لابد من لحظ كلف البحث والتطوير إضافة إلى الكلف اللازمة للاختبار والتقييم. يبدو أن الموضوع ما زال بحاجة للمزيد من التدقيق والتمحيص ووضع معايير تساعد في حساب الكلف بشكل أقرب ما يمكن للواقع. وقد يكمن الأساس في إطالة فترة الدراسة لتتبع المنتج بدءاً من بداية تطويره في المخبر حتى استثماره مدة عشر سنوات مثلاً، علماً أن فترة الحماية التي تؤمنها براءة الاختراع هي عشرين سنة يمكن بعدها لأي منتِج أن يقلد المنتَج المحوَّر وراثياً ويستثمره بحرية. بسبب الحجم الاقتصادي الهام لهذه التطبيقات، فإن أثرها يتجاوز الحدود الاقتصادية ليمس الجانب السياسي في كل دولة. فنرى حدوث تآثر واضح بين هذه التطبيقات وسياسة الدولة تجاه المنتجات المحوَّرة وراثياً وما ينجم بالنتيجة عن ذلك. فطبيعة العلاقة القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية بين الشركات الضخمة وصنّاع القرار سهّلت التشريعات التي تذهب باتجاه الترخيص لانتشار واستثمار المنتجات المحوَّرة وراثياً بعد دراستها وتدقيق مختلف جوانب الأمان الحيوي الخاص بها. بينما بقيت أوروبا المحافظة مع منظماتها غير الحكومية ومجتمعها المدني القوي أكثر تحفظاً تجاه انتشار المنتجات المحوَّرة وراثياً رغم كل الدراسات العلمية والاختبارات المجراة وذلك خوفاً من الآثار المتأخرة البعيدة المدى المحتملة، وهي مخاوف مشروعة لا يمكن التغاضي عنها أو طمأنة أصحابها بشكل كامل بالوسائل والأدوات المتاحة حالياً. لذا فإن قرار كل دولة أوروبية حول هذا الموضوع ظل سيادياً رغم وجود قوانين ناظمة عامة على المستوى الأوروبي. وتتناسب درجة تشدد هذه القوانين طرداً مع درجة قوة مناهضي هذه المنتجات والمدافعين عن التنوع الحيوي والتوازن البيئي الذين لا تخلو مواقفهم من مبالغة وتشدد تؤدي في بعض الأحيان لتأخر بعض التطبيقات وفقدان أرباح لا يستهان بها على حساب درجات أمان عالية يفضلها الأوروبيون عموماً. يبين المخط رقم 2 العوامل الترجيحية بالنسبة لمؤيدي ومناهضي نشر المنتجات المحوَّرة وراثياً. ولا يبدو أن هذه المسألة ستحسم قريباً. رأي مؤيدي المنتجات المحوَّرة وراثياً رأي مناهضي المنتجات المحوَّرة وراثياً المخطط رقم 2: رأي مؤيدي ومناهضي استخدام المنتجات المحوَّرة وراثياً. أخيراً، يتم أحياناً تبني بعض المواقف المتعلقة بالمنتجات المحوَّرة وراثياً تبعاً لقرار أو وضع سياسي معين مثلما تم في بداية القرن الحالي عندما عارضت بعض الدول الأوروبية إدخال منتجات معدلة وراثياً أمريكية المنشأ. فادَّعت الحكومة الأمريكية، ومن ورائها الشركات الأمريكية المنتِجة، أن هذا القرار جاء رداً على حرب الولايات المتحدة على العراق ومعارضة بعض دول أوروبا لذلك. وقد حكمت منظمة التجارة العالمية WTO لصالح الجانب الأمريكي في هذه المسألة بسبب اعتقادها بالخلفية السياسية للقرار ذي التبعات الاقتصادية الكبيرة. خاتمة بسبب احتمال وجود بعض الآثار السلبية لمنتجات الكائنات المحوَّرة وراثياً، فقد تولد لدى البعض مجموعة من المخاوف والشكوك أوصلتهم لرفض تقانات التعديل الوراثي ككل. من هنا فإن قبول المستهلك لهذه المنتجات متفاوت جداً تبعاً لعدة عوامل أهمها نوع المعلومة العلمية المقدمة وطريقة تقديمها، إضافة إلى درجة الوعي ومدى قوة عناصر المجتمع المدني والجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تنشط عادة لتوعية الناس وترشدهم وتدلهم على حقوقهم. إلا أن المغالاة في الحذر قد تفوِّت الفرصة على الكثير من المجتمعات للاستفادة من بعض التطبيقات الرائعة لهذه التقانة. غالباً ما يكون التقدم العلمي أسرع من أن تواكبه الحوارات والسجالات الفكرية والنصوص والتشريعات القانونية اللازمة، وهي مشكلة لطالما عانى منها الإنسان المتنور منذ أن حاول إثبات كروية الأرض، وربما قبل ذلك، وحتى الآن. فتغيير المفاهيم والعادات أمر صعب، يتطلب الكثير من الجهد وتقديم المزيد من البراهين التي يشق أحياناً التوصل إليها ومن ثم إيصالها إلى مختلف أركان المجتمع المتدخل باتخاذ القرار. كذلك فإن النتائج الاقتصادية الحالية متفاوتة وغير جازمة، وتختلف أحياناً حسب طريقة صياغتها والجهة التي صاغتها والمصالح التي خلفها. مما لا شك فيه أن هناك حاجة ملحة للتحلي بأكبر قدر ممكن من الحس الأخلاقي عند دراسة وتحليل آثار استخدام المنتجات المحوَّرة وراثياً على المجتمع وعلى البيئة. فلا يفيد في شيء التهجم على الشركات المنتِجة، التي لا يمكن نكران دورها الإيجابي في تطوير هذا القطاع الحيوي الهام، وإظهارها دائماً على أنها الجهة الجشعة التي لا تكترث إلا بالأرباح، وبنفس الوقت لا يجوز التساهل أو التغاضي عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يستعصي معاكستها متى بدأت بالظهور والترسخ. تقتضي المواجهة المنطقية لهذا الموضوع اتباع منهجية تشاركية تقوم على الشفافية والانفتاح وإطلاق مناقشة معمقة لمختلف جوانب الموضوع تضمن مشاركة المختصين من أطياف مختلفة نظراً لتعدد وجوه نتائج هذه التقانات. ?? ?? ?? ?? 1