image
imagewidth (px)
1.08k
1.87k
markdown
stringlengths
202
3.51k
ثُمَّ جَلَسَ لِيُرَاقِبَ زَوْجَةَ بوب وايت وَهِيَ تَلْتَقِطُ فَرَاشَاتِ الْمَلْفُوفِ الْبَيْضَاءَ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهَا سَتَبِيضُ وَسَيَخْرُجُ مِنَ الْبَيْضِ دِيدَانٌ؛ وَمِنْ ثَمَّ يَفْسُدُ الْمَلْفُوفُ. حَسَبَ عَدَدَ مَا الْتَقَطَتْهُ مِنْ حَشَرَاتٍ بَيْنَمَا كَانَتْ فِي مَجَالِ رُؤْيَتِهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مَعَ أَحَدِ صِغَارِ بوب وايت وَكَانَ يَلْتَقِطُ خَنَافِسَ الْخِيَارِ، وَآخَرَ كَانَ يَصْطَادُ الْجَرَادَ. ثُمَّ قَامَ بِالْمَزِيدِ مِنَ الْحِسَابَاتِ عَلَى قُصَاصَةِ الْوَرَقِ. عِنْدَمَا انْتَهَى، نَهَضَ وَذَهَبَ مُبَاشَرَةً إِلَى حَقْلِ الذُّرَةِ حَيْثُ كَانَ يَعْمَلُ الْمُزَارِعُ براون.
#### الفصل الثاني * Aldrich, JohnH. WhyParties? TheOrigin and Transformation of Political Parties in America. Chicago: University of Chicago Press, 1995. * Chambers, William Nesbit, and Walter Dean Burnham, eds. The American Party Systems: Stages of Political Development. New York: Oxford University Press, 1975. * Gienapp, William E. The Origins of the Republican Party, 1852–1856. New York: Oxford University Press, 1987. * Hofstadter, Richard. The Age of Reform; from Bryan to F.D.R. New York: Knopf, 1955. * Key, V. O. Jr. Politics, Parties, and Pressure Groups, 5th ed. New York: Crowell, 1964. * Sartori, Giovanni. Parties and Party Systems: A Framework for Analysis. New York: Cambridge University Press, 1976. * Silbey, Joel H. The American Political Nation, 1838–1893. Stanford, CA: Stanford University Press, 1991. * Sundquist, James. Dynamics of the Party System: Alignment and Realignment of Political Parties in the United States. Washington, DC: Brookings Institution, 1983. * Young, James S.The Washington Community, 1800–1828. New York: Harcourt, Brace and World, 1966.
أخيرًا بعد عشر ساعات أو يزيد دخلنا «بفلو»، وهي من كبريات المدن مظهرها صناعي بحت، وهنا غيَّرنا القطار فسرنا إزاء نهر نياجرا الذي يفوق نيلنا اتساعًا حتى خلته بحيرة إيرى نفسها، وضفافه كلها منسقة الزرع منثورة القرى والمساكن، ومدينة نياجرا نفسها آية في الفن والجمال. هنا أقلتنا سيارة نظير ثلاثة ريالات إلى مناطق الشلال الذي بدا زبده ورذاذه على بُعْدٍ، وأخذنا نقاربه فتستبين جوانبه حتى فوجئنا بمظهره كاملًا فأُرتِجَ علينا وكنَّا جميعًا من السائحين، ولم ينطق أحدنا بكلمة بل لبثنا نرقبه ذاهلين؛ الماء دافق في شدة مروعة، ومسقطه غائر يتقوس الماء فيترك وراءه تجويفًا، دخلناه فكان الماء الهاوي أمامنا، ثم نزلنا إلى قاعدة الشلال وحملتنا إليه باخرة صغيرة، ووقفنا على صخوره المنهارة والماء يساقط أمامنا، وقد أظلنا رذاذه فبلل أجسادنا، وكان دويه يصم الآذان، وللهنود الحق في تسميته نياجرا، وهي كلمة هندية معناها «رعد الماء»، وفي الحق إن مشهده ليأخذ بالألباب، فهو في روعته لا يجاريه غيره في العالم، اللهم إلا شلال فكتوريا على الزمبيزي في أواسط أفريقية، وليس الوصف بمُجْدٍ في إظهار حقيقته؛ فأنت لن تقدِّر عظمته وروعته إلا إذا زرته ومتعت عينيك بمشهده.
عَلَى أَنَّنِي بَادِئٌ بِالْإِفْضَاءِ إِلَيْكُمَا، أَيُّهَا الشَّقِيقَانِ، وَيُسْعِدُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمَا عَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِحْلَتِي مِنْ فَوْزٍ وَنَجَاحٍ، وَتَوْفِيقٍ وَفَلَاحٍ، وَمَا تَحَقَّقَ لِي فِيهَا مِنْ رَغَبَاتٍ وَآمَالٍ، لَمْ تَكُنْ لِتَخْطُرَ لِي عَلَى بَالٍ».
عَوَاذِلُ ذَاتِ الْخَالِ فِيَّ حَوَاسِدُ وَإِنَّ ضَجِيعَ الْخَوْدِ مِنِّي لَمَاجِدُ٢٨ يَرُدُّ يَدًا عَنْ ثَوْبِهَا وَهْوَ قَادِرٌ وَيَعْصِي الْهَوَى فِي طَيْفِهَا وَهْوَ رَاقِدُ٢٩ مَتَى يَشْتَفِي مِنْ لَاعِجِ الشَّوْقِ فِي الْحَشَى مُحِبٌّ لَهَا فِي قُرْبِهِ مُتَبَاعِدُ٣٠ إِذَا كُنْتَ تَخْشَى الْعَارَ فِي كُلِّ خَلْوَةٍ فَلِمْ تَتَصَبَّاكَ الْحِسَانُ الْخَرَائِدُ٣١ أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقْمُ حَتَّى أَلِفْتُهُ وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ٣٢ مَرَرْتُ عَلَى دَارِ الْحَبِيبِ فَحَمْحَمَتْ جَوَادِي وَهَلْ تَشْجُو الْجِيَادَ الْمَعَاهِدُ٣٣ وَمَا تُنْكِرُ الدَّهْمَاءُ مِنْ رَسْمِ مَنْزِلٍ سَقَتْهَا ضَرِيبَ الشَّوْلِ فِيهَا الْوَلَائِدُ٣٤ أَهُمُّ بِشَيْءٍ وَاللَّيَالِي كَأَنَّهَا تُطَارِدُنِي عَنْ كَوْنِهِ وَأُطَارِدُ٣٥ وَحِيدٌ مِنَ الْخُلَّانِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إِذَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ قَلَّ الْمُسَاعِدُ٣٦ وَتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ سَبُوحٌ لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ٣٧ تَثَنَّى عَلَى قَدْرِ الطِّعَانِ كَأَنَّمَا مَفَاصِلُهَا تَحْتَ الرِّمَاحِ مَرَاوِدُ٣٨ مُحَرَّمَةٌ أَكْفَالُ خَيْلِي عَلَى الْقَنَا مُحَلَّلَةٌ لَبَّاتُهَا وَالْقَلَائِدُ٣٩
بَلِّغْ أَمَانَةَ مَنْ وَافَتْ مَنِيَّتُهُ إِلَى الرَّشِيدِ فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي ذَاكَ وَقُلْ غَرِيبٌ لَهُ شَوْقٌ لِرُؤْيَتِكُمْ عَلَى تَمَادِي الْهَوَى وَالْبُعْدِ لَبَّاكَ مَا صَدَّهُ عَنْكَ بُغْضٌ لَا وَلَا مَلَلٌ لِأَنَّ قَرْيَتَهُ مِنْ لَثْمِ يُمْنَاكَ وَإِنَّمَا أَبْعَدَتْهُ عَنْكَ يَا أَبَتِي نَفْسٌ لَهَا عِفَّةٌ عَنْ نَيْلِ دُنْيَاكَ
(٣٨) خطاب أوذيس هذا هو أول حلقة من الخطب التي دارت بين آخيل ووفد الإغريق والتي يتمثل بها الأدباء فيتخذونها أنموذجًا لمناهج الخطابة. وحسبنا في هذا المقام إيراد مطالعة دلاموت عدو هوميروس. قال: لا خطب في الإلياذة أوقع وأدل على بلاغة هوميروس وعظمته من خطب هذا الوفد فإنها بصرف النظر عن كونها من لوازم المقام فإن فيها من حسن الوضع ودقة الانتظام ما يزيد المطالع رغبة في مطالعتها وارتياحًا إليها. يشرع أوذيس في الخطاب فيحيط بحكمته بمقتضيات الحال وترتاح الفكرة إلى حسن انتقاء براهينه وحججه. فيجيب آخيل بحرية تشف عن إباء عظيم فترتفع بالفكر إلى عواطف الأبطال. فيأتي فينكس برقته فيتأثر القلب لكلامه. وهنالك يختتم أياس الجلسة بإنفة تشف عن عظمةٍ وإباءٍ. فتنفض الجلسة والعقل متلهب بهذا التعاقب البديع. ولا ريب أن هذا الترتيب يدل على عظمة الشاعر وتسلطه على تحويل الفكرة كيفما يشاء بحسن تنسيق مادته. وإنني لعلى يقين أنه ليس في الإمكان أن يكون إنموذج لحسن التنسيق خيرًا من هذا. اهـ. قال پوپ بعد إيراد ما تقدم: لا شهادة أعظم من هذه الشهادة على مكانة هوميروس لأنها كما ترى صادرة من كاتب اشتهر بعدوانه له وتحامله عليه.
ليس بالضرورة، وليس دائمًا؛ ربما تكون قصتك قصيرةً للغاية، يدور موقفها الأساسيُّ في مساحة محدودة للغاية زمنيًّا ومكانيًّا، ثم إنك قد تجد نفسك مندفِعًا لكتابتها مباشَرةً كما خطرَتْ لك دون مقدمات وتمهيد وتمتين للفكرة الأساسية بالمرة؛ لكن، في أحيان أخرى، قد يكون مشروعك أطول قليلًا؛ قصة طويلة أو رواية أو سيناريو فيلم طويل، في هذه الحالة يكون لا غنى لك عن كتابة الفكرة وإعادة صياغتها في ملخص واضح المعالم، تُدرِج فيه كلَّ المعلومات الأساسية عن مشروعك، من قبيل: مَن شخصيتك الرئيسية؟ وما ملامحها الأساسية؟ (سالم: فلَّاح بسيط بالكاد يقرأ ويكتب)، وما الحدث الرئيسي الذي يقع له؟ (يجد ذات صباحٍ جسمًا معدنيًّا مجهولًا في غيطه)، وأيضًا ما المكان والزمان؟ (دلتا مصر في نهاية الألفية الثانية — أو فَلْتكن محددًا أكثر إذا كنتَ بحاجةٍ إلى ذلك)، ثم نتيجة الحدث الرئيسي دون إسهاب في التفاصيل (فتنقلب حياته رأسًا على عقب، وتنصب وسائلُ الإعلام سيركًا مبتذلًا في قلب حياته اليومية البسيطة).
على هذا الأساس كانت الزكاة ركنًا من أركان الإسلام، وكانت الصدقة فريضة من فرائضه. والزكاة لها قواعدها، والوالي ينظمها حسب مقتضيات الوقت كما تنظم الحكومات الضرائب، ويقتضيها الناس بقوة الشرع وسلطانه، فإذا نكل الناس عن أدائها أُكرهوا عليها. وامتناع العرب عن أداء الزكاة هو الذي أدى إلى حروب الردة في عهد أبي بكر. أما الصدقة ففريضة تعبدية أوجبها الإسلام على كل قادر عليها لخير من هو في حاجة إليها، وجعل جزاءها عند الله كجزاء الإيمان بالله، وذلك قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وقوله جل شأنه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وكون الصدقة فريضة صريح في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وفي قوله جل شأنه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
كان من أمر استيفن بعد ذلك أنه كلما رأى ماجدولين في الحديقة فر من وجهها وسلك طريقًا غير طريقه، ليخلو بنفسه لحظة يصور فيها الموقف الذي يقفه بين يديها، والتحية التي يجمل به أن يحييها بها، فلا يصل إلى ما يريد من ذلك حتى يراها راجعةً أدراجها إلى المنزل، فكان يحمل في سبيل ذلك من الهم ما يقلق مضجعه، ويطيل سهده ويحول بينه وبين قراره، فلا يرى بدًّا من الفرار بنفسه إلى الغابات والأجمات، والهيام على وجهه في قمم الجبال وعلى ضفاف الأنهار ليروح عن نفسه بعض ما ألم بها، واستمر على ذلك أيامًا طوالًا لا يمشي في الحديقة، ولا يرى ماجدولين ولا يزور «مولر» حتى تَلِفَتْ نفسه، وذهب به اليأس كل مذهب، فعاد يومًا من بعض مذاهبه محمومًا لا يكاد يتماسك ضعفًا واضطرابًا، فلزم غرفته أيامًا يعالج من داء قلبه وداء جسمه ما لا طاقة له باحتماله، وكأن «جنفياف» قد ألمت بجملة حاله فكاشفت بها سيدها، فصعد إلى غرفته ليعوده فرآه مستفيقًا بعض الاستفاقة، فسأله عما به فانتحل له عذرًا، فجلس إليه يحادثه ساعة، فلما أراد القيام مد «استيفن» يده إلى طاقة بنفسج كانت في آنية إلى جانب وسادته وقال له: إني جمعت هذه الطاقة لماجدولين؛ لأني أعلم ولعها بالغريب المستطرف من الزهر، فلعلك تنوب عني في تقديمها إليها، فأخذها «مولر» شاكرًا وانصرف.
#### عقوق قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تحدثني عن سنمار هذا الذي كثر الحديث عنه في هذه الأيام: مَنْ هو؟ وما شأنه؟ وفِيمَ يكثر الناس عنه الحديث؟ قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: «زعموا يا بنيَّ أنه رجلٌ رومي بنى للنعمان بن المنذر قصرًا أو قصرين لا أدري، فلما أتمَّ عمله على أحسن وجه وأكمله؛ رضي النعمان عنه، ولكنه أشفق أن يبني لغيره من الملوك مثل ما بنى له، فأمر به فأُلْقِىَ من أعلى القصر فاندقت عنقه فمات. والناس يضربونه مثلًا لمَن يقدِّم إلى الناس خيرًا وإحسانًا فيجزونه بالشرِّ والمساءة، ولكن في الدنيا أفرادًا كثيرين يمكن أن يُسَمَّى كلُّ واحدٍ منهم سنمار، ولكنه يُلْقَى من حالق فلا تندقُّ عنقه، ويساق إليه الشر فلا يؤذيه، ويُكَاد له الكيدُ فلا يبلغ منه شيئًا، تستطيع أن تسميه سنمار الخالد؛ لأنه لا يبني لأصحاب السطوة والبأس، وإنما يبني للشعوب؛ ولأنه لا يبني للشعوب دورًا ولا قصورًا ولا شيئًا من هذه الآثار التي يبلغها البلى ويدركها الفناء، وإنما يبني لها فنًّا وأدبًا وفلسفةً وعلمًا وإصلاحًا. أَلَا تذكر مَصَارِع النابغين من الأدباء والعلماء والفلاسفة؟ أَلَا ترى أنك لا تزال تستمتع بآثارهم؟!» قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وسيستمتع الناس بعدنا بآثارهم، حتى يَرِث الله الأرض ومَنْ عليها!
وقد كتب توني جوت عن تدوينه في الآونة الأخيرة لتاريخ أوروبا ما بعد الحرب يقول: «هذا النوع من الكتب يقوم — في المقام الأول — على أكتاف الكتب الأخرى.» وأشار إلى أنه «في فترة الستين عامًا القصيرة من تاريخ أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية — في تلك الفترة دون غيرها — ثمة مخزون لا ينضب من الأدبيات الثانوية المكتوبة باللغة الإنجليزية».14 أما الوضع في الهند فمختلف كل الاختلاف؛ فالفجوات في متن معرفتنا هنا هائلة، وجمهورية الهند اتحاد مكون من ثمانٍ وعشرين ولاية، بعضها أكبر من فرنسا وألمانيا، إلا أنه حتى أكبر تلك الولايات وأهمها لم تنلْ نصيبًا من التأريخ؛ ففي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت الهند رائدة نهج جديد في السياسة الخارجية، وكذلك في السياسة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي، إلا أنه لم يصدر بعدُ سردٌ أمين أو حتى لائق لتلك التجارب، وأنجبت الهند رجال أعمال مغامرين ذوي رؤية وديناميكية هائلتين، ولكن قصص المؤسسات التي بنوها والثروات التي كوَّنوها معظمها لم تُروَ. كذلك لا توجد سِير لائقة لبعض الشخصيات الرئيسية في تاريخنا الحديث؛ مثل: الشيخ عبد الله، أو المُعلم تارا سينج، أو إم جي راماتشَندران، الزعماء «المحليين» الذين يساوي حجم المقاطعة التي تزعَّمها كلٌّ منهم حجم بلد أوروبي كبير.
إن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، وهو ليس في مكان حتى تكون السموات والأرض حجابًا بينك وبينه، فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببعض نفسه مشغول أيضًا عن الله، بل كل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه. ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه. فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غير المعشوق لبغضه شرك فيه ونقص. ولكن أحدهما أخف من الآخر، بل الكمال في أن لا يتلفت القلب إلى غير المحبوب بغضًا أو حبًّا، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله، كالمشغول بحبها، إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته في طريق القرب.٥
غير أن العبارة نفسها قد أثَّرت كذلك على الاتجاه المضاد الذي يُنكر أصحابه تراسل الفنون وتجاوبها ويرفض مبدأ المقارنة بينها رفضًا حاسمًا وكأنه «وباء علم الجمال الحديث» … فقد حذَّر شافتسبري «فنون النحت ١٧١٢م» من عقد المقارنات بين الرسم والشعر، ووصفها بأنها محاولات عقيمة وباطلة. ثم جاءت الضربة الكبرى لهذا الاتجاه كله من كتاب هام ذائع الصيت هو كتاب «لائوكون» (١٧٦٦م) لأديب عصر التنوير والكاتب والناقد المسرحي «ليسنج»؛ فقد نظر إلى الشعر والرسم من حيث علاقتهما بالزمان والمكان على الترتيب، وميَّزَ الأشكال الزمانية في الفن تمييزًا حادًّا من الأشكال المكانية، وبيَّنَ عواقب الخلط بينها في العمل الفني الواحد والتأثيرات الناجمة عن البنية الداخلية المختلفة في الشعر عنها في الرسم. ولقد كانت النظريات الفنية التي استندت إلى مبدأ «هوراس» هي في رأيه السبب الرئيس للاضطراب والخلط المؤسف بين الفنون في عصره. ثم جاء في عصرنا الحاضر من ألَّفَ «اللائوكون الجديد، مقال عن الخلط بين الفنون» (المؤلفة أيرفنج بابيت ١٩١٠م)، فأيَّدَ حجج ليسنج وشواهده — التي استمدَّها من الأدبَين الإغريقي والروماني — بحجج جديدة تؤكِّد عبث المحاولة كلها وتبسيطها المخل لطبيعة الفن والواقع على السواء.٧
قال: كان كريمًا حليمًا محافظًا على الطاعة، وصلاة الجماعة، وصوم الإثنين والخميس، وكان يلبس الواذاريَّ والبياض، وأشبهت أيامه بمحاسن سيرة الرياض، وكان لا يرى القتل ولا يسفك دمًا، ولا يهتك مُحَرَّمًا، وكان شديد الاحتمال، سديد الأفعال، حكى عنه أقضى القُضاة الماوردي أنه توجه في رسالة القائم إليه في سنة ٤٣٣، فكتب فيه كتابًا ضمنته الطعن عليه والقدح فيه، وغمط محاسنه وبسط مساويه، ووقع الكتاب من غلامي فحلَّ إليه، فوقف عليه ثم ختمه وكتمه، ولم يتغير عن عادة إكرامي، وشيمة احترامي. قال: وكذلك ذكر أن بعض خواصه كتب مُلطفات إلى الملك أبي كاليجار، يُطلعه فيها على بعض الأسرار، فوقعَتْ في يده فأخفاها، وداوى هفوته بحلمه وشفاها، وكان كثير الصدقات، حريصًا على بناء المساجد، مُتعبِّدًا مُتهَجِّدًا، ويقول: أستحي من الله أن أبني دارًا ولا أبني بجنبها مسجدًا.
عندما أتحدَّث مع طلابي عن الانغماس في القراءة، أسألهم هل سبق لهم الانتهاء من قراءةِ كتابٍ بالكامل في جلسة واحدة، أو قضاء عدة أيام في قراءة كتابٍ واحدٍ كبيرٍ؛ فيكشف طلابي عن دوافعهم الشخصية وراء الانتهاء من كتاب بالكامل، والبقاء مستيقظين حتى ساعة متأخرة من الليل للانتهاء من كتابٍ ما، أو قضاء كل لحظةٍ ممكنةٍ في قراءته: أردتُ الانتهاء من قراءة رواية «العدو» قبل انتهاء جيسون منها؛ خوفًا من أن يفسد عليَّ أحداثَها دون قصد. أسرَتْني رواية «القفل والمفتاح» ولم أتمكَّن من تركها من يدي؛ فقد كانت روبي أشبه بصديقةٍ لي، وأردتُ معرفةَ ما حدث لها. سيُطرَح جزء «الطائر المُقلد» الأسبوع القادم، وأردتُ إعادة قراءة «ألسنة اللهب» قبل ذلك الحين. تقرأ أليسا رواية «الأغلال»، فأردتُ الإسراع في قراءتها كي نتمكَّن من مناقشتها معًا. ظللتُ آمل في الوصول إلى نهايةٍ سعيدة [في أثناء قراءة رواية «وحوش بشرية»]، ولم أتمكَّن من التوقُّف حتى عثرتُ عليها.
كان الزهد قبل ذلك مأخوذًا عن الإسلام، ليس له عنصر آخر غير القرآن والحديث، فأخذوا الطريقة والمُريد كما كان عند النصارى الكاهنُ والمهتدي، وأخذوا منهم نظام الرهبنة مع أن القرآن يقول: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام»، وأخذوا من النصارى أيضًا حلقات الذكر ونظامها، وكان اسم المتصوِّف أولًا يطلق على الزُّهَّاد المتقشِّفين أمثال أحمد بن حنبل ثم أُطلِق على هؤلاء المبتدعين المقلِّدين للأمم الأخرى، فأُطلق على إبراهيم بن أدهم، وأُلْصِقت بحياته قصص تشبه قصص بوذا، مِن هَجْرِ الملك، ولبسه جُبَّةَ الراعي، وأصبح يمكن تقسيم التصوف وإرجاعه إلى عناصر مختلفة، بعضها نصراني، وبعضها يوناني، وبعضها هندي، ولكل فرقة رئيس، كما ظهرت فرقة المعتزلة وعلى رأسها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد كان من عملها فلسفة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أن الدعوة الإسلامية التي أتى بها محمد ﷺ دعوة بسيطة ساذجة، لا فلسفة فيها، تناسب حالة العرب وقت الدعوة، فجاء المعتزلة ورأَوُا الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية وبوذية وزرادشتية قد فلسفت أديانها، وتسلحت في براهينها بالأسلحة الفلسفية، فكان لا بد للمعتزلة أن يقابلوهم بالمثل؛ فيحاجُّوهم بالفلسفة، ثم عرضوا مبادئ الإسلام على الفلسفة كوحدة ذات الله وصفاته، ومثل وجوب العدل على الله، ووجوب مكافأة المثيب بالثواب، والمجرم بالعقاب؛ اعتمادًا على قوله — تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ثم تمسكهم بالقول بخلق القرآن ونحو ذلك.
#### (٥-٩) الصعود إلى عرفة في شدة المرض ثم نعود إلى قضية التياثنا فنقول: إننا بعد قضاء بضع ليالٍ على هذا المنوال بلغ منا النهك مبلغه، ثم كان لا بد من أن نصعد إلى عرفة قبل الوقفة، فأغمي علينا في الطريق، وسار بنا اللذان كانا معنا في العربة فؤاد بك حمزة والسيد حسين الغويني إلى منى، فاسترحنا هناك إلى الصباح ولكنه لم يكن بد من الذهاب تلك الساعة إلى عرفات فذهبنا إليها، وأنا على ما أنا عليه من الإعياء، ثم أفضنا مع الحجاج الكرام عائدين إلى منى؛ حيث بتنا ليلتين لقضاء المناسك، فما رجعت إلى مكة وقضيت المناسك إلا وكنت مريضًا جد مريض، ولم يثقل عليَّ ذلك لأن الحج الشريف تطهير وتمحيص، فرجوت أن يكون المولى سبحانه قد غفر لي ذنوبي الكثيرة التي يستحق تمحيصها أكثر من هذه الأوصاف، والله غفور رحيم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ.
ثم ما زال الأمير وصاحبه يُمجِّدان الحارس الأول في غَيْبَتِه، ويتذكَّران الكثير الطيب من سِيرته، وقد خَدَعَهما الحديث كعادته، فلم يَدْرِيا إلا بباب طيبة يلوح لهما كأنه الطَّوْد الشامخ أو البرج المَشِيد الباذِخ، وهنالك انتَحَيَا طريقًا مختصرًا إلى قرية البشنين، فاندفعا يسيران، وكانت على ذلك المكان، شجرة ملتفَّة الأغصان، متكاثفة الأفنان، كأنما أُرضعت الزمان، فلما صارا على خطوات منها ألْفَيَاها تَموج، وآنَسا عندها حركةً فارْتَابَا لأول وهلةٍ، وارْتاعا لما عسى يكون وراءَ الظلام، ولكنَّ العبد كان قد بلغها قبلهما فوقف، ثم التفت وراءه يُنادي: ليُقبِل مولاي في أمان، فإنهم رجالُه ينتظرون قُدومَه، فأقبل الأمير، وإذا «رادريس» يتقدَّم للقائه، فقبَّل يدَه ثم دعاه و«بنتؤُر» ليترجَّلا، ففعلا، وانثنى الأصحاب الثلاثة إلى الشجرة فلبثوا فيها برهة من الزمان، ثم برزوا في زيٍّ غير السابق المعتاد، وعلى جِياد غير تلك الجِياد، وعندئذٍ مَشَى العَبْد وسائر الرجال بالثياب والخيل، راجعين إلى المدينة، وسار الأمير وصاحباه لما هم إليه قاصدون.
وننتقل إلى مثال آخر، نأخذه هذه المرة من مدارس علم النفس — لنرى مرة أخرى، إذا كان بين تلك المدارس تضاد — كما قد يظن — أم أن الذي بينها تكامل، بحيث يجوز لنا القول، بأنه من الممكن للعالم الواحد من علماء النفس، أن يجمع كل تلك المدارس في مجال تطبيق واحد، فالموضوع الرئيس الذي يتناوله علماء النفس بالبحث العلمي، هو الصور السلوكية التي يتحرك بها الناس في حياتهم، وأرجو القارئ أن يتنبه جيدًا، بأن تلك الصور السلوكية إنما هي ظاهرة تراها أعين المشاهدين الراصدين، كأي ظاهرة أخرى في دنيا الأشياء، يشاهدها مراقبوها وراصدوها، لكن علم النفس — كأي علم طبيعي آخر — لا يقف أمام موضوع بحثه كما يقف منه عابر السبيل، بل هو يحلله ليرتد به إلى ينابيعه، فمن أين جاء، وكيف جاء؟ وهنا نرى علماء النفس يختلفون، وهم في اختلافهم ينقسمون قسمين كبيرين، كل قسم منهما يتفرَّع بعد ذلك إلى فروعه، فقسم منهما يقف عند ظاهرة السلوك نفسها، لا يجاوزها، فمنها نجد النتيجة ومنها أيضًا نجد القوانين العلمية التي تحكم تلك النتيجة، أي أن هذا الفريق من علماء النفس، يغضون النظر عما يجري في جوف الإنسان صاحب الصورة السلوكية المبحوثة، ويُسمى هذا الفريق بجماعة «السلوكيين»، لكن هنالك أكثر من جماعة واحدة، ترى أن منبع السلوك الظاهر للعين، إنما هو في باطن صاحبه، وإذن فلا بدَّ من تعقبه إلى مصادره هناك، وتلك الجماعات من علماء النفس، تعلم كلها بالطبع ما يعلمه بقية العلماء في سائر الميادين، وهو أن العلم يلتزم «الظاهر»، ولا شأن له بما يخفى عن حواس المشاهدة وأدواتها، إلا أن ذلك الذي يخفى عن العين والأذن، قد نستطيع استدلاله مما هو ظاهر، وعندئذٍ يصبح عملًا مشروعًا أمام المنهج العلمي، ومن هنا تأخذ تلك الجماعات في محاولاتها لاستدلال ما استبطنته النفس في غيبها، لتحرك به أطراف البدن الظاهرة بسلوكها، وعلم النفس بهذه المحاولات، يُسمونه بعلم نفس الأعماق، ليقابلوا به موقف السلوكيين في عدم مجاوزتهم للأسطح الظاهرة.
الصحة والمرض | ٥٢، ٥٣، ١٣٦، ١٤٣، ٢١٨، ٧٥٣، ٨٠١، ٩٧٤، ١٢٠٥، ١٣٠١، ١٣٠٣، ١٦١٠، ١٦٤٨، ١٧١١، ١٧٧٨، ١٨٣٤، ١٨٦٥، ١٩٣٤، ١٩٤٣، ١٩٩٨، ٢٠٢٢، ٢١٨٣، ٢١٨٥، ٢١٨٦، ٢٢٤٤، ٢٢٧٩، ٢٣٩٧، ٢٤٠٠، ٢٤٣٤، ٢٦٣٨، ٢٦٥٥، ٢٧٣٩، ٢٨٣٢، ٢٨٤٦، ٢٨٧٤، ٢٨٨٦، ٢٩٠٤، ٢٩٠٦، ٣١٢٧، ٣١٢٨، ٣١٦٤، ٣٢٢٧، ٣٣٨٦، ٣٨٥٦، ٣٨٦٣، ٤٠٣٣، ٤٣٢٨، ٤٣٧٤، ٤٣٩٨، ٤٤٧٧، ٤٤٧٨، ٤٥٥٢، ٤٥٧٥، ٤٥٨٠، ٤٥٩٧، ٤٥٩٩، ٤٦٢٧، ٤٦٣٩، ٤٧١٢، ٤٧٢٩، ٤٧٣٧، ٤٧٤٩، ٤٨٨٢، ٤٨٨٧، ٤٨٨٨، ٤٩٤٩، ٤٩٥٠، ٥٠٦٨، ٥٠٧٠، ٥١٠٣، ٥١٠٦، ٥١٥٥، ٥٢٠٢، ٥٢٦٠، ٥٣٣٠، ٥٤١٧، ٥٤١٨، ٥٤٢٠، ٥٤٢١، ٥٦٢٢
فلا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك والبروج التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري — جلَّ ثناؤه — يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبدٌ مُطيع للباري — تعالى — فقد أيَّدها بالعقل الكلي الذي هو مَلَك من ملائكته المقرَّبين: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ»، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وستعلم يا أخي حقيقة هذه الأسرار والمرامي إذا انتبهتَ لنفسك من نوم الغفلة، واستيقظتَ من رقدة الجهالة، وارتفعتَ في المعارف الربانية، وارتَضْتَ في العلوم الإلهية إذا بعثتَ يوم القيامة، وشاهدتَ ملكوت رب العالمين، ووقفتَ على جبل الأعراف مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
ويُوضَح خِصْبُ تلك البقعة من بعض الوجوه بامتداد الأدرياتيِّ في أزمنة ما قبل التاريخ عميقًا بعيدَ المدى نحو الغرب، وبفصله جبالَ الألب من جبال الأبنين في المكان الذي تَقَعُ فيه لُنْبارْدية في الوقت الحاضر، ولم يَحْدُث قَطُّ أن أضاع مزاياه العظيمة نهرُ الْبو الذي يَقْطَع ذلك السهلَ مع أضواجٍ٤ منسجمة بين جبال الألب البيمُونْتِيَّة ورافين، حتى إنه لُقِّبَ من قِبَل الأهالي ﺑ «النهر المحبوب المرهوب»، ويُنْتَفَع بأمتار الرمل المكعبة، البالغةِ أربعين مليونًا والتي ينقلها كلَّ عامٍ، في أعمالٍ صِناعية وفي إنشاءِ أسدادٍ وحواجزَ، أَجَلْ، إنه يأتي بالخِصْب، ولكن «وَيْلٌ للجميع إذا ما اقتلع حواجزَه!» كما يقول الأهلون. ويُقَاسُ هذا النهرُ بالطغَاة الخَطرين الذين ترتجف الشعوب في عهدهم مع انتصاراتهم، ومع ذلك تُوجَدُ قوةٌ ثانية تُعارَض بها الأولى، وهي غَزْوُ البحر للساحل غَزْوًا يمكن تشبيهه بما تبديه الجموع الشعبية من مقاومة، ولا تزال الريحُ القوية الكثيرة الهُبُوب تَزِيدُ قوةَ المقاومة هذه في شمال الأدرياتيِّ، ومع ذلك فإن بعض الحساب يدلُّ على أن ساحلَ الأدرياتيِّ الشماليَّ الغربيَّ سيصل بتقدُّمه الدائم إلى ساحل إِسْترْية المواجهِ في مائة وعشرين سنة، فبذلك يتحول خليج البندقية إلى بحيرة بَرِّيَّة على نَمَط بحيرة ماجُور، ومن الممكن أن نفترض عند ذكر بحيرة ماجور، وقوعَ تَحَوُّل هذه البحيرة وبحيرةِ كُومَ في أزمنة ما قبل التاريخ، وقد رأينا في آسية الصغرى أن تقدُّم نهر المِنْدَرة حَوَّل الخليجَ الواقعةَ عليه مدينةُ مِيلِه القديمة إلى بحيرة.
ثم بدا له أن يتجوَّل في بلاد القطر للوقوف على أحوال المسلمين من جهة أمور الدين وغير ذلك، شأن السائحين في كلِّ أمة وزمان، خصوصًا مَن حِرْفَتُهم إفادة العلوم من أئمة المسلمين، فتوجه إلى الصعيد سنة ١٣٠٥ﻫ ووِجْهَته مدينة أسوان، وعرج في طريقه على مدينة قنا لزيارة ضريح ولي الله سيدي عبد الرحيم القنائي، ونزل ضيفًا كريمًا على قاضي مديرية قنا في ذلك الوقت؛ إذ كانت بينهما صداقة وكيدة ورابطة أزهرية متينة، وبينما هو مار مع القاضي في بعض الشوارع إذ رآه بعض طلبة العلم وكان أوان عطلة الأزهر فتعلَّقوا به ورجوه في إقراء بعض الكتب فلبَّى طلبهم ودرَّس العقائد النسفية في علم التوحيد، وقد طُلِب منه أن يقرأ بعض كتب أخرى فاعتذر بالسفر، ولما حان وقت رحيله من قنا وُدِّعَ وداعًا شائقًا لائقًا بعالمٍ فاضل مثله، خصوصًا من الطلبة الذين اغترفوا من بحر علمه واستناروا بضوء فهمه، فغادر قنا والقلوب تشيِّعه وهي آسفة على فراقه داعية له بالسلامة في الحِلِّ والترحال.
* (٤) ومن النِّقاط الجُزئية التي لا ينبغي أن تَفُوتَنا في هذا التحليل، الوضع الدِّيني لأهمِّ المُمَثِّلين العرب في حركة نقد الاستشراق. فأنور عبد الملك وإدوارد سعيد مسيحيان مُقيمان في بلادٍ مسيحية، ومُهاجِران من أرضٍ إسلامية. ومن المؤكَّدِ أنَّ هناك اختلافًا واضحًا بين جِيلهما وجيل المُثقَّفين المَسيحيين العرب السابق في الموقِف من الحضارة الغربية. فجيل شبلي شميل وسلامة موسى كان يُدافِع عن الحضارة الغربية إلى حدِّ التعرُّض للاتهام بِمُمالأة الغرب. ولكن الجيل الذي نَتناوَلُه هنا بالبحث قد أثبتَ قدرًا كبيرًا من الموضوعية حتى قاد الهجوم على تصوُّر الغرب للشرق والدِّفاع عن المُجتمع والتاريخ الإسلامي. صحيح أنه يتحدَّث في مُعظَم الأحيان عن «الإسلام الحضاري»، لا عن الإسلام كعقيدة، ولكن هذا هو المُتوقَّع منه، لا لكونه مَسيحيًّا فحسْب، بل لكونه علمانيًّا قبل كلِّ شيء.
وقَدِيمًا مَهَّدَ الملك سليمانُ التلَّ الذي أُقيم عليه الهيكل الأول وسوَّاه، ثم أُقيم عليه الهيكل الثاني بعد إسارة بابل. وفي هذا التلِّ تبصر أولئك الكهنة والحرس، ويقع في جنوبه الغربي تلٌّ آخر يُوصَلُ إليه بجسرٍ، فيبدو أعلى من ذلك وأجمل. وعلى هذا التَّل الذي يُدْعَى بجبل صهيون شاد الملك داود صرحه في أيام سعادة وَلَّت، فيأمل اليهود عودتها. وعلى جبل صهيون هذا بنى الأغنياء بيوتهم، فكان حَيًّا لهم. وفي الأمام من جهة الشمال، قامت قلعة أنطونيا الرومانية البغيضة على الربوة التي اعتصم بها المكابيون، عندما ثار إسرائيل على عبَدة الأصنام قبل ذلك بمائتي سنة. وخلف تلك القلعة من جهة الشمال مستنقع لم يُقِمْ به غير الفقراء؛ ومن ثَمَّ ترى أن مَن يملك تلك القلعة يسيطر على الهيكل، والمداخل، وعاصمة أولئك القوم المشاغبين وجنوبِ ذلك البلد الضيق الواقع بين الصحراء والبَحْر المتوسط، فيمكن اجتيابه في قليل زمن.
توصف الكعبة بأنها أول بيتٍ بُني لتوحيد الله؛ وقد جاء في القرآن: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (سورة آل عمران).
– إِلَى أَيْنَ …؟ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ يُبْعِدُنِي عَنْ هَذِهِ الْغَابَةِ الْبَغِيضَةِ، وَسَأُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ بِلَادًا نَائِيَةً، سُكَّانُهَا أَوْدَعُ مِنَ الْحُمْلَانِ، وَكِلَابُهَا أَجْبَنُ مِنَ الْخِرْفَانِ، وَكُلُّ أَهْلِهَا يَعِيشُونَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، حَيْثُ يَعُمُّ السَّلَامُ، فَأَنْعَمُ بِلَذَّةِ الْحُرِّيَّةِ، وَأَسْتَنْشِقُ هَوَاءَهَا الْمُنْعِشَ، فَلَا أُضْطَرُّ إِلَى الِاخْتِبَاءِ نَهَارًا، وَحِرْمَانِ نِعْمَةِ النَّوْمِ لَيْلًا … و…
لم تكن أمريكا هي الوجهة الوحيدة التي قصدها توكفيل؛ فقد سافر إلى صقلية في عام ١٨٢٧، وهي الرحلة التي نتج عنها كتابه الأول. وبعد رحلته لأمريكا، سافَرَ إلى إنجلترا في عام ١٨٣٣، ثم إلى إنجلترا وأيرلندا في عام ١٨٣٥؛ متلهِّفًا إلى رصد تطوُّر الديمقراطية في أكثر الدول ليبراليةً في أوروبا، ومهتمًّا بالإدارة الحكومية اللامركزية التي وجدها في أمريكا، وراغبًا في دراسة الفارق بين الأرستقراطية الإنجليزية والأرستقراطية الفرنسية. وقد سافَرَ أيضًا إلى سويسرا في عام ١٨٣٦، وإلى الجزائر في عامَيْ ١٨٤١ و١٨٤٦، وقد كتب تقارير عن الفقر («تقرير عن الإملاق»، ١٨٣٥) والعبودية والمستعمرات. وفي عام ١٨٥٠، بعد أن ترك السياسة، انكبَّ على تأليف كتاب عن الثورة الفرنسية التي طالما تأمَّلَها، وهو المشروع الذي مات قبل أن يُكمِله، غير أنه نشر الجزء الأول منه، الذي كان بعنوان «النظام القديم والثورة»، وذلك في عام ١٨٥٦. كان توكفيل، بحسب قوله في خطاب لكيرجورلي، يسعى لأن يكون هذا الكتاب «عملًا عظيمًا» يُعَدُّ «مزيجًا، إن أردنا الدقة، بين التاريخ والتاريخ الفلسفي»، مما يقدِّم تقييمًا عامًّا ﻟ «مجتمعاتنا الحديثة» ومستقبلها المحتمل. وقد أعلن أن «قضيته الأساسية هي قضية الحرية والكرامة الإنسانية»، وبالرغم من أنه ترك السياسة، فقد بقي فيها بكتاباته، ومن خلال دراسته للتاريخ، درَّسَ للآخرين الفلسفة.
«أوه، جدًّا. شر هذا اليوم يكفينا. أنت تشير، بالطبع، إلى كونِنا مُحاصَرين في ذلك النهر الذي لا يُمكنني نطقُ اسمه، وعادةً يجب أن أُعطيَ بعض الاهتمام لهذه المسألة، لكن لا يُمكنني الآن؛ لأنَّني في مُنتصَف الفصل الأكثر إثارة في هذا الكتاب الأكثر إثارة. وبمجرد دخولنا الفخ، ماكيلر، سنَدرُس بناءه ونجد مخرجًا. يبدو لي أن هناك القليل من الاستخدام العملي في دراسة فخٍّ وهمي قد لا يكون موجودًا عند وصولنا. وهذا يُؤدِّي إلى خيبة أمل. دعنا أولًا ندخل في الفخ إذا استطعنا؛ ثم إذا لم يكن هناك مخرج، فسوف نواسي أنفسنا من خلال معرفة أن هناك الكثير من المؤن والكتب التي يُمكن قراءتها على متن اليخت. وإذا ازدادت الأمور سوءًا، فسنعمل على تشغيل التلغراف اللاسلكي لدينا حتى نَلتقِط سفينةً مجهَّزة بتلغرافٍ لا سلكي أيضًا، ومن ثمَّ نتواصَل مع كلارك راسل، ونُخبره بموقعنا، ونسأله عما يجب فعله. أراهنك بخمسة جنيهات أنه سيرسل حلًّا للمشكلة.»
#### الفصل الرابع * Avi Schlaim, in The Guardian, 29 March 2003. * M. Buber, Israel and Palestine (London: East and West Library, 1952). * M. Bakunin, God and the State, in Bakunin on Anarchy, ed. Sam Dogloff (London: Allen and Unwin, 1973). * N. Walter, cited in Colin Ward, ‘Fundamentalism’, in The Raven, 27, Vol. 7, No. 3 (London: Freedom Press, 1994). * Malise Ruthven ‘Phantoms of ideology’ in Times Literary Supplement, 19 August 1994. * R. Rocker, cited in W. J. Fishman, East End Jewish Radicals 1875–1914 (London: Duckworth, 1975). * E. W. Said, Culture and Imperialism (London: Chatto and Windus, 1993). * Fatima Mernissi, Women and Islam: An Historical and Theological Enquiry (Oxford: Basil Blackwell, 1991).
Nous avons besoin, pour les (les peuples) diriger, d’avoir des intermédiaires; nous devons leur donner des chefs, sans quoi ils s’en choisiront eux-mêmes. J’ai préféré ces ulimas et les docteurs sont les interprètes du Coran, et que les plus grands obstacles proviennent des idées religieuses; 3e. parce que les ulimas ont des moeurs douces … sont sans contredit les plus honnêtes gens du pays … ne savent pas monter à cheval, n’ont pas l’habitude d’aucune manoeuvre militaire, sont peu propres à figurer à la tête d’un movement armé. Je les ai interessés à mon administration. Je me suis servi d’eux pour parler au peuple, j’en ai compose les divans de justice … Napoléon: “Campagnes d’Egypte”, Vol. II, pp. 151 sq. voir aussi “Correspondance” vol. XXX, 83–4.
وقد عرفنا مما فصلناه أن تأثير الانتخاب الطبيعي مقصور على الاحتفاظ بضروب التحولات التي تكون بحال ما ذات فائدة للصور الحية، احتفاظًا يجعلها فيما بعد من الصفات الخاصة بتلك الصور الراسخة في طبائعها، والكائنات العضوية إذ كانت بطبيعتها تزداد زيادة مستمرة بنسبة هندسية كبيرة، فإن كل بقعة من البقاع تصبح مشحونة بما يأهل بها، يستتبع ذلك أن الصور المهذبة المنتقاة تزداد في العدد، حيث ينقص عدد الصور المنحطة المستضعفة، فإذا استبان لنا أن الندرة أول درجة من درجات الانقراض الظاهر، كما يُستدل عليه من علم الجيولوجيا، استطعنا أن نستنتج أن صورة ما من صور العضويات إن قل عدد أفرادها، فذلك شوط بعيد تقطعه في سبيل انقراض محتوم يهيئ أسبابه تقلب الأعاصير الطبيعية خلال فصول السَّنة، أو تضاعف عدد أفراد منافسيها الذين ينازعونها مركزها الطبيعي في الوجود. وليست المسألة مقصورة على ذلك، فإنه إذا ثبت لدينا أن الصور النوعية تستطيع أن تزداد في العدد زيادة غير محدودة، فإن كثيرًا من صورها القديمة ينقرض عند ظهور صور جديدة في عالم الحياة، وعلم الجيولوجيا خير دليل يثبت لنا أن الصور النوعية لم يزد عدد أفرادها زيادة غير محدودة في حالة من الحالات، وسنظهِر الآن كيف أن عدد أفراد الأنواع لم يبلغ النهاية القصوى في الازدياد في أي بقعة من بقاع العالم.
قال: «مِن غير المجدي أن تعرف أين سأصحبك.» ثم رمى بالبوصلة وسط السُّحب، وأكمل: «لا بأس بالسقوط. أتدري أنه كان هناك ضحايا لرحلات المناطيد منذ زمن بيلاتر دي روزيير وحتى الملازم أول جيل، ودائمًا ما تكون هذه الحوادث المؤسفة بسبب التهوُّر والطيش. لقد صعد دي روزيير بالمُنْطاد بصحبة ريمان في بولوني في الثالث عشر من يونيو عام ١٧٨٥. أوصل دي روزيير بمُنْطاده المملوء بالغاز مُنْطاد مونغولفييه المملوء بالهواء الساخن؛ للتغلب — بلا شك — على مشكلة إطلاق الغاز أو إلقاء أي ثقالات. كان الأمر يشبه وضع برميل مملوء بالبارود فوق صفيح ساخن. صعد الرجلان المتهوران إلى ارتفاع أربعمائة متر، وواجها ريحًا مضادة دفعتهما للتحليق فوق المحيط. لكي يَهبطا، حاول دي روزيير فتح صمام المُنْطاد، لكن حبل الصمام تعلَّق بالمُنْطاد ليمزقه، وفرَّغ الهواء في لحظة، ووقع فوق مُنْطاد مونغولفييه الذي انقلب وسقط الرجلان المتهوِّران وتمزَّقا قطعًا صغيرة في ثوانٍ. أمرٌ مرعب، أليس كذلك؟» أخرجني سؤاله من حالة الجمود التي كنتُ فيها.
#### الحصان الأبيض وكان الشراب من الوسكي الشهير «الحصان الأبيض»، وأنا لم أتعود من أنواع الشراب إلا الماء والقهوة، فلما دارت الأنخاب اضطررت إلى رفع كأسي، وكنت في كل مرة أكرع أحسُّ بمرارة في فمي وحلاوة في حديثي، وصرت أضحك للاشيء، وأتخيَّل كل شيء. شعرت بالخفة في رجلي كأنهما أصبحتا مجنَّحتين، وبالثقل في رأسي كأنه تُوِّج بالحديد. انتهت الجلسة، ونزلت السلم إلى غرفتي، بل تدحرجت عليه. قعدت في فراشي، ومرت بي مواكب الأوهام. عاودتني الهواجس في مس هدسون؛ هذه أفاعي الهند تهاجمها، فينبغي أن أحذرها منها، ها هي الشمس تمطر نيرانها، وأنا لم أَرَ في يد الفاتنة شمسيةً، بل لماذا لا أقدم لها شمسيتي؟ فتحت حقيبتي، وأخذت منها المظلة، وأنرت الغرفة، وخرجت منها والشمسية في يدي عند منتصف الليل، التقيت بالخادم فسألته عن … عن … آه … نسيت اسمها. رجعت إلى الفراش، وكان صباح؛ فاستفقت، فإذا بالجفاف يكاد يحرق فمي، شعرت بصداع شديد في رأسي. ذراعي كالخشبة قبح الله «الحصان الأبيض» وألحقه بأدباء اسكوتلندا. لم أذق من الشراب إلا الماء والقهوة، وسنرجع إلى الماء والقهوة. إن ربك غفور رحيم.
أنزل أهله بدار بحي الروم بالقرب من الباب المحروق، وأول شيء أوحى إليه به دهاؤه أن يغير اسمه، فسمَّى نفسه زين الدين بن نجا، وأن يظهر الزهد والقناعة والتبتل، وأن يدعي أنه من الطائف بالحجاز، ثم رأى أن خير وسيلة تقربه إلى قلوب العامة والخاصة أن يُظهر غيرته على المذهب الفاطمي، وشدة التمسك به، وإذاعة محاسنه وفضائله، فتنقل في المساجد والجوامع يخطب في فضل المذهب، ومناقب آل النبي، وكان فصيح اللسان، قوي الحجة، حاضر البديهة، قصاصًا بارعًا، فكه الحديث جذابًا؛ فالتف عليه الناس، وجاء بعض رجال القصر ليستمعوا له بعد أن طارت إليهم شهرته، وكان أحفل أهل القصر به وأكثرهم به ولوعًا: إبراهيم بن دخان رئيس ديوان الرواتب بالدولة الفاطمية، وكان ابن دخان في نحو الأربعين، معتدل الطول، نحيف الجسم، أسمر اللون، له عينان شديد سوادهما، بيسراهما حول خفيف لم يذهب بما لها من تأثير نافذ وقوة مسيطرة. وكان أنفه كأنوف أكثر المصريين، كاد يكون أفطس، لولا أن تداركه ارتفاع وبعض استواء في قصبته، وكان بشفته السفلي بعض الغلظ دفعها إلى التدلي قليلًا، وكأنه أحس هذا النقص، فهو لا يفتأ يجمع شفتيه كلما خطر له هذا الخاطر. وكان وجهه في جملته يدل على الشره والشهوانية، والختل والأثرة، وكان ابن دخان عارفًا بتاريخ مصر واسع الاطلاع فيه، وكان يحب مصر، أو يحب نفسه، ويحب المذهب الفاطمي، أو يحب نفسه، فكلما استطاعت مصر أن تدر عليه الأموال، وتهيئ له عيشة البذخ والنعيم أحبها، وكلما استطاع المذهب الفاطمي أن يمنحه الجاه والنفوذ أحبه ونافح دونه. دعا ابن دخان مرة الحراني إلى داره أو زين الدين بن نجا — كما اختار أن يسمي نفسه — وبعد أن نالا من طعام العشاء جلسا في روشن يطل على خليج أمير المؤمنين، وتنقلا في ضروب من الحديث، فقال ابن دخان: كيف رأيت القاهرة يا سيدي الشيخ؟
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا
فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وملكة تأثيرها «لو كانت مخلدة»٥٦ إليها منقادة٥٧ لها من كل وجه؛ ولذلك٥٨ قال٥٩ القائل الحق: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. فإن دام هذا الفعل من الإنسان، استفاد ملكة التفات إلى جهة الحق وإعراض عن الباطل، وصار٦٠ شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية. وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله، وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه٦١ في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره؛ لكان جديرًا بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ،٦٢ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى،٦٣ وبإرسال الله تعالى،٦٤ وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنما هو٦٥ مما وجب من عند الله أن يسنه،٦٦ وأن جميع ما يسنه من عند الله تعالى٦٧ فالنبي فُرض عليه٦٨ من عند الله أن يفرض عبادته؟ ويكون الفائدة في العبادات للعابدين فيما يبقى به فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم، وفيما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بزكائهم.
توهموا السحر ما توهموه، فلما أنزل الله كتابه قالوا: ها هو السحر المبين. وكانوا يأخذون في ذلك بباطن الظن فأخذوا هذا بحق اليقين أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ومن الشعر ما تسمعونه أم أنتم لا تسمعون؟ بل إنه لسحر يغلب حتى يفرق بين المرء وعادته، وينفذ حتى ينصرف بين القلب وإرادته، ويجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء، وإنَّه لسحر، إذ هو ألحاظ لم تعهد من كلم أحداقها، وثمرات لم تنبت في قَلَمٍ أوراقُها، ونور عليه رونَقُ الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماء يتلألأ كالنور فكأنما عُصِرَ من النجوم،٤ وبلى إنه لشعر ولكنَّ زنة مبانيه في معانيه، وزينة معانيه في مبانيه، فكل معنى ولا جرم من بحر، وكل لفظ كلؤلؤة في النحر، وإنَّه لشعر، إذ هو آيات لا يجانس كلامَها البديعَ غيرُ كمالها، وحقيقة في الوجود لم يكن يُعرف غيرُ خيالها، ومرآة في يد الله تقابل كل روح بمثالها.
#### (٨-٨) جمعية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس * قسم الرجال: تأسس في أول سبتمبر سنة ١٩١٥، وكان عدد أعضائه ٢٣ عضوًا، وتولى الرياسة حضرة الأديب سليم أفندي قبعين، ثم تولاها حضرة صاحب العزة نعوم بك شقير. وكان الغرض الأساسي للجمعية منحصرًا في إسعاف الفقراء، ومعالجة مرضاهم سواء في بيوتهم أو في المستشفيات، ودفن موتاهم. ثم أنشأت مدرسة تحضيرية لأولاد الفقراء، يكفلها صاحب العزة ميشيل بك لطف الله، ويدفع ثلاثة أرباع نفقاتها. ومن أعمال هذه الجمعية أنها تعين كل منكوب من صغار التجار والصناع برأس مال يستأنف به عمله، وتقيم من حين إلى آخر حفلات أدبية فكاهية راقية، وتوزع الدقيق على ١٠٤ عائلات، وتكسو تلاميذ المدرسة مرة في الصيف وأخرى في الشتاء، وتوزع اللحم والأرز والسكر والنقود والملابس على الفقراء في عيدي الميلاد والفصح. * قسم السيدات: أنشأته السيدتان الجليلتان إلين سرسق ولوريس لطف الله، وتشترك معهما في إدارته نخبة من السيدات الأرثوذكسيات، والغرض من هذا القسم إعداد البنات الفقيرات لأن يكنَّ ربات بيوت أو خياطات ماهرات، فأنشأت لهن الجمعية قسمًا للبنات الصغيرات، يتعلمنَ فيه القراءة والكتابة، ثم ينتقلن إلى المشغل، فيتعلمن تفصيل الملابس، وخياطتها على أحدث الأزياء. وتقدم الجمعية إلى كل من تلميذات المشغل أجرة بحسب كفاءتها، يحجز منها ٥ في المائة تحفظ للتلميذة في خزينة المشغل حتى تعطى لها مساعدة عند زواجها. ولكل جمعية إدارة خاصة، ولكنهما تتعاونان على إتمام الأعمال الخيرية، وتقتسمان دخل الليلة الخيرية السنوية التي تقيمانها في دار الأوبرا السلطانية.
أما عبد الحميد فدخل غرفة الكتابة ليخلو إلى نفسه، وما دخلها حتى تنفس الصعداء وقال: «ويل لهم! إنهم يفتكون برجالي، إنهم غير الأحرار السابقين الذين كنت أبتاعهم بالأموال. متى كان أولئك الملاعين يعرضون أنفسهم للقتل ولا يبوحون بالسر؟! حتى النساء صرن كالرجال شدة وبطشًا!» وتذكر القادين وشيرين فقَفَّ شعر رأسه، وقال: «ويلٌ لك يا أرمنية! لقد خرجت من يلدز حية مع جنينك لأنني أخطأت بالتسويف في أمرك، وكان ينبغي أن أقتلك حالًا. ويلاه! قد خرجت ونجت ولا تلبث أن تضع طفلها، وهو الذي سيكون شؤمًا عليَّ! هل أفل نجم سعدك يا عبد الحميد وانقلب الزمان عليك؟» قال ذلك وقد غص بريقه وبكى بكاءً حقيقيًّا، ثم تشدد ووثب وهو يقول: «متى اتحد أولئك الملاعين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم؟! لا ينبغي أن أيأس وأنا عبد الحميد، وقد غالبت أولئك الغلمان ثلاثين سنة وغلبتهم، أفيعجزني أمر هذه الشرذمة؟ لا بد من التفريق بينهم، ولا بد من الفتك بهم.»
أمثلة على الانحياز إلى الإغفال لم ترد في متن الكتاب: * عادةً ما تكون وسائل الإعلام ضحية للانحياز إلى الإغفال. فمثلًا الأفعال البطولية التي تمنع كوارث، أي التي تتخذ إجراءاتٍ وقائية، عادةً ما لا تكون مرئية بالنسبة إلى المراسلين الإخباريين. وليس من المرجَّح أن يكتب صحفيٌّ تقريرًا صحفيًّا عن كارثة حريق مُنِعت من خلال إجراءاتٍ وقائية اتخذها الشخص، هذا بالرغم من أن مقاومة النيران نتائجها أقل فعاليةً من نتائج الوقاية ضد الحرائق. * إن ما يخصُّ السِّيَر الذاتية هو ذاته ما ينطبق على ميزانيات المؤسسات: الفرص الضائعة لا تظهر فيها. ليس من المفترض أن ينتهز أحدٌ كلَّ الفرص، ولن يسعه ذلك. ومَن يحاول ذلك فسوف يُبعثِر جهوده. توجد فرصتان أو ثلاث على الأرجح في الحياة (ليس عشرًا ولا مائة) ينبغي للمرء ألا يفوِّتها. احتَفِظ بهذه المعلومة في اللاوعي لديك؛ وبذلك ستكون مستعدًّا عندما تحين الفرصة. * يبدو لنا فَصْلُ زميل غير كفء من العمل أقل ضراوة من تعيين زميل عمل غير كفء. لكن الأمرين سيئان بالقدر نفسه. * انحياز الإغفال بعبارات الكاتِب ماكس فريش: «ما عدد أطفالكم الذين لم يأتوا إلى الحياة بمحض إرادتكم؟» * الآباء الذين يرفضون تطعيم أطفالهم يريدون تجنُّب مخاطرة أن يُصيب أطفالَهم المرض بسبب التطعيم (وهو أمر قد يحدث فعلًا لكنه ليس مرجحًا). وبهذا فإنهم يختارون المخاطرة الكبرى وهي ألا يتلقى أطفالهم الحماية. هذا بصرف النظر عن أن كلَّ البشر الآخرين الذين يمكن أن يُصابوا بالعدوى بسبب هؤلاء الذين لم يحصلوا على التطعيم.
قَالَ باسبارتو: «لَا، لَقَدْ بَدَأْتُ الْعَمَلَ لَدَيْهِ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ الَّذِي غَادَرْنَا فِيهِ. عَلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ الْآنَ؛ فَيَجِبُ أَنْ أَشْتَرِيَ بَعْضَ الْقُمْصَانِ الْجَدِيدَةِ لِسَيِّدِي قَبْلَ عَوْدَتِي عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ؛ فَنَحْنُ فِي طَرِيقِنَا إِلَى بومباي بَعْدَ ذَلِكَ!»
تبلغ نسبة احتمالية الإصابة بسرطان القولون والمستقيم (تضمَّنته دراسة فولجشتاين وتوماسيتي) طوال العمر في المُطلق ٤٫٥ في المائة،8 فيما تبلغ نسبة احتمالية الإصابة بسرطان الدماغ أو الجهاز العصبي (كان الورم الأرومي الدبقي نوعًا من سرطان الدماغ وَرَد في الدراسة) في المطلق ٠٫٦ في المائة، وهي نسبة أقل بكثير.9 بعبارة أخرى، تبلغ احتمالية الإصابة بسرطان القولون والمستقيم ٧٫٥ أمثال احتمالية الإصابة بالورم الأرومي الدبقي. (الغريب أنَّ كِبَر العدد المُعبِّر عن احتمال الإصابة النسبي قد يجعل احتمال الإصابة بسرطان القولون والمستقيم يبدو أعلى من المتوقَّع.) تحاول هذه الدراسة المعنيَّة تفسير الاختلاف الكبير بين احتمالية حدوث هذَين النوعَين من السرطان (وأنواع أخرى)، وليس الهدف منها تفسير سبب إصابة أي شخص بالسرطان. لذا، فبعد ذلك بأقل من أسبوعَين، بذلَت كوزين فرانكل مجهودًا جديرًا بالإعجاب في محاولة فهم الأخطاء التي وقعت فيها، وصحَّحتها قائلة: «بعض الأنسجة يجتاحها السرطان بسهولة أكبر من غيرها، والطفرات التي تحدث في الخلايا الجذعية تُفسِّر ثلثَي هذا التباين».10
تمثل أعظم إسهامات العالم الجديد في تغذية أوروبا في محصول السكر الذي كان يُنتج في جزر البحر الكاريبي. كان كولومبوس قد جلب قصب السكر من جزر ماديرا البرتغالية خلال رحلته الثانية، وكان البرتغاليون قد نقلوا زارعة السكر من ساو تومي قبالة سواحل غرب أفريقيا إلى مستعمرتهم في العالم الجديد البرازيل في بواكير القرن السادس عشر. ونتيجة لسرعة استهلاك الذهب الموجود في سان دومينجو، تحول المستعمرون إلى إنتاج السكر باعتباره مصدر ربح أكثر ضمانًا، وساعد المسئولون عن المستعمرات الإسبانية في ذلك بتوفير قصب السكر المستخدم في غرس المحصول، والعبيد العاملين في الحقول، ونجحت زراعة القصب وازدهرت سريعًا رغم أنها من الزراعات الكثيفة التي تتطلب جحافلَ من العبيد. وكانت أولى الأمثلة على الزراعة الرأسمالية المصانعُ التي أقيمت في الحقول، والتي لم تكن معروفة في العالم الأوروبي الذي لم يكن يعرف سوى الزراعة التي يتعاون فيها أبناء العائلة الواحدة فقط. وازدادت أعمال الفلاحة — الشاقة بطبيعتها — قسوةً مع استعباد العمال وضربهم لإجبارهم على العمل بكد أكبر. حتى إن النسبة بين الجنسين في عمالة زراعة قصب السكر كثيرًا ما بلغت ٣٠ رجلًا إلى امرأة واحدة في المزرعة. وسرعان ما حقق السكر شعبيةً وانتشارًا واسعًا في أوروبا. وسرعان ما استولى الإنجليز والهولنديون والفرنسيون على جزر خاصة بهم بالكاريبي خلال القرن السابع عشر بهدف استغلالها لزراعة هذا المحصول الجديد والمربح.
كنت أجد في نفسي دائمًا معاني متشابهة، وآراء متقاربة، تدور في دائرة، وتسير في اتجاه مرسوم، لا تحول ولا تزول، مهما عاقت العوائق، وحالت الحوائل، وهي هذه الآيات من الكتاب العزيز: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ، لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
تَفْرِيقُنَا؟ وَمَنِ الَّذِي يَقْوَى عَلَى قَلْبَيْنِ ضَمَّهُمَا الهَوَى لِيُفَرِّقَا؟ إِنْ كُنْتُ أَعْرَقَ مِنْكِ فِي نَسَبٍ لَدَى قَوْمِي، فَلَسْتُ لَدَى إِلَهِي أَعْرَقَا وَاللَّهِ فِي عَيْنَيْكِ خَطُّ نَصِيبِنَا وَأَرَاهُ مِنْ تَارِيخِ مَجْدِي أَصْدَقَا
والواقع أن فكرة المشيئة، أو القدرة على الفعل تبعًا للقوانين الضرورية وعدم الفعل تبعًا لهذه القوانين، إنما هي، كما يؤكد اسپينوزا تشبيه للطبيعة الإلهية بطبيعة الناس، ولا سيما الملوك؛ أي إن الطبيعة الإلهية تُتصور في هذه الحالة على مثال طبيعة الملوك المستبدين، الذين لا يسلكون إلا اعتباطًا، ولا يلتزمون بقانون،٣٢ ولكن من المحال، في رأي اسپينوزا، أن يبدأ المرء في فهم الطبيعة الإلهية إلا إذا حرص بكل دقة على أن يتجنب الخلط بين القدرة الإلهية وبين القدرة البشرية وحق الملوك٣٣ «فالكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه بالله أو الطبيعة، يفعل بنفس الضرورة التي يوجد بها … والسبب أو العلة التي يوجد من أجلها الله أو الطبيعة، والسبب الذي من أجله يفعل، هو سبب واحد.»٣٤ أما فكرة العرضية، التي يعتقد عادةً أن فيها إعلاء للطبيعة الإلهية أو توسيعًا لنطاق قدرتها، فإن مصدرها الوحيد هو الجهل، «فالشيء لا يمكن أن يُسمَّى عرضيًّا إلا بالنسبة إلى نقص معرفتنا.»٣٥ وإذا اكتمل علمنا، فإن الضرورة هي التي تغدو سائدة؛ إذ إن الأشياء، إذا ما نُظر إليها في ضوء المعرفة الكاملة بها، تكون إما ضرورية أو مستحيلة. وهي لا تبدو عرضية إلا نتيجةً لجهلنا بالأسباب. وهكذا كان دفاع اسپينوزا عن فكرة الضرورة، حتى في مجال الفعل الإلهي، هو في واقع الأمر دفاع عن قابلية الأشياء للمعرفة، وليس أدل على ذلك من قوله: «إن من الواجب رفض فكرة حرية المشيئة الإلهية، لا لأنها عقيمة فحسب، بل لأنها أيضًا عقبة كأْداء في طريق المعرفة.»٣٦
يمكن أيضًا استخدام الأفلام كأدوات تعليمية في العلوم التطبيقية مثل الطب. فمصطلح «التعليم بالسينما» يصف طريقة استخدام الأفلام التجارية في تدريس الطب عن طريق عرض مواقف وإثارة أسئلة حول شتَّى القضايا الطبية.11 وفي حين أن هناك عددًا قليلًا من الأفلام قد تكون ذات فائدة في دراسة تشريح الجهاز الدوري، فإن العلاج الطبي أوسع نطاقًا من التشريح والعقاقير والإجراءات الطبية. فممارسة الطب تتضمَّن أبعادًا نفسية واجتماعية وتبادلية بين الأشخاص تُجيد الأفلام تصويرَها (أو تُسيء تصويرَها، وهو ما قد يكون مفيدًا أيضًا). * تأثير الأمراض المزمنة على العائلة: يصوِّر فيلم «صُلْب ماجنوليا» (ستيل ماجنوليا) الأثر الذي تتركه إصابة امرأة شابة بمرض قاتل على أمها وعائلتها الممتدَّة. * تبليغ أخبار سيئة: المشهد الذي لا يُنسى في فيلم «شروط التحبُّب» (تيرمس أوف إنديرمينت) الذي يقوم فيه طبيب، وهو يشعر بضيق بالِغ، بإبلاغ مريضه بحقيقة مرضه، يتناقض مع الشكل المثالي للتواصل بين الطبيب والمريض. * أمراض الأطفال: يدور فيلم «زيت لورينزو» حول زوج وزوجة يخوضان صراعًا للتغلب على مرض ابنهما المزمن. ويتم تسليط الضوء على تأثير ذلك على علاقتهما الزوجية، فضلًا عن محاولة الأم استكشاف كل وسائل العلاج الممكنة.
* ثانيًا: الأوراق البردية التي كانت تحتوى على موضوعات إدارية أو قضائية أو أدبية، وخلافًا لهذه المصادر فإن كل ما عثرنا عليه متشابه وعلى وتيرة واحدة، وأعنى بذلك النقوش التي عثرنا عليها في المقابر والمعابد، وكانت ترمي إلى غرض شخصي، فمثلًا لم يكتب الملك على جدران معابده انتصاراته على أعدائه في حروبه إلا ليظهر قوته وسلطانه، ولم ينقش معاهدة صلح إلا ليظهر ما كسبه من أعدائه ونفوذه عليهم، وكذلك لم يسرد فرد من عظما القوم تاريخ حياته إلا ليظهر ما ناله من الحظوة عند مليكه لما قام به من الأعمال الجليلة له. أما باقي النقوش التي عثرنا عليها وهي الجزء الأكبر فكلها دينية محضة، وذلك لأنه لم يصلنا شيء من الكتابات الدنيوية إلا النزر اليسير، وسبب ذلك أن المصريين قد أقاموا في «الوجه القبلي» مقابرهم ومعابدهم في الجبال وعلى حافة الصحراء، وشيدوها من الحجر الصلد أو نحتوها في الصخر فبقيت لنا إلى الآن بما فيها من نقوش، أما مدنهم التي كانت تقام في الوادي المنزرع، والتي كانت تبنى باللَّبِن فإنها قد محيت آثارها إلا بقايا قليلة جدًّا، وانمحى معها كل ما خلفوه من الكتابات التي كانت تدون على البردي إلا بعض أوراق نعثر عليها من وقت لآخر.
لم يكن يتوقع الكثير، لكنه توقع كلمة أو كلمتين، فلم يقتصر الأمرُ على عدم النطق بالكلمات، بل لم تلتفت السيدة برأسها حتى لترى إن كان سيركبُ الترام نفسَه أم لا. لقد سارت في الممر، واتخذت مقعدًا موليةً إياه ظهرَها، وجلسَت من دون حَراكٍ حتى ابتعدَت عن النظر. لن يُفيدَه في شيء معرفةُ خط الترام الذي ركبَته أو في أيِّ اتجاه ذهبَت. فربما تستقلُّ أيَّ ترام وربما تتركه بعد ميدانٍ أو ميدانين لتنتهزَ أسرعَ فرصة للهروب منه. لقد رحلت وهي السيدة جيمس لويس ماكفارلين، ومعها الوثائقُ اللازمة والخاتَم الذي قدَّمه في اللحظة المناسبة لإصبَعٍ تردَّد في قَبوله، وها هو الآن قد تُرِك واقفًا على الرصيف، وأفضلُ تصرف يمكن فعله هو تدبرُ الوسيلة التي يستطيع بها الوصولَ إلى المنزل سريعًا وإعادة ملابس سيد النحل إلى مكانها المعتاد. لقد أدى دور العروس من دون شيء في المقابل، ولا حتى كلمة «شكرًا». إذا أراد انتزاعَ أي مشاعر رومانسية من الأمر، فعليه أن يتذكرها من القُبلات المالحة التي اجتاحت وجهَه الليلةَ الماضية. وبكل أمانة، عليه أن يُقر بأنه لو كانت الصخرة التي جلسا عليها هي وسيلةَ إنقاذ الفتاة، لربما كانت قبِلَتها بالقدر نفسِه من الإقبال، أو ربما أكثر.
# إلى صنين أَنْتِ يَا صَنِّينُ جَانٌ أَلْهَبَتْ نَفْسُكِ حِسِّي أَنْتِ أَنْشَدْتِ أَمَامِي نَغَمَاتِ المَجْدِ أَمْسِ حِينَمَا كُنْتُ عَرِينًا لِفَتًى أَضْحَى بِرَمْسِ مُطْمَئِنًّا أَنَّ مِنْ نَفْـ ـسَيْكُمَا كَوَّنْتُ نَفْسِي فَأَنَا أَحْيَا وَأَحْلَا مِيَ مِنْ حَوْلِي بِعُرْسِ أَتَمَشَّى فَوْقَ بُؤْسِ النَّـ ـاسِ مَشْغُولًا بِبُؤْسِي كُلَّمَا مِلْتُ أُرَانِي قَرَعَ الكَوْكَبُ رَأْسِي
وصل كتابك فصادفني قريب العهد بانطلاق من عنت الفراق، ووافقنى مستريح الأعضاء والجوانح من جوى الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف في تبديل الأشكال، وأعتقني من مخالتك عتقًا لا تستحق به ولاء، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجب دركًا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك، بيدي جفائك، ورش على ما كان يضطرم في ضميري من نيران الشوق بالسلو، وشن على ما كان يتلهب في صدري من الوجد ماء اليأس، ومسح أعشار قلبي فلأم فطوري بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعوض عن النزاع إليك نزوعًا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعًا دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عني غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حذر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجود خليقتك، فلم أجد إلا منكرًا، ولم ألق إلا مستنكرًا، فوليت منهم فرارًا وملئت رعبًا، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذمم عهدك.٥
كان من آثار المذهب الإنساني العمل على سلخ الفلسفة عن الدين، أو بعبارة أدق، العمل على إقامة الفلسفة خصيمة للدين، والحملة على الفلسفة المدرسية بالتهكم على لغتها وبحوثها وطريقة استدلالها، بل الحملة على العصر الوسيط بجميع مظاهره، ورميه بالجهل والغباوة والبربرية، وكان ما هو أخطر من هذا: كان أن تسرب المذهب الإنساني إلى المسيحية نفسها، وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل، فما كانت البروتستانتية في البدء إلا «احتجاجًا على الغفرانات» ودعوى إصلاح في الإدارة الكنسية والعبادة، ثم زعمت أن الدين يقوم على «الفحص الحر» أي الفهم الخاص للكتاب المقدس، وعلى التجربة الشخصية، بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب، ثم تناولت العقائد بالفحص الحر فذهبت فيها كل مذهب، وبددت علم اللاهوت غير محتفظة إلا بعاطفة دينية عاطلة من كل موضوع، قام لوثير (١٤٨٣–١٥٤٦) وزڤنجل (١٤٨٤–١٥٣١) وكلفان (١٥٠٩–١٥٦٤) يزعزعون العقيدة الفلسفية وينشئون الكنائس المستقلة وقام هنري الثامن (١٥٠٩–١٥٤٧) يقهر الانجليز على إنكار الكثلكة، وقام غيره من الملوك والأمراء يناصرون المبتدعة قضاء لمآربهم الخاصة، فكان القرن السادس عشر من أشد القرون اضطرابًا وفوضى، انحلت فيه الروابط الدينية والعائلية والاجتماعية وعنفت الأهواء القومية، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعًا، واستبيح فيها كل محرم بحجة سلامة الأمير أو الدولة.
ارتفعت شرائط اليابسة الطويلة، التي تشكل الجزر الخطية، فقط للحد الذي يمكن معه أن تقذف الأمواج شظايا من المرجان إليها، ويمكن للرياح مراكمة الرمال الكلسية. كان مسطح الصخور المرجانية القاسي من الخارج يكسر الحدة الأولية للأمواج بفعل عرضه، وإلا كانت ستكتسح كل هذه الجزيرات وما ينمو عليها في يومٍ واحد. يبدو أن اليابسة والمحيط هنا في صراع على السيطرة؛ فرغم أن اليابسة حصلت على موطئ قدم، فإن سكان المياه يظنون أن لهم حقًّا مساويًا على الأقل. في كل مكان يرى المرء السلطعون الناسك من أكثر من نوع ٦ يحمل فوق ظهره قواقع مسروقة من الشاطئ المجاور. كما يوجد العديد من الطيور البحرية التي تحوم في السماء مثل الأطيش والفِرْقاط والخرشناوات تستقر فوق الأشجار، ويمكن اعتبار الغابة مستعمرةً بحرية بسبب كثرة أعشاش هذه الطيور ورائحة الجو. تحدق طيور الأطيش الجالسة فوق أعشاشها البسيطة في الناظر إليها بنظرة بلهاء لكنها غاضبة. أما طيور الأبله، كما يوحي الاسم، فهي مخلوقاتٌ صغيرةٌ حمقاء، لكن ثمة طائرًا واحدًا ساحرًا، وهو نوعٌ صغير من الخرشناوات أبيض كالثلج يحوم بنعومة على مسافة بضع أقدام فوق رأسك ويفحص تعبير وجهك بعينيه السوداوين الكبيرتين، وفضوله الساكن. قليل من الخيال مطلوب لتصوُّر أن جسدًا خفيفًا وضعيفًا مثل هذا لا بد أنه مسكون بروح جوالة.
وأول ما ينبغي ملاحظته في هذه المحاكمة هو روح الفكاهة الذي يظهر من فصل إلى فصل، ومن أمثلة ذلك أن زعيم الإنس استدل على حقهم في تسخير الحيوان بهذه الآيات: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ.
استرجعتْ ذاكرتي أيضًا العودة إلى البيت من مستشفى سانت بول مرورًا بجسر لايونز جيت في الحافلة المكتظة، ونيكولا تجلس على ركبتي. فجأةً تذكرتْ نيكولا الاسم الذي كانت تطلقه على الجسر وهي صغيرة وهمست في أذني: «الجسل — على الجسل.» لم أتجنب قط لمس ابنتي — نيكولا كانت نحيلة وجميلة حتى آنذاك، بقوامها البديع وشعرها الأسود الناعم — لكنني أدركت أنني ألمسها بطريقة مختلفة، ولو أنني لم أكن أحسب أن هذا الاختلاف يمكن إدراكه قط. كنت ألمسها وأنا حريصة على ألا أغاليَ في لمس أي جزء منها. أدركت كيف يمكن استبقاء الحب بأشكاله مع شخص محكوم عليه بالموت، ولكن على أن يُمنح الحب بانضباط وبمقدار محدد في واقع الأمر؛ لأنك لا بد وأن تصمد. ويمكن القيام بهذا باحتياط شديد بحيث لا يساور المحبوب أدنى شك، تمامًا كما لا يساورها شك في حكم الموت المحكوم عليها به. نيكولا لم تعرف، ولم يكن لها أن تعرف. كانت اللعب والقُبلات والنِّكات تنهال عليها؛ لم يكن لها أن تعرف قط، رغم أني كنت أقلق من أن تشعر بأن ثَمَّةَ خطبًا ما خلال الإجازات المختلقة والأيام العادية المصطنعة. لكن الأمور سارت على ما يرام. لم تكن نيكولا مصابة بسرطان الدم. وكبرت نيكولا ولم تزل على قيد الحياة، وربما كانت سعيدة ومنعزلة عن الآخرين.
وبقيا هناك مدة إلى أن قتل العبيدي صاحب مصر جماعة من فقهاء أهل الإسكندرية لسبب يطول شرحه، ولم يبق بها من يشار إليه، وسمع أهل الإسكندرية بكون الفقيه برشيد فركب إليه قاضيها ابن حديدة وجماعة من أهلها، فلما وصلوا إلى رشيد سألوا عنه فلم يجدوا من يعرفه إلا بعض الفقراء هناك قال لهم: أنا أدلكم عليه. اقعدوا هنا فكأن به قد وصل، فقعدوا ساعة، ووصل الفقيه من الشَّعْرَاء وعلى ظهره حزمة حطب وصاحبه معه، فقال لهم: هذا هو، ووضع الحزمة بالأرض. فأخبروه بما طرأ عليهم في الإسكندرية وباحتياج أهلها إليه، وبما له في قصدهم من الأجر، فقال لهم: قد علمت ذلك، ولكني لا أفارق صاحبي هذا بوجه — وأشار إلى عبد الله السائح — لأني سقته من موضعه وعاهدته أن لا أفارقه، فدونكم فإن ساعدني فأنا ناهض معكم، فكلموه فقال: أنا لا أمنعه لكني أقيم هنا. فقال الحافظ أبو بكر: وأنا لا أفارقه. فتضرعوا إلى عبد الله، فقال لهم: أنا هنا أعيش في الحلال وآكل المباح ولا أجد هذا عندكم. فقال له القاضي: إن صاحب صقلية — دمره الله — يؤدي جزية في كل عام لأهل الإسكندرية ثلاثمائة قفيز من الشعير وكذا وكذا، فخذ الشعير تتقوت به وتصرفه في منافعك. فقال: أنا لا أحتاج إلى أكثر من رغيف في كل ليلة. فضمنوا له ذلك.
أما الآيات التي جاءت بشأن البيعة فقد جاءت تالية للبيعة وليس قبلها، لتوافق عليها، لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: ١٨)، أو إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: ١٠). ليس هنا أيضًا دولة ولا ديمقراطية ولا مؤسسات ولا هيئات، لا شيء، هي برقيات تهنئة وتبريكات سماوية ليس أكثر، وليس فيها فرضٌ للبيعة على المسلمين حتى يُنشِئوا مجتمعًا سياسيًّا إسلاميًّا كما يريد زيدان. يعني المسلمون عملوا بيعة، جاءت الآيات وقالت إن ما فعلوه هو عمل حميد، ليس أكثر.
ولكن ماذا كانت أهمية فكرة التقدُّم التصاعدي؟ ما دام المرء مقتنعًا بأن الأمور أفضل مما كانت عليه سابقًا (النموذج التصاعدي)، فسوف يشعر بالراحة ويقلُّ التوتر. ولكن من جانب آخَر يجب أن تكون اللامبالاة السياسية متوقَّعةً، وهكذا يُستخَدم النموذج التصاعدي كأداة للسيطرة. أما الفريق الذي يرى أن وضع المرأة عبارة عن ساحة يحقِّق فيها المكاسبَ تارةً ويتكبَّد الخسائرَ تارةً أخرى، فهو الأقرب إلى الواقعية. وتمثِّل حالة اللامبالاة السياسية في الولايات المتحدة اليوم وصفًا للحالة الذهنية للعديد من النساء اللاتي يرين أننا حقَّقنا مكاسبَ، وأن هذه المكاسب لا يمكن خسارتها، بينما يتصرَّف الآخرون، ومن بينهم المؤسسات المُسيطِرة، كأنَّ وضْعَ المرأة قد حقَّق تقدُّمًا مفرِطًا خلال فترة زمنية قصيرة للغاية منذ ستينيات القرن العشرين. من جهة أخرى، يدَّعي آخرون في الإعلام والأوساط الأكاديمية أن المرأة خسرت أكثر ممَّا حقَّقت في بعض المجالات منذ ستينيات القرن العشرين، ويوجد دليل على حدوث انحدار مشابه في وضع المرأة بعد حصولها على حقِّ التصويت في الولايات المتحدة (كنودسن، ١٩٦٩).
وبعد التحقيق أمام مجلس الخمسمائة، جيء بالقادة الستة أمام المجلس، وهنا بدأت تثور الخواطر، وكان المتهم واحدًا من قوادهم البحريين، سياسيًّا واسع الحيلة يُدْعَى ثرامينس، كانوا قد أصدروا إليه أمرًا — متأخرًا جدًّا على الأرجح — لكي يبحر في مهمة الإنقاذ، واستطاع سقراط — الذي تمرس على ملاحظة دوافع الناس الحقيقية — أن يدرك لماذا كان ثرامينس عنيفًا جدًّا في اتهامه القادة، فقد كان ثرامينس يرى أن التهمة سوف تلتصق بشخص معين لم يرد له أن تلصق به، وربما أدرك قوم آخرون كذلك أن ثرامينس قد تكون لديه دوافعه الشخصية، ومهما يكن من الأمر، فما إن انتهت الخطب المطولة، ووصف الشهود العاصفة التي حالت دون الإنقاذ حتى بدأت الأكثرية تعتقد أن القادة ينبغي أن يبرَّءوا، غير أن الظلام قد احلولك في تلك اللحظة حتى أمسى من العسير أن يرى المرء أيدي الرجال مرفوعة للتصويت، فأشار أحدهم — ولم يلاحظ فرد منهم من هو على التحديد — بإعادة القضية إلى مجلس الخمسمائة لتوصي بما يتبع قبل انعقاد المجلس القادم، وكانت الأيام الثلاثة لعيد الأسرة مقبلة، ومن المنظور أن تبرد حرارة القضية عند عرضها مرة أخرى بعد عطلة العيد.
أما موضعه فهو بحيث يتمكن الرجل الوسط من استلامه لدى الطواف، وليس تقبيله فرضًا ولا سنة. وكانت الكعبة قبل الإسلام تستمد قوتها من داخلها لأنه مباءة الأصنام، أما بعد الإسلام فقد أصبح خارجها أهم لأن فريضة الحج تقتضي الطواف حولها، أما فؤادها الذي كان منصب الأوثان فقد صار فارغًا. وحول الكعبة أماكن قدَّسها الإسلام إحياءً لذكرى إبراهيم، وهي الملتزم والمعجن والحجر والميزاب، والصلاة في كلٍّ منها واجبة أو مستحبة، والدعوة فيها مستجابة؛ ففي الحجر قبر هاجر وإسماعيل، والمعجن الموضع الذي اتخذه الخليل لصنع «المونة» للبناء، والملتزم مكان ركوع إبراهيم أثناء العمارة، وبعدُ ترى في المسجد الحرام مقام إبراهيم وزمزم، و«المقام» وهو الحجر الذي كان قائمًا بجوار المعجن، وقد أثرت أقدام خليل الرحمن فيه فبدت ظاهرة كأن الحجر قد استلان لقدمه، وقد نرى مثل هذا الحجر في بعض الأماكن المقدسة في مصر وغيرها، ولكن هذا الحجر يشبه فرن الخزف كما وصفه ابن جبير، وقد رآه وعليه نقوش بلغة لم يحل ألغازها، والمرجح أنها سريانية،٦ وقد أشرنا إليها، ويدَّعي دوزي أن النقوش بالخط الصفوي الذي كان معروفًا في نجد والحجاز؛ وهو أقرب إلى الحقيقة.
#### من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر داون [١٨٤٤؟] … لقد قرأت أيضًا كتاب «بقايا» [أي، كتاب «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق» والذي نُشر بدون ذكر اسم مؤلفه في عام ١٨٤٤، وثَمَّةَ اعتقادٌ جازم بأن مؤلفه كان الراحل روبرت تشيمبيرز.] لكنني وجدتُ فيه متعة أقل مما وجدت كما يبدو لي؛ فالكتابة والتنظيم جديران بالإعجاب بالتأكيد، لكن أرى الجانب الجيولوجي سيئًا، والجانب الخاص بعلم الحيوان أسوأ كثيرًا. سأكون في غاية الامتنان، إذا استطعتَ في أي وقت فيما بعدُ أو متى أُتيح لكَ وقتُ فراغ أن تخبرني بما تستند إليه في اعتقادك المريب بأن خيال الأم يُؤثِّر على الابن. [هذه إشارة إلى حالةِ إحدى قريبات السير جيه هوكر، التي أَصرَّت على أن الشامة التي ظَهرَت لدى أحد أطفالها، كانت نتيجة الذعر الذي اعتراها، قبل ولادة الطفل، إثر تلطيخها بحبر الحبار نسخةً من كتاب تيرنر «كتاب الدراسات»، التي أُعيرت لها مع تشديداتٍ على توخِّي الحذر.] لقد أحطتُ بالأقوال المتعددة المتناثرة حول هذا الموضوع، لكنني لا أعتقد أن الأمر يعدو مُجردَ مصادفاتٍ عابرة. دبليو هانتر أخبر أبي، حين كان في أحد مستشفيات الولادة، أنه قد سأل الأمهات في حالاتٍ كثيرة، «قبل مخاضهن»، إن كان أيُّ شيء قد أثَّر على خيالهن، ودوَّن الإجابات؛ ولم تصدق ولو حالة واحدة، رغم أنه حين كان يظهر على الطفل أيُّ شيءٍ مميز، كُن فيما بعدُ يلوين عنق الحقيقة. يبدو أن التوالُد تسيطر عليه قوانينُ متشابهة في المملكة الحيوانية بأَسرِها، حتى إنني آبى بشدة [أن أُصدِّق] …
#### الجزء الثالث (صلاح الدين – عماد الدين – خادم) خادم : الشعراء يا مولاي ومعهم مدائح السلطان. عماد الدين : أفي مقام قصائد نحن؟ وهل هذا موضع الشعراء؟! صلاح الدين : إن السلطان سلطان يا عماد الدين في السلم والحرب، والشعراء شعراء في كل حال، فلا ينبغي أن يشغلنا عنهم زمان ولا مكان؛ فإنما هم ناشرو فضلنا، وألسن مدائحنا، والمخلِّدُون لتذكارنا على أعقابنا، وكفى من فضلهم علينا أنهم لا يذكرون لنا إلا الحسنات، وما ظنك بهرم لولا سنانه؟ والرشيد لولا أبو نواسه؟ بل ما ظنك بسيف الدولة لولا متنبيه وأبو فراسه؟! الشعراء يا عماد الدين زينة مجالسنا، ومؤرخو أعمالنا، وفاكهة ندمائنا، وأدلاء فضلنا ومآثرنا، وحكماء عصورنا وممالكنا، وقد وصفهم رسولنا ﷺ وامتدح شعرهم فقال: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ» وقصارانا أو نقتدي برسول الله ونعم المقتدى. يا غلام، قُم بواجب إكرامهم إلى أن أحضر، وقل للوزراء والقواد أن يدخلوا (يخرج الخادم) وأنت أيُّها الصديق فاكتم ما دار بيني وبينك من أمر الهدنة والأمل بانشقاق العدو وخلافه؛ فإني أخشى أن يفشو ذلك في الجيش فتوهن عزائمهم ويتولاهم الغرور والانخداع في نفوسهم، ويتكلوا في أمرهم على هذا الأمل من عدم القتال، وقد لا تصدق الآمال فتسوء العقبى وينقلب المصير.
وَدَعَا الْحَكِيمُ «آزَادُ» الْأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةَ؛ فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، يَسْتَمِعُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: «حَسَنًا فَعَلَ أَبُوكُمْ، حِينَ أَبَى أَنْ يُفَضِّلَ وَاحِدًا مِنْكُمْ عَلَى أَخَوَيْهِ؛ فَأَنْتُمُ الثَّلَاثَةُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي حُبِّهِ إِيَّاكُمْ، وَإِعْزَازِهِ لَكُمْ. وَقَدْ جَعَلَ رَغْبَتَكُمْ فِي التَّزَوُّجِ بِالْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ» سَبَبًا لِلتَّنَافُسِ بَيْنَكُمْ فِي أَعْمَالٍ تَرْفَعُ مِنْ أَقْدَارِكُمْ، وَتُعْلِي مِنْ قِيَمِكُمْ. وَأَجَلُّ عَمَلٍ يَرْفَعُ الْقَدْرَ، هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَعُمُّ نَفْعُهُ الْوَطَنَ، وَيَسْعَدُ بِهِ الْمَجْمُوعُ».
أيتها السيدات، العلم منور للعقل على أي حال سواء عمل به أو لم يعمل، فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسباحة ولكن نعلم مواقع البلاد وأبعادها؟! إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته ولكنه لا يشتغل به في صناعته، كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها، ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم: إذا كنتم لن تتملكوا في تلك الأمم فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها؟! نسمع في هذه الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة، وأن حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما يهيئنا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار، لو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقي قاطرات، وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق الزهور فقط، أم التي تعرفهما أيضًا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق زوجها المريض بالسكر، أو جسمها السمين الذي تريد تضميره؟ وهل وجود أصص (قصارى) الزرع في حجرتها ليلًا صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضر بهما؟ فهذه تعرف تدبير المنزل وتلك تعرفه، ولكن تعلم واحدة علم النبات تحفظ لها صحتها وصحة عيالها من التلف، فضلًا عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟!» إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له تأثير خاص في الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم، فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لتكون الصلة شديدة بينه وبينها؛ فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه.
استيقظتُ ظهر اليوم التالي منهكة؛ فالسهر لا يناسبني. وجدتُ أمي مهمومة وحين سألتُها عن السبب أجابت: «تعرفين أم رمزي التي تحضر الدروس معنا؟» قلتُ: «نعم، ما بها؟» قالت: «لقد كانت حاضرة ليلة البارحة في العرس، ورأتني ولم تُسلِّم عليَّ»، أجبتُها: «نعم، وماذا في ذلك؟» قالت: «لا تعرفين؟ نحن نحضر دروس الدين، من المفترض إذن ألا نحضُر حفلًا فيه غناءٌ وموسيقى، أنا متأكدة أنها ستخبر الآنسة والجميع، لكنني كما تعلمين لم أحضر إلا صلةً للرحم، وتلبيةً لخاطر أبيك في حضور زفاف ابن أخته.» قلتُ وقد صدَمني جوابها: «أتعنين ذلك حقًّا، وهل هذا بالأمر الذي تهتمين له؟ إذا كان هذا صحيحًا فلم حضَرتْ أم رمزي إذن؟ إنها شريكتكِ في الجريمة!» جمدَت أمي وكأنما أسمعتُها شيئًا جديدًا، ثم تهلَّل وجهها وقالت: «صحيح، أنتِ على حق، هي أيضًا كانت حاضرة، فلو تكلَّمَت عليَّ فإنها في الوقت نفسه تؤكِّد على حضورها؛ لذا فإن من مصلحتها ألا تنطق بشيء.» ثم أمسكَت بكتفيَّ وأكملَت: «لقد أرحتِني فعلًا، هيا قومي إلى المطبخ!»
ونبوة عيسى شريعته وسياسته، صور روحانية، وحقائق وعلوم وحكمة، ومتحررة من شريعة موسى انتظارًا لدور محمد. ظهر المسيح عيسى ابن مريم لتجديد شريعة موسى في عصر الفراعنة مثل فراعنة موسى. وربما المقصود الرومان والأحبار الذين أفسدوا الشريعة وقتلوا الأولياء والقائمين عليها والعاملين بها. فاستتر خزيمة واختفى. وقام مقامه زكريا الذي كفل مريم التي كانت حجته وبيانه. مريم الحجة، وزكريا الباب. واجتمع بها رسول الإمام خزيمة وبشَّرها بالمسيح، وأعلمها أنه صاحب العصر، وأنالها الله من تأويل ما لم ينله زكريا. وبعد نسخ شريعة موسى أظهر الرحمة والرأفة والحكمة لأنه كان ببيت إسحاق وقائم دوره. لذلك سمي قائم القيامات الذي هو بيت إسماعيل، وقائم دوره. وربما جاء ليبشر بمحمد. استبدل بشريعة موسى اللطافة والأمنة والرحمة. فالقوة من الروح. والرهبنة قوة يخشاها الناس. به حال آدم، وحسن يوسف، وخلق داود، وقوة عيسى. وقد أخطأ الجاهلون في ربوبيته. فهو مثل أخلاقي. ضرب الأمثال للتأثير في النفوس من أجل الممثولات. تنبأ بالناطق السادس، وأمر حوارييه بالإيمان به وهو الذي سيأتي بالممثولات. وتلك مهمة التأويل. وواضح حسن الترجمات العربية القديمة للإنجيل.
وكان سيرانو قد أتم كتابه وأراد أن يوقع عليه، ثم توقف وقال: لا لزوم للتوقيع؛ لأنني سأقدمه إليها بنفسي، ثم طواه ووضعه في صدره، ونهض قائمًا على قدميه، وهتف براجنو فأسرع إليه، فسأله: كم الساعة الآن؟ قال: ستٌّ وخمسون دقيقة. فقال في نفسه: لم يبق إلا عشر دقائق، وأخذ يتمشى في القاعة ذهابًا وجيئةً، وكانت ليز وصديقها الضابط جالسين على انفرادٍ في أحد أركان القاعة، فخيل لسيرانو أنه رأى بينهما شيئًا مريبًا، فدنا منهما ووضع يده على كتف المرأة وقال لها: يُخيَّل إلي أيتها السيدة أن هذا البطل الجالس بجانبك يُدَبر خطةً للهجوم على حصنك! فانتفضت وتظاهرت بالغضب، وقالت له: ماذا تقول يا سيدي؟ إن نظرةً واحدةً مني تكفي لهزيمة من يحاول ذلك. قال: ولكني أرى عينيك ذابلتين متضعضعتين تلوح عليهما علائم الانكسار! فاضطربت وحاولت أن تقول شيئًا فخانها صوتها، فصمتت. فقال لها: أيتها الفتاة، إن راجنو يعجبني جدًّا؛ لذلك لا أسمح لأحدٍ أن يعبث بشرفه أمامي! ثم التفت إلى الضَّابط فنظر إليه نظرةً شزراء، وقال: ولقد سمع من كانت له أذنان! أليس كذلك أيها «الرجل الهائل»؟
واعلم يا أخي بأن سنن الديانات النبوية وموضوعات النواميس الفلسفية ومفروضات الشرائع كلها، ومناسك بيوتات العبادات وقرابين الهياكل والصلوات كلها إشارات ومرامي إلى ما أشار إليه إبراهيم خليل الرحمن في بنائه البيت الحرام ووضعه الحجر والمقام وتعليمه المناسك ذريته ودعائه الناس فيهم بالحج إلى البيت الحرام ليشهدوا منافع لهم، وذلك أن الإنسان العاقل اللبيب الفهيم الذكي إذا حجَّ ولبَّى وطاف وصلَّى ورأى البيت وشاهد كيفية الحج وما يفعل الحاج والمحرمون من عجائب سنن المناسك ومفروضاتها من الإحرام والتلبية والطواف والسعي ووقوف الحج بعرفات والمبيت بالمزدلفة والتضحية بمنًى والحلق والرمي وما شاكلها من فرائض الحج وسنن المناسك، وتفكَّر فيها بقلب مستيقظ، واعتبرها بعين بصيرة ونفس زكية، فطن لما أراده إبراهيم خليل الرحمن — عليه السلام — فيما سنَّ واحدة واحدة، وما الغرض الأقصى منها كلها، وعرف وفهم واهتدى قلبه واهتدت نفسه وانتبهت وأبصرت فتراجعت وشاهدت ورأت ما أشار الله — تعالى — إليه بقوله: «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤمِنونَ بِهِ ويَستَغفِرونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ.»
ويَحُلُّ الفارابيُّ المناقَضَاتِ المذكورةَ ببراعة، وذلك من غير إبداء رأي أصلي، يستحقُّ أن نَقِفَ عنده، ولكنه من حيث نظرية المعرفة يُفسِّر فرضية التذكُّر الأفلاطوني تفسيرًا اختباريًّا جديرًا بالذكر، فقد قال: إن أرسطو بيَّن في كتاب «التحليلات» أن المعارف لا تأتي إلى النفس إلا بطريق الحواس. وهكذا فإن المعارف تأتي في البُداءة من غير أن يُبحَثَ عنها، ولا يكون العلم تذكرًا، ولكنه متى شُعِرَ بالعلم كان هذا بعدَ تكوُّن معارفَ في النفس على وجه غير محسوس؛ ولهذا فإن النفس حينما تُدرك هذه المعارفَ تعتقد أنها دائمة فيها، ويساورها وهم في أنها تذكرها. ومع ذلك فإن الحقيقة هي «أن العقل ليس هو شيئًا غير التجارب، وكلما كانت هذه التجارب أكثرَ كانت النفس أتمَّ عقلًا … وهذا ما قاله أفلاطون: إن التعلم تذكُّر، وإن التفكر هو تكلُّف العلم، والتذكُّر تكلُّف الذِّكْر، والطالب مشتاقٌ متكلِّف، فمهما وَجَدَ مهما قَصَدَ معرفته طلب دلائل وعلامات ومعانيَ ما كان في نفسه قديمًا، فكأنه يتذكر عند ذلك.» ويجب أن يُعتَرَفَ بأن هذه محاولة في التوفيق تقضي جُرأتُها بالعجب.
إنَّ مخطط الفرع الحيوي، المعروف أيضًا بمخطط التصنيف التفرُّعي الحيوي، هو مخطط شجري تشعُّبي يربط جميعَ الأنواع التي كانت قيد الدراسة في وقتٍ ما. ومن أجل رسم هذا المخطط، يحتاج الباحث إلى إعداد جدول (مصفوفة من البيانات) يحتوي على عمودٍ تُذكَر فيه الأنواعُ الخاضعة للفحص، وأمام هذا العمود سَرْدٌ للصفات (التشريحية والكيميائية الحيوية، وغيرهما) التي تظهر في كلٍّ من هذه الأنواع؛ ثم يحصل كلُّ نوع على «علامة» توضِّح إذا كان يحمل الصفة أم لا، فيدل (١) على أنه يحمل الصفة، في حين يدل (٠) على أنه لا يحملها؛ وفي بعض الحالات، إذا كان القرارُ غيرَ مؤكَّد، يمكن التعبير عن هذا بعلامة (؟). بعد ذلك، تخضع مصفوفة البيانات الناتجة عن هذه العملية (التي قد تكون ضخمةً للغاية) للتحليل باستخدام عدد من برامج الكمبيوتر الخاصة، التي يتمثَّل دورُها في تقييم توزيع علامات الآحاد والأصفار، وتكوين مجموعة من الإحصائيات التي تحدِّد أكثرَ توزيعٍ للبيانات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ذي علاقة بتطوُّر السلالات. يشكِّل مخطط الفرع الحيوي الناتج نقطةَ البدء لعدد كبير من عمليات الفحص الأخرى التي تهدف إلى تحديدِ وفهمِ إلى أي مدًى توجد أنماط مشتركة أو أوجه تشابُهٍ عامة، وكذلك إلى أي مدًى قد تكون هذه البيانات مضلِّلة أو خاطئة.
#### (١) المرحلة البُدائية لم يعرِف الإنسان الملكية الفردِيَّة بمعناها الصحيح في المراحل البسيطة الأولى من حياته، بل كان يَسود هذه الحياة نوع من التضامن والمَشاعِيَّة، ناشئ عن صعوبة الظروف التي لم يكن الفرد قادرًا على مُواجهتها وحده، وعن ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أيِّ فائضٍ إنتاجيٍّ يسمح باستغلال عمل الآخرين؛ لأن العمل كله كان مُوجَّهًا نحوَ تلبية الحاجات الضرورية المباشرة. في هذه المرحلة كان الفِكر الإنساني يَتَّسم بنفس البساطة والبُدائية اللَّتَين كان يتَّسم بهما الإنتاج. فكلُّ حوادِث الطبيعة كانت تُفسَّر تفسيرًا أسطوريًّا، يتمشَّى مع العجز عن فَهم الظواهر الكونية وعدَم القُدرة على كشف أيِّ قانونٍ من قوانينها. وكان العالم يحتشِد بالقوى التي تُنسَب إليها صفاتٌ إلهية؛ فهناك آلهة للرَّعد والمطر والزرع والبحر والخِصب والموت … إلخ، بحيث كان الحدُّ الفاصِل بين عالَم الطبيعة وعالَم الإنسان يكاد يكون مُنعدمًا. فالطبيعة تشعُر بنفس الأحاسيس الإنسانية، وتتحكم فيها نفس العوامل التي تتحكم في أفراد البشر. وربما كان من المُمكن تشبيه فكرة التقارُب بين الإنسان والطبيعة وإزالة الحواجز بينهما، بمبدأ المِلكيَّة المَشاعِيَّة السائدة في الاقتصاد البدائي لهذه الفترة. وكان السِّحر هو التعبير الواضِح عن مجتمعٍ يعجز فيه الإنسان عن السيطرة على الطبيعة من خلال فَهم قوانينها، فيلجأ إلى القوى الخَفيَّة والغَيبيَّة التي يتصوَّر أنه يستطيع عن طريقها التحكم في مَجرى الأشياء. ومن المُلاحظ أن السِّحر بِدَوره يفترِض نوعًا من العلاقة المَشاعِيَّة المُشتركة بين الإنسان والطبيعة؛ إذ إن الطبيعة تخضَع لكلمات الإنسان وأوامِره وتَعاويذه، ويزول كلُّ حدٍّ فاصل بين المجال البشري والمجال المادي الخارجي.
فلاحظ ما يأتي في الخطوات الأربع السابقة: فالأولى هي «شيء» نعرفه برؤية لونها وشكلها، وبلمسة سطحها، وبما يذوقه اللسان إذا أكلناها، وهذه كلها «حواس»، ومما تأتينا به حواسنا عن التفاحة، نكون قد عرفناها بنفس القدر الذي أمدتنا به الحواس من خصائصها، والثانية جملةٌ لغوية، لو أنها كانت هي كل ما نعلمه عن التفاحة، أي أننا لم نكن قد تلقَّينا من خصائصها شيئًا بطريق حواسنا، وانحصر علمنا بها فيما تُنبئنا به هذه الجملة عنها، لما عرفنا عندئذٍ إلا «جملة» نقولها أو نكتبها، ويقف بنا أمرُها عند هذا الحد، وأما الثالثة فهي خطوةٌ ينتقل بها الإنسان من «الشيء» المعين إلى قانونه العلمي، مع ملاحظة أنه ربما حدث لدارسي هذه الحقيقة العلمية عن جذب الأرض للتفاحة التي سقطت عليها، ألَا يكون قد رأى أو أكل تفاحة في حياته، فهو في هذه الحالة يعرف قانونًا علميًّا عن شيءٍ لم يحسَّه بحاسةٍ من حواسه في دنيا التجربة الذاتية، وأخيرًا تجيء الخطوة الرابعة، التي بها يجاوز العقل حدود العلم الواحد، في مجال واحد معين، إلى رؤيةٍ كونية شاملة، فتكون الرؤية العقلية في هذه الحالة رؤيةً فلسفية بُنيت على عمدٍ من العلوم المختلفة.
دأب البيروني على جمع «ما للقدماء والمحدثين»٢٧ من رؤًى ونظريات في القضية المطروحة للبحث، خصوصًا حين يَطْرَح برهانه الهندسي لا بد وأن يَسْبِقَه بالبراهين التي طُرِحَتْ قبله، ولا يخلو الأمر من مقارَنة موضوعية، وكان مُولَعًا بالجدل ونَقْد العلماء السابقين عليه والمعاصرين له وتبيان أخطائهم وتصحيحها. فهكذا فَعَلَ مع الكندي وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وأبي الحسن البصري، وبطليموس وأرشيمدس وإرازموس … وغيرهم، كما كان يَنْقُد ويُصَحِّح نظرياتٍ أصحابُها غيرُ معروفين. ودَيْدَنُه في هذا ألا يعمد أصلًا لدراسة موضوع إلا بعد أن يُحِيطَ بكل ما كُتِبَ عنه، ويقيمه وينقده، ورائده عدم التسليم بأية قضية مهما كانت مشهورة إلا بعد امتحانها وإثبات أنها جديرة بالتسليم، ثم لا يتوانى عن تقدير آراء الغير، وتحري الأمانة في إثبات الفضل لذويه، قائلًا أنه تعلم من أساتذته إعمال الرأي والبعد عن التعصب وطلاقة الفكر ليمزج بينها وبين ما أَخَذَهُ عن أبي نصر — أي الفارابي — «فتكون يقظة العقل ووثبة الذهن وسلامة المنهج».
وكما أنَّهم عدُّوا الظُّهور بالأعمال رِياء، كذلك عدُّوا الظهور بالأحوال دَعاوى، والدَّعاوى تُنافي مَقام العبودية الخالِصة، إذ العبدُ لا يدَّعي لنفسه شيئًا، وإنما ينسِب كلَّ فضلٍ إلى سيِّده. قال أبو عمرو إسماعيل بن نُجَيد الملامتي: «لا يبلُغ الرجل شيئًا من مقام القوم حتى تكون أفعالُه كلُّها عنده رِياء وأحواله كلُّها دَعاوى.»٩٣ والأصل الذي يَستنِدون إليه في ذلك هو أنَّهم يَعتبِرون الإخلاص سِرَّ الله في قلب العبد، ويَستشهِدون على ذلك بحديثٍ يقول النبي ﷺ فيه: «سألتُ ربَّ العزَّة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرٌّ من سِرِّي استَودعتُه قلبَ من أحببتُ من عبادي.» ففسَّروا الإخلاص بأنه كمال العُبودية الذي لا يتمُّ إلَّا إذا رأى العبدُ جميع ما يَجري عليه وما يصدُر عنه إنما هو من الله عزَّ وجل. والسِّرُّ هنا «هو ما أخفتْهُ الضَّمائر غِيرةً من أن يطَّلِع عليه غير المُنعِم.»٩٤ وهو ليس إلَّا الأحوال التي ينكشِف للملامَتي (أو الصُّوفي) فيها معاني الحضرة الرُّبوبيَّة التي أسلَفْنا ذِكرَها، ومعاني القُرب من الله. وفي هذا يقول أبو زكريا السنجي: «الأحوال أماناتٌ عِند أهلِها، فإذا أظهَروها فقد خَرجُوا من حدِّ الأُمَناء.»٩٥
(١٥٤) جاءت ترجمة عبد الرحمن الغافقي في كتاب «بغية الملتمس في رجال أهل الأندلس»، لأحمد بن يحيى بن عميرة، كما يلي: عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وهو العكي، أمير الأندلس، وليها في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية، وعبد الرحمن هذا من التابعين يروي عن عبد الله بن عمر وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن عياض، استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة ١١٥ حكى ذلك غير واحد، وكان رجلًا صالحًا جميل السيرة في ولايته كثير الغزو للروم عدل القسمة في الغنائم وله في ذلك خبر مشهور، أخبرني أبو طاهر إسماعيل بن قاسم الزيات لقيته بفسطاط مصر، قال: أخبرنا الصادق بن مرشد بن يحيى بن القاسم المديني سماعًا عليه، أخبرنا علي بن منير الخلال قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن بن خلف قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم قال: غزا عبد الرحمن يعني: ابن عبد الله العكي إفرنجة وهم أقاصي عدو الأندلس فغنم غنائم كثيرة وظفر بهم، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد فأمر بها فكُسرت، ثم أخرج الخمس وقسم سائر ذلك في المسلمين الذين كانوا معه، فبلغ ذلك عبيدة يعني: ابن عبد الرحمن القيسي الذي هو من قبله فغضب غضبًا شديدًا، وكتب إليه كتابًا يتوعده فيه، فكتب إليه عبد الرحمن: إن السموات والأرض لو كانتا رتقًا لجعل الرحمن للمتقين منها مخرجًا. انتهى. وسنذكر في متن الكتاب تكملة أخبار عبد الرحمن الغافقي رحمه الله.
فرض الله الصوم على المسلمين في السنين الأولى من العهد المدني، والمشهور أنه فُرض بعد تحويل القبلة بشهر؛ أي في الثالث من السنة الثالثة للهجرة، وقد تضمنت آيات سورة البقرة (١٨٣–١٨٧) بعض أحكامه، حيث يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
يُوضِّح الشكل ٤-٢١ العلاقات النظامية بين أنواع المحار الستة موضوع الدراسة، ليس بناءً على الأشكال الخارجية للأصداف، وإنما بناءً على تسلسلات الحمض النووي الخاص بوُحيدة ميتوكوندريا أوكسيداز الأولى.97 وتظهر تصنيفات التطور السلالي المُبيَّنة في شكل مخطَّط تفرُّعي98 والتي يُمثل فيها كل فرع من الشجرة تعديلًا مختلفًا يتشكَّل منه فصيلة جديدة. من منظور علم الجينوم، تختلف العلاقة بين أنواع المحار تمامًا عن التصنيف القائم على الشكل الخارجي (الشكل ٤-٢١)؛ فالحقيقة الكيميائية الخفية تختلف اختلافًا مهولًا عن الاستنتاجات القائمة على البِنية الخارجية؛ ومن ثَمَّ، وبناءً على هذا التصنيف الكيميائي، تُمثِّل فصائل محار الماء المالح جيجاس، ومحار إكتناجينا إكستنتا، ومحار كيلميري الملزمي ثلاث فصائل مختلفة، لكن من الممكن أن تُنسَب إلى فصيلة وحيدة (نظرًا إلى أن أصولها تعود إلى سلف مشترك). يشير المخطط التفرعي إلى أن أوجه التشابه بين محار باسيفيكا وكيلميري الملزميين، المصنفين في فصيلة واحدة، أقل من أوجه التشابه بين محار كيلميري الملزمي ومحار إكتناجينا إكستنتا (رغم أن إكتناجينا إكستنتا يبدو مختلفًا على مستوى الشكل عن محار كيلميري الملزمي).97 وقد اكتشف الأستاذ روبرت فرايجنهوك أن المحار الموجود في خليج مونتيري الذي يسمى محار باسيفيكا الملزمي يُمثِّل في الواقع ثلاثة أنواع مختلفة متشابهة شكلًا ولكنها مختلفة جينيًّا وتعيش على أعماق مختلفة. أما محار باسيفيكا الملزمي الحقيقي، فلا يعيش من الأصل في خليج مونتيري، وإنما في جوار ولاية واشنطن.97
(ﺟ) أما النفس فقد وصلت إلينا عنهم أقوال متباينة فيها، فنحن نجد عند أفلاطون رأيًا لبعضهم يقول: إن النفس نوع من النغم، ومعنى ذلك أن الحي مركب من كيفيات متضادة — الحار والبارد واليابس والرطب — والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه،٥ وهذه من غير شك نظرية أطباء الفرقة — أو نفر منهم — صدروا فيها عن فكرتهم العامة — «العالم عدد ونغم» — وخالفوا أمورًا جوهرية في مذهبهم؛ فإن النغم نتيجة توافق الأضداد، فإذا كانت النفس نغمًا لزم من جهة أن ليس لها وجود ذاتي — والفيثاغورية تؤمن بالخلود — ولزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن — والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ٦ — على أن أرسطو إذ يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين،٧ ولكنه يضيف إليهم صراحة قولين: يذهب الواحد إلى أن النفس هي هذه الذرات المتطايرة في الهواء، والتي تدق عن إدراك الحواس فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائمًا حتى عند سكون الهواء، فكأن أصحاب هذا الرأي أرادوا أن يفسروا الحركة الذاتية في الحيوان فافتكروا أن هذه الذرات المتحركة دائمًا تدخل جسمه وتحركه، ولعلهم ظنوا أن هذا التصور يفسر أيضًا كيف أن المولود يجد ساعة ميلاده نفسًا تحل فيه، وهم على كل حال يتابعون معاصريهم فيتصوَّرون النفس مادية وإن جعلوها مادة لطيفة جدًّا، ويذهب القول الآخر إلى أن النفس هي المبدأ الذي تتحرك به هذه الذرات،٨ وهو قول يخيل إلينا أنه رأيهم الحق، وهو أرقى من القولين السابقين وجامع لهما بحيث تكون النفس عندهم مبدأ أو علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعًا.
وفي نيويورك ٣٤٤ فندقًا، منها ٥١ يسع الواحد منها ٦٠٠ شخص، وفيها ٩٨ مرسحًا للتمثيل و٢٦ غابة وحديقة للنُّزْهَة، وسكك الحديد الداخلية تنقل أربعة ملايين راكب في كل يوم، ولا أزيد القارئ علمًا بثروة الأميركيين، بل إنِّي أذكر واحدًا منهم — وهو روكفلر — إيراده فيما يُقال يزيد عن ٤ ملايين جنيه في السنة، وأغنياؤهم يبذلون المال في الأعمال النافعة، مثل مساعدة المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، فإن روكفلر وهب في سنة واحدة — وهي سنة ١٩٠٧ — نحو ٤٠ مليون ريال، والست ساج ١٣ مليونًا، وكرنجي ٨ ملايين، والست جنيش ٥ ملايين، وقِسْ على ذلك. ولنساء الأميركان الأغنياء ولعٌ يقرب من الجنون بإنفاق الأموال على الملابس وغيرها، ذكر سنكلير — وهو عالم خبير بهذه الأمور — أنَّ السيدة منهنَّ تصرف على جلباب حرير مطرَّز من الزي الباريزي نحو ٣٠٠ جنيه، وتعمل له قبعة تلائمه بمبلغ ٥٠ جنيهًا، وقبعات الربيع بنحو مائتي جنيه، وتشتري الحذاء من جِلْدِ الأيائل وأزراره من صَدَفِ اللؤلؤ بعشرين جنيهًا، وملابس لحفلات الرقص مزخرفة بالفضة على أشكال الزهور ولها ذيل مرصَّع بالجواهر ثمنها ١٢٠٠ جنيه غير ما عليها من الجواهر، وتدفع ثمن المنديل عشرة جنيهات، وثمن الجوارب الحريرية عشرة جنيهات، وثمن مظلَّة قبضتها ذهب ولؤلؤ خمسين جنيهًا، وبعضهنَّ يلبسن الثوب مرة أو مرتين ثم يهملنه، وقد قَدَّرت ثمن الحلي على إحدى السيدات بخمسين ألف جنيه وهي ذاهبة لحفلة رقص وكان معها أحد رجال البوليس السري يحرسها بالذهاب والإياب. ولمَّا اشتُهرت ثروة الأميركان في أوروبا جعل كل ذي لقب برنس ولورد وكونت وبارون يطلب الاقتران بأميركية، فمنهم اللورد كرزون والي الهند السابق، والدوك أوف مارلبرو، والمستر شامبران، والديوك أوف مانشستر، وغيرهم من الإنكليز تزوَّجوا الأميركيات، هذا غير سراة الفرنسيس والألمان والمجر وسواهم من الذين تزوَّجوا بنات الأميركان، حتى قيل إن المبالغ التي اكتسبتها أوروبا من المثريات الأميركيات لا تقلُّ عن خمسين مليونًا من الجنيهات.
ثمة اعتراض آخر أكثر جوهرية على نظرية التغير القيمي، وهو ذلك الاعتراض الذي يتناول العلاقة بين القيم والفعل. لو أن بوسع قيم الأفراد أن تفسر حساسيتهم الجوهرية إزاء قضايا ومشكلات معينة، فليس بالضرورة أن يتجاوز أثرها هذا المستوى. ولعل من الأمثلة الدالة على ذلك ما اكتشفه ماكادم (١٩٨٦) خلال دراسته على ناشطي الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستينيات؛ إذ وجد أن التزام الناشطين المحتمل بقيم الحرية والمساواة لم يكن يُنبئ بمشاركة فعلية من جانبهم. بالمثل، لم يجد كلٌّ من فوكس وروشت (١٩٩٤) أي ارتباط بين التأييد الواسع لحركات المحافظة على البيئة والمشاركة الفعلية في هذه القضية، وذلك من واقع تحليلهما للبيانات الاستقصائية المستمَدَّة من العديد من بلدان أوروبا الغربية. يُمكن تفسير هذه المفارقة بأن قرار الأفراد بالإقدام على الفعل — بصورةٍ جمعية على وجه الخصوص — لا يتوقَّف فقط على اعتناقهم لمبادئ أو مواقف أساسية، أو كلتَيهما، بل يعتمد أيضًا على تقييمٍ معقَّد للفرص المهيئة للمشاركة في الفعل والقيود الحائلة دون ذلك. فالقيم تُصاغ من خلال أهدافٍ محدَّدة، وترتبط باستراتيجيات السلوك اللائق؛ ومن ثم مِن الضروري تفسير الوضع الخارجي باعتباره مواتيًا للفعل، أو على الأقل يتطلَّب التعبئة الفردية، بدلًا من كونه مواتيًا للتراجع أو الامتثال. ومن الضروري أن تتوافر القدرة على تحويل القيم الفردية إلى قيمٍ جمعية، مع تعيين عناصر التقارب والتضامن مع الآخرين ممن يَعتنِقُون القيم ذاتها (كلاندرمانس ١٩٨٨؛ ميلوتشي ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ جامسون ١٩٩٢أ).
وما ينبغي لنا أن نقِف عند هذا الحدِّ فلا نُنَبِّه على حقيقةٍ كانت السبب في كثيرٍ ممَّا أصابَنا من الجمود في حياتنا الحديثة، فقد أفلح بعض المُتزمِّتين فلاحًا كبيرًا في أن يَصبغوا اللغة بِصبغةٍ من القَّداسة ويَحوطوها بِسياجٍ من رُوح المُحافَظة، جعل الكثيرين منَّا يَشعرون شعورًا خَفيًّا بأن المِساس بشيءٍ من الأساليب التي جرى عليها هؤلاء اللُّغويُّون إنما فيه تهجُّم على قداسة اللُّغة وانتِهاك لحُرُمات الأقدَمين. وبالرغم من أنَّ هذا الشُّعور ليس إلَّا شعور اليأس والقُنوط، وأنَّه ليس أكثرَ من وَهْمٍ أملاه على مُخيِّلة هؤلاء ما يُلابِس الأشياء من حُرمة القِدَم، وهي حُرمة لها تأثيرها النفسي والعقلي، فإن اللغة العربية إنما هي مِلْكٌ لمن يتكلمون بها، ويؤدُّون بها أغراضَهم العلمية والأدبية والفنية، فلهم عليها ما كان للأقدَمين من حقوق المِلْك، وما اللُّغة غير وسيلة. أمَّا إذا اعتُبرَتْ غايةً فإن ما يترتَّب على هذا الاعتِبار من النتائج يكون بالِغَ الأثَرِ في الحدِّ من كِفايَتِنا وقوة ابتِكارنا، والأمر بَيِّن: فإما أن نُخضع اللغة للعِلم، وإما أن نُخضِع العِلم للُّغة. وقديمًا خَضعت اللُّغة للعلم؛ فليس لنا أن نَقلِب هذا الوضْع المَوروث، أو نُحاوِل أن نقلِب هرَم مصر الأكبر، فنجعله يرتكِز على قمَّتِه لا على قاعدته.
قبل أن أحاول وصف، أو بالأحرى استرجاع، التنوع الهائل للعوالم التي دخلتها، يجب أن أذكر بضع كلمات عن حركة المغامرة نفسها. بعد التجارب التي سجلتُها للتو، كان من الجلي أنَّ طريقة الطيران بلا جسد لم تكن ذات فائدة كبيرة. لا شكَّ بأنها قد أتاحت لنا إدراك المعالم المرئية في مجرتنا على نحو فائق الوضوح، وقد استخدمناها كثيرًا في توجيه أنفسنا حين كنا نتوصَّل إلى اكتشاف جديد عن طريق الجذب النفسي. بالرغم من ذلك، فلمَّا كانت لا تَمنحنا سوى حرية التنقُّل في المكان دون الزمان، ولمَّا كانت الأنظمة الكوكبية نادرة للغاية، فقد كان من غير المرجح على الإطلاق أن تؤدِّي طريقة الطيران المادي العشوائي وحدها إلى أيِّ نتائج. أما طريقة الجذب المادي، فقد ثبت أنها فعالة للغاية فور أن أتقناها. لقد كانت هذه الوسيلة تَعتمِد على النطاق الخيالي لعقلينا. في بداية الأمر حين كانت قدرتنا الخيالية محدودة للغاية وتَقتصِر على خبرات عالَمَينا، لم نتمكَّن إلا من التواصل مع العوالم الشديدة الشبه بعالمينا. إضافةً إلى ذلك، ففي هذه المرحلة التدريبية من عملنا، كنا نتوصَّل دومًا إلى هذه العوالم حين كانت تمرُّ بالأزمة الرُّوحانية نفسها، والتي تكمن وراء مأزق الإنسان الأرضي اليوم. بدا أنه من أجل الدخول إلى أيِّ عالم على الإطلاق، لا بد من وجود تشابُه عميق أو تطابق بين نفسَينا وبين المضيفين.
وكان للخلفاء الأولين من بني العباس عناية كبرى بتأييد الأمن وتعمير البلاد، ورعاية أهلها من الذميين والموالي، فالمنصور كان يتتبع العمال الظالمين ويأخذ أموالهم، ويستبدل بهم سواهم، ويضع ما يأخذه من أموالهم في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم٣ وكان يبعث إلى الأطراف يسأل عن أسعار الغلة لئلا يظلم الناس بعضهم بعضًا، ويبحث عن كل ما يقضي به القضاة أو يعمل به الولاة، وعما يرد إلى بيت المال وعن كل ما يحدث، فإذا رأى الأسعار تغيرت سأل عن السبب، وإذا شك في شيء مما قضى به القاضي سأله ووبخه،٤ وبعد أن كان الموالي كالأرقاء في أيام بني أمية أصبحوا في أيام العباسيين هم أهل الدولة وحماة الخلافة، يوصي الخلفاء بعضهم بعضًا برعايتهم وخصوصًا آل خراسان، فقد أوصى المنصور ابنه المهدي قائلًا: «انظر إلى مواليك، فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إذا نزلت بك، وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك.٥ وكذلك فعل المأمون وغيره، وكان المنصور يشغل نهاره في النظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف معهم مما يؤدي إلى اطمئنانهم وهدوئهم، ومن وصاياه لابنه المذكور: «يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل.»
أَلَا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتِ مِنْ نَجْدِ فَقَدْ زَادَنِي مَسْرَاكِ وَجْدًا عَلَى وَجْدِي لَقَدْ هَتَفَتْ وَرْقَاءُ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى عَلَى فَنَنِ الْأَغْصَانِ بِالْبَانِ وَالرَّنْدِ بَكَتْ مِثْلَ مَا يَبْكِي الْوَلِيدُ صَبَابَةً وَأَبْدَتْ مِنَ الْأَشْوَاقِ مَا لَمْ أَكُنْ أُبْدِي وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَا يَمَلُّ وَأَنَّ الْبُعْدَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ
«إدريس بك راغب»، وقبل الكلام عن ترجمتهِ نتكلم عن والدهِ. هو المرحوم «إسماعيل باشا راغب»، وكان قد هاجر مع والدهِ من موره إلى مصر في حروب اليونان مع الدولة، وترك في بلدهِ «بتراس» أموالًا وافرةً وأملاكًا واسعةً؛ لأنه كان من ذوي البيوتات فيها وأهل الشأن بين أهلها، ولما وصل إلى مصر تحت أعباء الهجرة والغربة رآه رجل من أهل الفراسة ومعه ابنه «إسماعيل راغب» صبيًّا تلوح عليهِ مخايل النجابة، فأشار عليهِ أن يُدخله في المدرسة الأميريَّة بأبي زعبل ففعل، فما لبث أن فاق أقرانه ودخل في معيَّة «محمد علي باشا» كاتبًا، فقرَّبه «محمد علي» لِمَا رآه فيهِ من الذكاءِ والأمانة، وقد دخل عليهِ يومًا ليختم منه أوراقًا، فدخل على عقبهِ المرحوم «سامي باشا» رئيس الديوان الخديوي في ذلك الوقت، ووقف فسأله «محمد علي» عما عنده فمجمج في كلامهِ كأنه ينتظر خروج ذلك الكاتب ليعرض ما لديهِ، فقال له «محمد علي»: أَوَيُكْتَمُ عن هذا سِرٌّ؟ اعرض ما عندك، فهذا كابني.
هو قصر باذخ يسمونهُ أيضًا الطاق جرى اسمهُ على السنة العرب وأقلامهم مجرى الأمثال بالعظمة والفخامة حتى عدوه من المبانى العجيبة بناه سابور ذو الأكتاف وهو سابور بن هرمز في القرن الرابع للميلاد لكنهُ يعرف باسم إيوان كسرى انوشروان. قضى سابور في بنائهِ نيفا وعشرين سنة أقامه في وسط المدائن على مقربة من دجلة بحيث لا يحول بين الإيوان والنهر إلاَّ الحدائق والبساتين تنتهى عند الضفة بالمسناة المتقدم ذكرها ويحيط بالإيوان جملةَّ حديقة واسعة فيها الأغراس والإزهار والرياحين والشجر من الازدرخت والليمون وغيرهما. ويحيط بالحديقة سور مبنى من الآجر لهُ أبواب عليها الحرس بقلانسهم وأتراسهم ورماحهم وفوق الأبواب رسوم فارسية منقوشة طبعًا على الطين وهو نيء كما كان يفعل الآشوريون في آثارهم. وعلى جانبي الباب الأكبر المطل على المدينة تمثالان كبيران يمثلان الثور الاشوري المجنح برأس إنسان طويل اللحية متوج الرأس وفي زاوية من زوايا الحديقة بناء الأفيال وفيهِ بعض الفيلة المرباة لركوب الأكاسرة وبين أبواب الحديقة والإيوان طرقات مرصفة بالحصى ألوانًا على شكل الفسيفساء يتألف من ترتيبها بعضها بإزاء بعض رسوم تمثل أسودًا وآدميين وفرسانًا ومركبات عليها الملوك والقواد يحدون في صيد الأسود تشبهُ رسوم ملوك أشور أسلاف الفرس ما بين النهرين وأكبر تلك الطرقات وأوسعها طريق ممتد من الباب الكبير إلى باب الإيوان يصطف إلى جانبيهِ الحرس عند دخول كسرى إلى الإيوان.
إذ إن قولًا كهذا: «خُلق الناس جميعًا متساوين» يعني على أقل تقدير أن فردًا ما «يريد» أن يكون الناس جميعًا متساوين من بعض الوجوه. ولو قلنا: «ينبغي أن يكون الناس جميعًا متساوين» كان هذا القول صراحة هو ما نسميه بالفكرة المثالية. وهذا الخلط بين «ما ينبغي» وما هو «كائن» هو عند مؤرِّخ الفكر عادة من العادات المتأصلة في رجال الفكر. ويدرك مؤرخ الفكر فوق هذا أن «ما ينبغي» و«ما هو كائن» يؤثر أحدهما في الآخر، وهما جانبان من عملية متكاملة، لا يستقل أحدهما عن الآخر ولا يتعارضان، أو هما على الأقل لا يتعارضان في أكثر الأحيان. ويعرف حقًّا مؤرخ الفكر أن الجهد الذي يُبذل في سبيل سد الثغرة بين المثالي والواقعي، بين «ما ينبغي» و«ما هو كائن»، هو من الموضوعات الرئيسية الهامة في تاريخ الفكر. هذه الثغرة لم تَنسد قط، أو على الأقل لم يَسُدَّها المثاليون الذين ينكرون «ما هو كائن» ولم يَسُدَّها الواقعيون الذين ينكرون «ما ينبغي». إن الناس لا يتصرفون باطراد تصرُّفًا منطقيًّا (معقولًا) طبقًا لما ينادون به من مُثُل. وفي هذا يكون النصر للواقعيين. غير أن مُثُلهم التي ينادون بها ليست خلوًّا من المعنى. وليس التفكير في المُثُل نشاطًا سخيفًا لا أثرَ له في حياتهم. إن المُثُل — كالشهوات — تدفع الناس إلى العمل، وفي هذا يكون النصر للمثاليين.
وبصفة خاصة يمكن إعادة إنشاء الأشجار التطورية (أو ما يسمى «تاريخ تطور السلالة») عن طريق مقارنة الدِّي إن إيه الخاص المحصور بين جدران أجزاء الخلية المسماة الميتوكوندريون (انظر شكل ٢-٢)، وهذا هو فرن الخلية الذي تُنتَج فيه الطاقة (انظر الفصل الرابع). وخلافًا للدِّي إن إيه الذي في النواة، فإن الدِّي إن إيه الميتوكوندري يأتي مباشرة من الأم، وفي حين أن الدِّي إن إيه النووي يتغير بإعادة تنظيم الجينات الخاصة بكلا الأبوين، فإن الدِّي إن إيه الميتوكوندري لا يتغير إلا بالتراكم التدريجي للطفرات من جيل إلى جيل؛ ومن ثم يُعَد سجلًّا أفضل للتغيرات التطورية. وفي عام ١٩٨٧ قام آلان ويلسون من جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي ومساعدوه بمقارنة الدِّي إن إيه الميتوكوندري في أناس من جماعات عِرقية متعددة. وبمعرفة معدل التطافر في المتوسط توصلوا إلى أن جميع العينات (وعلى سبيل التوسع، الدِّي إن إيه الميتوكوندري في جميع البشر الأحياء) منحدرة من نسخة واحدة كانت موجودة منذ ٢٠٠ ألف سنة في خلايا امرأة أفريقية؛ وهي السلف المشترك لجميع البشر. إن الجزيئات تحتوي على سجل للتاريخ أغنى من أي شيء يمكن العثور عليه في شظايا آنية فخارية أو في روابي قبور قديمة.
ثم لنفرض أن في الكون كرتين بدلًا من كرة واحدة تتحركان متقابلتين بنسبة واحدة من السرعة، ولكنهما لا تدوران حول محورهما، بل إن كلًّا منهما تظل حافظة لجهة واحدة في اتجاهها نحو الأخرى، ومن الجليِّ أن سرعتهما مهما كان مقدارها فهما إما أن تظهرا ثابتتين وإما أن تظهرا متحركتين في خط مستقيم متقابلتين أو متباعدتين، وكل ما نستطيع إذ ذاك أن نميز من تغيُّر موضعهما ينحصر في تزايد المسافة التي تفصل بينهما أو تناقصها، أما إدراكنا لأية صورة من صور الحركة الأخر فلا نستطيعه إلا بوجود جسم ثالث نتخذه معدَّلًا للقياس، وكلُّ شخص يكون فوق الجِرم الثالث قد يُحتمل أن يرى إحدى الكُرتين تنقلب على عقبها في الفضاء أو يراها متَّخِذة أية حركة أخرى، أما إذا ظلت الكُرتان غير مدرِكتين وجود جِرم ثالث، فهذه الحركات تظل غامضة على كلتيهما، وكلُّ ما يستطيع شخص أن يَعرف فهو إن كانت المسافة التي تفصل بينهما قد زادت أو نقصت بنسبة خاصة من السرعة. فإذا أدرك شخصان فوق هاتين الكرتين وجود الجرم الثالث، فربما عزا كل منهما تغير المسافات الذي يلحظانه إلى حركة الجرم الذي يحمله لا إلى حركتهما معًا. ومحصَّل القول أن تغير المسافة هو كل ما يستطاع إدراكه، أما الحركة المطلقة فإنها ليست فقط مما لا يمكن معرفته، بل إنها فاقدة لكل معنى البتَّةَ، ويترتب على ذلك أن المكان المطلق لا معنًى له بالتبعية، لِمَا تقدم.
فَبَادِرْهُ بِالْجَوَابِ فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا خَوْفٍ، وَقُلْ لَهُ بِصَوْتٍ فَصِيحِ اللَّهْجَةِ، وَاضِحِ النَّبَرَاتِ: «لَبَّيْكَ يَا سَيِّدَ التَّوَابِعِ، وَأَمِيرَ الزَّوَابِعِ! أَنَا جَابِرٌ الصَّيَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ.» فَإِذَا سَمِعَ قَوْلَكَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْكَنْزِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ. ثُمَّ يَظْهَرُ أَمَامَكَ مَارِدٌ قَبِيحُ الْخِلْقَةِ، مُشَوَّهُ السَّحْنَةِ، فِي مِثْلِ ارْتِفَاعِ الْمِئْذَنَةِ. فَلَا يَكَادُ الْمَارِدُ يَرَاكَ حَتَّى يَشْمَخَ بِأَنْفِهِ، مُتَظَاهِرًا بِاحْتِقَارِكَ وَإِنْكَارِكَ. فَلا تَكْتَرِثْ بِهِ، وَلَا تَأْبَهْ لَهُ. فَإِذَا رَآكَ مُعْرِضًا عَنْهُ، نَظَرَ إِلَيْكِ فَي صَلَفٍ وَكِبْرِيَاءَ، وَسُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَقَالَ لَكَ فِي تَهَكُّمٍ وَازْدِرَاءٍ: «أَأَنْتَ جَابِرٌ الصَّيَّادُ؟» فَأَجِبْهُ فِي الْحَالِ، وَأَتْمِمْ لَهُ مَا قَالَ: «نَعَمْ: أَنَا جَابِرٌ الصَّيَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ.» فَيَسْأَلُكَ: «مَا اسْمُ حَارِسِ الْكَنْزِ؟» فَقُلْ لَهُ: «عَنْزٌ يَصْحَبُهُ عَنْزٌ.»
كانت أقصر مادة من مواد المرسوم، التي بلغ عددها ثمان وعشرين مادة، المادة الرابعة والعشرين، وهي أكثرها أهمية فيما يتعلق بمناقشتنا هنا، فهي تنص على إلغاء كافة أشكال التعذيب وأيضًا استخدام «مقعد الخلع» من أجل الاستجواب النهائي للمتهم أمام قضاته. وكان لويس السادس عشر قد منع من قبل «الاستجواب التحضيري»، وهو استخدام التعذيب لانتزاع الاعتراف بارتكاب الجريمة، غير أنه لم يمنع استخدام «الاستجواب التمهيدي»، أي التعذيب لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، منعًا باتًّا وإنما مؤقتًا. وقد ألغت حكومة الملك «مقعد الخلع» في مايو عام ١٧٨٨، لكن لمَّا كان هذا الإجراء حديثًا للغاية، شعر النواب بالحاجة إلى توضيح موقفهم. كان مقعد الخلع وسيلة للإذلال ورمزًا لنوع من الإهانة للكرامة الإنسانية، حتى إن النواب نظروا إليه في ذلك الحين على أنه غير مقبول. وقد أرجأ النائب المنوط به تقديم المرسوم إلى اللجنة نقاشه لهذه الإجراءات حتى النهاية كي يسلط الضوء على دلالتها الرمزية. وقد أكد لزملائه من البداية أنه: «لا يمكنكم أن تتركوا وصمات القانون الحالية التي تسحق آدمية الإنسان؛ يجب أن تجعلوها تختفي على الفور.» ثم كاد يبكي عندما تناول موضوع التعذيب: أعتقد أنني أدين للإنسانية بأن أقدم لكم ملاحظة أخيرة؛ لقد حظر الملك بالفعل … في فرنسا الممارسات الوحشية التي يندى لها الجبين بغية انتزاع اعتراف بارتكاب الجريمة، باستخدام وسائل التعذيب … غير أنه ترك لكم شرف إتمام هذا العمل العقلاني العادل العظيم. غير أن قانوننا لا يزال يتضمن التعذيب التمهيدي … [أقصى درجات الوحشية الخالصة التي يعجز اللسان عن وصفها] الذي لا يزال يُستخدم لمعرفة أسماء شركاء الجريمة. إذا ثبَّتم أنظاركم على بقايا هذه البربرية أيها السادة، فستجدون تحريمها ينبع من أفئدتكم. سيكون هذا مشهدًا مؤثرًا جميلًا للكون: أن ترى ملكًا وأمةً يلتحمان بعرى المحبة المتبادلة التي لا تنفصم، يباري كل منهما حماسة الآخر من أجل الوصول بالقوانين إلى الكمال، ويحاول أن يمتاز كل منهما على الآخر في رفع أنصاب العدالة والحرية والإنسانية. في أعقاب إعلان الحقوق، أُلغي التعذيب أخيرًا إلغاءً تامًّا. لم يكن إلغاء التعذيب مُدرجًا في جدول أعمال حكومة مدينة باريس في العاشر من سبتمبر، غير أن النواب لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم عن اغتنام الفرصة المتاحة أمامهم كي يجعلوا من إلغاء التعذيب تاجًا على رأس تعديلهم الأول للقانون الجنائي.32
أثناء تقدُّم أرتين مع الجيش في وحدة المشاة القتالية، تعرَّضوا لإطلاق نارٍ من إحدى القرى الكردية على طريقهم، وقع عددٌ من الجنود جرحى وتم إسعافهم سريعًا، بعدها وُجِّهت المدفعية على القرية وتم قصفها بست قنابل، فتهدَّمت بعض البيوت الطينية من جراء القصف وهزَّة الانفجارات، كانت أصوات بكاء الأطفال وصيحات النساء قادمة منها، في مدخل القرية ظهرت أمامه امرأة من أحد البيوت وهي تحتضن رضيعها وتُهرع خارج القرية هاربة، كانت ترتدي الزي الكردي النسائي؛ جلبابًا أزرقَ فضفاضًا مع عباءة سوداء ذات أكمامٍ طويلةٍ تتطاير مع الريح، وجَّه أرتين فوَّهة بندقيته صوبها، وقبل أن يرديها قتيلةً تذكَّر العصابات التي كانت تغير على قريتهم وتقتل النساء والأطفال دون رحمة، تخيَّل أنه لو فعلها، لا يختلف شيئًا عمن كانوا سببًا في انضمامه للثوار، وفي خضمِّ هذه الأفكار في مخيِّلة أرتين والمرأة تبتعد عن ناظره سقطت فجأةً، ظنَّ أن تعيسة الحظ قد تعثَّرت، التفت إلى يساره وإذا بجندي يلوِّح بيده فرحًا وينادي: «لقد أصبتها.» بعدها توجَّه إليها، كان الطفل يصرخ من شدة البكاء، وقف الجندي على رأسها وأطلق النار على صدر الرضيع وكأنه يقتل كلبًا لا إنسانًا من لحم ودم.
وقد فَرَّقَ مفكِّرو عصر النهضة جيدًا بين ما يُسَمَّى «السحر الطبيعي» والسحر الشيطاني؛ فالأول ينسجم مع المسيحية، فلا بأس من الاشتغال به، حتى إن القديس توماس الأكويني خصَّص إحدى رسائله لهذه الممارسات تصِفُها بأنها تُعَدُّ استخدامًا ضارًّا للتعويذات السحرية ولكنه يراها استخدامًا فعالًا لها. وبينما كان السحر الشيطاني يتضمَّن محاولات فاوستية لإثارة القوى المحرمة والاتصال بشكل غير مشروع بعالم الموتى؛ فقد كان السحر الطبيعي يسعى إلى استغلال الظواهر غير المرئية وغير الملموسة والطبيعية في الوقت نفسه. وقد قيل في ذلك: إن الطبيعة كالساحر الذي ينصب المصائد في كل مكان ويُزوِّدها بأنواع معينة من الطعام للإيقاع بأنواع معينة من المخلوقات؛ فالمُزارع يحرث أرضه ويضع فيها البذور وينتظر هِبَةً من السماء … كما أن الفيلسوف المتمرِّس في الأمور الطبيعية والفلكية والذي اعتدنا أن نسميه ساحرًا يغرس الأشياء السماوية في الأشياء الأرضية من خلال تعويذات معيَّنة جذابة تُسْتَخْدَمُ في وقتها المناسب والصحيح.
وتوصف عادة هذه المعابد الصغيرة كلها بكلمة «بيت» (أي معبد) الإله فلان، أو الإلهة كذا، والآلهة التي ذكرت في هذه المعابد هي «آمون» (بنعوت مختلفة) والإله «عنتي» (الذي يمثل في صورة صقر) والإله «حرشف» (أرسفيس) ملك الأرضين في «إهناسيا المدينة» ويمثل برأس كبش، والإله «باتا».٢٢ والتاسوع المقدس، والإلهة «حتحور» والإله «حورمين» و«إزيس» معًا، و«إزيس» وحدها، والإله «مننو» والإلهة «نفتيس» بوصفها زوج الإله «ست»، والإلهة «توريس»٢٣(§ 102) والإله «أوزير» (§§§ 11, 87, 250) والإله «سبك رع» (§§ 159; 254) والإله «سبك» (§§ 12, 20, 21) والإله «تحوت» (§§ 89, 90, 40)، هذا خلافًا للملك «خع كاورع» (سنوسرت الثالث) المؤله (§ 86)، ويخرج من تعداد هذه الآلهة «حعبي» إله الفيضان، والإله «أنحور» وقد ذكرا خارج الترتيب الجغرافي، وكذلك الإله «حوراختي»، هذا بالإضافة إلى آلهة معابد العواصم الثلاث التي تكلمنا عنها فيما سبق.
فهل ترى فرقًا كبيرًا بين هذه الصورة التي يذكرونها عن حيوان الديناصور وانقراضه وبين أمَّة كان يمكنها بما لديها من مقومات ثقافية وحضارية أن تكون سريعة الحركة، شديدة الوعي بما حولها، لكنها لأسباب تريد التحليل والتوضيح جمدت وخمدت فتثاءبت فنامت، حتى دهمها من دهمها، ولم يقتصر الداهم على الذيل والأطراف كما حدث للديناصور، بل توغل في قلبها وفي حشاياها. أقول هل ترى فرقًا كبيرًا بين ما أصاب الديناصور وما قد يصيب أمة كالتي ذكرت، فإذا سألتني: وما الذي حال تلك الأمة دون أن تتحرك كما تحرك الأحرار؟ أجبتك: وهذا ما يحيِّرني، وكلما أحسست الحيرة، وثبت إلى ذهني من الذاكرة الصورة التي رسمها الشاعر العربي. وعليك أنت مهمة البحث، أين يكون الحمار في هذه الصورة؟ وأين يكون الوتد الذي يُشد إليه الحمار برمته؟ وهنا يعنُّ لي أن أثير لك سؤالًا فرعيًّا يستحق منا وقفة قصيرة، فالشاعر العربي قد اختار أن يصف الحمار والوتد بأنهما «الأذلان»، فلماذا لم يقل إنهما «الذليلان»؟ أيكون قد جعل الفرق بين «الذليل» و«الأذل» أن الأول ذليل ويعرف أنه كذلك، فيحاول أن ينفض عن نفسه الذلة إذا استطاع، وأما «الأذل» فهو الذليل الذي ليس له من الإدراك ما يعلم به أنه ذليل؟ ربما.
سياسة الإدغام التي تستهوي الأفئدة لبساطتها النظرية شديدة التعقيد بالحقيقة، فلو دققنا في نظمنا الإدارية والقضائية لعلمنا أنها مركبة إلى الغاية، وأن ذلك ناشئ عن احتياجاتنا المركبة التي أورثتنا إياها حضارة قديمة جدًّا، نحن مع أننا لم ننشأ ولم نترعرع إلا تحت حكم تلك الأنظمة ترانا ننتقد بطئها وشدة أسلوبها في الإدارة والمرافعات، وهل تظنون أن عدد أبناء فرنسا الذين يعلمون وظائف المجلس البلدي والمجلس الإداري والمجلس العام وواجبات حاكم الصلح والمحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف … إلخ كثير حتى رأيتم أن الأجمل بالزنجي أو العربي أو الأنامي أن يطبق عليه مثل هذا النظام المعقد دفعة واحدة؟ فكروا في جميع الواجبات التي لا يحق له — حسب النظام المذكور — أن يجهلها من غير أن يحكم عليه بغرامة نقدية، وفكروا فيمن يجب عليه أن يراجعه من الموظفين الذين يراقبون حركاته وسكناته، واعلموا أنه لا يجوز له أن يبيع أو يبتاع قطعة أرض، وأن يطالب جاره بدين من دون أن يراعي أشد المراسم تعقيدًا لتروا أن نظامنا لم يخلق لأجله، هو لا عهد له بغير الأنظمة البسيطة التي تلائم احتياجاته، ومن مقتضيات تلك الأنظمة أن يكون القضاء بسيطًا رخيصًا سريعًا، وأن تكون الضرائب بعيدة من المباغتة وإذ إنه لا يعرف القيود والموانع في الحياة يعتبر الحرية التي نزعم أننا نمنحه إياها عظيمة الاستبداد.
وذلك أني كنت ببغداد في أيام خلافة أمير المؤمنين المنتصر بالله، وكان يحب الفقراء والمساكين، ويجالس العلماء والصالحين، فاتفق له يومًا أنه غضب على عشرة أشخاص، فأمر المتولي ببغداد أن يأتيه بهم في زورق، فنظرتهم أنا، فقلت: ما اجتمع هؤلاء إلا لعزومة، وأظنهم يقطعون يومهم في هذا الزورق في أكل وشرب، ولا يكون نديمهم غيري. فقمت ونزلت معهم واختلطت بهم، فقعدوا في الجانب الآخَر، فجاء لهم أعوان الوالي بالأغلال ووضعوها في رقابهم، ووضعوا في رقبتي غلًّا من جملتهم، فهذا يا جماعة ما هو إلا من مروءتي وقلة كلامي؛ لأني ما رضيتُ أن أتكلَّم، فأخذونا جميعًا في الأغلال، وقدَّمونا بين يدي المنتصر بالله أمير المؤمنين، فأمر بضرب رقاب العشرة، فضرب السياف رقاب العشرة، وقد بقيت أنا، فالتفت الخليفة فرآني، فقال للسياف: ما بالك لا تضرب رقابَ جميع العشرة؟ فقال: ضربتُ رقابَ العشرة كلهم. فقال له الخليفة: ما أظنك ضربتَ رقابَ غير تسعة، وهذا الذي بين يديَّ هو العاشر. فقال السياف: وحقِّ نعمتك إنهم عشرة. قال: عُدُّوهم. فعدوهم فإذا هم عشرة، فنظر إليَّ الخليفة وقال: ما حملك على سكوتك في هذا الوقت؟ وكيف صرتَ مع أصحاب الدم؟
٢٦٣ العين المقدسة هنا التي يقدِّمها «تحوت» للإله «رع» الذي كَنَى عنه «بالأمير الجليل في عين شمس»، هي بلاد مصر أو تاجها، وهي الموضوع الذي تدور حوله المخاصمة بين «حور» و«ست»؛ وذلك أنه لما اعتزل «أوزير» الملك ونزل إلى العالم السفلي ليحكم فيه، أصبح عرش البلاد خاليًا، وتنازعه كلٌّ من «حور» و«ست». وقد جاء «تحوت» بالعين المقدسة التي هي مصر نفسها ووضعها أمام الآلهة ليحكموا لمَن يُعطي وظيفة الملك؛ أتُعطَى «حور» أم «ست»؟ ولذلك فإن تفسير العين المقدسة بمصر في هذا الموقف مقبول جدًّا. والواقع أننا نجد في العصور المتأخرة أن البلاد المصرية كان يُرمَز لها بالعين المقدسة (وازيت)، وكذلك كان يُرمَز لتاج مصر بالعين المقدسة. وقد بحث هذا الموضوع الدكتور «سبيجل» الألماني بالتفصيل في دراسته لهذه القصة: Spiegel. Die Erzählung Vom Streite Des Horus und Seth P. 85 ff. وفي هذه الدراسة نجد أن «تحوت» يقوم بإعطاء العين (أي مصر) سيدها الذي يستحقها، وهو «حور».