text
stringlengths
0
254k
موسى عليه السلام (7) نُتابِعُ في هذا الفصل إيرادَ ما ذكره الله عز وجل في سورة "طه" عمَّا دار بين موسى وفرعون، عند قيام موسى بدعوة فرعون إلى الله حيث يقول عز وجل في سياق ما استدلَّ به موسى عليه السلام على أن الله وحدَه هو رب كل شيء وسيده ومليكه، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 55 - 59]. وقال عز وجل في سورة الشعراء: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 18 - 37]. ويقول تعالى في سورة النمل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 13، 14]. ويقول عز وجل في سورة القصص: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 36 - 39]. وقال تعالى في سورة غافر: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 23 - 27]. وعندما أَظْهَر موسى هذا الالتجاءَ العظيم إلى الله وحده، سخَّر الله عز وجل له رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يكتُم إيمانه، فبدأ في الدفاع عن موسى عليه السلام، وأخذ ينصح فرعون وملأه بضرورة المسارعة إلى طاعة موسى عليه السلام والدخول في دينه قبل أن يسلِّطَ اللهُ على المكذِّبين عقوبته التي ينزلها بالمكذبين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 28 - 38]. وعندما وصل فرعون إلى هذه الدرجة من البغي والطغيان صرَّح الرجل وأعلنَ إيمانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 38 - 45]. وقال تعالى في سورة الزخرف: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ [الزخرف: 47]. وقال تعالى في سورة الدخان: ﴿ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ [الدخان: 18 - 21]. وقال تعالى في سورة الذاريات: ﴿ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 38، 39]. وقال تعالى في سورة النازعات: ﴿ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 20 - 24].
وسائل معالجة مشكلة الفقر في الإسلام يقول أحد الحكماء: (من أراد النجاح في هذا العالم فعليه أن يتغلب على أسس الفقر الستة: النوم، التراخي، الخوف، الغضب، الكسل، المماطلة). إن مشكلة الفقر من أهم المشاكل التي تواجه الإنسان، وقد أشار القرآن الكريم إليها في مواضع كثيرة، يقول الله تعالى في سورة قريش: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"؛ (هذا الحديث يرويه سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم/300)، والترمذي في "السنن" (2346)، وقال: حسن غريب، وقال الشيخ الألباني رحمه الله بعد تخريجه الحديث عن جماعة من الصحابة: "وبالجملة، فالحديث حسن إن شاء الله بمجموع حديثي الأنصاري وابن عمر، والله أعلم؛ انتهى، "السلسلة الصحيحة" (رقم/ 2318). إن التراث الفقهي يمتلئ بالكثير من المسائل حول مشكلة الفقر وما يرتبط بها؛ مثل: تعريف الفقر، وكيفية قياسه، وأهم مؤشراته، وكيفية مواجهته. تعريف مشكلة الفقر: تتعدد تعريفات الفقر حسب الدول، وحسب مستوى التقدم الاقتصادي، وهناك درجات للفقر، ومن هذه الأنواع الفقر المدقع؛ وهو الفقر في الغذاء؛ أي: إن الفقير لا يجد ما يسد رمقه، ويدل ذلك على انقطاع السُّبُل أمام الفقير. وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة أن يسأل الفقير الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ مُوجعٍ"؛ أخرجه مسلم، باب من تحل له المسألة (2/ 722)، رقم: (1044). وقد تناول فقهاء الإسلام هذه المشكلة منذ قرون طويلة خلت، ونشير هنا إلى أن جمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: إن معنى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية؛ أي: بمستوى معيشة يوفر الضروريات. جمود الدراسات الفقهية: الأسباب ومحاولة العلاج: وقد دلَّت الآيات القرآنية على مشكلة الفقر، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، وتدل الآية الكريمة على أن الفقر واقع في الوقت الحالي، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]؛ أي: إن الفقر غير موجود في الوقت الحالي، ويخشى من وقوعه مستقبلًا. ومن أهم أسباب الفقر في الجانب العقائدي الانحراف عن الكسب الطيب، كما توضِّحه بعض الآيات الكريمة؛ مثل قول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، كما أنه اختبار، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]. وسائل محاربة الفقر: أولًا: الجانب العقائدي: 1- ينكر الإسلام النظرة الرأسمالية من أساسها، ويرى أن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، يقول الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33]. 2- الإيمان بأن الله تعالى يملك خزائن الرزق، يقول الله عز وجل: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23]، ويقول الله تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: 6]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]. 3- الدعاء والاستغفار من موجبات الرزق، يقول الله عز وجل: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10- 12]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3]، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت"؛ (وإسناد الحديث حسن، وصححه ابن حبان في "صحيحه" (3/ 303)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 367)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 383)، والألباني في "صحيح النسائي"، وقوَّاه محققو "مسند أحمد" (34/ 17) وغيرهم). وقد قرن صلى الله عليه وسلم الكفر بالفقر؛ حيث إن الفقر قد يسبب الكفر والعياذ بالله، إذا لم يقترن بإيمان قوي. 4- الإيمان بالله وتقواه سبحانه وتعالى، والالتزام بالمنهج الرباني في (افعل) و(لا تفعل) من موجبات الرزق، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، ويقول الله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]. ثانيًا: الأخذ بالأسباب: 1- يحدد المنهج الاقتصادي الإسلامي السياسات الاقتصادية والوسائل التي تعالج الفقر؛ وهي كالآتي: العمل الجاد والضرب في الأرض، والهجرة من مكان إلى مكان طلبًا للرزق الطيب، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية التي سخَّرها الله تعالى للإنسان، والاقتصاد في النفقات، وتجنب الإسراف، والادِّخار والاستثمار. 2- كما يحدد الإسلام طرق تنمية المال، ولا يقر أي وسائل غير مشروعة؛ مثل: الربا، والغش، والقمار، والاحتكار، والاستقطاع من أجور العمال لكي يزيد الربح، كما لا يعترف بالنهب أو السرقة أو السلب بالإكراه كوسائل للتملُّك أو لتنمية المال. 3- إن للإسلام في إعادة توزيع الثروة سياسة حكيمة عادلة تتفوق على الأنظمة الغربية المالية في عصرنا الحالي، فمثلًا الإسلام يعد العمل هو الأساس والسبب الوحيد للكسب والملكية، سواء عمل الجسم أو الفكر، ويحرم الربا؛ لأن رأس المال في ذاته ليس سببًا من أسباب الكسب الصحيحة. 4- إن العلاقة وثيقة بين الفقر والبطالة، بل إن السعي في طلب الرزق من أهم وسائل علاج مشكلة الفقر، ومن وسائل الإسلام في زيادة التشغيل: الحث على العمل، والسير في الأرض، وتنمية العنصر البشري ذاته؛ مما يؤدي إلى تقليل التفاوت بين أفراد المجتمع. 5- تعتبر الزكاة، والصدقات الاختيارية، وكفالة الموسرين من الأقارب من أهم وسائل علاج مشكلة الفقر، وزكاة الأموال هي أداة لإعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء، وهي ضريبة دائمة تؤخذ بنظام ثابت ما يعادل 2,5% إلى 5% من أصل الثروة كل عام. وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أرض اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويردها على فقرائهم. إن أهم مشكلة يمكن من خلال الزكاة حلها؛ هي مشكلة التفاوت الاقتصادي الفاحش؛ حيث يعمل الإسلام على عدالة التوزيع، وتقارب الملكيات في المجتمع. والزكاة أول تشريع مُنظَّم في سبيل الضمان الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة لصالح الفقراء، والدولة هي التي تجمع هذه الضريبة، وتتولى إنفاقها بنظام معين، وفي يد الدولة أيضًا أن تفرض ضرائبَ لكل وجه آخر (مثل: ضريبة للتعليم أو الصحة أو الضمان الاجتماعي..) تعجز الموازنة العامة عن الإنفاق عليه. 6- إن محاربة البطالة عن طريق الزكاة يسهم في عدالة توزيع الثروات؛ كما تسهم في حل مشكلة الفقر، وهنا نجد أن من يستحق الزكاة من العاطلين عن العمل، هم من في بطالة إجبارية وليس بطالة اختيارية، وقد تمت الإشارة إلى الفرق بينهما. 7- كما أن من حق الدولة نزع الملكيات، وأن تأخذ نسب معينة من الثروات تجد أنها ضرورية لحماية المجتمع من أزمات أو أوبئة أو أمراض.. وأي آفات في المجتمع، كل ذلك في سبيل تحقيق مستوى معيشة لائق لكل فرد في المجتمع الإسلامي. 8- لأن العلاقة وثيقة بين الفقر والقهر من جهة، وبينه وبين الجهل والمرض من ناحية أخرى؛ فإن محاربة الفقر تقع في مقدمة أولويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الإسلامي، وتجلَّى ذلك بوضوح في نظام الوقف الإسلامي من قديم الزمن. وشرع الزَّكاة، والصَّدقات، وجعلهما سببًا للقضاء على الفقر؛ بل جعل الزَّكاة من قبيل المشاركة الفعَّالة لأعضاء المجتمع في مجتمعاتهم، قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، فأخذ الصَّدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها، ولم ينبتوا عنها، وفي تطوُّعهم بهذه الصَّدقات تطهير لهم وتزكية. وخلاصة القول: إنَّ الإسلام قد تطرَّق لمشكلة الفقر من البداية، وجعل مسئوليَّة القضاء على الفقر مسئوليَّة مشتركة بين الفرد والدَّولة، فعلى الفرد أن يسعى إلى إتقان العمل، وزيادة الإنتاج، وربط هذا بالعبادة. وعلى الدَّولة أن تحرص على القضاء على الفقر بخلق فرص عمل للعاطلين، وتوفير الحياة الكريمة لغير القادرين، وَصَدَقَاتٍ جَارِيةٍ، ثِمَارُهَا مُسْتَمِرَّةٌ إلى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الوَارِثِينَ. اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقْضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِنا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وسلم تسليمًا.
المستشرقون وعلوم المسلمين (تأثُّر التلاميذ) تأثَّر رهط من التلاميذ العرب والمسلمين بالفكر الاستشراقي، وانبهروا بما أولاه هؤلاء للثقافة الإسلامية ودأبوا عليه من البحث والتقصي، فتبنوا أفكارهم ورؤاهم ونظرياتهم حول استمداد الفقه الإسلامي من القانون الروماني، وحول غيره من الرؤى ذات العلاقة؛ مثل: أصالة اللغة العربية [1] ، وأصالة الترقيم والحركات أو التشكيل الذي لم يكن حاضرًا في منطلق التدوين، سواء في الجاهلية أم في صدر الإسلام [2] . جاء هذا التأثُّر إما بالدراسة عليهم أو بالانبهار بما خاضُوا به من موضوعات لثقافة لا ينتمون إليها، أو من ضعفاء الخلفية العلمية الذين يلتقطون المعلومة الاستشراقية في مسار العناية بالآداب والفنون الغربية، والتأثُّر بالفلاسفة الغربيين ثم الالتفات إلى ما قالوه عن الإسلام بقدر من الانبهار، على اعتبار أن فيه جديدًا لم يَطرقه علماء المسلمين! ومِن ثمَّ قبول نظريات المستشرقين حول الإسلام والقرآن الكريم والرسالة، والترويج لها، وربما تقمصها وادعاؤها، إلى درجة القول أن هؤلاء قد فهموا الإسلام أفضل من فهم أهله له! كثر التعبير هنا بـ "بعض" المستشرقين، فلم أرد التعميم كما جرت عادة بعض الدارسين؛ فليس هذا ديدن جميع المستشرقين، بل إنَّ منهم من دافع عن الفقه الإسلامي ونظر إليه على أنه "حيٌّ مُتفاعل مطبَّق في المجتمعات الإسلامية وقائم في ضمائر أفرادها" [3] ، فمسألة طبيعة النظام القانوني عنده "محسومة في الفكر الإسلامي بطريقة لا تحتمل أي تردُّد؛ لأن مُقتضى الإيمان في الإسلام أن القانون هو مجموعة القواعد الموحى بها من عند الله، وإنكار ذلك يعني الخروج من الإسلام" [4] ، كما هو مؤدَّى طرح المستشرق نويل ج. كولسون في كتابه: في تاريخ التشريع الإسلامي: المنهج والقراءة [5] ، ولم يكن نظامًا باليًا قد بلغ مرحلة الجمود عن التطور اللازم لأي نظام قانوني حي قابل للاستمرار، كما هو افتراض بعض المستشرقين الذين يلومون من يقول بخلاف ذلك، حيث يلوم المستشرق الألماني يوسف شاخت القانوني نويل ج. كولسون على موقفه الإيجابي من الفقه الإسلامي، وإن لم يخْل كولسون نفسه من الهنات التي يقع فيها عادةً كثير من المستشرقين [6] . [1] انظر: عبدالله بن حمد الخثران. أصالة النحو العربي، مجلَّة كلية اللغة العربية (الرياض)، مج 11 (1401هـ - 1981م)، ص 315 - 326. [2] انظر: علي علي مصطفى صبح. أصالة الترقيم بين دعوى المستشرقين وعراقة التراث العربي القديم، الفيصل، ع 73 (7 / 1403هـ / 4 - 5 / 1983م)، ص 47 - 49. [3] انظر: محمد سليم العوَّا. النظام القانوني الإسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة، 1: 255، في: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، 2 مج، الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1405هـ - 1985م. [4] انظر: محمد سليم العوَّا. النظام القانوني الإسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة، المرجع السابق، 1: 254 - 255. [5] انظر: محمد سليم العوَّا. النظام القانوني الإسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة، المرجع السابق، 1: 254 - 255. وانظر أيضًا: ن. ج. كولسون. في تاريخ التشريع الإسلامي: المنهج والقراءة / ترجمة وتعليق محمد أحمد السراج، مراجعة حسن محمود عبداللطيف، بيروت: المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1412هـ / 1992م. [6] انظر: عبدالملك منصور المصعبي. المستشرقون في الدراسات الإسلامية من خلال مصادر التشريع: كتاب ن. ج. كولسون. في تاريخ التشريع الإسلامي نموذجًا، 1: 311 - 326، في: بحوث المؤتمر الدولي الثاني: المستشرقون والدراسات العربية الإسلامية، 5 مج، المنيا: كلية دار العلوم، جامعة المنيا، 1427هـ / 2006م.
(روح العالم رجال أشرق بهم العالم بنور الوحي) لأحمد الطويان صدر حديثًا كتاب " روح العَالم رجال أشرق بهم العالم بنور الوحي "، تأليف : " أحمد بن صالح الطويان "، نشر: " دار الحضارة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب يعرض صفحات من حياة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وفاءً بحقهم، وبيانًا لفضلم، ففي دعوة الرسل دروس وعبر، يستلهم منها المؤمن منهج الدعوة والإصلاح، والإيمان بهم جميعًا من أركان الإيمان، لا نفرق بين أحد من رسله، آمنا بهم جميعًا، وشهدنا لهم بالبلاغ كما شهد لهم الله في القرآن، فنحن الأمة الشاهدة على الأمم. ويبدأ الكاتب بسيدنا آدم عليه السلام ويعرض تسلسل الأنبياء ومواقفهم في تبليغ رسالة ربهم مع أقوامهم، وأعداء الدعوة، حتى ينتهي بالمسيح عليه السلام، ثم يبين من هم أحق الناس بدعوة عيسى بن مريم. وقد راعى الكاتب الإيجاز والأسلوب الأدبي، والتركيز على العبرة والعظة المستفادة من قصة كل نبي ورسول، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]. والمؤلف د. " أحمد بن صالح بن إبراهيم الطويان " له العديد من التحقيقات والرسائل العلمية، ومن مصنفاته: • "كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأخطاء". • "تيسير التفسير" - عرض مختصر لمعاني القرآن الكريم. • "مختصر سيرة الرسول" للشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب. • "الأجوبة الجلية في الأحكام الحنبلية". • "حاشية الدروس المهمة لعامة الأمة": لسماحة العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن ابن باز. • "واحد". • "دليل المعتمر". • "الدرر الحسان في أحاديث ومواعظ رمضان". • "عمدة الطالب لنيل المآرب" تأليف منصور بن يونس البهوتي؛ تحقيق أحمد بن صالح إبراهيم الطويان. • "شروط الصلاة" للشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ عني بها أحمد بن صالح الطويان. • "الطهور شطر الإيمان". • "الملكوت رحلة في أسرار الوجود والزوال والبقاء والفناء".
ملخص كتاب جلب السعادة عبادة الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، من اتبع هداه فلا يَضِل ولا يَشقى، ومن أعرض عن ذِكْرِه فإنَّ له معيشة ضنكًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد: فهذا تلخيص لأهم ما ورد في كتاب (جلب السعادة عبادة، كيف نستثمر موارد السعادة في المرحلة الجديدة؟) لشيخنا الجليل الدكتور محمد بن بشر القباطي وفقه الله، مع بعض الزيادات المناسبة. يغفل كثير من المسلمين عن أمرين مهمين: الأمر الأول: الفرح بفضل الله ورحمته، وهذا يعُمُّ النعم الدينية والدنيوية. الأمر الثاني: تبشير المؤمنين بكل خير في الدنيا والآخرة، إذا تمسكوا بشرع الله، واستقاموا على طاعته. حقيقة السعادة: هي انشراح قلب المسلم ورضاه، وفرحه بطاعة الله، وبما رزقه من نِعَمٍ دينية ودنيوية. • السعادة تزيد بتحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل الشرور وتقليلها. • على العاقل أن يبذل جهده في استثمار ما يسَّر الله له من موارد السعادة؛ لإنتاج ما يسعده ويؤنس قلبه، ويفيض على أسرته مودة ورحمة، وعلى أرحامه بِرًّا وصلة، وعلى مجتمعه أَمْنًا وإيمانًا، وسلامًا وإسلامًا، وتعاونًا على البر والتقوى، فموارد السعادة لا تُسعِدُ الإنسان إذا لم يستثمرها بنفسه. • الإنسان يتقلب في حياته بين السراء والضراء، فعلى المسلم العاقل أن يعيش حياة السعادة والطمأنينة والرضا ما استطاع، وي دفع المنغِّصات وأسباب الحزن والشقاء ما استطاع، فإن أصابته سراءُ شكر، وإن أصابته ضراءُ صبر، وإن أذنب استغفر. • الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية هو أصل السعادة للفرد والمجتمع، والحياة الطيبة لا تكون إلا بالإيمان والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، وتقوى الله أعظم سبب لسعادة الفرد والمجتمع؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]. ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ • الشيطان يحرص على تعاسة الإنسان وشقائه وضلاله بالإفراط أو التفريط، فمن الناس من يقع في الغلو والتشدد، ومنهم من يقع في التساهل والمعاصي، وخير الأمور أوسطها، والدين الحق وسط، وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]. • التعليم إسعاد وإعمار أو إشقاء ودمار، فلا بد من صحة العلم الذي يتعلمه الإنسان، سواء في التخصصات الشرعية أو الدنيوية، وكثير من الناس انبهر بالحضارة الغربية، ولم يعرف حقيقتها الزائفة؛ فهم كما قال الله عنهم: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، فحضارة الكفار المعاصرة حضارة ضالة خدَّاعة، تُبعِد الناس عن الحق، وتُفسِد الدين والعقل، والفطرة والأخلاق، وعلى المسلمين أن يأخذوا ما عند الكفار من خيرٍ بحذر، وأن يطوِّروا العلم الدنيوي بما يوافق متطلبات الدين والدنيا، وأن يتركوا الشر والفساد الذي هو غالبٌ على الكفار في دينهم وأخلاقهم وثقافتهم. • على المسلم أن يحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه، فالسعادة تزداد بجلب ما ينفع ودفع ما يضر، فليستعِنِ المسلم بالله في تحصيل الخير، ودفع الشر بقدر استطاعته، ولا يعجز فيُعطِّل ما يستطيع فعله من الأسباب، بل عليه أن يتوكل على الله فيعتمد قلبه على الله وحده، مع الأخذ بالأسباب الشرعية، في جلب المنافع الدينية والدنيوية، ودفع المضار الدينية والدنيوية، ثم بعد عمله بالأسباب يَرضَى بما كتب الله له. • المسلم يعفو عمَّن أساء إليه ليعفوَ الله عنه، فمن سامح الناس سامحه الله، ومن رفع شعار: (لا لوم بعد اليوم)، فسيفتح الله له أبوابًا من السعادة، ويُجَنِّبُه كثيرًا من المنغِّصَات، فلومُ الآخرين، والإكثار من التثريب والمعاتبات سببٌ لتضييع الطاقات والأوقات، وإثارة المنغِّصَات والمكدِّرات. • حُسْنُ الأخلاق أثقل ما يُوضع في ميزان العبد يوم القيامة، والكلمة الطيبة صدقة، والتبسم في وجه المسلم صدقة، والعفو عن الناس فضيلة، والإصلاح بين الناس عبادة عظيمة، وخير الناس أنفعهم للناس، ومن أسْعَدَ غيره أسعده الله، وهذه كلها من أسباب السعادة. • قال الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، على المسلم أن يرضى من أخلاق الناس بما تيسَّر منهم، ولا يُكلِّفهم ما يعسر عليهم، مع تعليمهم ودعوتهم إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن الحكمة: الإعراض عن الجاهلين، وعدم تضييع الأوقات في مجادلتهم ومخاصمتهم. • لا يجوز تحميل النفس فوق طاقتها، وليس من الحكمة حث جميع الناس على درجة السابقين المقرَّبِين، فالناس يختلفون في قوة إيمانهم، وفي قواهم وطبائعهم؛ وفي الحديث: ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا))، ((وسدِّدوا وقاربوا وأبشروا)). • لا يجوز حرمان النفس من الطيبات التي يقدر عليها الإنسان؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، وتجديد الحياة وتحسينها بالمباحات المتيسرة سببٌ للسعادة، كالسفر أو الخروج للنزهة أحيانًا إلى أماكن غير مشبوهة، والرياضة واللعب المباح نادرًا، ومجالسة الأهل والأصحاب بالحديث المباح من غيرِ قيلٍ وقال، ولا غِيبةٍ وخِصام. أعظم أسباب السعادة: 1) المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها في المساجد، والإكثار من نوافل الصلاة والصيام. 2) المداومة على ذكر الله في جميع الأحوال، والإكثار من شكر الله على نِعَمِه الظاهرة والباطنة. 3) دعاء الله وحده لا شريك له، والإكثار من الدعاء بخيرَيِّ الدنيا والآخرة. 4) تلاوة القرآن وتعلم تفسيره وتدبره، وقراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسنته، والقراءة في كتب العلم النافعة، فمِنْ أعظمِ لذات الدنيا المعنوية: طلب العلم الشرعي النافع. 5) مجالسة العلماء والصالحين للاستفادة من علمهم ونصحهم، وهجر الفاسدين والتافهين وترك متابعتهم، فالصاحب ساحب، والمرء على دين خليله. 6) التفكُّر، فمن تفكَّر عرَف عظمة الله سبحانه، وعرف حقائق الأشياء، ونظر إلى النهايات والعواقب، ولم يغترَّ بالْمُغْرِيات والْمُلْهيات، واعتبَرَ بما يسمع ويرى ويقرأ. 7) تذكُّرُ نِعَمِ اللهِ على العبد سببٌ عظيمٌ لسعادته، والنظر إلى من هو أسفل منك في الدنيا، وترك الحسد، وعدم الغِل والبغضاء للمؤمنين الصالحين، المتقدمين والمتأخرين. 8) طلب الرزق الحلال، والقناعة بالحلال وإن كان قليلًا. 9) الإيمان بالقدر سببٌ عظيمٌ للسعادة. 10) الزهد في الدنيا الفانية، والرغبة في الآخرة الباقية، مع الأخذ بنصيبه من متاع الدنيا المباح، فالمسلم العاقل يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غَدًا. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]. ملخص كتاب جلب السعادة عبادة الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، من اتبع هداه فلا يَضِل ولا يَشقى، ومن أعرض عن ذِكْرِه فإنَّ له معيشة ضنكًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد: فهذا تلخيص لأهم ما ورد في كتاب (جلب السعادة عبادة، كيف نستثمر موارد السعادة في المرحلة الجديدة؟) لشيخنا الجليل الدكتور محمد بن بشر القباطي وفقه الله، مع بعض الزيادات المناسبة. يغفل كثير من المسلمين عن أمرين مهمين: الأمر الأول: الفرح بفضل الله ورحمته، وهذا يعُمُّ النعم الدينية والدنيوية. الأمر الثاني: تبشير المؤمنين بكل خير في الدنيا والآخرة، إذا تمسكوا بشرع الله، واستقاموا على طاعته. حقيقة السعادة: هي انشراح قلب المسلم ورضاه، وفرحه بطاعة الله، وبما رزقه من نِعَمٍ دينية ودنيوية. · السعادة تزيد بتحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل الشرور وتقليلها. · على العاقل أن يبذل جهده في استثمار ما يسَّر الله له من موارد السعادة؛ لإنتاج ما يسعده ويؤنس قلبه، ويفيض على أسرته مودة ورحمة، وعلى أرحامه بِرًّا وصلة، وعلى مجتمعه أَمْنًا وإيمانًا، وسلامًا وإسلامًا، وتعاونًا على البر والتقوى، فموارد السعادة لا تُسعِدُ الإنسان إذا لم يستثمرها بنفسه. · الإنسان يتقلب في حياته بين السراء والضراء، فعلى المسلم العاقل أن يعيش حياة السعادة والطمأنينة والرضا ما استطاع، وي دفع المنغِّصات وأسباب الحزن والشقاء ما استطاع، فإن أصابته سراءُ شكر، وإن أصابته ضراءُ صبر، وإن أذنب استغفر. · الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية هو أصل السعادة للفرد والمجتمع، والحياة الطيبة لا تكون إلا بالإيمان والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، وتقوى الله أعظم سبب لسعادة الفرد والمجتمع؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]. ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ = ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ · الشيطان يحرص على تعاسة الإنسان وشقائه وضلاله بالإفراط أو التفريط، فمن الناس من يقع في الغلو والتشدد، ومنهم من يقع في التساهل والمعاصي، وخير الأمور أوسطها، والدين الحق وسط، وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]. · التعليم إسعاد وإعمار أو إشقاء ودمار، فلا بد من صحة العلم الذي يتعلمه الإنسان، سواء في التخصصات الشرعية أو الدنيوية، وكثير من الناس انبهر بالحضارة الغربية، ولم يعرف حقيقتها الزائفة؛ فهم كما قال الله عنهم: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، فحضارة الكفار المعاصرة حضارة ضالة خدَّاعة، تُبعِد الناس عن الحق، وتُفسِد الدين والعقل، والفطرة والأخلاق، وعلى المسلمين أن يأخذوا ما عند الكفار من خيرٍ بحذر، وأن يطوِّروا العلم الدنيوي بما يوافق متطلبات الدين والدنيا، وأن يتركوا الشر والفساد الذي هو غالبٌ على الكفار في دينهم وأخلاقهم وثقافتهم. · على المسلم أن يحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه، فالسعادة تزداد بجلب ما ينفع ودفع ما يضر، فليستعِنِ المسلم بالله في تحصيل الخير، ودفع الشر بقدر استطاعته، ولا يعجز فيُعطِّل ما يستطيع فعله من الأسباب، بل عليه أن يتوكل على الله فيعتمد قلبه على الله وحده، مع الأخذ بالأسباب الشرعية، في جلب المنافع الدينية والدنيوية، ودفع المضار الدينية والدنيوية، ثم بعد عمله بالأسباب يَرضَى بما كتب الله له. · المسلم يعفو عمَّن أساء إليه ليعفوَ الله عنه، فمن سامح الناس سامحه الله، ومن رفع شعار: (لا لوم بعد اليوم)، فسيفتح الله له أبوابًا من السعادة، ويُجَنِّبُه كثيرًا من المنغِّصَات، فلومُ الآخرين، والإكثار من التثريب والمعاتبات سببٌ لتضييع الطاقات والأوقات، وإثارة المنغِّصَات والمكدِّرات. · حُسْنُ الأخلاق أثقل ما يُوضع في ميزان العبد يوم القيامة، والكلمة الطيبة صدقة، والتبسم في وجه المسلم صدقة، والعفو عن الناس فضيلة، والإصلاح بين الناس عبادة عظيمة، وخير الناس أنفعهم للناس، ومن أسْعَدَ غيره أسعده الله، وهذه كلها من أسباب السعادة. · قال الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، على المسلم أن يرضى من أخلاق الناس بما تيسَّر منهم، ولا يُكلِّفهم ما يعسر عليهم، مع تعليمهم ودعوتهم إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن الحكمة: الإعراض عن الجاهلين، وعدم تضييع الأوقات في مجادلتهم ومخاصمتهم. · لا يجوز تحميل النفس فوق طاقتها، وليس من الحكمة حث جميع الناس على درجة السابقين المقرَّبِين، فالناس يختلفون في قوة إيمانهم، وفي قواهم وطبائعهم؛ وفي الحديث: ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا))، ((وسدِّدوا وقاربوا وأبشروا)). · لا يجوز حرمان النفس من الطيبات التي يقدر عليها الإنسان؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، وتجديد الحياة وتحسينها بالمباحات المتيسرة سببٌ للسعادة، كالسفر أو الخروج للنزهة أحيانًا إلى أماكن غير مشبوهة، والرياضة واللعب المباح نادرًا، ومجالسة الأهل والأصحاب بالحديث المباح من غيرِ قيلٍ وقال، ولا غِيبةٍ وخِصام. أعظم أسباب السعادة: 1) المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها في المساجد، والإكثار من نوافل الصلاة والصيام. 2) المداومة على ذكر الله في جميع الأحوال، والإكثار من شكر الله على نِعَمِه الظاهرة والباطنة. 3) دعاء الله وحده لا شريك له، والإكثار من الدعاء بخيرَيِّ الدنيا والآخرة. 4) تلاوة القرآن وتعلم تفسيره وتدبره، وقراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسنته، والقراءة في كتب العلم النافعة، فمِنْ أعظمِ لذات الدنيا المعنوية: طلب العلم الشرعي النافع. 5) مجالسة العلماء والصالحين للاستفادة من علمهم ونصحهم، وهجر الفاسدين والتافهين وترك متابعتهم، فالصاحب ساحب، والمرء على دين خليله. 6) التفكُّر، فمن تفكَّر عرَف عظمة الله سبحانه، وعرف حقائق الأشياء، ونظر إلى النهايات والعواقب، ولم يغترَّ بالْمُغْرِيات والْمُلْهيات، واعتبَرَ بما يسمع ويرى ويقرأ. 7) تذكُّرُ نِعَمِ اللهِ على العبد سببٌ عظيمٌ لسعادته، والنظر إلى من هو أسفل منك في الدنيا، وترك الحسد، وعدم الغِل والبغضاء للمؤمنين الصالحين، المتقدمين والمتأخرين. 8) طلب الرزق الحلال، والقناعة بالحلال وإن كان قليلًا. 9) الإيمان بالقدر سببٌ عظيمٌ للسعادة. 10) الزهد في الدنيا الفانية، والرغبة في الآخرة الباقية، مع الأخذ بنصيبه من متاع الدنيا المباح، فالمسلم العاقل يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غَدًا. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
نظرية المعرفة الإسلامية تُعرَف نظرية المعرفة بأنها: البحث في طبيعة المعرفة وأصلها، وقيمتها ووسائلها وحدودها [1] ، ويُرَدُّ نشأتها – كنظرية - للقرن السابع عشر الميلادي، وعلى الأخص عند لوك، وإلى فهم العقل من حيث أن له كيانًا خاصًّا [2] ، ويقصد هنا كتاب المفكر الإنجليزي جون لوك المتوفى عام ١٧٠٤م، وكتابه " مقالة عن الفهم الإنساني "، الذي نُشر عام ١٦٩٠ م، وهو يحتوي على أربعة أقسام: يعالج القسم الأول نظرية الأفكار والمبادئ الفطرية، وأما القسم الثاني فيتناول مصادر أفكارنا، ويتعرض القسم الثالث للعلاقة بين الفكر واللغة، أما القسم الرابع والأخير فهو ينفرد بالبحث في نظرية المعرفة [3] ، وكثرت الإشارة للقسم الرابع على أنه لحظة ميلاد نظرية المعرفة. واعتذر بعضهم بأن ما أُلِّف قبل ذلك لم يكن في نظرية المعرفة الطبيعية أو العلمية أو الإبستمولوجيا، وينبهنا د. محمود فهمي زيدان في مقدمته على ترجمة كتاب الفيلسوف الفرنسي روبير بلانشيه (نظرية المعرفة العلمية) : "إن الفَرنسيين يُدْرِجون في الإبستيمولوجيا مباحثَ يدرسها الإنجليز في فلسفة العلوم" [4] . لكن الباحث الْمُنْصِفَ يعلم أن قضايا المعرفة التي طرحها لوك ومن بعده، صنَّف فيها علماء المسلمين قبل ذلك بنحو خمسة قرون. وقد أشار القرآن الكريم لمصادر المعرفة إجمالًا في عدد من الآيات؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، قال أبو حيان: "قال الحوفي: قوله: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾ [الإسراء: 36] دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول" [5] ، كما بدأت الآية بالنهي عن الاتباع بغير دليل، والقول بغير علم أو خبر صحيح؛ وقال الأخفش: "قوله: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]؛ أي: لا تتبع ما لا تَعْلم، وقيل: ولا تَقُل: سمعت ولم تسمع، ولا رأيتُ ولم تَرَ، ولا علِمتُ ولم تعلم" [6] . تلك آية واحدة توضح شمولية وتكامل المنهج المعرفي الإسلامي، ولنستبين خطأ من تعصَّبَ لبعض المصادر دون غيرها، كالمدرسة الحسية المادية التي غالت في التمسُّك بالحسِّ، حتى أنكرَتِ الفطرة التي تشمل البدهيات العقلية، وكالمدرسة العقلية التي تمسكت بالعقل فوقعت في فخ تفاوت العقول والإدراكات، فضلًا عن تطرف بعض "المثاليين" الذين اعتبروا وجود الأشياء إنما يكون في الأذهان فحسب، أو "الشكوكية المتطرفة" التي قد تصل بالإنسان لأَنْ يشكَّ في وجود نفسه، وهذا التخبُّط علاجه في النموذج المعرفي في الإسلام. مصادر المعرفة في الإسلام: الفطرة : قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، والفطرة كما أنها دليل على توحيد الله عز وجل، فهي كذلك تشمل العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر واستدلال، ومنه قوانين الفكر الأساسية، والبدهيات؛ كمعرفتنا بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجزء أصغر من الكل، ونحو ذلك، والإيمان بالمعرفة الفطرية يقضي بأن المعرفة ممكنة، ويحسم قضية أسْرَفَ فيها الفلاسفةُ، ويعصم من التناقض الذي وقع فيه أصحاب المدرسة الحسية، وبيَّن القرآن قدرة الإنسان على التعلم والمعرفة؛ في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]. يقول ابن عاشور " والفطرة: ما فُطِرَ - أي خُلِقَ - عليه الإنسان ظاهرًا وباطنًا؛ أي جسدًا وعقلًا... واستنتاج المسبَّبات من أسبابها، والنتائج من مقدِّماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه – المسمى في علم الجدل بفساد الوضع – خلاف الفطرة العقلية، والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السُّفسطائية ثبوتَها خلاف الفطرة العقلية، فالأوليَّات العقلية هي المقدمات الضرورية للاستدلال العقلي، وهي المقتضى المباشر للغريزة العقلية، فهي أساس كل استدلال عقلي" [7] ، وقال ابن تيمية: " إن الانسان - بل وكل حيٍّ له علم وإحساس وله عمل وإرادة - فعلمه لا يجوز أن يكون كله نظريًّا استدلاليًّا يقف على الدليل، بل لا بد له من علم بديهي أولي" [8] . ويعلق المؤرخ يوسف كرم على (جون لوك) قائلًا: " لم يميِّز لوك بين المنطق الفطري الموفور للناس، وبين المنطق العلمي الذي وضعه أرسطو، ولم يميِّز بين العلم الفطري وبين العلم الكامل المحقَّق بقواعد المنطق العلمي، ولم يدرك حقيقة القياس وفاتته أمور أخرى كثيرة" [9] . ولعل قوانين الفكر – كما صاغها أرسطو - كقانون الهوية، وعدم اجتماع النقيضين، والثالث المرفوع، تُعَدُّ من بدهيات العقل، التي يُولَد كل طفل وهو معزَّز بها، ولولاها لما تمكَّن الإنسان من البناء المعرفي، وما استطاع تعلُّم العلوم، فضلًا عن الابتكار والإبداع. ونختم حديثنا عن الفطرة باقتباس لعالم المخ والأعصاب الأشهر "راماشندران" في قوله: " من أجل الوصول لتصور متناسق لهذا العالم، زُوِّدت أمخاخنا بعدد من الآليات الفطرية الغريزية التي تعمل في تجانس تامِّ؛ من أجل أن نظل الكائن الواعي المفكر الذي يفهم ويحلل ويؤوِّل العالم من حوله" [10] . الحس الظاهر والباطن : وأما الحس الظاهر فيُراد به الحواس الخمسة؛ وهي السمع والبصر واللمس والشم والتذوق، وما يرتبط بها من تجريب ومشاهدات، وقد عرف المسلمون المنهجَ التجريبيَّ قبل أوروبا بقرون عدة؛ نقل جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) عن مسيو سيديو قوله: " وكان استخراج المجهول من المعلوم، والتدقيق في الحوادث تدقيقًا مؤديًا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا يثبت بغير التجربة مبادئَ قال بها أساتذة من العرب في القرن التاسع الميلادي، حائزين لهذا المنهاج الْمُجْدِي الذي استعان به علماء القرون الحديثة بعد زمن طويل، للوصول إلى أروع الاكتشافات " ، ثم عقَّب لوبون قائلًا: "قام منهاج العرب على التجربة والترصُّد... واختبر العرب الأمور وجربوها، وكانوا أول من أدرك أهمية هذا المنهاج في العالم، وظلوا عاملين به وحدهم زمنًا طويلًا " [11] . ويقول روبرت بريفولت في كتابه (صناعة الإنسانية) : " إن روجر بيكون [12] درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أكسفورد، على يد خلفاء معلمي العرب المسلمين في إسبانيا، وليس لروجر بيكون ولا لسميِّه [13] الذي جاء بعده الحقُّ في أن يُنسَب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولًا من رُسُلِ العلم والمنهج الإسلامي التجريبي إلى أوروبا المسيحية" [14] . وأما الحس الباطن: فهو قريب مما يعرف في الإبستيمولوجيا بـ"الاستبطان"، وهذا يحصل عندما نحاول اكتشاف حقيقة شيء معين اعتمادًا على تفحص حالاتنا السيكولوجية [15] ؛ أي الأمور النفسية كالخوف والقلق ونحو ذلك؛ يقول ابن تيمية في توضيح بديع: " طرق العلم ثلاث: أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تُعلَم به الأمور الموجودة بأعيانها، والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس، وإنما يحصُل العلم به بعد العلم بالحس، فما أفاده الحسُّ معينًا يُفيده العقل والقياس كليًّا مطلقًا، فهو لا يفيد بنفسه عِلْمَ شيء معين، لكن يجعل الخاصَّ عامًّا، والمعين مطلقًا، فإن الكليات إنما تُعلَم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس، والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات، والشاهد والغائب، فهو أعمُّ وأشمل، لكنَّ الحسَّ والعَيان أتمُّ وأكْمَلُ" . [16] والقرآن استخدم القلب على أنه محلُّ التعقُّل والفقه؛ ليشمل إدراك المادي والمعنوي، كما أشار القرآن في عدة مواضع إلى البصر والبصيرة، فالبصر مثال للحس الظاهر، والبصيرة مثال للحس الباطن؛ يقول تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، ويقول الغزالي في الإحياء: " اعلم أن محل العلم هو القلب"، وأما ابن القيم فيقول: "فالصواب أن مبدأه ومنشأه من القلب، وفروعه وثمرته في الرأس، والقرآن قد دلَّ على هذا" [17] والعلم الحديث يقترب أكثر للعلاقة الفسيولوجية بين القلب والمخ، وجاءت أبحاث "أندرو أرمور" لتلفت النظر لوجود نظام عصبي داخل القلب، يتشابه إلى حد ما مع خلايا المخ، ونشر بحثًا موثقًا على موقع المكتبة الوطنية الأمريكية [18] ، وهذا البحث يفتح الباب لإعادة النظر للقلب من الناحيتين التشريحية والفسيولوجية، وتحديدًا ما يسمى بـ"علم أعصاب القلب". العقل : اتفق علماؤنا على أنه الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعدَّ به لقَبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي؛ حيث قال في حد العقل: " إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية" [19] ، كما أنه مناط التكليف، وحفظه من مقاصد الشريعة؛ ويقول ابن تيمية: " من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم، والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا" [20] ، ويُفصِّل الغزالي تفصيلًا بديعًا في (المستصفى) خلاصته: أن هناك أربعَ قوى كأسباب للإدراك؛ محسوسة، ومتخيلة، ومعقولة، ومفكرة" [21] . الخبر : ويدخل في الخبر بعد الوحي المنزل – وهو أصدق مصادر المعرفة - ما يتناقله الناس من أخبار، فقواعد علم الحديث في التثبُّت من صدق الأخبار وقوانينه؛ كاتصال السند وعدالة وضبط النقلة، يساعد في ضبط الاكتشافات العلمية المزيفة والمكذوبة؛ يقول ابن القيم: " فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وصدق رُسُلِهِ في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفِطَرِهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود، وأنه نور على نور؛ نور الوحي ونور العقل، نور الشرعة ونور الفطرة، نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية" [22] . ومثال على الأخبار المكذوبة: (إنسان بلتداون) : وصفت صحيفة " London star " خدعة تلفيق فكِّ قرد بجمجمة إنسان ودفنهما، وكأنهما جزء واحد مع الطلاء بمادة ثاني كرومات البوتاسيوم - بأنه أكبر خدعة علمية في القرن، وفي ٢٠ نوفمبر ١٩٥٣ م جاء في نشرة متحف التاريخ الطبيعي: أن العلماء الذين أمضوا ٤٠ عامًا كانوا ضحايا خدعة مفصلة أُعِدَّت بعناية، فتزوير الفك السفلي ماهر جدًّا بشكل غير عادي؛ لذا يبدو أن مرتكب الخدعة كان عديم الضمير تمامًا" [23] . المعرفة الأخلاقية : النموذج المعرفي في الإسلام للأخلاق يجمع بين الفطرة والوحي؛ يقول ابن القيم: "فإن الله سبحانه فَطَرَ عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النِّعَمِ بالشكر، وفَطَرَهم على استقباح أضدادها، ونسبة هذا إلى فِطَرِهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النتن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم، وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة، فيفرِّقون بين طيِّبه وخبيثه، ونافعه وضاره" [24] . وكذا الاحتكام للوحي ضرورة ومصلحة شرعية واجتماعية، وقد فطِن بعض مفكري الغرب لذلك، منهم شاعر فرنسا (لامارتين) ؛ حين قال: "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معًا، دون أن يعرض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير... وهو الدين الوحيد الذي عباداته بلا صور، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر" [25] ، وله أيضًا قوله: "ضمير بلا دين كمحكمة بلا قاضٍ" [26] ، وهكذا يقدِّم النموذج المعرفي الإسلامي حلًّا للمساجلات الفلسفية حول الذاتي والموضوعي، ونحو ذلك من محاولات لفَهمِ وتحديد وتقنين الأخلاق. ونخلص من هذا البحث إلى أهمية عرض النموذج المعرفي في الإسلام، مترجمًا لعدة لغات؛ لتقريبه للأوساط العلمية المختلفة. [1] المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م، (2 / 478). [2] معجم الفلسفة، مراد وهبة، دار قباء الحديثة، القاهرة، 2007م، ص 606. [3] تيارات فلسفية حديثة، علي عبدالمعطي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 1984م، ص 91. [4] مقدمة الترجمة عن الأصل الفرنسي لكتاب "نظرية المعرفة العلمية"، روبير برانشي، ترجمة: حسن عبدالحميد، مطبوعات جامعة الكويت، 1986م، ص 5. [5] البحر المحيط في التفسير، أبو حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420هـ، (7 / 48). [6] لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط3، 1414 هـ، (15 / 149). [7] المعرفة في الإسلام، عبدالله القرني، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، ط2، 2008م، ص 297. [8] الاستقامة، ابن تيمية، جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط2، 1403هـ، (2 / 148). [9] تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2016م، ص131. [10] أنا تتحدث عن نفسها، عمرو شريف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2014م، ص 31. [11] انظر: حضارة العرب، جوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، طبعة مكتبة الأسرة، 2000م، مصر، ص 435-437. [12] روجر بيكون: عالم إنجليزي تُوفي عام 1292م، وقد تأثر بفلاسفة وعلماء المسلمين كابن الهيثم والرازي، ووصف ابن سينا بأنه عميد الفلسفة بعد أرسطو، وكان يدعو لتعليم اللغات الشرقية في جامعات أوروبا خاصة العربية؛ لأنها كانت لغة العلم؛ انظر: معجم أسماء المستشرقين، يحيى مراد، دار الكتب العلمية، 2004م، ص 393. [13] يقصد فرنسيس بيكون عاش في القرن السابع عشر الميلادي، وهو إنجليزي أيضًا، واشتهر عنه دعوته للاهتمام بالعلم التجريبي، وما أسماه بالآلة العلمية الجديدة التي تُمكِّن الإنسان من التحكم في الطبيعة، ويحقق سيادته عليها من أجل رفاهيته، ولقد شكَّلت أفكار بيكون هذا اتجاه عصر النهضة في أوروبا بعد ذلك؛ انظر: "فلسفة فرنسيس بيكون"، حبيب الشاروني، دار الثقافة، المغرب، ط1، 1981 م، ص 99-101. [14] . Robert Briffault. (1919). Making of Humanity. (pp. 200) London: George Allen & Unwin Ltd [15] ما المعرفة، دنكان بريتشارد، ترجمة: مصطفى ناصر، إصدارات عالم المعرفة، 404، سبتمبر 2013، ص 154. [16] درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، جامعة الإمام محمد بن سعود، السعودية، ط2، 1991م، (7 / 324). [17] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم، ابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م، (1 / 195). [18] https: / / www.ncbi.nlm.nih.gov / pubmed / 28802636 . [19] انظر: إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ابن حزم، ط1، 2005م، ص 101. [20] مجموع الفتاوي، ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة، 1995م، (9 / 287). [21] انظر: المستصفى، الغزالي، دار الكتب العلمية، ط1، 1993م، (ص28-30). [22] الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، ابن القيم، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408 هـ، (3 / 851، 852). [23] معركة التطور، خالد سعيد، المكتب العصرية، القاهرة، ط1، 2018، ص 258، 259. [24] مدارج السالكين، ابن القيم، دار الكتاب العربي، ط3، 1996م، (1 / 245). [25] من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، ط1، 1990م، ص 91- 94. [26] موسوعة نور الحكمة، جهاد علي بني بكر، إربد، الأردن، ط1، 2017 م، ص 206.
مصادر الصالحي في كتابه "عقود الجُمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" الحافظ المؤرخ محمد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة (942) من العلماء المؤلِّفين المتقنين، ومن مؤلفاته النافعة: " عقود الجُمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان " وقد قام بتحقيقه أبو الوفاء محمود شاه الأفغاني (ت: 1395)، وهذه قائمة بمصادر هذا الكتاب النافع -حتى المبهمات، والشفويات- استخرجتُها في أثناء قراءتي له، وما كان بين معقوفين فهو مني، وما لم يَذكر فيه كتابًا ذكرت اسم المؤلِّف المنقول عنه ليتم البحث عن موضع كلامه ذاك وعزوه إليه، ورتبتُ هذا كله على الحروف، والله الموفق. م مصادر الكتاب رقم الصفحة 1 ابن أبي شيبة. 7. 23 2 ابن السمعاني 90. 3 ابن الصلاح 50. 4 ابن حبّان 28. 5 أبو أحمد العسكري 313 6 أبو الفرج ابن الجوزي 86 7 أبو الفضل العراقي 50 8 أبو بشر الدولابي 369 9 أبو عبيد البكري 88 10 أبو محمد العسكري 368 11 أبو محمد بن حزم 177. 402. 12 أبو يعقوب يوسف بن أحمد بن يوسف المكي. 186 13 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 318. 14 الآثار لمحمد بن الحسن 64. 15 الإحياء للغزالي 333. 16 الأدب للبيهقي 1 17 الإرشاد للخليلي 42 18 الاستغنا في الكُنى لابن عبدالبر 209 19 الاشتقاق لأبي بكر ابن دريد 40. 20 الإصابة لابن حجر 61 21 الأصبهاني 24 22 ألفية ابن مالك 41 23 الإمام الكرخي 400 24 الانتصار لأبي المظفر ابن السمعاني 174 25 الانتصار للحافظ أبي بكر محمد بن عمر الجعابي 63 26 البحر المحيط للزركشي 19 27 بعض المناقب 275. 301. 309. 375 28 بعضُ مصنَّفات الشيخ شهاب الدين الأبشيطي نزيل المدينة الشريفة (قال: وغالب ظني أنه "شرحُ خطبة منهاج الإمام النووي") 363. 29 بعض مَنْ صنَّفَ في المناقب 165. 30 البيهقي. 8. 22 31 تاج الدين الفاكهاني 28. 32 تاريخ أبي عبدالله محمد بن سفيان غنجار 174. 33 تاريخ أبي نُعيم الفضل بن دُكين [وانظر لزامًا ص 370 فثَم نقلٌ عن أبي نُعيم بواسطة القاضي أبي القاسم]. 361. 34 تاريخ بغداد 2. 35 التاريخ للعَيني 62. 36 تاريخ يعقوب بن شيبة 287. 37 تبييض الصحيفة للسيوطي 43. 38 تبيين كذب المُفتري فيما نسب للشيخ أبي الحسن الأشعري لابن عساكر 30-31. 39 التحقيق للإمام عبدالعزيز [بن أحمد البخاري ت 730] 398. 40 التحلي لأبي شجاع شيرويه بن شهردار الديلمي الشافعي 375. 41 تذكرة الغافل لأُبَي النَّرسي 2. 42 ترجمة الإمام أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي للضياء محمد بن عبدالواحد المقدسي الحنبلي 374. 43 [الترغيب والترهيب] للمنذري 23. 44 تعجيل المنفعة لابن حجر 61. 64. 45 تعليق على مسند الخوارزمي للإمام العلامة مفيد المحدِّثين قاسم الحنفي بخطه [سمّاه هنا: تعليق على جامع المسانيد للخوارزمي]. 48-49. 58. 63 46 [تفسير] ابن أبي حاتم 7 47 [تفسير] ابن المنذر 20 48 [تفسير] ابن جرير 7 49 [تفسير] ابن مردويه 20 50 تقي الدين ابن دقيق العيد 400 51 تلخيص الموضوعات للذهبي 48 52 تلخيص الموضوعات للسيوطي (يُنظر اللآلئ المصنوعة). 48 53 [تهذيب الأسماء واللغات] للنووي 36 54 التوبيخ لأبي الشيخ 23 55 جزء الغسولي 2 56 جزيل المواهب في اختلاف المذاهب للسيوطي 9-17. 57 الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين الشافعي الآبري. 358 58 الحلية لأبي نعيم. 28 59 الدارقطني. 82 60 [ديوان] المتنبي. 185 61 ذم الغِيبة لابن أبي الدنيا. 22 62 ذم الكلام لأبي إسماعيل الهروي. 174 63 الذهبي. 49. 211. 219 64 الرد على صاحب المنخول للكَرْدَرِي. 17 65 الرسالة للقُشيري. 244 66 الروض الفائق في المواعظ والدقائق [كذا في المطبوع، والصواب: الرقائق] لشعيب الحريفيشي. 383 67 الزهد لأحمد. 28 68 الزهد للبيهقي. 28 69 سُباعيات الحافظ أبي الحجاج يوسف بن خليل. 180 70 السُّنة لابن أبي عاصم. 180 71 سنن ابن ماجه. 7 72 سنن أبي داود. 1 73 سنن الترمذي. 20 74 سنن النسائي. 27 75 سيرة الإمام أبي حنيفة لمحمد بن حمّاد بن المبارك المصيصي. 227 76 [شرح الألفية] لبدر الدين بن أم قاسم. 41 77 شرح المواقف. 388 78 شرح شرح معاني الآثار للعَيني 62 79 شرح نظم جمع الجوامع للسيوطي. 18 80 الشفا للقاضي عياض. 18 81 شهاب الدين المنصوري. 28 82 الشيخ قطب الدين القسطلاني. 52 83 صحيح ابن خزيمة. 1 84 صحيح البخاري. 21 85 صحيح الضياء المقدسي [أي المختارة]. 179 86 صحيح مسلم 1 87 صدر الإسلام أبو اليسر. 398 88 صفة الصفوة لابن الجوزي. 35 89 طبقات ابن سعد. 49 90 طبقات الحفاظ للذهبي. 319 91 طبقات الحنفية للفيروزابادي. 36 92 طبقات الحنفية لمحيي الدين القرشي. وشكا الصالحي أنه لم يقفْ على نسخة المصنِّف. 39 93 الطبقات الكبرى لتاج الدين السبكي. 392 94 عبد بن حُميد. 20 95 العجائب لأبي بكر محمد بن خلف المعروف بشكر. 362 96 عقلاء المجانين لابن حبيب. 249 97 العلم لابن عبدالبر. 320 98 فتاوى شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر. 50 99 الفردوس. 45 100 قاضي القضاة كمال الدين محمد بن أحمد السراج الحنفي. 53 101 القاضي عياض. 52 102 القاموس 36 103 الكامل للهذلي. 222 104 كتاب خامل (؟). 2 105 [الكشاف] للزمخشري. 318 106 لسان العرب لابن مكرم. 40 107 لسان الميزان لابن حجر. 42 108 المازري. 18 109 مجمع الأحباب لعمر بن الحسن بن عبدالله الشريف الحسني الشافعي (ت: 776). 365 110 مختصر مناقب أبي حنيفة للكردري. 34 111 المَدْخل للبيهقي. 167 112 المُستخرج لأبي نُعيم 1 113 المُستدرك للحاكم 8 114 مسند أبي حنيفة لأبي بكر أحمد بن محمد بن خالد بن حُلي الكَلاعي. 350 115 مسند أبي حنيفة لأبي عبدالله بن خُسرو. 64. 337 116 مسند أبي حنيفة لأبي محمد الحارثي البخاري. 63-64 117 مسند أبي حنيفة للحافظ أبي بكر محمد بن عبدالباقي الأنصاري. 336 118 مسند أبي حنيفة للحافظ طلحة بن محمد. 340 119 مسند أبي حنيفة للحافظ محمد بن المظفر. 341 120 مسند أبي حنيفة للقاضي عمر بن الحسن الأُشناني. 348 121 مسند أبي يعلى. 1 122 مسند أحمد 8 123 مسند البزار 1 124 مسند الخُوارزمي. 51 125 مسند علي للإسماعيلي. 28 126 المصباح [المنير] 38 127 مصدر شفوي عن جماعةٍ من المشايخ. 32 128 مصدر شفوي: عن بدر الدين العلائي الحنفي. 41 129 مصدر مبهم. 397 130 المعجم الأوسط للطبراني. 22 131 المعجم الكبير للطبراني. 23 132 مكارم الأخلاق للخرائطي 1 133 مناقب [أبي حنيفة] لأبي بكر بن محمد الزرنجري 275. 276. 134 مناقب أبي حنيفة لأبي القاسم عبدالله بن محمد السعدي المعروف بابن أبي العوام قاضي مصر. 37. 333. 135 مناقب أبي حنيفة لأبي القاسم يونس بن طاهر النصري (وهنا: النضري). 368. 373 136 مناقب أبي حنيفة لأبي المؤيد المُوفق بن أحمد الخوارزمي. 34 137 مناقب أبي حنيفة لأبي يحيى النيسابوري. 193 138 [مناقب أبي حنيفة] للقاضي أبو القاسم علي بن محمد بن كأس النخعي [ت: 324] [1] . 38 139 [مناقب أبي حنيفة] للقاضي أبو عبدالله الحسين بن علي بن محمد الصيمري. 43 140 مناقب الإمام أبي حنيفة لأبي جعفر الطحاوي. 49 141 المنتظم لابن الجوزي. 31 142 المنخول المنسوب للإمام الغزالي. 31 143 الموضوعات لابن الجوزي. 48 144 الميزان للذهبي. 42 145 نسخة محمد بن الحسن. 337 146 النشر لابن الجزري. 317 147 النووي. 50 148 ياقوت. 88 [1] جاء في "كشف الظنون": "وابن كاس ألّف كتابًا سمّاه :(تحفة السُّلطان في مناقب النعمان)".
المستشرقون وعلوم المسلمين (الرد على المستشرقين) تصدى رهط من العلماء المسلمين وبعض المستشرقين للرد على هذه الفِرْية، ويَصعُب حصر مَن تصدوا لهذا الزعم، لكن قائمة المراجع في نهاية هذه الوقفة تُعطي نماذج من الكتابات التي ناقشت بعمق القول بأن الفقه الإسلامي مُستمَدٌّ من القانون الروماني، وقد أشبع العلماء المسلمون هذا الموضوع نقاشًا وردودًا حتى لا يكاد المرء يجد جديدًا في هذه الردود التي تُتناقل لدى المعنيين بالدراسات الاستشراقية من هذه الزاوية [1] . ومِن باب أولى ألا تأتي هذه الوقفة بأكثر من عرض للموقف مدعم بعدد من المراجع التي ناقشت هذا المفهوم، مما يعد عندي مدخلًا للقائمة الوراقية "الببليوجرافية" التي يعدها الباحث امتدادًا لمشروع رصد وراقي "ببليوجرافي" للاستشراق في المراجع العربية، ولعل القائمة التي تأتي هذه الورقة بمَثابة المقدِّمة لها تُعطي نماذج من إسهامات المسلمين وبعض المستشرقين حول هذه الشبهة، لتعين الباحثين في هذا المجال - بعد عون الله تعالى - على الوصول إلى المراجع التي تخدم هذه الموضوعات. وأبلغ هذه الردود تلك الآتية من علماء شرعيِّين لهم دراية بالفقه المقارن، وعلماء حقوقيين، ومستشرقين لهم دراية بالحقوق، ومن هذه النماذج معروف الدواليبي (1327 / 1909 - 1424هـ / 2004م)، وصوفي أبو طالب (1925 - 2008م)، ومحمد سليم العوا (1942م)، وغيرهم من العلماء الشرعيين الحقوقيين المسلمين [2] ، وكارلو ألفونسو نللينو من المستشرقين الذين لهم دراية بالحقوق [3] ؛ ذلك أنهم يَعمدون إلى تفصيل دقائق وجوه التشابه بين القانون والفقه، ويردُّون عليها ردود المتخصصين، فينقل غيرهم عنهم هذه الدقائق. إن عنى هذا وجود وجوه تشابه بين القانون الروماني والفقه الإسلامي فإن ذلك وارد من حيث المبدأ، ما دامت هذه الأحكام تتعامل مع الإنسان وما يحيط به من حياة، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يُنسخ بنصٍّ صريح من الكتاب والسنَّة، ومع هذا فيشير القانونيون الذين تصدوا لشبهات المستشرقين في هذا الشأن إلى أن وجوه الاختلاف بين النظامين أكثر بكثير من وجوه الالتقاء، بالإضافة إلى أن الذين بحثوا في وجوه التشابه كانوا قد ركزوا على مذهب واحد من المذاهب الإسلامية المعتبَرة، وأهملوا بقية المذاهب التي تَختلِف بينها في الفروع لا في الأصول، وخصائص المذهب الواحد لا تُمثِّل نموذجًا عامًّا للفقه الإسلامي [4] . [1] انظر: محمد يوسف موسى. التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي. د. م: دار القلم 1960 م. [2] انظر: معروف الدواليبي. الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخهاـ 2جـ ط 3. دمشق: جامعة دمشق 1378 هـ / 1959 م.(الفصل الثالث: الحقوق الرومانية وأثرها في التشريع الإسلامي على رأي المستشرقين). [3] يناقش كارلو الفونسو نللينو هذا الزعم في ثماني نقاط مركَّزة من مقالته المضمَّنة في ص43 - 57 من كتاب: المنتقى من دراسات المستشرقين: دراسات مختلفة في الثقافة العربية، مرجع سابق 248 ص. [4] انظر: كارلو الفونسو نللينو. نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، ص 52، في: المنتقى من دراسات المستشرقين: دراسات مختلفة في الثقافة العربية، المرجع السابق، 248 ص.
كشف الإبهام والإعواص في خبر إسلام عمرو بن العاص كان عمرو بن العاص خصمًا لدودًا للدعوة الجديدة في مكةَ، وأدَّت به خصومته أن يكابد الطُّرُقَ الوَعْرَة، ليروح إلى النجاشي؛ ليحاول قطع خط إمداد ربانيٍّ لهذه الجماعة المسلمة الناشئة، ولكن جهله هو الذي فعل به تيكم الأفاعيل، ولما استجهل أنَّ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: 38]، وحين جهل أن النجاشي مَلِكٌ عادل. وما أعظمها سيرة، وأن يكون هناك على ظهر البسيطة من يشهد له الناس أنه ملك عادل! ولأن الناس يذوقون من الظلمة ما ينِدُّ وصفًا، ويعِز شرحًا، ولئن أكل الناس في ظلِّهم من أطباق من فضة، أو بملاعق من ذهب. فإن العدل، والأمن، والسَّكِينة، والرضا، وحين تُخيِّم ظلالُها أُمَّةً، فليس يعوزها من بعدُ شيء. ويبدو أن عمرو بن العاص كان قد جاء من بيئة ظالمة، وأراد أن ينفُثَ سُمَّ ظلمها عند هذا الملك العادل؛ النجاشي، وحين طلب منه أن يسمح له بقتل عمرو بن أمية الضمري رسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحين حسِب أن غابة الظلم الذي عشَّش في قومه قريشٍ، يمكن أن يغيِّرَ مسلكًا للنجاشي، بلغ به صيته، حتى راح إليه عمرو هذا نفسه، وهذا يدلُّنا على كم هي قيمة العدل، وحين تستشرف غايات الناس، حتى يذكروا العادلين بإشادة، وحتى كانت بلادهم مثابة للناس، وعلى اختلاف بيئاتهم. ولذلك حين طلب عمرو بن العاص من النجاشي - الملك العادل - أن يسمح له بقتل عمرو بن أمية الضمري، ليصفعه فيسيل دم أنفه، وحين حسب أن هداياه سوف يشتري بها ذمة النجاشي - الملك العادل - وحين قال قولًا حفظه له التاريخ: "ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ عليَّ ملكي، فآخُذ الرِّشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه" [1] . وهذا مثال للعدل، وهو إذ ينطق عدلًا مثله، سجَّله له التاريخ أيضًا، ولأن هذا العدل هو الذي قامت به السماوات والأرض، ولأنه به قِوامَ حياة الناس، واستقامة أحوالهم، وأمْنِهم، ولأنه به يعُمُّ الخير والفضل الناسَ، وحين يخرج كل واحد وهو إذ يشعر بالأمن، وإذ ليس هناك ما يكدر صفوه، أو أن يعكر دينه، أو رأيه، أو قوله، أو رشده، أو حتى لقمة عيشه. ثم لينساح عمرو بن العاص؛ خجلًا من قوله، ورهبة من ردَّةِ فعلِ ذلكم الملك العادل؛ النجاشي. وهذا برهان آخر أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأنه تعالى يرد كيد كل ظالم إلى نَحْرِهِ، وحين يَصْلَف، وحين يتأبَّى على الهدى، أو لا يأمر بالتقوى. ثم إن عَمْرًا هذا كان بين حنايا الهدى، وإذ كان يعيش ليله ونهاره يسمعه ويَطِنُّ أذنه، وكان أولى أن يعرف ما عرفه النجاشي، ولفارق المكان، وشاسع المسافات، ولأن الرسول الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم كان بين أيديهم، وحين جاءه الناموس الذي جاء به موسى وعيسى، لكنه الكِبْرُ، بيد أنه التأبي على الهدى، والخير، والصلاح. ولكنه، ولأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وحين قذف الهدى، وتوًّا على قلب عمرو بن العاص، وهذه من مِنْحِ السماء، وحين تفيق القلوب، ومن بعد كَبْوَة، وإن طال بها زمانها. ليعلن عمرو إسلامه عند النجاشي، ويرضى بالإسلام دينًا، وبالله تعالى ربًّا، وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا. وحين علِم أن مقتضى هذا الإسلام أن ربَّه واحد، أحد، فرد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فيخلع الأنداد، ويعرف حقَّ ربِّ الأرباب، في أنه النافع وحده، وأنه الضار وحده، وأنه الآمِر وحده، وأنه الناهي وحده، سبحانه. ويشاء الله تعالى أن يرجع عمرو إلى المدينة، ليقابل خالد بن الوليد، وعثمان بن أبي طلحة، ليسلم الثلاثة الأصحاب، يومهم هذا، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن: ((حَضَرْنا عمرو بن العاص، وهو في سِياقة الموت، يبكي طويلًا، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أمَا بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أمَا بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نُعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحدٌ أشدَّ بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ أن أكون قد استمكنت منه، فقتلته، فلو متُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسُط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يديَّ، قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: أمَا علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجَلَّ في عيني منه، وما كنت أُطِيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفَّه ما أطَقْتُ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم وُلِّينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار، فإذا دفنتموني، فشُنُّوا عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنْحَر جَزُور ويُقسَم لحمها، حتى أستأنسَ بكم، وأنظرَ ماذا أراجع به رُسُلَ ربي)) [2] . بساطة دين ويسر عقيدة: إن الإسلام سهل ويسير، إلا أنه يخلع الأنداد، وهنا مكمن الصعوبة، ولأن قومًا تعبَّدهم الهوى، وحين يحسبون أنهم يعملون صالحًا، فيجوبون الأرض وفَيَافِيها، ويقطعون السبل ونواحيها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وانظر عمرو بن العاص، وكيف تحمَّل عناء السفر ومشقته؛ ليسافر إلى النجاشي، ومن وراء البحار عملًا شاقًّا، مضنيًا، مقيمًا، بعيدًا عن الهدى والنور، وليقتل عمرو بن أمية الضمري، رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عنده، وكان يمكنه أن يُسْلِمَ بلا عناء قطع الفيافي، ولا مشقة سفرٍ، أو كان يمكنه أن يصبر أو أن يتصبر، لحين عودة عمرو بن أمية الضمري من عند النجاشي فيقتله، ولكنه الهوى، وحين يستحكم بامرئ، فكساه، ومن ههنا ندرك مقابلة بين وجهين: وجه هو بساطة ديننا، ويسره، وسماحته، ووجه هو كُلْفَةُ الكفر، وإثقاله ظهور أهله، وها قد رأينا كيف عنَّت عمرو على نفسه سفرًا، ومن قبله إعدادًا له، وإلى ما وراء البحار أيضًا وذلك لسبيل دينه الكفر، يوم ذاك. وفي وقت كان يمكنه أن يتحلل من رِبْقَتِهِ، وبلا كلفة كهذا، وحين أمكنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول، وحين آمن بالله وحده ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا. التخلية قبل التحلية: إنه حين جاء الإسلام، فإنما كان أول غِراسه أن يغتسل الناس من هوًى، وأن يزايلوا رأيًا جيء به من شمال أو من جنوب، ولا محطَّ له عند الحق أنملة واحدة، وليحلوا بذلك صدق التلقي عن السماء، دينًا قيِّمًا، خلع الأنداد، وزايل الشركاء، وأقضَّ مضاجع الطغيان، وحين تلقَّوا من غير هَدْيِ السماء معاشَهم، وحين تنكَّبوا سبيلَ ربِّهم الذي خلقهم، بإحلال شرع غير قيم، بل اتبعوا هوًى مضنيًا، وشحًّا مطاعًا مفرطًا، يلبي مصالحهم، ودون مراعاة لحلال أحله الرحمن، أو حرام حرمه الدَّيَّان، وانظر عمرو بن العاص قبل إسلامه، وإذ كان يعَضُّ على الباطل عضًّا، ويبذل فيه الْمُهَجَ، وليكسر النجاشي أنف عزته، وحين رآه عبدًا لهواه. عداوة لا سند لها: أرأيتَ كيف تجشَّم عمرو بن العاص قبل إسلامه عداء غير مبررٍ لدين الحق، وحتى تملَّكه هواه، فراح يبذل غاليًا ونفيسًا، هان عليه، مقابل ألَّا يُسْلِمَ وجهه لله؟ وكان يمكنه أن يجلس جلوس المتعلم النبيل على مائدة الحق؛ مائدة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليريح نفسه من هواها، ويخلصها من طغواها، ولأن الحق يصطبغ أهله بوسامة الأخلاق الحسنة، ودَمَاثة الشِّيَمِ النبيلة، الفضيلة، الشميلة، الأصيلة، وخضوع للخالق العظيم وحده، فيمنحهم العزة في أوسع معانيها، ويَهَبهم الكرامة في أصدق تفاصيلها ومبانيها، وها هو يشق الأرض عُبابَها، ورياحها، وغبارها، وترابها، وهمَّها، وشركها ودين الحق بين يديه، لا يكلف نفسه إلا يسيرًا، ولو بدعاء خالص، أن يلهمه الرحمن رُشْدَه، فكان قد ألهمه، ومن مطلقِ فيضِ لطفه، وكرمه، ورحمته، سبحانه، وبدل أن يكسر النجاشي أنف عزته، وحين قال له: قُمْ إلى محمد، وأسْلِمْ بين يديه، ومن حيث جئت فارجع. يُهلِكون أنفسهم: وهذا ما حصل مع عمرو بن العاص، وحين بذل كل غالٍ ورخيص، بدل أن يسلم وجهه لله، ولا شك أن إبليسه زيَّن له سوء عمله، حتى ظن نفسه مجاهدًا، بطلًا، مِغوارًا. وهذا هو ثمن مزايلة الدليل، وهذا هو كُلْفَةُ مباينة البرهان، وحين يُسْلِم المرء نفسه لا إلى طريق مستقيم لينقذه، ولا إلى سبيل الهدي لينجيه، وحين يحسب أنه محسن صنعًا،؛ وإذ كان كما قال ربنا: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾ [الكهف: 103 - 106]، وهذا فِعْلُ عمرو بن العاص قبل إسلامه، ومن سعى سعيه أو نحا نحوَه. أسباب هدًى دافعة: كان النجاشي رجلًا حكيمًا، ضبطًا عادلًا؛ ولهذا تجرَّد من كل هوًى ممكن أن يسمى هكذا هوى، وهنا - وفقط هنا - يضمن المرء لنفسه فَلَاحًا، وحين لم تغره دنياه، محبة باطل، ومزايلة حق، ولئن كان ثمن ذلك أن ينخلع من النياشين، أو يرمي بالأوسمة، أو أن يطرح القلائد، ولأن كل ذلك؛ وكما قال الله تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36]، وكان النجاشي صاحب الدرس الأول لهذا العلم الغزير، ولهذا التجرد العزيز وحين أرجع عمرو بن العاص إلى صوابه؛ ليسلم بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك النبي الذي جاء من عنده كافرًا به، وكان يمكنه أن يكسبه إلى صفِّهِ، سُنَّة ضعفاء النفوس، وحين يفرحون بجموع حولهم، ربما كانوا سبب الهلاك المحيق المبين. لا تُستَمالُ ذِمَمُ أهل العدل : ظنَّ عمرو بن العاص أن هداياه إلى النجاشي سوف تلوِّح بوجهه عن حقٍّ، أو تَثنيه عن عدل، وهذا ما يُوقِع الجهلاء في شر أعمالهم، وحين يرتكنون إلى جرفٍ هارٍ، يفرحون باجتماع، ويُفتنون بالتفاف، وهذا مكمن الخطر الحقيقي، وحين طلَّقه النجاشي طلاقًا بائنًا، وليرجع عمرو بن العاص بخُفَّي حُنَينٍ، بيد أنه رجع، ولينال أجرًا عظيمًا، وحين أسلم وجهه لله، وهو محسن. الأثر الإيجابي للعلاج بالصدمة: كثيرًا ما يكون المرء بحاجة إلى من يوقظه من غفلة؛ ليعاود التفكير الإيجابي، ومن بَعْدِ غَرَقٍ في غياهب ظلمات، بعضها فوق بعض، كان يحسبها يومًا نورًا مبينًا، وهدًى أرشدَ، وهذا الذي حدث يوم كان علاج النجاشي لعمرو بن العاص بالصدمة أو بالصعقة، وحين كان هذا سببًا إيجابيًّا، ليعاود التفكير من جديد، وليأتي على بنيان كفره من أعلاه، ليهُدَّه هدًّا، وأمام صخرة حقٍّ، كان عنه غائبًا، وإذ كان بتسخير السماء للعبد النجاشي أن يلهمه الرشاد، ويزايل العناد. وكثيرًا ما يكون المرء بحاجة إلى من يرد إليه صوابه، وكيما لا يعود عليه وبالُ شرِّه، ومن بعد حسبانه هكذا أنه محسن صنعًا، وإذ به يستيقظ على سراب، كان يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه، وهذا الذي حدث مع عمرو بن العاص، وحين قطع الفيافي إلى النجاشي، ومحال أن يفعل فعله ذلك، إلا وكان يحمل بين جنبيه قناعة - ولو من طرف خفِيٍّ أو جَلِيٍّ - أنه على حق، وإذ به أصبح باطلًا، دكَّه إيقاظ النجاشي له دكًّا دكًّا. قال النجاشي لعمرو بن العاص حين طلب منه أن يسلمه عمرو بن أمية الضمري ليقتله، ولأنه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليه: أتسألني أن أعطيَك رسولَ رجلٍ يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ [3] ليرد عمرو بن العاص: أيها الملك، أكذاك هو؟ وهذا تأكيد للعلاج بالصدمة، وحين يريد الله تعالى بعبده خيرا، وكعمرو بن العاص. حكمة ذكر موسى دون عيسى عليهما السلام، وهذه فطنة النجاشي – بحق - إذ ولماذا ذكر موسى عليه السلام، ولم يذكر عيسى عليه السلام، وهو على ملته، وليس على ملة موسى؟ والجواب: أن يهودَ كانت تقطن المدينة، وهم على مقربة من عمرو بن العاص، ولئن لم يكن عنده عنهم من ذلكم من خبر، فيمكنه البحث عن ذلك، ولن يُحرم الضالة، وحين يصدق ربه فيصدقه تعالى، وليأتيه الحق من بين يديه ومن خلفه، وكما كان الباطل معه كذلك. سَلْ به خبيرًا: وفيه أن أهل الحكمة والخبرة والعلم لديهم من مكنونات العطاء ما ليس لدى غيرهم، وهذا ما يوجب البحث عنهم جدَّ البحث، وكيما لا يُسْلِمَ العبد نفسه لمن يضله، كما ضل نفسه أولًا عن سواء السبيل، وانظر كيف كانت عصارة حكمة النجاشي، وحين سكبها على عمرو بن العاص ليفيق، ومن بعد غفلة سادرة؟ يقظة من بعد غفلة: حين أوقِظَ عمرو بن العاص من غفلة، أحاطت به إحاطة السِّوار بالْمِعْصَم، طلب من النجاشي أن يبايعه على الإسلام فبسط يده، فبايعه عليه، وفيه جواز مبايعة غير الإمام لمانع كغيبة، وكعمرو، ولأنه ولا شك كان قد صار هذا الخبر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأتِنا خبر آخر يناقضه، أو يرده. وفيه أن النجاشي كان مسلمًا، ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه يوم نُعِيَ إليه، وفيه المسارعة إلى الخير؛ خشية عوارض الزمان، فإنه لو كان عمرو قد أجَّل بيعته إلى حين عودته، فلربما كان قد حل به أجله، وحينها ﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]. فطنة عمرو: كتم عمرو بن العاص إسلامه عن أصحابه في الحبشة، وهذا تصرف حميد، فلعلهم كانوا قد غالبوه حتى فتنوه، أو لعلهم أغْرَوه حتى قتلوه. أثر الجليس الصالح: حين عاد عمرو بن العاص إلى المدينة ليُسْلِمَ على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قابل خالد بن الوليد، فأشار عليه بالإسلام، ولأنه دين الحق فتأكد اليقين، وزال الشك، وحل القبول، وأُميط أذى الطريق عنه؛ ليتضاعف يقينه مرتين: الأولى على يدي نجاشي الحبشة، والثانية على يدي خالد بن الوليد. الإسلام يجُبُّ ما قبله: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله))؛ هذه هي طَمْأَنَتُه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص، وفيه بيان أن الإسلام خير، ولأنه يكفِّر ماضيًا، عائقًا، عتيقًا، من الظلمات، ولأنه يبدل للإنسان سيئاته حسنات؛ ليعود عضوًا إيجابيًّا مسلمًا، وبعد أن كان فردًا هلاميًّا، سلبيًّا صعلوكًا، لا يكاد يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وفيه جواز إعلان البيعة مرتين؛ وحين كانت الأولى أمام النجاشي، والثانية للسلطان الأعظم؛ وهو هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولتدارك سببها. ربِّتوا على صدور أهل المعاصي : وهذا درس تأهيلي، يفيد الناس في معاملة أصحاب المعاصي والآثام، وأن يربِّتوا على صدورهم؛ من رحمة، وأن يأخذوا على أيديهم؛ من شفقة، ولعل ذلكم يكون منارَ هدًى للحَيَارى، وسبيل صلاح للعاصين. التوحيد أولًا: وفيه أن الإسلام أصل ومقدَّم على ما سواه، سببًا لمغفرة، أو قبولًا لتوبة، وأن فروع الشريعة إنما هي تبع لأصل أصولها، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فضل الهجرة في سبيل الله: وفيه فضل الهجرة، ولأنها تشِي بحمل النفس على الانخلاع من جواذب الأرض والطين والتراب إلى جواذب الحق والإيمان والتقوى، وحين أُمِرت بالهجرة إلى الله ورسوله، وليس إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فضل الحج في سبيل الله: وفيه فضل الحج أنه كذلكم يهدم ما قبله، وهذا كما روى أبو هريرة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حَجَّ لله فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أمه)) [4] . فضل الشهادتين: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا هو شأن الشهادتين، أفضل عدة للمسلم، يقابل بها ربًّا كريمًا، ولما أيقنها شهادةَ قول وعمل، وما كانت لشهادة الحق هكذا من فضل ولمجرد قولها مُعرَّاة عن فعل شاهد لصدق القول بها، ومنه أيضًا حديث البطاقة جنبًا إلى جنب معه. فعن عبدالله بن عمرو: ((إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًّا، كل سجل مثل مدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يا رب، فيقول: أفَلَكَ عُذرٌ؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضُر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة وما هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تُظلَم، قال: فتُوضع السجلات في كِفَّةٍ، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات، وثقُلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء)) [5] . [1] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 1/ 226. [2] صحيح مسلم: 121. [3] تاريخ الطبري، الطبري: ج 2/ 314. [4] صحيح البخاري: 1521. [5] صحيح الترمذي، الألباني: 2639.
ذاتٌ تحاول التغيير تائه في خفايا الزمن، وفي نوافذ الحياة، يبحث عن ذاته لعله يجدها بين السطور، يحاول أن يعتصر اليأس؛ ليصنع منه رحيقًا يَرْوي به ظمأ نفسه وروحه ... يتجول بين صفحات الكُتُب؛ لعله يجد داخلها كلمة تُحيي مسيرته، ومرهمًا يعالج به جرحًا عميقًا، ترك نُدُوبًا داخل الفؤاد، ولم يَمْحُ آثارَه طولُ السنين... يحاكي النفس ويبتسم لها؛ لعلها تنهض وتبرأ من عزلة الإحباط، حتى غدا ذهنه مريضًا بالهمومِ والحسراتِ، كرمالِ صحراءَ غطَّتْ كنزًا فاختفى... يستنجد بمنقِّبي الآثار من المفكرين والأدباء؛ علَّهم يستخرجون أفكارًا مكنوزة لا تُثمَّن ولا تُباع. نادى بصوتٍ تخنُقه العَبَرَات : يا مكتشف الأفكار، هَلُمَّ إليَّ، ونقِّب؛ لعلك تُنقذ إنسانًا يصارع سكرات الاحتضار، فلم يجد مُنْصِتًا، فخارت العزائم، وتدافعت الأحزان، لكنَّهُ ما انثنى عن المقصد ... فمضى في أسواق الأفكار يسأل عن أدوات تشحذ الهمم، وتسمو بالعقول، فسمع بائعًا ينادي من بعيد: نبيع فكرًا ... نبيع فكرًا. فسأله: ماذا تبيع؟ قال: نستورد أفكارًا من أهل المكر والدهاء، ونبيعها في الأسواق، وما تراه في بلادنا من تحسن الاقتصاد والتوزيع العادل للثروات هو ثمرة ما بِعْناه في الأسواق. هزَّ رأسه ثم أدار ظهره قائلًا: الفكر الْمُشْتَرَى لولا بخسُه أو سوء قصد أصحابه، ما بيع رخيصًا في المتاجر، فكيف ترجو منه أن يصلح أجسادًا؟ فالأفكار تُقوَّم وتُدعم وتهذَّب، وليست مزادًا واتِّجارًا، فسقيم الفكر لولا فساد فكره ما ثَمَّنه بمال، يا صاحبي، لدينا الكثير من الأفكار المستوردة التي لا تبني وطنًا، ولا تصلح أرضًا، ولا تُحيي عقلًا وجسدًا، فالفكر الصحيح يبقى ثروةً لا بُدَّ أن يرِثَها في قادم الأيام جيلٌ يبني على أساسها أجيالًا ... ثم قرر أن يخوض غمار حربٍ يصارع في سبيلها رماح الإحباط، وخناجر الخِذلان.
غزوة بني النضير وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي ونفر من أصحابه إلى بني النضير لكي يستعينهم على دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ لما في ذلك من الاتفاق على العون في مثل هذه الأمور في كتاب الموادعة، وقيل: للحلف الذي كان بين بني عامر - والقتيلان منهما - وبين بني النضير، فقالت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم: نعم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، وكان قد جلس مع أصحابه تحت جدار لهم، فقالوا: من يصعد هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش، فنهاهم عن ذلك سلام بن مكشم، وقال: هو يعلم، فلم يقبلوا منه، وصعد عمرو بن جحاش، فأتى الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما عزموا عليه، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، ورجع إلى المدينة، فلما أبطأ قام أصحابه في طلبه ليعرفوا سبب تأخره، فأخبرهم الخبر وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم جيش المسلمين فحاصرهم، فتحصنوا منه في صياصيهم، فقطع النخل وأحرقه، وقالوا: إنك تنهى عن الفساد في الأرض، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ وقد تولى الله الجواب، كما سيأتي في القُرْآن، وبعث إليهم عبدُالله بن أبيٍّ ابنُ سلولَ وجماعة من المنافقين: أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك، وقد استغرق الحصار خمسة عشر يومًا، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم كنانة بن الربيع وحيي بن أخطب، وخرج قسم آخر إلى الشام، وقد نقلوا متاعهم واحتملوا معهم حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، وأسلم منهم يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما. ونزل في هذه الغزوة قُرْآن يكشف خبيئات نفوسهم ومدى جبنهم؛ قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 2 - 4]، ثم يذكر لجوء المسلمين إلى قطع نخلهم أو تحريقه؛ وذلك ليعلموا أنه لم يعد لهم مقام في هذه الديار، ويعفي المسلمين من تبعة قطع النخل: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]، ثم يذكر نعمة الله على رسوله والمسلمين من الفيء الذي حصل من هذه الغزوة دون قتلى أو سفك دماء: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحشر: 6]، وبعد ذلك يذكر حالة المنافقين الذين أرادوا أن يثبِّتوا اليهود ويشدوا من عزيمتهم على المقاومة، وكأن ابن سلول لم يكفِه ما فعل بنو قينقاع وكيف وقف معهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11، 12]، وهكذا أفشل الله تعالى خطط المنافقين في إيجاد حليف لهم يتخذونه دريئة للاعتداء على المسلمين، ويعملون هم من ورائه خفية، فقذف في قلوب اليهود الرعب؛ ليجرد المنافقين من حليفهم؛ لذلك أتبع هذا التوهين لليهود بذكر ما يعتمل في صدور المنافقين واليهود تجاه المسلمين: ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 13]، ثم وصفهم بالجبن وعدم المقدرة على المواجهة: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]، وهكذا أُجلِيَتْ بنو النضير بعد بني قينقاع، وبقيت بنو قريظة، ولعلها أخذت العبرة من سابقتيها.
مقتطفات من سيرة الإمام: سفيان الثوري رحمه الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وعالم من علمائها الأماجد، وسيد من ساداتها، وإمام من أئمة الدين، طلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين مجمعًا على إمامته، بحيث يُستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد، قال عنه الذهبي: شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله سفيان الثوري الكوفي المجتهد، مصنف كتاب الجامع. ذكر أحمد بن عبد الله العجلي وغير واحد أن مولده كان سنة سبع وتسعين وفي بعض ذلك خلاف، قال المزي: والصحيح ما ذكرنا والله أعلم، وقال غيره: ولد في خلافة سليمان بن عبدالملك. وقد كثر ثناء العلماء عليه وتزكيتهم له، قال البراء بن رنيم: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: فقد رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهدًا، وتقول هذا؟ قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان. وقال عباس الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحدًا في زمانه، في الفقه والحديث والزهد وكل شيء. وقال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان، وقال أيضًا: ما نُعت لي أحد، فرأيته إلا وجدته دون نعته، إلا سفيان، وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلًا فقال: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12]. وقال ابن عيينة: «ما رأيت رجلًا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري». وقال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس، وقال: سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما. وقال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يجاء غدًا بسفيان حجة من الله على خلقه، يُقال لهم: لم تدركوا نبيكم، قد رأيتم سفيان، وقال شعبة بن الحجاج: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلَمًا من أعلام الدين، مجمعًا على أمانته بحيث يُستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والضبط والورع والزهد. وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلسًا إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحدًا كان أكثر ذكرًا للموت منه. وقال رواد بن الجراح: سمعت الثوري يقول: كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير؟ قال: اسكت، فلولاها لتمندل بنا الملوك. وقال سفيان رحمه الله: من كان في يده من هذه شيء فليصلحه، فإنه زمان إن احتاج كان أول ما يبذله دينَهُ. قال الذهبي رحمه الله : كان رأسًا في الزهد، والتأله والخوف، رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرى الخروج أصلًا، وكان يدلس في روايته، وربما دلس عن الضعفاء، وكان سفيان بن عيينة مدلسًا، لكن ما عُرف له تدليس عن ضعيف. قال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا أبي، سمعت سفيان يقول: إن قومًا يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيرًا، ولكن عليَّ أولى بالخلافة منهما، قال سفيان: فمن قال ذلك فقد خطَّأ أبا بكر وعمرًا وعليًّا والمهاجرين والأنصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء؟ قال سفيان رحمه الله : أدخلت على المهدي بمنى، فسلمت عليه بالإمرة فقال: أيها الرجل، طلبناك، فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك، فقلت: قد ملأت الأرض ظلمًا وجورًا، فاتق الله، وليكن منك في ذلك عبرة، فطأطأ رأسه، ثم قال: ارفع إلينا حاجتك، قلت: أبناء المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بالباب، فاتَّق الله، وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه، فقال: أبو عبد الله أيها الرجل، ارفع إلينا حاجتك، قلت: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر، فقال لخازنه، كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهمًا، وإني أرى ها هنا أمورًا لا تطيقها الجبال. وقال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا. ومما يدل على قوة حفظه للسنة والأحاديث أنه قال: ما استودعت قلبي شيئًا فخانني. وقال أيضًا: إني لأمر بالحائك، فأسد أُذني مخافة أن أحفظ ما يقول، قال القطان وعبد الرحمن: ما رأينا أحفظ من سفيان. ولهذا الإمام أقوال عظيمة وحكم باهرة تدل على زهدة وورعه وتقواه: فمن ذلك أنه قال: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قِصَرُ الأمل، وارتقاب الموت. ومنها قوله: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك. وقال أيضًا: لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس. قال سفيان رحمه الله : ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قط إلا عملت به ولو مرة. ومن أقواله رحمه الله أنه قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى. قال عبدالله بن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة. وقال أحمد بن يونس: سمعت سفيان يقول: ما رأيت للإنسان خيرًا من أن يدخل جحرًا. وقال أيضًا: السلامة في ألا تحب أن تُعرف. وقال أيضًا: من سُرَّ بالدنيا نُزع خوف الآخرة من قلبه. وقال أيضًا: إن هؤلاء الملوك قد تركوا لكم الآخرة، فاتركوا لهم الدنيا. قال عبد الرحمن بن مهدي: بات سفيان عندي، فجعل يبكي، فقيل له، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا، ورفع شيئًا من الأرض – إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت، وكان رحمه الله مشهورًا بالعبادة والتأله. قال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان إلا باكيًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا. وكان ينهى عن مجالسة أهل البدع، فقال رحمه الله : من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم، خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه، وقال أيضًا: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه لا يُلْقِهَا في قلوبهم. قال الذهبي رحمه الله: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطافة. قال ابن مهدي: مرض سفيان بالبطن، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن، ما أشد الموت، ولما مات غمضته، وجاء الناس في جوف الليل وعلموا. وقيل: أُخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة، فشهده الخلق وصلى عليه عبد الرحمن بن عبدالملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه. مات سنة إحدى وستين ومائة وكان عمره أربعًا وستين سنة، وقد رؤيت له رحمه الله منامات كثيرة مبشرة. قال سعيد بن الخميس: رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقرأ: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74]. قال إبراهيم بن أعين: رأيت سفيان بن سعيد فقلت: ما صنعت؟ قال: أنا مع السفرة الكرام البررة، وساق الخطيب البغدادي بسنده إلى محمد بن أبي محمد قال: رأى رجل في المنام أنه دخل الجنة، قال: فرأيت الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعدة، قال: فقلت: ما لي لا أرى سفيان الثوري معكم فقد كان يُذكر؟ فقالوا: هيهات، ذاك فوقنا ما نراه إلا كما نرى الكوكب الدُّرِّي، ثم ساق الخطيب بسنده إلى أبي خالد الأحمر قال: رأيت سفيان بن سعيد بعدما مات فقلت: أبا عبد الله كيف حالك؟ قال: خير حال استرحت من غموم الدنيا وأفضيت إلى رحمة الله [1] . رحم الله الإمام سفيان الثوري وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] تهذيب الكمال للمزي (11/ 154 – 169)، البداية والنهاية لابن كثيررحمه الله (13/ 489 – 491)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (9/151 – 174)، سير أعلام النبلاء (7/ 229 – 279) باختصار وتصرف.
المستشرقون وعلوم المسلمين التأثر العكسي الانطباع الساري عند بعض الحقوقيِّين المسلمين، وبعض المستشرقين المُنصفين أن القوانين القائمة عند بزوغ الإسلام وانتشاره قد أفادت مِن هذا الدين من نواحٍ عدَّة، وهناك نصوص غربية تؤكِّد هذه الاستفادة، إما من باب الاعتراف بالفضل لأهله، أو مِن باب التحسُّر على ما آلت إليه الثقافات الغربية مِن التِماس التأثير من الثقافة الإسلامية. وهذا ما يؤكِّده المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نللينو مِن أن ما يُسميه الأوربيون بالقانون الروماني إنما هو مأخوذ من الفقه الإسلامي، ويُنقل هذا عن كتاب لحقوقي إيراني بهائي باسم أبي الفضل الجرفقداني صادر سنة 1911م، وترجمته العربية مضمَّنة في كتاب: مقدمة القوانين لعبدالجليل سعد [1] . ويؤيد كارلو نللينو في هذا المذهب المستشرقُ فيتزجيرالد في مقالة له بعنوان: الدَّين المزعوم للقانون الروماني على القانون الإسلامي [2] ، ويذكر فيتزجيرالد عن إجناس جولدزيهر أنه بزعمه هذا، مع ادعاءات أخرى، كان مدفوعًا بغرض سياسي خاص هو إظهار أن التشريع الإسلامي كان قابلًا للمؤثرات الغربية. وهذا المُستشرق المؤرِّخ الهولندي الفرنسي الأصل ريخرت. ب. أ. دوزي (1820 - 1883م) ينقل في كتابه: الإسلام الأندلسي رسالةً لكاتب إسباني يَنعي فيها اللغة اللاتينية والإغريقية، وأن أرباب الفطنة والتذوق قد سحرهم الأدب العربي واللغة العربية ودرسوا التصانيف التي كتبها الفلاسفة (علماء الكلام) والفقهاء المسلمون، لا لإدحاضها والرد عليها، بل لاقتباس الأسلوب العربي الصحيح [3] . ومثله المستشرق الإيطالي إي. كاروزي في كتابه: صلات القانون الروماني بالقانون الإسلامي الذي بنى نظريةً على أن الفقه الإسلامي ليس إلا القانون الروماني دون تغيير [4] ، وأن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم كان على علم واسع بهذا القانون [5] ، بل إن هناك من ذهب إلى القول بأن المسلمين لم يُضيفوا للقانون الروماني إلا الأخطاء [6] ، ويعلِّق ساسي سالم الحاج على هذه الأقوال وغيرها بقوله: إنها عبارات ذات دلالة "على التعسُّف والهوى وعدم الإنصاف والحيدة عن الموضوعية العلمية" [7] . أما استفادة القوانين الغربية من الفقه الإسلامي بدءًا بالقرن الخامس الهجري الثاني عشر الميلادي فهذه قضية مدروسة وثابتة في القوانين الفرنسية التي اتَّكأت على الفقه المالكي من خلال موطأ الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وكذا القانون الإنجليزي، وهي بعيدة في نقاشها عن موضوع هذه الوقفة التي تدور حول بزوغ الفقه الإسلامي مع ظهور الإسلام [8] . [1] انظر: كارلو الفونسو نللينو. نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، ص 46، في: المنتقى من دراسات المستشرقين: دراسات مختلفة في الثقافة العربية؛ مرجع سابق، 248 ص. [2] انظر: فيتزجيرالد. الدَّين المزعوم للقانون الروماني على الشريعة الإسلامية، في: الشريعة الإسلامية والقانون الروماني / ترجمة محمد سليم العوا، بيروت: دار البحوث العلمية، 1973م. [3] انظر: زكريا هاشم زكريا. المستشرقون والإسلام؛ مرجع سابق، ص 17. [4] انظر: إسحاق بن عبدالله السعدي. تميُّز الأمَّة الإسلامية مع دراسة نقدية لموقف المستشرقين منه؛ مرجع سابق - 1: 436. [5] انظر: الدسوقي السيد الدسوقي عيد. استقلال الفقه الإسلامي عن القانون الروماني والردّ على شُبه المستشرقين، القاهرة: مكتبة التوعية الإسلامية، 1410هـ / 1989م، ص 17. [6] انظر: صوفي أبو طالب. بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، ص 4 - 5، نقلًا عن: ساسي سالم الحاج. نقد الخطاب الاستشراقي؛ مرجع سابق، 2: 450. [7] انظر: ساسي سالم الحاج. نقد الخطاب الاستشراقي، المرجع السابق، 2: 450. [8] انظر: برهام محمد عطا الله. تأثير الفقه الإسلامي على تكوين القانون الإنجليزي، التسامُح، 24 (خريف 1429هـ / 2008م)، ص 58 - 70.
أصابني الملل في القراءة، ما الحل؟ س/ أصابني الملل في القراءة، ما الحل؟ ج/ تفاعل مع الكتاب. هل عندما تجلس مع صديق تحبه ويحبك تظل ساكتًا أم متفاعلًا؟ بالتأكيد ستكون في قمةِ التفاعل والسعادة.. هكذا الكتاب؛ أحِبَّه، صادِقْه، تفاعَل معه، قل له: • ما الدليل على هذا؟ • قل له: سأبحث في هذه المسألة! • قل له: هذه فائدة نفيسة، شكرًا لك. دوِّن ملاحظاتك وتعليقاتك واستفساراتك في الكتاب، ولا تكن الصاحب الصامت. كن صديقًا متفاعلًا: لخِّص، تأمَّل، عبِّر بأسلوبك، اسأل، ابحث، كرِّر النظر، وستجد أنك من أسعد الناس على وجه الأرض بمصادقتك العلم والمعرفة. قراءة ممتعة بعون الله. زادك الله علمًا ونورًا!
الحجاج في أدب الوفادات عند العرب في العصر الأموي لأحمد الحنوش صدر حديثًا كتاب " الحجاج في أدب الوفادات عند العرب في العصر الأموي "، تأليف: " أحمد الحنوش "، نشر: " عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع ". ويسعى هذا الكتاب جاهدًا إلى الكشف عن آليات الحجاج ( اللغوية والبلاغية ) في نصوص الوفادات في العصر الأموي، والتي ظهرت في الخطب والمناظرات والشكايات التي جرت بين الوافدين والحكام، أو بين الوافدين أنفسهم، وذلك من خلال تشخصيص تلك العناصر اللغوية والبلاغية ، وكيفية تمكن الوافدين في طرح حجج إقناعية تؤدي غرضها التأثيري، سواء في الدفاع عن قضية معينة أم استرداد حق مسلوب أم كسب ميول المتلقي من أجل مطمع ما. وتناول أدب الوفادة بشكل خاص في هذا العصر الذي أثير حوله الكثير من الجدل السياسي؛ لما تتطلبه طبيعة تلك الحقبة من تاريخنا العربي، وما رافقها من ظروف وتغيرات سياسية واجتماعية ثقافية واقتصادية، أدت إلى تطور العرب في مناحي الحياة لا سيما وأن دولة العرب آنذاك قد اتسعت بشكل كبير. وقد حاول الكاتب في هذه الدراسة أن يلقي الضوء على بعض الوفادات الهامة وبما يفيد البحث الأدبي، ليتبين من خلال مباحث الدراسة أغراض الوفادة، وكيف أثرت السياسة في التعامل مع الوفود، وما هو دور البلاط الأموي وخلفاء بني أمية في إثارة النعرات القبلية، باستغلال الوافدين إلى بلاطهم لتحقيق سياستهم في تفريق الناس ليتسنى لهم ضبط أمور الحكم وإدارة شؤون الخلافة. إلى جانب أن مفهوم الوفادة قد تغير بتغير حال العرب في ظل الدولة الأموية، فحكامها في قصور مشيدة، ويمنعهم من الدخول على ولاتهم حاجب القصر، فلم تعد الوفادة كما كانت في سابق عهدها. وينطلق هذا البحث من فكرة أن خطاب الوفادة هو خطاب موجه يهدف إلى الإقناع، وما دام هو كذلك فهو خطاب حجاجي بالنتيجة، ويستند إلى عملية حجاجية قائمة على مرتكزات أساسية هي: المرسل ( المخاطِب )، والرسالة ( الخطاب )، والمرسل إليه ( المخاطَب أو المتلقي )، وفق ما يطرحه ذلك الخطاب من ادعاء يتطلب دليلًا كي يكون مقنعًا، ورسالة موجهة قائمة على وسائل وأدوات حجاجية، ومتلقٍ يوصف بالمعترض على هذه الرسالة، مع استعمال المنهج الوصفي التحليلي لإخراج النصوص بحلة جديدة تليق بفكر القارئ.
الجندر خطر يهدد القيم الأخلاقية والفطرة السليمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد : فالذكورة والأنوثة هي إرادة إلهيَّة تكوينية، وهي من مستلزمات الفطرة السليمة، وهي سنة من سُنن الله تعالى في الخلق والتكوين، فقد خَلَق الله سبحانه وتعالى الإنسانَ زوجين: ذَكَرًا وأُنثى . والزوجية سُنَّة عامة مطردة، لا يشذُّ عنها عالم الإنسان، أو عالم الحيوان أو عالم النبات، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذاريات: 49]، وقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يس: 36] . وهي الأسلوب الذي اختاره الله تعالى للتكاثُر واستمرار الحياة وعمارة الأرض تحقيقًا لعبادته وحده لا شريك له، بعد أن أعَدَّ كلا الزوجين وهيَّأهما للقيام بهذا الدور العظيم وهذه الغاية السامية، بحيث يقوم كل منهما بدور إيجابي في تحقيق هذه الغاية، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]. فهذه الزوجية الرائعة تمتدُّ، وتعمُّ وتشمل الوجودَ المادي، والوظائفَ الفسيولوجية، والبيولوجية والفيزيائية للمخلوقات؛ وصولًا إلى أرْقى شكل من أشكال الوجود في هذا الكون الذي يتربَّع عليه الإنسان بمنظوماته القِيميَّة والاجتماعية والثقافية التي تلقَّاها من الخالق العظيم ربِّ العالمين سبحانه وتعالى. فدِينُ الله تعالى الإسلام قد أقَرَّ بالفروق بين الذكر والأنثى من حيث الخلقة والطبيعة، يترتب على هذا اختلاف في الأدوار المجتمعية التي تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة، فهناك أدوار خاصة بالرجل لا تستطيع المرأة القيام بها؛ لأنها تتنافى مع طبيعتها، وهناك أدوار خاصة بالمرأة لا يستطيع الرجل القيام بها، وهناك أدوار مشتركة يمكن للمرأة أن تقوم بها كما يقوم بها الرجل، وقد أبان القرآن عن تلك الفروق الأصيلة في أصل الخلقة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]. وقد ورد النهي في صحيح البخاري عن رسول الله صلى عليه الصلاة والسلام عن التشبُّه بين الجنسين، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ "، وفي رواية: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُخنَّثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه في سنن أبي داود قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبسُ لبسةَ المرأة، والمرأة تلبسُ لبسةَ الرجل " . مفهوم الجندر: ومفهوم ( الجندر ) الذي يروِّج له دُعاة الرذيلة ويقصدون به النوع الاجتماعي، هو عبارة عن إلغاء تلك الفروق؛ وتخرجهما عن أصل الخلقة والفطرة؛ أي: إن الذكورة والأنوثة عبارة عن نوع واحد، بمعنى أن الإنسان يُولَد كإنسان فقط، والفرق بينهما فقط في الدور الاجتماعي وليس البيولوجي أصل الخلقة، فيمكن للذكر أن يكون أنثى وبالعكس، أو يكون أحيانًا جنسًا ثالثًا، وهو ما يسمُّونه بالمثلية وهو الشذوذ الجنسي، قال تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] . والجندر مصطلح غربي حادث، لم يُعرَّف حتى الآن تعريفًا دقيقًا وحاسمًا، وهو على خلاف الأعراف البحثية والعلمية، التي تَعارَف العلماء على وضع التعريفات والبناء عليها، وسبب عدم وضع تعريف واضح لهذا المصطلح لما يحمل في داخله من مضامين خطيرة، وقد رفضت الأمم المتحدة أن تعطي له تعريفًا محددًا؛ لأن مضامينه خطرة إذا عُرفت وكُشفت فسترفضه المجتمعات المتحضرة، وحتى يبقى مصطلحًا مراوغًا وفضفاضًا، يُخفي الأهداف الخبيثة الحقيقية من ورائه. فالمصطلح يشير لجنس ثالث ليس بالذكر وليس بالأنثى، وإنما هو جنس ثالث تحدده الأعراف الاجتماعية، والاختيارات الإنسانية، وليس هناك اعتبار لأعضائه الجنسية! ويسعون إلى إلغاء دور الأمومة للمرأة والسماح بحرية الشواذ نساءً ورجالًا، فتصبح كلمة (الجندر) بدلًا من الرجل والمرأة، وكلمة الشريك بدلًا من الزوج، وكلمة الشراكة أو الاقتران بدلًا من الزواج والأسرة، وهذا والله أعلم سبب إبقاء هذا الكلمة بدون تعريف . تاريخ ظهور مصطلح الجندر: وأول ما ظهر في حقل الدراسات الاجتماعية على يد الباحثة الإنجليزية (آن أوكلي) التي ألفت كتابًا سنة 1972م اسمه (الجنس والنوع والمجتمع)، حيث أعطت من خلاله المعنى الحرفي للجندر، وأول ذكر لمصطلح الجندر كان في مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، حيث تكرر مصطلح الجندر لأول مرة (51) مرة، ثم بعد عام أقيم المؤتمر الرابع العالمي للسكان في بكين عام 1995م، الذي تكرر فيه هذا اللفظ (254) مرة، حيث خرج هذا المؤتمر بوثيقة ميثاق بكين (معاهدة سيداو)، وهذا المصطلح حين ذكر لأول مرة اعترضت عليه الوفود المشاركة سواء الوفود الإسلامية أو غير الإسلامية، فذكر أنه مصطلح يراد به الجنس، فتمت المطالبة بتغيير هذا المصطلح إلى المصطلح المتفق عليه وهو الجنس، فتم رفض الطلب من اللجنة المنظمة، ثم تبين بعد ذلك أن لفظ الجندر يُراد به أمر آخر يخالف الفطرة البشرية السليمة، قبل أن يكون فيه مخالفة للشريعة الإسلامية. وقد عرفته مؤخرًا منظمة الصحة العالمية بأنه: (المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة على أنها صفات اجتماعية مركبة، أي: لا علاقة لها بالاختلافات العضوية والتركيب البيولوجي). فتعتمد النظرية الجندرية النوع الاجتماعي لا الجنس البشري وعدم النظر إلى الرجل والمرأة من الناحية البيولوجية التي خلق الله النوعين عليها ذكرًا وأنثى، وأن الفروق الطبيعية بين الجنسين هي فروق مصطنعة غير حقيقية! ولذلك يستخدمون عبارة النوع الاجتماعي ولا يلتفتون إلى الجنس ذكرًا أو أنثى. وكذلك تعتمد هذه النظرية الخبيثة على نشر المساواة التامة بين الرجل والمرأة بحجة أن الجميع هم جندر، وطالبوا بالمساواة حتى في الألفاظ ما بين الذكر والأنثى، وقاموا بإصدار نسخة منقحة للعهد الجديد من الكتاب المقدس، قاموا بإلغاء ضمائر التذكير والتأنيث فيه، كما أقاموا مؤتمرًا في اليمن في عام (1997م) بعنوان : جندرة اللغة. إذًا فمصطلح الجندر في نظر دعاته، وهو تحرير المرأة من كل القيود التي فرضها المجتمع عليها! وهذه الدعوة لا تنطق بالمساواة بين الرجل والمرأة فقط، بل تصل لحد التماثل الحقيقي، وهذا ما يخالف الفطرة السوية التي خلق الله تعالى الإنسان عليها. وهذه النظرية بمفهومها تبيح الشذوذ الجنسي والدعوة إلى الزنا وعدم الحياء منه وإخفاءه، بل فعله علنًا والتفاخُر فيه وإلغاء مصطلح العيب العرفي والحرام الشرعي باعتباره أحد الحقوق لكل إنسان، خاصة المرأة كما يدعون، وأن جسدَها ملكٌ لها تفعل به ما تشاء! ولهذا كانت الدعوة إلى تعليم الممارسة الجنسية في المدارس بمختلف أنواعها الطبيعية والشاذة؛ لذلك هم يحاربون القيم الاجتماعية؛ كالعفة والشرف التي تحفظ للمجتمعات تماسُكها، وعلى الإنسان ألَّا يكون حبيسًا لاختيار الله تعالى له من تحديد الجنس ذكرًا أو أنثى، بل التحرُّر من القيود الشرعية والأعراف الاجتماعية السليمة. وقد حرَّم الإسلام تلك الرذائل، وعدَّها من أكبر الكبائر، ونهى المسلمين عن إتيانها، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151]. خطورة ثقافة الجندر: إن خطورة ثقافة (الجندر) تكمن في ترويجها من قبل دعاتها تحت دعاوى خدَّاعة وبرَّاقة وتلاعب في الألفاظ، تجعل بعضهم ينخدع بها، تحت دعاوى حقوق الإنسان وحقوق المرأة، والمساواة بين الجنسين، وتمكين الشباب! ولهذا نحتاج إلى حملة توعوية ودعوية من النخب الشرعية والعلمية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني للتحذير من هذا الخطر الكبير، وبيان الأمور على حقيقتها، ليسهل على الناس الحكم عليها، بوازعهم الديني والعرفي والأخلاقي، وفطرتهم السليمة. الحكم الشرعي للجندر: ومما تقدَّم يتبين أن الحكم الشرعي لنظرية الجندر هو التحريم، ويأثم كلُّ مَن يُروّجُ لهذا المصطلح الخبيث، ويجب على الحكومات تشريع القوانين التي تحد من انتشار هذا الفكر المنحرف، وكذلك يجب على الهيئات والمجالس العلمية والشرعية ومنظمات المجتمع المدني توعية الناس وبيان خطر هذه المصطلح الغربي . فالشريعة الإسلامية جاءت تؤكد على رفع الظلم عن المرأة التي كان يمارس عليها قبل الإسلام أو من قبل المجتمعات الجاهلة والمتخلفة، وبتكريمها أفضل تكريم، ودعاة الجندر يريدون منها أن تعود من جديد إلى مجرد سلعة لهواهم وإشباع رغباتهم الجنسية فقط، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، والله تعالى أعلم.
تعريف بكتاب اللغة الروهنجية بالحروف العربية للدكتور محمد عارف الأركاني هذا الكتاب يقدم نظامًا مطورًا لكتابة اللغة الروهنجية بالحرف العربي، وهي لغة المسلمين في إقليم أركان -دولة ميانمار بورما سابقًا- حيث قام المؤلف بوضع القواعد لكتابة هذه اللغة بالحروف العربية المنمطة بطريقة علمية، وقد كُتِبت اللغة الروهنجية بالحرف العربي منذ القديم إلا أن الكتابة ما كانت على الطريقة العلمية المقعَّدة فلم تنتشر، وما كانت لهذه اللغة كتابة متداولة شائعة بين الأمة الروهنجية. والكتاب يتكون من تقاريظ، وتزكيات، وتمهيد عن نظام كتابة اللغة الروهنجية، وخمس وحدات، وهي: الهجاء، ورسم الخط، والأصوات، والقواعد الأساسية، ومقارنة جذور الكلمات. وتوخيًا لتوسعة نطاق الاستفادة من الكتاب تمت ترجمة أهم الأفكار فيه في الهوامش بالبورمية والعربية والأردية والإنجليزية، وهي من أشهر اللغات المتداولة بين أهل ميانمار، وبذلك يتاح لأصحاب هذه اللغات التقاط صورة عامة عنه، ونظرًا لمواكبة التقنية فقد تم تصميم الحروف وبرنامج الطباعة على الحاسب الآلي وفقًا لهذا النظام، والكتاب يتضمن تأييدًا من المسئولين في عديد من المنظمات الإسلامية والعربية العالمية، كما يتضمن تأييدًا من نحو ستين أكاديميًّا من أساتذة الجامعات الحكومية المعروفة على مستوى العالم الإسلامي. وأبان المؤلف أن هذا الابتكار يرمي إلى ربط المجتمع الروهنجي بحروف القرآن الكريم والحديث الشريف والثقافة الإسلامية، على غرار اللغات الأخرى المكتوبة بالحرف العربي؛ كاللغة الأردية والبشتو وغيرهما، وإلى ربط الشعب الروهنجي بتاريخه العريق؛ حيث إنه في عهد الازدهار الإسلامي في أركان -الذي هو موطن الشعب الروهنجي- كانت العملات والشعارات الرسمية فيه منقوشة بالحروف العربية طِيلة 354 عامًا من عام 1430م إلى عام 1784م. وبالجملة فإن الكتاب مبادرة استثنائية متميزة لتمكين الروهينجا من كتابة لغتهم بالأبجدية العربية. وصدر هذا الكتاب من مطبعة الحميضي بالرياض عام 1441هـ، بموافقة من وزارة الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية، كما صدر للمؤلف كتاب آخر في هذا المجال باسم هجاء اللغة الروهنجية، ومنذ وقت قريب ظهرت كتابة للغة الروهنجية بحروف أخرى بعيدًا عن تاريخ المجتمع الروهنجي وثقافته. المراجع: • اللغة الروهنجية بالحروف العربية للدكتور محمد عارف الأركاني، ط 3، مطبعة الحميضي- الرياض، المملكة العربية السعودية 1441هـ - 2020م . • هجاء اللغة الروهنجية للدكتور محمد عارف الأركاني، ط 1 مطبعة الحميضي- الرياض، المملكة العربية السعودية 1441هـ - 2020م . • بورما: الخبر والعيان (ص 28 – 29) بقلم محمد بن ناصر العبودي، ط 1، المملكة العربية السعودية 1411هـ -1991م. • حول مآسي المسلمين في بورما الاشتراكية (ص 22)، تأليف ولاية حسين بن الشيخ عبد الخالق البرماوي، طبع انجمن بريس- كراتشي- باكستان 1403 ه - 1983م . [6:30 p.m., 2023-08-26] د. محمد عارف الأركاني: صورة غلاف كتاب: اللغة الروهنجية بالحروف العربية للدكتور د/ محمد عارف الأركاني. صورة الغلاف الخارجي للكتاب
الجدل: رؤية نفسية • رَوَى الحاكم والترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ)) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58] [1] . • قال الأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: بَلَغَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ. • وروى البيهقي عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْعَمَلِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْجَدَلِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْعَمَلِ، وَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْجَدَلِ. • قال أحد العلماء: وأعظم ما يُحيل الإنسان عن الحق، ويُحيده عنه، هو كثرة مخالطة الباطل حِسًّا ومعنًى، بلا معرفة سابقة بالحق محكمة، وكما جاء في الأثر: ((كثرةُ النظرِ في الباطل تذهبُ بمعرفة الحقِّ من القلبِ))، ولهذا جاءت النصوص في الوحيَيْن بالتحذير من الخوض في الباطل وإدامة النظر فيه أو الجلوس بين المُبطلين: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140]؛ لأن القلب يُشرب الفكرة والرأي شيئًا فشيئًا، حتى تستحكم منه؛ لذا قال الله تعالى بعد ذلك مبينًا المآل: ﴿ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ ؛ أي: حالكم سيكون كحالهم، وهذا سبب أكثر الانحراف في البشر؛ لذا قال المشركون لما سئلوا: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ [المدثر: 42]، قالوا: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [المدثر: 45]، وروى أحمد عن ابن مسعود قال: أكثر الناس خطايا أكثرهم خوضًا في الباطل. • وقد رأيت من يُكثِر مطالعة الباطل أكثر من الحق؛ ككتابات الصحف ومقالات ولقاءات إعلامية وغيرها ويوغل فيها، فتُذهب معرفة الحق من قلبه من حيث لا يشعر، فالعقل والنقل يدل على أنه ما من فكرة أو عقيدة ولو كانت موغلة في الشر، إلا ولها قبول ولو كان كامنًا دقيقًا في النفوس. وإعمال العقل المتجرد في سبر الحقائق وفحصها بلا مؤثر نادر جدًّا، وكثيرًا ما يظن الإنسان أنه اعتقد ما يراه حقًّا بالعقل المتجرد، ودوافع النفس الدقيقة الأخرى مجتمعة أقوى من دافع العقل. فالشرع ما منع من مجالسة المبطلين ضعفًا في الحق الذي جاء به، ولكن صونًا للعقل أن تغلبه دوافع النفس فتختلط بالعقل ويتدثر بها؛ لذا نجد كثيرًا من الناس بلغوا حدًّا مفرطًا من العقل والذكاء يعبدون البقر والحَجَر؛ بل الفأر، فضلًا عمَّا فوقها من دركات الفكر والرأي، بسبب المخالطة الحسية والمعنوية. ومزلة الأفهام أن يظن كثير من الناس أنه توصَّل لقناعة عقلية قاطعة في شيء، والحق غير ذلك، فالعقل الصحيح لا يتنافر إطلاقًا مع النقل الصريح. • ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوة بلا تجرُّد إلى تقرير مسألة أو دفع حجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكُفَّار قريش يعترضون على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كونه بشرًا مثلهم فقالوا: ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 34] بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم «الحَجَر»، فرضي المشركون بالإله الحَجَر، وردُّوا نبوة النبي؛ لأنه بشر، لأن النفس منشغلة في صد محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفة عن طلب الحق، كحال من يُفتِّش في كُتُب السنة ليقف على نص مشتبه، ويضع أُصبعيه في أذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في «تاريخ مكة» وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان. • ويقول أيضًا: وفطرة البشر لا تُحب أن يخالف الإنسان قوله فعله، فكثير من الذين يقعون في بعض المخالفات ويمارسونها إذا ورد إليهم أقوال متعارضة ولو كان أحدها شاذًّا يسبق إلى أذهانهم القول الموافق لفعلهم، فتميل النفس له وتؤيده لهذا الدافع النفسي الكامن الذي يتغالب مع العقل المتجرِّد ويغلبه كثيرًا دون شعور؛ لأن النفس لا تحب أن تقول ما لا تفعل. [1] قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده.
الإدارة بالفطرة ... علمٌ طوَّرتْهُ الأحداث الكثير منا يتساءل: هل علم الإدارة علم حديث، أم علم قديم موجود منذ القدم؟ والحقيقة هذه الإجابة تتضمن الإطلالة لعلــم الإدارة من عدة نوافذ، تُطِلُّ على جوانب الحياة عبر التاريخ. فمنذ أن خلق الله الكون، وجعل فيه من يعمُره، جعل لكل شخص ما يسمى لدينا بالطابع الذاتي، الذي يدير من خــلاله شـــؤون حياته ونفسه، بل ربما يدير شؤون أسرته وعائلته، ومنهم من كان يتحمل مسؤوليات أكبر، كمن كان مسؤولًا عن قرية أو مــدينة، وهنا نصل إلى أن الإدارة كانت مولودة بالفطرة بيننا، لكنها لم يكن لها علم محدد يعرض مصطلحاتها، أو كُتُب تعبر عن مفاهيمها، أو شـاشة تعرض لنا سماتها وأنواعها، كما نرى الآن في جميع الزوايـــــــا الإعلامية. وعلى سبيل المثال؛ فالأم في بيتها تسـتطيع أن تـديره بـإدارة فائقة، وتدبر شؤونه، والفلاح في مزرعته يستطيع إدارة شؤونهــــا بدقة واحترافية، وانضبـــــاط لكافة المــواعيد والأوقات، والمعلم كان فيما يسمى في المدارس القديمة بنظام (الكتاتيب) يمتلك خطة دراسية في جوانب خــــــــلايا عقله، ولديه ما يُعرَف بـالإدارة الصَّفِّيَّة ذاتيًّا، برغم أن كل هؤلاء لم يدرســوا علم الإدارة، ولم يتخرجوا من أقسام عناوينها إدارة الأعمال، أو إدارة تربوية، أو إدارة حياتية؛ لذا فإننا نرى أن الإدارة قديمًا كانت بالفطرة، ثم نــالت تطورًا بالغًا مع ظهور التطور الصناعي في النصف الثاني من القرن التاســـــــع عشر؛ حيث اهتمــت بتنظيـــم العلاقة بين أفــــراد المؤسسات في بيئات العمل، وتحديد الخطط والمسارات التي يطمح بها كل مجتمـــــع لتحقيق أهدافه، ووضع المعــايير والخطــوات اللازمة لتنظيم الأعمـــال، وازداد تطورها وتقدمها أكثر خاصة في الآونة الأخيرة؛ فأصبح لهـا جامعات وكليات تضع لها المناهج المخصصة كعلم من العلوم المبنية على قواعد وأسس ودراسة ومفاهيم محددة. ومن منطلق ذلك انطلق علم الإدارة بما يحمل من معانٍ للقيادة والرقابة، والتحكم والتوجيه، و التنظيم والإجراء والتخطيط، وصناعة وتحديــد الأهداف للحصول على أعلى معدلات النجاح، ليس في مجال واحد، بل شمل ذلك كافة المجالات، وارتبط ذلك بكافــــة العلوم من العلوم الاجتماعية والإنسانية، فلم يعد هناك مجال من المجالات، ولا مؤسسة من المؤسسات تستغني عن دراسة علم الإدارة، والاستعانة بمن يمتلك أدواتها لتنظيم العمل، ســـواء كان المجـــال تربويًّا أو طبيًّا، أو صناعيًّا أو دوليًّا، أو محليًّا أو تجاريًّا، وأصبح للإدارة كيان غاية في الأهمية في كل صفحات الحياة التي نقلبها ونقرأ رواياتها يوميًّا. ومن هنا تحقق طموح من يمتلك في شخصيته فنون الإدارة، ولكنه كان يبحث عن علم ليضع أقدامه على أراضٍ صلبة من الأسس والقواعد، والقوانين التنظيمية لِما يمتلك من مهارات، بل كان تطور علم الإدارة فرصة عظيمة لمن يشغل منصبًا محددًا، ولكنه لا يعرف كيف يكون ناجحًا إداريًّا في موقعه، فأصبح علم الإدارة بفروعــه ودراســاته أحد المحاور التي سيرتكز عليها ليصل إلى بــر الأمان في إنجاح حياته العملية، وإنجاح من معه في محيط عمله. لذا فإن عالم الإدارة تطور بتطور الزمن، بل تشعبت شجرة عائلته لتصل إلى عدد هائل من الفروع التي لا نستطيع حصرها وعدَّها؛ فهي تتطور بسرعة الزمن، وتنمو بنمو المؤسسات، سواء من حيث المستويات، أو من حيث المهام والتكاليف، أو من حيث الوظائف والأنشطة العملية والحياتية.
التداعيات السلبية للعصرنة وإشكالية تهديد تماسك الأسرة والمجتمع بالتفكك مع تسارعِ تأثيرِ تداعيات العصرنة في مجريات الحياة اليومية المعاصرة للناس، ومن خلال وسائلها المفتوحة في كل الاتجاهات، وبلا قيود، ازدادت المناكفات اليومية في حياتنا الأسرية، والمجتمعية، حتى أضْحَتْ تُهدِّد وحدةَ صفِّ العائلة والمجتمع بالتفكُّكِ، بعد أن تعمَّقت مشاعر الانفلات والتسيب، وبما باتت تتركه من مفاعيل مؤذية نفسيًّا، ومنهكة اجتماعيًّا. ولا ريب أن تداعيات العصرنة السلبية بما أفرزته من وسائل الاتصال الرقمي، على كل إيجابياتها، من انغماس الجيل - آباء وأبناء - في فضائها، وما تركتُه من عزلة بين أفراد العائلة، وداخل أفراد الوسط الاجتماعي العام، قد عمَّقت حالة التفكُّك، ووسَّعت الفجوة بين الناس، وألْغَتْ ترادف الأجيال بين الناشئة والآباء؛ مما خفَّف من جذوة التفاعل بالحضور الوجاهي الحقيقي، وأضعَف صميمية العلاقة الحميمة التقليدية بين أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وذلك بسبب التنشئة الخاطئة، وغياب دور الآباء والأمهات، في الإشراف العملي المباشر على تربية الأبناء، وإهمال مراقبة سلوكياتهم، وغض النظر عن مدى تطابقها مع معايير الصلاح، والتصرف الرشيد. ولعل من الملاحظ على سبيل المثال أن ظاهرة الانغماس الكليِّ في فضاء الواقع الافتراضي، قد أفضت إلى استلاب اجتماعيٍّ نتيجة انفصال المستخدم تدريجيًّا عن واقعه الحقيقي، متمثلًا بعزله عن أسرته، وانفصاله عن أصدقائه ومجتمعه، بعد أن حلَّ محلَّه الاندماجُ التامُّ بالواقع الافتراضي الجديد، الذي انغمس فيه، وهكذا فقد باتت هذه الظاهرة تشكِّل مصدرَ قلقٍ للمجتمع، ولمؤسساته التربوية والتعليمية معًا، بل حتى الدينية، بعد أن أوشكت هذه الظاهرة أن تعزِلَ المستخدم، وتُقْصيه عن أداء واجباته الدينية والاجتماعية. ولا ريب أن تسلُّل الواقع الافتراضي الجديد إلى حياة الناس، ليحل محل الواقع الحقيقي لهم - قد بات يطرح من بين الكثير من التداعيات السلبية محاذيرَ إشكالية التفاعل مع المحتوى الهابط، الذي يُطرَح للتداول عبر مِنصَّات التواصل الاجتماعي المختلفة، مع أنها ليست هي من يصنع هذا المحتوى، لكنها تظل - مع ذلك - وسيلة نقل المحتوى، الذي قد تقف وراءه أوساط غير منظورة، لها مصلحة في صنع المحتوى، أو فبركته، بالطريقة التي تخدم مصالحها الخاصة، دون مراعاة لمشاعر المستخدمين، أو ملاحظة لمعايير الأخلاقيات العامة للمجتمع؛ حيث تنجح مثل تلك الفبركة، في كثير من الأحيان، في تغيير القناعات، والتأثير في المزاج الجمعي العام للمجتمع، بشقَّيهِ الافتراضي والحقيقي، وفقًا لأغراض تلك الأوساط، وما قد يترتب على ذلك بالمحصلة، من منعكسات اختلاط الرؤى، وتشويش القناعات، والتأثير في السلوك. وهكذا فنحن اليوم، شئنا أم أبينا، أمام تداعيات ضاغطة باتجاه تفكيك الأُسرة، وهدم المجتمع، سواء من خلال ما باتت هيمنة الإنترنت تتركه بالإدمان على استخدامها، أو التفاعل مع محتوياتها الهابطة، ناهيك عن الدعوات الأخيرة لشرعنة ثقافة الشذوذ الجنسي المنحرف عن الفطرة الإنسانية، والقوانين السماوية والأرضية، والترويج لها، ومحاولات دعمها سياسيًّا وفكريًّا وقانونيًّا، من قِبَلِ أطراف دولية، من خلال سعيها المستمر لتقنين حقوق الشواذ، بذريعة حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، مما سينعكس سلبًا على تماسك الأسرة؛ بسبب الانحلال الأخلاقي والتسيُّب، وضعف الانضباط داخل الأسرة والمجتمع في الوقت نفسه، ولتكون بذلك عاملَ هدمٍ مضافًا في كيان الأسرة والمجتمع. ولا ريب أن مثل هذه التداعيات السلبية ستكون لها آثار حادة، تنخَر في كيان الأسرة، وتهدم أركان المجتمع، لا سيما أن الكثير من مجتمعات اليوم تعاني من إشكاليات التفكك العائلي والاجتماعي؛ بسبب المساوئ الناجمة عن ضعف آليات التربية للأبناء داخل الأسرة، وغياب الدور الاجتماعي، والتربية الدينية المتوخَّاة، في تحصين أفراد الأسرة ضد كل أشكال الانحلال الأخلاقي والقِيَمي، والانحراف عن صراط الله المستقيم. ولذلك يتطلب الأمر الانتباهَ إلى مخاطر التداعيات السلبية لِمُخرجات العصرنة، والحرص على تقوية الوازع الأخلاقي، وتقوية الوازع الديني لدى أفراد الأسرة ابتداءً، والجيل الصاعد من الشباب، بقصد التحصين؛ وذلك لغرض النأي بهم عن مسارات التسيب، والانحلال، والضياع، والانغماس في مواقع التواصل الرقمي الضارة، وبالشكل الذي يضمن الحفاظ على وحدة الأسرة، ويعزز استمرار تماسك المجتمع، ويُديم أواصر التواصل الاجتماعيِّ الحقيقيِّ المباشر وجهًا لوجه، ويحد من ظاهرة العزلة والانحدار الأخلاقي، وذلك من خلال اعتماد نهج المسؤولية الجمعية في التربية. وهكذا يتطلب الأمر الحرص على التوعية الدينية اجتماعيًّا، ومدرسيًّا، وإعلاميًّا؛ لتعزيز المعايير التربوية الفاضلة بين أفراد الأسرة والمجتمع، والارتقاء بمستوى ثقافة الآباء والأبناء، والحرص على تعميق ثقافة تماسك الأسرة فكرًا وسلوكًا، وبالشكل الذي ينعكس إيجابًا على إرساء وتعميق دعائم المجتمع الرشيد الذي ننشده.
خبر بئر معونة كان في صفر من السنة الرابعة؛ وذلك أن أبا براء بن عامر ملاعب الأسنة قدم المدينة وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فلم يقبلها، وقال: (( يا أبا براء، لا أقبل هدية مشرك ))، ثم عرض عليه الإسلام فلم يبعد ولم يسلم، وقال: إن أمرك هذا لحسن، فلو بعثت رجلًا من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أخشى عليهم أهل نجد ))، فقال أبو براء: أنا لهم جار. فبعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا، وروي: أربعين، فيهم المنذر بن عمرو الأنصاري، والحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة. وانطلق الركب حتى بلغوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فنزلوها وبعثوا حرام بن ملحان ومعه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب، وقتل ابن ملحان الذي قال: الله أكبر فُزتُ ورب الكعبة - وورد أنه دعاهم إلى الإسلام وقال لهم: يا أهل بئر معونة، إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر. وروي أيضًا: فأومؤوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه - ثم استصرخ ابن الطفيل بني عامر ليقاتلوا المسلمين فلم يجيبوه، وقالوا: هؤلاء في جوار أبي براء، فاستصرخ بني سليم، وهم عصية ورِعل وذكوان، فأجابوه وخرجوا حتى أحاطوا بالمسلمين فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، ما عدا كعب بن زيد الأنصاري، فإنهم تركوا وبه رمق من حياة، وكان قريبًا من القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار، فرأيا الطير تحوم فوق مكان المعركة فعرفا أن خطبًا ما هناك فانطلقا ليكتشفا الأمر، فإذا المسلمون صرعى والخيل واقفة، فقال عمرو: نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره خبرهم، فقال الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن موطن فيه المنذر بن عمرو، ثم تقدم فقاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا، ثم أطلقه عامر بن الطفيل؛ لأنه من معد. وروي أنه جز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه، وعاد عمرو بن أمية فلقي في الطريق رجلين من بني عامر فقتلهما يريد الثأر من بني عامر لما فعلوه بالمسلمين، ولكنه أخطأ؛ لأن الرجلين معهما كتاب أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري، فبلغ الرسولَ صلى الله عليه وسلم خبرُ المسلمين وما حصل لهم عند بئر معونة من الغدر، كما ذكر خبر الرجلين، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذا عمل أبي براء)) - أي كنت لهذا كارهًا متخوفًا - وأما الرجلان فقد أخطأت في قتلهما، وقال: ((لأدينهما)) - أدفع ديتهما - للأمان الذي أعطاهما، ثم إن ربيعة بن أبي براء هاجم عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه، وكانت الطعنة في فخذه، فقال: دمي لعمي؛ أي: جعل الحكم في دمه لعمه أبي براء، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اكفني عامرًا))، وقد حزن أبو براء لما فعله عامر بالمسلمين. وورد عند البخاري عن أنس بن مالك: أن رِعلًا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون في النهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من العرب؛ على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، قال أنس: فقرأنا قُرْآنًا، ثم إن ذلك رُفع - أي نسخ -: ((بلغوا عنا قومنا أنَّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)). وروي عن أنس أيضًا قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة، يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان بن سليم ورعل وذكوان عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت، وسأل رجل أنسًا عن القنوت: أبعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة؟ قال: لا، بل عند الفراغ من القراءة.
موسى عليه السلام (6) أرشدَ الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام أن يبرز إلى فرعونَ آيةَ العصا وآية اليد، ولما وصل موسى عليه السلام إلى مصر وانضمَّ إليه أخوه هارون بن عمران عليه السلام توجَّها إلى فرعون، وطلبا منه أن يُخلص العبادةَ لله وحده، وأخبراه أنهما رسولا رب العالمين، وقال له موسى عليه السلام: ﴿ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 18، 19] وتسعد في الدنيا والآخرة؟ ﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 105]، و﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [طه: 47] ومعجزة ظاهرة قاهرة، فآمن بالله، وأرسِل معنا بني إسرائيل، قال فرعون: ﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18] عديدة، ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ﴾ [الشعراء: 19]، وأنت جاحد للنعمة التي أسديناها إليك، قال موسى عليه السلام: لقد فعلتها وأنا غير قاصد، فلم أُرِدْ قتلَ القبطي عندما وَكَزْتُه، ولعلمي أنكم لن تحكموا في هذه القضية بالحقِّ فررتُ منكم لأني خفتكم ﴿ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 21]، ولقد أُوحي إلينا يا فرعون أن العذاب على من كذَّب بآيات الله وأعرض عن دِين الله وكذَّب المرسلين، ولا تتكبَّروا على الله رب العالمين، ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، قال موسى عليه السلام: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24]، إن كان هناك شيءٌ يُوقن به فهو رب السماوات والأرض لظهور برهانه وبلوغ حجَّته، وهو الذي خلق كل شيء، وأعطى كل شيء من خلقه ما يتميز به عن غيره، ثم هداه بما فطره فيه من الجبلَّة إلى مطعمه ومشربه وبقاء نسله وغير ذلك؛ فالدواب والطيور والأسماك تعرف مساربها، وقد أودعها الله عز وجل من آياته وآلائه ما لا يحيط به إلا الله عز وجل، ففي العالم آيات ساطعات وبراهين قاطعات تَشهد أنها من صنع رب العالمين، وقد أقام في كلِّ شيء من الكون آية؛ على حد قول الشاعر: فيا عَجبًا كيفَ يُعصَى الإل هُ أمْ كيفَ يجحدُه الجاحدُ وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ تدلُّ على أنه الواحدُ ولو بذلنا ما في الأرضِ من محابرَ لنشرحَ آيات الله في الإنسان والسماوات والأرض وما بينهما، وجميع ما وصلت إليه المدارك الإنسانية - لعجزنا عن الوفاء بذلك؛ ولذلك اكتفى موسى عليه السلام بقوله لفرعون: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، قال فرعون لمن حوله وقد انبهر: ألا تستمعون إلى ما يقول موسى في دعواه وجودَ إلهٍ غيري؟ قال موسى عليه السلام: الذي أرسلني وهو الذي خلق السماوات والأرض هو ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 26]، قال فرعون لمن معه من ملئه مستهزئًا منقطعًا: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، فأجابه موسى عليه السلام بأن الله الذي أرسلني هو ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 28] فسارِعوا إلى الإيمان به قبلَ أن ينزل بكم عقوبته، فاشتدَّ انقطاع فرعون عن المحاجَّة، ولجأ إلى التهديد بالسجن لموسى عليه السلام فقال: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، فلم يزدد موسى عليه السلام أمامَ هذا التهديد إلَّا نُصحًا فقال: أتسجنني، ولو جئتك بآية واضحة، وحُجة قاهرة على أني رسول الله رب العالمين؟! فازداد فرعون سفهًا وعُلوًّا، وقال لوزيره هامان: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ﴾ [القصص: 38]؛ لأصعد عليه؛ لعلِّي أنظر إلى إله موسى وأكلمه إن كان صادقًا أن في السماء إلهًا، وأراد بذلك أن يموِّه على قومه، وأن يستخفَّهم حتى لا تتسرب إلى قلوبهم أنوار الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، وقال له موسى عليه السلام: أتستمرُّ يا فرعون على تكذيبك، وإن ﴿ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 30]؟ قال فرعون: ﴿ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 31] فألقى موسى عصاه فإذا هي حيَّة تجري على بطنها، وتهتزُّ مسرعة كأنها جانٌّ، وصارت تتضخَّم وتكبُر، فكاد قلب فرعون ينخلع، ثم أدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء من غير برص ولا سوء، فقال فرعون وقومه: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63]، وهذا السحر يدل على أنه سحر ساحر عليم. وطلب ملأ فرعون مِن فرعون أن يبعث في المدائن رسلًا يجمعون السحرة من سائر أنحاء بلاد مصر؛ ليجيؤوا ويجتمعوا عند فرعون لمغالبة موسى عليه السلام، وقال فرعون وملؤه لموسى عليه السلام: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ ﴾ [طه: 57، 58] في مكان متَّفَق عليه بيننا وبينك، قال موسى عليه السلام: ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ﴾ [طه: 59]؛ وهو يوم عيدهم الذي يتزيَّنون ويجتمعون فيه، وأن يكون الاجتماع بيننا وبينكم وقت الضحى. وفي مجيء موسى عليه السلام وأخيه هارون عليه السلام إلى فرعون وتبليغهما له رسالة الله وما كان من فرعون وملئه مع موسى عليه السلام يتحدَّث القرآن العظيم في مواضع شتَّى فيقول الله عز وجل في سورة الأعراف وهو أصدق القائلين، وما يقصُّه هو أحسن القصص: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [الأعراف: 103 - 112]. ويقول عز وجل في سورة يونس: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [يونس: 75 - 79]. وقال تعالى في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [هود: 96، 97]. وقال تعالى في سورة طه عن موسى وهارون أنَّهما قالا لفرعون لما جاءا إليه: ﴿ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 47 - 54]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العقد الثمين في حب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ما أفقر المسلمين اليوم لمن يردهم إلى حب خير البشر! سيد الأنام، خاتم الأنبياء، رحمة العالمين، إمام المتقين، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الفتن، وعمَّت المعاصي وعمَّ ارتكابها، ومالت النفوس إلى ملذَّات الدنيا، وأصبح الإنسان يجري إلى ما لا خير فيه ولا نفع ولا مثوبة عليه، وما أحوجهم إلى من يوضح فضائل الحب له، ويبين حب أصحابه له! وكيف اجتهدوا أشدَّ الاجتهاد إلى اتِّباعه في أفعاله وأقواله، فهذا الرجل النبيل وحده -صلى الله عليه وسلم- روى عنه أصحابه كل ما يتعلق بحياته المكية والمدنية، بل روت نساؤه كل ما حدث بينه وبينهن في بيوتهن، فهذا كله لغاية الحب له، لقد عرف أصحابه عظمته بين رؤوس الخلائق، فأحبوه وأخلصوا له المحبة، وكانت عظمته ليست قاصرةً على ناحية محدودة من حياته، وإنما كانت في كل ناحية من نواحي الحياة، فتجلت في شخصيته الفذة، وأخلاقه العالية، ومواهبه العقلية والجسدية، وتعامله مع غيره وحتى مع أعدائه في غزواته. هذا الكتاب بين يدي -العقد الثمين في حب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم لمؤلفه الشيخ يوسف شبير أحمد البريطاني- من أجمل ما أُلِّف في هذا الاتجاه، فإنه من المعلوم أن كثيرًا من العلماء قديمًا ألَّفُوا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالسيرة النبوية لابن هشام، والطبقات الكبري لابن سعد، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض المالكي، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، ووفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي، ولكن المؤلف أبدع وأحسن، وأجاد وأتقن في جمع هذا التأليف المشتمل على الحب للنبي الأمين سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. هناك أربعة عوامل أساسية تعاملت على تأليف هذا الكتاب الضخم، وهي كالتالي: 1) رأى المؤلف كثرة الشتم والطعن في شأن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2) عدم اقتداء المحبين له بحياته وعدم التمسك بسنته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم. 3) فضل محبة النبي صلى الله عليه وسلم وثوابها. 4) فضل من يدافع عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا. في هذا الكتاب، اختار المؤلف أربعين حديثًا، وضمَّ إلى كل حديث الأبحاثَ العلمية والحقائق الحديثية مع استكشاف جميع المسائل ذات الصلة به، فأكبَّ على تبيان ما دار بين المحدثين والفقهاء من فهم معاني الأحاديث النبوية. وأما الأبحاث التي تأخذ القلوب فقد تعددت وتنوَّعت، فأنت ترى المؤلف يخوض في كشف معاني الحب له -صلى الله عليه وسلم- وما يترتب عليه من امتثال أوامره واجتناب ما زجر عنه، وذلك لأن هذا الحب هو باب متعدد الجوانب، مُتشعِّب الأطراف، فسَمَا شوق المؤلف إلى توضيح فوائد المحبة وعلاماتها ومقتضياتها، فأعقب كل ذلك بأشعار قيلت في مدح ورثاء له -صلى الله عليه وسلم- ثم ذهب إلى بيان حب أهل البيت وبيان مناقبهم -رضي الله عنهم- فأتى بفوائد إطاعته صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، وما ينال المسلم من الأجر العظيم في التمسك به. وكان المؤلف على علم بظروف زمانه، وعرف تلك الأعمال السائدة التي التزم بها أناس يظنون أنها من الهدي النبوي ولم يكن الأمر كما كانوا يظنون، فعرض تلك الحقائق بعبارة واضحة سهلة ليتمكن القارئ من معرفتها، وذكر إلى ذلك السننَ المهجورة التي قَلَّ عمل الناس بها، وشوَّق القارئ إلى القيام بها حبًّا وتعظيمًا وإجلالًا له صلى الله عليه وسلم. ومما لا ريب فيه أن الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم يجلب مثوبة عظيمة، وذلك مما حثَّت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فأمعن المؤلف في البحث عن صيغ الصلاة والسلام عليه وعن الأماكن والمواطن التي تستحب فيها الصلاة والسلام على رسولنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، مستفيدًا من بطون الكتب، وأوضح فوائدها وثمراتها، وأعقب ذلك بالحديث عن فضائل المدينة المنورة والأماكن المقدسة المحيطة بها وعن حب السلف الصالح لها ولأهلها. فجزى الله المؤلف خيرًا غزيرًا، وعمَّ بهذا التأليف الأنيق النفع في العباد والبلاد، ولله الحمد والمنة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حول إمام المفسِّرين والمؤرِّخين الفقيه المحدّث المقرئ أبو جعفر محمّد بن جرير الطَّبَرِي -رحمه اللّه تعالى- (224 - 310هـ = 839 - 923م) شيوخ الإمام ابن جرير الطّبريّ -رحمه اللّه تعالى- [1] وكان من ثمرة تلك الرّحلات وتَطوافه في مختلف الأقاليم والأصقاع ببلده وبلاد الأعاجم والعِراق والشّام ومصر والحِجاز [2] أن لقي الْكَثِيرَ من علماء الأمصار، ورَوَى عن الجَمّ الغفير من فضلاء الشّيوخ ونبلاء الرّجال في التّفسير، والحديث، والفقه، والقراآت، واللّغة و ... حتّى لَيكاد يصعبُ حصرُهم، أو أن يُحاطَ بهم كثرةً، ولذلك قال ابن قُطْلُوْبَغَا: (ولا يُعَدُّ شيوخُه) [3] ، وقال الذّهبيّ بعدما سردَ شيوخَه: (وأُمَماً سِواهم) [4] . على أنّ بعضَ الأفاضل حاول ضبطهم، فقال: (بلغ عددُ شيوخ الطّبريّ أربعةً وسبعين وأربعمِئة شيخٍ (474)، والّذين روى عنهم في سائر كتبه نَيِّفاً وأربعمِئة شيخٍ، عدا المُبهَمين (70 شيخاً) [5] . وقد أحصيتُ في هذا المبحث من شيوخِه أربعة عشر وأربعمئةِ شيخٍ (414)، و هذه جريدةٌ بأسمائهم: فمِنهم: 1. أبو عبد اللّه مُحَمَّد بن عَبْد المَلِكِ بنِ أَبِي الشَّوَارِبِ البصريّ الأُمويّ المحدّث الفقيه (ت: 244هـ). 2. أبو محمّد إِسْمَاعِيْل بن مُوْسَى الفَزاريّ الكوفيّ ابن بنت السُّدِّيّ (ت: 245هـ) [6] . 3. أبو يعقوب إِسْحَاق بن أَبِي إِسْرَائِيْلَ [7] المَروزيّ البغداديّ الحافظ (ت: 246هـ). 4. أبو إسحاق إبراهيم بن عبد اللّه العَبْسيّ الكوفيّ القَصّار (ت: 279هـ). 5. أبو شَيْبَة [8] إبراهيم بن عبد الله بن محمّد العبسيّ الكوفيّ (ت: 265هـ). 6. أبو جعفر أحمد بن بُدَيْل بن قريش الياميّ قاضي الكوفة (ت: 258هـ). 7. أبو عَمرو أحمد بن حازم بن محمّد الغِفاريّ الكوفيّ صاحب المسند (ت: 277هـ). 8. أبو الحسن أحمد بن الحسن بن جُنَيْدِب التّرمذيّ (ت: 250هـ). 9. أبو عُبيد اللّه أحمد بن عبد الرّحمن بن وهب الوَهْبيّ القُرشيّ المعروف بـ"بَحْشَل" (ت: 264هـ). 10. أبو عبد اللّه أحمد بن عَبدة بن موسى الضّبِّي البصريّ (ت: 245هـ). 11. أبو الجوزاء أحمد بن عثمان بن أبي عثمان البصريّ أخو أبي العالية النَّوفليّ (ت: 246هـ). 12. أبو عُتبة أحمد بن الفَرَج بن سليمان الكِنديّ الحِمصيّ المؤذِّن المُلَقَّب بالحِجازيّ (ت: 271هـ). 13. أبو بكر أحمد بن منصور بن سيّار الرّماديّ البغداديّ الحافظ (ت: 265هـ). 14. أبو عبد اللّه بَحر بن نَصر بن سابق الخَولانيّ المصريّ (ت: 267هـ). 15. أبو عليّ الحسن بن يحيى بن الجَعد العَبديّ الجُرجانيّ البغداديّ (ت: 263هـ). 16. أبو الرّبيع الحسن بن يحيى بن كثير العَنبريّ المصّيصيّ (من الحادية عشرة) [9] . 17. الحسين بن عليّ بن يزيد الصُّدائيّ الأكفانيّ البغداديّ (ت: 246 أو 248هـ). 18. أبو محمّد الرّبيع بن سليمان بن عبد الجبّار المُراديّ المصريّ الإمام الحافظ [10] (ت: 270هـ). 19. أبو محمّد ‌الرّبيع ‌بن ‌سليمان الجيزيّ ‌الأزديّ الأعرج الشّافعيّ (ت: 256هـ). 20. أبو هاشم زياد بن أيّوب بن زياد دَلويه البغداديّ الحافظ (ت: 252هـ). 21. أبو طالب زيد بن أخزم الطّائيّ البصريّ الحافظ المقرئ (ت: 257هـ). 22. العبّاس بن جعفر بن عبد الله بن الزّبرقان البغداديّ (ت: 258هـ) = العبّاس بن أبي طالب [11] . 23. أبو الفضل عبّاس بن محمّد بن حاتم الهاشميّ الدّوريّ البغداديّ (ت: 271هـ). 24. ابن البرقيّ أبو سعيد عبد الرّحيم بن عبد اللّه (ت: 286هـ). 25. أبو الحسن عبد الوهّاب بن عبد الحكم الورّاق البغداديّ (ت: 250هـ) [12] . 26. أَبُو زُرْعَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بن يزيد بن فرّوخ الرَّازِيُّ الحافظ (ت: 264هـ). 27. أبو الحسن عليّ بن حرب بن محمّد الطّائيّ الموصليّ المحدّث الأديب (ت: 265هـ). 28. أبو بكر (أبو عليّ) أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ بن محمّد الطّائيّ الموصليّ (ت: 263هـ). 29. أبو أيّوب أحمد بن عبد الصّمد بن عليّ الأنصاريّ الزّرقيّ المدنيّ "النّهروانيّ" (من الطّبقة العاشرة) [13] . 30. أبو جعفر أحمد بن محمّد بن نَيزَك الطّوسيّ البغداديّ (ت: 248هـ). 31. أبو صالح أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ بن راشد الحنظليّ الْمَرْوَزِيُّ (ت: 258هـ). 32. أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد البصريّ (ت: 257هـ). 33. أبو يعقوب إسحاق بن وهب بن زياد العَلاّف الواسطيُّ (ت: 259هـ). 34. الحسين بن عَمرو بن محمّد العَنْقَزيّ الكوفيّ (من الطّبقة الحادية عشرة) [14] . 35. أبو عليّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن أيّوب السّعديّ الذَّارِع البصريّ (ت: 247هـ). 36. أبو عليّ الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ بن معارك الآمُلِيُّ الطّبريّ المصريّ (ت: 261هـ). 37. أبو الحسن عليّ بن داود بن يزيد التّميميّ القنطريّ البغداديّ الحافظ (ت: 272هـ). 38. أبو الحسن عليّ بن مسلم بن سعيد الطّوسيّ البغداديّ المحدّث (ت: 253هـ). 39. أبو زيد عمر بن شَبَّة بن عبيدَة النّميريّ البصريّ الأخباريّ الحافظ الحجّة (ت: 262هـ). 40. أبو موسى عمران بن بكّار بن راشد الكلاعيّ الحمصيّ المؤذّن (ت: 272هـ). 41. أبو بكر محمّد بن إسحاق بن جعفر الصّاغانيّ الحافظ (ت: 270هـ). 42. أبو جعفر محمّد بن حاتم بن سليمان السّعديّ الزَّمِّي المؤدِّب (ت: 246هـ). 43. أبو عبد الله محمّد بن عبد اللّه بن عبد الرّحيم البرقيّ (ت:249هـ). 44. أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المُزَنيّ المصريّ الفقيه صاحب الشّافعيّ (ت: 264هـ) [15] . 45. أبو بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرّحيم البرقيّ المصريّ (ت: 270هـ). 46. أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ [16] = أحمد بن عمرو بن عبد الخالق العَتَكيّ البصريّ البزّار (ت: 292هـ). 47. أبو جعفر محمّد بن عوف بن سفيان الطّائيّ الحِمصيّ الحافظ (ت: 272هـ). 48. أبو جعفر محمّد بن منصور بن داود شيخ الإسلام الطّوسيّ البغداديّ العابد (ت: 254هـ). 49. أبو محمّد الحارث بن محمّد بن أبي أسامة التّميميّ البغداديّ الحافظ صاحب المسند (ت: 282هـ) [17] . 50. أبو عِمران موسى بن هارون بن عبد اللّه البغداديّ البزّاز الحافظ محدّث العراق (ت: 294هــ) . 51. أبو بكر محمّد بن سهل بن عسكر البخاريّ البغداديّ (ت: 251هـ). 52. القاسم بن الحسن [18] (من الطّبقة الحادية عشرة) [19] . 53. أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن مرزوق بن النّعمان الباهليّ البصريّ (ت: 248هـ). 54. أبو عمر مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ بن عمرو الأُمويّ الْبَصْرِيُّ (ت: 294هـ). 55. أبو عبد الله محمّد بن مسلم بن عثمان الحافظ المعروف بـ"ابن وارَة" (ت: 265هـ). 56. أبو محمّد مُحَمودُ بْن خِدَاشٍ الطّالقانيّ البغداديّ (ت: 250هـ). 57. مُحَمَّدُ بْنُ أبي مَنْصُورِ الطُّوسِيُّ الآمُلِّيّ الطّبريّ (من الطّبقة الثانية عشرة) [20] . 58. أبو محمّد (أو أبو أحمد) مَخْلَدُ بْنُ الْحَسَنِ بن أبي زُمَيْل المروزيّ الحَرّانيّ البغداديّ (من التّاسعة). 59. مَخلَد بن مُحَمَّد المهلّبيّ البصريّ (من الطّبقة الحادية عشرة) [21] . 60. مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ الْحَرَّانِيُّ (من الطّبقة الحادية عشرة). 61. أبو حاتم مُسْلِمُ بْنُ حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ البصريّ [22] (من العاشرة [23] ، كان حيّاً سنة 250هـ). 62. أبو إسماعيل محمّد بن إسماعيل بن يوسف السّلميّ التّرمذيّ البغداديّ (ت: 280هـ). 63. أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بن رافع البهْرَانِيُّ الحِمْصيّ (ت: 274هـ). 64. أبو حميد أحمد بن محمّد بن المغيرة الأَزديّ الحِمْصيّ (ت: 264هـ)ـ. 65. أَبُو الْخَطَّابِ سُهَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجَارُودِيُّ الحسّانيّ البصريّ (من العاشرة ) [24] . 66. أَبُو الرَّدَّاد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بن عبد الله البصريّ ثمّ الْمِصْرِيُّ المؤذِّن المكتب (من العاشرة ت: 276هـ) [25] . 67. أبو سلمة (من العاشرة) [26] . 68. أَبُو عَاصِمٍ عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن الحكم الْأَنْصَارِيُّ البصريّ (من الحادية عشرة). 69. أَبُو عَامِرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو بن سعيد السَّكُونِيُّ الحِمْصيّ المقرئ المؤذّن [27] ( من الحادية عشرة). 70. أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَائِيُّ (من العاشرة). 71. أبو عبد الله محمّد بن حرب بن خربان النّشائيّ (أو النّشاسِتَجيّ) الواسطيّ (ت: 255هـ). 72. أَبُو عُبَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ الْوُصَابِيُّ الحِمصيّ (من العاشرة). 73. أَبُو عَلْقَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْفَرَوِيُّ (من الحادية عشرة). 74. عَلِيِّ بْنِ الْمُغِيرَةِ [28] . 75. أبو محمّد الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ البغداديّ (من ا لعاشرة). 76. أبو عبد الرّحمن بِشْرُ بْنُ آدَمَ بن يزيد البصريّ (ت: 254هـ). 77. أبو عبيدة السّريّ بن يحيى التّميميّ الكوفيّ [29] (من الحادية عشرة ت: 274ه). 78. أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل الجعفيّ البخاريّ (ت: 256هـ) [30] . 79. أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجّيّ البصريّ (ت: 292هـ). 80. إبراهيم بن عطيّة بن رديح القرشيّ الشّاميّ المقدسيّ (من العاشرة) [31] . 81. أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقُ (من العاشرة أو الحادية عشرة). 82. إسحاق بن سليمان البصريّ (من الحادية عشرة) [32] . 83. أبو هاشم إسماعيل بن المتوكّل الأشجعيّ الحِمصي (من الحادية عشرة). 84. أبو العالية إسماعيل بن الهيثم بن عثمان العبديّ البصريّ (ت: 250هـ). 85. بشر بن سويد (من التّاسعة) [33] . 86. أبو محمّد بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ الصَّوَّافُ النّميريّ البصريّ (ت: 247). 87. حسن بن محمّد بن سعيد القرشيّ (من التّاسعة) [34] . 88. حسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد المكّيّ (من التّاسعة) [35] . 89. أبو الأزهر حَوْثَرَة بن محمّد المنقريّ الورّاق البصريّ (ت: 256هـ). 90. أبو محمّد زِيَادُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بن خزاعي الْمُزَنِيُّ البصريّ (من العاشرة). 91. أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى بن زياد الْحَسَّانَيُّ العدنيّ البصريّ (ت: 254هـ). 92. أبو طالب زيد بن أخزم الطّائيّ النّبهانيّ البصريّ (ت: 257هـ). 93. أبو حاتم سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن عثمان الْسِّجستانِيُّ النّحويّ المقرئ البصريّ (ت: 255هـ). 94. أبو عبد الرّحمن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ الخزاعيّ المروزيّ (ت: 275هـ). 95. أبو جعفر عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بن محمّد النَّاقِدُ الْوَاسِطِيُّ البغداديّ (من الحادية عشرة) [36] . 96. عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ الأنماطيّ السّلميّ البصريّ (من العاشرة). 97. الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن القاسم الْأَنْمَاطِيُّ البغداديّ (من الحادية عشرة). 98. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن أسيد الْكِلَابِيُّ (من العاشرة). 99. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّازِيُّ (من الحادية عشرة). 100. أَبُو صُدَيْفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْآمُلِيُّ (من العاشرة). 101. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بن عبد الرّحمن الزُّهْرِيُّ البصريّ (ت: 256هـ). 102. أبو العبّاس عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بن الجَرَّاح الشّاميّ الفِلَسْطِينيُّ الْغَزِّيُّ (من الحادية عشرة). 103. أبو الحسن عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ بن مسروق الْكِنْدِيُّ الكوفيّ (ت: 249هـ). 104. أبو الحسن عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ بن عديّ السِّمْسَارَ البزّاز البغداديّ (ت: 253هـ). 105. عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ (من العاشرة). 106. أبو الحسن ‌عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بن المغيرة ‌الْمَخْزُومِيُّ الكوفيّ ثمّ المصريّ المعروف بعلاّن (ت: 272هـ). 107. عليّ بْن عبد الله بْن صالح الدَّهّان الكوفيّ (من العاشرة). 108. عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بن يزيد الكَراجِكيّ البغداديّ البزّار (ت: 247هـ). 109. عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ (؟). 110. أبو محمّد الْقَاسِمُ بْنُ زكريّا بن دِينَارٍ الْقُرَشِيُّ الطّحّان الكوفيّ (ت: 250هـ). 111. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْمَاطِيُّ البغداديّ الحافظ المعروف بــ"مربع" (ت: 256هـ). 112. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ [معاوية بن] صَالِحٍ المعروف بابن مالِج الواسطيّ الْأَنْمَاطِيُّ البغداديّ (ت: 251هـ). 113. مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ بن يحيى الْعَدَوِيُّ (من الحادية عشرة). 114. مُحَمَّدُ بْنُ صَخْرٍ الْعُتْبِيُّ (من العاشرة). 115. أبو عيسى موسى بن عبد الرّحمن بن سعيد الكِنديّ المسروقيّ الكوفيّ (ت: 258هـ). 116. يَحْيَى بْنُ بشر (أو بَشِيرٍ) الْقُرْقُسَانِيُّ (من الحادية عشرة). 117. أبو زكريّا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ بن أبيكثير الْيَرْبُوعِيُّ الكوفيّ (من العاشرة). 118. أبو زكريّا يحيى بن عثمان بن صالح القُرشيّ السّهميّ المصريّ (ت: 282هـ). 119. مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ (من العاشرة). 120. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن سَمرَة الْأَحْمَسِيُّ الكوفيّ (ت: 260هـ). 121. أَبُو صَالِحٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن أبي ضِرار الضِّرَارِيُّ الرّازي (من الحادية عشرة). 122. مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُرَادِيُّ المصريّ (من الحادية عشرة). 123. مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَنْطَرِيُّ (من العاشرة). 124. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الكوفيّ الخزّاز الحنينيّ (ت: 277هـ). 125. أبو بكر مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ بن عجلان الْأَزْدِيُّ المُهَلِّبيّ البغداديّ الضّرير (من العاشرة). 126. أبو الحسين مُحَمَّد بن خَالِد بن خَلِيّ الكَلاعيّ الْحِمصِيّ (من الحادية عشرة). 127. أبو نصر مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ بن عمّار الْعَسْقَلَانِيُّ الشّاميّ (ت: 260هـ). 128. أبو جعفر ‌محمّد ‌بن ‌داود ‌بن ‌يزيد التّميميّ القَنْطَريّ البغداديّ (ت: 258هـ). 129. أبو جعفر محمّد بن سعد بن محمّد العوفيّ البغداديّ (ت: 276هـ). 130. مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْقُرَشِيُّ (من العاشرة). 131. يحيى محمّد بن سعيد بن غالب البغداديّ العطّار الضّرير (ت: 261هـ). 132. مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الرَّازِيُّ (من العاشرة). 133. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ بن موسى الختليُّ العُكْليّ البغداديّ الواسطيّ المُلَقَّب "سندولا" أو "سندولة" (من العاشرة). 134. أبو عبد الملك مُحَمَّد بن نجيح بن عبد الرّحمن ابن أَبِي مَعْشَر السِّنديّ الهاشميّ (ت: 247هـ) [37] . 135. أبو عبد اللّه مُحَمَّد بن حُمَيْد بن حَيّان التّميميّ الرَّازِيّ الحافظ (ت: 248هـ) [38] . 136. أبو جعفر أَحْمَد بن مَنِيْع بن عبد الرّحمن البَغَويّ الأصمّ الحافظ صاحب المسند (ت: 244هـ). 137. أَبو كُرَيْبٍ مُحَمَّد بن العَلَاءِ بن كُرَيْب الهمذانيّ الكوفيّ المحدّث القارئ الحافظ (ت: 243 أ 248هـ) [39] . 138. أبو السَّريّ هَنَّاد بن السَّرِيّ بن مُصعَب [40] التَّميميّ الدّارميّ الكوفيّ الحافظ العابد (ت: 243هـ). 139. أَبو هَمَّام الوليد بن شجاع بن الوليد السَّكُونِيّ الكِنديّ الكوفيّ الحافظ (ت: 243هـ). 140. أبو عبد اللّه مُحَمَّد بن عَبْدِ الأَعْلَى القيسيّ الصَّنْعَانِيّ البصريّ الحافظ (ت: 245هـ). 141. أبو بكر محمّد بن داود بن سليمان بن سَيّار بن بيان الفقيه البغداديّ (ت: 336هـ). 142. أبو موسى مُحَمَّد بن المُثَنَّى العَنزيّ البصريّ المعروف بـ"الزَّمِن" الحافظ (ت: 252هـ). 143. أبو هشام محمّد بن يزيد بن محمّد بن كثير الرِّفاعيّ الكوفيّ قاضي المدائن (ت: 248هـ). 144. أبو محمّد سُفْيَان بن وَكِيْع بن الجرّاح الرُّؤاسيّ الكوفيّ (ت: 247هـ). 145. أبو العبّاس الفَضْل بن الصَّبَّاحِ النَّهاونديّ البغداديّ السِّمسار (ت: 245هـ) 146. أبو سهل الْفَضْلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الهاشميّ العبّاسيّ البغداديّ (ت: 252هـ). 147. أبو سهل عَبْدَة بن عَبْدِ اللهِ الصَّفَّار الخُزاعيّ البصريّ (ت: 258هـ). 148. أبو السّائب سَلْم بن جُنَادَةَ بن سلم السُّوائيّ الكوفيّ (ت: 254هـ). 149. أبو موسى يُوْنُس بن عَبْدِ الأَعْلَى بن مَيْسَرَة الصَّدَفيّ المصريّ الفقيه المُقرئ الحافظ (ت: 264هـ) [41] . 150. أَبُو الْجَمَاهِرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَضْرَمِيُّ الْحِمْصِيُّ "السّرّاج" (من الحادية عشرة). 151. أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُوشَعَ الْبَغْدَادِيُّ(من العاشرة). 152. أَبُو مَسْعُودٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ البصريّ (ت: 248هـ). 153. أبو الوليد أحمد بن عبد الرّحمن بن بكّار القرشيّ العامريّ الدّمشقيّ البغداديّ (ت: 248هـ). 154. أَبُو يُونُس مُحَمَّد بن أَحْمد بن يزِيد الْمَكِّيّ القُرشيّ الجُمَحيّ (ت: 255هـ). 155. أبو عليّ (أبو عبد الله) الحسين بن اليزيد بن يحيى (السّبيعيّ) الأنصاريّ الطحّان الكوفيّ (ت: 244). 156. أبو يحيى أحمد بن ثابت بن عتّاب (غيّاث أو عراب) الرّازيّ المعروف بـ "فرخويه"(من الحادية عشرة) . 157. أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ (من العاشرة). 158. أبو محمّد إسماعيل بن إسرائيل السّلاّل (الدّلاّل) الرّمْليّ (من العاشرة). 159. أبو سليمان أَيُّوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ البغداديّ (ت: 260هـ). 160. أبو يوسف يَعْقُوْب بن إبراهيم بن كثير العَبْدَريّ الدَّوْرَقِيّ البغداديّ الحافظ صاحب المُسند (ت: 252هـ) [42] . 161. يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُبَيْرٍ المادرانيّ الْوَاسِطِيُّ (من العاشرة) . 162. يَعْقُوبُ بْنُ بُرْهَانَ "ماهان أو شاهان" (من العاشرة). 163. أبو يوسف يَعْقُوبُ بْنُ ماهان الهاشميّ البغداديّ (ت: 244هـ). 164. أَبُو الْحَسَنِ الخُراسانيّ عليّ بن حكيم بن زاهر السّعديّ السّمرقنديّ (ت: 235هـ) [43] . 165. أَبُو حَصينٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ اليَربوعيّ الكوفيّ (ت: 248هـ). 166. أبو بكر إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ بن عمر الْأُبُلِّيُّ الأوديّ البصريّ (ت: 256هـ). 167. إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَيْفٍ الْعِجْلِيُّ البصريّ (من العاشرة). 168. أبو بكر إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ بن موسى الصفّار البلخيّ (ت: 286هـ). 169. أبو الأشعث أَحْمَد بن المِقْدَامِ بن الأشعث العِجْلِيّ البصريّ الحافظ (ت: 253هـ). 170. أبو سهل بِشْر بن مُعَاذٍ العَقَدِيّ البصريّ الضّرير (ت: 245هـ). 171. أبو عبد اللّه سَوَّار بن عَبْدِ اللهِ بن سوّار التّميميّ العَنْبَرِيّ البصريّ القاضي (ت: 245هـ). 172. أبو حفص عَمْرو بن عَلِيٍّ بن بحر (بحير) بن كنين الفَلَاّس البصريّ الصّيرفيّ الحافظ (ت: 249هـ). 173. أبو عليّ مُجَاهِد بن مُوْسَى بن فرّوخ الخُوارزميّ المَخرميّ الحافظ (ت: 244هـ). 174. أبو عبد الله تَمِيْم بن المُنْتَصِر بن تميم العبّاسيّ الهاشميّ الواسطيّ (ت: 245هـ). 175. أبو عليّ الحَسَن بن عَرَفَةَ بن يزيد العَبديّ البغداديّ المؤدِّب (ت: 257هـ). 176. أبو عبد الله مهنَّأ بن يَحْيَى الشّاميّ ثمّ البغداديّ (من الحادية عشرة). 177. أبو الحسن عَلِيّ بن سَهْل بن قادم الحَرشيّ الرَّمْلِيّ (ت: 261هـ). 178. أبو عمران موسى بن سهل بن قادم الجونيّ الرّمليّ الصّغير (ت: 262هـ). 179. أبو هارون موسى بن سهل بن هارون الرّاسبيّ الرّازيّ (ت: 278هـ). 180. أبو هشام مؤمّل بن هشام اليشكريّ البصريّ (ت: 253هـ). 181. أبو إبراهيم نجيح بن إبراهيم بن محمّد الزّهريّ القرشيّ الكوفيّ الكرمانيّ "الرّمانيّ أو الزّمانيّ أو الجمانيّ" (من الحادية عشرة) . 182. أبو بشر هَارُونُ بْنُ حَاتِمٍ التّميميّ البزّاز الْمُقْرِئُ الكوفيّ (ت: 249هـ) . 183. أبو العبّاس جابر بن كردي بن جابر الواسطيّ البزّار (ت: 255هـ). 184. جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضَّبِّيّ (؟). 185. أبو القاسم هَارُوْن بن إِسْحَاقَ بن محمّد الهَمْدَانِيّ الحافظ (ت: 258هـ). 186. أبو عمر هلال بن العلاء بن هلال الباهليّ الرَّقِّي الحافظ (ت: 280هـ). 187. أبو الفضل العَبَّاس بن الوَلِيْدِ بن مِزْيدَ العُذْرِيّ البيروتيّ الشّاميّ المُقْرئ (ت: 270هـ) [44] . 188. الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْآمُلِيّ (من العاشرة). 189. أبو عثمان سَعِيْد بن عَمْرٍو بن سعيد بن أبي صفوان السَّكُوْنِيّ الحِمصيّ (من الحادية عشرة). 190. أَحْمَد ابْن أَخِي ابْنِ وَهْبٍ (ت: 264هـ). 191. أبو عبد الله مُحَمَّد بن مَعْمَر بن ربعيّ القَيْسِيّ البحرانيّ البصريّ (ت: 250هـ). 192. أبو إسحاق إِبْرَاهِيْم بن سَعِيْدٍ الجَوْهَرِيّ البغداديّ صاحب المسند الأكبر (ت: 253هـ). 193. أبو عَمرو نَصْر بن عَلِيٍّ بن نصر الجَهْضَمِيّ البصريّ الحافظ (ت: 250هـ). 194. أبو الحسن عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ البصريّ الصّغير ابن الحفيد (ت: 250هـ). 195. أبو عبد الله مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ بنِ بَزِيع البصريّ البغداديّ (ت: 247ه)ـ. 196. أبو بكر (أبو عبد الله – أبو سعيد) مُحَمَّد بن حاتم بنِ بَزِيع البصريّ البغداديّ (ت: 249هـ). 197. ابْنُ جَبَلَةَ (من الحادية عشرة) [45] . 198. أبو الفضل (أبو العبّاس) صَالِح بن مِسْمَار السُّلميّ الكُشْمِيهَنيّ المَرْوَزِيّ (ت: 246هـ). 199. أَبُو مَعْمَرٍ (أبو محمّد) صَالِحُ بْنُ حَرْبٍ بن خالد الهاشميّ مولاهم البغداديّ (من الحادية عشرة). 200. أبو عثمان سَعِيْد بن يَحْيَى بن سعيد بن أبان القُرشيّ الأُمَوِيّ البغداديّ (ت: 249هـ). 201. أبو سليمان نَصْر بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ النّاجيّ الأَوْدِيّ الكوفيّ الوَشّاء (ت: 248). 202. أبو الحسن عَبْد الحمِيدِ بن بيَان بن زكريّا السُّكَّرِيّ القنّاد (ت: 244هـ). 203. أبو جعفر أَحْمَد بن أبي سُرَيْج الرَّازِيّ النَّهْشَليّ المقرئ (ت: بعد 240هـ) [46] . 204. أبو عليّ الحَسَن بن الصَّبَّاحِ بن محمّد البَزَّار الواسطيّ البغداديّ (ت: 249هـ). 205. أبو عليّ الحَسَن بن محمّد بن الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرانيّ البغداديّ الإمام (ت: 260هـ) [47] . 206. أَبو عَمَّارٍ الحُسَيْنَ بن حُرَيْث بن الحسن الخُزاعيّ المروزيّ (ت: 244هـ). 207. أبو سعيد عبد اللّه بن سعيد بن حُصَين الكِنديّ الكوفيّ الأشجّ الحافظ (ت: 257هـ). 208. أبو بكر محمّد بن بشّار بن عثمان العَبْديّ البصريّ الحافظ المُلَقَّب ببُنْدار (ت: 252هـ) [48] . 209. عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى الأسديّ الكوفيّ (ت: 247هـ). 210. أبو القاسم (أبو محمّد) وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بن هلال الْأَسَدِيُّ الكوفيّ (ت: 244هـ). 211. أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ يَحْيَى بن سعيد الْقُرْقُسَانِيُّ الصّيّاد (ت: 258هـ). 212. أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب النَّسائيّ البغداديّ (ت: 298هـ). 213. أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ البَغْدَادِيُّ الأَصْبَهَانِيِّ الظَّاهِرِيُّ (ت: 270هـ) [49] . 214. أبو أيّوب سليمان بن عبد الجبّار بن زريق الخيّاط البغداديّ السّامرّائيّ (من الحادية عشرة). 215. أبو عليّ (أبو محمّد) الحسن بن قَزَعَة بن عبيد البصريّ الهاشميّ (ت: 250هـ). 216. أبو عبد اللّه الزّبير بن بكّار بن عبد الله الأَسَديّ المَدَني القاضي (ت: 256هـ) [50] . 217. أبو سعيد عبّاد بن يعقوب الرّواجِنيّ الكوفيّ (ت: 250هـ). 218. أبو محمّد عبيد اللّه بن إسماعيل القُرشيّ الهبّاريّ الكوفيّ (ت: 250هـ) . 219. أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم الفقيه المصريّ الشّافعيّ المالكيّ (ت: 268هـ) [51] . 220. أبو القاسم عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم العثمانيّ الأمويّ المصريّ المؤرّخ (ت: 257هـ) [52] . 221. محمّد بن مقاتل الرّازي الحنفي الفقيه قاضي الرّيّ (من الحادية عشرة ت: 248هـ) [53] . 222. أبو عليّ أحمد بن حمّاد بن سعيد الأنصاريّ الدُّولابيّ الرّازي ثمّ ‌المصريّ [54] . 223. أَبُو مُعَاوِيَةَ بِشْرُ بْنُ دِحْيَةَ القُرشيّ الزّياديّ البصريّ (من الحادية عشرة). 224. أبو عبد الله محمّد بن موسى بن نفيع الحَرَشيّ البصريّ (ت: 248هـ). 225. أحمد بن نعمة المصريّ (من الحادية عشرة) [55] . 226. أبو بكر أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الأمّيّ البغداديّ الرَّمْلِيُّ (من الحادية عشرة). 227. أحمد بن الوليد القرشيّ (من الحادية عشرة) [56] . 228. أبو جعفر أحمد بن يحيى بن زكريّا الأوديّ الصّوفيّ (ت: 264هـ). 229. أبو عبد اللّه أحمد بن يوسف بن خالد الثّعلبيّ البغداديّ الأحول (ت: 273هـ). 230. أبو بشر إسحاق بن شاهين بن الحارث الواسطيّ (ت: بعد 250هـ) [57] . 231. جعفر بن عبد الله المحمّديّ (من الحادية عشرة) [58] . 232. جعفر بن محمّد البَزْوَريّ الكوفيّ بيّاع البرود (من العاشرة) [59] . 233. جعفر بن هاشم (من الحادية عشرة) [60] . 234. جعفر ابن بنت إسحاق بن يوسف الأزرق (من التاسعة). 235. أبو الصّلت حسّان بن محمّد بن عبد الرّحمن الطّائيّ الحِمصيّ (؟). 236. أبو محمّد الحسن بن داود بن محمّد القُرشيّ التّيميّ المُنكَدريّ (ت: 247هـ) [61] . 237. أبو الخزرج الحسن بن الزَّبْرقان التّيميّ النّخعيّ الكوفيّ (من العاشرة). 238. أبو عليّ الحسن بن شبيب بن راشد الأعسر المؤدّب البغداديّ (ت: 234هـ) [62] . 239. الحسن بن عبد الرّحيم (من الحادية عشرة) [63] . 240. أبو يعقوب الحسن بن واضح الهاشميّ البصريّ (ت: 251هـ). 241. الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن أبي كبشة الأزديّ اليحمديّ الطحّان (ت: نحو 250هـ). 242. أبو عبد الله زُرَيْقُ بْنُ إِسْحَاقَ ابن السّخت البصريّ (من العاشرة). 243. أبو عليّ الحسن بن زُرَيْق الطُّهَوِيّ الخيّاط الكوفيّ (من العاشرة). 244. أبو عليّ الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ بن بشير السّدوسيّ الطَّحَّانُ البصريّ الحافظ (من الحادثة عشرة). 245. الْحَسَنُ بْنُ نَاصِحٍ البصريّ (من العاشرة). 246. أبو موسى عيسى بن مهران ‌ المُسْتَعْطفالبغداديّالرّافضيّ [64] . 247. أبو عليّ زكريّا بن يحيى بن أبان المصريّ (ت: 260هـ). 248. أبو عليّ زكريّا بن يحيى بن أيّوب الضّرير المدائنيّ (من العاشرة). 249. أبو زائدة زكريّا بن يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الوادعي الكوفيّ (من الحادية عشرة). 250. أبو خالد (أبو خداش) يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ خِدَاشٍ الْوَاسِطِيُّ (من العاشرة) = زَيْدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ الْوَاسِطِيُّ (من العاشرة). 251. أبو عمير سعد بن عبد الله بن عبد الحكم الأُمويّ المصريّ (ت: 268هـ). 252. سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم المصريّ المالكيّ (من علماء القرن الثالث الهجريّ) [65] . 253. سعيد بن الرّبيع الرّازيّ (من التّاسعة أو العاشرة). 254. أبو عثمان سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ الحِمصيّ (من الحادية عشرة) . 255. أبو عثمان سَعِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ الخزّاز (القطّان) الرَّازِيُّ (من الحادية عشرة). 256. أبو مالك سَلام بن سالم الطّويل الخزاعيّ الضّرير (من العاشرة). 257. سُلَيْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الْخَرّازُ الْوَاسِطِيُّ (من العاشرة). 258. سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بن أبي نصر الْقُومَسِيُّ البغداديّ(من الحادية عشرة). 259. أبو داود سُليمان بْن عَبْد الرَّحْمَن بن حَمّاد الطَّلْحيّ الكوفيّ اللُّؤْلُؤيّ التَّمّار صاحب خلّاد المُقْرئ (ت: 252هـ) [66] . 260. سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ (من الحادية عشرة). 261. أبو أيّوب (أبو عبد الرّحمن) سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عمرو الْغَيْلَانِيُّ المازنيّ البصريّ (ت: 246هـ). 262. أبو أيّوب سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ بن الأقطع القُرشيّ الرَّقِّيُّ (ت: 249هـ). 263. أبو أيّوب سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سليمان الرُّعَيْنِيُّ الحِمصيّ (من الحادية عشرة). 264. سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ (من التّاسعة). 265. صَالِحُ بْنُ سمّال(من الحادية عشرة). 266. أبو سهل طَلِيقُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن السّكن بن مروان الْوَاسِطِيُّ البزّاز (من كبار الحادية عشرة). 267. أبو الفضل عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ العَنبريّ البصريّ الحافظ (ت: 246هـ). 268. أبو محمّد عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ البغداديّ البزّار (ت: 258هـ). 269. عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَحْيَى الرَّمْلِيُّ (من العاشرة). 270. أبو عَمرو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بن المأمون الطُّفَاوِيُّ البصريّ الورّاق (ت: بعد 240هـ). 271. أبو عليّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ الحمصيّ البغداديّ (من الحادية عشرة). 272. أبو محمّد عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ العبديّ النَّيْسَابُورِيُّ (ت: 260هـ). 273. أبو محمّد عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ الْجُرْجَانِيُّ (من الحادية عشرة). 274. أبو يحيى عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطّان الدّيرعاقوليّ البغداديّ (ت: 278هـ). 275. عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ الدهّان (من العاشرة). 276. أبو محمّد عبيد اللَّهِ بْنُ آدَمَ بن أبي إياس العسقلانيّ (ت: 258هـ). 277. أبو عبد الرّحمن عَبْدُ اللَّهِ بن الحكم بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ الكوفيّ الدّهقان (ت: 255). 278. أبو عليّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ الهاشميّ الْعَطَّارُ البصريّ (ت: 250). 279. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ (من العاشرة أو الحادية عشرة). 280. أبو سليمان عبد الله بن محمّد بن يحيى بن داهر الرّازيّ الأحمريّ الرّافضيّ (ت: ؟ ) . 281. أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن يزيد الحنفيّ المروزيّ البغداديّ (ت: 275هــ). 282. أبو مسعود محمّد بن عبد الله بن عبيد بن عَقيل الهلاليّ البصريّ (من الحادية عشرة). 283. أبو محمّد عبد الملك بن محمّد بن عبد الله أبو قلابة الرّقاشيّ البصريّ الضّرير الحافظ (ت: 276هـ). 284. أبو عبيدة عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ العنبريّ البصريّ (ت: 252هـ). 285. أبو الفضل عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بن إبراهيم الزّهريّ البغداديّ قاضي أصبهان (ت: 260هـ). 286. أبو الحسن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن هارون الْفِرْيَابِيُّ المقدسيّ (من العاشرة). 287. أبو عليّ الْحسن بن [أبي] يحيى بن السّكن البصريّ الأصمّ الْمَقْدِسِيّ (من الحادية عشرة) . 288. سعيد بن نمير (من العاشرة). 289. سُلَيْمَان بن مُجَالِد الضَّبِّيّ (من الحادية عشرة). 290. عبد الرّحمن (كذا!، غير منسوب ولا مكنيّ) [67] . 291. أَبُو عَمِيرَةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُأَحْمَدَ بْنُ سُوَيْدٍ البلويّ الرَّمْلِيُّالمؤذِّن [68] (من العاشرة). 292. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَضَّاحٍ بن سعيد الأوديّ الكوفيّ اللّؤلؤيّ (من التّاسعة). 293. أبو حفص عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْجُبَيْرِيُّ (الحيريّ) الثّقفيّ البصريّ (ت: في حدود 250هـ). 294. أبو العبّاس مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ العطّار (268هـ). 295. أبو جعفر محمّد بن عمّار بن الحارث الوازعيّ الرّازي (من الحادية عشرة) . 296. محمّد بن عمارة بن صبيح الأَسَديّ الكوفيّ (من الحادية عشرة). 297. مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيُّ (ت: 248هـ). 298. أبو جعفر محمّد بن هارون بن إبراهيم الرّبعيّ الحربيّ البغداديّ البزّاز الملقّب بـ"أبو نشيط" (ت: 258هـ). 299. أبو جعفر محمّد بن هارون القطّان الرّازيّ (ت: ؟ ). 300. أبو عبد الله (أبو محمّد) مُحَمَّد بن الْهَيْثَم بن حمّاد الثّقفيّ البغداديّ القنطريّ المعروف بـ"أبو الأحوص" (ت: 299هـ). 301. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْآدَمَيُّ الخرّاز البغداديّ المقابريّ العابد المعروف بـ"الأحمر" (ت: 245هـ). 302. أبو بكر مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بن عبد الله السُّلَميّ الأشليّ المستملي الطَّرَسُوسِيّ (من الحادية عشرة) [69] . 303. أبو النّضر مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ. لعلّه = أبو ‌النّضر ‌مطر ‌بن ‌محمّد بن جناح بن الضّحّاك السكّريّ الواسطيّ البصريّ (من الحادية عشرة). 304. أبو سهل مُعَاذُ بْنُ شُعْبَةَ بن ميمون بن صقر الصّقريّ الْبَصْرِيُّ (من العاشرة). 305. أبو الفتح نَصْرُ بْنُ مَرْزُوقٍ الْمَصْرِيُّ (ت: 261هـ). 306. أبو بكر يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزّبرقان العبّاسيّ البغداديّ البزّاز (ت: 275هـ). 307. أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ الْخَلِيلِ بن بشير الأزديّ الْيَحْمِدِيُّ البصريّ (ت: 250هـ). 308. أبو العبّاس أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيُّ الحِمصيّ (من العاشرة). 309. أبو جعفر أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ بن أسد الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ الحافظ (ت: 256هـ). 310. أبو الدّلعليّ أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْلٍ بن عليّ الْوَاسِطِيُّ الورّاق( من الحادية عشرة) . 311. أبو عبد الله أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ الْأَوْدِيُّ الكوفيّ (ت: 261هـ). 312. أبو عَمرو حَاتِمُ بْنُ بَكْرٍ بن غيلان الضَّبِّيُّ البصريّ الصّيرفيّ (من الحادية عشرة). 313. أبو محمّد عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ الهمدانيّ الْقُرَشِيُّ الكوفيّ (ت: 250هـ). 314. أبو محمّد عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن القاسم الْوَرَّاقُ البغداديّ (ت: 255هـ). 315. أبو صالح عِصَامُ بْنُ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْعَسْقَلَانِيُّ الشّامِيّ (من الحادية عشرة ت: 259هـ). 316. أبو بشر عُقْبَةُ بْنُ سِنَانٍ بن عقبة بن سِنان الهَدَّاديّ الدّارع الفزاريّ الْبَصْرِيُّ القزّاز (من التّاسعة أو العاشرة). 317. عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْعِجْلِيُّ (من الحادية عشرة). 318. أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبدويه البغداديّ الخزّاز (ت: 277هـ). 319. أبو الحسن عليّ بن الحسن (الحسين) بن سالم الأزديّ (الأزرقيّ) اللّانيّ الكوفيّ (من صغار العاشرة). 320. ابن إِشْكاب أبو الحسن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن إبراهيم بْنِ الْحُرِّ العامريّ البغداديّ (من العاشرة ت: 261هـ) - أبو الفضل (أبو إسماعيل) عَمَّارُ بْنُ خَالِدٍ بن يزيد الْوَاسِطِيُّ التمّار (ت: 260هـ). 321. عمر بن إسماعيل بن مجالد الهمذانيّ الكوفيّ ثمّ البغداديّ (من صغار العاشرة). 322. أبو حفص عُمَرُ (عمرو) بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بن حكيم الطَّائِيُّ الحِمصيّ (من الثانية عشرة). 323. أبو عمرو عُمْرَانُ بْنُ مُوسَى بن حبّان البصريّ اللّيثيّ القزّاز الصَّفَّارُ (ت: بعد 240هـ) [70] . 324. عَمْرُو بْنُ بَيْذَقٍ "بندق" (من التّاسعة، فما دونها) [71] . 325. عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ الْقُرَشِيُّ (من العاشرة). 326. عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآمُلِيُّ (من العاشرة) [72] . 327. أبو عثمان عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الرّاسبيّ البصريّ (ت: بعد 240هـ). 328. أبو عثمان عَمْرو بن مُحَمَّد بن يحيى القاضي العثمانيّ المكّيّ (من الحادية عشرة). 329. عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُفْرَةَ الْبَجَلِيُّ (من العاشرة). 330. عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى التّميميّ النّهشليّ الكوفيّ الرَّمْلِيُّ (ت: 251هـ). 331. أبو القاسم هِشَامُ بْنُ يُونُسَ بن وابل (وائل) التّميميّ النَّهْشَلِيُّ الكوفيّ (ت: 252هـ). 332. يعقوب بن مكرم = [73] أبو الفضل جَعْفَرُ بْنُ مُكْرَمٍ ببن يعقوب الدّوريّ التّاجر الرّازيّ البغداديّ (ت: 264هـ). 333. أبو عمر يُوسُفُ بْنُ سَلْمَانَ الباهليّ (المازنيّ) الْبَصْرِيُّ (من العاشرة). 334. أبو يعقوب يُوسُفُ بْنُ مُوسَى بن راشد الْقَطَّانُ الكوفيّ الرّازيّ البغداديّ (ت: 253هـ). 335. أَبُو هُرَيْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ فِرَاسٍ الضُّبَعِيُّ الصّيرفيّ البصريّ (ت: 245هـ). 336. أبو الحسن عليّ بن سراج المصريّ الأديب (ت: 308هـ). 337. عِيسَى بْنُ عَمْرٍو (من العاشرة أو الحادية عشرة). 338. أَبُو يَحْيَى عِيسَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ عيسى بن الطَّبَّاعِ البغداديّ (ت: 244هـ). 339. أبو الفضل فَضَالَةُ بْنُ الْفَضْلِ بن فضالة التّميميّ الطّهويّ الْكُوفِيُّ العطّار (ت: 250هـ). 340. قتادة (الصّغير) بن سعيد بن قتادة بن دعامة السّدوسيّ البصريّ. 341. الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلِيُّ الأُبُلِّيّ الطّبريّ (من الحادية عشرة). 342. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن صدران الأزديّ السَّلِيمِيُّ البصريّ (ت: 247هـ). 343. أبو بكر (أبو الحسن – أبو سنان) مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ بن يزيد الْقَزَّازُ البصريّ (ت: 271هـ). 344. أَبُو شُرَحْبِيلَ عِيسَى بْنُ خَالِدِ بْنِ نافع البَهرانيّ الْحِمْصِيّ (من الحادية عشرة) [74] . 345. أبو محمّد عَبْدَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن عيسى الْمَرْوَزِيُّ (ت: 293هـ). 346. [أبو بكر] أحمد بن أبي خيثمة [زهير بن حرب] ابن الحافظ ‌النَّسائيّ البغدادىّ الحافظ الحجّة الإمام (ت: 279هـ) [75] . 347. أبو يعقوب إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن محمّد الصَّوَّافُ الباهليّ البصريّ (ت: 253هـ). 348. أبو عبد الله حُبَيش بن مبشّر بن أحمد الثّقفيّ الفقيه الطّوسيّ (ت: 258). 349. أبو محمّد حجّاج ‌بن ‌يوسف بن حجّاج الثّقفيّ البغداديّ المعروف بابن ‌الشّاعر (ت: 259هـ). 350. أبو عبد الله (أبو جعفر) مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ بن البَخْتَريّ الْأَسَدِيُّ (العِجْليّ أو الباهليّ) الواسطيّ (من الحادية عشرة) . 351. أبو يحيى مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن أبي زهير الْمَعْرُوف بصاعِقَة البغداديّ البزّاز (ت: 255هـ). 352. أَبُو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيُّ ( من العاشرة). 353. أبو جعفر ‌محمّد ‌بن ‌عبد ‌الله ‌بن ‌سليمان الحَضرميّ مُطَيَّن الكوفيّ (ت: 277هـ). 354. ‌محمّد ‌بن ‌عبد ‌الله الطّوسيّ (من الحادية عشرة). 355. أبو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بن أعين العثمانيّ الأمويّ الْمِصْرِيُّ (ت: 268هـ). 356. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن المبارك الْمُخَرِّمِيُّ البغداديّ قاضي حُلْوان (ت: 254هـ). 357. مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَخْلَدٍ الْوَاسِطِيُّ (من التّاسعة). 358. أبو بكر مُحَمَّد بن عبد الْملك بن زنجوية الغزّال البغداديّ [76] (ت: 258). 359. أبو جعفر محمّد بن عبيد الله بن المنادي البغداديّ (ت: 272هـ). 360. مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ بن ميمون أبو عُبيد بن أبي عبّاد الْأَدَمِيُّ القُرشيّ التَّيميّ (من العاشرة) . 361. أبو عبد اللّه مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ بن عبد الملك الأَسَديّ الْهمذانيّ (ت: 244هـ). 362. أبو جعفر مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ بن محمّد الْمُحاربيُّ الكوفيّ النّحّاس (ت: 245هـ). 363. مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَخْلَدٍ التّمّار‌ الْوَاسِطِيُّ ( من العاشرة). 364. محمّد بن عبد الله بن صفوان الثّقفيّ البصريّ (ت: 252هـ) [77] . 365. مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَان الرّازيّ ( من الحادية عشرة). 366. أبو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ العبديّ المروزيّ (ت: 250هـ). 367. أبو عبد الله محمّد بن عمر بن هيّاج الصّائديّ الهمدانيّ الكوفيّ (ت: 255هـ). 368. أبو عبد الله محمّد بن عمر بن عليّ المقدّميّ البصريّ (ت: قريب من 250هـ). 369. أبو عثمان أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدميّ الثّقفيّ البصريّ البغداديّ (ت: 264هـ). 370. أبو عثمان بن عمر (من الحادية عشرة) [78] . 371. ابن المبارك (من الحادية عشرة) = أبو عَمرو أحمد بن المبارك النّيسابوريّ المستمليّ الحافظ الزّاهد (ت: 284هـ) [79] . 372. أبو العبّاس أحمد بنُ أَبِي عِمْرَانَ الخيّاط البغداديّ (ت: 282هـ). 373. ابْنُ أَبِي مَسَرَّةَ أبو يحيى عبد الله بن أحمد بن زكريّا الْمَكِّيُّ (ت: 279هـ). 374. أبو الحسن حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بن الرّبيع اللّخميّ الْخَرَّازُ الكوفيّ ثمّ البغداديّ (ت: 258هـ). 375. أبو عليّ (أبو العبّاس) حُميد بن مَسعدة بن المبارك السَّامي الباهليّ البصريّ (ت: 244هـ). 376. أبو بكر خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ الصَّفَّارُ المروزيّ البغداديّ (ت: 249هـ). 377. أبو ‌سعيد الْحَسَنُ بْنُ أحمد ‌الإصطخريّ الشّافعيّ قاضي قُم (ت: 328هـ) [80] . 378. أبو عبد الله محمّد بن عَمرو بن تمام أبو الكَرَوَّس الكلبيّ المصريّ (ت: 261هـ). 379. أبو بكر محمّد بن عمرو بن العبّاس الباهليّ البصريّ (ت: 249هـ). 380. أبو الحسين مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بن زياد الدَّامِغَانِيُّ ثمّ الرّازيّ (من العاشرة). 381. أبو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ الصُّورِيُّ (ت: 260هـ). 382. محمّد بن محمّد العطّار (ت: 268هـ) [81] . 383. أبو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ بْنِ قَيْسٍ العبديّ الواسطيّ (تك 257هـ). 384. مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بن عبد الكريم الْأَزْدِيُّ البصريّ البغداديّ (ت: 252هـ). 385. أبو عبد الله محمّد بن يحيى بن أبي حزم القُطَعيّ البصريّ (ت: 253هـ). 386. أبو محمّد نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ البَذْشيّ (ت: 242هـ). 387. هارون بن إدريس الأصمّ الكوفيّ ( من العاشرة). 388. يحيى بن إبراهيم بن محمّد بن أبي عُبيدة المسعوديّ الكوفيّ (من الحادية عشرة). 389. أبو زكريّا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ الحارثيّ البصريّ (ت: 248هـ). 390. يحيى بن داود بن ميمون البزّار الواسطيّ (ت: 244هـ). 391. أبو زكريّا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ بن زياد القُرشيّ الهاشميّ (البَكراويّ) البصريّ (من العاشرة). 392. أبو أحمد يُوسُفُ بْنُ هَارُونَ بن زياد القَطيعيّ البغداديّ (ت: 270هـ). 393. يونس بن سليمان البصريّ = يوسف بن سليمان البصريّ [82] . 394. إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ "وَلَيْسَ بِالْفَرَّاءِ" ( من الحادية عشرة). 395. أبو إسحاق إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بن إسحاق السّعديّ الْجُوْزَجَانِيُّ الدّمشقيّ الحافظ (من الحادية عشرة ت: 256 أو 259هـ). 396. أبو يعقوب إسحاق بن زياد الباهليّ النَّصريّ العطّار الكوفيّ (من الحادية عشرة). 397. أبو يعقوب إسحاق بن زيد بن عبد الكبير الخطّابيّ الحرّانيّ (من الحادية عشرة). 398. أبو مسلم الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحرّانيّ البغداديّ (ت: 250 أو 252هـ). 399. أبو عليّ الحسن بن الجنيد بن أبي جعفر البلخيّ البغداديّ البزّاز (ت: 247هـ). 400. أبو عليّ الْحَسَنُ بْنُ خَلَفٍ بن زياد الْوَاسِطِيُّ (ت: 246هـ). 401. أبو العبّاس أحمد بن يحيى ثعلب الكوفيّ الشّيبانيّ (ت: 291هـ). 402. أبو الحسن الْفَضْلُ بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ الطَّرَازِيُّ (من العاشرة). 403. الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْوَاسِطِيُّ (من العاشرة). 404. أبو العّباس الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بن حيّان البزّاز البغداديّ (ت: 242هـ). 405. أبو العبّاس الفضل بن سهل بن إبراهيم البغداديّ الخراسانيّ الأعرج الحافظ (ت: 255هـ). 406. أبو بكر محمّد بن أحمد بن نافع العبديّ القيسيّ البصريّ (ت: بعد 240هـ). 407. أبو ثابت مُشْرّفُ (بشر) بْنُ أَبَانَ الْخَطَّابِ الْبَغْدَادِيُّ (من العاشرة). 408. أبو بكر (أبو محمّد) مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْحَبَئِيُّ (الجبّائيّ) الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَوَّاسِ الكوفيّ الضّرير (ت: بعد 259هـ). 409. أَبُو سُفْيَانَ يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو بن يزيد بن الْبَراء الْغَنَوِيُّ (من العاشرة). 410. أبو إسحاق إبراهيم بن المستمر الهذليّ النّاجي العُروقيّ البصريّ (من الحادية عشرة). 411. أبو عبد الله أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن كثير العبديّ الدَّوْرَقِيُّ البغداديّ (ت: 246هــ). 412. أبو إسحاق أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازيّ البزّاز (ت: 250هـ). 413. الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ (من الحادية عشرة). 414. دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَزِيدَ الْمُكْتِبُ الْبَصْرِيُّ (من الحادية عشرة). ... وَأُمَمٌ وخَلائق سِوَاهُم كثيرٌ بالحَرَمين والعِراق والشّام ومصر. [1] بعض مصادر التّرجمة: تاريخ دمشق (52/ 191)، سير أعلام النّبلاء (14/ 268 – 269)، تهذيب الأسماء واللّغات (1/ 78 - 79)، طبقات الفقهاء الشّافعيّين لابن كثير (1/ 223)، طبقات الفقهاء الشّافعيّة (ص107)، الوافي بالوفيات (2/ 212)، المقفّى للمقريزيّ (5/ 481)، الدُّرّ الثّمين (ص92)، مقدّمة تفسير الطّبري للتّركي (ص14)، مقدّمة تفسير الطّبري للتّركي (ص13، 20 - 36)، مقدّمة تاريخ الطّبري/أبو الفضل إبراهيم (ص7)، موارد تأريخ الطّبريّ (ص175 تاريخ الفرس والرّوم) – (ص23، 45 – 46، 50 -51 العرب قبل الإسلام) – (ص427 – 428 الخلافة). [2] ذكر بعض المترجمين أنّ الطّبريّ رحل إلى الحجاز، ولم أقف على رحلةٍ له إلى بلاد الحَرَمين!. قال أكرم بن محمّد زيادة في معجم شيوخ الطّبريّ (ص56): (ولم أقف على ذكرٍ لرحلةٍ له إلى الحجاز، وإن كان عددٌ من شيوخه من أهل المدينة ومكّة، وكذلك الموصِل). وقال عليّ بن عبد العزيز الشِّبل في "إمام المفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين" (ص11): (هذا... ولم أر في رحلاته سفرَه إلى الحَرَمين الشَريفين لطلب العلم، ولكنَه سافر للحجّ، ثمّ رجع ولم يمكث فيهما للتّحصيل. كما ذكره في شرح حديث الهِمْيان). [3] الثّقات ممّن لم يقع في الكتب السِّتَّة (8/ 216). [4] سير أعلام النّبلاء (14/ 269). [5] معجم شيوخ الطّبريّ (ص42، 47). [6] كتب عنه الحديث. [7] معجم شيوخ الطبري (ص130): (واسم "أبي إسرائيل": إبراهيم بن كامَجْرا، بفتح الميم، وسكون الجيم). [8] هو أبو ‌شَيْبة ابنُ أبي بكر ابن أبى ‌شَيْبة. [9] قال ابن حجر في تقريب التّهذيب (164 رقم 1291): (من [الطّبقة] الحادية عشرة). وهم: الطّبقة الوُسطى من كبار الآخِذين عن أتباع التّابعين. [10] تلميذ وصاحب الشّافعيّ، وناقل علمه. أخذ عنه الطّبريّ بمصر فقه الشّافعيّ. [11] مقدّمة تفسير الطّبري للتّركي (ص28). [12] صاحب أحمد بن حنبل وخاصّته. [13] وهم كبار الآخِذين عن أتباع التّابعين ممّن لم يلقَ التّابعين. [14] وهم: الطّبقة الوُسطى من كبار الآخِذين عن أتباع التّابعين ممّن لم يلقَ التّابعين. تقريب التّهذيب (ص82). [15] لقي الطّبريُّ المُزَنيَّ بالقاهرة، فتكلّما في أشياء منها الكلام في الإجماع، وأخذ عنه الفقهَ ومرويّاته - معجم الأدباء (6/ 2448)، مقدّمة التّبصير في معالم الدّين للشِّبل ص18 -. [16] في معجم شيوخ الطّبريّ (ص94): (وأغلب ظنّي أنّه: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصريّ البزّار ...). [17] المحدّث الحافظ صاحب المسند. [18] عنه ينظر معجم شيوخ الطّبريّ (ص407 – 418). [19] وهي الطّبقة الوُسطى من كبار الآخِذين عن أتباع التّابعين ممّن لم يلقَ التّابعين - تقريب التّهذيب (ص82) -. [20] وهم صغار الآخِذين عن أتباع التّابعين كالتّرمذيّ - تقريب التّهذيب (ص82) -. [21] وهي الطّبقة الوُسطى من كبار الآخِذين عن أتباع التّابعين ممّن لم يلقَ التّابعين - تقريب التّهذيب (ص82) -. [22] إمام المسجد الجامع فيها. [23] وهم كبار الآخِذين عن تَبع الأتباع ممّن لم يلقَ التّابعين كأحمد بن حنبل - تقريب التّهذيب (ص82) -. [24] وهم كبار الآخِذين عن تَبع الأتباع ممّن لم يلقَ التّابعين كأحمد بن حنبل - تقريب التّهذيب (ص82) -. [25] قال ابنُ ماكولا في الإكمال (7/ 284): (صاحب مِقياس [الماء بـ]مصر ... وكان المقياس في يد ولده من بعده إلى أن خرجت من مصر، وأظنّه الآن باقياً فيهم). [26] في معجم شيوخ الطّبريّ (ص714): (399- أبو سلمة - غير مسمّى، ولا منسوب، من العاشرة، لم أعرفه، ولم أجد له ترجمة...). [27] إمام مسجد حِمْص [28] عنه ينظر: معجم شيوخ الطّبريّ (ص784، 799). [29] - هو ابن أخي هنّاد بن السّريّ أبو السّريّ الحنظليّ الكوفي (ت: 244هـ). [30] وقد استشكل طه محمد نجار رمضان سماع الإمام الطبري من الإمام البخاري؟! (ص20 – 22). وقد رفع اللّبس عن ذلك وبيّن حقيقة كون البخاري الإمام من شيوخ الطبري أكرم بن محمد زيادة الفالوجي الأثري في معجم شيوخ الطبري (ص444 - 445). [31] معجم شيوخ الطّبريّ (ص62 - 63). [32] معجم شيوخ الطّبريّ (ص126). [33] - معجم شيوخ الطّبريّ (ص145). [34] - معجم شيوخ الطّبريّ (ص202). [35] - معجم شيوخ الطّبريّ (ص203). [36] - أرّخ ابن حبّان وفاته بعد سنة 200هـ [؟!] - تهذيب التّهذيب (2/ 302) -. [37] قال الذّهبيّ (14/ 268): (حَدَّثَهُ بِالمَغَازِي عَنْ أَبِيْهِ). [38] وقد اختصّ به، (ويقال إنّه كتب عن ابن حُمَيد فوق مائة ألف حديث ... قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التّفسير) - معجم الأدباء (6/ 2447) -. بلغت مسموعاته عن محمد بن حميد الرازي نحو مائة ألف حديث إن لم تزد، ونحوها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني [39] كان عالِم عصره، ونسيج وحده، من كبار أصحاب الحديث، على جفاءٍ وخُشونةٍ في خُلُقه، [فيه شراسة وعنف وضيق عطن مع علم غزير] فقد كان شرِسَ الأخلاق، أخذ عنه الطّبريّ الحديثَ، وقد بلغ ما رواه عنه نحو مئة ألف حديث، وسمع منه الحروف. قال ياقوت: (قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث، فاطّلع من باب خوخةٍ له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدّخول ويضجّون، فقال: أيّكم يحفظ ما كتب عنّي؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثمّ نظروا إليّ وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه؟، قال قلت: نعم، فقالوا: هذا فسَلْه، فقلت: حدّثتنا في كذا بكذا وفي يوم كذا بكذا. قال: وأخذ أبو كريب في مسألة إلى أن عَظُم في نفسه فقال له: ادخل إليّ، فدخل إليه وعرف قدرَه على حَداثتِه، ومَكَّنَه من حديثه. وكان النّاس يسمعون به فيقال إنّه سمع من أبي كُرَيب أكثر من مائة ألف حديث) - تاريخ الإسلام 23/ 280)، طبقات الفقهاء الشّافعيّين لابن كثير (1/ 223)، معجم الأدباء (6/ 2447)، الطّبريّ للحُوفيّ (ص35) –. [40] كتب عنه الحديث. [41] شيخ الإقراء بمصر، أخذ عنه قراءة حمزة وورش عن نافع، وسمع منه الحروف، كما أخذ عنه مذهب مالك والفقه الشّافعيّ، ومرويّاته في الحديث والأخبار - تاريخ الإسلام (23/ 280)، طبقات القرّاء (1/ 328)، معرفة القرّاء الكبار (2/ 527)، مقدّمة التّبصير في معالم الدّين للشِّبليّ (ص18)، الإمام الطّبريّ للزّحيليّ (ص255) -. [42] كتب عنه ابن جرير الطّبريّ مسنده. [43] معجم شيوخ الطّبريّ (ص702). [44] روى عنه الطّبريّ الحروفَ ببيروت برواية الشّاميّين. [45] في معجم شيوخ الطّبريّ (ص758): (غير مسمّى، ولا مكني، ولا منسوب ...). [46] في الفهرست (ص291 رضا تجدّد) - (ص326 دار المعرفة): (وأبي جريج)، وفي الدّر الثّمين (ص92): (ابن جريج). وفي مقدّمة تفسير الطّبري للتّركي (ص22): (ويقال: أحمد بن الصّباح، ويقال: أحمد بن أبي سُريج). [47] شيخ الطّبريّ في الفقه ببغداد، أخذ عنه مذهب الشّافعيّ القديم. قال الزّحيليّ (ص41): (كتب عنه كتاباً في الفقه، ودرّسه في بغداد على جماعة منهم أبو سعيد الإصطخريّ ت: 328هـ، وغيره). [48] أخذ عنه الحديث. [49 مؤسّس المذهب الظّاهريّ، كان شافعيّا ثمّ استقلّ عنه، أخذ الطّبريّ عنه مباشرةً الفقه على مذهبه. [50] صاحب كتاب "نسب قريش". [51] أخذ عنه فقه مالك والتّاريخ، وهو صاحب كتاب: سيرة عمر بن عبد العزيز وأخباره. [52] المؤرِّخ صاحب كتاب (فتوح مصر والمغرب). [53] درس عليه فقه العراق، كان إمام أصحاب الرّأي بالرّيّ. [54] قال ياقوت 6/ 2446: (كتب عنه كتاب "المبتدأ ‌والمغازي» ‌عن ‌سلمة بن المفضّل عن محمّد بن إسحاق، وعليه بنى تاريخَه). [55] معجم شيوخ الطّبريّ (ص109). [56] معجم شيوخ الطّبريّ (ص114). [57] معجم شيوخ الطّبريّ (ص127 - 128). [58] معجم شيوخ الطّبريّ (ص164). [59] معجم شيوخ الطّبريّ (ص164 - 166). [60] معجم شيوخ الطّبريّ (ص168 - 170). [61] معجم شيوخ الطّبريّ (ص186). [62] معجم شيوخ الطّبريّ (ص189 - 190). [63] معجم شيوخ الطّبريّ (ص193). [64] قال عنه الخطيب البغداديّ: (كان عيسى بن مِهْران ‌المُستَعطف من شياطين الرّافضة ومَرَدتهم، ووقع إليّ كتابٌ من تصنيفه في الطّعن على الصّحابة وتَضليلهم، وإكفارهم، وتَفسيقهم. فواللّه لقد قَفَّ شعري عند نظري فيه، وعَظُم تَعجُّبي ممّا أودع ذلك الكتاب من الأحاديث الموضوعة، والأقاصيص المُختلقَة، والأنباء المُفتعَلَة، بالأسانيد المظلمة عن سقّاط الكوفيّين، من المعروفين بالكذب، ومن المجهولين، ودَلَّني ذلك على عَمى بصيرة واضعة، وخُبث سَريرة جامعِه، وخَيبة سَعْي طالبِه، واحتقاب وِزْر كاتبه: ]فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ[ [البقرة 79]، ]وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[ [الشّعراء 227]) - تاريخ بغداد (12/ 495 رقم 5819) -. [65] الإمام الطّبريّ للزّحيليّ (ص151). [66] أخذ عليه ابن جرير الطّبريّ القراءات. [67] معجم شيوخ الطّبريّ (ص310 رقم 165). [68] مُؤَذِّن مَسْجِدِ الرَّمْلَة. [69] الوضّاع سرّاق الحديث. [70] أخذ عنه الحديث، لكن ورد اسمه في معجم الأدباء (6/ 2447): (عماد بن موسى القزّاز). [71] قال في معجم شيوخ الطّبريّ (ص379): (ولعلّ "عَمرو بن بيذق"، وهذا هو نفسُه "‌عَمرو ‌بن ‌عبد ‌الحميد ‌الآمُلّيّ"، صاحب التّرجمة رقم 226 الآتية بعد حين، والله أعلم). وقال في (ص383): (والظّاهر أنّ "عمرو بن بيذق"، و "عمرو بن بندق"، اسمان "لشيخ واحد"، تصحّف أحدُ الاسمين عن الآخَر، ولا أظنّهما إلاّ: "عمرو بن عبد الحميد" صاحب التّرجمة، لتطابق الأسانيد، وعدم معرفة الشّيخ، والله أعلم). [72] قال في معجم شيوخ الطّبريّ (ص379): (ولعلّ "عَمرو بن بيذق"، وهذا هو نفسُه "‌عَمرو ‌بن ‌عبد ‌الحميد ‌الآمُلّيّ"، صاحب التّرجمة رقم 226 الآتية بعد حين، والله أعلم). وقال في (ص383): (والظّاهر أنّ "عمرو بن بيذق"، و "عمرو بن بندق"، اسمان "لشيخ واحد"، تصحّف أحدُ الاسمين عن الآخَر، ولا أظنّهما إلاّ: "عمرو بن عبد الحميد" صاحب التّرجمة، لتطابق الأسانيد، وعدم معرفة الشّيخ، والله أعلم). [73] رجّح في معجم شيوخ الطّبريّ (ص167) أن يكون (يعقوب بن مكرم) هو (أبو الفضل جَعْفَرُ بْنُ مُكْرَمٍ بن يعقوب الدّوريّ التّاجر الرّازيّ البغداديّ ت: 264هـ). [74] ابن أخي أبي اليمان الحكم بن نافع. [75] قال في معجم شيوخ الطّبريّ (ص778 – 779 المبهمات): (أغلبُ ظنّي أنّه: ‌أحمد ‌بن ‌أبي ‌خيثمة النَّسائيّ). [76] جار أحمد بن حنبل، وجليسه، وصاحبه – معجم شيوخ الطّبريّ (ص536) -. [77] في معجم شيوخ الطّبريّ (ص526): (ولعلّه: محمّد بن عثمان بن أبي صفوان الثَّقَفِيّ أبو عبد اللّه وقيل: أبو صفوان البصريّ). [78] في القلب منه شيءٌ، قال في المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطّبريّ (ص724 – 725 رقم 409). 5769. [17736] ‌أبو ‌عثمان ‌بن ‌عمر، شيخ الطّبريّ: خطأ! والصّواب: عثمان بن عمر بن فارس "2252". "تس"). وعنه ينظر معجم شيوخ الطّبريّ (ص724 – 725 رقم 409). [79] قال عنه الذّهبيّ في السّير (13/ 373): (الحافظ، العالِم، الزّاهد، العابد، المُجاب الدّعوة .. عُرِفَ: بحَمْكُوَيْه). [80] تلقّى عنه بالعراق فقه الشّافعي، وهو حدَثٌ قبل خروجه إلى الفُسطاط. على أنّ الطّبريَّ أكبر منه سِناً! - معجم الأدباء (6/ 2448) -. [81] في معجم شيوخ الطّبريّ (ص582) والمعجم الصّغير له أيضا (2/ 528): (لعلّه: أبو الحسن محمّد بن محمّد بن عمر بن الحكم البغداديّ، ويعرف بابن العطّار، من العاشرة، أو الحادية عشرة). [82] يونس ‌بن ‌سليمان ‌البصريّ، شيخ الطّبريّ: خطأٌ، والصّواب: يوسف بن سلمان البصريّ. أفاده وصحّحه أكرم بن محمّد زيادة الفالوجيّ في: معجم الشّيوخ (ص681، 685)، والمعجم الصّغير (2/ 670 رقم 5261/ 8906).
الإيجاز في اختيارات العلامة ابن باز لخالد ‎ بن صالح الوقيت صدر حديثًا كتاب "الإيجاز في اختيارات العلامة ابن باز"، تأليف: "خالد ‎بن صالح الوقيت"، نشر: "دار الحضارة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يعرض اختيارات الشيخ "ابن باز" باختصار وبدون أدلة أو تعليلات في موضوعات الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة. وقد جمعها الكاتب خالية من التدليل والتعليل ليسهل جناها، ويرجع إليها طالب العلم وعامة التاس، فيجدون ما يحتاجونها فيها بصورة مقربة ميسرة، بدون الدخول في اختلافات فقهية. ويعد جمع اختيارات الشيخ "ابن باز " من الجهود الدراسية المحمودة، للمكانة العلمية الكبيرة التي قد حازها الشيخ لدى المسلمين على مختلف طبقاتهم وفي شتى أنحاء المعمورة، إلى جانب كونه من العلماء المحققين ومن أهل الاجتهاد. كما أن معرفته بعلل الحديث وأحاديث الأحكام بصفة خاصة وطول باعه في ذلك مما هو مشهود له من قبل علماء عصره، وهذا يعطي اختياره الفقهي ميزة ليست لغيره. كما أن في اختيارات الشيخ ابن باز كثيرًا من القضايا المعاصرة التي يحتاج الناس إلى معرفة حكمها، وقد ذكرها الكاتب في ثنايا الموضوع. إلى جانب الرغبة في تدوين وجمع اختيارات الشيخ المتناثرة في كثير من الكتب والرسائل - والتي وافق أو خالف فيها المذهب الحنبلي - في كتاب واحد ليسهل الإطلاع عليه ومعرفة رأيه بوضوح في بعض النوازل الفقهية المعاصرة التي له رأي فيها، وكذلك المسائل التي خالف فيها المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه لله تعالى. ونجد أن اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية تميزت بما يلي: أ- أنه يبين الراجح من أقوال العلماء بدليله وغالبًا يعقبه بيان المرجوح ودليله ثم يرد عليه ويبين سبب ضعفه. ب- أنه يقرن ترجيحه لأكثر المسائل بالدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع. ت- عنايته بأقوال السلف ولا سيما الصحابة - رضي لله عنهم - والاستدلال بأقوالهم. ث- عدم اكتفائه بالمذاهب الأربعة بل يذكر أحيانًا بعض الآراء لغيرهم. ج- الثقة التي وجدت عند أكثر المسلمين في العالم - وعلى مختلف مستوياتهم - في ما يصدر عنه من فتاوى وآراء فقهية مقيدة بعلم الحديث. د- كما نجد أنه عند تعارض أقوال الشيخ - رحمه لله تعالى - في مسألة واحدة فإن المتأخر منها -حسب الإمكان - يعتبر هو القول المختار الذي تصدر به المسألة الفقهية. ونجد أن اختيارات الشيخ ابن باز في الفقه كانت تشتمل على العلم المحرَّر المقترن بالدليل الصحيح والترجيح دائمًا، إضافة إلى المواقف التربوية، وكانت الصحف والمجلات المحلية والخارجية تزخر بفتاويه ونصائحه، وأحصى بعض تلامذته أكثرَ من ثلاثين مجلة وصحيفة كان سماحته ينشر فيها إفاداته. وانتشرت فتاويه ورسائله في الدنيا، ولقيت قبولًا عظيمًا، وغني عن القول أن سماحته كان لا يتقاضى على كل ذلك أجرًا، بل يحتسب في جميع ذلك، وإذا جاءه شيء ردَّه. ونجد أن الشيخ ابن باز كانت سيرة حياته دورة متواصلة من العلم ونشره ومحاربة البدع وخدمة الناس، وفي يوم الأربعاء - آخر أيامه - قُرئت عليه 25 معاملة، منها معاملات طلاق، ومنها اعتماد بناء عدة مساجد، ومنها معاملة من هولندا بشأن تزكية الشيخ عدنان العُرعور وإنجاح لقاء إسلامي كبير، ثم تغدى الضيوف عنده على عادته، وبعد المغرب تزاحم الناس للسلام عليه في مجلسه، وبدأ باستعراض المعاملات كالمعتاد، ثم وعظ الحاضرين ودعا لهم، وأطال الدعاء، وأوصى الناس بالكتاب والسنة والتمسك بهما، وكانت هذا آخرَ وصاياه العامة، وفي هذا المجلس جاءه سائل فأعطاه، ثم استمر المجلس مع إجابة المتصلين، وخرج من المجلس بعد أذان العشاء، ليجلس مع أسرته وأقاربه القادمين من الرياض، إلى نحو الثانية عشرة، ثم انصرفوا لينام. وذكرت زوجه وابنه الشيخ أحمد أنه أخذ يسبِّح الله ويذكره، وصلى ما شاء الله له، ثم نام، واستيقظ نحو الثانية والنصف أو الثالثة ليتوضأ دون مساعدة، ثم صلى واضطجع، ثم جلس، وتلفت يمينًا وشمالًا، ثم ضحك، فاضطجع مرة أخرى وله نَفَس متزايد مسموع، عند ذلك جاء أبناؤه، وطلبوا الإسعاف، وحُمل سماحته إلى المستشفى، وعند حمله فاضت روحه إلى بارئها. قال الشيخ " عبد الله الزايد " عن شيخه ابن باز: "هو أشهر من أن يعرَّف؛ سواء داخل المملكة العربية السعودية أو خارجها، وإذا ما أراد أحد أن يكتب عن هذا العالم إنما يستطيع أن يكتب نبذة بسيطة لا تعدو أن تكون محاولة متواضعة للتعريف ببعض جوانب حياته". وللكاتب "خالد ‎بن صالح الوقيت" من المؤلفات: • "المنظومة المقرّبة لأنساب العرب العاربة والمستعربة". • "إعادة النظر في بعض ما نسب إلى إمام أهل الأثر أحمد بن حنبل (164-241 هـ)".
المستشرقون وعلوم المسلمين الفقه الإسلامي والقانون الروماني نموذجًا [1] التمهيد: يحتاج الحديث عن علوم المسلمين - من حيث نسبة العلوم إلى الإسلام أو نسبتها إلى المسلمين - إلى بسط وتفصيل؛ ذلك أنَّ الإسلام يُعدُّ امتدادًا للأديان السابقة عليه، خاتمًا ومكملًا لها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]. كما يعدُّ المسلمون، من حيث كونهم أمَّةً امتدادًا للأمم السابقة، بمطالبتهم بعمارة الأرض والعناية بالحضارة والسَّعي إلى صقْل علومها وأفكارها وتأصيلها إسلاميًّا، ما يَعني أن الإسلام من جهة قد تفرَّد ببعض العلوم، لا سيما منها ما له علاقة مباشرة بعلوم الدين ذات الصِّلة بالاعتقاد، وذات الصِّلة بالعبادات وبعض المعاملات؛ من حيث أحكامها وصفاتها، وهذه تكون عادةً مستقاةً من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى المعتبرة لدى المسلمين. وصرفها وبيانها، ومعانيها وبديعها، وشعرها ونثرها، على اعتبار أنها هي لغة القرآن الكريم وهي لغة الإسلام والمسلمين، فجاءت العناية باللغة والأدب متأصلةً؛ من حيث التقعيد لها، دون حاجة إلى الالتفات إلى اللغات الأخرى والأخذ منها بعض القواعد وأساليب البيان والبديع، هذا دون إغفال استعارة اللغة العربية ألفاظًا ومصطلحات عن اللغات الحيَّة التي واكبَت النهضة اللغوية العربية قبيل نزول القرآن الكريم وبعده. إلا أنَّ هذا التفرُّد على وجوده لم يمنع من الاستعانة بعلوم السابقين في علوم "مدنية" ذات شأن مباشر بعمارة الأرض والاستخلاف عليها، ومِن ثمَّ نقل حضارتهم التي رأى المسلمون أنها تخدم هذا الدين والبشريَّة من قريب أو بعيد، ولم يكن هذا النَّقل على علَّاته، بل مارس العلماء المسلمون قسطًا من الصقل والتأصيل لهذه العلوم [2] ، أمَّا الأفكار التي لم يظهر أنها لا تضيف شيئًا للدين، ومِن ثمَّ الإنسانية، أو أنها تتعارض مع صفاء العقيدة وإخلاص العبادة لله تعالى ونزاهة التعامل مع الناس - فقد غضَّ المسلمون الطرف عنها، واستعاضوا عنها بالبنَّاء والمفيد. ومن هنا يأتي النِّقاش حول قضية إضافة العلوم للإسلام، أو وصف بعض العلوم بالإسلام؛ أي: إنها علوم إسلامية، في مقابل إضافة هذه العلوم للمسلمين أنفسهم، أو وصْفها بأنها علوم المسلمين، وهو ما يختاره الباحث؛ إذ جعل عنوان هذا البحث الاستشراق وعلوم المسلمين، وجعل التمهيد له بالعنوان نفسه. أدَّى هذا ببعض المنتمين إلى الإسلام إلى السَّعي بقدر من الحماس، ومن منطلق تأصيل العلوم الإسلامية إلى نفي أن تكون هذه العلوم مستقاة من ثقافات سابقة، وأنها علوم متأصلة من صنع المسلمين أنفسهم، بل من صنع الإسلام نفسه؛ حيث تمثَّلَها المسلمون ونشروها، فظهرَت نسبة العلوم - لا سيما العلوم الإنسانية والاجتماعية - إلى الإسلام، ووصفها به؛ كالتربية الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والإعلام الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، وعلم الاكتناه الإسلامي [3] ، وهكذا. أدى هذا بدوره إلى اعتراض بعضٍ آخر من العلماء المسلمين على هذا الوصف، كما أدَّى بفئة ثالثة من العلماء المسلمين إلى السعي إلى تأصيل العلوم التي استُقيَت من حضارات أخرى وصقلها وعرضها على حكم الإسلام، فما وافقه منها قُبل، وما عارضه منها فلا حاجة لنا به، فظهرت حركة أسلمة العلوم، وظهرت نظريَّة إسلامية المعرفة [4] ، بدءًا بالعلوم الاجتماعية التي هي مجال رحْب لتوظيف معتقدات ونظريات ومناهج من صنع بني آدم وابتكاراته بالاستقراء والاستقصاء والتجربة والخطأ، في الوقت الذي يُمكن الاستعاضة عنها بحقائق مشتقَّة من علوم المسلمين أنفسهم، دون إغفال الاستعانة بالرُّؤى والأفكار الأخرى بعد عرضها على الميزان الإسلامي؛ وهذا يعني أن علوم الآخرين قد تتَّفق من حيث المنهج والروح مع المفهوم الإسلامي وقد لا تتَّفق معه؛ كالعلوم الفلسفية ذات الصِّلة بالعقيدة، وكذلك أعمال الشعوذة والسحر والخرافة وإلحاقها بالدين أو جعلها جزءًا فاعلًا فيه [5] . يعني هذا أيضًا أنه يُمكن القول من جوانب أن الدِّين الإسلامي يُعدُّ امتِدادًا لما سبقه من الأديان، وهذا يعني بدوره إمكانية وجود وجوه تطابُق بين الإسلام وما سبقه من أديان، في الوقت الذي توجد فيه وجوه اختلاف بينها. أدَّى وجود وجوه تطابق بين الإسلام والأديان الأخرى السابقة عليه إلى ظهور دعاوى من بعض المعنيِّين بالأديان داخل مفهوم مقارنة الأديان، أو من بعض من اشتغلوا بالدين الإسلامي من غير المسلمين من المستشرقين إلى القول بتأليف الإسلام من الأديان السابقة عليه - كما سيأتي بيانه - ثم تبعَهم بعضُ بني المسلمين أنفسهم متأثِّرين بهم في مرحلة متأخِّرة من مراحل التلقِّي عن غير المسلمين. تعدَّدَت دعاوى المستشرقين على الإسلام والمسلمين، وهدفت هذه الدعاوى إلى إثارة الشبه حول الإسلام نفسه، ثم القرآن الكريم وكونه وحيًا من الله تعالى، وحول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وكونه رسولًا ونبيًّا [6] ، وتبع هذا دعاوى التشكيك في ثوابت هذا الدِّين؛ من حيث أصالة العقيدة والأحكام التي جاء بها، وربما عادت الدَّعاوى هذه إلى المجتمع العربي قبل الإسلام؛ بالتشكيك بالرؤى الحضارية لدَيه وإن كانت مَحدودة، على اعتبار أنَّ التشكيك بما كان للعرب قبل الإسلام من جهود حضارية، إنما يصبُّ في التشكيك بجهود المسلمين الحضارية. والمعلوم أن العرب قبل الإسلام كانت لهم حضارة محدودة، غلب على ما وصلنا منها الأدب، وكانت العناية بالشِّعر بأنواعه والشعراء والنثر قويَّة، إلا أن هذه العناية الخاصة لا تعني أنه لم يكن للعرب أنماط حضارية أخرى، كانت بمَثابة الأرضية التي قام عليها الإسلام ممهِّدةً العقول والأذهان للإسلام موجِدةً القابليَّة في النفوس للترحيب به. كما أنه لا بد مِن التنويه إلى أن العرب قبل الإسلام قد تكوَّنت لديهم القابلية لحَمل الرسالة المحمدية، بخلاف من يريد أن يعتزَّ للإسلام عندما يقول: إنه لم يكن للعرب حضارة تُذكر، وإنهم لم يكونوا في جاهليتهم أمةً، ولا شيئًا مذكورًا قبل الإسلام [7] . ويدرِك هذا التوجُّهَ في النظرة إلى العرب في الجاهلية المتخصِّصون في تاريخ العلوم عمومًا وتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين، ومن هؤلاء الباحث كمال شحادة؛ حيث يقول: "يدَّعي كثير من الأجانب أن العرب قبل الإسلام كانوا من البدو الرحَّل لا يَعرفون سوى حياة الصحراء القلقة غير المستقرَّة، بعيدين عن كل حضارة، ومجرَّدين من أي جذور حضارية، والباحث المُنصِف لا يسعه إلا أن يجد هذا الاتهام ظالمًا، ومجافيًا للحقيقة، فقد كان في شمالي الجزيرة العربية، وفي جنوبها، مراكزُ ناشطة في مجالات التجارة الداخلية والدولية؛ كمكَّة والمدينة والطائف ومأرب وصنعاء ونجران وصرواح وظفار" [8] . ومِن هذه المراكز الحضارية كانت تقوم المبادلات التجارية بين العرب في الجزيرة العربية والفرس والهنود في الشرق والروم في الشمال، والأفارقة في الجنوب الغربي. ومع هذا يعمد بعض المستشرقين إلى الادعاء بأنه لم تكن للعرب حضارة تُذكر [9] ، حتى ما حفل به العرب المسلمون من الأدب الجاهلي إنما هو عند هؤلاء ومَن تأثَّر بهم من مفكِّري العرب من الأدب المنحول؛ بدءًا بالمستشرق الألماني تيودور نولدكه (1836 - 1930)، والألماني فيلهلم آهلورد (1838 - 1909)، والإنجليزي د. س. مرجليوث (1858 - 1940م) وغيرهم [10] ، وأخذه عنهم الأديب العربي طه حسين في كتابه الصادر سنة 1344هـ / 1926م في الشعر الجاهلي، ثم كتابه الآخر الصادر سنة 1345هـ / 1927م "في الأدب الجاهلي"؛ اللذين لقيا نقدًا شديدًا ورفضًا لاذعًا من أدباء العربية والإسلام [11] . بُنيَت نظرية الانتحال في الأدب العربي بتأييد من بعض الرواة العرب السابقين من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي؛ كابن سلام الجمحي (134 - 231هـ) في كتابه: طبقات الشعراء، الذي يذكر فيه بعض المنحولات التي أثارَتها بعض الرؤى النحوية التنافسيَّة بين مدرستي الكوفة والبصرة، وغيرها من الرُّؤى التي تسعى إلى التعظيم من شأن القبيلة، تلك التأييدات التي تولَّى كِبرها كلٌّ مِن حماد الراوية (ت: 167هـ / 783م) وخلف الأحمر (ت: 180هـ / 796م) وغيرهما؛ كالأصمعي، وابن العلاء، على المشهور بين مؤرخي تاريخ الأدب العربي [12] . الهدف الأكبر من إثارة الشُّبه حول الإسلام والمسلمين - بما في ذلك إثارة الشبه على ما قبل الإسلام، والتركيز على بعض الآثار والإسرائيليات في التاريخ الأدبي العربي الإسلامي - يقوم على الرغبة في تحقيق أهداف الغرب النصراني القائم على تأثير صهيوني ماسوني على العقيدة النصرانية في معظمها، فتتركز أهداف هذه الفِئة من الغربيين؛ حيث منبع الاستشراق ابتداءً، على السعي إلى إلغاء الإسلام، من حيث كونه دينًا سماويًّا يقوم على كتاب منزل، وعلى نبيٍّ مرسل، وعلى سنة نبوية مبينة للكتاب المنزل؛ وهما المصدر للتشريع الإسلامي، وعلى لغة جرى صقلها ونشرها بين العرب، والاكتفاء به على أنه منهج بشري قام به محمد صلى الله عليه وسلم بين العرب في شبه جزيرة العرب لأغراض دنيوية؛ ولذا فلا يقبل الانتشار المكاني ولا الزماني. في سبيل تحقيق هذا الهدف الأكبر جرى تفريعه إلى أهداف فرعية، وتخصص رهطٌ من بعض المستشرقين في فرع من هذه الفروع، ما يعنينا منها في هذا المقام نفي أن تقوم علومُ المسلمين على الأصالة المشتقَّة من الكتاب والسنة، لا سيما أن السنة عندنا تشمل الأقوالَ والأفعال والإقرارات التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يَنطق عن الهوى. [1] أصل هذا الفصل بحث ألقي بالجامعة الإسلامية في 9 / 6 / 1430هـ الموافق 2 / 6 / 2009م. [2] انظر: علي بن إبراهيم النملة: النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية؛ مرجع سابق، 204 ص، وانظر للمؤلف أيضًا: التجسير الحضاري في ضوء تناقُل العلوم والآداب والفنون - الرياض: المؤلِّف، 1430ه / 2009م، 111 ص. [3] انظر: قاسم السامرَّائي: علم الاكتناه العربي الإسلامي، الرياض؛ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1422هـ / 2001م، 562 ص. [4] انظر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ إسلامية المعرفة: المبادئ العامة، خطَّة العمل، الإنجازات، [هيرندن، فيرجينيا]: المعهد، 1406هـ / 1986م، 227 ص. [5] انظر: عبدالرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية؛ دراسات لكبار المستشرقين، ط 3، القاهرة: دار النهضة المصرية، 1965م، ص ي. [6] تمَّ العرض لهذه الجوانب الثلاثة في الفصول الثاني والثالث والرابع من هذا الكتاب. [7] أنور الجندي: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق: المكتب الإسلامي، 1398هـ / 1978م، ص 89. [8] كمال شحادة: الترجمة وتراثنا، ص (231 - 242)، أبحاث المؤتمر السنوي السادس لتاريخ العلوم عند العرب المنعقد في جامعة حلب بإشراف معهد التراث العلمي العربي 22، 23 جمادى الآخرة 1402هـ / 15، 16 نيسان (إبريل) 1982م، حلب: المعهد، الجامعة 1984، ص (301 - 314). [9] الغريب أنَّ رهطًا من بعض (المفكِّرين) المسلمين سعوا إلى تجاهُل الحضارة العربية قبل الإسلام في سعي منهم إلى الرفع من شأن الإسلام؛ وهذا موضوع يطول الخوض فيه، إلا أنَّ المؤكِّد أنَّ الذي تبنَّوه كانوا ذوي منطلقات حسنة، وليست بالضرورة صائبة تمامًا. [10] حول قضية الشعر العربي بين الأصالة والانتحال انظر: الشعر العربي القديم بين الأصالة والانتحال، ص (159 - 166)، في: فؤاد سزكين: محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية؛ مرجع سابق، 183 ص، (سلسلة أ: نصوص ودراسات؛ 1). [11] انظر: عبدالرحمن بدوي: دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي؛ مرجع سابق، ص (5 - 14). [12] انظر: عبدالرحمن بدوي: دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي، المرجع السابق، 327 ص.
موسى عليه السلام (5) نتابعُ في هذا الفصلِ ما ذكره اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة طه عن قصة مجيء موسى عليه السلام إلى الوادي المقدَّس طوى، ومناجاةِ الله عز وجل له ومِنَّتِه عليه حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه: 37 - 48]. ويقول عز وجل في سورة الشعراء: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 10 - 17]. ويقول عز وجل في سورة النمل: ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 7 - 12]. وقال تعالى في سورة القصص: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 29 - 35]. وقال عز وجل في سورة النازعات: ﴿ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 15 - 19]. وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 40]، أي: إن توجهك من أرض مَدْين إلى أرض مصر ليناديك ربك ويناجيك بالوادي المقدس كان أمرًا مَقدورًا قضاه الله عز وجل، فحركك ووجهك وألهمك لتجيء البقعة المباركة وفق ما قضاه الله في الأزل وقدَّره قبل خلق السماوات والأرض، فكل شيء عنده بمقدار، وهو ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]، وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النمل: 11] الاستثناء فيه منقطع بمعنى: لكن، والجملة اعتراضية لبيان فضل الله تعالى على خلقه، وأنه يعفو عن السيئات ويغفر ﴿ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، فلا يحل لأحد أن ييئس من رحمة الله، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. وفي قوله تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 11]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ﴾ [الشعراء: 10]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 8، 9]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [النازعات: 16]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]. في هذه الآيات المباركات دليلٌ قطعيٌّ على إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وأنه يتكلَّم متى شاء وأنَّى شاء، وأن الله عز وجل جعل موسى عليه السلام كليمَه كما جعل إبراهيم ومحمدًا عليه السلام خليلين، وقوله تعالى: ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [القصص: 30]؛ أي: إن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، فقولك: من البيت ابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، فكذلك ليست الشجرة هي المتكلمة، بل سمع موسى كلامَ الله من عند الشجرة؛ إذ ليست الشجرة هي القائلة: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]، بل قائل ذلك هو رب العالمين. وقوله ﴿ إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾ [طه: 145]، معنى ﴿ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ﴾؛ أي: أن يعجِّلَ بعقوبتنا قبل سماع قولنا، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ﴾ [القصص: 29]، أي: أتمَّه وأدَّاه ووفَّاه، فإن "قضى" قد تستعمل بمعنى أدَّى ووفَّى، ومنه قول الشاعر: قَضَى كُلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمَه وَعزَّة ُ مَمْطُول مُعنَّى غَريِمُهَا وقوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ [القصص: 31]؛ أي: صارت العصا شبيهة بالجان؛ وهي حية بيضاء أكحل العين سريعة الحركة. وقوله تعالى: ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ [القصص: 32]؛ أي: وَضَعْ يدك على صدرك؛ ليزول ما بك من الرُّعب والفزع، والخوف الذي أصابك. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
غزوة الرجيع في صفر من السنة الرابعة، وكان سببها قدوم وفد من عضل والقارة - قبيلتان - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلامًا، فابعث لنا نفرًا يفقِّهونا في الدين ويقرئونا القُرْآن، فبعث معهم سبعة نفر وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، والباقون هم: خالد بن أبي البكير وعبدالله بن طارق البلوي وأخوه لأمه معتب بن عبيد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، فلما كانوا بالهدأة عند ماء الرجيع - وهو لهذيل - غدروا بهم واستصرخوا عليهم حيًّا من هذيل يقال لهم: بنو لحيان - وكان بنو لحيان قد اتفقوا مع عضل والقارة وجعلوا لهم مالًا على أن يذهبوا لمحمد ويطلبوا منه نفرًا يفقههم في الدين فيأخذوا بثأر سفيان بن خالد الهذلي، فيقتلوا قاتله الذي قتله في أُحد، ويأخذوا من تبقى ليبيعوهم لأهل مكة - فطلع عليهم مائة رجل، فلجأ المسلمون إلى جبل، فأعطوهم العهد ألا يقتلوهم، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبِّرْ نبيك عنا، وقاتلهم هو ومرثد وخالد بن البكير فاستشهدوا، ونزل الآخرون على العهد، فغدروا بهم وقيدوهم، فقال عبدالله بن طارق: هذا أول الغدر، فقاتلهم فرمَوه بالحجارة حتى قتلوه، وقاتلهم معتب فقتلوه، وحملوا الآخرينِ: خبيب بن عدي، وابن الدثنة، وأخذوهما وباعوهما في مكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن نوفل ليقتلوه بالحارث؛ لأن خبيبًا قتله في أحد، وحملوه إلى التنعيم ليصلبوه، فطلب منهم أن يصلي ركعتين، وقال: لولا أن تقولوا: خشيت من الموت لأطلت، وهو أول مَن سن الركعتين عند القتل، ثم قال: ولستُ أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنبٍ كان في الله مصرعي ولستُ بمبدٍ للعدو تضرعًا ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي وذلك في جنب الإله وإن يشَأْ يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، ثم صلبوه، وقد روي فترة حجزه أنه كان يستحد - يحلق - قبل أن يصلب وبيده حديدة - شفرة حادة - ثم اقترب منه طفل، وهو ابن المرأة التي كان محجوزًا عندها، واسمها ماوية، فلما رأت طفلها ارتعات، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، ولو كان غيره لأخذه رهينة لا يفلته حتى يخلوا سبيله، فقالت بعد أن أسلمت: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد اطلعت عليه من صير - شق - الباب وإنه لفي الحديد، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفًا من عنب يأكله، ما كان إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا، وكان يتهجد بالقُرْآن، ورُوي أن معاوية بن أبي سفيان قال: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليُضجعني إلى الأرض فَرَقًا من دعوة خبيب، وذكر عدد ممن حضروا خبيبًا أنهم فروا من دعوته، فما بين جاثٍ على الأرض يوارى بالشجر خشية أن تصيبهم، وقد عيَّن عمر بن الخطاب سعيد بن عامر واليًا على حمص فكانت تأتيه نوبة من الغشية، فشكاه أهل حمص إلى عمر، فاستدعاه، فلما سأله عن هذه الغشية، قال: لقد شهدت قتل خبيب، فكلما ذكرته وأنا في مجلس، غشي عليَّ، فعذَره عمر. وأما ابن الدثنة، فإن صفوان بعث به إلى التنعيم ليقتل، وأوكل نسطاسًا بقتله، فقال له نسطاس: أنشدك الله، أتحب محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: ما أحب أن محمدًا الآن مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نسطاس، وأما عاصم فقد حمى الله جثمانه بالدبر - وقيل: النحل - نهارًا، فلدغت كل من اقترب منه، واحتمله السيل ليلًا لئلا تشرب سلافة بنت سعد برأسه الخمر كما نذرت. وقد حزن المسلمون لما أصاب وفدهم ولما غرر بهذا الرهط حتى استدرجوهم إلى مصارعهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار إلى مكة لقتل أبي سفيان، فخرج عمرو والأنصاري على بعير له، وكان برِجل الأنصاري علة فكان عمرو يحمله حتى وصل إلى بطن يأجج، عقل بعيره في الشعب وقال للأنصاري: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئًا فالحق بالبعير فاركبه والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فدخل مكة ومعه خنجر، فقال صاحبه: هل لنا أن نطوف بالبيت ونصلي ركعتين؟ فقال عمرو: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم - بمعنى خارج الغرف فيرون من يأتي - لكن شوق الأنصاري إلى الكعبة جعل عمروًا يستجيب لرغبته، فطافا وصليا، فلما خرجا مرا بمجلس لقريش، فعرفه بعضهم فصرخ: هذا عمرو الضمري ما جاء إلا لشر - وكان عمرو فاتكًا خطرًا - فثار أهل مكة إليهم، فقال عمرو لصاحبه: النجاءَ، هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل - بعد انكشاف أمرهما - فانجُ بنفسك، فخرجا والطلب في إثرهما، فصعدا جبلًا وكان عمرو خبير بشعاب مكة، فاختبأا في غار، فإذا بعثمان بن مالك التيمي بفرس له، فقام على باب الغار، فخرج إليه عمرو فطعنه بالخنجر، فصاح صيحة أسمع منها أهل مكة، فأقبلوا إليه فوجدوه وبه رمق فقال: طعنني عمرو الضمري، ومات ولم يخبرهم عن موضعه، وانشغلوا بمقتل عثمان التيمي عن ملاحقة عمرو، ومكث في الغار يومين، ثم خرج إلى التنعيم فوجد خبيبًا مصلوبًا، وفك قيوده فاحتمله مسافة، لكن الموكلون بحراسته تبعوه فألقى خبيبًا وهرب، فأما الأنصاري فانطلق نحو شعب يأجج فأخذ الراحلة ولحق بالمدينة، وعاد عمرو فمر بضنجان، ودخل غارًا، فأتى راعي غنم من بني الدئل، فدخل الغار، وبعد حديث بينهما تبين كفر الراعي، حيث تغنى بشعر فيه: ولستُ بمسلم ما دمت حيًّا ولستُ أدين دين المسلمينا فلما نام الراعي قام إليه عمرو فذبحه، وفي الطريق تعرف إلى رجلين بعثتهما قريش للتجسس على المسلمين، فرمى عمرو أحدهما بسهم، وأسر الآخر، فقاده أسيرًا إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى له في رحلته، فضحك حتى بدت نواجذه، ودعا له بخير.
دروس وفوائد من قصة سيدنا شعيب معلوم أن الله عز وجل ذكر قصص الأنبياء في القرآن للعظة والعبرة والتذكير والمواساة، وفي كل قصة من هذه القصص فوائد وأحكام وتنبيهات يدركها من يطالعها، ومن هذه القصص قصة سيدنا شعيب، ففيها من الفوائد والعبر الكثير والكثير نبَّه عليها أئمة التفسير في كتبهم، ولما كانت هذه الفوائد منثورة في موضع القصة في القرآن وفي كتب التفسير أردتُ جمعها وتقريب فوائدها رجاء الأجر والمثوبة ودعوة صالحة، وقدمت ذلك بذكر سياق القصة في موضعين في القرآن ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [الأعراف: 85 - 87] ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 84 - 88]. الفوائد والعبر: التوحيد هو الأساس: ﴿ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ فهذا هو أساس دعوة نبي الله شعيب بل أساس دعوة الأنبياء جميعًا، وهو توحيد الله عز وجل وعبادة الله وحده. تطفيف الكيل: ومع الدعوة إلى التوحيد تأتي الدعوة لترك كبريات الخطايا التي درج عليها القوم، وفي هذا ما فيه من التنبيه على عظم هذه الخطايا؛ لأن النهي عنها قُرِن بالنهي عن الشرك. فكانت أول خطيئة نهى سيدنا شعيب قومه عن ارتكابها -بعد الشرك- هي خطيئة نقص الكيل والميزان، وإنك لتدرك عظم هذه الخطيئة وسوء مغبتها عندما ترى النهي عنها والنهي عن الشرك قرينين في آية واحدة، ثم تأمل سياق الآيات في سورة هود "ففِي الْآيَةِ الْأُولَى نَهَى عَنِ النُّقْصَانِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَمَرَ بِإِعْطَاءِ قَدْرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى أَوَّلًا عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَجْعَلَ مَالَ غَيْرِهِ نَاقِصًا لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أَمَرَ بِالسَّعْيِ فِي تَنْقِيصِ مَالِ نَفْسِهِ لِيَخْرُجَ بِالْيَقِينِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿ بِالْقِسْطِ ﴾ يَعْنِي بِالْعَدْلِ، وَمَعْنَاهُ: الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَعَهُ الْيَقِينُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَالْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ" [1] ، فإذا أردنا موضعًا آخر يُنبِّه فيه الشارع على عظيم جرم هذه الخطيئة، فستجد سورة مسماة بهذا الاسم "المطففين" يفتتحها الله عز وجل بوعيد شديد ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ "[المطففين: 1 - 4]، وهو وعيد شديد مع ما جاء في السنة "ولا انتقَص قوم المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذُوا بالسِّنينَ وشِدَّةِ المؤنةِ وجورِ السُّلطانِ عليهم " [2] . النهي عن البخس: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الأعراف: 85] الخطيئة الثانية التي دعا سيدنا شعيب قومه لتركها خطيئة بخس الناس حقوقهم المادية والمعنوية، فقال كما حكاه القرآن: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ وَالْبَخْسُ هُوَ النَّقْصُ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ َ دَلَّتْ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّقْصِ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ [3] ، ويدخل في ذلك بخس الرجل حقَّه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به، وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه" [4] . «البخس في لسان العرب هو النَّقْص بالتعييب والتَّزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنّقصان منه» فلنَبْنِ على أساس كلامه فنقول: البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمالٍ في نوعه. ففيه معنى الظلم والتحيُّل، وقد ذكر ابن سِيدة في «المخصص» البَخْس في باب الذهاب بحقِّ الإنسان.. "وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْبَخْسُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَمِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْمُشْتَرِي: هَذَا النِّحْيُ لَا يَزِنُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ يَزِنُ اثْنَيْ عَشَرَ رطْلًا، أَوْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّخْلِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ قَنَاطِيرَ تَمْرًا فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُ عِشْرِينَ قِنْطَارًا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ شَرُودٌ وَهُوَ مِنَ الرَّوَاحِلِ، وَيَكُونُ طَرِيقُ الْبَخْسِ قَوْلًا، كَمَا مَثَّلْنَا، وَفِعْلًا كَمَا يَكُونُ مِنْ بَذْلِ ثَمَنٍ رَخِيصٍ فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَاعَ غَالِيًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَخْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْبَاخِسُ الرَّاغِبُ فِي السِّلْعَةِ الْمَبْخُوسَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَتَبْقَى كَلًّا عَلَى جَالِبِهَا؛ فَيَضْطَرُّ إلى بَيْعِهَا بِثَمَنٍ زَهِيدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نَفْسِ جَالِبِ السِّلْعَةِ بِأَنَّ سِلْعَتَهُ هِيَ دُونَ مَا هُوَ رَائِجٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُهُ الْيَأْسُ مِنْ فَوَائِدِ نِتَاجِهِ؛ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَخْسَ هُوَ بِمَعْنَى النَّقْصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ، لَا النَّقْصُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الشَّيْءِ النَّاقِصِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا.." [5] . فلَمَّا مَنَعَ قَوْمَهُ مِنَ الْبَخْسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مَنَعَهُمْ الْبَخْس وَالتَّنْقِيص بِجَمِيعِ الْوُجُوهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْعُ مِنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَانْتِزَاعِ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْحِيَلِ [6] ، فعلى هذا يكون الْبَخْسُ وَالتَّطْفِيفُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِيَانَةِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتِ الْبَيِّنَةُ وَالشَّرِيعَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ فِيهِ عُذْرٌ [7] . النهي عن الفساد: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56] وهذا النهي متعلق بالأمرين السابقين"؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ رِضَاهَا يُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَهُمَا يُوجِبَانِ الْفَسَادَ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ وَقَدْ ذَكَرُوا في تَفْسِير هَذِهِ الْكَلِمَةِ وُجُوهًا، فَقِيلَ: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ بِأَنْ تُقْدِمُوا عَلَى الْبَخْسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتْبَعُهُ الْفَسَادُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ فَسَادًا حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ مَنْعٌ مِنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ مَنْعٌ مِنْ مَفَاسِدِ الدِّينِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلنَّهْيِ عَنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ﴿ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ قِيلَ: بَعْدَ أَنْ صَلَحَتِ الْأَرْضُ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِخُلُوِّهَا مِنْهُ فَنَهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ وَقَدْ صَارَتْ صَالِحَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَلا تُفْسِدُوا بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِتَكْثِيرِ النِّعَمِ فِيهِمْ، وَحَاصِلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ يَرْجِعُ إلى أَصْلَيْنِ: التَّعْظِيم لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالشَّفَقَة عَلَى خَلْقِ الله ويدخل فيها ترك البخس وترك الفساد، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلى تَرْكِ الْإِيذَاءِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِيصَالُ النَّفْعِ إلى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ، وَأَمَّا كَفُّ الشَّرِّ عَنِ الْكُلِّ فَمُمْكِنٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الأمور قَالَ: ﴿ ذلِكُمْ ﴾ وَهُوَ إِشَارَةٌ إلى التوحيد وإيفاء الكيل وعدم البخس.. وَالْمَعْنَى: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بِالْآخِرَةِ، والمراد: اترك الْبَخْسِ، وَتَرْكُ الْإِفْسَادِ خَيْرٌ لَكُمْ فِي طَلَبِ الْمَالِ... لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَلِمُوا مِنْكُمُ الْوَفَاءَ وَالصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ رَغِبُوا فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَكُمْ؛ فَكَثُرَتْ أَمْوَالُكُمْ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أَيْ: إن كنتم مصدقين لي في قولي [8] . فإن قيل: العثوُّ: الفسادُ التَّامُّ، فقوله: ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ جارٍ مجرى قولك: ولا تُفسِدُوا في الأرض مفسدين، فالجوابُ من وجوه: الأول: أَنَّ مَنْ سَعَى فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إلى الْغَيْرِ فَقَدْ حَمَلَ ذَلِكَ الْغَيْرَ عَلَى السَّعْيِ إلى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ مَعْنَاهُ: وَلَا تَسْعَوْا فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيٌ مِنْكُمْ فِي إِفْسَادِ مَصَالِحِ أَنْفُسِكُمْ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ مَصَالِحَ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. وَالثَّالِثُ: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ مصالح الأديان [9] . الحلالُ خيرٌ من الحرام: - ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ . قوله: ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ ﴾ قال ابن عباس: معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن خيرٌ لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه [10] . - قوله: ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ : فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي نَصَحْتُكُمْ وَأَرْشَدْتُكُمْ إلى الْخَيْرِ ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ ؛ أَيْ: لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى مَنْعِكُمْ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْقَبِيحِ. الثَّانِي: قَدْ أَشَارَ إلى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ يُوجِبُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [هود: 85، 86]؛ يَعْنِي لَوْ لَمْ تَتْرُكُوا هَذَا الْعَمَلَ الْقَبِيحَ لَزَالَتْ نِعَمُ اللَّه عَنْكُمْ، وَأَنَا لَا أَقْدِرُ على حفظها عليكم في تلك الحالة [11] . عرقلة المصلحين مهمة شيطانية: - قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ ﴾ [الأعراف: 86]: "اعْلَمْ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَمَّ إلى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّل: أَنَّهُ مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ يَقْعُدُوا عَلَى طُرُقِ الدِّينِ وَمَنَاهِجِ الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنْ يَمْنَعُوا النَّاسَ عَنْ قَبُولِهِ وَفِي قَوْلِهِ: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ ﴾ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ الصِّرَاطُ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ النَّاسُ؛ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِسُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَيُخَوِّفُونَ مَنْ آمَنَ بِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الصِّرَاطُ عَلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ [12] . قال في الكشاف: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ ﴾ ؛ أَيْ: وَلَا تَقْتَدُوا بِالشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: 16] [13] . إن هذه الآية تعبر تعبيرًا بليغًا وواقعيًّا عما كان يقوم به قوم شعيب وعما يقوم بهم من على شاكلتهم حتى اليوم؛ وهو الوقوف أمام الناس ومنعهم من سلوك طريق مرضاة الله فنجد أصنافًا يقفون في وجوه الناس بحجج مختلفة لصدهم عن الصدقة، وتجد أصنافًا من الناس يقفون في وجه القائمين بالإصلاح بين الناس بحجج مختلفة لمنعهم، وإفساد جهدهم في الإصلاح، وهكذا تجد صور الصد والمنع كثيرة، ومحصلة عمل هؤلاء هو القيام بمهمة إبليس في منع الناس وصدهم عما يقربهم إلى الله، ولا يقف القرآن عند الإشارة إلى هذا التصرف القبيح بل يبين لنا طريقتهم فيه، وهي طريقة كل ظالم وباغٍ يريد منع الناس وصدهم عن طرق الخيرات، وهي طريقة الوعد والوعيد، فقال: ﴿ تُوعِدُونَ ﴾ [الأعراف: 86] يَحْصُلُ بِذَلِكَ إِنْزَالُ الْمَضَارِّ بِهِمْ، وَأَمَّا الصَّدُّ فَقَدْ يَكُونُ بِالْإِيعَادِ بِالْمَضَارِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْوَعْدِ بِالْمَنَافِعِ بِمَا لَوْ تَرَكَهُ وَقَدْ يَكُونُ بِأَلَّا يُمَكِّنَهُ مِنَ الذَّهَابِ إلى الرَّسُولِ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ [14] . ولعل رسولنا صلى الله عليه وسلم أشار بصورة ما إلى هذا الصنف من الناس، فقال مبينًا عاقبة فعلهم فيما يرويه سيدنا سهل بن سعد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطُوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحًا للشر، مغلاقًا للخير» [15] . أَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ [الأعراف: 86] فَالْمُرَادُ: إِلْقَاءُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ شُعَيْبًا مَنَعَ الْقَوْمَ مِنْ أَنْ يَمْنَعُوا النَّاسَ مِنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ مَنْعَ غَيْرِهِ مِنْ قَبُولِ مَذْهَبٍ أَوْ مَقَالَةٍ إِلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ [16] . التذكير بالنعم مما انتهجه نبي الله شعيب في دعوة قومه تذكيرهم بنعم الله عليهم، فقالَ: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ [الأعراف: 86]، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا كَثْرَةَ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْمَعْصِيَة. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: كَثَّرَ عَدَدُكُمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَكَثَّرَكُمْ بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ، وَكَثَّرَكُمْ بِالْقُدْرَةِ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ ضُعَفَاءَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَلِيلِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْ وُجُودِهِمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ. فَأَمَّا تَكْثِيرُ عَدَدِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ فَهُوَ أَنَّ مَدْيَنَ بن ابراهيم تزوَّج رئيا بِنْتَ لُوطٍ فَوَلَدَتْ حَتَّى كَثُرَ عَدَدُهُمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 86]، وَالْمَعْنَى: تَذَكَّرُوا عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْعِصْيَانِ وَالْفَسَادِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ انْقَادُوا وَأَطَاعُوا وَقَوْلُهُ: ﴿ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ الْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْمُفْسِدِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ لَيْسَتْ إِلَّا الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ احْتَرَزُوا عَنِ الْفَسَادِ وَالْعِصْيَانِ وَأَطَاعُوا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ حَمْلَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ بِطَرِيقِ التَّرْغِيبِ أَوَّلًا وَالتَّرْهِيبِ ثَانِيًا [17] . مواساة المؤمنين وزجر المعرضين: - ثُمَّ قَالَ: ﴿ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ﴾ [الأعراف: 87] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَسْلِيَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَجْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿ فَاصْبِرُوا ﴾ تَهْدِيدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ﴾ [الأعراف: 87]، وَالْمُرَادُ: إِعْلَاءُ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارُ هَوَانِ الْكَافِرِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ قَدْ تَظْهَرُ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [الأعراف: 87] يَعْنِي أَنَّهُ حَاكِمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ وَالْحَيْفِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَالْكَافِرَ الشَّقِيَّ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [ص: 28] [18] . الخوف على النفس من الانتكاس: - ﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 89]: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنَّ نَعُودَ إلى مِلَّتِكُمْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَنَا. وَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَكَابِرُ يَخَافُونَ الْعَاقِبَةَ وَانْقِلَابَ الْأَمْرِ؛ أَلَا تَرَى إلى قَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وَكَثِيرًا مَا كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ» [19] . لا يحكم في مصير العباد إلا الله: لما قال قوم شعيب له: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88] فحصروا الموضوع في أمرين: إما عودته في ملتهم أو إخراجه، فبيَّن لهم شعيب أنه لن يعود في ملتهم وليس بيدهم مصير العباد، فربنا وسع كل شيء علمًا، فَرُبَّمَا كَانَ فِي عِلْمِهِ حُصُولُ قِسْمٍ ثَالِثٍ؛ وَهُوَ أَنَّ نَبْقَى فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعُودَ إلى مِلَّتِكُمْ بَلْ يَجْعَلُكُمْ مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَمْرِنَا ذَلِيلِينَ خَاضِعِينَ تَحْتَ حُكْمِنَا [20] ، وهو ما حدث بالفعل حيث أهلكهم الله. التحذير من رفض الحق لأجل مُعاداة قائله والاعتبار بمن سبق: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْمِلَكُمْ عَدَاوَتِي عَلَى مَذْهَبٍ وَدِينٍ تَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا وَقَعَ فِيهِ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وما قوم لوط منكم ببعيد، فَإِنَّ الْقُرْبَ فِي الْمَكَانِ وَفِي الزَّمَانِ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْرِفَةِ، وَكَمَالَ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْتَبِرُوا بِأَحْوَالِهِمْ وَاحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمُنَازَعَتِهِ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَذَابِ [21] . أهمية العشيرة: - ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ [هود: 91]، عائلتك التي قد تعاديها وتقاطعها وتمنع عنها خيرك بغير سبب قد تكون سببًا لدفع الشرور عنك، وعلى الجانب الآخر فمن الحماقة وقلة الدين أن يعمل الناس حسابًا لأصحاب الجاه وأصحاب القوة، ولا يخافون من الله، والله محيط بأعمالهم، فإنهم زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَرَكُوا إِيذَاءَهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ قَوْمِهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ قَتْلِي إِكْرَامًا لِرَهْطِي، واللَّه تَعَالَى أولى أن يتبع أمره، فكأنه يقول: حفظكم إِيَّايَ رِعَايَةً لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى أَوْلَى مِنْ حِفْظِكُمْ إِيَّايَ رِعَايَةً لِحَقِّ رَهْطِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ﴾ [هود: 92] فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ نَسِيتُمُوهُ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ الْمَنْبُوذِ وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُعْبَأُ بِهِ [22] . الثقة في وعد الله: ﴿ وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ [هود: 93]. اعْمَلُوا حَالَ كَوْنِكُمْ مَوْصُوفِينَ بِغَايَةِ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ وَكُلُّ مَا فِي وُسْعِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ مِنْ إِيصَالِ الشُّرُورِ إِلَيَّ فَإِنِّي أَيْضًا عَامِلٌ بِقَدْرِ مَا آتَانِي اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُدْرَةِ [23] . فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ من الكاذب فانْتَظِرُوا الْعَاقِبَةَ ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ ؛ أَيْ: مُنْتَظِرٌ. العاقبة والعقوبة: لقد عذب الله قوم شعيب بثلاث عقوبات: الصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة. فالصَّيْحَةُ وَهِيَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، وَالْجَاثِمُ: الْمُلَازِمُ لِمَكَانِهِ الَّذِي لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ؛ يَعْنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ زَهَقَ رُوحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي مَكَانِهِ مَيِّتًا. ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ [الأعراف: 91]؛ أَيِ: الزَّلْزَلَةُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ الْمُهْلِكَةُ، وفي الشعراء قال: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾ [الشعراء: 189]. فَإِنْ قِيلَ: الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. فَالْجَوَابُ: مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ؛ ا هـ [24] ، ولكل نوع من هذا العذاب مناسبة. "فأخْبَرَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ "هُودٍ" فَقَالَ: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 94] وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّهُمْ لَمَّا تَهَكَّمُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87] فَجَاءَتِ الصَّيْحَةُ فَأَسْكَتَتْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189] وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 187]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ" [25] ، ولعلها رسالة على قدر ظلمك وعصيانك على قدر ما ينزل بك من عقوبة. متاع الدنيا كأنه لم يكن: - ﴿ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 92]: يُقَالُ: غَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ إِذَا طَالَ مَقَامُهُمْ فِيهَا، أو كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُسْتَغْنِينَ. ﴿ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ﴾ ؛ أَيْ: كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ أَحْيَاءً مُتَصَرِّفِينَ مُتَرَدِّدِينَ، وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبؤس الدنيا مهما طال يذهبه أول لحظة في الجنة ونعيمها مهما طال ينسيكه أول لحظة في النار؛ عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يُؤْتى بأنعم أهل الدُّنْيَا من أهل النَّار يَوْم الْقِيَامَة، فيصبغ فِي النَّار صبغةً ثمَّ يُقَال: يَا بْن آدم، هَل رَأَيْت خيرًا قطُّ؟ هَل مَرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله يَا رب، وَيُؤْتى بأشد النَّاس بؤسًا فِي الدُّنْيَا من أهل الْجنَّة، فَيُقَال لَهُ: يَا بْن آدم، هَل رَأَيْت بؤسًا قطُّ؟ هَل مَرَّ بك شدةٌ قطُّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله، مَا مَرَّ بِي بؤسٌ قطُّ، وَلَا رَأَيْت شدَّة قطُّ" [26] . [1] مفاتيح الغيب للفخر الرازي (18/ 385). [2] أخرجه ابن ماجه في السنن مطولًا برقم 4259، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (7/ 445): رواته ثقات. [3] مفاتيح الغيب (18/ 385). [4] روح المعاني للألوسي (4/ 413). [5] التحرير والتنوير لابن عاشور (8/ 242). [6] مفاتيح الغيب (14/ 314). [7] مرجع سابق (14/ 313). [8] مفاتيح الغيب (14/ 314). [9] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (10/ 545). [10] المحرر الوجيز (3/ 199). [11] مفاتيح الغيب (18/ 386). [12] مرجع سابق (14/ 314). [13] الكشاف للزمخشري (2/ 121). [14] مفاتيح الغيب (14/ 315). [15] ابن ماجه في سننه ج1/ ص87 ح238، قال المنذري: وفي سنده لين. [16] مفاتيح الغيب (14/ 315). [17] مفاتيح الغيب (14/ 315). [18] مرجع سابق. [19] تفسير الخازن (2/ 228). [20] مفاتيح الغيب (14/ 318). [21] مرجع سابق (18/ ,389 -390). [22] مفاتيح الغيب (18/ 392). [23] مرجع سابق. [24] أضواء البيان للشنقيطي (2/ 36). [25] تفسير ابن كثير (3/ 448). [26] أخرجه مسلم برقم ( 2807 ).
هداية الأحاديث النبوية إلى مكارم الأخلاق الحميدة الزكية ليوسف أسعد الحسيني صدر حديثًا كتاب " هداية الأحاديث النبوية إلى مكارم الأخلاق الحميدة الزكية "، تأليف: "ي وسف الصديق بن أسعد الإمام الحسيني الشافعي " (إمام المسجد الأقصى- ت 1321 هـ)، تحقيق: أ.د. " حسام الدين عفانة " وآخرون، نشر: " لجنة زكاة القدس "- فلسطين. وهو ثاني مخرجات المشروع العلمي الذي يعكف عليه د. "حسام الدين عفانة" بالاشتراك مع فريق من الباحثين المقدسيين والذي يتمثل بتحقيق مخطوطاتٍ متعلقةٍ بالمسجد الأقصى المبارك، وبعلماء بيت المقدس وأكنافه، ونشرها محققةً حسب أصول التحقيق العلمي للمخطوطات، خدمةً لأولى القبلتين وثالث المسجدين التي تشدُّ إليها الرحال، وهذا الفريق يتكون من: 1) المشرف العام على المشروع الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة / أستاذ الفقه والأصول / جامعة القدس. 2) الشيخ رياض منير خويص ماجستير فقه وأصول / وطالب في مرحلة الدكتوراه، ومدرس في المسجد الأقصى المبارك. 3) الشيخ هيثم علي البجالي، ماجستير فقه وأصول، وإمام مسجد في قرية زعترة. 4) الشيخ يوسف الأوزبكي، ماجستير فقه وأصول، ومسؤول مخطوطات المسجد الأقصى المبارك-القدس. ومن أهداف هذا الفريق المقدسي الاهتمام بالدراسات والأبحاث والمخطوطات المتعلقة بالمسجد الأقصى المبارك والقدس وفلسطين. وإحياء تراث العلماء المتعلقأ بالمسجد الأقصى المبارك والقدس وفلسطين. وكان كتابُ " الآيَاتُ البَيِّنَات في قِصَّةِ الإسْراءِ بسَيِّدِ أهْلِ الأرضِ والسماوات " للشيخ ابن النجار الشافعي الدمشقي الصالحي المتوفى سنة 942 هـ أولَ الغيث في هذا المشروع، وهذا هو الكتابَ الثاني: " هدايةُ الأحاديثِ النَّبويَّة إلى مكارمِ الأخلاقِ الحميدةِ الزَّكيَّة " لعالمٍ مقدسي هو الشَّيخ الإمام يوسف الصِّدِّيق بن أسعد الإمام الحُسَيْنيّ الشافعي مفتي الشَّافعيَّة بالقدس الشَّريف وإمامهم بالمسجد الأقصى المبارك المتوفى سنة 1321هـ. واشتمل الكتاب على ستمئة حديثٍ نبويٍ قصيرٍ من أحاديث الأخلاق والمعاملة بين الناس مع شرحها بإيجاز. قال المصنف رحمه الله في مقدمة كتابه: "يقول العبدُ الضَّعيفُ، يوسُف الصِّدِّيق الحسيني، إمام المسجد الأقصى الشَّريف، ومفتي الشَّافعية بالدِّيار القُدْسِيَّة: إنّ الله جلّ وعلا قد أرسل نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ﴿ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33] ، وقد جعل خيَّر الدُّنيا والآخرة في امتثال أمره، وَالتَّأَسِّي بفعله، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31] ، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] ، وقد أخذ بها، وحضَّ أمَّته بالأحاديث الشريفة على التَّحلِّي بالأخلاق الكريمة، والتَّخلِّي من جميع الأفعال القبيحة والصفات الذميمة، وكنتُ أودُّ أن أرى من كتب الأحاديث كتابًا مختصًا بجمع الأخلاق الحميدة في المعاملات، وآداب المعاشرة الخاصَّة والعامَّة، وما يُشكر من الصِّفات في العادات؛ فبقيت مدّةً باحثًا ومفتّشًا فلم أقف على ذلك، مع كثرة سؤالي ممَّن له معرفة وخبرة بتلك المسالك". وقد أخذ المصنفُ رحمه الله تلك الأحاديث من كتاب "(كنز الحقائق في حديث خير الخلائق) للإمام العالم العلّامة، والحافظ المحدِّث المدقِّق الفهَّامة، شيخ الإسلام، بركة الأنام، من عجز عن حصر ثنائه الراوي، الشيخ عبد الرؤوف المناوي، فيا له من كتاب فريد لطيف جليل المقدار، جمع فيه الأحاديث التي جاءت في غاية الاختصار، مرتَّبًا على حروف المعجم، حوى زهاء عشرة آلاف حديث في عشرة كراريس؛ أمرني - أي الوالي التركي على القدس: محمَّد رؤوف شريف باشا - إذ ذاك أن ألتقط الأحاديث الصحيحة والحسنة من هذا الكتاب، وأن أختار منها ما كان مشتملًا على مكارم الأخلاق ومحاسن الصِّفات والآداب، وأجعله كتابًا عميم الفائدة، كثير العائدة". ثم قال المصنف رحمه الله: "وبعد أن جمعتها في رسالة شرحتها شرحًا لطيفًا تقرُّ به العين، غير مطوَّل ولا مختصر، بل بَيْنَ بَيْنَ، وعند كلِّ حديث أذكر ما ورد في (الجامع الصغير) للعلامة النِّحرير، إمام من ألَّف وصنَّف، شيخ المسلمين، الحافظ المجتهد جلال الدِّين السيوطي بلفظ: (وقد وافق) إن كان موافقًا، وإنْ خالفه: أذكر روايته بنصِّها، ومنْ نُسبت إليه، وأصفُ الحديث إنْ كان منْ قسم الصَّحيح أو الحسن، معتمدًا على ما ذكره الأفاضل النُّقَّاد في كلِّ زمن، ولخَّصت منه ستمئة حديث، وسمَّيته: (كتاب هداية الأحاديث النَّبويَّة إلى الأخلاق الحميدة الزَّكيَّة)". وقد اعتمد د. "حسام الدين عفانة" في تحقيق هذا الكتاب على نسختين خطيتين: الأولى من محفوظات مكتبة الشيخ محمد أسعد الإمام رحمه الله الواقعة في المدرسة الأمينية في باب الملك فيصل من أبواب المسجد الأقصى المبارك. والثانية من محفوظات المكتبة الخالدية في القدس الشريف. وقد شارك بجزءٍ من هذا العمل - إلى جانب الباحثين السابقين - الشيخ " خضر علي منصور "، بكالوريوس فقه وأصول وطالب في مرحلة الماجستير. والمحقق هو د. " حسام الدين موسى عفانة " فقيه ومفتي وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس، وصاحب سلسلة " يسألونك " الفقهية، والمشرف العام على شبكة " يسألونك ". حصل على شهادة الماجستير في الفقه والأصول، بتقدير جيد جدًا، من كلية الشريعة في جامعة أم القرى في عام 1982م. ثم درجة الدكتوراه في الفقه والأصول، بتقدير جيد جدًا، من كلية الشريعة في جامعة أم القرى سنة 1985م. له العديد من المؤلفات والأعمال العلمية: • سلسلة يسألونك. • الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير). • بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه). • الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب). • أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب). • بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب). • صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب). • المفصل في أحكام الأضحية (كتاب). • شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق). • فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي. • الفتاوى الشرعية بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي). • الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث) • الزواج المبكر (بحث). • الإجهاض (بحث). • مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب). • مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب). • إتباع لا ابتداع (كتاب). • بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق). • رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق). • الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب). • أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب) • التنجيم (بحث بالاشتراك). • الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك). • المفصل في أحكام العقيقة (كتاب). • فقه التاجر المسلم وآدابه، وقد ترجم د. ثروت بايندر من جامعة إسطنبول الكتاب إلى اللغة التركية. • يسألونك عن الزكاة (كتاب). • يسألونك عن رمضان (كتاب). • بيع المرابحة المركبة كما تجريه المصارف الإسلامية في فلسطين (بحث). • يسألونك عن المعاملات المالية المعاصرة الجزء الأول (كتاب). • مرجعية الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية (بحث). • التأمين الإسلامي (التعاوني أو التكافلي) (بحث). • المسجدُ الأقصى المبارك فضائل وأحكام وآداب.
الاستشراق والرسول صلى الله عليه وسلم [1] (الإعلام والسيرة) بعد الهجوم الذي تعرَّض له نبي الهدى سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من بعض المؤسسات الدينية والإعلامية المشهورة في المجتمع الغربي، لا سيما بعد الأحداث الأخيرة (الحادي عشر من سبتمبر 2001م الموافق 22 / 6 / 1422هـ)، ومن بينها الرسوم الهزلية ( الكاريكاتورية ) في صحيفة دانمركية، ومسابقة الصور الهزلية في صحيفة أخرى، ثم محاضرة راعى الكنيسة الكاثوليكية الحالي في الفاتيكان التي ألقاها في ألمانيا، بعد هذه الهجومات يهبُّ علماء الأمة الإسلامية وقياداتها الدينية والفكرية والسياسية والإعلامية لمخاطبة المجتمع الغربي باللغة التي يَفهمها ذلك المجتمع؛ من خلال عدد من المواقف الرسميَّة والشعبية؛ ومنها ما أعلن عن عقد المؤتمرات والندوات والمحاضرات واللقاءات بشخصيات غربيَّة لها وزنها العلمي والفكري والاستشراقي والسياسي والإعلامي، ومن وجوه النَّشاط هذه المؤتمرات التي تسعى إلى نصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقد عقد المؤتمر الأول للَّجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء في لندن بالمملكة المتحدة؛ حيث بسط المؤتمرون الصورة الواضحة للحبيب صلى الله عليه وسلم للإعلاميِّين والمفكرين والمستشرقين، للتعرف على الشمائل والأخلاق النبوية. تَبع هذا المؤتمرَ مؤتمراتٌ أخرى في أوربا وأمريكا لتوضيح الحقائق، وبالتالي فإن المؤتمر الأول خرج بعدة توصيات مهمة تصبُّ في الرغبة الملحَّة في مخاطبة القوم بالطريقة التي تقنع الناس هناك، ومن خلال حملة مكثَّفة يشترك فيها العلماء المسلمون والمفكرون والأئمة والخطباء ورؤساء المراكز الإسلامية والقائمون عليها من غير رؤسائها. ناشد المؤتمرون وزارات التربية والتعليم في العالم الإسلامي والقائمين على التعليم الإسلامي في الغرب بأن يُعطوا سيرةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته العنايةَ المستحقة بين التلاميذ والطلاب من الذكور والإناث، كما ناشَد المؤتمرون وزارات الإعلام وما في حكمها والقنوات الفضائية لإعداد البرامج الإعلامية حول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بما في ذلك أساليب الاتصال الإلكترونية؛ من البريد وشبكة المعلومات الدولية. شارك في هذا المؤتمر حضوريًّا أو صوتيًّا أو كتابيًّا نخبةٌ من علماء الأمة ومفكريها، الذين بدت عليهم الشمولية من حيث الاهتمامات والتخصصات والرقعة الجغرافية شرقًا وغربًا [2] . هذه الجهود خطوة موفَّقة - بإذن الله تعالى - في الطَّريق الصحيح، لإزالة هذا الجهل بالإسلام ونبي الإسلام محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي قيل فيه عليه الصلاة والسلام ما قيل مما هو منه براء، هذه الخطوة المباركة هي مِن أقلِّ ما يمكن أن يسهم فيه علماء الأمَّة ومفكِّروها وساستها وقياداتها في هذا المجال؛ إذ إنَّ السيرة العطرة مسؤولية كل مسلِم في إجلائها، أولًا للمسلمين أنفسهم ثم للآخر من غير المسلمين. اطلعتُ على مجريات المؤتمر الأول لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، من حيث التوقيت والمكان والتوصيات التي بلغت إحدى عشرة توصيةً؛ خمس منها استهلَّت بالمناشَدة، وثلاث بالحث، واثنتان بإقامة مؤتَمرات، وواحدة بإنتاج شريط، يعرض ملخصًا تاريخيًّا للسيرة العطرة، والمناشَدة والحث متفهَّمان في مؤتمر أو ندوة أو مُحاضَرة. تأتي المناشَدات الخمس وكذلك الثلاث بالحثِّ؛ لأنَّ اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم لا تملك إلا ذلك، لا سيما إذا كان الأمر يتعلَّق بجهات حكومية؛ كوزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف ووزارات الإعلام والوكالات والمؤسَّسات الإعلامية في العالم الإسلامي. تلقيتُ من الأستاذ المهندس سليمان بن حمد البطحي وكان يشغل مهمة الأمين العام للجنة العالمية - رسالةً مؤرخة في 7 / 10 / 1423هـ الموافق 11 / 2 / 2002م، ضمنها نسخة من التوصيات الإحدى عشرة، ونسخة من تقرير اللَّجنة العالمية، جاء فيه أن اللجنة - رغم قصر عمرها الذي لم يتجاوز شهرين - قد حقَّقت الإنجازات الآتية: • أنشأت اللجنة موقعَين على شبكة الإنترنت؛ لاستقبال المشاركات والمقالات والمؤلفات الخاصة والردود على بعض الشبهات، وتوزع نشرةً إلكترونية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، والموقعان هما: ( www.icsfp.com ) للموقع الإلكتروني باللغة العربية، و( www.whmuhammad.com ) للموقع باللغة الإنجليزية. • عقد المؤتمر الأول في لندن، وقد سبق الحديث عن هذا المؤتمر وعن توصياته باقتضاب في هذه الوقفة. • اتفقت اللجنة مع الأستاذ الدكتور ( البروفيسور ) محمد مهر علي رحمه الله تعالى على تأليف كتاب أكاديمي عن سيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم باللغة الإنجليزية؛ يوزع على المفكِّرين، والجامِعات، والمراكز الأكاديمية، ومراكز الاستشراق في العالم. • أصدرت اللجنة مطبوعةً شهريَّة تُعرِّف بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتردُّ على بعض الافتراءات باللغة الإنجليزية، وعنوان النشرة هو الرسالة الخاتمة، وتوزَّع مرحليًّا في أمريكا الشمالية وأروبا. • أعادَت اللجنة صفَّ كتاب السيرة للشيخ: "أبو الحسن علي حسني الندْوي" رحمه الله تعالى وعنوانه: النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقامت اللجنة بتحريره، وسيُطبَع ويوزَّع على الجامعات والمعاهد الغربية والمراكز الإسلامية في الغرب. • أجرَت اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم الترتيبات لعقد المؤتمر الثاني الذي عقد في تورنتو بكندا بعنوان: على هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث دعت اللجنة له ثلَّة من العلماء وطلبة العلم، وعددًا من المفكِّرين ورجال الدين من غير المسلمين للحضور والمشارَكة. تؤكِّد اللجنة على أن مهمَّتها هذه "مناطة بكل مسلم محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعليه فإنها ترحِّب وتسعَد "بأيِّ مشارَكة من إخواننا المسلمين في شتَّى بقاع الأمة، ممَّن يتقاسَمون معنا هذا الهم المشترك"، وتأمل اللجنة أن يقوم العلماء والدعاة بدورهم في تعريف العالم بسيد المرسلين نبي الرحمة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم والذب عن عرضه الطاهر، ولا تلتمس اللجنة لأحدٍ العذرَ في التقصير في ذلك. اطلعت على البيان الختامي لمؤتمر اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم الثالث، الذي عُقد في أزهر البقاع في لبنان بتاريخ 26 - 27 / 7 / 1424هـ الموافق 23 - 24 / 9 / 2003م، وقد ظهر هذا البيان صدًى لما أُلقي في هذا المؤتمر من محاضرات، قادها نخبة من أتباع سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فكان هناك طرح حول الموضوعات الآتية: • حقيقة شهادة أنَّ محمدًا رسول الله. • حقُّ النبي صلى الله عليه وسلم علينا في هذا الوقت. • وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين / حاجتنا للرسالة المحمدية. • مواقف دعوية من السيرة النبوية. • النساء في حياته صلى الله عليه وسلم. • الجانب الإنساني في حياته صلى الله عليه وسلم. • كيف نقدِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم للأُمم. • شهادة أعداء النبي صلى الله عليه وسلم له. • قواعد في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. • علاقة الرسالة المحمدية بالرسالات السابقة. • واجب النصرة: الأسباب والوسائل. في ضوء هذه الطروحات الثلاثة عشر التي تصدَّى لها ثمانية من علماء الأمة ومشايخها، ظهرت اثنتا عشرة توصية تُترجم ما طرح من موضوعات لنصرة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام؛ منها: • أن سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وخاتم النبيين وسيد الخلق أجمعين. • أن حقيقة شهادة أن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم رسول الله هي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألَّا يُعبد الله تعالى إلا بما شَرَعَ، وأن يُحبَّ ويُجلَّ ويوقَّر. • أن تثبيت الإيمان بنبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا وقلوب عموم المسلمين إنما يتمُّ بنشر سنَّته بين الناس، وحفظها، والتفقُّه فيها، وتعليمها، والعمل بها، ورد الشبهات المثارة حولها، وذلك كله بعد الشهادتَين. • أنَّ الله تعالى قد بعث محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم رحمةً للناس، مما يجعَل الحاجة مُلحَّةً في هذا العصر إلى الحكم الإلهي ذي النهج المُحمَّدي، الذي يكفل للناس حقوقهم الدينية والدنيويَّة، والرحمة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام تشمل الأفرادَ والمجتمعات في كل مكان وزمان. • أن ما جاء به خاتَم الأنبياء وسيد المُرسَلين صلى الله عليه وسلم إنما هو دين تشهد له الفطرة والعقل الصحيح؛ وبهذا فهو يَصل إلى القلوب إذا وفق إلى مَن يَملك أدوات إيصاله إليها ويصل إلى العقول بالطرُق العلمية الصحيحة المُقنعة. • أن سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بشقائق الرِّجال خيرًا في أكثر من مقام، لا سيما في خطبة الوداع، وجزء مِن ديننا الحنيف قد نُقل إلينا عن طريق شقائق الرجال أمهات المؤمنين وزوجات الصحابة عليهنَّ رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق ينظر الإسلام إلى المرأة وحقوقها؛ فمهمة الدعوة إلى هذا الدين شامِلة للرجال والنساء. • أنَّ أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم تجسِّد إنسانيته؛ من حيث تعامله صلى الله عليه وسلم مع الكبير والصغير، والقريب والبعيد، والعدوِّ والصديق، والرجل والمرأة، بل مخلوقات الله الأخرى؛ كالشجر والطير والحيوان بعامَّة، وهو صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله تعالى واليومَ الآخر. • أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم قد تعرَّضَت للتشويه من قبل بعض الغربيين من المستشرقين والإعلاميين؛ حيث تُسخَّر كثير من قنوات الاتصال لتشويه صورته - بأبي هو وأمي - مما يستدعي التصدي لذلك بالسلاح نفسه وباللغة نفسها مع العدل في ذلك كله رغم الشنآن، فالإسلام انتشر كذلك بالإعلام، حسب مفهومات العصور للإعلام، ناهيك عن ردِّ الشبهات وإنصاف السيرة العطرة. • أن مِن وسائل التصدي لهذه الحملات هو تمثُّل سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وإحياؤها عبر الوسائل المتاحة. • ينبغي عدم إغفال الشهادات على رسالة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، فضلًا عن أقرب الناس إليه ومحبِّيه والمؤمنين به، وينبغي تتبع هذه الشهادات وإبرازها للناس كافة [3] . • التوكيد على أنَّ أصول الرسالات واحدة، قامت على أساس التوحيد والإيمان بالرسل عليهم السلام، وأنها بشَّرَت برسالة سيد المُرسلين صلى الله عليه وسلم، وأمرت باتباعه والتصديق به وتحرِّي دعوته، فاتَّسمت هذه الرسالة بهذه الخصوصية والفضل والتمام والنسخ لما قبلها من الرسالات [4] . • أنَّ الدفاع عن سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يستلزم وقفة موحدة تلتقي على ذلك؛ حيث يوفر أعداء المصطفى عليه الصلاة والسلام هذه الفرصة لمحبِّيه ومتبِّعيه فينبغي عدم تفويتها. • كانت تلك أبرز توصيات هذا اللِّقاء الذي ينتظر تكراره في زمان آخر ومكانٍ آخر وبمشاركين آخرين من علماء الأمة ومثقفيها ودعاتها ومفكِّريها؛ إذ لا تزال الإمة بخير ما دام هناك من يقف لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. الخلاصة والنتيجة: تتعرَّض سيرة المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم لحملات متتالية منذ البعثة المحمدية، ويتَّكئ الهجوم على رسول الله على أساليب مختلفة، بحسب مَن يتولى هذا الهجوم، والاستشراق في هجومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق من إنكار أنه نبي مرسل، ومِن ثمَّ إنكار الوحي، وأن ما جاء به مما يسميه المسلمون بالقرآن الكريم إنَّما هو من تأليفه، وأعانه عليه قومٌ آخَرون. يُسهم الإعلام اليوم في الحملة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَستقي في هذه الحملات من إسهامات المستشرقين في الموقف من النبوة والبعثة والسيرة، ولا بد من إدراك هذا الارتباط بين الاستِشراق والإعلام، كما وجد ذلك الارتباط من قبل بين الاستشراق والتنصير من جهة، وبين الاستشراق والاستعمار من جهة ثانية، وبين الاستشراق والأدب من ناحية ثالثة، وأنَّ الاستشراق يمثِّل قاعدة المعلومات لهذه التيارات بما فيها الإعلام، لا سيما في ذلك الجانب السلبي للاستِشراق. يعني هذا أنَّ هناك جوانب استشراقيةً إيجابيةً كانت لها مواقف مُنصفة من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكاد توجد لدى بعض المستشرقين من غير المُنصفين، مما يعني أنه يوجد لدى المستشرقين غير المنصفين وقفات إنصاف، كما أنه قد يوجد لدى المستشرقين المنصفين وقفات غير منصفة، وهذا يعني أنه في حال التعرُّض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة تتغير المواقف، ويكاد هذا الموقف يكون حكمًا عامًّا في الاستشراق، مما ينعكس على الرؤية الإعلامية الغربية تجاه شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. المهم في نهاية هذه الوقفات أنه مع التوكيد على التصدِّي لهذا الهجوم المتواصِل على رسول الهدى، لا بدَّ مِن التوكيد على استثمار الجانب المشرق والإيجابي الناتج عن هذا الهجوم المستمر والمُتجدِّد، ويتمثَّل هذا الاستثمار في مسارات عدة، ومنها: • المزيد من التفات المسلمين أنفسهم إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدراسة والبحث، والوصول بها إلى غير المسلمين بلغاتهم؛ لبيان الصورة الحقيقية لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام. • العمل على ذلك بروح الفريق، من خلال وجود هيئات حكومية وجمعيات غير حكومية، يقودها ثلَّة من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكورًا وإناثًا، ممَّن لهم سبق علمي في علم السنَّة والسيرة النبوية، والعمل على ترجمة السيرة النبوية بأيدي المنتمين إليها، وكذا ترجمة البحوث والدراسات حول السيرة النبوية إلى اللغات الأخرى. • فتح مجال الحوار بصورة أوسع، وبخطًى واثقة من قِبَل المسلمين مع المستشرقين والإعلاميين الغربيين ومَن في حُكمهم من الشرقيين، ممَّا يحقِّق مفهوم الندِّية في الحوار مع الآخر، والذهاب إليهم في مواقعهم؛ لمناقشتهم وجدالهم بالتي هي أحسن، ومحاججتهم بسلاح المعرفة المقرونة بالحكمة والموعظة الحسنة، على اعتبار أنَّ هذا الموقف موقف دعوي، أكثر من كونه موقفَ تصادم، فليس هذا هو المقصود من وراء هذه الأساليب، بقدر ما يقصد منها إقامة الحجة وبراءة الذمَّة. • أدَّت هذه الحملات المتوالية إلى إقبال الغربيين على المزيد من دراسة الإسلام والبحث عن الكتابات المُنصِفة عن الإسلام، ودراسة ترجمات معاني القرآن الكريم، ومِن ثمَّ المزيد من التوجه في دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مِن قِبَلهم، مما يؤدِّي إلى إعادة الموقف من الإسلام ومن نبيِّ الإسلام، وبالتالي الوصول إلى المزيد من الإقبال على الإسلام. • الترحيب بالمواقف الإيجابيَّة لبعض المستشرقين والإعلاميين الغربيين - ومَن في حكمهم من الشرقيِّين - من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوظيف هذه المواقف في مَصلحة الدِّفاع عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من خلال معرفة المنصفين وإشراكهم في المؤتمرات والندوات واللقاءات والحوارات التي تكثَّفَت بين المسلمين في الآونة الأخيرة، وتشجيعهم على الاشتراك في مؤتَمرات، وندوات غربية ذات علاقة بالسيرة النبوية، وتزويدهم بالبحوث والدراسات المُتتابعة، وما يتمُّ من ترجمات موثوقة لسيرة نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، يتزوَّدون بها في بحوثهم ومناقشاتهم. [1] نُشر هذا البحث في: مجلة الجامعة الإسلامية (المدينة المنوَّرة)، عدد (1429هـ / 2008م). [2] أشار إلى ذلك المهندس سليمان بن حمد البطحي، المنسِّق العام السابق للَّجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء، في تصريح لجريدة الرياض، نشرته في عددها ذي الرقم 12562، والتاريخ 10 / 9 / 1423هـ - 15 / 11 / 2002م. [3] سعى عماد الدين خليل إلى تتبُّع هذه الشهادات عن الإسلام عمومًا، والسيرة من بينها، انظر: مُحمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص (91 - 145)، في: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام، الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412هـ / 1992م، 504 ص. [4] انظر: أحمد زكي: مُحمَّد رسول الله صلى الله عليه وسم في الإنجيل والتوراة: دراسة علمية منهجية / تقديم: عبدالرحمن عبدالخالق والسيد نوح وسالم البهنساوي، القاهرة: مكتبة عباد الرحمن، 1425هـ / 2004م، 109 ص.
نهج الطالب لأشرف المطالب للجوهري الصغير صدر حديثًا كتاب "نهج الطالب لأشرف المطالب"، تأليف: الإمام "محمد بن الجوهري الصغير" (ت 1215 هـ)، تحقيق: د. "بشار قدوري"، نشر: "دار المعراج للنشر والتوزيع". وكتاب "نَهْجُ الطَّالِبِ " لِلإِمَامِ "محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الكريم الجوهري" المشهور بـ"ابن الجوهري" و"الجوهري الصغير"، هو مختصر وضعه "ابن الجوهري" على كتاب "منهج الطلاب" لشيخ الإسلام "زكريا الأنصاري"، والذي هو بدوره تلخيص لكتاب "منهاج الطالبين وعمدة المفتين" للنووي، مع إضافات وزيادة تقسيمات، مع وضوح لفظه وجزالة عبارته مما جعله متداولًا بين العلماء وطلبة العلم حفظًا وشرحًا ونظمًا . وهو في فروع مذهب الإمام الشافعي، ونجد أن "منهاج" النووي ذاته هو شرح على (الْمُحَرَّر في فروع الشافعية) في الفقه الشافعي للإمام أبي القاسم الرافعي المتوفى سنة (623 هـ) والذي قال النووي عنه وعن مؤلفه: (ذِي التَّحْقِيْقَاتِ، وَهُوَ كَثِيْرُ الْفَوَائِدِ؛ عُمْدَةٌ فِي تَحْقِيْقِ الْمَذْهَبِ؛ مُعْتَمَدٌ لِلْمُفْتِي وَغَيْرِهِ مِنْ أُوْلِى الرَّغَبَاتِ؛ وَقَدِ الْتَزَمَ مُصَنِّفُهُ رَحِمَهُ الله عَلَى مَا صَحَّحَهُ مُعْظَمُ الأَصْحَابِ وَوَفّى بِمَا الْتَزَمَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أَوْ أَهَمُّ الْمَطْلُوبَاتِ) . ويعد متن "منهاج" شيخ الإسلام النووي على "المحرر" من أحسن المتون وأدقها، وهو العمدة في الفتوى، عكف عليه العلماء الأعلام تدريسًا وشرحًا، وكان عليه مدار تدريس العلماء الشافعية في مصر وغيرها من البلاد التي التزمت المذهب الشافعي في تحرير فتاويها. يقول "الجوهري الصغير" في مقدمة شرحه: "هَذَا مُخْتَصَرُ أَلْفَاظٍ التَقَطُّهَا؛ وَخَلَاصَةُ أَحْكَامٍ لَخَّصْتُهَا مِنْ مَتنِ (مَنْهَجِ الطُّلَاب) ، ضَامًّا إِلَيهَا مَا يَسُّرُ أُولِي الأَلْبَابِ؛ وَسَمْيتُهُ: (نَهْج الطَّالِب لِأَشْرَفِ المَطَالِبِ) مُلْتَزِمًا مَا فِيهِ مُعْتَمِد الشَّمْس الرَّمْلِيّ، وَإِنْ خَالَفَ (المَنْهَجُ) وَ (المِنْهَاجُ) الأَصْلِيّ، رَاجِيًا مِنْ وَلِيِيّ الإِخْلَاص وَالتَّوفِيق وَسُلُوكِ سَبِيلِ الفَوزِ بِأَقْوَم طَرِيقٍ". وبذلك يحدد "ابن الجوهري" منهجه في اختصاره في اعتماده أقوال وتقريرات الإمام "شمس الدين بن شهاب الدين الرملي المنوفي المصري الأنصاري" المشهور بالشافعي الصغير من علماء القرن العاشر الهجري، ولقبه البعض بمجدد القرن العاشر، ووالده هو شهاب الدين الرملي الذي اشتغل بالفقه والتفسير والنحو، ولشمس الدين الرملي "نهاية المحتاج شرح المنهاج" شرحَ به "منهاج الطالبين" للنووي أيضًا. وقد قام المحقق بتحقيق هذا الشرح الهام مع التقدمة له بترجمات مفيدة لأعلام هذا الشرح، مع المقابلة على أصوله الخطية وأصل أصله، مع الإلحاق في الهامش بأقوال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري والنووي. مع إثراء المتن بالتعليقات التي تشرح وجه المسألة، وبيان أقوال الأئمة الشافعية المختلفة في تلك المسائل مع إثبات المعتمد في المذهب. وللكتاب عدة نسخ خطية موزعة في أماكن شتى وهي: • نُسْخَةٌ بخط الشارح سنة 1199هـ/1784م، 949 ورقة. • نُسْخَةٌ كتبت سنة 1199هـ/ 1784م الوطنية باريس 1049 - 432 ورقة. • نُسْخَةٌ من أربعة أجزاء كتبت سنة 1200هـ/ 1785م، بآخرها مقابلة عَلَى الشارح الأزهرية 588 ورقة. • نُسْخَةٌ من جزءين كتبهما أحمد أبو الفضل الجويلي 2555 354، 333 ورقة. • نُسْخَةٌ كتبها عبد الحي بن محمد الشبيني سنة 1203هـ/ 1788م الأزهرية 2552 463. • نُسْخَةٌ من أربعة أجزاء فِي مجلدين كتبت سنة 1206هـ/ 1791م الأزهرية 2553 421، 378 ورقة. • نُسْخَةٌ فِي مجلدين كتبهما عبد الفتاح محمد الدّلجي سنة 1256هـ/1840م الأزهرية 198 ورقة. • نُسْخَةٌ فِي مجلدين كتبهما محمد بن علي سنة 1275هـ/1858م الأزهرية 307، 286 ورقة. • نُسْخَةٌ فِي مجلدين كتبهما حسن الصفتي سنة 1275هـ/ 1858م الأزهرية 359، 330 ورقة. • نُسْخَةٌ تضم الجزءين الأول والثاني فِي مجلدين الأزهرية 915 237، 321. • نُسْخَةٌ من أربعة أجزاء فِي مجلدين الأزهرية 2556، 339 ورقة. • الجزء الأول الأزهرية 2557، 247 ورقة. والشارح هُوَ: العلامة أبو هادي محمد بن شهاب الدين أحمد بن حسن بن عبد الكريم بن محمد بن يوسف بن كريم الدين الكريمي الجوهري الصغير الخالدي الشافعي. الجوهري لأن جده كان يبيع الجوهر؛ أي: الذهب. وُلِدَ: سَنَةَ 1151هجريًا؛ وحج مع والده إلى أرض الحرمين لطلب العلم سنة ثمان وستين. تَفَقَّهَ عَلَى: • جده الشيخ حسن بن عبد الكريم الجوهري اللغوي. • والده الفقيه الشيخ شهاب الدين أحمد بن حسن بن عبد الكريم الجوهري الكبير القارئ ولد سنة 1096 هـ، توفي 9 جمادى الأولى سنة 1182 هـ. • الشيخ السيد عبد الله الميرغني. • الشيخ عبد الله بن سالم البصري. • الشيخ خليل المغربي. • الشيخ محمد الفرماوي. • الشيخ الملوي. • الشيخ عطية الأجهوري. • الشيخ علي الصعيدي. • الشيخ عيسى البراوي. • الشيخ حسن الجبرتي. • الشيخ شمس الدين الإطفيحي؛ وغيرهم. تَفَقَّهَ عَلَيهِ: • مفتي زبيد أبو المحاسن سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل الزبيدي ت1197هـ. صَنَّفَ عددًا من المصنفات في العقائد والفقه وأصوله واللغة والحديث هي: • لطائف التوحيد على منقذة العبيد؛ شرح عقيدة والده. • الدر النظيم فِي تحقيق الكلام القديم. • شرح العقائد النسفية. • نظم العقائد النسفي. • خلاصة التوحيد فيما يجب معرفته على العبيد. • بارقة التمهيد لفهم خلاصة التوحيد. • القول المفيد على خلاصة التوحيد. • اللمعة الألمعية في قول الشافعي بإسلام القدرية. • رسالة في تعريف شكر المنعم. • الروض الأزهر في حديث من رأى منكم منكر. • القول الموفي في تحقيق الشكر العرفي. • امتثال الإشارة بشرح نتيجة البشارة. • القول الفاخر في تعلق علم الله بأن نعيم الجنة ليس له آخر. • حاشية عَلَى (شرح منهج الطلاب) . ويحتمل عندي أن ما ظنوه حاشية على المنهج، هي حاشية على الإتحاف. • اختصر (منهج الطلاب) لشيخ الإسلام؛ سَمَّاهُ: (نهج الطالب لأشرف المطالب) . • شَرْح عَلَى اختصاره، سَمَّاهُ: (إتحاف الراغب عَلَى منهج الطالب) . • وله حاشية على الإتحاف. • حاشية على شرح ابن قاسم وصل فيه إلى البيوع. • تقرير على المعجم الوجيز للسيد ميرغني. • الروض الوسيم في المفتى به من المذهب القديم. • إتحاف الأحبة فيمن سأل عَنْ الضبة. • ثمرة غريس الاغتناء بتحقيق أسباب البناء. • الدر المنثور في الساجور. • رسالة في زكاة النابت. • ملحة لطيفة ومنحة شريفة في كيفية إثبات شهر الصيام. • رسالة في أركان الحج. • إيضاح المبهم في بيان الربوي وقاعدة مد عجوة ودرهم. • رسالة في مسألة الغصب. • رسالة في مسألة ذوي الأرحام. • حلية ذوي الأفهام بتحقيق دلالة العام. • أزهر الأفهام في تحقيق الوضع وما له من الأقسام. • مرقى الوصول إلى معنى الأصولي والأصول. • إتحاف الكامل ببيان تعريف العامل. • تحقيق الفرق بين علم الجنس وبين اسمه. • إتحاف الطرف في بيان متعلق الظرف. • إ تحاف أولي الألباب بشرح ما يتعلق بشيء من الإعراب. • إتحاف الرقاق لبيان أقسام الاشتقاق. • شرح لامية أبي العباس الجزائري. • شرح نظم البسملة للأجهوري. • الجواهر البهية على حديث الرحمة المسلسل بالأولية. • أربعون حديثًا تتضمن ترك الظلم. • آثار التنوير بشرح الحزب الكبير. توفي: سنة 1215 هجريًا.
تخريج الفروع على الأصول من كتاب الإقناع لأحمد سعد جاويش صدر حديثًا كتاب "تخريج الفروع على الأصول من كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" للخطيب الشربيني جمعًا ودراسة"، تأليف: "أحمد سعد جاويش"، نشر: "دار العلا للنشر والتوزيع". وتعد هذه الدراسة أطروحة في أصول الفقه، في بيان بعض أصول وتطبيقات علم تخريج الفروع على الأصول، فعلم تخريج الفروع على الأصول من العلوم الجليلة، التي ربطت علم الأصول بعلم الفقه، فهو حلقة الوصل بين هذين العلمين الشريفين، وبه يستفيد الفقيه من القواعد الأصولية على الوجه الأكمل، ويرى الأصولي فيه ثمرة تحقيقه للقواعد الأصولية. واختيار كتاب "الإقناع" لهذه الدراسة جاء لأجل أن هذا الكتاب يُعدُّ من أهم كتب المذهب الشافعي المعتمدة عند المتأخرين، وذلك لمكانة "الخطيب الشربيني" في المذهب الشافعي، فهو من العلماء الخمسة الذين يدور عليهم معرفة المعتمد في المذهب عند المتأخرين, ثم إن الأزهر الشريف قد اعتمد تدريس هذا الكتاب على طلبة الثانوية الأزهرية، مما ساعد في انتشار الكتاب والاعتناء به عند العلماء وطلبة العلم الشافعيين؛ وذلك لمكانة الأزهر وانتشار خريجيه وعلماءه في ربوع العالم. و"الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" كتاب في الفقه للشيخ "شمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني" (ت 977هـ) شرح فيه متن "الغاية والتقريب" المعروف بـ"متن أبي شجاع"، في فقه السادة الشافعية، في أسلوب ميسر وعرض رائع، وفوائد علمية ولغوية وأدبية، بالإضافة إلى موضوعه الفقهي. فتخريج الفروع على الأصول من كتاب "الإقناع"، يُعدُّ إضافة حقيقية للمذهب الشافعي بصفة خاصة والفقه الإسلامي بصفة عامة. وكان منهج الكتابة في البحث: 1) استخراج الفروع الفقهية التي بُنيت على قاعدة أصولية من كتاب (الإقناع)، سواء في ذلك ما نص عليه الخطيب الشربيني أو ما لم ينص عليه. 2) توثيق القاعدة الأصولية التي خرج لها الخطيب: فروعًا في كتاب (الإقناع) من كتب الأصول، وذكر محل النزاع، وأهم الأقوال في المسألة، مبتدئًا بالقول الذي مشى عليه الخطيب الشربيني - غالبًا -، مع إبراز أدلة القول الذي مشى عليه، ولا يزيد في ذلك على ثلاثة أدلة. 3) يقدم - غالبًا - في نسبة الأقوال إلى أصحابها المذهب الحنفي فالمالكي فالشافعي ثم الحنبلي؛ اعتمادًا على ترتيبهم الزمني في الظهور، وإن كان القائل عند الحنفية - مثلًا - متأخرًا عن القائل بها عند المالكية. 4) ألحق الكاتب ببعض المسائل تنبيهات تتعلق بها؛ دعت الحاجة إلى ذكرها وبيانها. 5) ذكر الكاتب الفروع التي خرجها "الخطيب الشربيني" على هذا الأصل، مرتبة حسب ترتيبها في الكتاب. 6) لم يزِدْ في ذكره لهذه الفروع عن خمسة فروع، وإن وجدَ أصلًا لم يُخرِّج عليه الخطيب خمسةً من الفروع، ووجدَ عنده تخريجًا له في كتابه الآخر (مغني المحتاج)؛ ذكره تتميمًا للفائدة. 7) ذكرَ على رأس كل فرعٍ فقهيٍّ عنوانًا موجزًا له. 8) ذكرَ وجه ارتباط الفرع بالقاعدة، لا سيما إن لم ينص الخطيب عليه، وتركه عند تصريحه ببنائه عليها. 9) التعليق على بعض تخريجات الخطيب على بعض القواعد التي رأى الباحث فيها عدم استيفاء الفرع لشروط الأصل. 10) إذا وجد الباحث فيما نقل من كلام الخطيب أو غيره إبهامًا لما يعود عليه الكلام؛ بيَّنه داخل هاتين المعقوفتين [ ]. 11) ختمَ الكاتب البحث بخاتمة ذكر فيها أهم النتائج والتوصيات. ونجد أن كثيرًا من مؤلفات علم أصول الفقه اتَّجهت إلى تقرير الجانب النظري دون التطبيقي، بمعنى أنهم يهتمون بتقرير القاعدة الأصولية والاستدلال لها ودفع الاعتراضات الواردة عليها، دون الاتجاه إلى تقرير الأمثلة التي توضح القاعدة وتبين كيفية استخدامها، بحيث يظهر ارتباط القاعدة الأصولية بالتطبيقات الفقهية. وفي هذه الدراسة إسهامٌ بإثراء علم أصول الفقه بالأمثلة والتطبيقات الفقهية للقواعد الأصولية. كما أن هذه الدراسة بالنسبة للطالب في هذه المرحلة، أكثر فائدة وأعظم نفعًا؛ إذ يمرُّ من خلالها على كثير من المسائل والقواعد الأصولية مع التطبيقات العملية عليها. إلى جانب أن في إظهار جهود الفقهاء الشافعية في ربطهم الفروعَ بالأصول، والتخريج عليها، إبراز لهذا الجانب من العلم في كتب الشافعية؛ كي يستفيد منه الآخرون.
تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم لمحمد إبراهيم شادي صدر حديثًا كتاب "تأويل مشكلات التناسب في القرآن الكريم"، تأليف: "محمد إبراهيم عبد العزيز شادي"، في مجلدين، نشر: "عالم الثقافة للنشر والتوزيع" و"المكتبة الخيرية للطباعة والنشر والتوزيع". وهذا الكتاب في علوم القرآن، يهتم بالتناسب بين الآيات التي تخفى صِلاتها بما قبلها وما بعدها، من سورة البقرة إلى الناس. وقد تتبع فيه الكاتب كل المواضع التي خفي فيها التناسب بين الآيات في سور القرآن، واجتهد في تأويلها مستهديًا باجتهادات المفسرين الذين كانت لهم عناية بالتناسب في القرآن الكريم. ومن المعلوم لدى المشتغلين بالتناسب أن أوسع كتب التناسب في القرآن الكريم هو كتاب "الإمام البقاعي" المسمى "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، ومن المشتهر بين المتخصصين أن جل من كتب في التناسب غير "الإمام البقاعي" قد نثر بعض الإشارات والتعليقات عن التناسب بين آيات الكتاب العزيز، ولم يقصد إلى الاستقصاء، حتى كان الإمام البقاعي فاستقصى ذلك ووضع كتابه النفيس! غير أن الإمام البقاعي كان إلى التطبيق العملي أقرب منه للتأصيل والتقعيد لهذا العلم الجليل المرتبط بأشرف الكتب وأعظمها! لذا فقد أخذ عليه بعض العلماء والشيوخ بعض تأويلاته للتناسب في مواضع مشكِلة لم يتضح بها التناسب بين تلك الآيات! لذا كانت هذه الدراسة حيث يقتصر التناول البلاغيّ فيها على آيات معينة من كل سورة، حيث استهل الشيخ كتابه بالتأصيل والتقعيد للتناسب بين آيات الكتاب العزيز، وحل إشكالات كثيرة طالما أوقفت كثيرًا من الباحثين والشيوخ ممن رام الخوض في هذا الباب، فوضع القواعد والأصول المبنية على القواعد البلاغية في لغة العرب عمومًا، ثم أبرز ما تميز به القرآن خصوصًا، حتى أعجز فصحاء العرب عن الإتيان بمثله. ولم يستقص المؤلف بيان التناسب بين كل آية كما فعل البقاعي - رحمه الله -، حتى لا يكون كلامًا مكرورًا، وإنما استقصى المشكل منها فقط. ونجد أن الشيخ "مح مد إبراهيم عبد العزيز شادي" قام بتفسير الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن تفسيرًا كاملًا بلاغيًا، مع بيان التناسب بين الآيات والموضوعات. والمؤلف أستاذ البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية وآدابها بجامعة أم القرى، له من البحوث والدراسات: • "ثنائيات النقد العربي". • "علوم البلاغة وتجلي القيمة الوظيفية في قصص العرب". • "شرح أسرار البلاغة". • "غرائب الإعجاز والنكات في مقامات أسباب النزول". • "شرح دلائل الإعجاز". • "الحوار فى القرآن خصائصه التركيبية وصوره البيانية". • "التشبيه عند امرئ القيس - رسالة ماجستير". • "إعجاز القرآن ومنهج البحث عن التميز". • "نظرات فى أسلوب القصر والإنشاء". • "نقد الحداثة فى البلاغة والنقد الأدبى". • "خطوات البحث البلاغى والنقدى بين النشأة والمنهج". • "البلاغة الصوتية فى القرآن". • "منهج عبدالقاهر وبلاغته فى التقديم والتمثيل". • "الصورة بين القدماء والمعاصرين". • "دورالبلاغة فى تأدية الغرض الدينى مع التطبيق". • "مدخل القراءات القرآنية فى الإعجاز البلاغى". • "من وجوه تحسين الأساليب". • "أساليب البيان والصورة".
العولمة ووحدة العالم إذا كانت العولمةُ ستسعى إلى توحيد العالم حضاريًّا بفعل التقنيات الجديدة، "فلا يعني ذلك أنها ستوحِّد العالم ثقافيًّا، أو أنها ستقضي على الخصوصيات الثقافية" [1] ،ولا يمكن فصلُ الثقافة عن الحضارة، وفي هذا الصدد يقول الأمير سعود الفيصل: "مما هو مدعاة للأسف أن الفكر العربي لم يواكبْ ما حملَتْه المتغيِّراتُ الدولية المتسارعة من فرص وتحدِّيات، فبدلًا من التفاعل الإيجابي مع العولمة، انشغل بعض المفكِّرين بالتحذير من شرورها، وتهرَّب البعضُ الآخر من ممارسة النقد الذاتي والتحليل الموضوعي، في زمن نحن أحوجُ ما نكون فيه إليهما... ولعلَّ من أخطر التطوُّرات الفكرية السلبية أن يشيعَ لدى بعض العرب اليأسُ والقنوط، أو أن يستبطنوا الهزيمةَ الداخلية، فيروِّجوا لخطابات اعتذارية غيرِ مقنعة، أو خطابات تثبيطيةٍ تبالغ في جَلْدِ الذات، واقتناص العيوب، وتضخيم السلبيات" [2] . مع هذا، فقد كانت الخصوصية - بمفهومها الأهم - هي أولى محاذير العولمة، التي يتحدث عنها محسن أحمد الخضيري، والتي يمكن إجمالها في الآتي: 1- محاذير انعدام الخصوصية وشيوع العمومية. 2- محاذير "التغريب" والاغتراب عن الذات. 3- محاذير غياب الوعي، والاستلاب من الداخل. 4- محاذير التراجع والارتداد، والنكوص والجمود والتحجُّر. 5- محاذير التماثُل في مجالات إدارة الأعمال والمال، والتجارة والمعلومات. 6- محاذير حرية الحركة، وإعطاء المعنى والتفاوض عليه. 7- محاذير اتساع الفجوة الاجتماعية الاتصالية. 8- محاذير تسارع الحراك الاجتماعي. 9- محاذير التخلِّي عن الواجبات والمسؤوليات، سواء من جانب الدولة، أم من جانب الأعمال. 10- محاذير الاطِّراد المتنامي، والانخراط المتناظم في إطار مفروض بقوة فوقية [3] . [1] انظر: علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 37. [2] انظر: سعود الفيصل بن عبدالعزيز (الأمير)، أزمة الفكر في العلاقات العربية - الغربية المعاصرة، في: المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي، القاهرة: المؤسَّسة، 2002م، ص 11 و14. [3] انظر: محسن أحمد الخضيري، العولمة الاجتماعية، القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2001م، ص 221 - 232.
الشجاعة الأدبية عند معاوية عند الحديث عن مبدأ الشجاعة الأدبية لمعاوية بن أبي سفيان، ينصبُّ الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليمثِّلوا هذا المبدأ ويرسِّخوه في أعماق النفوس، فأي نوع هم كانوا من الرجال الذين خرَّجتهم مدرسة القرآن؟ وما هو النهج الذي سلكوه في صناعة هذه النماذج؟ الحقيقة إنه نهج فريد في عالم المناهج، ودرس بليغ من دروس الحب والأدب في عالم الدروس. النهج الذي أخرج حظَّ الشيطان من نفوسهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، وفي اليوم رجال الغد، لا تجزِعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنًى، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفُّهم قوة، إن الإنسان لَيعجب من هؤلاء الرجال، بعد التحاقهم في سلك هذه المدرسة؛ مدرسة الإيمان والتربية الفكرية، التي كانت تُملي على صاحبها الفضائل الخُلُقية، وتعلمه قوة الإرادة، والإيمان، والحُجَّة، ومحاسبة النفس والإنصاف منها، اعتزَّ الرجال قديمًا بشجاعتهم الأدبية وعُرفوا بها، فكانت تؤثر بشكل إيجابي في ذواتهم، وطرق حياتهم ومعيشتهم. فليس الشجاع الذي يحمي فريسته عند القتال ونار الحرب تشتعل، لكن من ردَّ طرفًا أو ثنى وَطَرًا عن الحرام، فذلك الفارس البطل؛ وقد قال أبو الطيب المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني وإذا هما اجتمعا لنفس حرة حازت من العلياء كل مكانِ وقد عُرف معاوية بن أبي سفيان بتلك الشجاعة الأدبية منذ فجر التاريخ؛ حيث رُويَ أن عمرو بن العاص قال له يومًا: لقد أعياني أن أعلم أجبان أنت أم شجاع؟ فقال: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإلا تكن لي فرصة فجبانُ وقـد كفــل الإسـلام حـرية النقاش، وبحث المشكلات بين الخليفة وعماله إلى أقصى درجة، شجاعة أدبية باهرة، وحلة خلقية شاهرة، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة، إذا ناقشه في حق، أو رده إلى صواب، فكلاهما يطلب حقًّا، أو يبتغي إصلاحًا، أما الخلافة، فلا دخل لها في إقرار حق أو مصلحة، لا نفاق، ولا رياء، ولا تعاليَ، ولا كبرياء، لكل واحد منهما عاصم من دين؛ لأن الخليفة والوالي يعملان داخل حدود ونطاق العقيدة الحاكمة، الأمر فيها للحجة المقنعة، والأدلة والبراهين البينة، أو للخليفة إذا أعوز الوالي الدليلُ. يثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاوية ثناءً لا نظير له، ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، ومن المسلَّم به أن عمر إذا ما أثنى على معاوية فإنه يكون صادقًا، لا مرائيًا ولا مجادلًا، ويكون جادًّا لا مهادنًا، صريحًا لا مواربًا، وكان ما يُقال عنه يومذاك غير ذاك، فقد تناول قومٌ معاويةَ يومًا عند عمر فقال: "دعونا من ذمِّ فتى قريش، من يضحك عند الغضب، ولا ينال ما عنده إلا على الرضا، ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه". ومن هذا الموقـف نرى أن معاوية من يوم أن أسلم كان هدفًا للمهاجمة من الكثيرين، وهكذا شأن كبار الرجال، هم أكثر الناس تعرضًا للقيل والقال، أما سائر الناس حولهم، فلا قيل حولهم ولا قال، وحسب معاوية دينًا ومجدًا أن هذا رأي عمر فيه، وليس عليه بعد ذلك أن يُقال عنه ما يُقال، وإذا رضيت عن الرجل كرام عشيرته، فلا زال غضبان عليه غيرهم. هذا هو حال الخليفة الحاكم مع وزرائه وولاة أمره، لا يفتح أذنه لكلمة سوء تُقال عن أحدهم فهم جميعًا رجاله، يجب أن تُحفَظ غيبتهم، إن مجلس عمر رضي الله عنه لا يتسع إلا للجد والكلم الطيب، ويضيق بكل ما يخالف ذلك، وإذا اعتقد الذين يحيطون بالحاكم ويعملون معه أنهم آمنون من الوقيعة والدسِّ، واطمأن الجميع بعضهم إلى بعض، راحوا جميعًا فرسانًا يتبارَون في ميادين الأعمال الشاقة الصالحة متنافسين، أيهم أكثر نفعًا للناس وللمجتمع، لينال الثناء الحسن الجميل، وهذا ولا شكَّ يجتثُّ جذورَ الشر في دوائر الحكم والسياسة. إن عمر رضي الله عنه يحب وزراءه ويحبونه، ويوليهم ثقته، فيقوم التعاون بينهم على الثقة المتبادلة، والصدق والصراحة، والوضوح والرجولة، فلا خَتْل [1] ولا مداهنة [2] ولا غموض، يقول أسلم مولى عمر: قدم معاوية وهو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج عمر إلى الحج، فكان ينظر إلى معاوية ويتعجب منه، ثم يضع إصبعه على جبينه، ثم يرفعه عن مثل الشراك، فيقول: "بخٍ بخٍ، فنحن إذًا خير الناس، أن يجمع الله لنا خير الدنيا والآخرة". أية رقة وأية عذوبة وإيمان يتدفق من فم أمير المؤمنين عمر؟! يا له من أسلوب! أكان راضيًا أم ساخطًا؟ أكان مداعبًا أم متهكمًا؟ حال لم يتبينه معاوية نفسه مع ذكائه ودهائه بداهة، قال محتاطًا: سأحدثك، "أنا بأرض الحمامات والريف"، ويدرك عمر ما يرمي إليه معاوية، ولا يرضيه الاستهلاك، وتحضره شدته فيقاطع معاوية قائلًا: "سأحدثك أن إلطافك نفسك بأطايب الطعام، وتصبُّحك حتى تضرب الشمس متنك، وذوو الحاجات وراء الباب". ويحس معاوية بالثورة العارمة التي لا يقـف لها أحد، ويدركه ذكاؤه، وتسعفه لماحيَّته، فيسكت، ويقف الحوار عند هذا الحد العاصف، قال عمر كل ما يريد واضحًا لائمًا ومؤاخذًا، وأدرك معاوية دقة التوجيه وصرامته، فلزم الصمت، حاكم يؤاخذ وزيره الذي يقدره، ولم يعزله، ووزير ذكي مِطْوَاع يعرف متى يمضي، ومتى يُمْسك، ورُبَّ إشارة أبلغ من عبارة. ويمضي أسلم رضي الله عنه في سرد موقف الشجاعة الأدبية لمعاوية فيقول: "حتى إذا جئنا وادي طوى، فأخرج معاوية حُلَّة فلبسها، فوجد عمر فيها ريحًا كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجًّا نفلًا، حتى إذا جاء أعظم بلدان الأرض حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في طيب فلبسهما"، فانبرى [3] معاوية يهاجم الخليفة مبررًا تصرفه، وأنه على حق فيما فعل، وواجه الخليفة غير هيَّاب [4] ، فقال: "إنما أعددتهما لأدخل بهما على عشيرتي يا عمر، والله لقد بلغني أذاك ها هنا وأنا بالشام"، فيقول أسلم مولى عمر: "فالله يعلم أنني عرفت الحياء في عمر عندها"، فنزع معاوية الثوبين، ولبس الثوبين اللذين أحرم بهما. هكذا يتحدث معاوية لعمر، شجاعة أدبية وثبات وصراحة، ومواجهة جريئة خشنة، فلما يداهن وهو على حق، لما يأخذه الضَّيم، وهو لا يجد الراحة سوى في الصراحة، كل هذا بدا من معاوية معارضًا لعمر، ثورة بثورة، لا يخشاه في الحق، وهذا يقطع بأن معاوية ما كان يلاين الناس ويسعهم حلمه، جبنًا أو ضعفًا، أو تصنعًا أو تقيةً، ولكنه كان لين الجانب خُلُقًا لا تخلُّقًا، وكانت الأناة فيه طبعًا لا تطبُّعًا، وكان الحلم فيه زينًا لا تزينًا، ما كانت تنقصه الجرأة في مواطن الحق، ولا الحزم في الرد إذا ما اقتضاه المقام. بهذه الصفات عرفه عمر، طُبِعَ على الحِلْمِ، والحلمُ سيد الأخلاق، ثم إن معاوية مؤدب وافر الأدب، صاحب لباقة بارعة، فبعد أن دافع عن موقفه، وأثبت سلامة تصرفه، مما بعث الحياء في وجه الخليفة، أطاعه فيما رأى، وخلع الثوبين المعطرين، ولبس ثوبيه اللذين أحرم بهما، والوقوف مع الحق شيء لا يتنافى أبدًا مع الأدب وحسن المعاشرة. أي حاكم؟ وأي والٍ؟ وأي حوار؟ أية رجولة في دفاع المؤمن عن حق يراه، حتى لَيخاطب الخليفة أمير المؤمنين باسمه مجردًا من كل كنية أو لقب، حتى لَيستحي منه أمير المؤمنين، ويُعرف الحياء في وجهه؟ إنها لباقة وكياسة من معاوية في حرصه على تطييب خاطر الخليفة بعد أن يبين حقه معه، سَبَحَ الخيال ولست من رواد مغانيه، سبح بي أتمثل عمر واضعًا أصبعه على جبين معاوية الأبض الجميل، وتدور في ذاكرتي مشاهد الحوار وكأني أراهما أمامي، حلة خلقية بينهما، شدٌّ وجذب في الحوار، لا يتعداه أدب، ولا يخدش صفو الحب خجلٌ ولا رياء. دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، فلما رأى معاوية قال: "هذا كسرى العرب"، فلما دنا معاوية في موكبه العظيم، قال عمر: "أنت صاحب هذا الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال عمر: مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم مع ما بلغك من ذلك، قال عمر: ولمَ تفعل ذلك؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو فيها كثير، فيجب أن نظهر من عزٍّ وسلطان ما يزِعهم، فإذا أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا جعلتني في مثل رواجب الضرس [5] ، إذا كان ما قلته حقًّا فإنه رأي أريب، وإن كان باطلًا فإنه خدعة أديب، قال: فمُرني يا أمير المؤمنين، قال عمر: لا آمرك، ولا أنهاك، فقال عبدالرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لِحُسْنِ موارده ومصادره؛ جشَّمناه ما جشمناه" [6] . إن الحوار هنا يرتكز على معالجة الشك، والعتاب المترتب عليه من عمر، للوصول إلى الحقيقة واليقين، وتبدو كياسة الحوار ورهافته وكثافته في جوابات معاوية، وهو ما يعين على تصور مكنون وجدان تلك الشخصيات، وتحديد معالمها، وكشف دواخلها، وإبراز جوانبها، بين خليفة يريد أن يطمئن على حال الأمة، وبين والٍ يبرر ما يفعله لصالح الأمة، والاثنان على حقٍّ إن صدق الأخير. والعرض السردي للحوار، في صورة زمنية منطقية لحظة زيارة الخليفة رضي الله عنه للشام مقر حكم الوالي، تترتب فيها النتائج على المقدمات التي رآها الأول من فخامة الموكب، مع وقوف ذوي الحاجات بباب صاحب الموكب، ويحفِل الحوار في وسطه بتأزم المواقف الابتدائية، ونقاط التطور الإشكالية، حتى لَتنوء شخصياته بما تبتغيه، وتتعقد الأسئلة المطروحة، وبقدر تعقدها، تنفرج العقد تدريجيًّا، ويعود التوازن بإجابات معاوية، ليصل الحوار في النهاية إلى إجابات مضبوطة بميزان الضبط المعقـول، وخطـى منتظمـة بميـزان السـير المنقول، للوصول إلى لـبِّ القضية وحقيقة الموضوع. وبمثل هذا التعامل المحبوك مع الحدث، غدت مواليد الإجابات شرعية موثقة، ذات جذور أصيلة في المكان والزمان، للحفاظ على وحدة الأمة، وقوة الدولة، أمام أعدائها، وانتماء معلوم إلى حق مفهوم. لا يتخير عمر رضي الله عنه عماله ويستقر، ولا يراقبهم في أعمالهم ويكتفي، ولا يتتبع تصرفاتهم العامة والخاصة فيقنع، ولكنه ينظر إلى كل أحوالهم، المادية منهم والمعنوية؛ لأنه يؤمن بأن المسلم يجب أن يكون سويًّا سرًّا وعلنًا، ظاهره كباطنه أمام الله في دخيلته، وأمام الناس في علانيته، فليس في ديننا القول الخاطئ: دَعْ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، فالأمر كله مرده إلى الله حتى قيصر نفسه، فليس لقيصر عند المسلم شيء، ولكن الله له من المسلم كل شيء، فالتصرف الخالص يراقب فيه وجه الله، والتصرف العام يبتغي به وجه الله، إن النفس القذرة قذرة ولو تضخمت بطيب الدنيا كلها، يفوح نتنها حينًا بعد حين، وعمر يخشى من عماله الزلل ومغريات الحياة وميوعتها، فيقيهم برقابته دوافعها. وقفة بين خليفة عادل وذكي، ووالٍ لبِق وأريب، تستحق منا وقفة، للدلالة على تساوق الأحداث، والشجاعة الأدبية، نبينها فيما يلي: • شجاعة أدبية باهرة مركَّبة بين خليفة ذكي للمسلمين، ووالٍ لبق أريب يرى أنه يفعل لمصلحة الإسلام والمسلمين. • قبل أن يدانيَ معاوية عمرَ، أعطاه عمر حقَّه وصفته المميزة، ولزامًا على كل رئيس دولة أن يعرف الميزة التي يمتاز بها كل وزير من كبار وزرائه؛ لأن ذلك يعينه على كثير من التوفيق في فن المعاملة والإدارة. • يبدأ الحساب بعد التلاقي واللقاء، فلا وقت لما لا نفع فيه، إن تساؤل عمر عن الموكب وهو يراه بعينه، وعن صاحبه وهو يعرفـه حق المعرفة، يحمل رنة التقريع المهذب، واستنكار المظاهر الجوفاء. • أجاب معاوية بن أبي سفيان بشجاعة أدبية نادرة، في دقة ورَوِيَّة، وثبات ووضوح رأيٍ، عُرَفا بهما على أسئلة الخليفة عمر. • بدأ اللوم المكشوف لوقوف ذوي الحاجات بالباب، ولهذا جاء الخليفة، لم يأتِ للنزهة أو الاستجمام، ولكنه جاء متفقدًا أحوال الرعية ليطمئن على راحتها، وما كان منصب الخلافة والرئاسة إلا لذلك، خدمة الأمة. • أحس الخليفة عمر بما يعتمل في نفس واليه معاوية، فترك اللوم إلى المواجهة الصريحة. • في رد الوالي معاوية على الخليفة عمر رضي الله عنهما ما يشعر بتصميمه على صواب تصرفه؛ لأنه ردد نفس الألفاظ التي وجهها إليه الخليفة، وهذا فقه منه وثقة. • الوالي واثق من سلامة تصرفه، ولا يعتذر عنه، ولكنه يضع الأمر بين يدي الخليفة؛ لتصبح مسؤولية الأمر والنهي على عاتقه، فيتحمل هو التَّبِعات. • إن عمر لا يقطع إلا فيما يؤمن بصوابه، فإن شكَّ توقف، وقد أعجبته ردود معاوية فترك له حرية التصرف، وهذا فقه منه وأدب في الدين عُرِفا عنه. • إن عمر رضي الله عنه لا يأخذ معاوية بهذا الأسلوب الرزين، إلا لأنه يقدره وينزله المنزلة التي يستحقها، وعمر لا يحابي في الحق أحدًا أبدًا. • مع شيء من التجاوز، نستطيع القول: إن عمر الخليفة كان يكشف أحداث المستقبل، عندما وصف معاوية بأنه كسرى العرب، ولم يطلق هذا الوصف على أحد من ولاته رغم كثرتهم، وفي هذا تقدير لمعاوية واستحقاق. • أسلوب الحوار وقناعاته مميزة في السرد، من حيث نوعية الألفاظ المستعملة مدلولًا وإيقاعًا، وخصائص العبارات المشكِّلة لبنية الحوار ونسيجه، حتى الحروف المنتقاة لتركيب الكلمات، لها غرضها الجلي في التوصيل الرسالي للقارئ. المصدر: الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة النبوية، هاني الشتلة، الطبعة الثالثة، القاهرة. [1] الختل: اللجوء إلى طرق ملتوية فيها مواربة لبلوغ الغاية، وهو ما يعني الخداع. [2] المداهنة: إظهار المرء خلاف ما يضمر، والتظاهر بتودد وتلطف غير مشفوعين بما ينطوي عليه القلب. [3] انبرى: اعترضه، ووقف ليقاومه ليضع حدًّا لاستهتاره، ووقف في وجهه وتعرض له ليناقشه. [4] الهيَّاب: الذي يهاب كثيرًا؛ أي شديد الخوف والحذر، الذي يخاف الناس. [5] رواجب: اسم والجمع راجبة، وهي أصول الأصابع؛ أي ما بين عقد الأصابع من الداخل، والضرس هنا: يعني الرجل الداهية، والمعنى تركتني في أضيق ما يكون، أي تركتني في أمر يصعب عليَّ الخروج منه، بسبب ردك، وفي هذا دليل على حنكة معاوية بن أبي سفيان في ردوده المحنكة والمفحمة على تساؤلات الخليفة عمر بن الخطاب. [6] جشمناه: أثقلنا عليه وآلمناه، وقيل كلَّفه إياها، وحمله عليها على كُرْهٍ ومشقَّة.
أسئلة في سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من كتاب "تاريخ الخلفاء" للسيوطي أسئلة في سيرة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: 1- اذكر نسب أبي بكر رضي الله عنه؟ وفي أي أجداده يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ 2- بماذا كان يُلقَّب أبو بكر رضي الله عنه؟ 3- ما أسباب تلقيبه رضي الله عنه بعتيق؟ ولماذا لُقِّب بالصديق؟ ومتى اشتُهر به؟ 4- ورد تسمية النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جبريل عليه السلام له عتيقًا. دلِّل على ذلك. 5- ما اسم أم أبي بكر رضي الله عنه؟ وبماذا كانت تُكنَّى؟ 6- متى وُلِد رضي الله عنه؟ وكم كان عمره عند وفاته؟ 7- بماذا وصفه ابن الدغنة؟ 8- في أي شيء كانت قريش ترجع إليه رضي الله عنه؟ 9- ما هي الأشياء التي تنزَّه رضي الله عنه عنها في الجاهلية؟ 10- اذكر ثلاثًا من صفاته الخَلقية كما وصفته عائشة رضي الله عنهما؟ 11- كيف نجمع بين الأقوال المختلفة في أوَّل الناس إسلامًا. 12- ما مقصود مَن قال: إنه أسلم قبل أبي بكر رضي الله عنه خمسة، كما بيَّنه ابن كثير رحمه الله. 13- (مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل) لمن قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ 14- مَن حضر يوم بدر من أولاد أبي بكر رضي الله عنه مشركًا؟ 15- كم كان عنده رضي الله عنه من مال يوم أسلم؟ وفيمَ أنفقه؟ 16- ما هي العلوم التي عُرف وامتاز بها رضي الله عنه؟ 17- بماذا علَّل ابن كثير كونه رضي الله عنه أعلمَ الصحابة بالقرآن؟ 18- لماذا لم يُرْوَ عنه رضي الله عنه من الأحاديث إلا القليل؟ 19- مَن أنسب قريش لقريش، والذي قال: (إنما أخذت النسب من أبي بكر رضي الله عنه..)؟ 20- ماذا قال ابن سيرين عن علمه في تعبير الرؤيا؟ 21- من هم خطباء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ 22- مَن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. اذكرهم بالترتيب كما أجمع عليه أهل السنة؟ 23- اذكر ثناء أحد الصحابة في كون أبي بكر رضي الله عنه خيرَ هذه الأمة. 24- من القائل؟ 1) (لا يُفضِّلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدْتُه جلد المفتري). 2) (أبو بكر رضي الله عنه سيدُنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). 25- أيُّ الناس أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو رضي الله عنه؟ 26- من هما سيِّدا كهول أهل الجنة؟ اذكر الحديث. 27- أكمل الفراغ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي.............، وأشدهم في أمر الله.............، و............. عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام.............، و............. زيد بن ثابت، وأقرؤهم.............، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة.............). 28- اذكر آيتين نزلتا في أبي بكر رضي الله عنه خاصة. 29- اذكر آية نزلت في أبي بكر وعمر معًا رضي الله عنهما. 30- ممَّن اشترى أبو بكر بلالًا رضي الله عنهما وأعتقه؟ وبكم اشتراه؟ 31- كم أعتق أبو بكر رضي الله عنه ممن كان يُعذَّب في سبيل الله؟ 32- ما هي الآية التي عاتب الله فيها المسلمين كلهم في نصرته صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر رضي الله عنه وحده فقد خرج من المعاتبة؟ 33- اذكر حديثًا في فضله مقرونًا بعمر رضي الله عنهما. 34- اذكر حديثًا في فضل أبي بكر رضي الله عنه وحده؟ 35- من القائل؟ 1) (لو وُزِن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم) 2) والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قطُّ إلا سبقنا إليه أبو بكر رضي الله عنه) 36- لماذا كان يُسمَّى أبو بكر رضي الله عنه الأوَّاه؟ 37- قال ابن عمرو رضي الله عنه: (ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهًا، وأحسنها أخلاقًا، وأثبتها جَنانًا...) فمَن هم؟ 38- قال الشعبي رحمه الله: (خص الله أبا بكر رضي الله عنه بأربع خصال لم يخص بها أحدًا من الناس)، ما هي؟ 39- ذكر ابن المسيّب رحمه الله أن أبا بكر رضي الله عنه كان ثاني النبي صلى الله عليه وسلم في أربعة أمور، فما هي؟ 40- اذكر حديثًا يشير إلى خلافة أبي بكر رضي الله عنه. 41- (ولا يبقينَّ باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر رضي الله عنه) فيه إشارة إلى خلافته رضي الله عنه. بيِّن ذلك؟ 42- اذكر آية استنبط العلماء منها خلافة أبي بكر رضي الله عنه، مع بيان وجه الدلالة. 43- اذكر ما جرى في سقيفة بني ساعدة عن مبايعة الأنصار رضي الله عنهم لأبي بكر رضي الله عنه باختصار. 44- من هما الصحابيان اللَّذان رضيهما أبو بكر رضي الله عنه لبيعة أحدهما بالخلافة؟ 45- من أوَّل مَن بايع أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة؟ 46- من تخلَّف من الصحابة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه في السقيفة، ثم بايع في اليوم الثاني رضي الله عنهما؟ 47- مَن مِن الأنصار أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال رضي الله عنه: (هذا صاحبكم) ليبايعوه. 48- متى بُويع لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة؟ 49- ما هي الأمور الكبرى التي وقعت في خلافته رضي الله عنه؟ 50- في أي شيء اختلف الصحابة رضوان الله عليهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ 51- كم كان عدد جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما؟ وأين نزل الجيش خارج المدينة؟ 52- بماذا ردَّ أبو بكر رضي الله عنه على مَن طلب منه ألَّا يبعث جيش أسامة رضي الله عنه؟ 53- مَن هي امرأة أسامة بن زيد رضي الله عنهما؟ 54- إلى أي القبائل أرسل أبو بكر خالدًا رضي الله عنهما لقتالهم؟ ومتى كان ذلك؟ ومن استُشهد في هذه الوقعة؟ 55- متى تُوفِّيت فاطمة رضي الله عنها بنت النبي رضي الله عنه؟ وكم كان عمرها؟ ومن هي التي ماتت قبلها بشهر؟ 56- متى تُوفِّي عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه؟ 57- متى سار خالد رضي الله عنه لقتال مسيلمة؟ ومن قتل مسيلمة؟ وكم كان عمره يوم قُتِل؟ 58- اذكر ثلاثة ممَّن استشهدوا من الصحابة في معركة اليمامة؟ 59- من الذين بعثهم أبو بكر رضي الله عنه من القادة إلى البحرين وعمان والنجير (اليمن) لقتال المرتدين؟ 60- اذكر اثنين ممَّن مات في السنة الثانية عشرة؟ 61- إلى من أرسل أبو بكر خالدًا رضي الله عنهما بعد فراغه من أهل الردة؟ وما هي المدن التي غزاها وافتتحها؟ 62- إلى أين أرسل أبو بكر عَمْرًا رضي الله عنهما؟ وما هي الوقعة التي وقعت؟ ومتى كانت؟ ومن استُشهِد فيها؟ 63- متى وقعت معركة مرج الصفر؟ ومن استُشهِد بها؟ 64- من الذي أشار على أبي بكر رضي الله عنه بجَمْع القرآن؟ وما سبب جمعه؟ 65- من الذي اختاره أبو بكر رضي الله عنه لجمع القرآن؟ وبماذا وصفه؟ 66- في أي شيء كان يُكتَب القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ 67- أين كانت الصُّحُف التي جُمِع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ 68- اذكر أربعة من أوَّليات أبي بكر رضي الله عنه؟ 69- مَن كان يَفرض العطاء في عهده رضي الله عنه؟ وماذا أفرض له من العطاء؟ 70- ماذا ترك أبو بكر رضي الله عنه عند وفاته وأمر بِرَدِّه لعمر رضي الله عنه؟ 71- مَن وليَ بيت المال في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ 72- ما أوَّل لقب في الإسلام؟ 73- كم حجَّة حَجَّها أبو بكر رضي الله عنه؟ وفي أي عام؟ 74- من الصحابي الذي استعمله أبو بكر رضي الله عنه على الحج في عهده؟ 75- من الصحابي الذي استعمله عمر ثم عثمان رضي الله عنهما على الحج في عهدهما؟ 76- ذُكرَت ثلاثة أسباب لوفاة أبي بكر رضي الله عنه. اذكرها. 77- من الذي مات مع أبي بكر رضي الله عنه في يوم واحد بِسبب أكلهما سُمًّا كان قد وُضِع لهما؟ 78- متى كان أوَّل مرض أبي بكر رضي الله عنه؟ وكم بقي محمومًا؟ ومتى تُوفي؟ وكم كان له من العمر؟ 79- من الذين استشارهم أبو بكر رضي الله عنه في عمر رضي الله عنه لاستخلافه؟ 80- ما رأي عبدالرحمن بن عوف وعثمان في عمر لما سألهما أبو بكر رضي الله عنهم؟ 81- مَن الذي دعاه أبو بكر رضي الله عنه لكتابة عهده واستخلافه لعمر رضي الله عنه؟ 82- من هي ابنة أبي بكر رضي الله عنه التي وُلدت بعد وفاته؟ ومن هي أمها؟ 83- كم أوصى أبو بكر رضي الله عنه في ماله؟ 84- بمن أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن يُغسِّله؟ ومن يعينه؟ ومن صلَّى عليه؟ وأين صُلِّي عليه؟ 85- أين أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن يُدفن؟ وأين جُعل رأسه؟ ومَن نَزل في حُفرته؟ 86- كم عاش والد أبي بكر بعده رضي الله عنهما؟ ومتى مات؟ وكم كان له من العمر؟ 87- كم كانت مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه؟ 88- اذكر ثلاثة من الصحابة ممن روى عنه رضي الله عنه. 89- اذكر ثلاثة أحاديث من رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ 90- ماذا قال أبو بكر رضي الله عنه لما سُئل عن آية؟ 91- بماذا حكم رضي الله عنه في المسائل التالية: بيع اللحم بالحيوان، قتل الحر بالعبد، سارق قُطِعت قوائمه، الجد في الميراث. 92- ما كان نقش خاتم أبي بكر رضي الله عنه؟ أسئلة في سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 1- اذكر نسب عمر رضي الله عنه. 2- متى أسلم؟ وكم كان عمره حين إسلامه رضي الله عنه؟ 3- متى ولد رضي الله عنه؟ 4- ماذا كان شأنه رضي الله عنه في قريش في الجاهلية؟ 5- كم عدد مروياته رضي الله عنه من الأحاديث النبوية؟ 6- من هما المقصودان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعِزَّ الإسلام بأحبِّ هذين الرجلين إليك"؟ 7- اذكر قصة إسلام عمر رضي الله عنه باختصار (أقل من ثلاثة أسطر). 8- ما هي الآيات التي قرأها عمر رضي الله عنه فكانت سببًا في إسلامه؟ (اذكر ما جاء في الروايتين). 9- ما هي الدار التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة للاجتماع بأصحابه رضوان الله عليهم؟ 10- كم كان بين إسلام عمر وحمزة رضي الله عنهما؟ وأيهما أول إسلامًا؟ 11- ما سبب تسميته رضي الله عنه بالفاروق؟ اذكر ذلك بإيجاز. 12- من القائل؟ 1) كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمامته رحمةً. 2) لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجال المُقبِل لا يزداد إلا قربًا فلما قُتِل عمر كان الإسلام كالرجل المُدبِر لا يزداد إلا بُعْدًا. 3) أول من جهر بالإسلام عمر. 13- ماذا فعل عمر رضي الله عنه لما همَّ بالهجرة؟ باختصار. 14- من أول من قدم من المهاجرين إلى المدينة كما قال البراء رضي الله عنه؟ 15- اذكر حديثين في فضل عمر رضي الله عنه؟ 16- اذكر قولين من ثناء الصحابة على عمر رضوان الله عليهم. 17- من القائل؟ 1) أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير. 2) إن في القرآن لرأيًا من رأي عمر. 18- كم عدد موافقات عمر رضي الله عنه للقرآن؟ اذكر ثلاثة منها. 19- اذكر اثنتين من كراماته رضي الله عنه (بذكر العناوين فقط). 20- ماذا فرض عمر رضي الله عنه على نفسه من بيت المال من اللباس والقوت؟ 21- ماذا كان يشترط عمر رضي الله عنه على العُمَّال الذين كان يستعملهم؟ 22- اذكر خبرًا واحدًا فقط عن عمر رضي الله عنه مما يلي: زهده، خشيته، تورُّعه عن مال المسلمين، تأثُّره بالقرآن؟ 23- اذكر صفة عمر رضي الله عنه الخَلقية باختصار. 24- ما اسم والدة عمر رضي الله عنه؟ وما قرابتها من أبي جهل؟ 25- متى ولي عمر رضي الله عنه الخلافة؟ 26- متى فُتحت دمشق وحمص والأردن؟ 27- متى جمع عمر رضي الله عنه الناس على صلاة التراويح؟ 28- متى كانت وقعة اليرموك والقادسية؟ 29- ما أبرز الأعمال التي قام بها عمر في السنة الخامسة عشرة؟ 30- من الذي مَصَّر الكوفة؟ ومتى؟ 31- أين جُمعت أول جمعة في العراق؟ ومتى كان ذلك؟ 32- متى سار عمر رضي الله عنه لفتح بيت المقدس؟ 33- في أي عام وشهر جرى كتابة التاريخ الهجري؟ ومَن أشار بذلك؟ 34- اذكر ثلاث مُدُن فُتحت في السنة السادسة عشرة؟ 35- متى زاد عمر رضي الله عنه في المسجد النبوي؟ 36- بماذا سُمِّيت السنة السابعة عشرة؟ وبِمَن استسقى عمر رضي الله عنه للناس؟ 37- متى وقع طاعون عمواس؟ 38- اذكر ثلاث مُدُن فُتِحت في السنة الثامنة عشرة؟ 39- متى أجلى عمر رضي الله عنه اليهود عن خيبر وعن نجران؟ وإلى أين أجلاهم؟ 40- متى فُتِحت مصر؟ 41- اذكر ثلاث مُدُن فُتِحت في السنة الحادية والعشرين؟ 42- بماذا دعا عمر رضي الله عنه مُتمنِّيًا الشهادة في المدينة؟ 43- من هو قاتل عمر رضي الله عنه؟ وكيف دخل المدينة؟ وماذا كان يعمل؟ ومن كان سيِّده؟ وكم ضرب عليه أجرة؟ 44- بماذا قُتل عمر رضي الله عنه؟ وكم مرة طعنه قاتله؟ وفي أي صلاة طُعِن؟ وأين طعنه من جسده رضي الله عنه؟ 45- كم طُعِن من الرجال مع عمر رضي الله عنه؟ وكم مات منهم؟ وماذا كان مصير القاتل؟ 46- من الذي أكمل الصلاة بعد طَعْن عمر رضي الله عنه؟ 47- من هم الستة الذين جعل عمر أمر الخلافة شورى بينهم؟ وكيف انتهى أمر الخلافة إلى عثمان رضي الله عنهم؟ 48- مَن الذي أمره عمر رضي الله عنه أن يصلي بالناس بعد طعنه؟ 49- كم كان دَيْنه رضي الله عنه؟ وبماذا أوصى ابنه لاستيفاء دَينه؟ 50- من هم الذين كان يرغب عمر في استخلافهم لو كانوا أحياء؟ 51- متى أُصيب عمر؟ ومتى تُوفي ودُفِن؟ وكم كان عمره حين وفاته؟ ومَنْ صلَّى عليه رضي الله عنه؟ 52- ماذا كان نقش خاتم عمر رضي الله عنه؟ 53- ماذا قالت أم أيمن رضي الله عنها يوم مقتل عمر رضي الله عنه؟ 54- اذكر خمسًا من أوَّليات عمر رضي الله عنه؟ 55- اذكر باختصار ثلاثة من أهم أعمال عمر رضي الله عنه في خلافته؟ 56- من هما اللذان كانا سببًا في تلقيب عمر رضي الله عنه بأمير المؤمنين؟ وماذا كان يُدعى قبل ذلك؟ 57- لماذا ترك عمر رضي الله عنه كتابة السنن بعد أن عزم على كتابتها؟ 58- ما أول كلام تكلَّم به عمر رضي الله عنه على المنبر بعد أن تولى الخلافة؟ 59- كم المدة التي حدَّدها عمر رضي الله عنه على ألَّا تحبس الجيوش فيها عن أهلهم؟ ومن التي استشارها في ذلك؟ 60- ما الفرق بين الخليفة والملك؟ 61- ما هي العلامة التي رآها أهل نجران في جسد عمر رضي الله عنه؟ 62- متى دوَّن عمر رضي الله عنه الدواوين؟ ومَن الذي أشار إليه فأخذ بقوله؟ 63- مَن هم الذين دعاهم عمر رضي الله عنه لكتابة الناس على منازلهم؟ وبمن بدءوا؟ وبِمن أمرهم أن يبدءوا؟ 64- بماذا أوصى عمر رضي الله عنه في جنازته بإيجاز؟ 65- اذكر خمسة رجال وثلاث نساء ماتوا في عهد عمر رضي الله عنه. أسئلة في سيرة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه: 1- اذكر نسب عثمان رضي الله عنه، وما كنيته؟ 2- متى ولد عثمان رضي الله عنه؟ 3- من تزوج من بنات النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا سُمِّي لأجل ذلك؟ ومتى تُوفين رضي الله عنهن؟ 4- اذكر شيئًا من مناقبه رضي الله عنه. 5- متى استخلفه رسول الله على المدينة؟ 6- كم عدد مروياته رضي الله عنه من الأحاديث النبوية؟ 7- من القائل؟ كان أعلمهم بالمناسك عثمان ثم بعده ابن عمر. 8- لمَ سُمِّي عثمان رضي الله عنه ذا النورَين؟ 9- من هي أم عثمان رضي الله عنه؟ وما قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 10- متى أسلم عثمان رضي الله عنه؟ 11- اذكر بعضًا من صفاته الخَلقية رضي الله عنه. 12- لقد تعرَّض رضي الله عنه للأذى، فمَن كان يقوم على توثيقه رباطًا؟ 13- اذكر خبرًا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن واحد مما يلي: هجرته، حيائه، وقوع الفتنة. 14- بمَنْ كان يُشبَّه عثمان رضي الله عنه؟ 15- اذكر حديثًا في فضله رضي الله عنه. 16- بماذا جهَّز جيش العسرة رضي الله عنه؟ 17- متى بويع له رضي الله عنه بالخلافة؟ 18- من القائل؟ 1) إني رأيت الناس يأبون إلا عثمان. 2) أمَّرنا خير من بقي ولم نأل. 19- ماذا كانت السنة الأولى من خلافته رضي الله عنه؟ ولماذا؟ 20- من تولى الكوفة في عهد عثمان رضي الله عنه؟ 21- متى زاد عثمان رضي الله عنه في المسجد الحرام؟ 22- من غزا قبرس في عهده رضي الله عنه؟ ومتى كان ذلك؟ 23- من الصحابية رضي الله عنها التي شاركت في غزو قبرس وماتت شهيدة ودُفنت بها؟ وكيف تُوفيت؟ 24- متى فُتحت إفريقية؟ ومن فتحها؟ وكم أصاب الجيش من الغنائم؟ 25- متى زاد عثمان رضي الله عنه في المسجد النبوي؟ وماذا استعمل في بنائه؟ 26- متى فُتح أكثر بلاد فارس؟ وماذا فعل رضي الله عنه لما كثر الخراج عليه؟ 27- كم كانت مدة ولايته للخلافة رضي الله عنه؟ 28- ماذا نقم الناس على عثمان رضي الله عنه؟ 29- مَن كان والي مصر الذي اشتكاه أهله إلى عثمان رضي الله عنه؟ ومَن الذي أشار عليه الناس أن يوليه مكانه؟ 30- ما هي الرسالة التي وجدوها في طريق المدينة مكتوبة إلى عامل مصر؟ ومع مَن وجدوها؟ وبخط مَن كُتبت؟ 31- مَن هم الصحابة الذين أرسلوا أبناءهم لحماية الخليفة؟ ومَن أُصيب منهم بالسهام؟ 32- من الذين تسوروا إلى دار عثمان رضي الله عنه؟ وكيف جرى قتله رضي الله عنه؟ 33- ما صفات قاتل عثمان رضي الله عنه كما أخبر كنانة؟ 34- ما هي الأمور التي اقترحها المغيرة لعثمان رضي الله عنهما وهو محاصر؟ 35- قال عثمان رضي الله عنه: اختبأت عند ربي عشرًا، اذكر ثلاثة منها. 36- متى قُتل عثمان رضي الله عنه؟ ومتى دُفِن؟ وأين؟ 37- كم كان عمره رضي الله عنه يوم قُتِل؟ 38- مَن صلى عليه ودفنه رضي الله عنه؟ 39- ماذا حصل للذين شاركوا في قتل عثمان رضي الله عنه؟ 40- من القائل؟ 1) أول الفتن قتل عثمان رضي الله عنه. 2) اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان رضي الله عنه. 3) إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة. 41- ماذا كان نقش خاتمه رضي الله عنه؟ 42- اذكر خمسًا من أوليات عثمان رضي الله عنه. 43- اذكر خمسة ممن مات في عهده رضي الله عنه. أسئلة في سيرة الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: 1- اذكر نسب علي رضي الله عنه. 2- ما كنيته رضي الله عنه؟ 3- من هي أول هاشمية ولدت هاشميًّا؟ 4- اذكر شيئًا من مناقبه رضي الله عنه. 5- اذكر مَن عرض القرآن عليه رضي الله عنه. 6- كم كان عمره حين أسلم رضي الله عنه؟ 7- لماذا استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة لما هاجر إلى المدينة؟ 8- ما هي الغزوة التي لم يشهدها علي رضي الله عنه حيث استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة؟ 9- اذكر صفات علي رضي الله عنه الخَلْقية. 10- ما قصة تكنية النبي صلى الله عليه وسلم له بأبي تراب؟ 11- كم عدد مروياته رضي الله عنه من الأحاديث؟ 12- اذكر حديثًا في فضله رضي الله عنه باختصار. 13- استشهد على مكانته رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم بحديثين. 14- بماذا تميَّز من العلم رضي الله عنه؟ استشهد على ذلك بقولين للصحابة؟ 15- من القائل؟ 1) عليٌّ أقضانا. 2) أفرض أهل المدينة وأقضاها عليٌّ. 3) أما إنه أعلم من بقي بالسنة. 16- أشقى الناس رجلان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هما؟ 17- ما هي أول وقعة حدثت بعد بيعة علي رضي الله عنه؟ وأين كان ذلك؟ ومتى؟ ومن أشهر من قُتِل بها؟ 18- متى وقعت صفين؟ وبمَنِ التقى فيها عليٌّ رضي الله عنه؟ ومتى كان ذلك؟ وكيف انتهى القتال؟ 19- من هما الصحابيان اللذان حكَّموهما الفريقان؟ وعلى ماذا تصالح الفريقان؟ 20- متى اجتمع الناس مرة أخرى للتحكيم؟ وبماذا حكّم المحكّمان؟ 21- ما سبب خروج الخوارج على عليٍّ رضي الله عنه؟ وأين عسكروا؟ ومن بعث إليهم فحاجَّهم؟ 22- أين قاتَلَ عليٌّ رضي الله عنه الخوارج؟ ومتى وقع ذلك؟ 23- ثلاثة من الخوارج انتدبوا لقتل ثلاثة من أمراء المسلمين، اذكرهم جميعًا، وأين اجتمعوا؟ ومتى اتعدوا؟ 24- كيف قُتِل عليٌّ رضي الله عنه؟ 25- متى أُصيب رضي الله عنه؟ ومتى تُوفِّي؟ 26- مَن غسَّله رضي الله عنه؟ ومَن صلَّى عليه؟ وأين دُفِن؟ 27- ماذا كان مصير قاتل عليٍّ رضي الله عنه؟ 28- من المرأة التي عشقها قاتل عليٍّ رضي الله عنه قبل قتله؟ وماذا أصدقها؟ 29- اذكر الروايات في موضع دفن علي رضي الله عنه. 30- كم كان عمره رضي الله عنه حين قُتل؟ 31- ماذا كان نقش خاتمه رضي الله عنه؟ 32- من الذي أمره عليٌّ رضي الله عنه أن يضع كتابًا في أصول العربية؟ 33- اذكر خمسة ممن مات في عهده رضي الله عنه. تمت الأسئلة، وبالله التوفيق
غزوة بني قريظة في ذي القعدة وصدر من ذي الحجة سنة خمس من الهجرة كان انسحاب الأحزاب مساء، وفي الصباح عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووضع المسلمون السلاح، وأمر بخيمة ضربت في المسجد ليمرض فيها سعد بن معاذ؛ وذلك ليكون قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم ليزوره ويكون تحت نظره؛ فلسعد مكانة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمواقفه الجهادية ومحبته للإسلام ونبي المسلمين، ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أتاه جبريل وقال له: أقد وضعت السلاح؟ قال: (( نعم ))، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا فنادى: (( مَن كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ))، وقدَّم عليًا إليهم برايته، وتلاحق الناس، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجال بعد العشاء الأخير فصلوا العصر بها، فما عابهم. وحاصر بني قريظة لنقضهم العهد، واستمر في حصارهم قريبًا من شهر - قيل 25 يومًا - فلما اشتد عليهم الحصار، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبدالمنذر - أنصاري من الأوس - نستشيره، فأرسله، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى النساء والأطفال، فرقَّ لهم، فقالوا: ننزل على حكم رسول الله، فقال: نعم، وأشار إلى حلقه - يعني الذبح - قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، فقال: والله لا أقمت بمكان عصيت الله فيه، فانطلق إلى المسجد وربط نفسه بسارية وقال: لا أبرح حتى يتوب الله عليَّ. ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الأوس: يا رسول الله، افعل في موالينا مثل ما فعلت في موالي الخزرج - يعني بني قينقاع - فقال عليه الصلاة والسلام: (( ألا ترضون بحكم سعد بن معاذ؟ ))، قالوا: بلى، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن إلى مواليك، فلما كثروا عليه قال: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فعلم كثير منهم أنه يقتلهم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (( قوموا إلى سيدكم )) أو قال: (( خيركم ))، فقاموا إليه وأنزلوه وقالوا: يا أبا عمرو، أحسن إلى مواليك؛ فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليك، فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم إليَّ؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة وإجلالًا وقال: وعلى من ها هنا العهد أيضًا؟ فقالوا: نعم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نعم ))، قال سعد: فإنني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والنساء، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة )) - أي سموات - فاستنزلوا من دورهم، وحُبسوا في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فحفر بها خنادق، ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم فيها، وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد سيدهم، وكانوا ستمائة أو سبعمائة بالغ، وقال حيي بن أخطب عندما قدم للقتل وهو ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن مَن يخذل الله يخذل، وقال للناس: إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم ضربت عنقه، وورد: قُتلت منهم امرأة واحدة؛ لأنها قتلت أرفة بنت عارضة، وأسلم من يهود: ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وقسمت أموال بني قريظة على المسلمين، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت عمرو وكانت قد أسلمت، فأراد أن يتزوجها، فقالت: اتركني في ملكك؛ فهو أخف عليَّ وعليك، فكان لها ذلك، ثم عاد سعد بن معاذ إلى الخيمة، هناك انبجس الدم ومات رضي الله عنه، قالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر وأنا في حجرتي، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يبكي على أحد، كان إذا اشتد وَجْدُه - حزنُه - أخذ بلحيته. قُتل من المسلمين في غزوة بني قريظة ثلاثة، وقتلت امرأة واحدة من اليهود قِصاصًا؛ لأنها ألقت رحى على خلاد بن سويد. وفي غزوة الأحزاب قتل ستة من المسلمين، وأربعة من الكفار.
موسى عليه السلام (11) بعدَ أن نجَّى الله تبارك وتعالى موسى وهارون وقومهما من الكَرب العظيم، وأغرق فرعون ومن معه من المُكذِّبين، وجاوز اللهُ ببني إسرائيل البحرَ - انتهت متاعب موسى مِن فرعون وقومه، وبدأت متاعبُ موسى وهارون من بني إسرائيل؛ إذ إنهم بعد أن رأوا آيةَ الله الكبرى في فَلْق البحر لهم وإغراق فرعون وجنوده وتمَّت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا - لكنهم ما إن رأوا بعد أن جاوزوا البحر قومًا يعبدون أصنامًا لهم قد عكفوا عليها، حتى قال بعضهم لموسى عليه السلام: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، فأجابهم موسى عليه السلام بأن هذا الطلب جهالة منكم، كيف نسيتم نعمة الله في إنجائكم من عدوِّكم وإغراقه، وأنتم حُدثاء عهد بها؟! إنكم لو كنتم تعلمون لازددتم إيمانًا بالله وحدَه وكفرتم بجميع ما سواه من الأصنام والأوثان والأنداد، ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]؛ أي: هالك فاسد، ومضمحل زائل لا يعود على أهله إلا بالشر ولا يجلبون منه خيرًا، فكلُّ عبادة لغير الله باطلة، ولا تصحُّ العبادة إلا لله وحدَه، والله أغنى الشركاء عن الشِّرك، فمَن أشرك معه غيره ردَّه وشركه وأحبط عمله، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾ [الأعراف: 140]؟! أي: أأطلب لكم شيئًا تعبدونه غير الله؟! وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب والتوبيخ، ثم بيَّن لهم موسى عليه السلام أن الله فضَّلهم على عالَمي زمانهم؛ إذ بعث إليهم رسولَه وكليمَه صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، فلا يليقُ ببعضهم أن يطلب معبودًا غير الله عز وجل ليشابه المشركين عَبَدَةَ الأصنام، ولم يكن كلُّ بني إسرائيل قد طلب إلهًا آخر، وإنما هو طلبُ بعض جَهَلَتِهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 140]. وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين وعلماء السيرة النبويَّة خبرًا من طريق مَعْمَر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حُنين، فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، وإنكم تركبون سنن من كان قبلكم))، قال ابن كثير في تفسيره: أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا؛ اهـ. قلت: "قال الحافظ ابن حجر في التقريب: كثير بن عبدالله بن عمرو المزني المدني ضعيف من السابعة، منهم من نسبه إلى الكذب"؛ اهـ. فإن صحَّ هذا الخبرُ حُمل على أنه قول واحد من حُدثاء العهد بالجاهلية كما جاء مصرَّحًا به في رواية عن أبي واقد الليثي، قالوا: وقد كان لكفَّار قريش ومن سواهم من العرب شجرةٌ عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كلَّ سنة، فيُعلِّقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يومًا. قال أبو بكر الطرطوشي المالكي: فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويُعظِّمُونها، ويرجون البرءَ والشفاء من قبلها، ويضربون بها المساميرَ والخرقَ فاقطعوها. هذا، وقد كان موسى عليه السلام عندما بعثه الله إلى فرعون إنما بعثه بأصول الدين من التوحيد وإقامة الصلاة لذكر الله ووجوب الإيمان بالبعث بعد الموت، ولم يكن قد أنزل عليه التوراة، فلما انتهت مهمَّة موسى عليه السلام الخاصة بفرعون وملئه، وأغرق الله فرعونَ وجنده، وخلص موسى إلى سيناء وصار مختصًّا ببني إسرائيل، وهُم في حاجة ماسَّة إلى نظام يشمل حوائجهم في معاشهم ومعادهم، هيَّأ الله عز وجل موسى عليه السلام ليُلقي عليه التوراةَ المشتملة على الأحكام التي تسلك بأهلها صراط الله المستقيم، وحالة موسى عليه السلام هذه تشبه حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته النبويَّة قبلَ الهجرة وبعدها، فإنَّ القرآنَ المكيَّ كان ينزل لتقرير التوحيد والرسالة والإيمان بالبعث بعد الموت، أما القرآنُ المدنيُّ فإنه زيادة على ذلك جاء بتقرير نظام الدولة الإسلامية والمجتمع السعيد، وما يحتاج كلُّ فردٍ لصلاح معاشِه ومعادِه. ولذلكَ ساقَ القرآنُ العظيم ما أوصى الله به موسى عليه السلام عندما بعثه بالتوحيد والصلاة والإيمان بالبعث بعد الموت؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 11 - 16]، وقال عز وجل: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 19]. ولمَّا أغرق الله فرعونَ ونجَّى بني إسرائيل صار لموسى عليه السلام دولة، فهو في حاجة إلى النظام الشامل، والنور الذي يسلكه؛ ليهتدي به هو والمؤمنون إلى الصراط المستقيم، وقد واعده الله تعالى أربعين ليلة يتهيَّأ فيها لتلقِّي الشريعة، وقد سأله بعضُ قومه من المتعنِّتين المتنطِّعين أن يُريهم اللهَ جهرةً، وأن يسأل ربَّه ذلك، وعندما جاء الميقات قال موسى لأخيه هارون: "أنت خليفتي على بني إسرائيل فأصلح أمورهم، ولْتَكُن سياستُك لهم سياسة رشيدة، واحذر دُعاة الضلالة المفسدين في الأرض"، وما إن انطلق موسى عليه السلام لتلقِّي الشريعة عند الطور حتى أضلَّ السامريُّ بني إسرائيل، فصنع لهم عجلًا من الذَّهب له خُوار؛ أي: صوت يُسمع وصلصلة شبيهة بصوت الثور، وقال لهم: ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ﴾ [طه: 88]، فعبده جلَّةٌ من بني إسرائيل، وحاول هارون عليه السلام صَرْفَهم عن عبادة العجل، وكان اللينُ يغلب عليه صلى الله عليه وسلم، وخشي إذا شدَّد عليهم أن يتفرَّقوا، وقد بارزه عُبَّادُ العجل العداوةَ، وكادوا يقتلونه عندما كان يُحذِّرهم من عبادة العجل، ولم يكن مأذونًا له في قتالهم، فانتظر مجيء موسى عليه السلام بالشريعة من عند الله. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الوقوف المحرمة في القرآن الكريم لمحمد توفيق محمد حديد صدر حديثًا كتاب "الوقوف المحرمة في القرآن الكريم: دراسة نقدية وتحليلية"، تأليف: "محمد توفيق محمد حديد"، نشر: "مكتبة الرشد للنشر والتوزيع". وتعد هذه الدراسة جمع لأسماء أشهر مؤلفات الوقوف المحرمة في القرآن، وبيان نسخها الخطية . واهتم علماء القراءة بقضية الوقف، لكنهم اختلفوا في تحديد أقسامه: فبعضهم جعلها ثلاثة أقسام كابن الأنباري (ت 823 هـ)، والبعض جعلها أربعة كأبي عمرو الداني (ت 444 هـ)، والبعض الآخر جعلها خمسة أقسام كالسجاوندي (ت 600 هـ) والأشمون. ولكن القدر المتفق عليه بينهم جميعًا هو أن أحد هذه الأقسام يختص بالوقف غير الجائز أو الممتنع أو القبيح، وهذا القسم هو ما لا يجوز للقارئ الوقوف عليه إلا اضطرارًا. وقد عرف الإمام أبو عمرو الداني الوقف القبيح بأنه "الوقف الذي لا يُعرف المراد منه. ومثاله: الوقف على قوله ﴿ مَالِكِ ﴾ [الفاتحة: 4] والابتداء بعده بقوله: ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]". يقول الإمام ابن الجزري (ت 338 هـ): "والوقف القبيح نحو الوقف على: بسم، وعلى: الحمد، وعلى: رب، وملك يوم، وإياك، وصراط الذين، وغير المغضوب. فكل هذا لا يتم عليه كلام ولا يُفهم منه معنى. وقد يكون بعضه أقبح من بعض كالوقف على ما يحيل المعنى، ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ ﴾ [النساء: 11]، فسد المعنى بهذا الوقف؛ لأن المعنى أن البنت مشتركة في النصف مع أبويه. وإنما المعنى أن النصف للبنت دون الأبوين، ثم استأنف الأبوين بما يجب لهما مع الولد. وكذا الوقف على قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى ﴾ [الأنعام: 36]، إذ الوقف عليه يقتضي أن يكون الموتى يستجيبون مع الذين يسمعون، وليس كذلك، بل المعنى أن الموتى لا يستجيبون، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم يبعثون مستأنفًا بهم، وأقبح من هذا ما يحيل المعنى ويؤدي إلى ما لا يليق والعياذ بالله تعالى نحو الوقف على ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي ﴾ [البقرة: 26]، ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ ﴾ [البقرة: 258]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي ﴾ [المائدة: 51]، ﴿ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ ﴾ [النحل: 38]، ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ ﴾ [النحل: 60]، ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ [الماعون: 4]، فالوقف على ذلك كله لا يجوز إلا اضطرارًا لانقطاع النفس، أو نحو ذلك من عارض لا يمكنه الوصل معه، فهذا حكم الوقف اختياريًّا واضطراريًّا". ولا شك أن أشد ما يقع القارئ فيه عند الإخلال بمسائل علم الوقف والابتداء هو الخطأ العقدي الناجم عن سوء الوقف، لذا كانت هذه الدراسة حول بعض الأمثلة التي يمثل الوقف عليها خطأ في العقيدة الإسلامية؛ محاولة علمية جادة لتنبيه القراء والباحثين على اجتناﺑﻬا والقياس عليها لتجنب الوقوع فيها وفي غيرها؛ صيانة لكتاب الله عز وجل عن مثل هذه الأخطاء الجسيمة. فالوقف القبيح يؤدي لاختلال المعنى، وقد يكون هذا المعنى يختص باللغة أو الفقه أو العقيدة. وقد انقسمت الدراسة إلى مقدمة وفصلين وخاتمة على النحو التالي: ففي المقدمة تناول الكاتب سبب تصنيفه، وأهم الصعوبات التي واجهت الباحث، كما ذكر فيها عرضًا موجزًا لفصلي الكتاب، ومباحثهما، ومطالبهما. أما الفصل الأول: "رسالة فيما لا يجوز الوقف عليه في القرآن، وفيما لو تعمد القارئ الوقف عليه كفر، ولو وقف ساهيًا فسدت صلاته" للماتريدي، وتحقيق نسبتها إليه. ففيه أربعة مباحث: المبحث الأول: ترجمة موجزة لأبي منصور الماتريدي، المنسوب إليه هذه الرسالة. المبحث الثاني: نسخ هذه الرسالة الخطية. المبحث الثالث: أقوال القدامى والمحدثين في نسبة هذه الرسالة إلى أبي منصور الماتريدي، وتفنيدها. وفيه مطلبان: المطلب الأول: النسخ التي لم يتمكن الكاتب من الحصول على مصورات عنها، ولم ي قف على وصف تفصيلي لها. المطلب الثاني: النسخ التي تمكن - بفضل الله - من الحصول على مصورات عنها، أو وقف على وصف تفصيلي لها، ونسبت جميعها إلى أبي منصور الماتريدي. وقسمت ستة أقسام: القسم الأول: الرسائل التي ورد بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (52) اثنان وخمسون موضعًا. القسم الثاني: الرسائل التي ذكر فيها أوجه الوقوف العشرة، ثم ذكر أن عدد مواضع وقوف الكفر (55) خمسة وخمسون موضعًا. القسم الثالث: الرسائل التي ذكر فيها أوجه الوقوف العشرة ثم ذكر أن عدد مواضع وقوف الكفر (56) ستة وخمسون موضعًا. القسم الرابع: الرسائل التي ورد فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (8ه) ثمانية وخمسون موضعًا، وعند التحقيق تبين أنها أقل من ذلك. القسم الخامس: الرسائل التي ورد فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (83) ثلاثة وثمانون موضعًا، وعند التحقيق تبين أنها أقل من ذلك. القسم السادس: الرسائل التي ذكر فيها أنواع أو وجوه الوقوف العشرة، ثم ذكر أن عدد مواضع وقوف الكفر (83) ثلاثة وثمانون موضعًا، وعند التحقيق تبين أنها أقل من ذلك. المبحث الرابع: الرسائل المصنفة في (ما لا يجوز الوقف عليه في القرآن)، مما لم ينسب إلى أبي منصور الماتريدي. وقد صنفها - من حيث عدد الوقوف غير الجائزة التي تضمنها - سبعة عشر نوعًا: النوع الأول: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع الوقوف الحرام في القرآن (117) سبعة عشر ومائة موضع. النوع الثاني: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع وقوف الكفر في القرآن (87) سبعة وثمانون موضعًا. النوع الثالث: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (83) ثلاثة وثمانون موضعًا. النوع الرابع: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (75) خمسة وسبعون موضعًا. النوع الخامس: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (65) خمسة وستون موضعًا. النوع السادس: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (55) خمسة وخمسون موضعًا. النوع السابع: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (49) تسعة وأربعون موضعًا. النوع الثامن: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (40) أربعون موضعًا. النوع التاسع: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (36) ستة وثلاثون موضعًا. النوع العاشر: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (27) سبعة وعشرون موضعًا. النوع الحادي عشر: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (19) تسعة عشر موضعًا. النوع الثاني عشر: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (8 1) ثمانية عشر موضعًا. النوع الثالث عشر: نسخ ذكر بها أن عدد مواضع هذه الوقوف (17) سبعة عشر موضعًا. ولكثرة نسخ هذا النوع نثرًا ونظمًا، باللغة العربية، وغيرها، فقد جعله ثمانية أقسام: القسم الأول: ملحق بكتاب "التبيان في تفسير القرآن"، أو منقول عنه. القسم الثاني: ورد في أولها لفظة (أوقاف الكفر)، وذيلت بالقول بأنها منقولة م ن "فتاوى الملتقط". القسم الثالث: ورد في أولها لفظة (أوقاف الكفر)، ولم تذيل بالزعم بأنها منقولة من "فتاوى الملتقط". القسم الرابع: نسخ نسب بها هذا القول الى الشيخ زروق المالكي. القسم الخامس: نسخ كتبت في القرن الثامن الهجري حتى الحادي عشر الهجري. القسم السادس: نسخ كتبت في القرن الثاني عشر الهجري. القسم السابع: نسخ كتبت بغير اللغة العربية (الفارسية، والتركية العثمانية). القسم الثامن : ويتمثل في أرجوزة، تقع في عشرين بيتًا، تسمى "مَنِيَّةُ المجوِّدِ". النوع الرابع عشر: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (16) ستة عشر موضعًا. النوع الخامس عشر: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (15) خمسة عشر موضعًا. النوع السادس عشر: نسخ ذكر فيها أن عدد مواضع هذه الوقوف (14) أربعة عشر موضعًا. النوع السابع عشر: نسخ لم يتمكن الكاتب من معرفة عدد الوقوف غير الجائزة؛ التي نُصَّ فيها عليها. وأما الفصل الثاني : أقوال العلماء في الوقوف المسماة بـ(الوقوف المحرمة)، والمصنفات في مسألة (زلة القارئ). ففيه مبحثان: المبحث الأول: أقوال العلماء في الوقوف المسماة بـ(الوقوف المحرمة). المبحث الثاني: المصنفات في مسألة (زلة القارئ). ثم ختم الكتاب بخاتمة ، أبرز فيها أبرز النتائج، وأعقبها بالفهارس العلمية، مقتصرًا على: أولًا: فهرس الأعلام المترجمين. ثانيًا: فهرس الكتب المعرف بها. ثالثًا: فهرس المصادر والمراجع. والمؤلف هو د. "محمد توفيق محمد حديد" عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف، كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بدسوق، له من المؤلفات: • معجم مُصَنَّفات الوقف والابتداء "دراسة تاريخية تحليلية".
جرائم اليهود في المسجد الأقصى الحمد لله، الذي وسِعَ كل شيء رحمةً وعلمـًا، وأسبغ على عباده نِعَمـًا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فالمسجد الأقصى الشريف هو أحد المساجد الثلاثة التي لها مكانة عالية في الإسلام، وأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق: وقت بناء المسجد الأقصى: روى مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: (( قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنةً ))؛ [مسلم، حديث: 520]. اسم الأقصى: قال الإمام النووي رحمه الله: "سُمِّيَ الأقصى لبُعده من المسجد الحرام بمكة"؛ [صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 9، ص: 168]. ويُطلَق على المسجد الأقصى اسم بيت المقدس، وهو الاسم الشائع بعد فتح المسلمين لمدينة القدس، وسُمِّيَ بيت المقدس؛ لأنه قدُس؛ أي: طهُر من الشرك، وأصله من القدس؛ وهي الطهارة والبركة؛ [فضائل الشام والمسجد الأقصى، هشام العارف، ص: 26]. الأرض المقدسة هي الأقصى: قال الله تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [الفاتحة: 21]. • قوله: (المقدسة): أي: المطهَّرة المباركة؛ [تفسير الطبري، ج: 8، ص: 285]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "الأرض المقدسة هي بيت المقدس"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 1، ص: 417، ج: 5، ص: 148]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قال تعالى مخبرًا عن تحريض موسى عليه السلام، لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيامَ يوسفَ عليه السلام، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى عليه السلام، فوجدوا فيها قومًا من العمالقة الجبارين، قد استحوذوا عليها وتملَّكوها، فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشَّرهم بالنُّصرة والظَّفَر عليهم، فَنَكَلُوا وعصَوا وخالفوا أمره، فعُوقبوا بالذهاب في التِّيه والتمادي في سيرهم حائرين، لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد، مدةَ أربعين سنةً؛ عقوبةً لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 148]. حرص زوجة عمران على خدمة الأقصى: قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "﴿ مُحَرَّرًا ﴾؛ أي: خالصًا مفرغًا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 2، ص: 33]. • قال عكرمة رحمه الله: "إن امرأة عمران كانت عجوزًا عاقرًا تسمى حنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبِط النساء لأولادهن، فقالت: اللهم إن عليَّ نذرًا شكرًا، إن رزقتني ولدًا أن أتصدَّقَ به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنَتِهِ وخُدَّامه"؛ [تفسير الطبري، ج: 6، ص: 332]. بعض بركات الأقصى: قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. • تعريف البركة: البركة: هي النماء والزيادة؛ [لسان العرب، لابن منظور، ج: 10، ص: 395]. • قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "قوله: ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] يقول تعالى: الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم، وحروثهم وغروسهم؛ [تفسير الطبري، ج: 17، ص: 515]. • قال الإمام مجاهد بن جبر رحمه الله: "سمَّاه مباركًا؛ لأنه مقر الأنبياء، ومهبِط الملائكة والوحي"؛ [تفسير البغوي، ج: 3، ص: 105]. حياة السيدة مريم في الأقصى: قال سبحانه: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]. • قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قال مجاهد بن جبر وغيره: يعني: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 2، ص: 36]. تبشير زكريا بابنه يحيى: قال الله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 38، 39]. • قوله: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "لما رأى زكريا عليه السلام أن الله تعالى يرزق مريم عليها السلام فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمِع حينئذٍ في الولد، وكان شيخًا كبيرًا قد ضعُف، ووهن منه العظم، واشتعل رأسه شيبًا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرةً وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداءً خفيًّا". • قوله: ﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾؛ أي: من عندك. • قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38] أي: ولدًا صالحًا. • قوله: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾؛ أي: خاطبته الملائكة شفاهًا خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته، ومجلس مناجاته، وصلاته. • قوله: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾ [آل عمران: 39]؛ أي: بولدٍ يوجد لك من صلبك اسمه يحيى؛ قال قتادة: "إنما سُمِّيَ يحيى؛ لأن الله تعالى أحياه بالإيمان". • قوله: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: بعيسى ابن مريم. • قوله: ﴿ وَسَيِّدًا ﴾؛ قال قتادة: سيدًا في العلم والعبادة. • قوله: ﴿ وَحَصُورًا ﴾؛ أي: معصومًا من الذنوب. • قوله: ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]: هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى؛ [تفسير ابن كثير، ج: 3، ص: 57:54]. نصيحة يحيي لبني إسرائيل في الأقصى: روى الترمذي عن الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمَرَ يحيى بن زكريا بخمسِ كلماتٍ أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يُبْطِئَ بها، فقال عيسى: إن الله أمَرَكَ بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أنا آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسَف بي أو أُعذَّب، فجمع الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشُّرُف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن؛ أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وإن مَثَلَ من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق، فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله يَنْصِبُ وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام؛ فإن مَثَلَ ذلك كمثل رجل في عِصابة معه صُرَّة فيها مِسْك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة؛ فإن مَثَلَ ذلك كمثل رجل أسَرَهُ العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله؛ فإن مَثَلَ ذلك كمثل رجل خرج العدو في أَثَرِهِ سِراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2298]. القبلة الأولى للصلاة هي المسجد الأقصى بفلسطين: روى الإمام البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجَّه إلى الكعبة؛ فأنزل الله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 144]، فتوجَّهَ نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس؛ وهم اليهود: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرَّف القوم، حتى توجَّهوا نحو الكعبة))؛ [البخاري، حديث: 399]. • قال قتادة بن دعامة رحمه الله: في قول الله: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]: "كان المسلمون يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، ثم وجَّه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام، فنسخها الله في آية أخرى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة"؛ [تفسير الطبري، ج: 2، ص: 452]. كان المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين في الصلاة، لمدة أربعة عشر عامًا تقريبًا منذ نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة وحتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر للهجرة المباركة إلى المدينة. رحلة نبينا إلى المسجد وصلاته إمامًا بجميع الأنبياء : قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. • قال ابن كثير رحمه الله: "يمجِّد تعالى نفسه، ويعظِّم شأنه؛ لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره؛ ﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]؛ يعني: محمدًا صلوات الله وسلامه عليه، ﴿ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]؛ أي: في جنح الليل، ﴿ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [الإسراء: 1]؛ وهو مسجد مكة ﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]؛ وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدِن الأنبياء - أي مكان إقامتهم - من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جُمعوا له هنالك كلهم، فأمَّهم في مَحَلَّتِهم، ودارهم، فدلَّ على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله: ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ [الإسراء: 1]؛ أي: محمدًا، ﴿ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1]؛ أي: العِظام؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 18]، وقوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]؛ أي: السميع لأقوال عباده؛ مؤمنهم وكافرهم، مصدِّقهم ومكذبهم، البصير بهم، فيعطي كلًّا ما يستحقه في الدنيا والآخرة"؛ [تفسير ابن كثير، ج: 8، ص: 374:373]. • روى ابن جرير الطبري عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، وهو رجل من قومه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة، فأُتيت بطَسْتٍ من ذهب فيها من ماء زمزم، فشُرح صدري إلى كذا وكذا، قال قتادة: قلت: ما يعني به؟ قال: إلى أسفل بطنه، قال: فاستُخرج قلبي فغُسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه، ثم حُشِيَ إيمانًا وحكمةً، ثم أُتيت بدابة أبيضَ، وفي رواية أخرى: بدابة بيضاء يُقال له البُراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خطوه منتهى طرفه، فحُملت عليه، ثم انطلقنا حتى أتينا إلى بيت المقدس فصليت فيه بالنبيين والمرسلين إمامًا، ثم عُرج بي إلى السماء الدنيا"؛ [حديث صحيح، تفسير الطبري، ج: 17، ص: 493:492، الإسراء والمعراج، للألباني، ص: 92]. • روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن رحلة الإسراء والمعراج: ((قد رأيتُني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضَرْبٌ جَعْدٌ، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فَأَمَمْتُهم))؛ [مسلم، حديث: 172]. • روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُتيتُ بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركِبتُه حتى أُتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربِط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترتَ الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء))؛ [مسلم، حديث: 162]. • قال علي الهروي رحمه الله: "قوله: (فصليت فيه ركعتين)؛ أي: تحية المسجد، والظاهر أن هذه هي الصلاة التي اقتدى به الأنبياء وصار فيها إمام الأصفياء"؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 8، ص: 3765]. ثواب إقامة الصلاة في الأقصى: روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشُدُّوا الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى))؛ [مسلم، حديث: 827]. • قال الإمام النووي رحمه الله: "في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وفضيلة شد الرحال إليها؛ لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها"؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 9، ص: 168]. روى ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألَّا يأتي هذا المسجدَ أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أُعطيهما، وأرجو أن يكون قد أُعطيَ الثالثة))؛ [حديث صحيح، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 1156]. • قوله: (حكمًا يصادف حكمه)؛ أي: يوافق حكم الله، والمراد: التوفيق للصواب في الاجتهاد وفصل الخصومات بين الناس. • قوله: (وملكًا لا ينبغي)؛ أي: لا يكون. • قوله: (ألَّا يأتي هذا المسجد)؛ أي: لا يدخل فيه؛ [حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ج: 1، ص: 430]. روى الحاكم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: ((تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مسجد بيت المقدس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولَنِعْمَ الْمُصلَّى، وليوشكن ألَّا يكون للرجل مثل شَطَنِ فَرَسِهِ من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خيرٌ له من الدنيا جميعًا، أو قال: خير من الدنيا وما فيها))؛ [حديث صحيح، السلسلة الصحيحة للألباني، ج: 6، ص: 955]. • قوله: (شطن فرسه): أي: حبل الفرس. أرض المحشر في الشام هي القدس: روى أبو جعفر الطحاوي والبيهقي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: الصلاة في مسجدك أفضل أم الصلاة في بيت المقدس؟ فقال: الصلاة في مسجدي مثل أربع صلوات في مسجد بيت المقدس، ولَنِعْمَ الْمُصلَّى هو؛ أرض المحشر، وأرض الْمَنْشَر))؛ [حديث صحيح، السلسلة الصحيحة للألباني، ج: 6، ص: 954]. • روى أحمد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت، أو من حضرموت تحشر الناس، قالوا: فبم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام))؛ [حديث صحيح، مسند أحمد، ج: 9، ص: 145، حديث: 5146]. • روى أبو الحسن الربعي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشام أرض المحشر والمنشر))؛ [حديث صحيح، صحيح الجامع للألباني، حديث: 3726]. • قوله: (الشام أرض المحشر والمنشر): أي: البقعة التي يُجمع الناس فيها إلى الحساب ويخرجون من قبورهم ثم يُساقون إليها، وخُصَّت بالشام؛ لأن أكثر الأنبياء بُعثوا منها، فانتشرت في العالم شرائعهم، فناسب كونها أرض المحشر والمنشر؛ [التيسير بشرح الجامع الصغير، عبدالرؤوف المناوي، ج: 2، ص: 81]. دخول عمر بن الخطاب القدس: قال ابن كثير: "لما فرغ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من فتح مدينة دمشق، كتب إلى أهل إيلياء (القدس) يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذُلون الجزية، أو يُؤذِنون بحرب، فأبَوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد رضي الله عنه، ثم حاصر بيت المقدس وضيَّق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدَمَ إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه أبو عبيدة بذلك، فوافق عمر، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس، كان فتح القدس سنة خمس عشرة من الهجرة (الموافق: 636 ميلادية)"؛ [البداية والنهاية، لابن كثير، ج: 9، ص: 656]. عمر بن الخطاب يصلي في الأقصى الشريف: دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد الأقصى من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود صلى الله عليه وسلم، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الفجر من الغد، فقرأ في الأولى بسورة (ص) وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة (الإسراء) ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضَاهَيْتَ – شابهتَ – اليهودية، ثم جعل المسجد في قِبْلِيِّ بيت المقدس، وهو العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك، وسخَّر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلةً؛ لأنها قبلة اليهود؛ [البداية والنهاية، لابن كثير، ج: 9، ص: 656]. الخليفة عمر بن الخطاب يكتب أمانًا لجميع أهل القدس: (هذا ما أعطى عبدالله عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء (مدينة القدس) من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمنٌ على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يُحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية)، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان؛ [تاريخ ابن جرير الطبري، ج: 2ـ ص: 449]. الصليبيون يحتلون القدس: لقد خرجت الجيوش الصليبية من أوروبا قاصدين احتلال القدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الهجرة، وهم في نحو ألف ألف (مليون) مقاتل، وحاصروا بيت المقدس بضعًا وأربعين يومًا، ودخلوه في ضحى يوم الجمعة، الثالث والعشرين من شهر شعبان من نفس العام، أخذ الصليبيون يقتلون المسلمين أسبوعًا كاملًا، فقتلوا ما يزيد عن سبعين ألف قتيل من المسلمين، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعُبَّادهم، وزُهَّادهم، الذين جاوروا المسجد الأقصى الشريف، وغنِم الصليبيون ما لا يقع عليه الحصر، ثم حصروا جميع من في القدس من المسلمين بداخل المسجد الشريف، واشترطوا عليهم إنهم متى تأخروا عن الخروج بعد ثلاثة أيام قتلوهم عن آخرهم، فشرع المسلمون في الإسراع والمبادرة إلى الخروج، ومن شدة ازدحامهم بأبواب المسجد الأقصى قُتل منهم خلق كثير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، أخذ الصليبيون من مسجد قبة الصخرة اثنين وأربعين قنديلًا من الفضة، زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنُّورًا من فضة، زنته أربعون رطلًا، وثلاثةً وعشرين قنديلًا من الذهب؛ [البداية والنهاية، لابن كثير، ج: 16، ص::166]. صلاح الدين الأيوبي يحرر القدس من الصليبيين: قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "لما فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ما حول بيت المقدس، جمع جيوشه وسار نحو بيت المقدس يوم الأحد، في الخامس عشر من رجب، سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من الهجرة، فنزل غربي بيت المقدس وقد حصَّنت الفرنج (الأوروبيون) الأسوار بالمقاتلة (الجنود)، وكانوا أكثر من ستين ألف مقاتل، بادر السلطان إلى الزاوية الشرقية الشمالية من سور بيت المقدس فأحرقها، فسقط السور، فلما شاهد الفرنج (الأوروبيون) ذلك، ذهب أكابرهم إلى صلاح الدين وطلبوا منه أن يعطيهم الأمان، وبعد مناقشات، وافق السلطان على الصلح، بشرط أن يدفع كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيرًا للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، ويتحولوا منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور، فكتب الصلح على ذلك، ومن لا يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يومًا فهو أسير، فكان جملة من أُسِرَ بهذا الشرط ستة عشر ألف إنسان، ودخل صلاح الدين بيت المقدس يوم الجمعة قبيل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب، استنقذ صلاح الدين بيت المقدس من أيدي الفرنج (الأوروبيين) بعد اثنتين وتسعين سنةً"؛ [البداية والنهاية، لابن كثير، ج: 9، ص: 587:585]. كان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله شافعيَّ المذهب، وهو الذي أقام الشافعية بالديار المصرية، ثم ولى منهم القضاة بعد أن كان القضاة بمصر شيعة على مذهب الفاطميين، ولما فتح الله بيت المقدس على يديه أنشأ المدرسة الصلاحية، وجعلها لفقهاء الشافعية، وذلك في سنة 588 هجرية؛ [الأنس الجليل، عبدالرحمن العليمي، ج: 2، ص: 102]. اليهود وهيكل سليمان: هيكل سليمان: هو مسجد كبير جعله سليمان صلى الله عليه وسلم لعبادة الله تعالى في بيت المقدس عام 960 قبل الميلاد تقريبًا. قام الإمبراطور الروماني تيتوس بهدم هيكل سليمان عام 70 ميلادية واضطهد اليهود، فاضطر اليهود إلى ترك فلسطين وهاجروا إلى الجزيرة العربية، وسكنوا المدينة؛ لأنهم كانوا يعلمون من كُتُبهم أنه قد اقترب زمان ظهور نبي في الجزيرة العربية، وكانوا يرجُون أن يكون ذلك النبي من بني إسرائيل، وكان منهم: يهود بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع؛ [موسوعة اليهود، لعبدالوهاب المسيري، ج: 3، ص: 276]. يطلق اليهود على ساحات المسجد الأقصى اسم (جبل الهيكل)؛ نسبةً إلى هيكل سليما ن صلى الله عليه وسلم. يزعم اليهود أن المسجد الأقصى بُني على أنقاض هيكل سليمان؛ من أجل ذلك يحاولون هدمه، ويمكن الرد على هذا الكذب بالأدلة الآتية: (1) المسجد الأقصى قد تم بناؤه قبل هيكل سليمان بمئات السنين، فكيف يكون الهيكل تحته. (2) لو كان هيكل سليمان موجودًا عقب فتح المسلمين لبيت المقدس عام 15 هجرية، على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لأبقاه ولحافظ عليه، كما حافظ على كنائس النصارى ومعابد اليهود الموجودة في مدينة القدس. (3) ثبت بالدليل القاطع، بعد التنقيب الذي قام به اليهود تحت المسجد الأقصى، عقب احتلالهم لمدينة القدس عام 1967م، عدم وجود أي أثر لهيكل سليمان تحت المسجد الأقصى. سبب بكاء اليهود عند حائط الْمَبْكى: حائط المبكى: هو جدار في المسجد الأقصى يبلغ طوله حوالي خمسين مترًا، وارتفاعه حوالي عشرين مترًا، يقف اليهود أمامه يبكون على خراب الهيكل، ويدعون الله تعالى أن ييسر لهم بناء هيكل سليمان مرة ثانية، ويعتَبِر اليهود حائط المبكى هو الأثر الباقي من هيكل سليمان؛ [معارك العرب، أحمد الشقيري، ص: 289: 306]. المسجد الأقصى يتعرض لجرائم اليهود: إن الأقصى قد تعرض إلى الكثير من الاعتداءات اليهودية منذ أن قام اليهود باحتلال بيت القدس قبل خمسين عامًا. ومن هذه الجرائم اليهودية الأمور الآتية: (1) في 11/6/1967 بدأت الحكومة اليهودية بعمل حفريات أسفل المسجد الأقصى وفي منطقته. (2) في 15/8/ 1967دخل الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي وخمسون من أتباعه ساحة المسجد الأقصى، وقاموا بأداء صلاتهم فيه. (3) قامت الحكومة اليهودية بتدمير المنطقة الواقعة أمام مربِط البراق - وهو المكان الذي يسميه اليهود: حائط المبكى - وإجلاء سكان الحي عنه. (4) في يوم 21 أغسطس 1969م قام بعض اليهود بإحراق المسجد الأقصى. (5) اقتطعت الحكومة اليهودية جزءًا من جدران المسجد الأقصى؛ وهو حائط البراق، وأطلقوا عليه كذبًا اسم حائط المبكى، ومنعوا المسلمون من الاقتراب منه. (6 ) في يوم 11/4/1982 اقتحم جندي يهودي مسجد قبة الصخرة، وقتل اثنين من المصلين، وجرح أكثر من ستين فلسطينيًّا. (7) في يوم 10/8/1990 ارتكب اليهود مذبحةً في المسجد الأقصى،ذهب ضحيتها ثلاثة وعشرون فلسطينيًا. (8) في يوم 27 /9/ 1996م دخل اليهود مجمع المسجد الأقصى، بعد أن فتحوا نفقًا تحت المسجد، وقتلوا ثلاثة من المصلين، وجرحوا أكثر من مائة آخرين. (9) في يوم 28 /9/ 2000م دخل رئيس وزراء إسرائيل شارون، المسجدَ الأقصى؛ مما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. (10) في يوم 8 /2/ 2006م قامت وزارة التربية والتعليم اليهودية وكذلك الوكالة اليهودية بتوزيع آلاف النسخ لخرائط البلدة القديمة في القدس، وضعت فيها صورة لمجسم هيكل سليمان المزعوم مكان مسجد قبة الصخرة . (11) في يوم 17 /7/ 2017م قامت الحكومة اليهودية بإغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين، ومنعوا رفع الأذان، وإقامة الصلاة للمرة الأولى منذ احتلال القدس. (12) قامت الحكومة اليهودية بفتح باب إلى حائط المبكى المزعوم؛ ليسهُلَ على اليهود المرور فيه. (13) قامت الحكومة اليهودية بمصادرة الكثير من الأراضي العربية داخل مدينة القدس. (14) قامت الحكومة اليهودية بإعادة تعمير الحي اليهودي في القدس. (15) قامت الحكومة اليهودية بإعادة الحياة إلى جبل صهيون، وذلك بإنشاء رموز يهودية عليه، تذكِّر اليهود بأهمية هذا الجبل في العقيدة اليهودية. (16) قامت الحكومة اليهودية بربط جبل صهيون بمدينة القدس عن طريق المباني السكنية. (17) قامت الحكومة اليهودية بإنشاء الجامعة العبرية على جبل صهيون. (18) قامت الحكومة اليهودية بتشجيع بناء المستوطنات اليهودية في مدينة القدس. (19) قامت الحكومة اليهودية ببناء سور ضخم حول مدينة القدس، مع بناء قوس عمراني من المباني العالية، المصممة على أساس اعتبارات دفاعية عسكرية، في المقام الأول، بحيث تصبح المدينة محصنة ضد أي اعتداء عليها. (20) قامت الحكومة اليهودية باستبدال الكثير من أسماء الشوارع والساحات المحيطة بالمسجد الأقصى، بأسماء يهودية. (21) قامت الحكومة اليهودية بإطلاق اسم جبل الهيكل على المكان الموجود عليه المسجد الأقصى ليتجنبوا التسمية الصحيحة، وهي: جبل بيت المقدس؛ [مجلة البحوث الإسلامية، والمسجد الأقصى، عيسى القدومي، ص: 32، وتهويد القدس، للدكتور: مجدي عبده، ص: 21:20]. المسلمون يحررون الأقصى من اليهود: روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون - أي: تنتصرون - عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلمُ، هذا يهودي ورائي، فاقتله))؛ [البخاري، حديث: 3593، مسلم حديث: 2921]. • قوله: (تقاتلكم اليهود): هذا إنما يكون إذا نزل عيسى ابن مريم عليهما السلام، فإن المسلمين يكونون معه واليهود مع الدجال. • هذا الحديث فيه إشارة إلى بقاء شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عيسى عليه السلام يكون على شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر بما سيقع عند نزول عيسى عليه السلام، من تكلُّم الجماد والإخبار والأمر بقتل اليهود، وإظهاره إياهم في مواضع اختفائهم؛ [عمدة القاري، بدر الدين العيني، ج: 14، ص: 199]. • روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلمُ، يا عبدَالله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغرقدَ؛ فإنه من شجر اليهود))؛ [مسلم، حديث: 2922]. • قال الإمام النووي رحمه الله: "الغرقد نوع من شجر، ذو شوك، معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود"؛ [صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 18، ص: 45]. روى البخاري عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَمٍ، فقال: اعْدُدْ ستًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتان يأخذ فيكم كقُعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غايةً، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا))؛ [البخاري، حديث: 3176]. • قوله: (من أدم) أي: من جلد. • قوله: (ستًّا)؛ أي: من العلامات الواقعة. • قوله: (بين يدي الساعة)؛ أي: قدامها. • قوله: (موتان)؛ أي: وباء، وهذا كناية عن كثرة الموت. • قوله: (يأخذ فيكم)؛ أي: يتصرف في أبدانكم. • قوله: (كقُعاص الغنم): داء يأخذ الغنم، فلا يلبثها أن تموت. • قوله: (استفاضة المال)؛ أي: كثرته. • قوله: (فيظل)؛ أي: فيصير. • قوله: (ساخطًا)؛ أي: غضبان. • قوله: (بيت من العرب): المراد من بيوت أمته، وإنما خص العرب لشرفها، وقربها منه صلى الله عليه وسلم. • قوله: (فتنة)؛ أي: بلاء عظيم. • قوله: (هدنة)؛ أي: مصالحة. • قوله: (بني الأصفر)؛ أي: الروم. • قوله: (فيغدرون)؛ أي: ينقضون عهد الهدنة. • قوله: (غايةً)؛ أي: رايةً، وهي العَلَم. • قوله: (اثنا عشر ألفًا)؛ أي: ألف فارس؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 8، ص: 3411]. المؤمنون يتحصنون في الأقصى من المسيح الدجال: روى الإمام أحمد عن جنادة بن أبي أمية، قال: ((أتيت رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدَّجَّال، ولا تحدثني عن غيرك، وإن كان عندك مصدقًا، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنذرتكم فتنة الدجال، فليس من نبي إلا أنذره قومه أو أمته، وإنه آدم جعد أعور عينه اليسرى، وإنه يمطر ولا ينبت الشجرة، وإنه يُسلَّط على نفس فيقتلها ثم يحييها، ولا يُسلَّط على غيرها، وإنه معه جنة ونار، ونهر وماء، وجبلُ خبز، وإن جنته نار، وناره جنة، وإنه يلبث فيكم أربعين صباحًا، يرِد فيها كل مَنْهَلٍ إلا أربعة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والطور، ومسجد الأقصى، وإن شَكَلَ عليكم أو شبه، فإن الله ليس بأعور))؛ [حديث صحيح، مسند أحمد، ج: 39، ص: 88، حديث: 23684]. ختامًا : أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم الكرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة؛ فإن دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة؛ وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مـحمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
العولمة الاقتصادية إن التوجهَ إلى العولمة بمفهومها الاقتصادي - بما في ذلك الانخراط في مفهومات المنافسة الدولية وتنظيم الأرباح - سيؤدي ذلك إلى الدخول في "نطاق ممارسة الضغوط والمناورة في المجالات العمالية؛ بهدف تخفيضِ كلفةِ العمل؛ أي: العمل على إنقاص الأجور، وتقليص الخدمات الاجتماعية، وإهمال العناية والرعاية المكفولة للقوى العاملة؛ تدريبًا وتوجيهًا وتأهيلًا، وقد يميل التفضيلُ للقطاعات الاقتصادية التي لا تولِّد فرصَ عملٍ جديدة، ولا تعتمد على كثافة اليد العاملة؛ عملًا بالقاعدة الاقتصادية الذهبية التي تحكم اقتصادَ العولمة، وهي: إنتاج أكبر قدر من السلع والخدمات بأقل عدد ممكن من العمَّال. قد يتزامن ذلك مع إضعافِ قدرات الدولة، من حيث حرمانُها من الموارد المالية، التي تحصل عليها في شكل ضرائبَ ورسوم مختلفة" [1] ، ممَّا يشكِّك بدوره في وعود العولمة الإيجابية، تلك التي أعطت الصورةَ المشرقة في مجال تهيئة الموارد البشرية، وتوافرها مؤهَّلةً مدرَّبة [2] . يُدخِلنا هذا في مفهومٍ جديد للعمل عند النظر إليه من البعد الاقتصادي، وليس البعد الاجتماعي فقط، بل إن مفهومَ العمل نفسه أضحى يتطور تطورًا ملحوظًا، حيث التركيزُ على تقنية العمل، وذلك ببروزِ وجوهِ نشاطٍ جديدة؛ كالبحث والتطوير، والتركيز على الرموز والبيانات، لا على الأدوات والآلات. هذا المفهوم الجديد إنَّما هو جزءٌ من عملية التدويل والعولمة، وبدأنا الآن نسمع عن أساليبَ جديدة في العمل، مثل مفهوم (العمل عن بُعد) [3] . من هذا المنطلق كذلك، بدأنا نسمع عن أُطروحات (نهاية العمل) كما جاء به جيرمي ريفكين، الاقتصادي الأمريكي الذي أطلق هذه الأطروحةَ سنة 1415هـ/ 1995م، ورافقه عالمان فرنسيَّان طرحا شيئًا حول ذلك: أوَّلهما: روبير كاستل الذي تحدَّث عن تحولات المسألة الاجتماعية، وثانيهما: دومينيك ميدا التي أصدرت كتابًا بعنوان: (العمل قيمة في طريقها للاختفاء)، ويعضدهما من منطلقٍ آخرَ وليام بريدج في كتابيه: (الاستحواذ على العمل)، و(قرية عالمية)، حيث يتوقَّعون جميعًا نهايةَ الأجرة لصالح تطوُّر العمل المستقل. أوجد هذا الطرحُ طرحًا مناقضًا؛ حيث انبرى مَن يقول: "إن العملَ يظلُّ واقعةً أساسية ومعقَّدة بصورة غير متناهية، ويصعب تخيُّلُ ثقافةٍ يخلو أُفُقُها من العمل"، كما تقول آن ماري غروز بلير في مؤلفها: (من أجل الانتهاء من نهاية العمل) [4] . من هنا، يتأكد تحوُّلُ الشأنِ العمَّالي من الشأن الاجتماعي إلى الشأن الاقتصادي، وتدخُّل منظمة التجارة العالمية بالشأن العمَّالي يأتي من كونه شأنًا اقتصاديًّا؛ إذ لم تتدخل المنظمة مباشرة في جوانب الرعاية الاجتماعية أو التنمية الاجتماعية بمفهومهما المتخصِّص، مما يسوِّغ انفكاكَ الشأن العمَّالي عن الشأن الاجتماعي، ليستقلَّ الشأنُ العمَّالي بهيئاته ومؤسَّساته، بعد أن كان مقرونًا هيكليًّا بالشأن الاجتماعي، وهذا ما حدث أخيرًا في بعض دول منطقة الخليج العربية، مثل: عمان والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى بعض الدول العربية الأخرى: مصر ولبنان والسودان والجزائر والمغرب. [1] انظر: منظَّمة العمل العربية، العولمة وآثارها الاجتماعية، القاهرة: المنظَّمة، 1998م، ص 210. [2] انظر: New York: W._. Joseph E. Stiglitz. Globalization and its Discontent .52 _ p. 23 - W. Norton and Company. 2002 [3] انظر: يحيى اليحياوي، في العولمة والتكنولوجيا والثقافة: مدخل إلى تكنولوجيا المعرفة، بيروت: دار الطليعة، 2002م، ص 151 - 155. [4] انظر: رجب بو دبوس، العولمة بين الأنصار والخصوم، بيروت: الانتشار العربي، 2002م - ص 99 - 100.
في تكريم الصديق المؤرِّخ أحمد العلاونة بمناسبة صدور الجزء السادس من ذيل الأعلام أيمن بن أحمد ذو الغنى ترجعُ بي الذاكرةُ إلى يومٍ من أيام عام ثمانيةَ عشرَ وأربعِ مئةٍ وألف، في إبَّان عملي في مكتب تحقيق التراث بمؤسسة الرسالة، يوم دخلتُ غرفةَ شيخيَّ الفاضلَين المشرفَين على المكتب؛ محمد نعيم العرقسوسي و إبراهيم الزيبق ، كان وجهاهما متهلِّلَين سعادةً وبهجة، وهما يقلِّبان صفَحات كتابٍ بدا لي أوَّلَ وهلةٍ جُزءًا من أجزاء المَعلَمة النفيسة ( الأعلام ) لخير الدين الزِّرِكْلِي ، ولكن ما أسرعَ أن علمتُ أن الكتابَ ليس الأعلام، ولكنَّه كتابٌ صدر بأَخَرةٍ هو ذيلٌ للأعلامْ، وإكمالٌ له وإتمامْ، وأن صاحبَه ليس الزِّرِكليَّ ولكنَّه كاتبٌ مغمور اختارَ النسجَ على نَوْلِه، والمُضيَّ على سَننه ومَنهَجِه. وكان اسمُ ذاك الكاتبِ هو أحمد العلاونة ، ولم يكن معروفًا في دنيا الثقافة والعلم، فهل يَبعَثُ حقًّا الزِّرِكليَّ من جديد، ويأخذُ منه رايةَ التصنيف في سِيَر الأعلام؟! إن الدربَ شاقٌّ طويل، والسيرَ فيه حَزْنٌ عسير، ولولا أن الزِّرِكليَّ أطعمَ كتابه من لحمه وروَّاه من دمه، على مدار ستين عامًا، ما تبوَّأ المنزلةَ التي تبوَّأها، ولا نال ما نال من حُظوةٍ وخلود. حتى قال الشيخُ الطنطاويُّ: إن الأعلامَ كتابٌ يفاخرُ به عصرُنا سالفَ العصور. وكانت أَماراتُ الغِبطة والاستبشار على وجهَي الشيخَين عرقسوسي والزيبق، توحي بنجاح صاحبنا في أُولى خَطَواته، وعسى أن يخطُوَ على إثرها خَطَواتٍ وخَطَوات.. وحُبِّب إليَّ من يومِئذٍ النظرُ في كتابه ( ذيل الأعلام )، والتأمُّلُ في تراجمه وما ازدانت به من صورٍ وخطوطٍ لأصحابها. وما هي إلا سُنيَّاتٌ وأحُطُّ رَحْلي في رياض نجدٍ عام اثنينِ وعشرين وأربعِ مئةٍ وألف، للعمل في مركز تحقيق التراث بإشراف شيخنا المِفضال الدكتور سعد الحُمَيِّد ، وأُكلَّفُ تزويدَ مكتبة المركز بالكتب المهمَّة، فيُطالعني فيها كتابان مضى فيهما صاحِباهُما في ذات السَّبيل التي مضى فيها العلاونة، أوَّلُهما ( تتمَّة الأعلام ) للشيخ محمد خير رمضان يوسُف ، وقد صدر والذيلُ في ذات العام، والآخَرُ ( إتمام الأعلام ) للأستاذ محمد رياض المالح والدكتور نزار أباظة ، ولم يتأخَّر صدورُه عن سابقَيه سوى عام. وحملَني الفضولُ على معرفة المتفقِ والمفترق بين هذه الكتب الثلاثة، وما امتاز كلٌّ منها من رصِيفَيه، فاقتنيتُها لنفسي، وأمعَنتُ النظرَ فيها وفي مواردها ومصادرها، والموازنةَ بينها في تراجمها وموادِّها، وخَلَصتُ من كلِّ ذلك إلى إنشاء مقالةٍ موجَزة نشرتها في مجلة الفيصل، رجَّحتُ فيها كِفَّةَ ( ذيل الأعلام )، ورأيتُ صاحبَه أدنى إلى منهج الزِّرِكليِّ وألصقَ به. أمَّا ( تتمَّة الأعلام ) لمحمد خير فهو أبعدُ الكتب الثلاثة عن حِياد الزِّرِكلي وموضوعيته، والنأيِ عن إقحام العاطفة الشخصية في تراجمه. وأمَّا ( إتمام الأعلام ) للمالح وأباظة فإغارةٌ على الكتابين الآخرَين وسطوٌ عليهما! وقسَوتُ في مقالتي على الدكتور أباظة وحمَّلته جَريرةَ اللَّصِّ والنَّهْب، غفرَ الله لي وله. وذلك أنه هو من نهضَ بإكمال العمل بعد وفاة شريكه المالح، وكنت زُرت الأخيرَ في بيته وقد أضرَّ به المرضُ، وضاعفَ الخللُ في وظائف الغُدد حجمَه أضعافًا، وكان تنفُّسه الطبيعي لُهاثًا، ولا يكاد يتحرَّك إلا بشِقِّ الأنفس، وكانت على طاولته أكوامٌ من الجُزازات لتراجم كتابه الذي مضى إلى بارئه ولم يرَه، رحمه الله وجعل ما أصابه من وصَبٍ كفَّارةً ورِفعة. على أن الإنصافَ يقتضي أن أقول: إن أصحابَ هذه الكتبِ الثلاثةِ قد اجتهدوا ما قدَروا على الاجتهاد، وإن تفضيلي للذيل وتقديمي له، لا يحُطُّ من قدر الكتابين الآخرَين إلا بما ألمَعتُ إليه آنفًا ممَّا شابَهُما من أوجُهِ القصور، ولا يكاد يُغني منها كتابٌ عن كتاب للمتخصِّصين في فنِّ التراجم. و يقتضي أيضًا أن أقول: إنني عرفتُ فيما بعدُ الأستاذَ الدكتور نزار أباظة ، وتوثقت صلتي به، فرأيته مثالًا للفضل والنُّبل، أديبًا أريبًا هيِّنًا ليِّنًا، ومؤرِّخًا نفَّاعة، وما كان صنيعُه في (الإتمام) سوى كَبْوةِ فارس، والفاضلُ من عُدَّت زلَّاتُه لا من بَرِئَ منها، ومَن ذا الذي لا يزِلُّ؟! تلك كانت نتيجةَ موازنتي بين الكتب الثلاثة، وأرجو أني كتبتُها لوجه العلم والحق، وكنت فيها مُقْسِطًا مُنصِفًا، بريئًا من دخَل المُصانعة والمجاملة؛ فلم تكن أسبابي قد اتصلت بأسباب أحدٍ من أصحابها، سوى ما ذكرتُ من زيارة الأستاذ رياض المالح قُبَيل وفاته، بيدَ أنها كانت بعدُ سببًا للاتصال بهم جميعًا، وتوثُّقِ الودِّ والصِّلة. ويفجَؤُني اتصالٌ هاتفي، عام خمسةٍ وعشرينَ وأربعِ مئةٍ وألف. كان صاحبُ الصوت يتكلَّم بهدوء ورزانة، أخبرني أنه اطَّلَع على مقالتي تلك التي غَبَر على نشرها شهور، وأنه التمسَ رَقْمي فزوَّده به أستاذُنا محمد علي دولة صاحبُ دار القلم رحمه الله، وأنه اتصل بي شاكرًا لي إنصافَه في المقالة، مُبديًا سرورَه وغِبطتَه بأن ينهضَ لهذا الإنصاف مَن لا يعرفُه ولا يمتُّ له بصلة، وكان المتصلُ صاحبَ ذيل الأعلام. ولم تكن سعادتي باتصاله دونَ سعادته بمقالي. وأعلمَني أنه في زيارة لمدينة الرياض، ودعاني للقائه في فندق قصر الرياض (كراون بلازا) في حيِّ الوِزارات، وحينئذٍ عرفتُ العلاونةَ شخصًا بعد أن عرفتُه علمًا وشغفًا، وازدادت صلتي به على الأيام أخوَّةً وتعاونًا ومحبَّة. ولا تزالُ وَشيجَتُنا على كرِّ السنينَ كما هي مَكينةً متينة، رخيَّةً هنيَّة، أدام ربي الودَّ والصَّفاء بيننا. وقد عبَّر خيرَ تعبير عن هذه الوَشِيجة في آخر إهداءٍ كتبه لي قبل أيام، مستشهدًا بقول بشَّار: أخوكَ الذي لا يَنقُضُ الدَّهرَ عهدَه ولا عِندَ صَرْفِ الدَّهرِ يَزْوَرُّ جانبُه وعلى مدار العِقدَين الماضيين خَطا العلاونةُ تلك الخَطَوات المَرجوَّة، بل مضَى في مِضمار فنِّ التراجم والسِّيَر أشواطًا بعيدة، أخلص له جهدَه ووقتَه، وصدَقَ اللهَ فيه فصَدَقه. ونما الذيلُ وطال، فصار أجزاءً بدل الجزء، وأذكرُ هاهنا كلمةَ أستاذنا المصريِّ الكبير الراحل وديع فلسطين في مراسلاتي معه، فكلَّما ذُكر العلاونةُ كان يعقِّب بقوله: ( قطع الله ذيوله )؛ لأنه يرى في استمرارِ ذيوله وفاةَ مزيدٍ من العلماء والأعلام، وكنت أقول له: ( بل أطال الله ذيوله )؛ لأن موتَ الأعلام قدَرٌ محتوم، لا مندوحةَ عنه، ولا مفرَّ منه، ولكنَّ إهمالَ الترجمةِ للأعلام موتٌ ثانٍ لهم، والكتابةَ عنهم إحياءٌ لذكرهم وبعثٌ لفضائلهم. وحسبُ العلاونةِ فخرًا أن عُرفَ بكتابه ( ذيل الأعلام ) كما عُرف الزِّرِكليُّ بأصله ( الأعلام )، وأن تُكلَّلَ جهودُه بفوزه بجائزة الكتاب التراثي عام ثمانيةَ عشَرَ وألفَين ميلادية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التابعةِ لجامعة الدول العربية، في احتفال بهيج أُقيمَ في قاعة جامعة الدول العربية بالقاهرة، لقيَ فيه صاحبُه ما هو حَقيقٌ به من تبجيل. ومن قبلُ كان لقيَ مثلَ ذلك من حفاوةٍ وتكريم في اثنينية الوجيه السعودي عبد المقصود خوجه رحمه الله في مدينة جُدَّةَ عام أربعةٍ وألفَين. واختصَّ العلاونةُ بالأعلام وصاحبه؛ فقرأ الكتابَ بأجزائه الثمانية أكثرَ من مئة مرَّة ، على الحقيقة لا المجاز! وصنَّف في بيان خصائصه ومزاياه، وفي نقده وتصحيحه والاستدراك عليه خمسةَ كتب ، هي: (نظرات في كتاب الأعلام)، و(توشيح كتاب الأعلام)، و(الأعلام للزِّرِكلي محاولات في النقد والتصحيح)، و(الأعلام للزِّرِكلي مراجعات وتصحيحات ويليه فائتُ الأعلام من الصور والخطوط)، و(نفائس المخطوطات في كتاب الأعلام). وألَّف عن صاحبه ثلاثةَ كتب ، هي: (خير الدين الزِّرِكلي المؤرِّخ الأديب الشاعر صاحب كتاب الأعلام)، و(خير الدين الزِّرِكلي دراسة وتوثيق)، و(خير الدين الزِّرِكلي ببلوغرافيا، وصور ووثائق). حتى لو قال قائلٌ: إن العلاونةَ اليومَ أعلمُ أهل الأرض طُرًّا بالزِّرِكليِّ وأعلامه، لما أبعدَ النُّجْعة. ولم يقتصِر جهدُ العلاونة على إكمال عمل الزِّرِكلي والتذييل عليه ونقد كتابه وتصحيحه، ولكنَّه انتَضَى يَراعتَه ليخُطَّ في موضوعاتٍ ثقافية شتَّى؛ لا تخرج في جُملتها عن دائرة الكتب والمكتبات، وتدوين التاريخ للأعلام والرجالات، ولكنَّه أحسنَ كلَّ الإحسان باقتناص موضوعاتٍ غيرِ مطروقة، فأغنى المكتبةَ العربية بكتُب لطيفة طريفة، لا يسأمُ قارئها ولا يمَل. وغدا مُنشِئُها قامةً رفيعةً بين قامات العلم والثقافة في عصرنا، ونموذجًا للفتى العصاميِّ الذي اختار طريقَ العلم والمعرفة دون اعتمادٍ على غنًى ولا شهادة، فرفعَه الله بدَأَبه وجِدِّه، لا بجاهه وجَدِّه. وكانت ابتدأت رحلتُه بفهارسَ صنعها لنفسه وهو في العشرين من عمره، لكتاب (النحو الوافي) لعبَّاس حسن، ثم (لذكريات الشيخ علي الطنطاوي)، ولن تقفَ بإذن الله عندَ ما أخرجَ من كتبٍ أربَتِ اليومَ على أربعين كتابًا ، ولا يزال في جَعْبته فضلُ سِهام، أعانه الله وأمدَّه بمدَدٍ من رِفده. والتقطَت آثارَه عينٌ بصيرة حَصيفة، فأخضعَتْها لقراءة نقدية مُنصفة، وهي عينُ الباحثةِ العراقية الجادَّة الأستاذةِ الدكتورة نادية العَزَّاوي ، التي أسمَت قراءتها تلك: ( نقوشٌ على جُدران الزمن، تأمُّلاتٌ نقدية في مُنجَز أحمد العلاونة )، وناهيكَ به من كتاب. وبعدُ، فإن منتدى الفكر العربي بعَمَّانَ كان أقام ندوةً احتفاليةً للعلاونة بمناسبة صُدور الجزء الخامس من (ذيل الأعلام). وها نحن أُولاءِ في هذه الأمسيَّة المباركة، وفي هذه البلدة الطيِّبة، مدينةِ الرياض إحدى عواصمِ الثقافة العربية اليوم، نحتفي بصُدور الجزء السادس من (ذيل الأعلام) ، راجينَ لصاحبه العمرَ المديد، والعملَ المفيد، والإخلاصَ والقَبول. والشكرُ كلُّ الشُّكر لمَن يرفع للعلم والفكر راية، ويَعرِفُ لأهل الفضل فضلَهم، ولأهل الإحسانِ قدرَهم. فشكرًا لأخينا العزيزِ أبي سعود محمد بن سعود الحمد على مبادرته النبيلة، ولأساتذتِنا وإخوانِنا الكرام الذين شاركونا في هذه اللفتة من لفَتات البِرِّ والوفاء، وما عرَفنا أهلَ هذه البلاد إلا أهلَ بِرٍّ وجُودٍ وعطاء، لا زالوا متقلِّبين في ديارهم في أمنٍ وأمان، منعَّمين برضا الكريم المنَّان. والحمدُ لله أولًا وآخرًا. ۞۞۞۞ كان أقام الأديبُ السعودي الفاضل الباحث الشاعر محمد بن سعود الحمَد مأدُبةَ عَشاء وحفلًا تكريميًّا بمناسبة صدور الجزء السادس من كتاب ( ذيل الأعلام ) للصديق العزيز الأستاذ المؤرِّخ أحمد إبراهيم العلاونة ، مساء السبت سادس ربيع الآخِر 1445 هجرية (21/ 10/ 2023م)، حضره عددٌ من أفاضل المثقفين السعوديين وغيرهم، في الرياض. منهم: الأستاذ الدكتور محمد خير البِقاعي، والدكتور إبراهيم التركي مدير تحرير المجلة الثقافية في صحيفة الجزيرة سابقًا، والأستاذ الدكتور عبد الله الحيدري، والأستاذ الباحث أحمد بن سَليم الحمَّامي، والأستاذ عبد العزيز الفهيد، والشيخ عبد الإله الشايع، والشيخ نظر الفاريابي، والدكتور إبراهيم الحازمي، والدكتور زيدان عودة، والشيخ سعد الجلعود، والشيخ فوَّاز الموسى، والشيخ عبد العزيز آل سعد القحطاني، والأستاذ رامي ذو الغنى، والأستاذ فهد التميمي، والشيخ علي الخالدي، والشيخ سعد العمري، والكاتب الشابُّ عبد العزيز الدغيثر. وكان من تمام سعادتي أن أُلقيَ كلمتي هذه في هذا الحفل البهيِّ. الأستاذ أحمد العلاونة وعن يمينه أيمن ذو الغنى وعن يساره الدكتور محمد خير البِقاعي الدكتور محمد خير البِقاعي متكلِّمًا وعن يمينه صاحبُ الدعوة الأديب محمد بن سعود الحمَد وعن يساره الدكتور إبراهيم التركي، والدكتور عبد الله الحيدري بعض الحضور الأستاذ أحمد العلاونة وأيمن ذو الغنى إهداء بخطِّ الأستاذ أحمد العلاونة لصديقه أيمن ذو الغنى
وفاة دكتور الرياضيات القدير خضر الأحمد والد زوجتي د. بروفيسور خضر الأحمد في ذمة الله ظهر اليوم الجمعة 29/ 9/ 2023م في مدينة برلين/ألمانيا... ولد عام 1932 في حيفا بفلسطين وعاش ما بين حيفا وعكا ولم يغادرهما عشقُه لهما وتفاصيلهما يومًا. غادر منازل طفولته ومراهقته وبداية شبابه مكرهًا ليستقرَّ مع عائلته في سوريا التي باتت بلدَه الثاني، ودمشق التي باتت المدينةَ الثانية التي عشقها ولم يشعر لحظةً أنه غريبٌ عنها وعن أهلها ككل فلسطيني عاش في سوريا. فكان أن تزوَّج عام 1966 "نهلة بازرباشي" ابنة العائلة الدمشقية العريقة (والدُها كان محافظاً لمدينة دمشق وخال والدتها هو عبد الرحمن باشا اليوسف) ، زوجته التي رافقته في رحلة الحياة في قصة حب جميلة استمرَّت ما يقارب الستين عامًا حتى غادر الدنيا، قصة حب كانت في كل صباح جديد تبدو وكأنها ابتدأت اليومَ فقط، فكانت أشهرَ قصة حب في كل محيطهما مهما كبِرا. أنجبا ثلاثة أولاد بارِّين ناجحين في حياتهم الشخصية والمهنية والعلمية، أكبرهم زوجتي الصيدلانية رفيف، وأوسطهم طبيب الأسنان حامد الذي يحمل أيضًا ماجستير اختصاص في جراحة اللِّثَة، كما يحمل ماجستير في مجال تقنيات الحاسب، وثالثهم رزان التي تحمل بكالوريوس في علم المكتبات. من الجدير بالذكر أن أبناءه الثلاثة حصلوا على مقاعدهم الجامعية في الاختصاصات التي اختاروها بتفوُّقهم الدراسي دون أن يستخدموا المقعدَ الجامعي المتاح لوالدهم "الأستاذ ذو كرسي" كما ينصُّ القانون الذي يعطي الحقَّ لأحد أبنائه الدخول إلى أي فرع جامعي بغض النظر عن علاماته في الثانوية العامة. كان معينًا لأبنائه الثلاثة مادِّيًّا كل بطريقةٍ وظرفٍ معين، وكان لزوجتي وأبنائي "جهاد ولين ونوار" نصيبٌ من ذلك في سنوات البعد القسري الصعبة التي عشتها بعيدًا عنهم، فعملُ زوجتي الصيدلانية لم يكن كافيًا لسدِّ الاحتياجات واعتذرَت زوجتي يومها عن قَبول الدعم المادِّي الذي قدَّمه لها كلٌّ من أختي وخالتي وصديقٌ لي كل على حدة، لكنَّها قبلت دعمَ والدها لعائلتنا ليعيشَ أبنائي بفضل ذلك كما تعوَّدوا دون أن يشعروا يومًا بأيِّ نقص مادِّي، ناهيك عن حبِّ ورعاية واصطحاب لهم في كل مناسبة للترفيه أو السياحة. حصل على البكالوريا/الثانوية العامَّة في دمشق حاصدًا الترتيب الأول على كل سوريا، لكنه لم يرغب بدراسة الطب كما العادة في حالته لنفوره من منظر الدماء، بل قرَّر دراسة الرياضيات والفيزياء في كلية العلوم لعشقه لها، فكان أن حصل على البكالوريوس من جامعة دمشق قسم "الرياضيات والفيزياء" عام 1954 حاصدًا الترتيب الأول، ثم على دبلوم في التربية عام 1955 من جامعة دمشق. عمل بعدها مدة مدرِّسًا للمادة في مدينة السويداء معيلًا لوالدته وإخوته بعد وفاة والده المبكِّر حتى شقوا طريقهم، ليتم لاحقاً ترشيحه وحصوله على بعثة لدراسة للدكتوراه في جامعة موسكو يوم كانت جامعة مميزة على مستوى العالم في مجال الرياضيات وفي الاختصاص الذي حصل فيه على شهادة الدكتوراه عام 1964 وهو "الميكانيك السَّماوي" الذي كانت كلٌّ من روسيا وأمريكا تتسابقان به كاختصاص نادر في الفيزياء والرياضيات لا تطبيقات عملية له إلا في روسيا وأمريكا، وهو ما دعاه على التوازي لدراسة والتعمق في دراسات الرياضيات التي أبدع فيها. عاد إلى دمشق مدرساً في جامعتها عام 1965 رافضًا عروض العمل التي جاءته بداية من جامعة موسكو ثم من جامعات مختلفة في تلك الفترة وفي فترات لاحقة، ومنها جامعة ييل الأمريكية الشهيرة التي خرَّجت نصف رؤساء أمريكا، مباشرة بعد حصوله على الدكتوراة، فكان جوابه يومها: "لن أخذل سوريا التي أعطتني حقي وفضلتني كفلسطيني على السوري لتفوُّقي دون أي تمييز"، كما رفض لاحقًا عروض العمل التي جاءته من جامعات أمريكية خلال عمله أستاذًا زائرًا هناك عام 1986 كجامعة كولورادو سبرينكز وجامعة جنوب كاليفورنيا، مفضلا دائمًا العيش في سوريا ودمشق التي أحبَّ وأخلص لها، على أي شيء آخرَ مع كل الأزمات المعيشية التي كانت تمرُّ بها سوريا في تلك السنوات. غادر دمشق عام 2012 ملتحقًا بأبنائه دون أن ينساها كما حيفا وعكا، سائلًا عن إمكانيته صحيًّا للعودة إلى دمشق كما كان يسألنا في أسابيعه الأخيرة، ومردِّدًا أن أحبَّ المدن له هي "حيفا" ثم "دمشق". لم أسمعه طَوالَ ثلث قرن يلفظ كلمة نابية، ولم أسمع منه شتيمة مهما صغُرت لأحد مهما كان الظرف، كما كان دائمًا دبلوماسيًّا لطيفًا مع كل من حوله ومن قابله في أي ظرف، ولم أسمعه يومًا يعلو صوتُه لأي سبب. كان كريمًا معينًا ماديًّا بصمت لكثيرين من صلة رحمه القريبين والبعيدين، ومبادرًا لصلتهم في كل مناسبة وعيد، حاملًا مسؤولية أسرته (والدته وأخيه وأخواته الثلاث) بعد أن رحل والدُه باكرًا إلى بارئه حتى تجاوز كلٌّ منهم تلك الفترة، وبقي بارًّا بوالدته يزورها يوميًّا بلا انقطاع حتى وفاتها وهو في الستينات من عمره. كان ذا شخصية مسالمة مرحة وثقافة عامة واسعة، بعيدًا عن أي عصبية طائفية أو قومية، مسلم يؤدِّي فروضه بعيدًا عن أي تشدُّد، من عاشقي الموسيقا العربية الأصيلة كما الموسيقا الكلاسيكية الغربية، كريمًا مع عائلته التي جابَ بها العالمَ سياحةً وأعطاها من السعادة والرفاهية دائمًا ما استطاع. لم يتعامل بغضب يومًا مع أولاده، وقد ساوى دون تصنُّع ولا تشدُّق بين البنت والصبي في التعامل والحرية الشخصية التي منحها لهم بعيدًا عن أي قيود تقليدية، فأثمرت عندهم نُضجًا وتحمُّلًا للمسؤولية. زهد دائمًا في المناصب ومتطلَّباتها المقيدة وحب الظهور، معتذرًا عن ترؤُّس قسم الرياضيات في جامعة دمشق، لكنه شارك في عدة مؤتمرات علمية وندَوات وورشات عمل في سورية والأردن والمملكة العربية السعودية وإيطاليا والولايات المتحدة. عمل مدرِّساً ثم أستاذا مشاركًا ثم أستاذًا للرياضيات في جامعة دمشق منذ عام 1965 حتى تقاعده عام 1995، كما عمل أستاذاً في جامعة الملك سعود (جامعة الرياض) لفترتين متقطعتين مدتهما معًا خمس سنوات امتدتا ما بين أواخر سبعينات القرن الماضي وأواسط الثمانينات مبتعثاً من جامعة دمشق. أنجز الكثير في خدمة اللغة العربية التي يتقنها، حيث أنجز جزءًا مهمًّا من "معجم المصطلحات العلمية في الرياضيات " مع مراجعة ما تبقى منه والذي أصدره عام 2018 مجمع اللغة العربية في دمشق وهو المجمع الأقدم والأهم في العالم العربي. أيضًا، ألَّف العديد من الكتب الجامعية و شارك في تأليف بعض كتب الرياضيات للمرحلة الثانوية في المدارس العربية، كما ترجم العديد من الكتب العلمية (منها ما بات يدرَّس في الجامعات بترجمته الرصينة) ، ترجمها بأفضل وأرفع مستوى من العربية وهو العاشق للغة العربية المتمكن منها ناهيك عن تمكنه التام من اللغتين الإنجليزية والروسية وكأنهما لغته الأم، مع بعض الفرنسية، كما كان أحد المترجمين الرئيسيين ولعقود لمجلة "العلوم" التي تصدرها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كنسخة عربية مترجمة معتمدة لأهم مجلة عالمية في مجال الأبحاث العلمية تصدر في الولايات المتحدة بنفس الاسم باللغة الإنجليزية. من إنجازاته المهمة أيضاً البحوث التي نشرها على الدوام في أهم مراكز الرياضيات والفيزياء العالمية والتي كان لها أثر كبير في تقييم جامعة دمشق طوال تدريسه فيها، حيث يتم تقييم وترتيب الجامعات عالميا وفق البحوث التي ينشرها أساتذتها، فكان من القلة بل النادرة بين أساتذة الجامعات السورية التي قدمت بحوثاً حقيقية معتبرة علمياً عالميا في مختلف المجالات، وربما كان الوحيد في قسمه قسم الرياضيات الذي كان ينجز ذلك. أيضاً كان باحثاً مشاركاً في واحد من المراكز المهمة جدًّا على مستوى العالم وهو "المركز الدولي للفيزياء النظرية" في مدينة "تيريستا" الإيطالية ما بين عامي 1990- 2005 مقدمًا بحوثه الدورية فيها دونَ الاستقرار هناك مكتفياً بزياراته السنوية لتقديم أبحاثه، وهي الأبحاث في مجال "الميكانيك السَّماوي - النظُم الدينامية" التي دخلت بالضرورة لاحقاً في تطبيقات تقنية كثيرة نستخدمها اليوم، تقنيات تشكل أبحاث الرياضيات والفيزياء أُسَّها باعتبار هذه العلوم هي أسَّ العلوم التطبيقية ومن ثم التقنيات المستندة إليها. تقاعد من الجامعة عام 1995 لكنه استمر في نشاطه البحثي والترجمة حتى بضع سنوات خلت، وعمل أيضاً بعد تقاعده بين عامي 1995-2012 مستشارًا علميًّا لشركات صناعية كبيرة سورية (مجموعة مدار للألمنيوم / الصناعي أحمد دعبول – مجموعة الأمل للألمنيوم / د. موفق دعبول) ، حيث كان الراحل د. موفق دعبول ود. مكي الحسني ود. مصطفى حمو ليلى ود. أنور الإمام وآخرين بمثابة أصدقاء العمر. أيضاً كان أستاذًا مميَّزًا بعلمه وأسلوبه، فكتبَ أحدُ طلَّابه وهو الأستاذ عبد المجيد الحجِّي رحمه الله (توفي قبل عام ونيف) ، وقد كان موجهًا لمادَّة الرياضيات وعضوَ لجنة تطوير المناهج في وِزارة التربية؛ كتب عنه قائلاً: "أحبَّه كلُّ مَن درسَ عنده، وتأثَّروا به وبأسلوبه المميَّز في التدريس". يقول الحديثُ الشريف: "إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاث؛ صدقةٍ جارية، وعلمٍ يُنتَفَعُ به، وولدٍ صالح يدعو له". وقد جمع الدكتور البروفيسور "خضر الأحمد" الثلاثة بإذن الله؛ فقد كان بارًّا بكثير من رَحِمِه وغير رَحِمِه من المحتاجين منهم ماديًّا، فأعانهم حتى باتوا ركناً مفيدًا لمجتمعهم ولمَن حولهم. وبطلابٍ باتوا من مواقعهم عونًا لمجتمعهم وللإنسانية، وأبحاث عديدة له باتت مُدمجةً في كثير من التقنيات العالمية التي نستخدمها يوميًّا في حياتنا وروحُه بعضٌ منها دون أن يدري أو ندري، وأبناء ثلاثةٌ صالحون يدعون له في كلِّ لحظة مباشرة أو عبر تربيته لهم بكلِّ عمل مثمر مفيد يقومون به لأهلهم ومجتمعهم أينما حلوا في هذا العالم، وهم من لم يقصروا في ذلك، وأحفاد أخذوا منه كل ذلك. هم زوجةٌ وأبناءٌ لم ينقطع برُّهم به في أيِّ لحظة وبكلِّ حبٍّ ممكن، خاصَّة في الأشهر التي تراجعت فيها حالتُه الصحية كثيرًا وتدريجيًّا بسرعة، بحكم الشيخوخة حتى بات مُقعدًا عاجزًا عن إنجاز أيِّ أمر شخصي مهما صغُر، ليقضيَها مُحاطاً بزوجته وأولاده بكل عناية وحب يمكن أن يحصلَ عليها شخص، دون لحظة أو همسة أو نبرة تأفُّف مهما صغرت، بل بحب خالص حقيقي في كل قولٍ وفعل، ورعاية غير محدودة بوقت أو جهد بدني أو نفسي، حب ورعاية جعلته يقضي ما تبقَّى من عمره سعيدًا بين من أحبَّهم، دون ألم جسدي أو نفسي، ليغادرنا راضيًا مرضيًّا بإذن الله. الموت حق وحقيقة لا مفرَّ منها لكائن، فالراحلُ هو السابق ونحن به لا بدَّ لاحقون، فحتى لقاء قادم معه نقول: رحمه الله، وأثابه جنةً ورضوانًا وجمعنا الله برحمته معه في حياة أبدية قادمة في جنته حيث لا ألم ولا فراق بعدها. الدكتور خضر الأحمد رحمه الله في بيته نماذج من كتبه
ستة أدوار يمكن أن تؤديها نحو فلسطين هذا هو اختصار بتصرُّف يسير لكتاب " فلسطين لن تضيع.. كيف؟ " والكتاب هو عبارة عن محاضرة حُوِّلت إلى كتاب؛ لأهميتها وأهمية الموضوع الذي تعرضت له، والكتاب يقع في 47 صفحة. كان المؤرخون قديمًا عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون "أعادها الله للمسلمين"، مثلما يتحدث مؤرخ فيقول "فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس - أعادها الله للمسلمين - في سنة 92 من الهجرة"؛ ذلك لأنها كانت دائمًا في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت الكلمة - كلمة أعادها الله للمسلمين- اختفت من أفواه المؤرخين. إذا تقادم العهد على الاحتلال فسيصبح هذا أمرًا واقعًا، المسلمون منذ ثلاثين سنة مثلًا كانوا لا يعترفون بالكيان الصهيوني مطلقًا، بل كانوا يصفون اليهود بأنهم مجموعة من اللصوص سَطَوا على أرضٍ ليست أرضهم فنهبوها واستوطنوها، ثم مرت الأيام وقَبِل الرافضون القدماء من العرب بوجود إسرائيل على مساحة 78% من الأرض المحتلة، وهي كل أرض فلسطين خلا الضفة الغربية وغزة، ثم سيقبلون بعد ذلك بأن تحتل إسرائيل مساحة 60% من الضفة الغربية وغزة، بالإضافة إلى الـ78% الأصلية، وذلك على هيئة مستوطنات يهودية داخل الضفة الغربية وغزة، ثم ستأتي مرحلة جديدة لا محالة يسعى فيها اليهود لإنهاء الوجود الفلسطيني بالكلية، وساعتها قد يصرخ المسلمون يومًا أو يومين أو سنة أو سنتين أو قرنًا أو قرنين، ويتقادم العهد، وتصبح فلسطين إسرائيل! قضية فلسطين قضيةٌ من أخطر قضايا أمة الإسلام، بل لعلها الأخطر على الإطلاق، قضية فلسطين هي قضية أمةٍ تُذبَح، وشعبٍ يُباد، وأرضٍ تُغتصَب، وحُرُماتٍ تُنتهَك، وكرامةٍ تُهان، ودينٍ يضيع. أنا -أيها المسلمون- أخاطب عموم المسلمين الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش، ولا قطع العلاقات، ولا غلق السفارات، ولا وقف التطبيع، ولا محاكمة شارون، ولا وحدة قادة المسلمين، يقول الله عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، نحاول أن نضعَ أيدينا على هذا الوسع. أنا أريد منك ستة أدوار ، ستة واجبات، إذا فعلتها على الوجه الأكمل كنت ممن أدَّى حقَّ فلسطين، وكنت مساهمًا في تحريرها، وكنت مستنفذًا لوسعك وطاقتك. تحريك القضية: لا يجب أن تموت قضية فلسطين أبدًا أو تنسى، تحدَّث عن فلسطين، ثم فَكِّر أن تُوسِّع دوائر التحريك: مقال في جريدة أو خطاب إلى بريد إحدى الصحف، مقال في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة، كلمة بسيطة سريعة في مسجد أو في فصل أو في مدرج، دقيقتين أو ثلاثة، خبر عن عملية استشهادية أو سؤال الدعاء لأهل فلسطين، خطبة جمعة -لو تستطيع- أو تنصح الخطيب بذلك، ابعث رسائل على الإنترنت لكل مَن تعرف مِن الأفراد والهيئات في كل بِقاع العالم، ابعث للمسلمين ولغير المسلمين، اشرح القضية، وضِّح فضائح اليهود، اعمل رأي عام عالميًّا مضادًّا للإعلام اليهودي، تحرَّك، ليس هناك وقت. (ولكن) لا بد أن يكون التحريك بالمفاهيم الصحيحة، تحريك القضية بمفاهيم خاطئة قد يضر بها ويُعطِّل سيرها، بل ويُعجِّل بموتها، لا بد من تفريغ الوقت لفهم القضية فهمًا صحيحًا وتفهيمها لغيرنا، أعداء الإسلام يدبرون مؤامرات لا حصر لها لهدم الإسلام وإبادة أهله، لا يهدأون ولا يكلُّون، وعلى قدر هذا النشاط من أعدائنا يجب أن تكون حركتنا أو يزيد، مؤامرات سياسية عن طريق المفاوضات والسفارات والهيئات والأحلاف، مؤامرات عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج، مؤامرات اقتصادية عن طريق الحصار والقيود الاقتصادية والديون والعولمة، مؤامرات تفريقية للتفريق بين الشعوب الإسلامية وبين أفراد الشعب الواحد بل وبين أفراد الأسرة الواحدة، مؤامرات أخلاقية عن طريق إفساد أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتليفزيون والصحف الصفراء والبيضاء، لكن أشد هذه المؤامرة خطورة هي المؤامرة الفكرية، المؤامرة الفكرية التي تقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا. إحياء الأمل: الواجب الثاني هو قتل الانهزامية وعلاج الإحباط الذي دخل في نفوس المسلمين، أو قل رفع الروح المعنوية وبثَّ الأمل في القيام من جديد، لماذا أُحبط المسلمون؟! أمورٌ كثيرة تفاعلت فأورثت هذا الإحباط في نفوس المسلمين، الواقع الذي عاشه المسلمون من هزائم كثيرة وانتصاراتٍ قليلة في خلال القرن العشرين، الواقع الذي نعيشه من مذابح بشعة، الواقع الذي نعيشه من ظلم وفسادٍ وإباحية وانهيار للاقتصاد واختلاسٍ بالمليارات وديون متراكمة وإفلاسات مشهرة وفرقة وتناحُر وتشاحُن وبغضاء، هذا الواقع المُر بالإضافة إلى تزوير التاريخ حتى خرج إلينا مسخًا مشوهًا يستحي منه الكثير ويتناساه الأكثر، بالإضافة إلى تزوير الواقع وتشويه صورة الإسلام -وإلحاق كل الجرائم بالمتمسكين بدينهم- ونفي كل مظهر من مظاهر الحضارة والرقي عنهم. هذا كله بالإضافة إلى تعظيم الغرب وتفخيمه، تفاعلت هذه الأمور وغيرُها حتى رسخَّت الإحباط في نفوس الكثيرين من أمة الإسلام إلى هؤلاء الذين أحبطوا ويأسوا، وإلى أولئك الذين يريدون أن يبثوا الأمل في قلوب القانطين أُوجِّه هذه الكلمات. الجهاد بالمال: ما أحوجَ أهلِ فلسطين للمال في هذه الأوقات! حصار اقتصادي رهيب، طرد من الأعمال، إغلاق للمعابر، تجريف للأراضي، هدم للديار، نقص في الغذاء والدواء والكساء والسلاح، استشهاد للشباب، وعائلات لا حصر لها تفقد عائلها. إن كنت تريد جهادًا في سبيل الله وقد حيل بينك وبينه، فأثبت صدقك لله بجهاد المال، مَن جهَّز غازيًا فقد غزا، حفِّز الآخرين على الجهاد بالمال، ربي أولادك على الإنفاق وإن كان قليلًا، اشرح لهم بأسلوب مبسط أحوال أطفالِ فلسطين، واعلم يا أخي أن الله عز وجل قسَّم الأعمال بين عباده وكان نصيبُك النصيب الأيسر، عليهم في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم، وعليك أنت -في بيتك الآمن- أن تدفع مالك، فارض بما قسم الله لك من العمل، يرفع عنك من البلاء ما لا تُطيق. المقاطعة: وأقصد به المقاطعة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي أو لكل من يساعد اليهود، سواء كان دولة أو شركة، وهو واجب هامٌّ هامٌّ هامٌّ ومؤثر إلى أبعد درجات التأثير وله من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ما لا يمكن حصره في هذه المساحة الضيقة. الدعاء : الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر، والدعاء على اليهود وأعوانهم بالهلكة والاستئصال، والدعاء - يا إخواني - من أقوى أسلحة المؤمنين في حربهم مع الكافرين، الدعاء ليس شيئًا سلبيًّا. كثيرٌ من الناس يعتقدون أن الدعاء أمرٌ مقابلٌ للأخذ بالأسباب. الدعاء ليس أمرًا جانبيًّا في قضية فلسطين، ليس أمرًا اختياريًّا إن شئنا فعلناه، وإن شئنا تركناه، أبدًا، الدعاء ركن أساس من أركان النصر، وسببٌ أكيد من أسباب التمكين، رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الدعاء أبدًا، وما يأس منه قَطُّ، مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، ومهما عظم الخطب، وكان أشدَّ ما يكون دعاءً ورجاءً وخشوعًا وابتهالًا عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه، ويطلب عونَه، ويرجو مددَه وتأييدَه، في بَدْر، وفي أُحُد، وفي الأحزاب، وفي كل أيامه صلى الله عليه وسلم. أخي الحبيب، إن أردت أن تساعد المحصورين والمجاهدين والجوعى والجرحى فاستيقظ الليلة، الليلة قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة وادْعُ الله لهم أن يُوحِّد صفَّهم، ويسددَ رميتَهم، ويقوي شوكتَهم، ويثبت أقدامَهم، ويُعلي راياتِهم، وينصرهم على أعدائهم، ويُمكنَ لهم في أرضهم، ويزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم. إصلاح النفس والمجتمع: لا بد أن نسأل أنفسنا لماذا هذا التدهور لهذه الأمة الإسلامية التي تعودت أن تسود؟ لا بد أن الأمة قد وقعت في خطأ فادحٍ مهَّد الطريق لهذا الوضع، فأُمَّةُ الإسلام لا تهزم بقوة الكافرين ولكن تهزم بضعفها، يلخص هذا الموقف حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأممُ أن تَدَاعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) (أي يدعو بعضُها البعض ليأكلوا من أمة المسلمين) قال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن))، قالوا: وما الوهْن يا رسول الله، قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)). نعم يا أخواني، يطول الفراق أحيانًا بيننا وبين ربنا، وهو سبحانه لا تضره معصية ولا تنفعُه طاعة، نحن الذين نخسر ونحن الذين نفوز، القضية يا أخوة ليست قضية فلسطين فقط، القضية قضيةُ الأمة بأسرها، إن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، قاعدة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، والله والله والله، لن يتغيَّر حالُنا من ذِلةٍ إلى عزة، ومن ضعف إلى قوة، ومن هوان إلى تمكين، إلا إذا اصطلحنا مع ربنا، وطبَّقنا شرعه، وأخرجنا الدنيا من قلوبنا، وتُبْنا من ذنوبنا، وعظمت الجنةُ في عقولنا. لا تنظر إلى فلسطين على أنها عبء على كاهلك، وهمٌّ في قلبك، أبدًا، انظر إليها على أنها "اختبار"، فلسطين اختبار من الله عز وجل لعباده المؤمنين، وكل يوم وكل ساعة وكل ثانية تمُرُّ عليك هي جزء مُرٌّ من الامتحان، احذر أن ينتهي عمرك ولم تكمل الإجابة؛ لأن الموتى لا يعودون إلى يوم القيامة، لا تنشغل بمن باعوا وخانوا وبدلوا وغيروا ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، واعلم أن كل نفس بما كسبت رهينة.
نبذة عن موسى عليه السلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع هدْيَه إلى يوم الدين، أمَّا بعد: • أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وأرسله إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده كما قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾ [إبراهيم: 5]. • وهارون عليه السلام أخو موسى من النسب أرسله الله عضدًا لموسى حين أراد بعثه إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله بناءً على طلب موسى ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [مريم: 53]. • وكان بنو إسرائيل حينذاك في مصر تحت حكم فرعون، وقد استعبدهم وأذلهم، فكان يستحيي نساءهم ويقتل أبناءهم ﴿ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]. • وقد وُلد موسى في مصر، وأراد الله أن يتربَّى في بيت فرعون، فوضعته أُمُّه في تابوت وألقته في اليمِّ، فالتقطه آل فرعون، وفرحت به زوجته آسية، ونهتهم عن قتله، ولما بلغ أشده آتاه الله حكمًا وعلمًا. • وفي يوم من الأيام استغاث بموسى رجل من بني إسرائيل على عدوِّه، فوكزه موسى فقضى عليه، فندم موسى واستغفر ربه فغفر له، وأصبح في المدينة خائفًا يترقَّب، وفي اليوم الثاني وجد موسى ذلك الرجل يقاتل عدوًّا له، فاستنصره مرة أخرى؛ فغضب موسى عليه، وظن الرجل أنه يريد قتله، فقال له: ﴿ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾ [القصص: 19]، فأخبر ذلك العدو قوم فرعون، فراحوا يبحثون عن موسى ليقتلوه، فجاء رجل صالح وأخبر موسى بما يدبر له القوم، ونصحه بالخروج من مصر ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، وتوجَّه موسى إلى أرض مدين، وتزوَّج هنالك بنتًا لشيخ كريم مقابل تأجير نفسه له ثماني سنين، فلما تمَّ الأجل سار موسى بأهله إلى مصر، فلما كان بطور سيناء أراد الله أن يخصه بكرامته ونبوته وكلامه، فضَلَّ موسى الطريق، فرأى نارًا ﴿ فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه: 10 - 15]. • ثم أراه الله بعض المعجزات، فأمره أن يلقي عصاه على الأرض فانقلبت حيَّةً، وأن يدخل يده في جيبه فخرجت بيضاء، ثم قال له: اذهب بهاتين المعجزتين إلى فرعون لعله يتذكر أو يخشى، فقد جاوز الحد في الطغيان والفساد، وأرسل مع موسى أخاه هارون كما قال تعالى: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 43 - 47]. • ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وبلَّغاه الرسالة، وسأل فرعون موسى ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 23، 24]. • ثم طلب فرعون من موسى آية تشهد بصدقه ﴿ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الأعراف: 106 - 108]. • فلما رأى فرعون وحاشيته ذلك اتهموا موسى بالسحر، ثم جمعوا له السحرة، ودفعوا لهم الأجر الجزيل، وجُمع الناس يوم الزينة، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 116]. • ثم نصر الله موسى على السحرة، وبطل كيدهم، وآمن السحرة بربِّ العالمين ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [الأعراف: 117- 122]. • ولما آمن السحرة بالله قطع فرعون أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف وصلبهم، فصبروا ولم يبالوا بتهديده حتى لقوا الله مسلمين، ثم أشار الأشراف بقتل موسى وقومه؛ لئلا يفسدوا في الأرض، فقتلوا الأبناء واستحيوا النساء، فأوصى موسى بني إسرائيل بالصبر، ثم ضاق فرعون بموسى فأتمر وقومه على قتله ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]. • وحينما كانوا يفكرون في قتل موسى دفعت المروءة رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يكتم إيمانه، فدافع عن موسى وقال: إن كان كاذبًا فلن يضرنا، وإن كان صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم، وتابع هذا الرجل نصح فرعون وقومه، فلم يستجيبوا له ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. • وظل موسى يدعو فرعون وقومه بالموعظة الحسنة، ولكن ما زادهم ذلك إلا علوًّا في الأرض وطغيانًا وتعذيبًا للمؤمنين، فدعا عليهم موسى، فعاقبهم الله بالجدب والقحط ونقص الثمرات لعلهم يذكرون، ولكنهم لم يذعنوا بل استمروا في إجرامهم وطغيانهم، فأصابهم الله بصنوف أخرى من المصائب لعلهم يرجعون ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 132، 133]. • ولما ازداد طغيان فرعون جاء الأمر الإلهي بالفرج، فأمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرًّا، فلما علم فرعون جمع جيشًا كبيرًا ليدرك موسى وقومه قبل أن يصلوا فلسطين، وخرج فرعون وجنوده تاركين وراءهم البساتين والجنات والأموال، فأدركوا موسى وقومه مع شروق الشمس عند ساحل البحر الأحمر، فنجَّى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 52 - 68]. • وهكذا هلك فرعون وجنوده، ولما أدركه الغرق آمن، ولكن لم ينفعه ذلك، وأبقى الله بدنه ليكون عِبرةً لمن بعده، وكانت عقوبة آل فرعون في الدنيا الغرق في البحر، وفي الآخرة العذاب الشديد ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46]. • وقد شاهد بنو إسرائيل معجزات موسى، وكان آخرها معجزة نجاتهم وهلاك عدوهم، وكانت هذه المعجزات كافية لنزع رواسب الوثنية من قلوبهم لكنها كانت تعاودهم أحيانًا، ولقي موسى الأهوال في سبيل ردهم إلى عبادة الله وحده، ومن ذلك: عندما جاوز البحر مروا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى أن يتخذ لهم صنمًا يعبدونه كهؤلاء، فقال لهم موسى: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 140]. وسار بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وفي الطريق أصابهم العطش، فشكوا إلى موسى، فدعا ربه فسقاهم ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [الأعراف: 160]. وفي طريقهم شكوا شدة حرارة الشمس وقلة الطعام، فدعا موسى ربه فظللهم بالغمام، ورزقهم من الطيبات، ولكنهم لم يشكروا بل طلبوا غيرها ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160]، ثم اشتكوا وقالوا: ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ [البقرة: 61]. وكان الله قد وعد موسى أن ينزل عليه كتابًا فيه الأوامر والنواهي لبني إسرائيل، فلما هلك فرعون سأل الله موسى ربه الكتاب، فأمره أن يصوم أربعين يومًا فخلف أخاه هارون في قومه وصام تلك الأيام، ثم أنزل الله عليه التوراة عند جبل الطور، فيها المواعظ وتفصيل كل شيء، فلما رجع إلى قومه وجدهم يعبدون العجل الذي صنعه لهم السامري من الحلي، وقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ [طه: 88 - 91]. فلما جاء موسى غضب عليهم ولامَهم وبيَّن لهم الحق، ثم حرق العجل ورماه في البحر، وعاقب السامري، فكان يتألَّم من مسِّ أي شيء. ندم بنو إسرائيل على عبادة العجل، فاختار منهم موسى سبعين رجلًا وذهب بهم إلى جبل الطور ليقدموا الطاعة لله والندم على ما فعلوا، وهناك كلَّم الله موسى، ولكن بعضهم لم يؤمن بأن الله هو الذي يُكلِّم موسى، فعصوا وقالوا: أرنا الله جهرة ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56]. ولما عاد موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبلوها وتذمَّروا من أحكامها، فهددهم فقبلوا كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [البقرة: 63، 64]. ثم أمر موسى بني إسرائيل أن يذهبوا معه إلى الأرض المقدسة في فلسطين، فذهبوا معه ثم خافوا من أهلها الجبارين، وعصوا موسى وتمرَّدوا عليه ﴿ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]. فدعا عليهم موسى واستجاب الله دعاءه، وأخبره بأن الأرض المقدَّسة محرَّمة عليهم، وأنهم سيتيهون في الأرض أربعين سنةً فلا يحزن عليهم ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25، 26]. ـ وهكذا ظل موسى صابرًا على تذمُّر بني إسرائيل وكثرة شكواهم، وفي مدة التيه توفي هارون، ثم توفي موسى، ومات أكثرهم، فلما انقضت المدة دخل يوشع بن نون بهم الأرض المقدسة وحاصرها حتى فتحها، وأمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة سُجَّدًا فلم يمتثلوا، ودخلوها على أسْتاههم. • وقد امتنَّ الله على بني إسرائيل بنعم عظيمة فأنجاهم من فرعون ورزقهم من الطيبات وجعل منهم الأنبياء والملوك، وفضَّلهم على العالمين ولكنهم كفروا تلك النعم ولم يشكروها ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20]. • ولليهود أقوال سيئة وأفعال خبيثة أوجبت لعنهم وسخط الله عليهم؛ فقد اتهموا الله بالبُخْل ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]، وكفروا بقولهم هذا البهتان العظيم ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ﴾ [آل عمران: 181]، ونسبوا إلى الله الولد قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]. • ولما بلغتهم التوراة كفر كثير منهم بأحكامها، وصدوا عن سبيل الله، واستباحوا الظلم فعاقبهم الله بذنوبهم، قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161]. • ومن بهتانهم قولهم: إنهم أبناء الله وأحباؤه ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ [المائدة: 18]. • ومن كذبهم وبهتانهم قولهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]. • ومن إفترائهم وكذبهم قولهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]. • ومن مكرهم وخيانتهم أنهم كانوا يحرفون كتابهم التوراة ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]. • ومن جرائمهم أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، فعاقبهم الله بذنوبهم، كما قال تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]. • ولما لليهود من مظالم، وافتراءات، وأعمال سيئة، وفساد في الأرض، ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء فلن تقوم لهم قائمة إلى يوم القيامة ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]. • واليهود ضعاف النفوس، قلوبهم متفرقة، وأهواؤهم مختلفة ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14]. • واليهود أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، واليهود لطغيانهم وفسادهم يكرهون الموت فرارًا مما بعد الموت كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 6، 7]. • وظل اليهود على فسادهم وطغيانهم وتحريفهم، وأرسل الله إلى بني إسرائيل كثيرًا من الأنبياء والرسل لردِّهم إلى الصراط المستقيم، فمنهم من آمن بهم، ومنهم من كفر، حتى أرسل الله إليهم عيسى ابن مريم عليه السلام. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
لن تضيع القدس اليهود عنوان الخيانة والغدر: متى وفَى اليهود بعهدٍ على مرِّ التاريخ؟ نقض اليهود العهد مع رب الأرض والسماء! نقض اليهود العهد مع الأنبياء! هل ينقض اليهود العهود مع الأنبياء، ومع رب الأرض والسماء، ثم يوفون العهود مع الحكماء والزعماء؟ الحرب والصراع بين اليهود اللئام وبين أهل الإسلام ليست حربًا سياسية أو اقتصادية أو على أرضٍ أو وطن! لا والله، وإنما هي حرب دينٍ وعقيدة. أَعلنها صريحةً مدوية رئيس وزراء إسرائيل في اللحظات الأولى لميلاد دولة إسرائيل حين قال: قد لا يكون لنا في فلسطين حقٌّ من منطلق سياسي أو قانوني؛ ولكنْ لنا في فلسطين حق من منطلق وأساس ديني؛ فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله، وإنه يجب الآن على كل يهوديٍّ أن يهاجر إلى أرض فلسطين، وعلى كل يهوديٍّ لا يهاجر اليوم إلى إسرائيل بعد إقامتها أن يعلم أنه مخالفٌ للتوراة، وأنه يكفر كل يومٍ بالدين اليهودي... ثم قال: لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل بدون فلسطين! وها هو رابين قد أعلنها كذلك قائلًا: لقد ماتت عملية السلام! فهل يصدِّق المسلمون ذلك؟ قال الله تعالى: ﴿ ‌وَلَنْ ‌تَرْضَى ‌عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿ ‌وَلَا ‌يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ‌بَعْضُهُمْ ‌أَوْلِيَاءُ ‌بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ‌بِطَانَةً ‌مِنْ ‌دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وقال تعالى: ﴿ ‌وَدَّ ‌كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، وقال تعالى: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا ‌نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100]، وقال تعالى: ﴿ ‌فَبِمَا ‌نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 13]؛ أي: على خيانةٍ بعد خيانة، وخيانتهم لا تنتهي، وظلمهم وتعديهم لا ينقضي! منذ أول لحظة هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وقام عبدالله بن سلام -حبر اليهود الكبير- فنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف أنه ليس بوجه كذَّاب، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، اليهود قومٌ بُهت، أهل ظلم، ينكرون الحقائق، فاكتم عنهم خبر إسلامي، وسلهم عني، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون اليهود، وقال: ((ما تقولون في عبدالله بن سلام؟)) قالوا: سيدُنا وابن سيدنا، وحَبرُنا وابنُ حبرِنا، فقام عبدالله بن سلام إلى جوار رسول الإسلام، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فردوا جميعًا على لسان رجلٍ واحدٍ قائلين: سفيهُنا وابنُ سفيهنا، وجاهلُنا وابن جاهلِنا [1] . فمتى يفيق النائمون؟! متى يفهمون الحقائق، ويعلمون العقائد، ويفقهون الشواهد؟! متى تعلم الأمة قول الله: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ‌مَا ‌تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145]. متى ستستجيب الأمة لقول ربها: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا ‌تَتَّخِذُوا ‌عَدُوِّي ‌وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الممتحنة: 1]. إن حال أمتنا حال عجيبة ‌ وهي ‌لعمر ‌الله ‌بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة ويحفرون لها قبورًا ضمن خطتهم رهيبة قالوا: السلام، قلت: يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غدًا أثوابًا قشيبة فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذًا، وبئست هذه الخطط المريبة فالمسجد الأقصى بالدماء له ضريبة المسجد الأقصى: 1. الأرض المباركة: التي قال الله تعالى فيها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي ‌أَسْرَى ‌بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]. 2. مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَمَّا ‌كَذَّبَتْنِي ‌قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)). 3. أول قبلةٍ للمسلمين، وثاني مسجدٍ وُضع في الأرض: في صحيح مسلم، عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‌نَحْوَ ‌بَيْتِ ‌الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ)). وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ ‌وُضِعَ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌أَوَّلُ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً)) [2] . 4. أحد المساجد الثلاثة التي يُشدُّ إليها الرحال: ففي صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: ((‌لَا ‌تُشَدُّ ‌الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)) [3] . 5. الصلاة فيه تمحو الخطايا: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((‌لَمَّا ‌فَرَغَ ‌سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ، إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ)) [4] . 6. لا يأتيه الدَّجَّال: كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْذَرْتُكُمُ الْمَسِيحَ وَهُوَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ)) قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: الْيُسْرَى، يَسِيرُ مَعَهُ جِبَالُ الْخُبْزِ وَأَنْهَارُ الْمَاءِ، عَلَامَتُهُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ، ‌لَا ‌يَأْتِي ‌أَرْبَعَةَ ‌مَسَاجِدَ: الْكَعْبَةَ، وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ، وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَالطُّورَ [5] . فهل يفرط المسلمون في أقصاهم؟ هل يتنازلون عن مسرى نبيهم، وأولى قبلتهم؟ هل يتهاونون في عقائدهم ومقدساتهم؟ كيف نستردُّ القدس؟ لن تُردَّ القدس بالخطب الرنانة، والمؤتمرات الكلامية الفارغة فقط! وإنما: 1. تُرد القدس باسم الإسلام، باسم العقيدة، بالعودة الصادقة الجادة إلى دين الله عز وجل، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ‌يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]. واقرأ قول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ‌كَتَبْنَا ‌فِي ‌الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وما جاء معلَّقًا بوصف، فإنه يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه، فإذا كُنا عبادًا صالحين كما وصف الله، ورثناها بيسرٍ وسهولة، وإذا كنا غير ذلك، فمهما ملأْنا الدنيا بالاحتجاجات والمظاهرات والخطب، فلن نرثها أبدًا، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ ‌بِالْعِينَةِ [الربا]، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ [كناية عن الانشغال بالدنيا]، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)) [6] . وقال صلى الله عليه وسلم: ((‌يوشك ‌أن ‌تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: أمِن قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن))، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) [7] . فحب الدنيا والانشغال بها يُنسي الآخرة والعمل لها، فيَكره الإنسان الموت، ويَطرده من ذهنه، وكأنه يعيش في الدنيا أبدًا. ولهذا قال الله: ﴿ قُلْ ‌مَتَاعُ ‌الدُّنْيَا ‌قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77]. 2. كما يجب أن نتحد، وأن تتحد قادةُ العرب على كلمةٍ سواء، يجب توحيد الصف، يجب تحقيق الإخاء، يجب نبذ الفرقة، فالفرقة شر، والخلاف هزيمة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا ‌فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]. فاليهود ما تلاعبوا بالأمة إلا يوم أن علموا أنها مبعثرة متشرذمة ضعيفة، والعدو لا يحترم إلا القوي. 3. كما يجب أن نلجأ إلى الله ونستجير به، ونرفع أيديَنا إليه: فمن منا يدعو الله في كل سجدة أن يُحرر الأقصى، وأن يعيد المجد إلى هذه الأمة؟ الدعاء سهام الليل، وهو أعظم سلاحٍ نحارب به العدو، مع الأخذ بالأسباب التي ذُكرت. فاصدقوا الله تعالى في الدعاء، وتضرعوا إلى رب الأرض والسماء، وسيُحوِّل الله بالدعاء قلوبًا، وسيُغيِّر الله به أحوالًا. كان عمر رضي الله عنه، يقول: "لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ"، وَكَانَ يَقُولُ: "إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَلَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ، ‌فَإِنَّ ‌الْإِجَابَةَ ‌مَعَهُ" [8] . وسيُهزم اليهود: سيهزم اليهود، وسيعلو دين الله، بنا أو بغيرنا، قال صلى الله عليه وسلم: ((لَيَبْلُغَنَّ ‌هَذَا ‌الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ)) [9] . وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ ‌حَتَّى ‌يُقَاتِلَ ‌الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)) [10] . فاللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم عليك باليهود، وأتباع اليهود، وأعوان اليهود، اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بِددًا، ولا تُبْقِ منهم أحدًا. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. [1] رواه البخاري. [2] متفق عليه. [3] متفق عليه. [4] صحيح سنن ابن ماجه. [5] أخرجه أحمد، وانظر الصحيحة. [6] صحيح سنن أبي داود. [7] صحيح سنن أبي داود. [8] الداء والدواء. [9] أخرجه أحمد، والطبراني والحاكم، وانظر الصحيحة. [10] متفق عليه.
غزة تحت القصف... خطوات عملية للدعم والنصرة "... إعانة فلسطين فريضة مؤكَّدة على كل عربي، وعلى كل مسلم، فمن قام بها أدَّى ما عليه من حقٍّ لعروبته ولإسلامه، ومن لم يؤدِّها، فهو دين في ذمته، لا يبرأ منه إلا بأدائه..."؛ كلمات صاغتها يدُ نابغة الجزائر وعلَّامتها، الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، بمثابة فتوى عالم عامل عارف بخفايا أم القضايا وأخطرها على الأمة الإسلامية، وهو الذي ترأس الهيئة العليا لإعانة فلسطين بالجزائر، التي تأسست في جوان 1948 بُعَيْدَ النكبة الفلسطينية، دلالة على متانة الأخوة الإسلامية بين الشعبين الفلسطيني والجزائري، رغم ما كان يعانيه هذا الأخير من سياسات أسوأ تدميرٍ استيطاني عرَفته البشرية في القرنين الأخيرين، ودلالة على وحدة الجسد؛ وامتثالًا لقوله عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى))، وانطلاقًا من هنا يتساءل المسلم أمام ما يرى من عملية تدميرية ووحشية، تقع في حق إخواننا في فلسطين المحتلة في غزة الصابرة، وهي المدينة التي تعيش تحت حصار شديد لسبع عشرة سنة، وبعد كل هذا عدوان همجي صهيوني، انتقامًا للذلة والعار التي مُنِيَ بها في الذكرى الخمسون لحرب أكتوبر، التي أظهرته في حجمه الطبيعي، الذي نعرفه جيدًا - معشرَ المسلمين - من كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، أمام كل هذا لم يجد هذا العدو الهمجي إلا المستضعفين العُزَّل ليَصُبَّ عليهم أطنانًا من القنابل والأسلحة الفتَّاكة؛ إمعانًا في الانتقام، وفي إرجاع صورة الردع المفقودة أصلًا، وتحقيق انتصار وهمي على شعب مسلم لا يزال أبطاله وشهداؤه يسطِّرون بدمائهم أسمى آيات العزة والإباء، وما زالوا حصنًا منيعًا صابرًا على كل أشكال المعاناة، وضد مخططات التهجير والاحتلال. إحصائيات المعاناة: يبلغ طول قطاع غزة حوالي 41 كيلومترًا (25 ميلًا)، وعرضها 10 كيلومترات، ويقطنها نحو 2.3 مليون فلسطيني، وتعد واحدة من أعلى المناطق في الكثافة السكانية في العالم، %71 من سكان غزة من لاجئي فلسطين، يعيشون تحت خط الفقر الوطني، فيما يعاني 64% من انعدام الأمن الغذائي، و8% من السكان يعتمدون اليوم على المساعدات الإنسانية، أما بالنسبة للخدمات الأساسية كالكهرباء فيستمد قطاع غزة ما مجموعه 200 ميغاواط من الاحتلال، مع وجود نحو 15 إلى 20 ميغاواط من مصادر طاقة بديلة، وكانت جميعها لا تكفي القطاع الذي يحتاج إلى 500 ميغاواط من القدرة الكهربائية، وهذا قبل أن تقطع سلطات الاحتلال الكهرباء نهائيًّا عن القطاع، والحال نفسها مع نقص الإمداد بالمياه الصالحة للشرب؛ حيث إن 4% فقط من سكان قطاع غزة يحصلون على مياه بشكل آمن وخالية من التلوث، كل هذا مع وجود منظومة صحية تعاني من نقص للمرافق الصحية، وفي الإمدادات الطبية من أجهزة وأدوية، والأخطر من كل هذا أن هاته المنظومة الصحية باتت أمام انهيار حقيقي بعد انقطاع الخدمات الأساسية، واستنزاف المخزون الإستراتيجي للوقود الذي يشغلها في حالة الطوارئ، ومع كثافة القصف ازداد الضغط على المستشفيات، وعلى رأسها مستشفى الشفاء، وهو المستشفى الأكبر والرئيسي لقطاع غزة، والذي بات مأوًى للعديد من النازحين هروبًا من القصف، والأمر الذي يفاقم الأمر أن جميع المعابر الحدودية مع القطاع مغلقة، أو تعرضت للقصف، مثل معبر رفح مع الجانب المصري. فما العمل إذًا؟ بعد كل هذا يتساءل المسلم: ما الدور الذي يجب أن أقوم به حيال ما يحدث لإخواننا في غزة؟ وهل يمكن أن أقوم بأي دور أصلًا؟ في الحقيقة يعتبر من أبرز الأهداف التي تسعى لها الدعاية الصهيونية، ومن ورائها الدعاية الغربية تخذيلُ الإنسان المسلم، وأنه مجرَّد من أي إمكانية للدعم، وأن التعاطف مع ما تقوم به الآلة الصهيونية قد بلغ عقر داره عبر مختلف وسائل الإعلام، وأن الأمر محسوم في تصفية أهلنا في غزة بعد أن تخلى عنهم الأخ والرفيق، وما إلى ذلك من الهرطقات التي عُرِفَ بها هؤلاء عبر تاريخهم الأسود، وفي الحقيقة يمكن أن نفعل الكثير بإذن الله، ولعل من آكد الواجبات على الأمة في مثل هاته الظروف خاصة: 1- التوبة إلى الله عز وجل وإصلاح الذات، والتفكُّر في تقصيرنا، والوقوف مع ذواتنا وقفة محاسبة، لماذا وصلنا لهاته الدرجة من الهوان؟ والجواب في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]. 2- الدعاء : الدعاء لإخواننا في غزة وفلسطين، وتعليم أولادنا ذلك، ونشر ذلك على أوسع نطاق في شبكات التواصل الاجتماعي، في العمل والمدرسة، في المسجد وفي الحياة اليومية؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نظر إلى أصحابه في غزوة بدر، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القِبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: ((اللهم أنْجِزْ لي ما وعدتني، اللهم إن تهلِك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبَد في الأرض أبدًا، فما زال يستغيث بربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده - ألقاه على منكبيه - ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله بأبي وأمي مناشدتك ربَّك؛ فإنه سيُنجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9] )). 3- الإعلام التربوي : ذلك أننا نسعى لتكون هاته الهبة يقظة في ضمائرنا، سلوكًا ومنهجًا في حياتنا، لا أن يكون انتفاضة حماسية سرعان ما تخبو، بل تكون صحوة حقيقية ذات مخطط بعيد الأمد تنحو بأعيننا صوب النصر - وهو قريب إن أخذنا بالأسباب بإذن الله - ومن آكد أسباب ذلك تربية النشء على حب فلسطين، وأنها قضية أُمَّة، وأنها عقيدة، وحلها إسلامي وفق السنن الربانية، تربية تبدأ من الأسرة عبر التربية بالقدوة والقصة والدعاء لإخواننا في فلسطين ولكل المسلمين، تربية تنطلق من المسجد أيضًا عبر التنشئة المسجدية، وعبر الدروس والندوات، وعبر المدارس القرآنية والمؤسسات التعليمية، مع استغلال النوادي المختلفة والمكتبات في توعية النشء، واستحداث أساليب جذابة لذلك. 4- استغلال شبكات التواصل الاجتماعي : وذلك في نشر القضية بشكل جذَّاب وبلغات عدة، وبأسلوب شرعي صادق في الوسيلة والهدف، واستغلال الفرصة كذلك لبيان عظم الإسلام، ومدى تكاتف المسلمين، وهي وسيلة عظيمة النفع لو يتم التخطيط الجيد لاستغلالها، والواقع المعيش خير مثال على هذا. 5- تنويع أساليب التعريف بالقضية : ومن ذلك أيضًا التعريف بما يتعرض له إخواننا في فلسطين، وذلك في المنتديات والمؤتمرات، بل حتى التي ليس لها علاقة بالقضية، وذلك بإظهار الدعم عبر الدعاء لهم في بداية الكلمة مثلًا. 6- التواصل المباشر : مع أهلنا في غزة وفلسطين وطمأنتهم - وهو ما باتت توفره وسائل التواصل الاجتماعي - وهو أمر بالغ الأهمية، وأساسي لأي صابر مرابط بالنسبة لإخواننا هناك؛ ألَا ترى قول الله تعالى لملائكته: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]. 7- المقاطعة الاقتصادية: وهذه الخطوة تُتَّخذ ضد كل منتوج أو جهة لها علاقة بالكيان الصهيوني، إما ترويجًا لسياساته التوسعية، أو بالدعم المادي أو المعنوي. 8- التبرع بالمال: وهو من آكد أنواع النصرة لكل من لم يتمكن من نصرتهم بنفسه؛ ذلك أن في إعانتهم ماليًّا تثبيتًا لهم ولكل من يدافع عنهم، ودفعًا لعدوهم، وصونًا لكرامتهم، كل هذا مع ضرورة استحضار النية الخالصة الطيبة لله جل وعلا، والحمد لله أن باب التبرعات المالية متاح، وعبر الطرق الرسمية لذلك، علمًا أن كيفية التبرع لهاته الجمعيات المذكورة متاحة في صفحاتها الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي؛ قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38] .
إصـــــدارات جــائــزة دبي الدولية للقرآن الكريم (2) دأبتْ (وحدة علوم القرآن) في (جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم) على إصدار كتبٍ تراثيةٍ ومعاصرةٍ في الكتاب والسُّنة والسيرة النبوية وكتب العلم النافعة، وهذه قائمةٌ ثانيةٌ بما تمَّ لها إصدارُه بعد القائمة السابقة التي نشرْتـُها في هذه الشبكة سنة (2014) ، وفَّق الله القائمين عليها إلى إصدار المزيد النافع من كتب العلم. م الكتاب المؤلف 1 لمحات من حياة الشيخ زايد المستشار إبراهيم محمد بو ملحه 2 جماليات الصورة الفنية في صحيح البخاري د. مازن موفق الخيرو 3 تفسير القرآن العظيم للإمام العز بن عبدالسلام 1 / 4 تحقيق: سليم محمد عامر 4 ضوابط القطعي من تفسير القرآن 1 / 2 محمد محمد ياسين 5 الجامعون بين العلوم الشرعية والعلوم التجريبية د. عواد الخلف ود. قاسم سعد 6 مشاهد من فكر وحياة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم المستشار إبراهيم محمد بو ملحه 7 السماء ذات الحبك 1 / 2 أ.د. حميد مجول النعيمي 8 أسلوبية الحوار في القرآن الكريم أ.د. رسول حمود حسن الدوري 9 أسلوبية النظم البلاغي عند المفسرين - ابن قيم الجوزية أنموذجًا أ.د. رسول حمود حسن الدوري 10 القواعد الحسان في إعراب أم القرآن لابن النجار الدمشقي تحقيق: د. عمار أمين الددو 11 دراسات في البلاغة النبوية الشريفة أ.د. محمد رفعت أحمد زنجير 12 دراسات في التفسير ومناهجه أ.د. عيادة أيوب الكبيسي 13 وسيلة الإسلام بالنبي عليه الصلاة والسلام لابن قنفذ القسنطيني تحقيق: أ.د. عبدالعزيز الصغير دخان 14 صحيح الحفاظ أ.د. عواد الخلف 15 العزيز في شرح الوجيز للإمام الرافعي (1 / 23) تحقيق: أد. محمد عبدالرحيم سلطان العلماء 16 تصحيح الوجوه والنظائر من كتاب الله تبارك وتعالى (1 / 2) تحقيق: أ.د. حاتم صالح ضامن 17 الانحراف المعاصر في تفسير القرآن الكريم (1 / 2) د. عمار عبدالكريم عبدالمجيد 18 روح القرآن أحمد الوتاري 19 أحكام القرآن للقاضي بكر بن محمد القشيري 1 / 2 تحقيق: سلمان الصمدي 20 البديع في شرح القراءات السبع لابن مطرف الكناني 1 / 2 تحقيق: عبدالواحد الصمدي 21 فتح الودود بشرح سنن أبي داود لأبي الحسن السندي الكبير 1 / 8 22 ما يحبه الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة د. طه فارس 23 دلالة المس في التعبير القرآني محمد بن عادل السيد 24 الصيام رحلة العابدين وراحة المحبين د. عبدالسميع الأنيس 25 فردوس الجنان في شمائل ومناقب الأنبياء المذكورين في الفرقان لزين الدين عبدالرؤوف المناوي 26 الإنصاف مختصر الانتصاف من الكشاف لعلم الدين ابن بنت العراقي (1 / 2) 27 زاد المرتحل لما ذكره المرصفي في أحكام قصر المد د. أحمد محمد سليمان الأهدل 28 إضاءات في تاريخ القراءات د. محمد صالح جواد السامرائي 29 الإمام أبو شامة المقدسي ومنهجه في كتابه إبراز المعاني د. عزة بنت هاشم معيني 30 الدعوة إلى الله بتلاوة القرآن الكريم هند بنت علي عبدالله الموسى 31 دراسات متقدمة في الإعجاز البياني للقرآن أ.د. نايل ممدوح أبو زيد 32 من بدائع النظم القرآني في حديث القرآن عن القرآن أ.د. عبدالعزيز صالح العمار 33 اختيار أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني، لابن شداد التميمي تحقيق: عمار أمين محمد الددو 34 اختلاف القراء السبعة في أن وإن لابن غلبون تحقيق: عبدالكريم مصطفى مدلج 35 الرضا والغضب في القرآن الكريم د. فاطمة داود أحمد 36 جمهرة البلاغة لعبدالحميد الفراهي أ.د. أحمد حسن فرحات 37 مادة الذوق ومقاماتها في القرآن الكريم أ.د. عبدالعزيز صالح العمار 38 رسالة في قاعدة قراءة حفص من طريق الشاطبية لأبي المواهب الحنبلي تحقيق: عبدالله إبراهيم المغلاج 39 أوجز المسالك إلى مالكية ابن مالك د. الشريف الفقيه 40 هو يشفين د. خالد فائق صديق العبيدي 41 ضعف الطالب والمطلوب د. خالد فائق صديق العبيدي 42 إلا يسبح بحمده د. خالد فائق صديق العبيدي 43 مجمع الغرائب ومنبع الرغائب، للإمام عبدالغافر الفارسي 1 / 6 تحقيق: ماهر أديب حبوش 44 شرح منظومة الدرة الضوية في هجرة خير البرية، للأفقهسي تحقيق: محمد بن كايد الكايد 45 المقاصد الحسنة للسخاوي 1 / 3 تحقيق: محمد البرسيجي ومحمد حمدان 46 بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد للقاضي عياض تحقيق: د. محمد عايش 47 البلاغة القرآنية عند العلامة فضل حسن عباس وأثرها في الإعجاز والتفسير د. عبدالله حماد العوايصة 48 المقدمات في علم التفسير لشمس الدين الأصفهاني تحقيق: د. محمد عبدالرحيم سلطان العلماء 49 قراءة الإمام نافع للإمام علي الواسطي الديواني تحقيق: د. أسامة الحياني ود. مهدي دهيم 50 التبيان في شرح مورد الظمآن، لابن آجطّا 1 / 4 تحقيق: د. محمد لمين بوروبة 51 الوقف والابتداء لابن الغزال النيسابوري 1 / 3 تحقيق:د. طاهر محمد الهمس 52 شرح البردة، للإمام الزركشي تحقيق: مهند يحيى إسماعيل 53 وشي البردة، لابن حبيب الحلبي تحقيق: محمد أبو الخير السيد 54 مسند الحارث بن أبي أسامة 1 / 5 تحقيق: د. مسعود الأعظمي 55 زبدة العرفان في وجوه القرآن للبالوي (1 / 2) تحقيق: د. مصطفى آتيلا آقدمير 56 معرفة علوم القراءات ) 1 / 2) د. أحمد فارس السلوم 57 بلاغة النظم في لغة الجسم في القرآن الكريم د. محمد صافي المستغانمي 58 الأربعون القدسية من الصحيحين أ.د. عيادة أيوب الكبيسي 59 دراسة الآيات القرآنية المتعلقة بأحكام البيوع والمعاملات د. غسان الشيخ، د. محمد نجدات 60 من غريب بلاغة القرآن الكريم في سورتي آل عمران والنساء د. عادل أحمد الرويني 61 أخلاق نبي الهدى في السلم والوغى د. محمد عامر مظاهري 62 ما لا يحبه الله تعالى طه محمد فارس 63 قنية الإمام شرح زلة القاري، لتاج الدين أحمد الجَندي تحقيق: طه فارس 64 شرح الصدور فيما يعين على فهم قول الله: "يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور" لابن بنت الميلق تحقيق: طه فارس 65 الإعلال بالشذوذ والنكارة وبيان العلاقة بينهما د. محمد منتصر عوض 66 الروض الأنف للإمام السهيلي (1 / 8) تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا 67 قراءة ابن عامر إمام أهل الشام، لابن الأبزاري تحقيق: أ.د. أسامة الحياني 68 شرح سنن أبي داود، لابن رسلان ( 1 / 30) تحقيق: مجموعة من الباحثين 69 عدد آي القرآن على مذهب أهل البصرة، للمعدّل تحقيق: د. بشير حسن الحميري 70 الأربعون الخطيرة في عقوبات على أعمال اتقاءاتها يسيرة أ.د. عيادة أيوب الكبيسي 71 فتح باب الإسعاد في شرح قصيدة بانت سعاد، لعلي القاري تحقيق: عبدالكريم مدلج 72 في سورة الفاتحة – دلالات لتراكيب نحوية أ.د. عبدالقادر السعدي 73 ضبط المصحف بين إبداع السلف واتباع الخلف د. الجيلي علي أحمد بلال 74 في التعبير القرآني – تحليل لموضوعات لغوية أ.د. عبدالقادر السعدي 75 معين المقرئ النّحرير على معرفة ما اختص به العنوان والشاطبية والتيسير، للبلبيسي تحقيق: عبدالكريم مدلج 76 مختصر من كتاب التبيان في آداب حملة القرآن، لبحرق تحقيق: حسن سالم هبشان 77 مدخل إلى علوم الحديث أ.د. قاسم علي سعد 78 تأملات في سورة الفاتحة وترجمة معانيها إلى اللغة الإنجليزية د. شهاب محمد غانم الهاشمي 79 حاشية ابن رسلان على الشفا للقاضي عياض تحقيق: ماهر حبوش 80 كتاب الغريبين لأبي عبيد الهروي 1 / 10 د. الطناحي ودعبدالكريم جبل 81 تذكرة الحافظ لتراجم القراء السبعة واجتماعهم واتفاقهم تحقيق: السيد عبدالغني مبروك 82 التنبيهات على معرفة ما يخفى من الوقوفات تحقيق: السيد عبدالغني مبروك 83 الاتفاق والتفريد ونقل أهل الأداء والتجريد في علم القراءات تحقيق: السيد عبدالغني مبروك 84 كتاب الأرض الأم أ.د. مجول حميد النعيمي
الفرقان بين الحق والبطلان لابن تيمية تحقيق حمد العصلاني صدر حديثًا كتاب "الفرقان بين الحق والبطلان"، لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني (ت 728هـ)، راجعه وصححه وعلق عليه: د. "عبدالرحمن بن صالح المحمود"، دراسة وتحقيق وتعليق: د. "حمد بن أحمد العصلاني"، نشر: "دار أجيال التوحيد للنشر والتوزيع"، و"دار الدليقان للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب آخر ما ألف شيخ الاسلام، في آخر عمره كما ذكر في بعض النسخ الخطية في سجنه الأخير في قلعة دمشق، وقد جعلها ابن القاسم ضمن مقدمات في التفسير في المجلد الثالث عشر ضمن مجموع الفتاوى، لأنه رأى شيخ الإسلام أطال النفس في أول الرسالة مبينًا معنى الفرقان في كتاب الله تعالى والآثار الواردة في تفسيره عن السلف والأئمة رحمهم الله تعالى. وتدخل هذه الرسالة ضمن رسائل شيخ الإسلام التأصيلية المتميزة، وترجع أهميتها لأمور: أحدها: أنها خلاصة علم شيخ الإسلام حيث كتبها في آخر عمره، ومن عرف موسوعية هذا الإمام وإحاطته بالمذاهب والأقوال والفرق والطوائف وأصول مذهبها، وتأثرها وتأثيرها، أدرك أهمية هذه الخلاصة التي كتبها شيخ الإسلام بيانًا للحق، ونصحًا للأمة. الثاني: أن الشيخ أراد بها بيان الفرق بين الحق والباطل، وأكثر المشاكل في العلم والقول والعمل قائمة على التباس الحق بالباطل، والدعوات الجاهلية اليوم تريد محو الفارق بين ما جاءت به الرسل من الهدى والتوحيد والنور والشريعة الكاملة الهادية وبين ما تدعو إليه الجاهليات من الشرك والباطل والضلالات باسم الحرية والمساواة وإلغاء الفوارق الإيمانية والشرعية. الثالث: أن تأصيل مسألة الفرقان التي شرحها شيخ الإسلام في هذه الرسالة ضرورية لكل مسلم، وطالب العلم بشكل أخص نظرًا لما عند الفرق وأصحاب المذاهب من الدعاوى العريضة في أن مذهبهم هو الحق. وهذه الرسالة تعين في الجواب عن سؤال: ما الفرق بين الحق والباطل، أو كيف ندلل على أن مذهب السلف أهل السنة والجماعة هو الحق؟ الرابع: ذكر الشيخ أنواعًا من الفرقان جاء بها القرآن والسنة، وجاءت بها الشريعة منها: 1) الفرقان بين الخالق والمخلوق، في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وأكثر ضلال الطوائف والفرق مبني على عدم تحقيق هذا الفرقان، فالشرك في الربوبية والشرك في الألوهية والقول بوحدة الوجود وتعطيل الله عن أسمائه وصفاته، وتشبيه الخالق بالمخلوق أو المخلوق بالخالق وتعطيل حكمه وشرعه وغير ذلك من أصول الضلالات القديمة والحديثة مبني على الإخلال بهذا الأصل والفرقان. 2) الفرقان بين المعروف والمنكر، والطيب والخبيث، فأمر بهذا ونهى عن هذا وحرمه. 3) الفرقان بين أهل الحق المهتدين المؤمنين المصلحين أهل الحسنات، وأهل الباطل الكفار الضالين المفسدين أهل السيئات، قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]. الخامس: في مقابل قاعدة الفرقان قرر الشيخ قاعدة المساواة في الأمور المتماثلة، كمساواة الناس في العبودية لله والعمل الصالح لا فرق في ذلك بين الملك والمملوك، والرجل والمرأة فالكل في التكليف المقتضي للعبودية لله تعالى وطاعته - كل حسب استطاعته - سواء، وكالكفر والشرك أهله في أحكامه سواء، وكما أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول، بالاعتبار في أحوال الظالمين، وهذا يفيد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم. السادس: ذكر ابن تيمية في هذه الرسالة تحليلًا دقيقًا لأصول الفرق الضالة وطرائقها في الاستدلال، ومواقفها من أدلة الكتاب والسنة، ولوازم مذاهبها، ودرجات انحرافها، وما قد يقع فيه بعضها من الجمع بين النفاق والبدعة. السابع: الرسالة لا تخلو من لفتات منهجية تربوية عميقة، وتحليلات نفسية دقيقة كقول شيخ الإسلام عن قول المبطل: "إنه وإن اعتقد مرة، إلا أنه عند الحقيقة يخونه، كالذي يشرك بالله يضل عنه ما كان يدعو من دون الله، وكذلك الأفعال الباطلة يعتقدها الإنسان وعند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وكذلك مقالات أهل البدع". وبذلك يعد (الفرقان بين الحق والبطلان) من أواخر ما كتبه شيخ الإسلام، أفرغ فيه الشيخ علمه، وقمع فيها خصومه، وأبرز اعتقاد السلف ونصره، وهو مسجون مظلوم في سجنته الأخيرة بدمشق التي وافته المنية فيها. وقد انقمست دراسة هذه الرسالة إلى قسمين: القسم الأول: ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: ترجمة المؤلف، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: بعض ما قيل فيه. المطلب الثاني: اسمه ونسبه، مولده ونشأته، صفاته الخلقية والخُلقية، عبادته، شعره وأدبه، أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، جهاده، محنه، موقفه من خصومه، وفاته. المطلب الثالث: طلبه للعلم، شيوخه، تلاميذه، مؤلفاته. الفصل الثاني: دراسة الكتاب، وفيه إحدى عشر مطلبًا: المطلب الأول: تسمية الكتاب. المطلب الثاني: موضوع الكتاب. المطلب الثالث: نسبته للمؤلف. المطلب الرابع: تاريخ تأليف الكتاب. المطلب الخامس : الفرق بينه وبين رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. المطلب السادس: طبعات الكتاب. المطلب السابع: مخطوطات الكتاب. المطلب الثامن: مصادر المؤلف في الكتاب. المطلب التاسع: بعض لطائف المؤلف في الكتاب. المطلب العاشر: فوائد علمية من الكتاب. المطلب الحادي عشر: السقط والتصحيف في الكتاب. القسم الثاني: تحقيق الكتاب وخدمته خدمة علمية لائقة به على نسخه الخطية المتاحة، وهما نسختان كاملتان: 1) نسخة مكتبة الجامعة الإسلامية، وهي مصورة من مكتبة الشيخ محمد حامد الفقي. 2) نسخة مركز المخطوطات والتراث والوثائق بدولة الكويت، وهي مصورة من دار الكتب المصرية. وقد ختم الكاتب الدراسة والتحقيق بخاتمة علمية تلخص نفائس العلم والعمل التي أنارها شيخ الإسلام وبينها في هذا الكتاب، مع بيان بعض التوصيات المتواضعة في حياة شيخ الإسلام العلمية والعملية. ووضح الكاتب أن "الفرقان بين أولياء الرحمن والشيطان" رسالة أخرى تختلف عن تلك الرسالة "الفرقان بين الحق والبطلان" فالأول مخصص في الرد على الصوفية، بينما كتابنا يرد على كبار الفرق كالخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والرافضة والأشاعرة والصوفية والنصارى. وللكتاب طبعات قديمة كثيرة اشتهر منها طبعة مجموعة الرسائل الكبرى بعناية الشيخ محمد رشيد رضا، وطبعة مجموع الفتاوى بعناية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه، وهناك طبعات أخرى حديثة كطبعة دار البيان بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وطبعة دار الحمى بتحقيق الشيخ أبي الأشبال الزهيري. وقد بين شيخ الإسلام في تلك الرسالة أنه لا يوجد مسألة من مسائل الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، قال: "لم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف، فلابد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه، وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن، وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين" لذا ملأ ابن تيمية كتابه باقتباسات وأقوال السلف في تلك المسألة، واعتمد على استنباطاتهم في بيان الفرقان بين الحق والبطلان. وصاحب الرسالة هو ابن تَيْمِيَّة (661 - 728 هـ = 1263 - 1328 م) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقيّ الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية. • الإمام، شيخ الإسلام. ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. • وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية. • ثم أطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ واعتقل بها سنة 720 وأطلق. • ثم أعيد، ومات معتقلًا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. • كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. • وفي "الدرر الكامنة" أنه ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرّس وهو دون العشرين. • جاهد بالقلم والسيف، ومن المعارك التي شارك بها معركة "شقحب" ضد التتار سنة 702 هـ، وانتهت بانتصار الجيش المصري الشامي. أما تصانيفه ففي "الدرر" أنها ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة، وفي "فوات الوفيات" أنها تبلغ ثلاث مئة مجلد، منها: • (الجوامع) في السياسة الإلهية والآيات النبويّة، ويسمى (السياسة الشرعية). • (الفتاوى) خمس مجلدات. • (الإيمان). • (الجمع بين النقل والعقل). • (منهاج السنة). • (الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان). • (الواسطة بين الحق والخلق). • (الصارم المسلول على شاتم الرسول). • (مجموع رسائل) فيه 29 رسالة. • (نظرية العقد) كما سماه ناشره، واسمه في الأصل (قاعدة) في العقود. • (تلخيص كتاب الاستغاثة) يعرف بالرد على البكري. • (الرد على الأخنائي). • (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) رسالة. • (شرح العقيدة الأصفهانية). • (القواعد النورانية الفقهية). • (مجموعة الرسائل والمسائل) خمسة أجزاء. • (التوسل والوسيلة). • (نقض المنطق). • (الفتاوي). • (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية). • (مجموعة) أخرى اشتملت على أربع رسائل: الأولى رأس الحسين (حقق فيها أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن في البقيع). والثانية الرد علي ابن عربي والصوفية. والثالثة العقود المحرمة. والرابعة قتال الكفار. ولابن قدامة كتاب في سيرته سماه (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية).
تنمية الموارد البشرية تُعرَّف تنمية الموارد البشرية بأنها: الجهودُ المخطَّطة والمنفَّذة لتنمية مهارات، وترشيد سلوكيات الأفراد العاملين بالمنظَّمة، بما يُعظِّم من فعالية أدائهم، وتحقيق ذواتهم، من خلال تحقيق أهدافهم الشخصية، وإسهامهم في تحقيق أهداف المنظَّمة [1] . ويقترح إبراهيم قويدر - مدير عام منظمة العمل العربية - "أن يكونَ مفهومُ التنمية البشرية هو تنمية الناس من أجلهم وبوساطتهم" [2] . على أي حال، فإن التنمية البشرية - وليس بالضرورة التنمية الإنسانية - بما في ذلك التهيئة لها ينبغي أن تنطلقَ من مفهومِ حديثِ المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن عمرو من رواية الطبراني: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس))؛ الحديث، وأن يكون الهدفُ من ذلك هو الارتقاء بمستوى حياةِ جميعِ فئات المواطنين، وغير المواطنين من المقيمين في البلاد؛ لحاجة تنموية قائمة دعت إليهم [3] . ينبغي أن يُنظرَ إلى العمل على أنه ضرورة اجتماعية واقتصادية مُلحَّة، تتفاوت في حكمها الشرعي - بحسب الحال - بين فرض العين وفرض الكفاية [4] ، لا عُذرَ فيها لأي قادر على العمل ألَّا يعمل بأي حجة كانت، وكلُّ ما يمهِّد للعمل من تعليم وتدريب وتأهيل، وما ينبني عليه من نتائجَ ودُخُولٍ، وتطويرات في الأداء والمفهوم، ينبغي أن يُنظر إليه على أنه كله وسيلةٌ لا غاية يُتَّكل عليها [5] . كما ينبغي أن تُوظَّف العاطفةُ - بمعناها الأعمق - في حب العامل للعمل، وترسيخ مفهوم (سلوكيات أو أخلاقيات العمل)، التي لا تفتأ تبشِّر بها النقابات العمَّالية غير الحكومية، وقوانين العمل الرسمية، والمنظَّمات العمَّالية، تجاهلُ العاطفة في العمل - ممثلة في مفهومات الانتماء والولاء للعمل وصاحبه - كان له أثرٌ على ضعف التفاني فيه واللجوء إلى التشكِّي من مشكلات العمل، مع أنه وسيلة للرزق، ومع أن أي بيئة عملٍ لا تخلو من مشكلات، هي في بداياتِها صغيرة، ثم تكبُر بذلك التبرُّم والتشكِّي، والخروج عن روح الفريق في العمل - إلى تكوين تجمُّعات من شأنها إعاقة الإنتاجية، كما من شأنها التشويش على جو العمل؛ تقول منى حلمي في كتابها: الحب في عصر العولمة: "إن تراجعَ دور (العاطفة) في العمل امتدادٌ لتراجع دورها في الحياة بشكل عامٍّ، إن ما وصل إليه العالمُ من تعاسة وحماقة وسَفَهٍ، ليس إلا نتيجةً متوقَّعة لفلسفة سائدة، تُعلي صوتَ المنطق على صوت العاطفة، وتقدِّس صوتَ الماكينات والأجهزة المبرمجة على صور وجدان البشر" [6] . [1] انظر: أحمد سيد مصطفى، المدير وتحديات العولمة: إدارة جديدة لعالم جديد، القاهرة: المؤلف، 2001م، ص 534. [2] انظر: إبراهيم قويدر، تنمية الموارد البشرية العربية وسياسات خلق فرص العمل، القاهرة: دار المعارف، 2001م، ص 100، (سلسلة اقرأ، 672). [3] انظر: مصطفى رضا عبدالرحمن، التنمية البشرية، القاهرة: أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، 1998م، ص 11. [4] انظر: إبراهيم بن محمد الحمد المزيني، العمل عند المسلمين: رؤية حضارية، الرياض: وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، 1424هـ/ 2003م، ص 117. [5] انظر: نشأت جعفر، العمل في الإسلام: الضرورة المهدرة، القاهرة: المؤلِّف، 1424هـ/ 2003م، ص 188. [6] انظر: منى حلمي، الحب في عصر العولمة، القاهرة: دار المعارف، 1999م، ص 33 - 34، (سلسلة اقرأ، 649).
صبر عروة بن الزبير رضي الله عنه سافر عروة من المدينة إلى دمشق، وفي الطريق بوادي القرى أصيبتْ رجلُه بأَكَلَةٍ [1] ، ولم يَكَد يَصِل دمشق حتى كانت نصفُ ساقه قد تلِفتْ، فدخل على الخليفة الوليد بن عبدالملك، فبادر الوليد باستدعاء الأطبَّاء العارفين بالأمراض وطرق علاجها، فأجمعوا على أن العلاج الوحيد هو قطعها قبل أن يَسريَ المرض إلى الرِّجل كلِّها حتى الوَرِك، وربما أكلتِ الجسمَ كله، فوافق عروةُ بعد لأْيٍ على أن تُنْشَر رِجله، وعرض عليه الأطباء إسقاءه مُرْقِدًا؛ حتى يغيب عن وعيه فلا يشعر بالألم، فرفض عروة ذلك بشدة قائلًا: لا والله، ما كنت أظن أحدًا يشرب شرابًا، أو يأكل شيئًا يُذهِب عقلَه، ولكن إن كنتم لا بُدَّ فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، فقطعوا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي؛ احتياطًا أن لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تضوَّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزَّاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا، ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ، اللهم إني لم أمشِ بها إلى سوء قط. وكان قد صحب بعضَ بنيه، ومنهم ابنه محمد الذي هو أحب أولاده إليه، فدخل دارَ الدواب فرفسته فرسٌ فمات، فجاء المعزون إلى أبيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعةً فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت، فلمَّا قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، فما سُمع يَذكُر رِجْله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى الذي أصابته فيه الأكلة، وهناك قال: ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف:62]؛ (انظر وفيات الأعيان لابن خلكان:2 / 418 – 421) (البداية والنهاية: 9/ 101 – 103). فهذه نماذج من مواكب الصابرين، فأين أنت منهم يا ضعيف العزم والصبر؟ فهذا سبيل تعب فيه آدم، وجاهد فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم، وكسرت رباعيته، وشج رأسه ووجهه، وقُتِل عمر مطعونًا، وذو النورين، وعليّ، والحسين، وسعيد بن جبير، وعذب ابن المسيب، ومالك، والإمام أحمد، فلا سبيل ولا نجاة ولا فلاح لسالكي هذا الطريق إلا الصبر. وفي الختام: نسألك اللهم أن ترزُقنا الصبر على طاعتك، والصبر عن معصيتك، والصبر على أقدارك، حتى نكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. واجعلنا اللهم من الصابرين في البأساء والضراء، وحين البأس، والصابرين في السراء والضراء. واجعل صبرنا فيك ولك، واجعلنا من الذين قلت فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22– 24]. [1] الأَكَلَة: داء يقع في العضو فيأكل منه.
خُبيب بن عدي الشهيد الصبور بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23] إنهم أبطال مجيدون من طينة نادرة، غمرَ الإيمانُ الحقُّ قلوبهم، وعمر الصدق والولاء للإسلام جوانحهم، فوهبوا أرواحهم لربِّ العزة، وكل أملهم أن ينالوا الشهادة في سبيل الله، ويا لها من تضحية ترفع ذكرهم في الدنيا والآخرة. وبطلنا "خُبيْب بن عدي" واحد من هؤلاء الذين يقول الحق سبحانه وتعالى في حقهم: ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ [محمد: 4 - 6]. هو خُبيْب بن عدي بن عامر بن مجدعة الأنصاري، صحابي جليل من قبيلة أوس التي ناصرت الرسول صلى الله عليه وسلم وعاهدته على الوفاء والإخلاص والذود عنه وعن دين الإسلام الحق، لازم خبيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان أحد جنده الذين يأتمرون بأمره، أبلى البلاء الحسن في غزوة " بدر " وكان من بين قتلاه من المشركين " الحارث بن عامر بن نوفل ". ظل خبيب مثال المؤمن الناسك الأوَّاب، ولا غَرْوَ أن يختاره الرسول صلى الله عليه وسلَّم للمهام الجسام؛ إذ كان رفيق عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد ، وبضعة من المجاهدين الذين انتدبهم رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، لاستطلاع أخبار قريش ورصد تحرُّكاتها، وجاء في كتب الرواة أن هؤلاء المناضلين تم تعقُّبهم من طرف قوم بني لحيَان وهم حيٌّ من "هُذيل" وكانوا في مائة رجل من الرماة فاستطاعوا محاصرتهم عند أحد الجبال، وأعطوهم الأمان على أن ينزلوا ويُسلِّموا أنفسهم، لكن بعضهم آثر ألَّا ينزل في ذمة أولئك المشركين، فتمَّ قتلهم ومن بينهم عاصم ومرثد رضوان الله عليهم، أما خُبيب بن عدي وصاحبه زيد بن الدثنة فنزلا وتم أسْرُهما، في حين استشهد الباقون وتمَّ بعد ذلك اقتياد الأسيرين إلى مكة حيث بيعا إلى المشركين ممن لهم ثأر عندهما. والآن لننصت لحديث أبي هريرة كما ورد في مسند الإمام أحمد ، وهو يسردُ لنا بعضًا من أطوار قصة أسر الصحابي الجليل خبيب، يقول: " فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا، وكان خبيب هو قاتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بناتِ الحارث مُوسًى يستحدُّ بها، فأعارته، فدرج بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مُجْلِسَهُ على فَخِذه، والمُوسَى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرًا قطُّ خيرًا من خُبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكان يقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فصلى ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: "اللهمَّ أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا ولا تُبق منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا على أيِ جَنْبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يُبارك على أوصال شِلْوٍ ممزّعِ ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، كان خبيبٌ هو الذي سنَّ لكل مسلم قُتِل صبرًا الصلاةَ، وأخبر -يعني النبي- أصحابه يوم أصيبوا خبرهم ؛ (فتح الباري). لقد انقاد مشركو قريش لأحقادهم وكرههم للإسلام وأذعنوا لنار الثأر التي كانت تأكل قلوبهم وتُعمي أبصارهم، فلم يشفِ ما بهم -بحسبهم- سوى ذلك المصير البشع الذي أعدُّوه لخبيب؛ إذ صلبوه على جذوع النخل ثم قتلوه، لكنَّ خبيبًا لاذ بقوة الإيمان التي تسكن قلبه ووجدانه، فصبر على العذاب الممضِّ، وواجه إرهابهم الدنيء بطاقة الصبر الذي لا ينفد، وبصلابة الجَلَد الذي لا ينهزم، وفي اللحظة التي سبقت رحيله عن هذه الدنيا أحب خبيب أن تكون آخر كلماته مناجاته لربه من خلال أداء الصلاة. وها قد هداه إيمانه الصادق إلى سنِّ سُنَّة محمودة سيكون له أجرها إلى آخر الساعة. إن خبيبًا يفتح عيوننا على حقيقة أخرى من حقائق الصلاة، فهي ليست مجرد طقس معزول نؤديه كل يوم خمس مرات، بل هي عنوان للسكينة والطمأنينة، وهي كذلك المرهم الشافي للآلام الشديدة والأوصاب المستعصية، إنها المشكاةُ التي يستمدُّ منها المؤمنُ النورَ الذي ينير له دروبه المحلولكة في هذه الدنيا، فيُجابه بها أصعب الابتلاءات، وهل هناك ابتلاء أصعب من ابتلاء الموت، " ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا "، هكذا ينشد خبيب، يكفيه أن الله أنعم عليه بنعمة الإسلام وأردف له بنعمة الشهادة في سبيله. ولا نملك في الأخير إلا أن نقول مع حسان بن ثابت وهو يرثي لفقد خبيب: ما بالُ عَينِكَ لا تَرقا مَدامِعُها سَحًّا عَلى الصَّدرِ مِثلَ اللُؤلُؤِ القَلِقِ عَلى خُبَيبٍ وَفي الرحمَنِ مَصرَعُهُ لا فاشِلٍ حينَ تَلقاهُ وَلا نَزِقِ فَاذْهَب خُبَيبُ جَزاكَ اللَهُ طَيِّبَةً وَجَنَّةَ الخُلدِ عِندَ الحورِ في الرُّفُقِ رحم الله خبيبًا وسائر الشهداء الأبرار.
القيلولة سُنَّة نبوية وصحة بدنية الْمَقِيل والقَيْلُولة كما قال الصنعاني في سبل السلام: " الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم ". والقيلولة مستحَبَّة عند جمهور العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قِيلُوا فإن الشياطين لا تقيل))؛ [الحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 4431]. وقال في كشاف القناع: "ويستحب النوم نصف النهار؛ قال عبدالله: كان أبي ينام نصف النهار شتاء كان أو صيفًا". وأخرج ابن ماجه بسنده عن سهل بن سعد، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما كنا‏ ‏نَقِيل‏ ‏ولا‏ نتغدَّى إلا بعد الجمعة))، وفي صحيح البخاري ‏عن ‏أنس بن مالك ‏قال: ((كنا نبكر بالجمعة، ‏ونقيل ‏بعد الجمعة)). والقيلولة سنة نبوية؛ فقد أخرج البخاري عن ‏أم حرام بنت ملحان، ‏‏أخت ‏أم سُلَيم، ((أنه صلى الله عليه وسلم ‏قَالَ عندهم، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟ قال‏: ‏رأيت قومًا ممن يركب ظهر هذا البحر كالملوك على الأَسِرَّة، قالت: قلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلني منهم، قال: فإنك منهم، قالت: ثم نام، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟ فقال مثل مقالته، قالت: قلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، قال: فتزوَّجها ‏عبادة بن الصامت، ‏فغزا في البحر، فحملها معه، فلما رجَع، قُرِّبت لها بغلة لتركبها‏ ‏فصرَعتها، ‏فاندقَّت عنقها، فماتت)). فينبغي للمؤمن الحرصُ على نومة القيلولة بالنهار؛ وهي إما قبل الظهر أو بعده مخالفة للشياطين؛ كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل))؛ [رواه الطبراني، الصحيحة 2647]. قال إسحاق بن عبدالله: "القائلة من عمل أهل الخير، وهي مَجَمَّة للفؤاد، مَقْواة على قيام الليل، ومرَّ الحسن البصري بقوم في السوق في وسط النهار، فرأى صخبهم وضجيجهم، فقال: أما يقيل هؤلاء، فقيل له: لا، فقال: إني لأرى ليلهم ليلَ سوء".
بيت ابن أبي شيبة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين في كل حين؛ أما بعد: فإن بيت ابن أبي شيبة لم يزالوا أهل ‌بيت ‌علم وحديث، يتداولونه وينقلونه؛ قال يحيى الحماني: "‌أولاد ‌ابن ‌أبي ‌شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحموننا عند كل مُحَدِّث"؛ ولذا أحببتُ أن أشير إلى بعضهم هنا، وأبدأ بأجَلِّهم علمًا، وأضبطهم حديثًا، وأقواهم حفظًا، وأكثرهم شهرة ؛ وهو: أشهرهم: أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة؛ وهو: إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم الكوفي (235 ه)؛ قال الذهبي: "من أقران: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني في السن والمولد والحفظ، ويحيى بن معين أسن منهم بسنوات"، صاحب التصانيف، له: المصنف مطبوع، والمسند مخطوط، والتفسير مفقود، وكتاب الإيمان طُبِعَ بتحقيق الألباني، وغيرها؛ [وانظر ترجمته في: التاريخ الكبير (6/ 240) للبخاري، الثقات (8/ 358) لابن حبان، تاريخ بغداد (11/ 259-بشار)، الكمال في أسماء الرجال (6/ 284)، تذهيب تهذيب الكمال (5/ 289)، تاريخ الإسلام (5/ 855)، سير أعلام النبلاء (11/ 122)، تذكرة الحفاظ (2/ 61)، العبر (1/ 331)، البداية والنهاية (10/ 346-شيري)، طبقات علماء الحديث (2/ 84)، إكمال تهذيب الكمال (4/ 565) لمغلطاي، تهذيب التهذيب (6/ 2)، طبقات المفسرين (1/ 252) للداوودي، وغيرها كثير]. وأخوه: أبو الحسن عثمان بن محمد بن أبي شيبة: إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي (239 ه): وكان أكبر من أبي بكر كما قال المزي، وغيره؛ وقال الذهبي: "وأخوه أحفظ منه"، ووثَّقه العجلي، صاحب التصانيف، روى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ [انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (11/ 382)، تهذيب الكمال (19/ 478)، سير أعلام النبلاء (11/ 151)، العبر (1/ 340)، إكمال تهذيب الكمال (5/ 252)]. وولد أخيه: أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم (297 ه): تكلم في محمد بن عثمان جماعة من أهل العلم، له تاريخ كبير في معرفة الرجال، وهو صاحب كتاب العرش، ومسائل ابن أبي شيبة، وغيرها؛ [انظر: تاريخ بغداد (3/ 42)، المنتظم (6/ 95)، سير أعلام النبلاء (14/ 21)، الأنساب (9/ 201)، اللباب في تهذيب الأنساب (2/ 315)]. وأخوه الآخر: القاسم بن محمد بن أبي شيبة: إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي (235 ه): وهو أكبر أخويه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "يخطئ ويخالف"، وقال العجلي: "ضعيف"، وقال الخليلي: "ضعَّفوه وتركوا حديثه"، تركه أبو حاتم وغيره، وضعَّفه الذهبي في السير في ترجمة أخيه عبدالله؛ [انظر: الجرح والتعديل (7/ 120)، الضعفاء والمتروكون (3/ 16) لابن الجوزي، تاريخ الإسلام (5/ 902)، ميزان الاعتدال (3/ 379)، لسان الميزان (4/ 465)]. وابنه: أبو شيبة إبراهيم بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم، الكوفي (265 ه): وهو صدوق؛ كما قال أبو حاتم وغيره؛ [انظر ترجمته في: الجرح والتعديل (2/ 59/ 322)، الثقات (8/ 87/ 12363)، سير أعلام النبلاء (11/ 128)، تهذيب الكمال (2/ 128)، تهذيب التهذيب (1/ 136)]. وابنه الآخر: محمد بن عبدالله بن محمد بن أبي شيبة: إبراهيم بن عثمان بن خواستي الكوفي العبسي (لم أعرفه): روى عنه أبو داود حديثًا واحدًا؛ كما قال المزي؛ [انظر: الكمال في أسماء الرجال (2/ 285)، تهذيب الكمال (24/ 534)، تهذيب التهذيب (9/ 78)]. وجَدُّه: أبو شيبة إبراهيم بن عثمان ‌بن خُواستي العبسي من أهل واسط كان مولى لعبس (169 ه): وعبس بطن من غطفان؛ قاله السمعاني، قاضى واسط للمنصور ثلاثًا وعشرين سنة، متكلَّم فيه، روى له: الترمذي، وابن ماجه؛ [انظر: الكمال في أسماء الرجال (3/ 154)، فتح الباب في الكنى والألقاب (ص:418)، الأنساب (9/ 200)، تهذيب الكمال (2/ 147)، تذهيب تهذيب الكمال (1/ 256)، تاريخ الإسلام (4/ 560)، تهذيب التهذيب (1/ 144)، إكمال تهذيب الكمال (1/ 249) لمغلطاي]. وأبوه: محمد بن إبراهيم بن عثمان ‌بن خُواستي العبسي مولاهم الكوفي القاضي (182 ه): على قضاء فارس، قال أبو داود: لا بأس به؛ [سؤالات أبي داود (424)]؛ قال المزي: رَوَى لَهُ النَّسَائي حَدِيثًا واحِدًا؛ [انظر: الأنساب (9/ 200)، تاريخ بغداد (2/ 265)، الكمال في أسماء الرجال (2/ 110)، تهذيب الكمال (24/ 318)، تهذيب التهذيب (9/ 12)، اللباب في تهذيب الأنساب (2/ 315)]. رسم توضيحي: وهذا رسم توضيحي يبين ما سبق ذكره مختصرًا؛ ليسهُلَ مراجعته. هذا ما أحببت الإشارة إليه مختصرًا؛ ليسهل معرفة بعض أهل العلم ممن يُنسَب إلى هذا البيت، وحتى لا يختلط على البعض معرفتهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القُرْآن الكريم يصور هذا الحدث سميت السورة بسورة الأحزاب؛ وذلك لأهمية هذه الغزوة وشدتها على المسلمين، صحيح أن الله تعالى جنب المسلمين خطر المواجهة، وأن عدد القتلى من الطرفين لا يذكر نسبة إلى أعداد الجيشين... قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9]، بدأ بالنتيجة؛ لأن فيها بيان النعمة؛ لكي يطمئن المسلمون إلى التأييد الإلهي القوي لعباده المؤمنين وإنقاذهم من المحنة التي روعت القلوب، ثم عاد ليبدأ الخبر منذ بدايته ليصور حال المسلمين تجاه هذا الغزو، ويسمى هذا في البلاغة: اللف والنشر: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]، وكان لكثرة جيش العدو أنه استطاع أن يملأ الساحة والمكان من جميع اتجاهاته، وكان لهذا العدد والحشد الكبير تأثير على معنويات المسلمين، فوصلوا إلى حالة شديدة من الخوف والرعب، زاغت الأبصار، وكادت القلوب أن تنخلع لتصل إلى الحناجر، وهذه صفة من يبلغ به الخوف مبلغه، وقد اهتزت ثقتكم بالله، وعملت بكم الظنون بربكم عملها، وهذا ابتلاء من الله وهزة عنيفة وتمحيص بالغ، فلا يصمد أمام هذا الموقف إلا قوي الإيمان، راسخ العقيدة، ويهوي ويسقط الهزيل الضعيف الذي يعبد الله على حرف: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، وتستمرُّ سورة الأحزاب بإلقاء الضوء على الغزوة في الجانب الإسلامي وما استجد في مجتمعهم من أمور؛ فقد برز المنافقون على السطح على غير عادتهم في التخفي: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12]، وهكذا رفع المنافقون أصواتهم بالتشكيك بموعود الله بنصر المؤمنين، ثم يرتفع التصعيد والهلع في النفوس وكله بما يقوم به المنافقون من التهويل والتخويف وبث الكذب هنا وهناك ليشتتوا قوى المسلمين ويضعفوا من تماسكهم، ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [الأحزاب: 13]؛ فاصطناع الأزمات - بأن بيوتهم قد انكشفت للأعداء وهي غير محمية بالمقاتلين - هدفه الفرار من المواجهة، وتثبيط الهمم من أجل الفشل وإهدار القوة، والقعود عن الجهاد وتقوية الخصوم، ويروى عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحًا في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ﴾ [الأحزاب: 13]، فما استأذن أحد منهم إلا أذن له، ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: 14]، ولو طوقت المدينة بالعدو من جميع جوانبها لما ردهم عن السعي في الفتنة وتثبيط الناس عن الجهاد شيء، بل لأسرعوا فيها من تلقاء وحي شياطينهم؛ لأنهم منافقون مبغضون للإسلام ونبي الإسلام، وكان عليهم أن يكفوا عن هذا العمل الدنيء عند تعرض المدينة للحصار، وأن يعملوا بإخلاص مع المسلمين لكي يدفعوا عنها الخطر، فكم من أناس كان بينهم الخلاف شديدًا ثم لما تعرضت مصالح الجميع للخطر اتحدوا وقاتلوا العدو؛ صونًا لمصالحهم، لكن هؤلاء المنافقين فارقوا المنطق والتعقل وأظهروا العداوة، فاجتمع على المسلمين ثلاثة أعداء: قريش وأحلافها، واليهود، والمنافقون، ﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾ [الأحزاب: 15]، وذلك لما رأوا نصر المسلمين في بدر وما نالوه من الكرامة والمديح، فقالوا: لئن شهدنا قتالًا لنقاتلن، فما ثبتوا على قولهم، ولا حافظوا على عهدهم، وتتوالى الآيات في تعريتهم وإخبار المسلمين عن مكرهم: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 18 - 20]. بيان حال المنافقين ومعهم اليهود وهم يطلبون من الأنصار أن ينضموا إليهم ويفارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمًا بأنهم في حال النزال والقتال جبناء يخشون الموت، وإذا شاركوا في القتال فهو من باب السمعة والرياء والدس وتثبيط العزائم بين المقاتلين، ففي حال الخوف والنزال يكفيك أن تنظر في وجوههم لترى أعينهم كيف تدور كالمغشي عليهم من الموت، وهذه صورة من يكون في النزع الأخير، فإذا زال عنهم الخطر انتفضوا كأنهم الشجعان الذين لا يرهبون الموت، وتكلموا منتقصين غيرهم، لقد أوتوا من ذلق اللسان وتدبيج عبارات الكذب ما يظن بهم السامع أنهم أهل بأس وفصاحة وبيان، ولكن أفئدتهم هواء، وهم مثال البخل والشح، وهذا من صفات المنافقين وعديمي الإيمان الذين يؤثرون المال وجمعه على البذل والإنفاق في سبيل الله، وقيل: هم عند القتال مع المسلمين أجبن قوم وأخوفهم من الموت، وعند توزيع الغنائم هم أسبق الناس للمطالبة بها مع شح وعدم تسامح، فهم يطالبون بالنقير والقطمير، ومن جبنهم وشدة خوفهم اختبؤوا في البيوت فلم يعلموا بانسحاب الأحزاب، وكانوا يودون لو كانوا بعيدين عن ساحة الحرب في مكان ما عند البدو كيلا يشهدوا الحرب أو يعايشوها، ومن هناك يسألون عن أنباء القتال ومن المنتصر من مأمنهم، وعند ذلك سيباركون المنتصر، سواء أكان المسلمون هم الفائزين أم قريش. صورة واضحة وناطقة تبدي حقيقة المنافقين، ولكن الله - جلت قدرته - وقى المسلمين شر مكرهم، فكانت هزيمة الأحزاب هزيمة للمنافقين أيضًا ولليهود الذين نقضوا العهد، فما كاد المسلمون أن يتنفسوا الصعداء حتى أتى جبريل وهو لا يزال في لباس الحرب معلنًا أنه لم يضع السلاح، وأشار إلى بني قريظة، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن: ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، وهكذا تسابق المقاتلون أفرادًا وجماعات ليحدقوا ببني قريظة.
موسى عليه السلام (10) ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن غرق فرعون ونجاة موسى عليه السلام كان في يوم عاشوراء؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) ، فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ؛ فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم موقفَ فرعون وملئه من موسى عليه السلام وقومه بعد إيمان السَّحَرة في مواضع من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الأعراف: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 127 - 137]. وقال تعالى في سورة يونس: ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 83 - 92]. وقال في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ [هود: 96 - 99]. وقال تعالى في سورة طه: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ [طه: 77 - 79]. وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 52 - 68]. وقال تعالى في سورة القصص: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: 38 - 42]. وقال عز وجل في سورة الإسراء: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ﴾ [الإسراء: 101 - 103]. وقال تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 46 - 56]. وقال تعالى في سورة القمر: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 41، 42]، إلى غير هذا من الآيات. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العولمة الثقافية (2) إن هذا المفهومَ المضطرب للعولمة، وإن جاء جديدًا في إطلاق المصطلح: العولمة - فإن المَعنيِّين بالمفهوم يؤكدون أن العولمة مفهومٌ قديمٌ قِدَم الحضارات، التي سعت إلى أن تكون هي المهيمنة، متى ما وضح بروزُها، وتبنيها، وفي هذا يذكر الأستاذ كامل الشريف - الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة - أنه "إذا كانت العولمةُ المعاصرة قد اعتمدت الغزوَ الثقافي كأحد الأسلحة؛ لحماية الغزو السياسي والاقتصادي، وشلِّ القدرات الوطنية عن المقاومة، فهو سلاح قديم أيضًا استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع، وخصوصًا في العالم الإسلامي؛ فالدولةُ الشيوعية حرَّمت دراسةَ القرآن الكريم، وأغلقت المدارس الدينية، ومنعت بناء المساجد إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية، ويفتح لدعايتها مساربَ في العالم الإسلامي" [1] . إذا دخلنا إلى الاستعمار على أنه أداةٌ من أدوات بسطِ العولمة القديمة، فلا بد من التعريج على مؤثرين آخرين، لا يُستهان بأثرهما في هذا المنحى؛ أحدهما: التنصير [2] ، ويُعبَّر عنه أحيانًا بالتبشير، والآخر: الاستشراق [3] - بصفتهما أداتين أُخريين من أدوات تسويق العولمة - بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح - [4] وإن لم يكونا واضحين في التأثير؛ إذ إن الأول نحا المنحى التبشيري، والثاني نحا منحى البحث العلمي - فإنهما سخَّرا مهمَّتهما التنصيرية/ التبشيرية والبحثية العلمية في سبيل هيمنة ثقافةِ الرَّجل الأبيض - متلبِّسًا بالدين - على غيرها من الثقافات الأخرى، ومن ثَمَّ فإن هناك من يرى العولمةَ في ثوبها الجديد على أنها "نوع جديد من أنواع الاستعمار، فيه كلُّ ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسَلَفِه من الأهداف والغايات" [5] . هناك أيضًا من يدافع عن العولمة، ويرى أنها منهج جديد، سلخ ما وراءه من خلفياتٍ استعمارية، وجاء ليبشِّر بالشُّمولية من خلال سعادة البشرية، وتعميق أواصر الرابطة الإنسانية، وأن الذين يعيدون العولمة إلى تلك العوامل المذكورة أعلاه، إنما يوظِّفون مخزوناتِهم الفكريةَ القائمة على هاجس الاستعمار والغزو الثقافي أو الغزو الفكري. هذا الدفاعُ عن العولمة هو أحدُ المسارات التي تتجاهل نظريةَ المؤامرة، أو بالأحرى تنفي وجودَ مؤامرة من نوعٍ ما، في الوقت الذي يؤكد فريق آخرُ أن العولمة شكل جديد من أشكال الغزو الثقافي، وأن العولمة "تحمل دائمًا في طيَّاتها نوعًا أو آخرَ من (الغزو الثقافي)؛ أي: من قهر الثقافة الأقوى لثقافةٍ أخرى أضعفَ منها" [6] ، إن المسألة - هنا - لا تتعدَّى الانتقالَ بالكون من قريةٍ كبيرة في الماضي إلى قرية صغيرة في الحاضر، وتتصاغر هذه القرية تِباعًا مع الأيام. لا يحسُن تجاهلُ البعد الثقافي في هذه القرية التي تصغُر مع الأيام؛ بلْهَ الأشهرِ والسنين، والمراد هنا ليس الغزوَ الثقافي من ثقافة مهيمِنة على ثقافة مهيمَنِ عليها، وإن كان هذا من الأبعاد التي لا تُتجاهل، العولمة مهدِّدٌ لمَسْخِ جميعِ الثقافات، وصهرها في ثقافة المجتمع التِّقَني (التكنولوجي) الحديث، كما يحلو للدكتور جلال أمين أن يستأثرَ بهذا الإطلاق، حين تنتفي الثقافة في هذا المجتمع [7] . إلا أن (أنتوني كنج) يستبعد العولمةَ الثقافية؛ ذلك أن المشهد الثقافيَّ الحاضرَ هو من التعقيد والتعدُّد بحيث يتعذَّر صهرُه في بوتَقة واحدة، بغضِّ النظر عن وجهتها؛ "فالناس تنتمي لعدة ثقافات مختلفة، والاختلافات الثقافية قد تكون داخل الدولة (أي بين الأقاليم، والطبقات، والجماعات العِرقية الحَضَرية والريفية)، أو بين الدول، ويتنقَّل المعماريون وخبراءُ التخطيط بين نيويورك ولندن وبومباي بصورةٍ أيسرَ من تنقُّلِهم بين بومباي وقُرى ماهارشترا" [8] . لو تجاهلنا البُعدَ الثقافي ونظرنا إلى العولمة من منطلق اقتصادي بَحْتٍ، فإننا نجد مَن يؤكد قِدَمَ العولمة؛ يقول أحمد هاشم اليوشع: "العولمة ظاهرة قديمة جدًّا، وهي تعبِّر عن سعي الإنسان للبحثِ عن أسواق جديدة لتوزيع منتج، أو للحصول على عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال)، فهي تعبيرٌ عن سعي حثيثٍ يصعُب ربطُه بتفكير أو فترة زمنية محدَّدة، وما نعرف عنها أن الدافع الرئيسي لانتعاشها يكاد يقتصر بشكل أساسي على تعظيم الرِّبحيَّة وزيادة الثروة... إن العولمةَ من منظور تاريخي ظاهرةٌ قديمة تمتدُّ لتشملَ أي تجرِبة إنسانية ارتبطت بالبحث عن أسواق جديدة؛ كرحلةِ كرستوفر كولومبس، أو رحلة الشتاء والصيف عند عرب الجزيرة العربية قديمًا" [9] . يمكن أن يُقاسَ على هذه الرحلات القديمة رحلاتُ أهلِ الخليج إلى الشرق - الهند تحديدًا - ورحلات تجار وسط جزيرة العرب - العقيلات - إلى الشام ومصر، بحيث سَرَتْ عبارةٌ في المنطقة تنصُّ على أن: "الشام شامك إذا الدهر ضامك، والهند هندك إذا قَلَّ ما عندك". على أن من الباحثين في تحرير المصطلح مَن لا يذهب هذا العمق في التاريخ، وإن اتفق مع غيره على فكرة قِدَم المفهوم، وليس بالضرورة المصطلح، ويُعيد ذلك إلى نشوء الرأسمالية "الأوروبية في حركة تناميها على مستوى الأسواق الأوروبية الوطنية، ثم في خروجها من حدودها الوطنية إلى الأسواق العالمية في المستعمَرات أو في دول العالم الثالث؛ للسيطرة عليها من خلال الشركات ذات الصفة العالمية" [10] . [1] انظر: كامل الشريف، الشباب المسلم والعولمة - مرجع سابق - ص 4. [2] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، التنصير: مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته، ط 4، الرياض: المؤلِّف، 1426هـ/ 2005م، ص243. [3] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والنشأة والدوافع والأهداف، ط 2، الرياض: مكتبة التوبة، 1423هـ/ 2003م، ص210. [4] انظر: فقرة: الاستشراق والتغريب وآثارها غير الإيجابية، ص 269 - 270، في: سيار الجميل، العولمة والمستقبل: إستراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2000م، ص 439. [5] انظر: كامل الشريف، الشباب المسلم والعولمة - مرجع سابق - ص 15. [6] انظر: جلال أمين، العولمة، القاهرة: دار المعارف، 2002م، ص 50، (سلسلة اقرأ، 636). [7] انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث، ص 211 - 229، في: مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة وتداعياتها على الوطن العربي - مرجع سابق - ص 258. [8] انظر: أنتوني كينج، العمارة ورأس المال وعولمة الثقافة، ص 387 - 401، والنصُّ من ص 398، في: ثقافة العولمة: القومية والعولمة والحداثة/ إعداد مايك فيذرستون، ترجمة عبدالوهَّاب علون، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م، 411 ص. [9] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية، بيروت، المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 22. [10] انظر: عز الدين إسماعيل، العولمة وأزمة المصطلح، العربي، ع 498 (5/ 2000م)، ص 165 - 167.
الفَرق بين الفِرَق لعبد القاهر البغدادي صدر حديثًا كتاب "الفرق بين الفرق"، لـ"عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي" (ت 429 هـ)، تحقيق ودراسة: د. "كوثر إرشاد محمد" و "شاكر بن أحمد العمري"، نشر: "دار البلد للنشر والتوزيع"، و"دار الفضيلة للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحتان علميتان لنيل درجة الماجستير في العقيدة من كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تقدم بها كل من "كوثر إرشاد بن محمد" عن رسالة بعنوان: "الفرق بين الفرق تأليف عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي (429هـ) من بداية الكتاب إلى نهاية الفصل الثالث في ذكر القدرية المعتزلة من الباب الثالث دراسةً وتحقيقًا"، و"شاكر أحمد العمري" عن رسالة بعنوان: "الفرق بين الفرق تأليف عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي (429هـ) من بداية الفصل الرابع في ذكر الفرق المرجئة من الباب الثالث إلى نهاية الكتاب دراسةً وتحقيقًا" وذلك تحت إشراف كل من د. "عبد الله بن سليمان الغفيلي"، و د. "غالب بن علي العواجي". وكتاب "الفرق بين الفرق" هو مرجع غني عن التعريف في الحديث عن الفرق الإسلامية، وقد استوعب غالب مقالات الفرق الموجودة في عصره وما قبله، منذ بدء ظهور الفرق إلى نهاية القرن الرابع الهجري، العصر الذي شهد أصول غالب الفرق الموجودة إلى عصرنا الحاضر. وبيَّنَ "عبد القاهر بن طاهر البغدادي" أنه ألفه استجابةً لرغبة طلبته في شرح حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وحتى يبيّن لهم الفروق بين هذه الفرق، ومعالم الفرقة الناجية، فجعله في خمسة أبواب، واشتمل كل باب على عدة فصول إلا الباب الأول الذي خصّصه لحديث افتراق الأمة وبيّن أن مقصود النبي هو الفرق العقائدية، ثم تطرق في الباب الثاني إلى كيفية افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وخصص الباب الثالث لبيان مقالات الفرق الضالة، والباب الرابع للحديث عن الفرق المنتسبة للإسلام وليست منه، ثم ختم في الباب الخامس ببيان أوصاف الفرقة الناجية. ومنهج الكتاب في الطرح هو محاولة عد وحصر الاثنين وسبعين الفرقة الأخرى غير الفرقة الناجية مستندًا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث مذكور بسنده وبطرق وألفاظ مختلفة، ف يتحدث الكتاب عن أمة الاسلام وعقائدها وأصولها، وعن أهل السنة والجماعة، ويصنف الفرق الأخرى، ومن اختلف منهم وكيف بدأ اختلافهم، ثم يتطرق لتفرقهم مرة أخرى بداخل الفرق. والكتاب ملئ بالمسائل العقدية التي يذكرها المصنف، ومنها بعض المسائل التي خالف المصنف فيها مذهب السلف رحمهم الله، وقد جاء هذا التحقيق للكتاب لتلافي أخطاء الطبعات السابقة للكتاب، مع التنبيه على تلك المسائل المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة. ونجد أن هذه المراجعة التاريخية لفرق المبتدعة قديمًا الذين جنوا على ماضي المسلمين، كما أنها دراسة حاضرة كذلك من حيث إنها تكشف عن جذور البلاء الذي شتت قوى المسلمين وفرقهم شيعًا، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، إلى جانب معرفة ما يطرأ على العقيدة الإسلامية الصحيحة من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام بعيدة عن طرقه الواضحة. وعبد القاهر البغدادي (توفي عام 1037 م) هو أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي التميمي، متكلم من أئمة الأصوليين وأعيان فقهاء الشافعية. ولد في بغداد ونشأ فيها ثم رحل مع أبيه إلى خراسان واستقرّ في نيسابور، وتفقه على أهل العلم والحديث، وكان من شيوخه "أبو عمرو إسماعيل بن نُجيد النيسابوري" شيخ الصوفية بنيسابور (ت 366 هـ) و"أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني" أحد الأئمة الثقات في الحديث (ت 365 هـ) و"أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني"، العالم الفقيه بالأصول (ت 418 هـ). كان البغدادي ماهرًا في علوم كثيرة، وفي علم الحساب خاصة. وكان عارفًا بالنحو، وبرع في علوم الدين، فاشتهر اسمه وبعد صيته. ولما مات شيخه "الإسفراييني" قام مقامه في التدريس بمسجد عقيل، فأملى سنين، واختلف إليه الأئمة فقرؤوا عليه، وكان منهم "ناصر المروزي" و"زين الإسلام القشيري" وغيرهما.. وقيل إنه كان يدّرس في سبعة عشر فنًا. ولما نشبت فتنة التركمان في نيسابور فارقها إلى إسْفَرايين سنة 429هـ/1037م فابتهج الناس بمقدمه، ولكنه لم يعش فيها إلا زمنًا يسيرًا فقد مات في السنة ذاتها ودفن إلى جانب شيخه "أبي إسحاق". وقال عنه قاضي القضاة "تاج الدين السبكي" في "طبقات الشافعية الكبرى: "الإمام الكبير الأستاذ أبو منصور البغدادي إمام عظيم القدر جليل المحل كثير العلم حبر لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والحساب وعلم الكلام، اشتهر اسمه وبعد صيته وحمل عنه العلم أكثر أهل خراسان". وقال عنه "عبد الغافر الفارسي": "هو الأستاذ الإمام الكامل ذو الفنون الفقيه الأصولي الأديب الشاعر النحوي الماهر في علم الحساب العارف بالعروض ورد نيسابور مع أبيه أبي عبد الله طاهر وكان ذا مال وثروة ومروءة وأنفقه على أهل العلم والحديث حتى افتقر، صنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ودرس في سبعة عشر نوعًا من العلوم، وكان قد درس على الأستاذ أبي إسحاق وأقعده بعده للإملاء مكانه وأملى سنين واختلف إليه الأئمة وقرأوا عليه". كان البغدادي ذا مال كثير، أنفقه على العلم والحديث، ولم يكن يسعى بعلمه ليكسب مالًا. صنف في العلوم المختلفة، وأكثر مصنفاته في علوم الدين، ومنها: • "تفسير القرآن". • "الناسخ والمنسوخ". • "التكملة في الحساب". • "تفسير أسماء الله الحسنى". • "فضائح المعتزلة". • "فضائح القدرية". • "فضائح الكرامية". • "تأويل متشابه الأخبار". • "تأويل المتشابهات في الأخبار والآيات". • "الإيمان وأصوله". • "نفي خلق القرآن". • "الصفات". • "تفسير الأسماء والصفات". • "بلوغ المدى في أصول الهدى". • "معيار النظر". • "العماد في مواريث العباد". • "إبطال القول بالتولد". • "شرح مفتاح ابن القاص". • "التحصيل في أصول الفقه". • "الملل والنحل". • "نقض ما عمله أبو عبد الله الجرجاني في ترجيح مذهب أبي حنيفة". • "التكملة" في الحساب وهو الذي أثنى عليه الإمام فخر الدين الرازي في كتاب "الرياض المونقة". • ومن أجلّ كتبه كتاب "الفَرْق بين الفِرَق". • وكتاب "أصول الدين".
الرق الخفي في سنة 1849م أسَّست (هاريت توبمان) جمعيةً سرية لتحرير العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاعت تحرير المئات منهم، وعندما سُئلت عن الصعوبات التي واجهتها، ذكرت أن أصعبها هو: (كيف تقنع العبد أنه ليس عبدًا؟). مع غرابة هذا الأمر، إلا أنه متكرر في التاريخ البشري، وذكر ابن خلدون في مقدمته قريبًا من هذا؛ فالأمم الضعيفة مُعجَبة بالأمم القوية، لدرجة ذوبان الهُوِيَّة، وهذا ملاحَظ في الدول المحتلة، فهم وإن قاوموا المحتلَّ زمنًا، فإنهم مع الأيام يتزيَّون بزِيِّه، ويتكلمون لغته، ويقلدون عاداته وتقاليده، ويماثلونه في طريقة الأكل والزواج والاحتفال، مع أنه قتل رجالهم، ويتَّم أطفالهم، واغتصب نساءهم، واستباح خيراتهم. إن للقوة سطوةً على العقول، تُعمي وتُصِمُّ، وتُذْهِب المنطق، وكلما زاد انبهار الفرد بالقوة المسيطِرة، زاد إحساسه بالدونية؛ ما يدفعه إلى جَلْدِ ذاته، وتحقير أُمَّتِهِ، وجَعْلِ ذلك قربانًا يتبرأ فيه من ذلك الشعور، وبدون وعي ينتقل من الرِّق الجسدي إلى الرِّق الخفيِّ؛ وهي المرحلة الأخطر، فالمستعبَد جسدُهُ يبغي الخلاص، وربما حانت له مع الزمن فرصة، أما المستعبد عقله، فقد سُلِبَ أعزَّ ما لديه؛ فهو راضٍ برِقِّه، مفاخِر به، داعٍ إليه، ورامٍ بالجهل كل من خالفه، بل معادٍ لأي فكرة تحاول إيقاظه، منصِّبًا الثقافةَ المسيطرة معيارًا للصواب والخطأ. إنها عبودية يصنعها الإنسان لنفسه، فيُقَوْلِبُ نفسَه داخل معتقدات وقيم، يعتقد أنه ينال من خلالها قبول الثقافة المسيطرة ورضاها. قيود وهمية، تسيطر عليه، وتكبِّل فكره، وتشُلُّ تفكيره؛ وسياج متخيَّل يصعُب عليه الخروج منه؛ بسبب رضوخه لضغوط الثقافة المسيطرة، فلا يرى نفسه إلا من خلال مقاييس تلك الثقافة الدخيلة، بقوانينها وقيودها التي ولَّدتها مراحل ظرفية خاصة بتلك الحضارة. ورغم أنه لبِس لِباسًا لا يناسبه بل يشوهه؛ لأنه فُصِّل على مقاييس غيره، إلا أنه متباهٍ مفتخر. في المراحل الزمنية القديمة التي مَرَّ فيها المسلمون بنكبات، تجدهم كارهين للمحتل، محتقرين له ولظلمه، مبغضين لعاداته وثقافته المخالفة لدينهم، من غدر وخيانة، ونقض للعهود، أو عبادة صليب، وقلة غَيرة، وسفور نساء، وشرب خمر، وأكل خنزير كما عند الروم، أو عبادة نار ونكاح محارم كما عند الفرس، أو عبادة أوثان وأكل مَيتةٍ كما عند المغول. وكان الإسلام بشموخه، وكمال شريعته، وكتابه المحفوظ، وعزته التي يُوجِدها في قلوب أتباعه، هو الحصن الحصين، الذي يَأرِزُ إليه المسلمون عند كل خَطْبٍ، مما جعلهم عصيِّين على التطويع، راسخي القيم، ثابتي المبادئ، كالنخلة مع شدة الريح يتمايلون، ولكن لا ينكسرون، وكلما كان الإنسان معتصمًا بالحبل المتين، كان عَصِيًّا على الانصهار الثقافي الذي يذهب بدينه، ويمحق هُوِيَّته، ويصادر عقله، وبذلك كسرت قاعدة التأثير، وأصبح المحتل متأثرًا بدل أن كان مؤثرًا، فدخل كثير من المغول في الإسلام، وكان لهم أثر كبير في كسر تلك الهجمة التي جاؤوا من أجلها. وإذا انتقلنا للعصور المتأخرة وهي عصور الانهزام الفكري، فإن البعض يحاول أن يوائم بين الإسلام وبين الحضارة السائدة في عصره، ولو كان في زمن حمورابي وقوانينه في العراق، أو في زمن (حورمحب) وقوانينه في مصر، أو زمن جنكيزخان وقوانينه (الياسا)، لعسف النصوص واخترع الفهوم التي تقرب بينها وبين الإسلام على حساب الإسلام. وحيث إن الحضارة الغربية هي المسيطرة في هذا العصر، فإن ثقافتها ومنطقها ومنطلقاتها هي المعيار الذي يُحتكَم إليه، ويريد تطويع الإسلام عليه. فتجده ينطلق من منطلقات غربية سببها تسلُّط كَنَسِي لدين محرَّف، ويريد أن يطبِّقها على دين يعجِز عنه التحريف، ويقيس كتابًا مقدسًا خاضت فيه الأيدي وتَهَوَّكَتْهُ العقول، على كتاب مقدس تكفَّل الله بحفظه، حرفًا ومعنًى، وتحدى الأوائل والأواخر أن يأتوا بمثله أو بعضه، أو يجدوا فيه مثلبًا أو تناقضًا في أحكامه وأخباره: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
رحيل أحد عمالقة الرياضيات وروَّادها الأستاذ الدكتور خضر الأحمد (1350- 1445 هـ / 1932- 2023 م) قال الشاعرُ الكبير محمد مهدي الجواهري في مَطلَع مَرثِيَته المشهورة "ناجيتُ قبرَكِ": في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ قد يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه فكيفَ بمَنْ أحبابُهُ فُقِدُوا بمزيدٍ من الحزن والأسى أنعَى إليكم صديقَ العائلة الودود، المربِّي الفاضل الأستاذ الدكتور خضر الأحمد (أبو حامد)، الذي وافته المنيَّة يوم الجمعة 14 ربيع الأول 1445هـ الموافق لـ (29/ 9/ 2023م) في العاصمة الألمانية برلين عن واحد وتسعين عامًا. رحمك الله، آنسَك الله، عوَّضك الله الجنة. إنَّ العين لتدمع وإن القلبَ ليحزن وإنا على فراقك يا أبا حامد لمحزونون. القلب يتفطَّر على فراق الأحبَّة ويبكي بعد أن جفَّت دموعُ العيون. ما أصعبَ حين تبحثُ عن مَدامعِكَ فلا تجدها فكيف لجَذوة الاشتياق أن تنطفئ؟! وكيف لنا في هذه الغربة أن نخفِّفَ من أحزاننا وآلامنا والأحبَّاءُ يغادروننا دونَ وداعهم والسلام عليهم؟! يرحلون ويتركون نُدُوبًا في القلب، لا تزول مهما طالت الأيامُ وتوالت السنون. رحلوا وبقيَت ذِكراهُم وآثارهم، فهل نبكيهم أم نبكي أنفسَنا؟! خبرٌ مؤلم ومحزن أن يفقدَ الإنسان إخوانه وأعزَّاءه، فكيف بمَن كان له أبًا ثانيًا محبًّا وحنونًا؟! هنا يصبح الألمُ لا حدودَ له والحزن كبيرًا؛ لأن فِراقَ هؤلاءِ الناس لا يُعوَّضُ مع الزمن، وحسبي الله ونِعمَ الوكيل. بدأت الحكايةُ في نهاية خمسينيَّات القرن الماضي عندما كان والدي الدكتور مكي حفظه الله طالبًا في جامعة موسكو الحكومية، يحضِّر بحثَه لنيل درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية، والدكتور خضر رحمه الله يحضِّر بحثه لنيل درجة الدكتوراه في الميكانيك السَّماوي في نفس الجامعة، التقَيا في مبنى طلبة الدراسات العليا التابع للجامعة وكانت غرفتاهما في نفس الطابق، وازدادت المعرفةُ والمحبَّة بينهما شيئًا فشيئًا مع مرور الأيام، خصوصًا عندما كانا يلتقيان مساءً في مطعم الجامعة، ثم يمارسان رياضةَ المشي في حرم الجامعة، وهما يتبادلان أطرافَ الحديث في أمور علمية واجتماعية مختلفة. بعد حصولهما على درجة الدكتوراه بامتياز، عاد كلٌّ منهما إلى حِضن الوطن في سورية، ليُعيَّنان أعضاءً في الهيئة التدريسية لدى كلية العلوم في جامعة دمشق ، وتستمرُّ بينهما الزياراتُ العائلية مع نخبة طيبة من كرام الأساتذة في جامعة دمشق، فتوثَّقَت بذلك أواصرُ المحبَّة والصداقة على امتداد عدَّة عقود. وعندما أبصَرتُ هذه الدنيا، نشأتُ في بيئة والدي التي كانت بيئةً علمية وأدبية، فيها من الأصدقاء والعلماء والمتخصِّصين (الأكاديميين)، وكان الدكتور خضر واحدًا منهم. وكان ذكرَ لي والدي حفظه الله ما حصلَ عندما سافر الدكتور خضر رحمه الله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جامعة كولورادو سبرينجز وجامعة جنوب كاليفورنيا عام 1986؛ من أجل سنة التفرُّغ الأكاديمي ( Sabbatical year )، أنَّه التقى علماءَ كُثْرًا وأبلى بلاءً حسنًا في إعداد أبحاثٍ علمية رياضية ذات أهمية كبيرة، حتى إنَّ أحد علماء الرياضيات هناك شكرَ الدكتور خضر على ملاحظات هامَّة أبداها له على أحد كتبه وأخذ بها هذا العالم، ولولا أن الدكتور خضر كان على هذا القدر العالي من المستوى العلمي والمعرفي لما حصلَ هذا الأمر. كانت صورتُه الأولى المكوَّنة في ذهني عندما رأيت اسمَه على كتب مقرَّرات الرياضيات في المرحلتين الإعدادية والثانوية، ثم رسَخَت أكثرَ عندما كان يُكرمنا بزيارته لنا حينما يحين دورُ والدي حفظه الله في اجتماع سهرتهم الدَّورية، فأستأذنُ والدي بالجلوس معهم، وأسمع حديثَ الدكتور خضر المشوِّقَ والممتع، سواءٌ أكان في العلوم أم في الإدارة وغيرها، فقد كان موسوعةً غنية ورائعة. ثم كبِرتُ وترعرعت وأنا أتابعُ باهتمام أخبارَه ونشاطاتِه العلميةَ والثقافية والإدارية، فقد ترجم العديدَ من المقالات العلمية لمصلحة " مجلة العلوم " الصادرة عن مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي، هذه المقالاتُ التي تناولت مواضيعَ مختلفةً في علوم الرياضيات؛ مثل: الميكانيك السَّماوي والطبولوجيا، إضافةً إلى مقالات في علم الفلك، وترجم أيضًا العديد من المقالات والكتب الإدارية والاقتصادية عندما كان مع والدي يعملان خبراءَ ومستشارين في مجموعة دعبول الصناعية، فجُمِعَت كلُّ مقالاته المترجَمة في سلسلة رائعة مكوَّنة من ثلاثة أجزاءٍ باسم "الإستراتيجيَّات الحديثة للإدارة والأعمال"، نشرَتها دائرةُ البحث والتطوير في شركة "مدار ألمنيوم" التابعة لمجموعة دعبول الصناعية، وأهدى إليَّ نسخةً منها بتوقيعه وإهدائه صديقُه ورفيقُ دربه الأستاذ الدكتور موفق دعبول رحمه الله تعالى؛ الذي كان أحدَ الأعضاء المؤسِّسين لهذه المجموعة، واستفدتُّ من هذه الأجزاء أيَّما استفادة عندما كنت طالبًا في كلِّية الاقتصاد في مرحلة الليسانس وحتى الدكتوراه، فضلًا على مساعدة الدكتور خضر لي في حلِّ بعض مسائل الرياضيات عندما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية في مواضيعَ مختلفةٍ مثل: جبر بول، والتحليل التوافقي، والاحتمالات. أمَّا عَلاقةُ الدكتور خضر رحمه الله بوالدي الدكتور مكي حفظه الله، فأنقل لكم ما ذكره الدكتور خضر لأخي وشقيقي الحبيب الشيخ الدكتور خَلدون (فكَّ الله أسرَه وأكرمنا بعودته سالمًا غانمًا) عندما سأله أخي عن ذلك فأجابه الدكتور خضر بما يأت ي [1] : " إن جِدِّية الأخ مكِّي في دراسته عاليةٌ. ومعَ أنه بدأ مثلَنا جميعًا؛ من معلوماتٍ لا تَرقى بحالٍ من الأحوال إلى المستوى الذي ينطلقُ منه الرُّوس للبدء بالتحضير لنيل شهادة الدكتوراه، فقد بلغ المستوى المطلوبَ منه بعد عمليةِ ترميمٍ وتطويرٍ للمَؤونة العلمية المحدودة التي كان يحمِلُها معه من دمشق، بسرعة عالية نسبيًّا. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ كثيرًا من زملائنا أصيبوا بالإحباط عند انتقالهم من دراسة اللغة الروسية إلى المعاهد العلمية التي وُجِّهوا إليها. لكنَّ الرُّوحَ المعنويَّةَ العاليةَ، وقَبولَ التحدِّي، والاستعدادَ الفِطريَّ للكدِّ والعمل، كلُّ هذا ساعد د. مكِّي على تجاوز الصُّعوبات التي واجهته، وكانت النتيجةُ أن نجحَ نجاحًا مشهودًا في مساعيه التي تُوِّجَت بحصوله على شهادة الدكتوراه. ومع أنَّ الفيزياء ليست تخصُّصي، فأنا لا أشكُّ في تمكُّنه القويِّ من علم الفيزياء النووية الذي تخصَّصَ فيه، ويشهَدُ على هذا زملاؤه والنابهون من طلَّابه، الذين مازال بعضُهم يرجع إليه لحلِّ بعض المسائل والمشاكل الفيزيائية. بل إن بعضَ مفتِّشي الفيزياء في وِزارة التربية يلجَؤون إليه أحيانًا لحلِّ بعض مشكلاتهم العلمية والتربوية. والدكتور مكِّي من ألمع أساتذة الفيزياء في قسمه. يعرف القاصي والداني دقَّتَه العلمية العالية، وإعدادَهُ الرائعَ للمحاضرات قبلَ إلقائها، ومحاولةَ الحصول على كل ما هو جديدٌ في تخصُّصه ليستفيدَ ويُفيد. وإذا أضفنا إلى كلِّ ذلك، اللغةَ العربيةَ الفصيحةَ السليمةَ التي يُلقي بها محاضراتِه، والتي تُميِّزه، قطعًا، من جميع زملائه، سواءٌ أكانوا في قسمه أو خارجَهُ، فإنني أقول بكل ثقة: إنَّ أبا خلدون أستاذٌ جامعيٌّ مثالي. وبسبب مزاملتي الطويلة له، فإنني أعرفُ أنه لم يَدخُل قطُّ إلى صفٍّ ليُلقيَ محاضرتَهُ إلا بعد أن يكون قد رتَّبَ أفكارَه، وسَلْسَلَها منطقيًّا، وذلك يجعله مُبِينًا في محاضَراتِه، التي ما زال يشيدُ بها الكثيرون ممَّن كانوا يحضُرونها. لقد قرأتُ له بعضَ ما كان يترجمه لمجلَّة "العلوم" التي تَصدُر في الكويت، وكي أكون دقيقًا، كان همِّي الأوَّلُ الإفادةَ من اللغةِ الرائعةِ التي كان يستعملها في الترجمة. وأذكُر ممَّا قرأتُه له ترجمتَه الرائعةَ لكتاب "نشوء العصر الذرِّي". أمَّا الآن فأنا مواظبٌ على قراءة سلسلته الفريدة بعنوان "نحو إتقان الكتابة العلمية باللغة العربية" التي بذل في إعدادها جهودًا أشكُّ أن يَقدِرَ غيرُه على إنجازها، ثمَّ إنَّه قدَّم مساعدةً لا يُستهان بها للأستاذ يوسف الصيداوي في كتابه الذَّائع الصِّيت "الكفاف". ثُمَّ إن د. مكِّي عاشقٌ للُّغةِ العربية، وغَيورٌ عليها، إذ تثورُ أعصابه عندما يقرأ نصًّا يعِجُّ بالأخطاء اللغوية والنحوية. وهو يُقرُّ بأن السبب في هذا أننا نعيشُ في بيئة لغوية فاسدة، لكنَّه لا يقبل بالسلبية تجاهها، وهذا ما دفعه إلى كتابة هذه السلسلة العتيدة، التي لا يعلَمُ إلّا الله والمقرَّبون منه الجهودَ المُضنيةَ التي عاناها في إخراجها. يستند التمكُّن من اللغة إلى ركيزتين: أُولاهما الجِدُّ والاجتهاد، والثانية المَلَكةُ اللغوية والاستعداد الفِطري لاكتسابها. ويمتلك د. مكِّي تَيْنِكَ الركيزتين. لذا نرى أنه فضلًا على تميُّزه في امتلاك ناصية اللغة العربية، فلديه معرفةٌ جيدة جدًّا باللغات الإنكليزية والفرنسية والروسية. أخيرًا أقول: إنه من فضل الله عليَّ أن أحاطنَي بمجموعةٍ، وإن لم تكن واسعةً، من الأصدقاء الذين أعتزُّ بصداقتهم بل وبأخُوَّتهم. مِن هؤلاءِ أخي الدكتور مكِّي الذي عرَفتُه في أواخر الخمسينيَّات من القرن الماضي، ولم يبتعد أحدُنا عن الآخَر منذ ذلك الحين إلا بضعَ سنوات أُعيرَ فيها الأخ مكِّي إلى الجزائر، وأُعِرتُ أنا إلى السعودية. وبعد عودتنا عادت الأمورُ إلى ما كانت عليه. الاتصالُ دائمٌ بيننا الآن، وإنني آخُذُ منه أكثرَ ممَّا يأخذ منِّي. مَنَحَهُ اللهُ الصحَّةَ والعافيةَ وطُولَ العُمُرِ؛ ليستمرَّ في هذا العطاء السخيِّ الذي يُفيد منه زملاؤه من العلماء والأدباء وغيرُهُم، وقبل هذا ليُرضيَ الله ورسوله الذي قال: (طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم)، وأخونا أبو خلدون يواصل أداءَ هذه الفريضة" انتهى. أسأل الله العليَّ القدير أن يُؤجِرَنا في مصيبتنا وأن يصبِّرَنا على رحيلك يا عمِّي الحبيب خضر. رحلتَ في يوم فضيل، في شهر فضيل، في مناسبة فضيلة؛ لذا أرجو الله جلَّ وعَلا أن يجمعَنا بك في مستقرِّ رحمته، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدِر. أترككم مع موجز لسيرته الغنية، وهي مأخوذةٌ من موقع مجمع اللغة العربية بدمشق على الشَّابِكَة، ومن مقالة لموجِّه الرياضيات الأستاذ عبد المجيد الحجِّي، وهي منشورةٌ على صفحته في (فيسبوك)، إضافةً لمعرفتي الشخصيَّة به. وأضع بين أيديكم روابطَ شبَكيَّة؛ لتحميل بعض مؤلَّفات فقيدنا الراحل ومقالاته، فإن الغرضَ من هذه المقالة الترجمةُ للدكتور، والدَّلالة على آثاره العلمية؛ من كتبٍ ومقالات، راجين أن تكون صدقةً جارية له بعد رحيله، ومن العلم النافع الذي يثقُل به ميزانُه. وما ذاك إلا رغبةً في نشر الفائدة، وفي أن تكون مصدرًا علميًّا للأجيال القادمة من بعده، لمتابعة مسيرة العلم والمعرفة. الأستاذ الدكتور خضر حامد الأحمد تاريخ الولادة ومكانها: 1/ 1/ 1932م، في مدينة حيفا بفلسطين. عربي فلسطيني ثم سوري. انتقل مع أخيه إلى دمشق بعد نكبة فلسطين عام 1948م، وأتمَّ دراسته فيها. وهو متزوِّج من السيِّدة الفاضلة نهلة بازرباشي ، ولديه منها: ابنٌ وابنتان (الدكتور حامد، والصيدلانية رفيف، والسيدة رزان) حفظهم الله أجمعين. المؤهِّلات العلمية: • إجازة في العلوم الرياضية والفيزيائية، عام 1954م، من جامعة دمشق. • دبلوم في التربية، عام 1955م، من جامعة دمشق. • دكتوراه في العلوم الرياضياتية (الميكانيك السَّماوي)، عام 1964م، جامعة موسكو الحكومية . • اللغات: الإنكليزية، والروسية، مع الإلمام بالفرنسية. العمل والنشاط العلمي: • مدرِّس، ثم أستاذ مشارك، ثم أستاذ دكتور (بروفيسور) للرياضيات، في جامعتَي دمشق والملك سعود (1965- 1995م) . • أستاذ باحث في جامعة كولورادو سبرينجز وجامعة جنوب كاليفورنيا (1986م). • باحث مشارك في المركز الدَّولي للفيزياء النظرية في تريستا بإيطاليا (1991- 1995م). • خبير ومستشار في مجموعة دعبول الصناعية (1995- 2012م). • شارك في عدَّة مؤتمرات علمية وندَوات وجلَسات عمل في سوريةَ والأردُنِّ والمملكة العربية السعودية وإيطاليا والولايات المتحدة . • عضو هيئة تحرير مجلَّة جامعة دمشق. • عضو لجنة مصطلحات الرياضيات في مجمع اللغة العربية بدمشق. من إنتاجه العلمي : • بحوثُه العلمية في المجالات الآتية: الميكانيك السَّماوي، النظُم الدينامية. • تأليفُه وترجمتُه عدَّة كتب جامعية وكتب علمية عامَّة . • مشاركتُه في تأليف بعض كتب الرياضيات للمرحلة الثانوية في المدارس العربية. • مشاركتُه في ترجمة مقالات (مجلَّة العلوم) التي تصدُر عن مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي. • ترجمتُه الفصولَ الخمسة الأولى من كتاب " المدخل الى التحليل الدالي وتطبيقاته " لمؤلِّفه إيروين كريزيك، الذي يُدرَّس في جامعة دمشق؛ في مقرَّر مادَّة (التحليل التابعي 1و2). وهي من أروع الترجمات، لا تشعر وأنت تقرؤها أن الكتاب مترجَم، وهذا ما أخبرنا به أحدُ تلامذته المبدعين وهو موجِّه مادَّة الرياضيات وعضوُ لجنة تطوير المناهج في وِزارة التربية السورية سابقًا الأستاذ عبد المجيد الحجِّي رحمه الله، الذي وصفَ أستاذَه الدكتور خضر أيضًا بقوله: "أحبَّه كلُّ من درس عنده، وتأثَّروا به وبأسلوبه المميَّز في التدريس". • ترجمتُه كتابَ " مدير الأحلام " ضِمنَ سلسلة "الإستراتيجيات الحديثة للإدارة والأعمال". الكتب المؤلَّفة : • دراسة نظرية ومسائل في الرياضيات المعاصرة: البُنى الجبرية، بالاشتراك مع أ.د. موفق دعبول، وأ.د. عادل سودان، وأ.د. محمد سعيد البرني، مؤسسة الرسالة، بيروت 1971م. • المدخل إلى التحليل الرياضي، جامعة الملك سعود، الرياض 1979م. • أسس الميكانيكا السَّماوية، جامعة الملك سعود، الرياض 1981م. • الأسسُ المعاصرة للهندسة التحليلية، من منشورات جامعة دمشق. • التحليل 3 (التحليل الحقيقي لمتغيِّر واحد)، من منشورات جامعة دمشق. • التحليل 4 (التحليل الحقيقي لعدَّة متغيِّرات)، من منشورات جامعة دمشق 1983 م. • مبادئ الطبولوجيا العامَّة، من منشورات جامعة دمشق 1983م. • الساحة العقدية، بالاشتراك مع أ.د. عادل سودان، و أ.د. موفق دعبول، سلسلة الرياضيات العالية، مؤسسة الرسالة، بيروت 1992م. • الأسسُ المعاصرة للهندسة التحليلية مع مقدِّمة في الهندسة غير الإقليدية، مؤسسة الرسالة، بيروت 2001م. • معجم مصطلحات الرياضيات، بالاشتراك مع أ.د. موفق دعبول، وأ. مروان البوَّاب، وأ.د. محمد بشير قابيل، مجمع اللغة العربية بدمشق، 2018م، وهو مُتاح على موقع المجمع الشَّبَكي. • مسرد معجم مصطلحات الرياضيات (إنكليزي - عربي) ، لجنة مصطلحات الرياضيات في مجمع اللغة العربية بدمشق، 2018م . • مسرد معجم مصطلحات الرياضيات (عربي - إنكليزي)، لجنة مصطلحات الرياضيات في مجمع اللغة العربية بدمشق، 2018م. الكتب المترجمة: • المدخل إلى التحليل الدالي وتطبيقاته، تأليف إيروين كريزيك، جامعة دمشق، 1985م. • الرياضيات المدرسية في التسعينات، تأليف جيفري هوسون، وبراين ويلسون، ترجمه بالاشتراك مع أ.د. موفق دعبول، مراجعة: أ.د. عدنان الحموي، مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي، إدارة التأليف والترجمة والنشر، 1992م. • العدد: من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر، تأليف جون ماكليش، ترجمه بالاشتراك مع أ.د. موفق دعبول، مراجعة: أ.د. عطية عاشور، سلسلة عالم المعرفة، الجزء 251، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، 1999م. • الرياضيات والشكل الأمثل، تأليف ستيفان هيلدبرانت، وأنتوني ترومبا، ترجمه بالاشتراك مع أ.د. عدنان الحموي، مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي، إدارة التأليف والترجمة والنشر، 2000م. • اختلاف المنظر النجمي: السِّباق إلى قياس الكون، تأليف ألان و. هيرشفيلد، مكتبة العبيكان بالرياض، 2003م. • الإستراتيجيات الحديثة للإدارة والأعمال، ملخصَّات كتب وبحوث مختارة، مجموعة في سلسلة من ثلاثة أجزاء، منشورات دائرة البحث والتطوير في شركة مدار ألمنيوم، مجموعة دعبول الصناعية، 2005م، و2008م، و2010م. كتبه: هاني محمد مكي الحسني الجزائري باحث اقتصادي متخصِّص من سورية. إسطنبول الجمعة 28/من ربيع الأول/1445 هـ الموافق لــــ 13/10/2023 م روابط كتب الدكتور خضر الأحمد ومعاجمه (للتحميل من الشَّابِكَة) - رابط كتاب دراسة نظرية ومسائل في الرياضيات المعاصرة - البنى الجبرية 1971م: https://drive.google.com/file/d/1xxRpddg8hpAMXJks3KelaWHpZerADLWB/view?usp=drive_link - رابط كتاب المدخل إلى التحليل الرياضي ، جامعة الملك سعود الرياض 1979م: https://drive.google.com/file/d/1QUJeq_zLSpSagvDoxB0Wj33ir1pOf8_v/view?usp=drive_link - رابط كتاب مبادئ الطبولوجيا العامَّة ، من منشورات جامعة دمشق 1983م: https://drive.google.com/file/d/1D7ysUt1xbPkoqmNuli4HM1lG0dDvtJZt/view?usp=drive_link - رابط كتاب التحليل 4 ، من منشورات جامعة دمشق 1983م: https://drive.google.com/file/d/103B2myQd9KyNCNWpmjUfB_jYgh-uHs7n/view?usp=drive_link - رابط كتاب المدخل إلى التحليل الدالي وتطبيقاته ، جامعة دمشق 1985م: https://drive.google.com/file/d/1jZvlT2Re5_0bHAdOqtNYeFnH-s7cC36c/view?usp=drive_link - رابط كتاب العدد: من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر ، سلسلة عالم المعرفة 1999م: https://drive.google.com/file/d/1IGEoNPGO4mIy9t6r1y-q5xpROTp_tBST/view?usp=drive_link - رابط معجم مصطلحات الرياضيات ، بالاشتراك مع كلٍّ من أ.د. موفق دعبول، وأ.د. بشير قابيل، وأ. مروان البوَّاب، مجمع اللغة العربية بدمشق 2018م: https://drive.google.com/file/d/1jodCQuzQ9l9Ws4T9cdrIEla1jXi8HvsB/view?usp=drive_link - رابط مسرد معجم مصطلحات الرياضيات (إنكليزي - عربي) مجمع اللغة العربية بدمشق 2018م: https://drive.google.com/file/d/1wiIUoaA4to0-rPbmQfsto7H2_gTPbEl7/view?usp=drive_link - رابط مسرد معجم مصطلحات الرياضيات (عربي - إنكليزي) مجمع اللغة العربية بدمشق 2018م: https://drive.google.com/file/d/17OoSa5jQAqaSE5A5j2tIHWyZYLoCNTk3/view?usp=drive_link ♦     ♦     ♦ روابط مقالات الدكتور خضر الأحمد في الموسوعة العربية التابعة لهيئة الموسوعة العربية في سورية - براهي تيخو https://arab-ency.com.sy/ency/details/2065/4 - علم التحريك https://arab-ency.com.sy/ency/details/1183/6 - أورانوس https://arab-ency.com.sy/ency/details/599/4 - الرياضيات المعاصرة https://arab-ency.com.sy/ency/details/4950/10 - زحل https://arab-ency.com.sy/ency/details/5039/10 - البتاني https://arab-ency.com.sy/ency/details/1524/4 - الثقب الأسود https://arab-ency.com.sy/ency/details/1927/7 - الشمس https://arab-ency.com.sy/ency/details/5273/11 - الإحداثيات الفلكية https://arab-ency.com.sy/ency/details/229/1 - علم التنجيم https://arab-ency.com.sy/ency/details/1817/6 - التكامل https://arab-ency.com.sy/ency/details/830/6 - الزهرة https://arab-ency.com.sy/ency/details/5047/10 - البطروجي https://arab-ency.com.sy/ency/details/1497/5 - دائرة البروج https://arab-ency.com.sy/ency/details/832/5 - الطبولوجيا https://arab-ency.com.sy/ency/details/9282/12 - علم التحرك https://arab-ency.com.sy/ency/details/1178/6 - الأعداد الطبيعية https://arab-ency.com.sy/ency/details/224/2 - تطور الرياضيات https://arab-ency.com.sy/ency/details/4949/10 - الدالة (التابع) https://arab-ency.com.sy/ency/details/4803/9 - السماء https://arab-ency.com.sy/ency/details/5109/11 - البيروني https://arab-ency.com.sy/ency/details/1544/5 - بلوتو https://arab-ency.com.sy/ency/details/897/5 - الميكانيك السَّماوي https://arab-ency.com.sy/ency/details/10051/20 الدكتور خضر الأحمد رحمه الله [1] انظر كتاب " البارق السَّني من حياة مكي الحسَني " إعداد خلدون بن مكِّي الحسَني، دار البيِّنة للطباعة والنشر/ 2009، صفحة 131-135.
سَير المعركة أحد لما تكاملت الصفوف من الطرفين، أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتالكم، فردوا عليه بما يكره، وخرج طلحة بن عثمان حامل لواء المشركين، وقال: يا أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب وضرب ساقيه؛ لأنه كان يلبَس درعًا تغطي أعلاه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله والرحم، فتركه ولم يجهز عليه، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لعلي: ((ما منعك أن تجهز عليه؟))، قال: ناشدني الله والرحمَ فاستحييت منه، وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف، فقال: ((مَن يأخذه بحقه؟))، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، ثم قام أبو دجانة فقال: وما حقه؟ قال: ((أن تضرب به العدو حتى تثخن))، وفي رواية: ((حتى ينثني))، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة شجاعًا، وكان إذا قاتل أعلم بعصابة حمراء، فعصب رأسه ومشى بين الصفين يتبختر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها مِشية يُبغضها الله إلا في هذا الموطن))، فجعل يقاتل ويجندل الرجال، حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف وينشدن تشجيعًا للمشركين: نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق ورأى امرأة تحرض حملة الراية: إيهًا بني عبدالدار إيهًا حماة الديار ضربًا بكل بتار فرفع أبو دجانة السيف ليضربها، ثم كف إكرامًا لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل به امرأة، وكانت المرأة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، فالمشركون يقاتلون أخذًا بالثأر وهم موتورون قد صمموا على النصر، والمسلمون يقاتلون بعزيمة وثبات وفي مخيلتهم أن يجددوا نصرهم في بدر، وبرز من مقاتلي المسلمين حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وأبو دجانة والزبير، فألحق المسلمون في الجولة الأولى هزيمة منكرة بالمشركين، وقتلوا حامل اللواء، فسقط على الأرض تدوسه الأقدام، وأقبلت عمرة بنت علقمة فحملته، واجتمع المشركون حوله، وحمله صؤاب، فقتله عليٌّ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى تجمعًا للمشركين أشار إلى علي فيحمل عليهم ويفرق جمعهم، ودخل المسلمون معسكر قريش، وانكشف الكفار عنه، فأقبل المسلمون يريدون نهبه، فلما نظر الرماةُ إلى المعسكر حين انكشف وظنوا أنها هزيمة المشركين وأن النصر للمسلمين، خافوا أن تفوتهم الغنيمة، فتركوا موقعهم على الجبل، واتجهوا للغنائم، لكن عبدالله بن جبير قائد الرماة ذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يفارقوا الجبل، فأطاع قسم، وعصى القسم الأكبر، وحانت التفاتة من قائد فرسان المشركين خالد بن الوليد، فهاجم الرماة - وقد فعل من قبل مرارًا فصدوه - وقتل من صمد منهم، ثم هاجم المسلمين من الخلف؛ لأنهم انكشفوا للعدو، واختلط الحابل بالنابل، ودارت الدائرة على المسلمين، وكان وحشيٌّ قد ترصد في هذه الفوضى لحمزة الذي كان يفلق الهامات بسيفه، قال وحشي: والله إني لأنظر إلى حمزة يهذ الناس بسيفه هذًّا، ما يلقى شيئًا يمر به إلا قتله، وقتل سباع بن عبدالعزى، قال: فجلست له خلف صخرة، حتى إذا أصبح في مرماي هززت حربتي وقذفتها نحوه، فجاءت في ثنَّتِه - أسفل بطنه - حتى خرجت بين رجليه، وحاول حمزة السير تجاه وحشي ليقتله، لكنه لم يتمالك أن سقط، وعادت هند بنت عتبة لما علمت بمقتله إلى حمزة، وفي غفلة من الناس مثلت به، وكان ممن قاتل حنظلة بن أبي عامر، فقد استطاع أن يوقع أبا سفيان وأن يعلو صدره وقبل أن يجهز عليه، استنجد أبو سفيان بابن شعوب فضرب حنظلة فقتله، وكان حنظلة حديث عُرس، فلما سمع النداء للجهاد خرج مسرعًا ولم يغتسل من جنابته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لتغسله الملائكة))، فلُقِّب بالغسيل. وأما هند وصواحباتها من نسوة قريش فقد جدعن الأنوف، وقطعن الآذان، وجعلن منها قلائد وأقراطًا، ومثَّلن بالقتلى، ولما رأى المسلمون ما حل بقتلاهم، وخصوصًا بحمزة، نذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمثل بقتلى المشركين، لكنه تراجع عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 126 - 128].
المعرفة في الإسلام (1) الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأُثني عليه الخير كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه، مِلْءَ ما خلق، وعدد ما خلق، وملء ما أحصى كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدِّخرها وأستودعه إياها ليوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد: فلقد كانت مشكلة البحث عن المعرفة وأدواتها ومصادرها، وما زالت من أهم المشكلات التي تداولها الفلاسفة منذ أقدم العصور حتى الآن، فاختلفت الطريقة التي تناول بها القدامى من الفلاسفة هذه المشكلةَ - حيث اهتموا بالوجود، ونظروا إلى المعرفة من خلاله - عن تلك التي أرادها فلاسفة العصر الحاضر، الذين عكسوا ما كان عليه القدامى، فاهتموا بالمعرفة، ونظَّروا من خلالها للوجود، فاختزلوا ا لكون في الكون المشهود، وأنكروا الكون المغيب، واختزلوا عالم الإنسان في عالم الشهادة، وأنكروا الحياة الآخرة، بل حتى عالم الشهادة اختزلوه في العلم بالمحسوسات المادية، متجاهلين حيِّز التجربة العقلية، فاختزلوا مصادر المعرفة الصحيحة في الظواهر المادية فقط دون غيرها، وذلك خلافًا للمنهج الإسلامي الذي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده، إنه لا يهمله ولا يغُضُّ من شأنه، ولا من شأن ثمراته المعرفية - فهو أحد إبداعات الحضارة الإسلامية، فيها تَبَلْوَرَ وأعطى ثمراته، قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغرب - ولكنه لا يقول بانفراده كسبيل للمعرفة، ولا يرى أنه سبيل للمعرفة القطعية المطلقة. لقد أقرَّ الإسلام بوجود الحقيقة الموضوعية؛ حيث قرر أن للأشياء وجودًا عينيًّا مستقلًّا عما في الذهن، أدركه الإنسان أم عجز عن إدراكه؛ ومن ثَمَّ فإدراك الإنسان للأشياء لا يقتضي وجودها، وعدمه لا يقتضي عدمها، وقسَّم الإسلام الأشياء إلى نوعين: 1- موجودات عالم الطبيعة (الكون المادي أو المحسوس)، التي يسميها القرآن عالم الشهادة؛ وهي ما يحيط بالإنسان في عالم الطبيعة من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، ويدركها بحواسِّه. 2- موجودات عالم ما وراء الطبيعة (الكون الغيبي أو غير المحسوس)، والقرآن يسميها عالم الغيب؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، ص: 67] ، وهو داخل فيما يسمى بالفلسفة الميتافيزيقية ، فهو عالم لا يدخل في حدود الكون المادي، الذي يمكن أن ندرك مكوناته بالحواس، ومن هذا العالم: الروح، والملائكة، والجن، واللوح المحفوظ، والجنة، والنار، والعرش... ونحوها، ولها وجودها الثابت في الخارج. وقد بيَّن القرآن استقلال وجود هذه الأشياء عن الإنسان؛ فالسماوات، والأرض، والملائكة، وغيرها كثير، كان كل ذلك موجودًا قبل مجيء الإنسان وظهوره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] ، وهذا الخليفة هو الإنسان؛ حيث كانت الأرض والملائكة، وغير ذلك موجودة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31] . فقد علَّم الله سبحانه آدم عليه السلام أشياءَ كانت موجودة، أو ستوجد، علَّمه أسماءها، أو عرَّفه على ذواتها؛ [جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، ص: 482 – 485، وتفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج1، ص 222، 223] على خلاف المفسرين، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة، مما يدل على وجود خارجي مستقل لهذه الذوات. ومنهج الإسلام فيها أن بإمكان الإنسان معرفة كثير من الأشياء والموجودات، إذا ما سلك السبل المؤدية إلى المعرفة، وعلى هذه المعرفة يكون تعامله الصحيح معها، واستفادته منها، وقد جاءت آيات كريمة كثيرة تحث الإنسان على التفكر والتدبر، والنظر من أجل معرفة الأشياء المبثوثة في الكون من حوله، حتى يستفيد منها في حياته المادية، ويستشعر عظمة خالقها ومدبرها ومجريها على سننها الثابتة. وهذا الإمكان للمعرفة شامل للموجودات بنوعيها؛ من عالم الشهادة والغيب، فليست خاصة بالموجودات المادية المحسوسة، بل يدخل في ذلك – أيضًا - موجودات العالم الغيبي؛ إذ إن الله عز وجل أمرنا بأن نؤمن بغيبيات معينة، والإيمان لا يكون إلا من خلال معرفة ما يؤمن به الإنسان. ومن ثَمَّ كانت دائرة البحث في طبيعة المعرفة والعلم في الإسلام أوسع مدى؛ إذ إنه لم يجعل للمعرفة طريقًا واحدًا – كما تفعل كثير من الفلسفات - فهو يفرق بين أنواع مختلفة من المعارف تختلف وسائل تحصيلها؛ فيمكن التفريق بوضوح بين عدد من وسائل المعرفة، كلٌّ يختص بإدراك أنواع مختلفة من المعارف، فمنهج المعرفة فيما يتعلق بعالم الشهادة الانطلاقُ من الإدراكات الحسية للوصول - عن طريق العقل - إلى المعرفة التعميمية التنبُّؤية التي ينتفع بها الإنسان في تطبيقاته العملية في مجال المادة والحياة، ومنهجها فيما يتعلق بعالم الغيب الانطلاق أيضًا من الإدراكات الحسية ليتجاوز عن طريق المبادئ الفطرية في العقل الإطارَ المادي المحدود، إلى العالم الغيبي؛ حيث يتمكن من المعرفة العلمية بالقضايا الكبرى في هذا الميدان؛ كوجود الذات الإلهية، والربوبية، والألوهية، وبعض الصفات، والنبوة، ثم يأخذ منهج المعرفة في هذا الميدان طريقًا آخر هو طريق الإيمان بهذا العالم وموجوداته بعد تلقِّيه من الوحي، عن طريق النبوة التي عرفها معرفة علمية من الطريق السابق؛ أي: إن قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليست خارجة عن إمكان تصور العقل الإنساني، بل إن وظيفة العقل التي يمكنه القيام بها على أتم وجه هي إثبات صحة الوحي، وصدقه كمصدر صحيح لبعض أنواع المعرفة، فإذا أخبر الوحي الصادق بعد ذلك بقضية من قضايا الغيب، أمكن للعقل أن يتصورها، لكنه لا يمكنه البرهنة عليها مباشرة، إلا عن طريق إثبات أن الخبر بها صادق، ولو لم يكن الأمر كذلك، لَما جاء التكليف بالإيمان بها، فإن الله لا يكلف الناس بما هو خارج عن نطاق إدراكهم وتصورهم، وليس في شيء من قضايا الغيب التي جاء بها الوحي ليؤمن بها المؤمنون - ما هو خارج عن قدرة العقل على إدراكه وتصوره، ولكن الواقع أن مسائل الغيب هذه ليست من القضايا التي يمكن إثباتها عن طريق العقل مستقلًّا عن الوحي؛ لكونها خارجة عن نطاق مادته الأولية وهي المحسوسات، فإن العقل إنما يستدل على قضاياه عن طريق إعمال قوانينه على المحسوسات، ومسائل الغيب ليست محسوسة، فهي خارجة عن نطاق عمله لهذا السبب، ولكنها ليست بخارجة عن قدرته التصورية، ولو كان الغيب يمكن أن يأتي بما يحيله العقل لَما صلح لقيام حجة الله على عباده، فإن حجة الله إنما تقوم على العباد بما يقع في نطاق استدلال عقولهم. وجميع هذه الوسائل يمكن ردُّها إلى الله تعالى؛ فهو الذي خلق وركَّب فيها إمكانيات الوصول إلى المعرفة أو هداه إليها، وطلب أن يستخدمها في النفع العام؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78] . فتميزت المعرفة الإسلامية من بين نظائرها باعتمادها على أمهات الأصول المعرفية، وانتهاجها أقوى الطرق اليقينية، وبهذا تتكامل المعرفة اليقينية في النظر الشرعي، وقد جمع القرآن بين طرق المعرفة الثلاثة؛ الحواس، والعقل، والوحي، كما جمع بين مجالات المعرفة؛ الغيب والشهادة، في آية واحدة؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 109] . ومن ثَمَّ يتبين بوضوح تفوُّق المنهج الإسلامي على المذاهب الفلسفية التي تميَّزت بطابع النظرة أحادية الجانب، التي تركز على بُعْدٍ واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: قد ظهر كيف يضخِّم المذهب المثالي من جانب الروح على جانب الجسد بكل ثقله، مستهينًا بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلًا الإنسان عما تموج به الحياة، مخرجًا إياه من فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وهذا في مقابل المذهب الطبيعي الذي يفعل العكس تمامًا؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكان مرموقًا فيه لقُوى العقل، وضوابط الأخلاق، والثغرات نفسها تشكو منها الفلسفة البراجماتية؛ إذ إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها المتلاطمة، دون تحديد لقواعد ثابتة، يتم الرجوع إليها، وللكمال الذي يأوي إليه، وهذا على خلاف التصور الإسلامي للموقف المعرفي الذي يلتقي جزئيًّا مع بعض المذاهب السابقة في تفسيرها للموقف المعرفي، وقد يختلف أيضًا معها أو مع بعضها، وهذا أمر طبيعي؛ فإن حديث الإنسان عن الموقف المعرفي – مهما علا شأنه - لا بد أن يحمل معه طابع هذا الإنسان، ولون ثقافته، ومذهبه الفكري، كما يعبر عن وجهة نظره التي تأثر بها وانحاز إليها، وهذا الخلاف يفسر تعدد وجهات النظر الفلسفية حول الموقف المعرفي بكامله، ومن ثَمَّ يفسر الفوارق الأساسية بين الحضارات الإنسانية من عصر إلى عصر، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى. فالحضارات الإنسانية تستمد أصولها وأهدافها ومقاصدها في الموقف المعرفي، من وجهة نظر الإنسان التي تحمل معها طابعه ولون ثقافته، وعوامل بيئته الزمانية والمكانية، أما الحضارة الإسلامية، فإنها تستمد أصولها وغايتها ومقاصدها المعرفية من الوحي المنزَّه عن التأثُّر بوجهات النظر الإنسانية، المتعالي على عوامل الزمان والمكان، ومن ثَمَّ فإن وظيفة الإنسان في الموقف المعرفي ليست مرتبطة بتحقيق غايته وأهدافه الشخصية، بقدر ما هي مرتبطة بتحقيق أهداف الوحي ومقاصده. إن أهداف الإنسان ومقاصده من المعرفة عُرْضَةٌ للاقتصار على تحقيق مطالبه، ومقاصده، وأهوائه، حتى لو كان ذلك على رقاب الآخرين ومقاصدهم، أما أهداف الوحي ومقاصده فهي تحقيق الخير لكل بني الإنسان، وتوظيف المعرفة لصالح البشرية أجمعها، مؤمنين كانوا أو كافرين، بخلاف المذاهب الفلسفية الأخرى، فإن مقاصدها خاصة، وغاياتها قاصرة على أتباعها فقط؛ [الوحي والإنسان، قراءة معرفية، محمد السيد الجليند، ص: 140، 141]؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23] . ففي تصور الإسلام لقضية المعرفة ومقاصدها، نجد الإنسان مؤتمنًا على هذا الكون، مكلفًا بعمارته، مطالبًا باكتشاف قوانينه، كما هو مكلَّف بتوظيف العلم والمعرفة حسب هَدْي الوحي، وليس وفقًا لأهواء العلماء ومقاصدهم، يوظِّف الكون لتحقيق خير الإنسان عامة، وليس لتحقيق أهداف شخصية قاصرة؛ ولهذا نجد أن التصور الإسلامي تجاوز ذلك التخبُّط الرهيب الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، فهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ إذ إن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري، وانعدام التوازن فيه. إن الإسلام بنظرته الشاملة للكون والإنسان والمجتمع، تميَّز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح، ومجال ما وراء الطبيعة الذي لا قِبَلَ للإنسان بمعرفته، إلا عن طريق الوحي الإلهي؛ أي عن طريق الدين الصحيح؛ ولهذا نجد أن الفلسفة والفلاسفة الذين اعتمدوا في عالم ما وراء الطبيعة على مصادرَ أخرى غير الوحي، لم يستطيعوا تحقيق أي شيء، على الرغم من التراث الفلسفي الكبير الذي قدموه – من الناحية الكمية - ومع ذلك لم يستطيعوا حتى هذا اليوم الوصول إلى الحقيقة الطبيعية بما يسُدُّ الفطرة، ويروي ظمأها، ومن ثَمَّ، عجزت الفلسفة عن الإنتاج المطلوب في هذا الميدان، فاعتبرت البحث في عالم ما وراء الطبيعة لغوًا لا فائدة من ورائه، ولا معرفة فيه. وفضلًا عن هذا، فإن تاريخ الفلسفة قد أثبت أن الفلاسفة لم يتفقوا على شيء من تلك المسائل، كما هو الحاصل بالنسبة للعلم الطبيعي؛ [مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، الزنيدي، مصدر سابق، ص: 196 – 198]، بخلاف الوحي الذي تطرق لجميع موضوعات عالم ما وراء الطبيعة، موضحًا ما يحتاجه الإنسان بشأنها، بيانًا لواقعها أو غايتها، أو علاقة الإنسان بها، وتُمثِّل هذه المباحث جزءًا كبيرًا من الوحي، وتحتل مركز الثقل فيه، بصفتها القاعدة التي تقوم عليها حياة المسلم كلها، فما من مسألة من المسائل الكلامية والفلسفية التي خاض فيها الخائضون في العصور التالية، إلا وكانت أُوضِحَت في القرآن، فقد أمدَّ المسلمين بتقريرات وبيانات عن الذات الإلهية، وصفاتها، ومسائل التوحيد، والنبوات، واليوم الآخر، والإنسان بدء خلقه ومصيره، موقفه من الكون... وعدة حقائق من عالم الغيب؛ كالملائكة والجن؛ [قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي، ص: 41]، وقد راعى الوحي في ذلك الطبيعة البشرية المتلقية لهذه المسائل؛ من حيث قدرتها على إدراكها وفهمها، ومن حيث حاجتها في أمور دينها ودنياها. وختامًا، فإن ما يتطلع إليه البشر من الصيغة الْمُثلى للمعرفة، من حيث ارتكازها على الحقائق اليقينية، وما لا يعتريه أي نقص أو قصور في المصدر، لا يمكن أن يتحقق إلا بالمنهج الإلهي الذي جاء بالحكم الفصل في كل قضايا الإنسان والوجود؛ ليقود حركة الحياة بدقةٍ وضبطٍ ونظامٍ؛ وعلى هذا فإن المعرفة التي تفتقدها الإنسانية بحقٍّ هي تلك التي تُستمَدُّ من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي هذه المعرفة وحدها – مضمونًا ومصدرًا ومنهجًا - الأجوبة الشافية الوافية لأسئلةٍ كثيرةٍ، حار الإنسان فيها زمنًا طويلًا، وفيها وحدها كذلك الحلول الحاسمة لكل ما يعترض الفكر البشري من مشكلات في تفسير الوجود والحياة والإنسان؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53] . يتبع بإذن الله...
من سير أعلام مسند الإمام [14] (الصحابي الذي كان يسبق الفَرَس عَدْوًا) كان أشهر الرُّماة في الإسلام وعداء للفَرَس، وكان من أصحاب بيعة الرضوان ثلاث مرات، إنه الصحابي الجليل سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]. بايع رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول سلمة كما في الصحيحين: ".. فبايعته صلى الله عليه وسلم أول الناس، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس قال صلى الله عليه وسلم: «بايِع يا سلمة»، قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس! قال صلى الله عليه وسلم: «وأيضًا»، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تبايعني يا سلمة؟!»، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس! وفي أوسط الناس! قال صلى الله عليه وسلم: «وأيضًا»، قال: فبايعته الثالثة". وقد سُئِل رضي الله عنه عن تلك البيعة: على أي شيء كنتم تبايعون يومئذٍ؟ فقال رضي الله عنه: على الموت. ومن مناقبه العديدة رضي الله عنه، أنه كان من أمْهَر الرُّماة، كما تقدم، فهو رامٍ لا يُخطئ، وعدَّاء لا يسبق، ومقدام لا يَهاب؛ ولذلك كان هو صاحب غزوة (ذي قَرَد)، فقد قام بها بمفرده ليستنقذ سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم من سارقيه حتى استردَّه كله، وذاق اللصوص منه مر المذاق، حتى لحقه الصحابة، وكرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤوس الأشهاد. والقصة كما في مسند الإمام أحمد رحمه الله: قال رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع غلامه رباح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبدالرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت‏:‏ يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلِغْه أبا طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكمة، واستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا‏:‏ يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنَّبْل وأرتجز، أقول‏:‏ ‏ خُذْها‏ أنا ابنُ الأكْوَع واليومُ يومُ الرُّضَّع فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إليَّ فارس جلست في أصل الشجر، ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلَّفْتُه وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم أتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا يستخفون، ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏،‏ حتى أتوا متضايقًا من ثنية فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قرن، فصعد إليَّ منهم أربعة في الجبل، قلت‏:‏ هل تعرفونني‏؟‏ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا‏،‏ فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر...) (كان يرعى فرس أبي طلحة بقوت يومه بعدما هاجر من مكة إلى المدينة وقد ترك أموالًا.. وخلف وراءه كل ما يملك). ومن مناقبه رضي الله عنه أيضًا، كان بعد أن اصطلح المسلمون مع المشركين في صلح الحديبية يقول رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: "فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحتُ شوكَها، فاضطجعتُ في أصلِها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ، فأبغضتُهم، فتحوَّلتُ إلى شجرةٍ أُخرى، وعلَّقوا سلاحَهم. واضطجَعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مُنادٍ من أسفلِ الوادي: يا لَلمهاجرين! قُتِلَ ابنُ زُنَيمٍ، قال: "فاخترطتُ سَيفي ثم شددتُ على أولئِك الأربعةِ وهم رقودٌ، فأخذتُ سلاحَهم فجعلتُه ضِغثًا في يدي، قال: ثم قلتُ: والذي كرَّم وجهَ محمدٍ! لا يرفعُ أحدٌ منكم رأسَه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه"، قال: "ثم جئتُ بهم أسوقُهم إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: وجاء عمِّي عامرٌ برجل من العبلاتِ يقالُ له مكرزٍ، يقودُه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على فرسٍ مُجفَّفٍ في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «دَعوهم يكن لهم بدءُ الفجورِ وثناه»، فعفا عنهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنزل اللهُ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفتح: 24]. وقد روى البخاري من حديث يزيد بن أبي عبيدة رضي الله عنه، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما. وروى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير رجالنا سلمة بن الأكوع". توفي سنة أربع وسبعين، وكان من أبناء التسعين، وحديثه من عوالي صحيح البخاري رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا معهم في الفردوس الأعلى من الجنة، آمين. المصادر: • سير أعلام النبلاء للذهبي. • مسند الإمام أحمد بن حنبل. • شرح النووي على صحيح مسلم. • زاد المعاد لابن القيم. • الإصابة في تمييز الصحابة.
مختصر نهاية الأمل في علم الجدل لابن المعمار الحنبلي البغدادي صدر حديثًا كتاب "مختصر نهاية الأمَل في علم الجَدَل"، تصنيف العلامة المتبحِّر: "كمال الدين ابن المِعْمار الحنبلي البغدادي" (ت 642 هـ)، تحقيق: د. "عبد الواحد جهداني"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". وهذا الكتاب ينشر لأول مرة عن نسخة خطية فريدة مقروءة على المؤلف، قام بتحقيقها وخدمتها خدمة علمية لائقة الدكتور "عبد الواحد جَهْداني"، وبين المحقق أن هذا السفر اختصره "ابن المعمار البغدادي" من كتابه الكبير "نهاية الأمل في علم الجدل"، وهو غير كتاب الإمام الآمدي الذي بالاسم نفسه. وعلم الجدل هو معرفة القواعد من الحدود والآداب، في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي من الفقه وغيره. وَقيل: قانون يُفِيد عرفان الْقدر الْكَافِي من الهيئات، وأقسام الاعتراضات، والجوابات الموجهات مِنْهَا وَغير الموجهات. وهو من فروع علم النظر، ومبنى لعلم الخلاف، الذي هو أحد أجزاء مباحث المنطق، لكنه خص بالعلوم الدينية. ومبادئه: بعضها مبينة في علم النظر، وبعضها خطابية، وبعضها أمور عادية، وله استمداد من علم المناظرة المشهور بآداب البحث، وموضوعه تلك الطرق. والغرض منه: تحصيل ملكة النقض والإبرام. وفائدته: كثيرة في الأحكام العلمية، والعملية من جهة الإلزام على المخالفين. لذا يعد هذا العلم من العلوم المساعدة التي تفيد الباحث في علم الفقه، لذا كثرت المؤلفات فيه، ومنه هذا المصنف، الذي وضعه صاحبه في مقدمة وخمسة فصول: المقدمة تشتمل على قسمين: الأول في حقيقة الجدل والمناظرة، وفائدة علم الجدل، وأقسامه، وأحكامه، والقسم الثاني في أركان المناظرة ولوازمها والألفاظ المستعملة فيها. والفصل الأول: في انحصار الأدلة وما يستدل به على ذلك وما يجاب عنه. الفصل الثاني: في سؤال فساد الوضع وجوابه. الفصل الثالث: في سؤال فساد الاعتبار وجوابه. الفصل الرابع: في الحث والسبر وجوابه. الفصل الخامس : في أنواع الاستدلالات من الأدلة، وهي عشرون نوعًا. والمؤلف هو أبي عبد الله محمد بن أبي المكارم، المعروف بابن المعمار البغدادي الحنبلي (المتوفى سنة 642هـ)، فاضل حنبلي، من أهل بغداد. له كتاب (الفتوّة والمروّة) جاء اسمه عليه (محمد بن أبي المكارم)، وذكره المؤرخ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري في كتابه "التكملة لوفيات النقلة" ضمن وفيات سنة 642 هجرية حيث قال: "وفي ليلة الخامس من جمادى الأولى توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن عبدالواحد البغدادي ابن المعمار ببغداد، وسمع من أبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن يوسف، وحدث.." أي أنه معدود ضمن نقلة الحديث النبوي، ومن جملة المحدثين، وليس لدينا كثير معلومات عنه. وقد قدم المحقق للكتاب بمقدمة عن مؤلفه، وموضوعه، ونسبة الكتاب لصاحبه، وقام بتحقيق المخطوط الفريد وخدمته خدمة علمية مزودًا إياه بالفهارس اللازمة. والمحقق د. "عبد الواحد جداني" أستاذ بمركز سوس للحضارة والتنمية، جامعة ابن زهر/ أكادير، له العديد من التحقيقات والمؤلفات؛ منها: • "الإمام أبو الحسن الأشعري (260 هـ - 324 هـ) ومؤلفاته". • "غاية الأمل في علم الجدل" لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي محمد الآمدي (551-631هـ), قدم له وحققه الدكتور عبد الوحد جهداني. • "كتاب الأمر والنهي على معنى الإمام الشافعي من مسائل المزني"، رواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عن المزني, حققه وقدم له عبد الواحد جهداني. • كتاب "مسائل الخلاف في أصول الفقه"- الحسين بن علي الصيمري (436هـ), تمهيد ودراسة وتحقيق عبد الواحد جهداني. • "العلامة محيي الدين الكافيجي (788-879 هـ): حياته ومصنفاته" مع تحقيق ثلاث رسائل له: الظفر والخلاص؛ الإشراف على مراتب الطباق؛ الرمز في علم الاستبدال. • كتاب "الاحتياطات"، تأليف: أبي عبد الله محمد بن علي، الحكيم الترمذي، تحقيق عبد الواحد جهداني. • "الكلام على وصول القراءة للميت"، شمس الدين أبي عبدالله محمد عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي، تحقيق عبد الواحد جهداني. • "كتاب الجدل"، شمس الدين أبي عبدالله محمد عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي، تحقيق عبد الواحد جهداني. • "تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان"، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي الشافعي، تقديم وتحقيق عبد الواحد جهداني.
الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب أسهم الاستشراق في تحديد العلاقة بين الإسلام والغرب، ولم يكن هذا الإسهام في عمومه إيجابيًّا، وبالتالي يمكن القول: إن الاستشراق في بعض وجوهه كان له أثر واضح في هذه الفجوة بين الشرق والغرب، في الوقت الذي كان يتوقع فيه أن يكون هذا الاستشراق لبنات في تجسير الفجوة، إذا ما تيسر للاستشراق بعمقه البحثي أن يتفهم الإسلام تفهمًا إيجابيًّا، فيقدم الاستشراق صورةً حسنةً للغرب عن الشرق، وفي المقابل يمكن أن يقدم الاستشراق نفسه للشرق صورةً حسنةً عن الغرب، فيما يمكن أن يعد الانطلاقة لمفهوم الاستغراب [1] . ربما يكون الاستشراق الإسباني أقرب الاستشراقات إلى تجسير الفجوة أو ردم الهوة بين الغرب والشرق الإسلامي؛ نظرًا لخصوصية هذا الاستشراق في علاقته التاريخيَّة والثقافية بالإسلام، أثناء الوجود الإسلامي في الأندلس وبعده [2] ؛ ذلك أن الاستشراق الإسباني قد اختلف عن البقية بتركيزه على البحث في الثقافة العربية والإسلامية في الأندلس؛ أي: إن اهتمام المستشرقين الإسبان بالإسلام جاء ضمن اهتمامهم بالأندلس، ولذلك فضَّل المستشرقون الإسبان أن يُدعوا بالمستعربين أو المتأندلسيين؛ "ليعلنوا بذلك عن بعض علامات هويتهم العلمية المميزة لهم عن بقية زملائهم من الغربيين، تلكم العلامات التي تتجسد عندهم في خصوصية علاقتهم بالإسلام والعرب والعروبة، فمن المعلوم أنهم قد تميزوا بالفعل في هذا المضمار عن هؤلاء من وجوه عديدة" [3] . يأتي الاستشراق الألماني في المرتبة الثانية، إذا كان لا بد من الترتيب في الموقف من الإسلام في بعده السياسي؛ ذلك أن المستشرقين الألمان لم يخدموا الاستعمار بالصورة التي خدمها فيه الاستشراق الفرنسي أو الإنجليزي أو الإيطالي، وحتى الاستشراق الهولندي، وهذه ترتيبات تتركز في جانب واحد، وهو الاستشراق السياسي، وهو جزء من كل لا يُعفي هذه الاستشراقات من نظرتها السلبية للإسلام في منطلقها، وإن كان هناك انفراج في النظرة؛ نظرًا لتطور التراكم المعرفي الغربي عن الإسلام. إلا أن الباحث القدير رضوان السيد لا يبرئ الاستشراق الألماني من النزعة الاستعمارية، رغم أن المستشرقين الألمان لم يُظهروا انسجامًا مع قادة الحرب الألمان [4] ، ويبيِّن ذلك بعدد من الحوادث قبل الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) وبعدها، لا سيما مع محاولات ألمانيا استعمار بعض الأراضي الإفريقية، و"ما كان الاستشراق الألماني أو غير الألماني قناةً رئيسية في التعريف بالعرب والإسلام، أو التواصل بين الغرب والشرق" [5] . يقول مكسيم رودنسون: " إن دراسة اللاهوت الإسلامي بروح المودة والتعاطُف، ولكن مع أخذ المسافة النقدية - لا تزال متواصلة في أوروبا من قبل علماء ينتمون إلى مختلف الاتجاهات الروحية، بمن فيهم العلماء المسيحيون الذين يطبقون العقلانية التومائية"، وهذه "الموجة السائدة حاليًّا في أوروبا، والتي تشمل قطاعًا واسعًا ومهمًّا من الرأي العام، تمثل التيار المضاد للاستعمار وللعرقية المركزية" [6] ، على أن هناك جملةً من الدراسات لا تزال تترى، جعلت من الجهوية موضوعًا لها، إلا أن المقصود بالجهوية هنا ثقافة هذه الجهات الغالبة على أهلها، وليس بالضرورة الجهة الجغرافية، فعندما يطلق مصطلح الغرب فإنه يقصد فيه الثقافة الغربية، التي اختلط فيها الديني بالعلماني، وأضحى التفريق بينهما نظريًّا أكثر من كونه تطبيقيًّا؛ إذ لم يتخل الغرب عن الدين، ولم يتبرَّأ منه، ولا يتوقع منه ذلك، فالإنجيل لا يزال يُقرأ في قلاع العلمانية، وبرتابة. الغرب اليوم في موقفه من الإسلام ليس غربًا واحدًا، ثقافيًّا هناك ثلاثة غروب؛ الغرب الأدنى، والغرب الأوسط، والغرب الأقصى، والغرب الأقصى قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001م (22 / 6 / 1422هـ) غير الغرب الأقصى بعد ذلك، فالموقف الغربي الأوسط أفضل بمراحل من الغرب الأقصى، ففي الغرب الأقصى "ازدادت المواقف المتشددة تعنتًا، وتعاظمت سطوة التعميمات المهيمنة، والإكليشيهات المزهوة بالانتصار"؛ كما يقول إدوارد سعيد [7] . عندما يطلق مفهوم الشرق فإنه يقصد فيه بالمقابل ثقافات شرقية من آخر اليابان شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ولذا جرى توزيع الشرق إلى ثلاثة "شروق"؛ الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، ويشترك الشرق الأدنى في غالبه والشرق الأوسط في تبني الثقافة الإسلامية، حتى من قبل الأقليات التي بقيت على دينها، تمثلت الثقافة الإسلامية في آدابها وسلوكيتها. من هنا أضحى الحديث عن الدين الإسلامي والثقافة الغربية حديثًا حيويًّا، لا سيما مع تطور الأحداث التي أضحى للغرب أثر واضح فيها في المنطقة الإسلامية، فعمدت إلى إدراج هذا الموضوع في هذه المقدمة، وإن كان الحديث عن الشرق والغرب أو الإسلام والغرب، قد لا يرقى علميًّا إلى مستوى الاستشراق والإسلام؛ إذ يغلب على الأول البعد الإعلامي الذي ينحو نحو التسطيح والافتقار إلى التوثيق الدقيق، وكأن هذا الموضوع بدأ يحل محل الاستشراق في دراسته للإسلام في تحول ما يسمى فيما بعد الاستشراق [8] . [1] دعا حسن حنفي إلى العناية بالاستغراب، وجعله علمًا، ويعدُّ سبَّاقًا بهذه الدعوة، إلا أن سميح فرسوني يطالب بأبوَّة هذه الدعوة قبل غيره؛ انظر: جورج طرابيشي. ازدواجية العقل: دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي، دمشق: دار بترا، 2005م، ص 116، (سلسلة المرض بالغرب؛ 2). [2] انظر: مُحمَّد عبدالواحد العسري: الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلى أسين بلائيوس، الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامَّة، 1424هـ / 2003م، ص 368 - 369. [3] انظر: مُحمَّد عبدالواحد العسري، الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني، المرجع السابق، ص 65 - 66. [4] انظر: رضوان السيِّد: المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2007، ص 35 - 36. [5] انظر: رضوان السيِّد: تأثيرات المستشرقين الألمان في البحوث الأكاديمية العربية، التسامُح، ع 8 (خريف 1425هـ / 2004م)، ص 245 - 252. [6] انظر: مكسيم رودنسون. الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، ص 43 - 83، في: هاشم صالح، مترجم ومعد. الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ط 2، بيروت: دار الساقي، 2000م، 261 ص. [7] انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق الآن: تمهيد لطبعة أغسطس 2003 احتفالًا بمرور ربع قرن على صدور الكتاب / ترجمة حازم عزمي، فصول، ع 64 (صيف 2004م)، ص 179 - 186. [8] انظر: رسول مُحمَّد رسول. الغرب والإسلام: قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2001م، 153 ص.
المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن مقال رقم (3) (كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد: فاستكمالًا لِما تمَّ طرحُه في المقال الأول والثاني حول هذا الموضوع لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، على الرابط : المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن المضامين التربوية المستنبطة من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2) وما تضمنته من مضامينَ تربوية، حاولت جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآياتِ القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا يَنْضُبُ مَعِينها الصافي، مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملمحَ الثالث من ملامح هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسْمَيْتُه: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟ وسوف أحاول جاهدًا أن أُبْحِرَ بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية منها؛ لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل. فالآيات المتعلقة بهذه الفترة تبدأ من الآية (35) إلى الآية (42)؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 35 - 41]. فأقول مستعينًا بالله: كيف وظف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟ الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها في اللوائح والأنظمة الشرعية، أو الوضعية التي وُضِعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جُرم أحْدَثَه؛ فربما يُبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به؛ قال الله تعالى على لسانهم: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، و﴿ الْآيَاتِ ﴾، هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام، واتضح لهم ذلك الأمر وضوح الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك رأوا أن يُسجَنَ يوسف عليه السلام حتى حين؛ أي: إلى وقت آخر؛ قال السعدي رحمه الله: "أي: لينقطع بذلك الخبر، ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع، لم يزل يُذكَر، ويشيع مع وجود أسبابه، فإذا عُدِمت أسبابه نُسِىَ، فرأوا أن هذا مصلحة لهم؛ فأدخلوه في السجن"؛ [ج2، ص413]. وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها، في هذا المقال بإذن الله. فيوسف عليه السلام بعد طِيبِ العيش الذي كان يعيشه عليه السلام، في منزل عزيز مصر، وحسن المثوى - يتغير الحال به إلى السجن بين الجدران الأربعة، في بيئة خشنة لم يعرفها في حياته، تأتي بعد نعمة ورفاهية، فكيف يعيش هذه المرحلة؟ وكيف يتعامل مع هذه الفترة؟ إن أصحاب المبادئ والقيم، يحافظون على قيمهم ومبادئهم أينما كانوا؛ فيعيشون بها عِظامًا، ويموتون بها كبارًا، فيكونون لمن حولهم أقمارًا منيرة تضيء لهم غَيَاهِب الظلم، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبَّقًا في الحياة، وليس نظرية تُقْرأ وتُكْتب من بروج عالية - هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة؛ لذا يصور لنا القرآن الكريم شيئًا من هذه العظمة، في شخص رسول الله عليه السلام يوسف؛ بأن اختار السجن، بما تحمل كلمة السجن من معانٍ تقشعر منها الأبدان، وتصم منها الآذان، ولكن العظماء والشرفاء دائمًا يختارون ما يتماشى مع مبادئهم وقيمهم، ولو كان على حساب ذواتهم وأنفسهم. وتبدأ هذه الفترة وأحداثها بعد قرارهم بإيداع يوسف عليه السلام السجنَ؛ بقول الله تعالى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. قال السعدي رحمه الله: "ولما دخل يوسف السجن، كان في جملة من ﴿ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾؛ أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصَّها على يوسف ليعبُرَها... وقولهما: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: من أهل الإحسان إلى الخَلْقِ، فأحسِن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسَّلا ليوسف بإحسانه". وهكذا نبدأ رحلة جديدة مع حياة يوسف عليه السلام، في مرحلة جديدة، وبيئة جديدة؛ إنها مرحلة السجن، وبيئة السجناء، وانتصار المبادئ والقيم، والثبات عليها، رغم التحديات والمغريات التي تعرَّض لها نبي الله يوسف عليه السلام. والآية السابقة تحدد لنا بكل دقة أن يوسف عليه السلام دخل السجن ودخل معه فَتَيَانِ، ولم تتطرق الآيات لمدة المكوث، وكذلك لأسماء الفتيان، بل إن الأسلوب القرآني يختصر لنا هذه الفترة، وما حدث فيها من أحداث، بذكر بعض الأحداث التي تبرز شخصية يوسف عليه السلام، بعيدًا عن تحميل الفترة ما لا تتحمل من الاشتغال بما لم يتطرق له القرآن، أو تنص عليها السنة النبوية الصحيحة، وهذا معيار من معايير تعاملنا مع تفسير الآيات القرآنية؛ وهو الالتزام بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما؛ فهذه الفترة تُجسِّد ما يمتلك يوسف عليه السلام، من مقومات إصلاح ظاهريٍّ، وحسن تعامل مع مَن حوله مِنَ السجناء، في هذه البيئة التي أودع فيها أولئك السجناء، بحسب أحوالهم وأسباب إيداعهم؛ فكلٌّ بحسب حاله. فكانت تلك المقومات المذكورة آنفًا في شخصية يوسف عليه السلام، كانت لافتة وجاذبة لمن كان حول يوسف عليه السلام، بل أصبحت مَعْلَمًا بارزًا من معالم شخصيته عليه السلام؛ فتضمنت الصلاح الظاهري ليوسف عليه السلام كما قلنا، وكذلك الإحسان الخارجي للآخرين بحسن تعامل يوسف عليه السلام معهم، فهذان المقوِّمان أو الْمَعْلَمَان من شخصية يوسف عليه السلام كان لهما أبلغ الأثر في التأثير في سلوك المحيطين به، وكل ذلك وأبعد من ذلك؛ من المبادئ، والأخلاق، والقيم، والمعالم التي نسجتها شخصية يوسف عليه السلام في هذه الفترة، كان لها أثر بالغ في تحويلها من جانب نظري مجرد، لا يحقق التأثير، إلى سلوك تطبيقي عملي مُشاهَد للعِيان، يقود الآخرين للتأثر والتقبُّل؛ ولذا قال الفتيان في نهاية رؤيتهما ليوسف عليه السلام: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، إذًا سبب قصة رؤيتهما ليوسف عليه السلام أنهما كانا يريانه من المحسنين، كيف عرفا ذلك؟ عرفا ذلك من خلال تعامل عليه السلام وإحسانه لمن حوله، وهم من ضمن من كان معه في تلك البيئة، وهكذا تتحول المبادئ والأخلاق والقيم لدى أصحابها من جانب نظري لا حياة فيه، إلى جانب سلوكي تطبيقي عملي تسري فيه الحياة، لينتقل للآخرين بكل سهولة ويسر، من خلال تطبيقها في حياتهم، وهم يَدْعُون الآخرين إليها. وهنا نلمح بكل دقة أن يوسف عليه السلام نجح في لفت انتباه من حوله من السجناء في هذه البيئة، بهذه الصفات الجاذبة، ويتضح ذلك جليًّا من خلال ما ذكره الفتيان السجينان لسبب طلبهما ليوسف عليه السلام أن يَعْبُرَ لهما رؤياهما؛ حيث إنهما ذكرا أنهما يريانه من المحسنين. وهنا استهلَّ يوسف عليه السلام مع هذين السجينين التوظيف الأمثل لهذه الفترة التي أشرنا إليها في حديثنا؛ فلم يتعجل عليه السلام في تعبير الرؤيا لهما، بل طَمْأنَهما أنه لا يأتيهما طعام يرزقانه، إلا أخبرهما بتأويل رؤياهما قبل أن يأتيهما ذلك الطعام. قال السعدي رحمه الله: "ولعل يوسف عليه السلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجعَ دعوته، وأقبل لهما"؛ [ص 414]، قلت: ويتضح هذا من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37] إلى قوله عز وجل: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. وهذا العرض من يوسف عليه السلام مع السجينين لدعوته، بعدما تقرر لديه بأنهما رأياه بعين التعظيم والإكبار لِما هو عليه من هذا التعامل الذي شدَّ انتباههما؛ فأخذ يرغِّبهما في اتباع للحق والهدى. قال السعدي: "ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل لله وإحسانه؛ حيث منَّ على بترك الشرك، وباتباع ملة آبائي، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت؛ ثم صرح لهما بالدعوة فقال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]"؛ [ج2، ص414]. وما بين ذلك أخذ يوسف عليه السلام يوظِّف هذا الحدث للهدف الأسمى لديه؛ الدعوة إلى الله عز وجل، فينسب الفضل والمعرفة أولًا إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من أكرمه بهذا العلم، وهذا التأويل للرؤيا والحديث، ثم شرع عليه السلام يذكر لهما في دعوته لهما؛ أنه ترك ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، بل هم كافرون بذلك، وأكَّد عليه السلام في دعوته لهما أنه متَّبِعٌ لملة آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، الذين هم مؤمنون بالله واليوم الآخر. وهنا ربما يُثار سؤال لدى القارئ من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام، وهو يخاطب الفتيان: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 37]: هل يوسف عليه السلام كان على غير ملة إبراهيم؟ فيجيب السعدي على هذا التساؤل؛ فيقول: "والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا، فلا يُقال: إن يوسف، كان من قبل، على غير ملة إبراهيم"؛ [السابق، ص 414]. وكذلك يُثار سؤال آخر؛ وهو لماذا لم يَرِد ذكر إسماعيل عليه السلام في قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [يوسف: 38]؟ ويجيب على هذا التساؤل بأن يوسف عليه السلام ليس من ذرية إسماعيل عليه السلام، بل من ذرية إسحاق؛ فلا يصح ذكر إسماعيل هنا؛ [بتصرف من روائع البيان القرآني (2023)، فاضل السامرائي، رابط: https://2u.pw/lwwSo7bD ]. ثم فسَّر يوسف عليه السلام تلك الملة – أي: ملة إبراهيم - بقوله: ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 38]؛ أي: بأن نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة، وهذا فضل ومنة وإحسان من الله علينا، وعلى من هداه كما هدانا. ثم يقرر يوسف عليه السلام الحقيقةَ التي تأكدت في أكثر من موضع وآية، أن أكثر الناس لا يشكرون الله، ومن ثَمَّ فلا يتبعون الحق؛ ولذا فليس الأكثرية دلالة قاطعة على اتباع الحق والصواب؛ ومن ثَمَّ فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يرى الجفاء من أهله بمكةَ، وقلة الداخلين في الإسلام في بداية دعوته، سيما من كبار القوم وصناديدهم، وفي نفس الوقت فيها تسلية للدعاة إلى الله عز وجل بعد الرسول عليه السلام بألَّا يصيبهم الإحباط عندما يدعون إلى الله، ثم لا يتبعهم إلا الأقلية، ويبقى الغالبية والأكثرية على ما هم عليه من الانحراف وضعف الانقياد للحق واتباعه. ثم تدرَّج يوسف عليه السلام من الدعوة غير المباشرة لهما إلى الحوار والدعوة المباشرة لعبادة الله وحده وترك ما سواه؛ فقال لهما عليه السلام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40]. فبعدما رغبهما في المنهج الصحيح، خاطبهما بياء النداء المباشر الذي يشد المنادى إلى الانتباه والتركيز لِما سيأتي بعد النداء؛ فقال لهما: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40]. وهكذا نجح يوسف عليه السلام في توظيف هذا الحدث لمبادئه وقِيَمِهِ التي تنبثق من عقيدته وإيمانه، واعتزازه بها في كل وقت وزمان، ثم إنه عليه السلام نوَّع في استخدام الأساليب التربوية في دعوته ما بين مباشر وغير مباشر؛ فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب، فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإنه عادة المخاطب يكون مستعدًّا ومتأهبًا للردِّ، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له، فيوسف عليه السلام استخدم في البداية أسلوبًا غير مباشر، فكان يخاطب عليه السلام في السجينين الفطرة التي الأصل فيها الاستعداد لقبول الخير والانقياد له، محاولًا نَفْضَ ما عليها من غشاوة الهوى والضلال أثناء مخاطبة صاحبها، فإذا بها تضيء الطريق نورًا لصاحبها، وتجذبه للحق انجذابًا، ثم شرع عليه السلام يتحاور معهما حوارًا عقليًّا مباشرًا، حول حقيقة من يعبدون ويرجون، ويدعون ويسألون، ويسلمون له الأمر كله. فأثار سؤالًا استفهاميًّا يجعل العقل يأخذ حيزًا من التفكير في الإجابة المقنعة، بعيدًا عن السذاجة، وبعيدًا عن التعصب الممقوت والتبعية الممقوتة التي تصدر ممن يعطل نعمة العقل والفكر، اللتين هما من أجل نِعَمِ الله على الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. فمن يستحق أن يكون ربًّا معبودًا؟ وما هي صفات استحقاقه لتلك العبودية؟ إن الذي يستحق أن يكون ربًّا يُعبَد ويُطاع أمره ويُتَّبع شرعه، هو الله الواحد القهار، وما سوى ذلك من المعبودات؛ فهي غير مستحقة لذلك، وهي مقهورة مغلوبة أمام الله القهار، القاهر لكل شيء في كل زمان ومكان، والمطلع سبحانه على كل شيء قبل أن يكون كيف يكون، ومتى يكون. فإذا تقرر هذا التصور لدى الإنسان انقاد له سلوكًا تابعًا لذلك التصور، متوافقًا معه؛ فالسلوك تابع للتصور ومنقاد له إيجابًا وسلبًا. ثم يذكر يوسف عليه السلام لهم صراحة تعييب آلهتهم المزعومة؛ بقوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [يوسف: 40]؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فإنهم سمَّوها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوها إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها"؛ [ابن القيم، ص316]. ثم بعد هذه التجلية من يوسف عليه السلام لهذه المسميات الجوفاء وحقيقتها بهذه المحاورة العقلية المقنعة، يبين لهم أن حقيقة الأمر هو العبودية الخالصة لله رب العالمين وحده دون سواه، بمفهومها الشامل؛ فقال تعالى على لسانه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]. وهنا نسلط الضوء على معنى العبودية بمفهومها الشامل الوارد في الآيات؛ وهي الخضوع والذل التام للمعبود بحقٍّ في كافة مجالات الحياة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]. فالعبادة بمفهومها الشامل ركيزة أساسية في إصلاح النفس الإنسانية واستقامتها نحو الهدف الأساسي للوجود الإنساني في هذه الحياة، ولقد تطرقت لهذا الجانب في رسالتي للماجستير (تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية)؛ فوجدت العملية الإحصائية للبحث حصول أن التربية بالعبادة بمفهومها الشامل: بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، والظاهرة والباطنة، وهذا تعريف ابن تيمية رحمة الله للعبودية، حصلت على الترتيب الأول والثاني، وهذه النتيجة العالية من وجهة نظر أفراد العينة، تدل على أهمية استخدم أسلوب التربية بالعبادة، بمفهومها الشامل، فمن يحافظ على العبادة بمفهومها الشامل، تكتمل حياته وتتزن، وترتقي قِيَمُها الأخلاقية، وتسمو به في أمور دينه ودنياه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ [الحسني، 1427هـ، ص278]. لذا كان تأكيد يوسف عليه السلام هذا المعنى لمفهوم العبادة؛ وهو التسليم المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه. ثم في نهاية المطاف لهذه الفترة، شرع يوسف عليه السلام في تأويل رؤية السجينين؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم لم يترك لهما فرصة في الأخذ والرد؛ وذلك بقوله: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم أوصى يوسف عليه السلام السجين الذي ظن – أي: اعتقد - أنه سيخرج من السجن بقوله: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42]. ولبث يوسف عليه السلام بعد خروج السجين الناجي الذي أوصاه أن يبلغ أمره إلى الملك، مكث بضع سنين، والبضع ما يتراوح من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف، قدَّر لذلك سببًا لإخراج يوسف، وارتفاع شأنه، وإعلاء قدره؛ وهو رؤيا الملك؛ [السعدي، 1410هـ، ج: 4، ص: 199]. المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثالث: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟ 1- من معايير التعامل القيِّم مع تفسير الآيات القرآنية الالتزامُ بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما، والبعد عن تحميل الآيات ما لم تتطرق إليها من تحديد الأسماء أو الأزمان أو غيرهما؛ ولذا ذكر الله مَن دخل مع يوسف السجن وهما الفتيان، ولم يتطرق لذكر الأسماء أو فترة المكث، وكذلك السنة النبوية الصحيحة لم تتعرض لهذا الجانب؛ فالالتزام بهذا الجانب من المعايير الضرورية للتعامل مع ما ورد في كتابه العزيز. 2- إذا ابتُلِيَ العبد المؤمن بالاختيار بين أمرين؛ إما معصية، وإما عقوبة دنيوية، فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة، في الدنيا والآخرة؛ [السعدي، 1408هـ، ج: 2، ص: 447]؛ فيوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]. 3- إن القِيَمَ إن لم تتحول إلى سلوك عملي في حياة أصحابها دون تكلف وتصنُّع، وإلا ستبقى في دائرة التنظير والترف الفكري، ولن تصل للآخرين أو للدائرة المسؤول عنها الإنسان المنظِّر؛ لذا لما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((كان خلقه القرآن))؛ أي: كان متمثلًا الخلق القرآني في حياته العملية، هنا فقط تتحول القيم وتنقل للآخرين من الأتباع، وهذا ما كان متمثلًا في يوسف عليه السلام في سجن العزيز؛ حتى قال له الفتيان: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. 4- الابتداء بالأهم فالأهم أولًا، من أهم قواعد النجاح في الحياة في كافة المجالات؛ فيوسف عليه السلام رأى أن دعوة السجينين إلى الله أولَى بالتقديم من تفسير رؤياهما، وهكذا قدم الأهم فالأهم؛ فعلى المربِّي والداعية والأب والمسؤول، والمسلم في العموم، الإلمامُ بهذه القاعدة التربوية الاجتماعية الإدارية الدعوية، التي لا غِنى عنها للمسلم في التطبيقات الحياتية. قال السعدي رحمه الله: "وأنه إذا سُئل المفتي، وكان في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، فإنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله"؛ [السعدي، 1409هـ، ج: 2، ص: 448]. 5- إن أصحاب المبادئ والقيم يعيشون عِظامًا ويموتون كبارًا، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبقًا في الحياة، وليس نظرية تُقرَأ وتكتب من بروج عاتية، هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة. 6- التوحيد أولًا؛ فهو الأولى بالتقديم، ثم المطالبة بالمقتضيات واللوازم الأخرى شيئًا فشيئًا؛ "فلا يقدم الفروع على الأصول، والأحكام الجزئية على الكليات والقواعد الشاملة، وألَّا يقابلوا الغافلين والواقعين في الظلال الاعتقادي والعملي بالكراهية، والاحتقار، والازدراء، بل عليهم أن يوجهوا فكرهم إلى علاجهم ومواساتهم"؛ [ماضي، 1414هـ، ص: 84، 85]. 7- إن استشعار العقيدة والتوحيد دلالة على نقاء الفطرة، وروحانية المستشعر؛ لأنها قضية قلبية إيمانية، لها انعكاساتها السلوكية في واقع الحياة، وهي في متناول الناس جميعًا لو اتجهوا إليها وأرادوها؛ فالفِطَرُ مجبولة في الأصل على حب الخير والصلاح والانقياد لذلك، ولكن تحتاج إلى تنظيف وإزالة وتجلية لبعض الشبهات والشهوات المحيطة بها؛ حتى تستيقظ من غفلتها، وفي الوجود من حولهم موحيات ودلائل لذلك، وفي رسالات الرسل ودعوتهم بيان وتقرير لذلك. 8- الصلاح الظاهري للإنسان ذاتيًّا مع حسن تعامله مع الآخرين مجتمعيًّا، مما يولد الثقة للآخرين فيه ويجذب الآخرين إليه؛ فيوسف عليه السلام كسب ثقة المسجونين حين توافق الصلاح الظاهر لديه، مع حسن التعامل مع الآخرين، عاملهم باللين والرقة والرحمة، حتى إذا ألقى بأمر دينه وعقيدته، وجد نفوسًا مهيئة، وقلوبًا متفتحة، وآذانًا مصغية. 9- استثمار الفرص والمناسبات لإيصال الرؤى والأفكار للآخرين بالسلوك العملي من خلال المعايشة والتعامل الهادف، فالناس يتأثرون بالسلوك المشاهد للشخص قبل أن يتأثروا بكلامه النظري: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. 10- إذا أردت أن تكسب الأشخاص لدعوتك ومبادئك وقيمك؛ فاكسب أولًا قلوبهم بحسن تعاملك، ورقي أسلوبك، وتقديم كل ما بوسعك من أجلهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. 11- الدعوة وإبلاغ الدين مسؤولية الجميع؛ فالداعية المصلح، والمربي المسلم عمومًا، والمسلم عمومًا حيثما كان، وأينما كان، وكيف كان، فلا يبرر بالوضع الذي يعيشه، والمحنة التي يمر بها، تخلِّيه عن دينه ودعوته، ومبادئه وقيمه؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. 12- إن النفوس العظيمة لا تُشغَل بالمحن والمصائب بعد وقوعها، بل تتجاوز الموقف، وتتعايش مع الواقع المحيط لإيصال ما لديها من مبادئَ وأفكار ورؤًى إلى الآخرين، بكل ثقة وإيجابية؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. 13- التريث وعدم التعجل في إبداء الرأي والمشورة للآخرين، إلا بعد دراسة كافية للجوانب المحيطة بهم، والتأمل للموقف وما يترتب عليه من إجراءات؛ ولذا يوسف عليه السلام لم يعبر للفتيان الرؤيا مباشرة، إلا بعد تريُّث وتأمل، وتوظيف للموقف لإيصال ما لديه من الخير والصلاح. 14- القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة تُزرَع، ولا تُفرَض في المجتمع، وزراعتها يكون من خلال السلوك المشاهد لأصحابها، والتطبيق العملي في واقع حياتهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. 15- الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتًا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثْلِم عَرَضًا توفيره أنفع للعبد من ثَلْمِهِ، وإما أن تذهب مالًا بقاؤه خير من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامه خير من وضعه"؛ [ابن قيم الجوزية، 1408هـ، ص250]، فكفى بأصحاب العقول الرشيدة عبرة، أن تصبر عن الشهوة وتُقبِلَ على الطاعة، وإن وجدت فيها مضاضة وتعبًا آنيين، لكنها ستجد لذة وسعادة سرمدية. ثم يكمل ابن القيم فوائد الصبر عن الشهوة؛ فيقول: "وإما أن تسبي نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب همًّا وغمًّا، وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علمًا ذكرُه ألذ من نَيل الشهوة، وإما أن تشمت عدوًّا وتحزن وليًّا، وإما تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق"؛ [السابق، ص250]. 16- تأدُّب المسلم في العموم مربيًا كان أو داعية، وأيًّا كان موقعه، مع المنهج والهدف المحدد من دعوته للمخاطب، مهما كان نوع أو جنس المخاطب؛ من أجل إيصال الحق والتأثير الإيجابي في قناعات الآخرين - من الأساليب التربوية الإسلامية الناجعة للتأثير والتأثر؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. 17- إذا صح التصور لدى شخص ما عن شيء ما، كان السلوك الناتج عنه موافقًا لذلك التصور، والعكس يكون صحيحًا، في حالة إذا كان التصور خاطئًا، فإن السلوك الناتج يكون خاطئًا؛ قال تعالى: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]. 18- إن التسويق للنفس المقصود منه عرض ما لديك لنفع الآخرين، وتصحيح أو تحسين ما لديهم من أخطاء ونواقص أساسية في بناء وتكامل المنظومة، واستقامتها من الأساليب التربوية المرغبة فيما لديك، فمن لا يرغب فيما لديك، فلن يتقبل ما لديك؛ فحسن التسويق مطلب مُلِحٌّ لإيصال ما لديك، ولا يُعَدُّ ذلك من التزكية المحظورة، إذا دعا الأمر إلى ذلك الوصف للاستفادة مما عنده من العلم أو الحكمة؛ ولذلك وصف يوسف عليه السلام نفسه للفتيين لما سألاه عن تعبير رؤياهما؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37]. 19- أهمية تصحيح مفهوم العبادة الشامل ومراعاة التعريف اللغوي للعبادة؛ وهو الذل والخضوع، والاستسلام والانقياد المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه. 20- إن ﺍﻟﻤﻌﺪِﻥَ ﺍﻷﺻﻴﻞ يبقى على أصالته في كل مكان وزمان، ولا ينصهر ويتغير بتغير الظروف المحيطة به، مهما كانت المحكَّات الخارجية الضاغطة؛ فيوسف عليه السلام قبل السجن وبعد وما بينهما محافظ على مبادئه وقيمه وأخلاقه: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]. 21- إن التغير للإيجاب أو السلب ابتداءً لا يكون إلا من الداخل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ فلا يمكن أن يُجبَر الإنسان على فعل ما لا يريده، وهو على قناعة بما هو عليه، ولابد أن يكون مستعينا بالله على الثبات على ما هو عليه؛ فامرأة عزيز مصر، وهي سيدة ومالكة، وأغلقت الأبواب، وتهيأت للإغواء بجمالها ومالها وسلطانها؛ فقال يوسف عليه السلام: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 23]، بل ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، عندما اجتمع عليه النسوة مع امرأة العزيز على فعل ما حرم الله. 22- على المربي والموجِّه أيًّا كان موضعه؛ أبًا كان أو قائدًا أو مسؤولًا أو داعية، عليه أن يستخدم الأساليب التربوية المتنوعة في التوجيه والتربية، وتعديل السلوك في دعوته مباشرة وغير مباشرة، وغيرها من الأساليب التربية المتنوعة حسب الموقف والشخص، ومن أنجع الأساليب للتأثير وهز القناعات دون مقاومة آنية - الأسلوب غير المباشر: ((نعم العبد عبدالله لو كان يقوم الليل))، ((ما بال أقوام..."))، وكذلك فعل يوسف عليه السلام في دعوته للسجينين معه؛ فقد استخدم الأسلوب غير المباشر معهما، فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب؛ فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه، ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإن المخاطب عادة يكون مستعدًّا ومتأهبًا للرد، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له. المراجع المستفاد منه: • القرآن الكريم. • المكتبة الشاملة. • ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم (1412): العبودية، تعليق: علي بن حسن بن علي، الأردن، دار الأصالة للنشر والتوزيع. • ابن قيم الجوزية، (د.ت)، التفسير القيم للإمام ابن القيم، حققه: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية. • ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد (1408هـ)، الفوائد، ط2، حققه: بشير محمد عون، مكتبة المؤيد. • السعدي، عبدالرحمن بن ناصر، (1408)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار المدني، جدة. • الحسني، عوض بن حمد، (1427)، تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية "دراسة ميدانية"، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة. • ماضي، محمود (1414هـ)، سياحة إيمانية في سورة يوسف، دار المجتمع للنشر والتوزيع.
هنيئًا لك أبا وائل الأستاذ المحقق محمد أديب الجادر رحمةُ الله وبركاتُه عليك أيها الأستاذُ المحقِّق محمد أديب الجادر . خلالَ دراستي في الثانوية كنتُ أُكثِرُ التردُّدَ إلى المكتبة الظاهرية أيامَ الامتحانات، فإذا أردتُّ الخروجَ عن جوِّ المذاكرة والمراجعة دخلتُ المكتبةَ العادلية، وكان الدخولُ إليها خاصًّا بالباحثين وطلَّاب الدراسات العليا، وهناك عرَفتُ أستاذًا تهابُه - من بُعدٍ - العَين، ولكن ما إنْ تُجالِسه حتى تألفه النفسُ ويذهب عنها البَين، فكان أوَّلَ سؤال سألَنِيه رحمه الله: مَن شيخُك؟ وهو سؤالٌ يدلُّ على ذكاءٍ وفِراسة. فقلتُ له: المفسِّر الأديبُ الشيخ أحمد نصيب المحاميد، فقال: «هذا شيخنا كلُّنا، وهو بقيَّةُ السلف الصالح في بلدتنا»، ثم صار بيني وبينَه وُدٌّ وأُلفة. ومضَت الأيامُ وصِرتُ أتردَّد إلى مَجمَع اللغة العربية بدمشقَ؛ لأشتريَ مجلَّتَه لأحدِ شيوخي الهنود المحدِّث الفقيه حبيب الله بن علي قُرْبان المَظاهري، أو للاطِّلاع على مكتبتها والمخطوطات المحفوظة فيها، فكان الأستاذُ الجادر هو الذي يُساعدني في ذلك، بل ويُقدِّم لي بعضَ الكتب والمطبوعات هديةً، ثم كان السببَ في توطيد العَلاقة والمحبَّة بأمين مكتبة المَجمَع إذ ذاك الأستاذِ خير الله الشريف حفظه الله. وفي إحدى ليالي دمشقَ السَّالفةِ الأنيسة: زارني كوكبةٌ من أهل التحقيق والعلم في داري بحيِّ العُقَيبة بدمشق، فكان الأستاذُ الجادر أحدَهم، وكانت ليلةً لا تُنسى، وممَّا قاله لي ليلتَها: «أنا أُحبُّ البيوتَ القديمة، وأشعر فيها ببركة الصالحين الذين سَكَنوها، والعلماء الذين كانوا فيها». ثم توالت الزياراتُ العائلية في بيته، وكذلك خلالَ عملِه بالمَجمَع في غُرفة مكتبه. أقول هذا الكلامَ موقنًا بأني لم أكن في مستوى صُحبته سِنًّا ومعرفة، وإنما يَستشِفُّ القارئُ ممَّا سبق مدى أخلاقه النبيلة، وطِيب سَجاياه الحَميدة. كان بحقٍّ أُنسًا لمُجالِسه، ذا مِزاح لطيف، يَشُوبه صوتٌ أجشُّ، قد لا يُدرك مُستَمِعُه أنه يُلاطفه أو يُمازحه ما لم يُدرِك طبعَه. وعند صدور تحقيقي لكتاب: "شمائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم" أظهر سرورًا وفرحًا، وأثنى عليه أمامَ والدي ثناءً عاطرًا، وأنا على ثقةٍ أنه ما فعل ذلك إلا لرفع عَزيمَتي واستنهاض هِمَّتي، وهذا من تواضُعه وسلامة صدره، من الحسد وآفات أصحاب المِهنة الواحدة! الكلُّ يعرِفُ تفرُّغَه للتحقيق ونشر التراث، أحبَّ كتبَ التراجم والتواريخ، وقد كتب عددٌ من الأساتذة ترجمةً وتعريفًا به، وبالكتب التي اعتَنى بها، ولكنِّي أقول متمِّمًا لهم: إن تفرُّغَه للبحث العلمي لم يكن ليَصرِفَه عن حضور صلاة الجماعة قدرَ استطاعته، ولم يكن عملُه في تحقيق التراث يُبعده عمَّا يجري في بلدِه خاصَّةً، وعن أحوالِ المسلمين عامَّةً، كان والله يعيش بألم وحُرقة لِما يَمرُّ على الأُمَّة من مِحَنٍ وبلاء، كان يُخفي تحت بسطة جسدِه وجُشَّةِ صَوتِه قلبًا رقيقًا، ورُوحًا لطيفة، كان يتمثَّل في ذلك حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «المُسلم أخو المُسلم»، لا يعرفُ تبلُّدَ المشاعر، ولا وَهْنَ الأحاسيس. أبوحُ بهذا الكلام وهو الوحيدُ الذي أخبرتُه بعَزْمي على الخروج من دمشق، ثم جاءني بعد صلاة الجمعة إلى داري بحيِّ العُقَيبة، والدمعةُ والله في عينَيه، فودَّعَني وودَّعتُه، وكان ذلك آخرَ اجتماعٍ بيني وبينَه، في منتصف شهر رجبٍ سنة 1432هـ. وأقول اليومَ في كلمة رثائه: «اللقاءُ والموافاةُ يومَ القيامة، وفي أعالي الجنَّة إن شاء الله تعالى، فما أحبَبتُك إلا لله، ولا أحبَبتَني إلا لله، رحمك الله، وجعلك في جنَّات النعيم أبا وائل». وختامًا أقول لأبنائه وأسرته: هنيئًا لكم ذاك التراثُ المطبوعُ الذي تركه والدُكم، وأغبِطُكم على تلك السُّمعة والمكانة التي عُرفَ بها أبوكم، وأحسنَ الله عزاءَكم، وأعظم أجرَكم، وغفر لميِّتكم، وألهمكم الصَّبرَ والسُّلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكلُّ الشكر للأستاذ المُبدِع الوفي أيمن ذو الغنى حفظه الله تعالى، الذي أتاح لي وأكرمني بالكتابة عن فقيدنا رحمه الله. وكتبه الفقير إليه تعالى محمد وائل الحنبلي الدمشقي في مدينة إصطنبول سلخَ ذي الحِجَّة الحرام عامَ: (1444هـ).
أبو وائل محمد أديب الجادر كما عرفته رَبِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلُل عُقدةً من لساني، واهدِني إلى الطيِّب من القول، واهدِني إلى صِراط الحَميد. كان أبو وائل رحمه الله لطيفَ المَعشَر، يأنَسُ به جليسُه، يَهابُه مَن لا يعرفه؛ بطوله الفارع، ونظَراته الثاقبة، وقسَماته الثابتة، فإذا ما اقتربتَ منه وجدتَّ بين عِطفَيه طفلًا وَديعًا، وأخًا رفيقًا، تُعجِبك طيبةُ قلبه، ورهافة حسِّه، وعذوبة منطِقه. إذا تعرَّفت إلىه أوَّلَ وَهْلةٍ، تأخذان بأطراف الحديث، يفجَؤك بنُكتةٍ لطيفة ربَّما يتحاشى ألفاظَها كثيرٌ من الناس في أوَّل لقاء، فهي تصدِمُك بصَراحته وجَراءته، ربَّما ليزيلَ الحُجُبَ بين سَميرَين، وليُدخلَ السُّرور على قلبك من غير استئذان، وليَرى البسمةَ على مُحيَّاك. أبو وائل من الرجال الذين خَبَروا جوانبَ الحياة؛ بسعادتها وشقائها، ورَخائها وشدَّتها، ويُسرها وعُسرها، تراه في تقلُّبات الدهر وأحواله، يخاطب أصحابه ومحبِّيه بما يهمُّهم من أمور أنفسهم ودنياهم، يُدَغدغ عواطفَهم، ويحدِّثهم بما يَسرُّهم، كم وكم يُضحك جُلَّاسَه بنِكاته الطريفة، وعباراته الخفيفة، وهو ينظرُ إليهم بصَمْت كأنه الجبل. يهتمُّ بإخوانه وأصدقائه، ويتواصل معهم، ويسأل عن أحوالهم وأعمالهم، وإن أخفَوا عنه الكثيرَ منها، فلا يتأخَّر في مساعدتهم وتقديم العون لهم إن ألمَّ بهم مكروه، أو يسعى إلى إزالة الهمِّ عنهم بمَن حوله من معارفه المُقتدرين إن عجَزَ هو عن فعل ذلك. وكم كان يردِّد عبارته الشهيرة «بحوله وقوَّته» يُسنِد الحولَ والقوَّة لله عزَّ وجلَّ. كانت الصَّراحة منهجًا في حياته، يُحبُّ إتقان عملِه في التحقيق، فلا يُبالي بما يُقال عنه، ولا يُخفي عنك ما يَلقاهُ من مَشاقِّ التأمُّل في المخطوطات، ولا فيما يُخرجه من نصوص، سواءٌ في قراءة عبارة، أو رسم كلمة، أو في وزن بيتٍ من الشعر اعتاصَ عليه، المهمُّ عندَه سلامةُ النصِّ من كلِّ شائبة، مهما كلَّفه ذلك من بذل. رحمك الله أبا وائل ، عِشتَ حميدًا بين خُلَّانك وأقرانك، ومُتَّ سعيدًا بلقاء وجه ربِّك، سبَقتُك في الولادة، وسبَقتَني إلى ربٍّ غفور، يغفر الزلَّات. أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجمعَني بك في أعلى علِّيِّين، مع النبيِّين والصدِّيقين، والشُّهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا. وكتب مأمون محمد سعيد الصَّاغِرجي صباح الأربعاء 8 محرم 1445 /26 تموز 2023
أسبوع على رحيل أديب الجادر مضى أسبوعٌ كامل على رحيل أخي وصديقي وصاحبي الأستاذ الفاضل والعالم المحقِّق الدؤوب محمد أديب الجادر . كنت أظنُّ أن الحزن عليه سيخِفُّ بمرور الوقت، لكنَّني رأيت أن حزني عليه يزداد، وشوقي لرؤيته وسماع صوته يكبُر ويزيد، ذلك أني لم أعتَد أن يمرَّ أسبوعٌ واحد دون أن أراه أو أسمعَ صوته. أمضَيتُ في صُحبته خمسين عامًا؛ ت شاركنا فيها كلَّ شيء: الدراسة الجامعية، الدَّورات التدريبية، المعسكرات المختلفة، خدمة العلم، ثم العمل في التحقيق في مكتبي في حيِّ الحَلْبُوني ثم مكتبي في مدينة حرستا بريف دمشق، وانتقلنا للعمل في المكتبة الظاهرية، ثم في مَجمَع اللغة العربية لأكثرَ من خمسة عشر عامًا. ولمَّا أُحِلنا على التقاعد زاد لقاؤنا واجتماعنا مع مجموعة من الأصدقاء المشتركين، فأمضَينا معًا أكثرَ من عشر سنواتٍ مِلؤُها المحبَّة والودُّ والصَّفاء. كان - رحمه الله - أوفرَ ما يكون صحَّة ونشاطًا وحيوية بطوله المميِّز وقوَّته الظاهرة، وحركته الدائبة وملامحه القاسية، كان يشارك في كلِّ ما يُطلَب إليه من معروفٍ وخدمة للآخرين، يسعى في حوائج نفسه وحوائج مَن حوله من غير كَلال ولا فتور ولا مَلَل. شعرتُ يوم بلغَني نعيُه أن صاعقةً شديدة أصابتني، شَلَّت حركتي وتفكيري، ورأيتُني أردِّد من غير وعي بيتَ أمير الشعراء شوقي في أخيه وصاحبه حافظ إبراهيم: قد كنتُ أُوثِرُ أن تقولَ رِثائي يا مُنصِفَ الموتَى مِنَ الأحياءِ لكِنْ سَبَقْتَ وكلُّ طُولِ سَلامةٍ قَدَرٌ وكلُّ مَنِيَّةٍ بِقَضاءِ وأعود فاصبِّر نفسي بقول أَوْس بن حَجَر: أيتُها النفسُ أجْمِلي جَزَعا إنَّ الذي تَحْذَرِينَ قد وَقَعا كانت حياةُ صديقي أبي وائل بذلًا وعطاءً وتضحيةً لكلِّ مَن حوله، لم يكن يدَّخر جهدًا ولا وُسعًا في تقديم العَون والخير لكلِّ من عرَفه، لم يبخَل بمالٍ ولا جُهدٍ ولا نصيحةٍ على من قصَدَه في حاجة، أو كان في ضائقةٍ شديدة، كان يُسارع في تقديم كلِّ ما يملك لدفع الضُّرِّ عن أصحابه، ويُواسيهم بنفسه وماله. ما رأيتُ ولا سمعتُ من هو في مثل خُلقه، ولا أكون مبالغًا إن قلت: إنه أشبهَ الصَّحابةَ والتابعين في حُسن خُلقه وطِيب معشَره ولين معاملته. ونرجو أن يتحقَّق فيه قولُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه التِّرمذي من حديث أمِّ المؤمنين عائشة: (إنَّ مِن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنَهُم خُلقًا، وألطفَهُم بأهله). وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث جابر بن عبد الله: (إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسِنَكُم أخلاقًا). كان يُخفي وراء ملامِحه القاسية قلبًا رحيمًا وعطفًا يفيض على كلِّ من عرَفه، وكلامًا لطيفًا ناعمًا يُدخل السرور على من يسمعُه. كانت مجالسُه مَلأى بالمودَّة والبهجة والحُبور، حاضرَ البديهة جميلَ الردِّ والجواب، يُضفي السرورَ والفرح على أهل المجلس كلِّهم. لم يكن يَجْبَهُ أحدًا بإساءةٍ، أو يردُّ عليه بغِلظةٍ وجَفاء، ما رأيته الا مبتسمًا، ولا سمعت في مجلسه غيبةً أو نميمةً أو حسدًا لأحد، وإني لأشهد له _ولا أُزكِّيه على الله_ أنه كان يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّ الخير لكلِّ المسلمين. شَغَل نفسَه بالعلم، وتفرَّغ لتحقيق كتب التراث، فأخرج عشَرات الكتب النافعة، ووَسِعَ مَن حوله بأخلاقه وجُوده وإحسانه وشهامته ومُروءته. رحمك الله أبا وائل رحمةً واسعة، كنتَ أخًا حبيبًا وصاحبًا مخلصًا وصديقًا وفيًّا قلَّ نظيرُك في هذه الأيام. كنتَ لي نِعمَ الأخُ المحبُّ والصَّديق الودود والجليس النافع الناصح. سلام عليك يا صاحبي وعلى إخواننا وأصدقائنا الذين سبقونا إلى جوار الله تعالى، وأسأل الله أن يغفرَ لكم ويرحمَكم ويُدخلَكم الجنَّة، ويجعلَكم ممَّن قال فيهم: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24] وأن يرفعَ مقامك في علِّيِّين، مع الأنبياء والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وأن تكونَ ممَّن قال فيهم سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]. وأن يحفظَ أهلك وأولادك وأصحابك، ويُلهمَهم الصَّبر والسُّلوان، ويجعلَهم ممَّن يُقال لهم: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157] وأن يجمعَنا بكَ في مستقرِّ رحمته، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين. كتبه أبو مازن عدنان عبد ربه الثلاثاء 7 المحرم 1445هـ
مختصر تفسير البغوي لعبدالله بن أحمد بن علي الزيد صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب " مختصر تفسير البغوي "، تأليف: د. " عبدالله بن أحمد بن علي الزيد "، نشر: " دار لطائف للنشر والتوزيع " بالكويت. وهذا الكتاب اختصار تفسيري، من تفسير الإمام الحافظ الفقيه المجتهد أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء، البغوي المسمى بـ " معالم التنزيل ". وتفسير البغوي من أجل كتب التفسير بالمأثور، يسرد فيه التفسير بالقرآن - أي يجمع بين الآيات ذات المعنى الواحد ليوضح معنى الكلمة التي تضمنتها - ويأتي بالأحاديث مع أسانيدها كما يذكر أقوال الصحابة ومن بعدهم من أئمة التفسير، وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة؟ الزمخشري أم القرطبي أم البغوي أو غير هؤلاء؟ فأجاب قائلًا: "وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة - البغوي " وعنه قال: "تفسيره مختصر من تفسير الثعلبي لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة". وقال " محمد رشيد رضا " في مقدمة طبعته له عام 1343 هجرية: "هذا التفسير من أشهر كتب التفسير في العناية بما رُوي عن مفسري السلف، وبيان معاني الآيات وأحكامها". وقد اعتمد المختصِر على وضع المصحف كاملًا، وكذلك أخذ الآيات القرآنية المفسرة برسم المصحف من الحاسب الآلي تجنبًا للأخطاء المطبعية، مع وضع مختصر تفسيرات البغوي متناسقة مع ترتيب المصحف. وقد التزمَ بنص البغوي التزامًا تامًّا ولم يتصرف فيه بالزيادة إلا ما استدعى السياق إضافته لربط كلام البغوي بعضه ببعض كواو العطف ونحوها، ليبقى التفسير بأسلوبه السهل الميسر وجماله الناصع مع تمام الترابط والانسجام، وقد جعلَ ما أضافه بين قوسين تمييرًا له عن كلام البغوي، ومن هذا يعلم أن جميع ما في هذا المختصر هو من كلام البغوي، فإذا ورد فيه قوله: ( قد روينا أو حدثنا ) أو نحو ذلك فالقائل هو: البغوي، وقد حرص المختصر على هذا المنهج لما لكلام الإمام البغوي - رحمه الله - من ميزة لدى العلماء تجعل الاطمئنان إليه أكثر والوثوق به أحرى، أما اختصاره فاعتمد على استبعاد ما لا ضرورة له في بيان معاني الآيات من الروايات والأسانيد المطولة والأحكام التي لا حاجة لها والاقتصار من سند الحديث عند ذكره على اسم الصحابي الذي روى الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ - وترك لمن أراد الاستزادة الرجوع إلى الأصل المُختصَر. يقول الكاتب في مقدمته لهذا الاختصار: "وقد ظهر لي من خلال عملي حاجة الناس إلى تفسير مختصر يجمع بين علمي الرواية والدراية، يكون في متناول الكل، يتميز بخلوه من المخالفات الشرعية والعقدية، وذلك لأن الوقت في هذا العصر أصبح قليلًا جدًّا بسبب تزاحم المعلومات في كل العلوم، فرأيت من المناسب اختيار تفسير مختصر يلبي حاجة من أراد الاطلاع على معاني كلام الله سبحانه وتعالى. وقد اطلعت على كثير من المختصرات فوجدت بعضها يهتم بجانب واحد من جوانب إعجاز القرآن كمباحث الإعراب ونكت البلاغة، والبعض الآخر لا يخلو مما يستوجب النظر، ومنها ما يستطرد لعلوم أخرى لا يُحتاج إليها في فهم القرآن". وقد سلك البغوي - رحمه الله - مسلكًا متوسطًا بلفظ موجز وسهل بعيدًا عن الاستطراد والحشو، جاء في مقدمة تفسيره: ( جمعت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوا كتابًا متوسطًا بين الطويل الممل والقصير المخل ). وما يذكره من الأحاديث النبوية الشريفة فغالبها يسوقها بأسانيدها التي اشترط فيها الصحة أو الحسن، وقد وضح ذلك بقوله: (ما ذكرت من أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ - في أثناء الكتاب على وفق آية أو بيان حكم فإن الكتاب يطلب بيانه من السنة، وعليها مدار الشرع وأمور الدين، فهي من الكتب المسموعة للحفاظ وأئمة الحديث، وأعرضت عن ذكر المناكير وما لا يليق بحال التفسير). أما ما يذكره عن الصحابة والتابعين فغالبًا يذكره بلا إسناد وذلك لأنه ذكر في مقدمته إسناده إلى كل من يروي عنهم، كما يذكر أقوال السلف في تفسير الآية ولا يرجح بعضها على بعض في كثير من الأحيان إشارة منه - رحمه الله - إلى أن معنى الآية قد يحتمل جميع المعاني أو أكثرها، وهذه ميزة تميز بها تفسير البغوي قلما توجد في غيره. ونجد أنه يتحاشى ذكر المسائل الكلامية ويكتفي بإيراد منهج السلف فيها. وربما يذكر بعض الأخبار الإسرائيلية عند تفسير بعض الآيات التي تحكي قصص أهل الكتاب وهو مقل منها بالنسبة لغيره من المفسرين. كما يذكر في تفسيره بعض الأحكام الفقهية والقراءات المشهورة، وأسباب النزول في تفسيره. والمؤلف هو د. " عبدالله بن أحمد بن علي الزيد " وكيل وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المساعد لشؤون المطبوعات والنشر، له من المؤلفات: • كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للإمام أحمد بن محمد بن هارون الخلال (دراسة وتحقيق) (رسالة دكتوراه). • تعليم الصلاة.
الاستشراق والتنصير الوقوف على إسهامات المستشرقين حول الإسلام ضرورة يُحتِّمها الانتماء الثقافي رغم تهوين بعض المعنيين مِن هذا التوجه، ولدى بعض المستشرقين مواقف ليست مُشرفة عن الإسلام؛ لأسباب ذات علاقة بالدوافع والأهداف؛ فلقد استغلَّ التنصير مثلًا الاستشراق في تحقيق بعض أهدافه، عندما تبيَّن للمُنصِّرين أن مسألة تنصير المسلمين غير متحقِّقة، وأن مسألة تحويلهم " ارتدادهم " عن الإسلام دون الدخول بالضرورة في النصرانية غير متيسِّرة، في مقابل الجهود التي تبذل لذلك، فانحرف التنصير في بعض أهدافه الابتدائية، وفي مفهومه إلى تشويه الإسلام في أذهان المسلمين. هذه فكرة طرَحها المنصر المستشرق المعروف جيدًا في منطقة الخليج العربية خاصةً السموءل ( صاموئيل ) زويمر، الذي مارس خطابًا قائمًا على تحشيد فج مِن المغالطات والافتراءات، لا يخاطب بها "بالتأكيد أناسًا على دراية طيبة بالإسلام في دينه وتاريخه وحضارته؛ إذ إن هذه الأكاذيب لا تنطلي إلا على محدودي الثقافة، أو على وجه الدقة: مَن انحصرت ثقافتهم بما تلقوه من مصادر المعرفة الغربية" [1] . هذا التحول في الأهداف التنصيرية يقتضي جهدًا فكريًّا علميًّا يغوص في هذا الدين وما كتبه أهله عنه، ثم يعمد إلى استخراج ما يمكن أن يعدَّ من نقاط الضعف فيه من وجهة نظر المستشرق أو الناقد الآخر في المسلم نفسه، وليس وجود نقاط ضعف محققة في واقع الدين نفسه، فليس في الدين نقاط ضعف، فتكبر هذه النقاط من قِبَل الآخر، وينظر إليها على أنها اتهامات للدين نفسه [2] ؛ أي: إن نقاط التقصير في المسلمين أنفسهم تؤخذ على أنها نقاط تقصير في الدين نفسه، فتكون تلك التقصيرات حجةً على الإسلام، بينما هي حجة على المسلمين، فليست بالتالي مواطن اتهام لهذا الدين الحنيف. مع التوكيد على أن استخدام تعبير الآخر هنا يأتي من منطلق ثقافي، لا مِن منطلق عرقي؛ كما هو الشائع من استخدام اللفظ في الغرب، ومِن هذا المُنطلَق فإن الآخر لا يظل دائمًا آخر، ومن هنا يأتي الإشكال في إطلاق هذا اللفظ من مفهوم ثقافي [3] ، ومِن هذا المفهوم لا يسمح اللفظ أن ينطبق على أوروبا الأمس واليوم؛ إذ لا يجوز أن يرى الإسلام "كمُغتصب لأوروبا المسيحية أكثر ما تعتبر هذه الأخيرة محطمة الأوثان وأسواط اليهود، وكلهم كان لهم ألقاب تثبت وجودهم، ولكن لا يجوز، بالسير إلى هذا الهدف، أن يعتبر أحد نفسه الآخر فقط، بل هو جزء من أوروبا وجزء من ميراثنا". كما يقول جاك غودي [4] ، ومِن ثمَّ يصبح الإسلام من حيث تأثيره أحد الروافد الثقافية الثلاثة لأوروبا [5] . المقصود هو تمثُّل هذه الثقافة في النظرة إلى الآخر، وهو الاستشراق هنا، وإن ظهر التفاوت في هذا التمثل، كما هي الحال لدى إدوارد سعيد وأنور عبدالملك وعبدالله العروي وحسن حنفي كنماذج تصدت لأطروحات المستشرقين في نظرتهم إلى الإسلام، وإصرار بعضهم على اتباع أسلوب إثارة الشبه [6] . اقتضى هذا الأسلوب في إثارة الشبه البحث في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، ثم الخوض في سِيَر أمهات المؤمنين والصحابة من كتاب الوحي ورواة الحديث وقادة الفتوحات الإسلامية، ثم التشكيك في الفقه الإسلامي وأنه مستمَد من القانون الروماني، وأن هذا الدين إنما هو صورة مشوهة عن اليهودية والنصرانية [7] ؛ بحجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخترع هذا الدين، وأنه عليه الصلاة والسلام قد عرف "شيئًا قليلًا من عقائد اليهود والنصارى" [8] ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يتصل قبل بعثته بالأحبار والرهبان داخل مكة المكرمة وخارجها، فالتشكيك في الفتوحات الإسلامية ودوافعها وأنها إنما قامت لأسباب اقتصادية [9] ، وأن الإسلام قد انتشر بالقوة والإكراه التي يعبَّر عنها بالسيف [10] ، وهكذا من الشبه التسقُّطيَّة التي تصدى لها العلماء والمفكرون المسلمون والعرب وأكثروا من الردود عليها ودحضها [11] . اختلفت الردود على شبهات المستشرقين حول الإسلام في مداها وفي أسلوب التعامل مع هذه الشبهات بحسب قوة الشبهات وموقف العلماء المسلمين منها، ويُمكن تصنيف هذه المواقف إلى خمسة أنواع، كما يصنفها محمد أبو الفتح البيانوني: • موقف العلم بها وبأسبابها ودوافعها، والرد العلميُّ عليها. • موقف الغفلة عنها وعن أسبابها، أو التساهل معها، حتى شاعت في صفوف كثير من المسلمين. • موقف التأثُّر بها، وتصديقها، والدفاع عنها. • موقف الرد عليها ردًّا عاطفيًّا مجردًا لا يَقوى على دفعها. • موقف الدفاع الضعيف المنطلِق من مركب النقص الذي أصاب كثيرًا من شباب المسلمين في العصر الحديث [12] . [1] انظر: ناصر عبدالرزَّاق الملَّا جاسم: الإسلام والغرب: دراسات في نقد الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 44 - 47. [2] انظر: أبو الحسن علي الحسني الندوي: الإسلاميات بين المستشرقين والباحثين المسلمين، ص 15 - 69، في: نخبة من العلماء المسلمين. الإسلام والمستشرقون؛ مرجع سابق، 511 ص. [3] انظر: خيري منصور. الاستشراق والوعي السالب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001م، ص 135 - 150. [4] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا؛ مرجع سابق، ص 25. [5] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا، المرجع السابق، ص 82 - 119. [6] انظر: نديم نجدي: أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد - حسن حنفي - عبدالله العروي؛ مرجع سابق، ص 9 - 21. [7] انظر: شوقي أبو خليل: الإسلام في قفص الاتِّهام، ط 5، بيروت: دار الفكر المعاصر، 1418 هـ / 1998م، ص 314 - 317. [8] انظر: شوقي أبو خليل: الإسلام بدعة نصرانية، الإسلام مقتبسٌ من اليهودية والنصرانية، ص 15 - 43، في: شوقي أبو خليل، أضواء على مواقف المستشرقين والمبشِّرين، ط 2، طرابلس (ليبيا): جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، 1999م، 264 ص. [9] انظر: جميل عبدالله محمَّد المصري، دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوى المستشرقين، دمشق: دار القلم، 1411هـ / 1991م، 111 ص، (سلسلة بحوث في التاريخ الإسلامي؛ 3). [10] تصدَّى زكريا هاشم زكريا لهذه الشُّبهة بإفاضة، انظر: دين السلام، ص 43 - 58، في: زكريا هاشم زكريا. المستشرقون والإسلام، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1385هـ / 1965م، 612 ص، (سلسلة لجنة التعريف بالإسلام؛ 20). وانظر: نبيل لوقا بباوي، انتشار الإسلام بحدِّ السيف بين الحقيقة والافتراء، القاهرة: دار البباوي، 2002م، 192 ص. [11] تولَّى عبدالعظيم إبراهيم مُحمَّد المطعني الوقوف على بعض هذه الشُّبه وسعى إلى الردِّ عليها. انظر: عبدالعظيم إبراهيم مُحمَّد المطعني. افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، القاهرة: مكتبة وهبة، 1413هـ / 1992م، 208 ص. [12] انظر: مُحمَّد أبو الفتح البيانوني، الشبهات المثارة حول الإسلام وموقف المسلم تجاهها، ص 61 - 85، في: دراسات استشراقية وحضارية: كتاب دوري محكَّم، المدينة المنورة: كلية الدعوة، مركز الدراسات الاستشراقية والحضارية، ع 1 (1412هـ / 1993م)، 396 ص.
غزوة أحد اتفقت قريش على إعداد جيش للثأر من المسلمين، وقد خصصوا لهذه الحملة ما حصلوه من أرباح من التجارة التي سلمت مع أبي سفيان، وكانت تفوق الخمسين ألف دينار، وقد أنزل الله فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، ولم يكتفوا بأن تخرج قريش في هذه المعركة، بل أرادوا أن يجمعوا معهم العرب، فأرسلوا أربعة منهم ليستميلوا إليهم قبائل العرب، وهم: عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعرى، وأبو عزة الجمحي، وكان أبو عزة قد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يظاهر عليه عدوًّا أبدًا، ولا يأتي ما من شأنه الكيد للمسلمين، فالتزم بعهده، وما زال به صفوان بن أمية يكلمه ويغريه حتى نقض عهده وانطلق معهم يحشدون القبائل لحرب المسلمين. كانت الغزوة يوم السبت في السابع من شهر شوال في السنة الثالثة هجرية، وقد اجتمع لقريش ثلاثة آلاف مقاتل، يقودهم أبو سفيان، ومعهم الظُّعُن - النساء - لكيلا يفروا، ومعهم قادة ميدانيين، أمثال: خالد بن الوليد قائد الفرسان، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل. وصلت أخبار الحملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن عمه العباس أرسل له رسالة مع هجان ذكر له فيها أن عدد الجيش ثلاثة آلاف، منهم سبعمائة دارع، معهم مائتا فرس وخمسة آلاف جمل، وكثير من السلاح، وهنا جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للتشاور في أمر هذه الحملة من قريش، كما سارع إلى بث العيون والكشافة لينقلوا له خبر تحركهم، وانقسم رأي الصحابة إلى قسمين، قسم يود الخروج من المدينة للقاء العدو، وهذا رأي الشباب منهم، خصوصًا الذين لم يحضروا غزوة بدر، وقسم أراد التحصن بالمدينة وقتالهم في طرقاتها وأزقتها مما يربك جيش قريش، ومالت كفة الرأي الأول، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته، ثم لبس درعه وأظهرها، وورد أنه لبس في أُحد درعين، وتقلد سيفه، وشد وسطه بحزام من جلد، وقبل المعركة لبس المغفر، وفوقه البيضة - الخوذة - وطلب الخروج للقاء العدو، ولما قيل له: نأخذ برأي من رأى التحصن بالمدينة - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا - وذلك لرؤيا رآها أنه في درع حصينة، لكنه قال: ((ما كان لنبي إذا لبس لَأْمَتَهُ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، انظروا إلى ما أمرتكم به فالزموه، وامضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم)) ، وذلك لحسم الخلاف والتوجه بقوة إلى أرض المعركة التي حددت عند جبل أُحد. وعودًا على تحرُّك المشركين، فقد كان خوفهم أن يبلغ خبرهم إلى المسلمين فيتحصنوا بمدينتهم، وبالتالي يصعب قتالهم، وهذا ما قاله أبو سفيان: أحلف بالله أنهم جاؤوا محمدًا فخبروه بمسيرنا وحذروه وأخبروه بعددنا، فهم الآن يلزمون صياصيهم، فما أرانا نُصيب منهم شيئًا، فقال صفوان: إن لم يصحروا - يقاتلونا في الصحراء - لنا، عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال يجتبرونها أبدًا. وتقدموا نحو أطراف المدينة وعاثوا الفساد في مزارعها، وعندئذ طلب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم الخروج للقاء العدو، واجتمع له ألف مقاتل، وخطب النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة فيهم، ثم خرجوا للقاء العدو، وفي الطريق انسحب ثلث الجيش مع المنافق عبدالله ابن سَلُولَ، وقالوا: رأينا التحصن بالمدينة، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا، وأشرت عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغلمان، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بمن تبقى معه وهم سبعمائة مقاتل، وفي صباح السبت صف النبي جيشه في مواجهة العدو، ووضع على تل - عينين - مشرف على أرض المعركة خمسين من الرماة وعليهم عبدالله بن جبير، وأوصاهم ألا يبرحوا مكانهم، قال: ((ولو رأيتم الطير تتخطفنا)) ، ورُوي: ((فلا تفارقوا مكانكم وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، اللهم إني أشهدك عليهم)) ، وعقد ثلاثة ألوية، واحد للأوس، والآخر للخزرج، والثالث للمهاجرين، وصلَّوا في موقعهم المغرب، ثم العِشاء، وكان قائد حرسهم - كيلا يبيَّتوا على حين غرَّة - محمد بن مسلمة في خمسين من الحرس، وعند الفجر أذن بلال وصلَّوا الفجر، وصفَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على خير نظام، وأوصاهم بالجهاد والصبر عليه. كما صف المشركون، وأوصى أبو سفيان قومه بالحفاظ على اللواء؛ لأنهم إنما غلبوا يوم انكفأ اللواء، وانضم إلى المشركين أبو عامر الراهب في خمسين من أتباعه من المنافقين، ويقال: هو الذي أنشب القتال، وكان قد حفر حفرًا موهها ليسقط فيها المسلمون، واشتغل نساء المشركين بتشجيع المشركين على القتال وهن يضربن بالدفوف والطبول، ويذكرن المشركين بالثأر لقتلى بدر، وكن يتقدمن الصفوف حتى إذا نشبت المعركة تأخرن.
يونس بن متَّى عليه السلام (2) ذكرت في ختام الفصل السابق معنى قوله تعالى عن يونس عليه السلام: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]، أما قوله تعالى: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]؛ أي: فصرخ مستغيثًا بِرَبِّهِ في ظُلمات بطن الحوت في البحر اللجِّي متوسلًا إليه بكلمة التوحيد، منزِّهًا الله تعالى عن كلِّ نقص، واصفًا له بكلِّ كَمال، مستغفرًا الله عز وجل من مفارقة قومه دون إذْن من الله عز وجل قائلًا: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وقوله: ﴿ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ لا يدلُّ على أنه ارتكب ذنبًا أو أتى معصيةً، فقد ثبت أن نوحًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أولي العزم من المرسلين لما قال: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 45 - 47]، وقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]؛ أي: فأجبنا يونس لمَّا دعانا وهو في بطن الحوت، وخلَّصناه من الغمِّ والهمِّ والحزن والكرب الذي وقع فيه، فوضعه الحوت على ساحل البحر، وأتممنا عليه النعمةَ، وكذلك ننجي كلَّ مؤمن يقع في غمٍّ وكرب فيلتجئ إلينا فإنا نخلصه مما هو فيه من الغم والكرب ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]. وقال تعالى في سورة الصافات: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 139 - 148]. وقوله تعالى: ﴿ أَبَقَ ﴾؛ أي: ذهب بلا خوفٍ، أو استخفى ثم ذهب، وقوله: ﴿ فَسَاهَمَ ﴾، أي: اشترك في القرعة مع ركَّاب السفينة، واقترع معهم فيمن يُلقى مِن الركاب في البحر لتخفيف حمل السفينة ولتنجية من لم يقع عليه السهم من الركاب، وقوله: ﴿ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾؛ أي: من المغلوبين الذين وقعت عليهم القرعة ليُلقى بهم في البحر. وقوله: ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾، أي: فابتلع الحوت يونسَ عليه السلام، وهو مُليم، أي: معاتب نفسه على فراق قومه بلا إذن من ربِّه، أو وهو آتٍ بما يلام عليه؛ أي: يعاتَب عليه، فاللومُ: العذل والعتب، وكون بعض الأنبياء يفعل ما يعاتَب عليه عن طريق الاجتهاد لا ضيرَ فيه، وقد وقع ذلك لأكمل خلق الله وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر حينما استشار أصحابه فيما يفعله بالأسرى، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه باستبقائهم وقبول الفداء منهم، وأشار عليه عمر رضي الله عنه بقتلهم لإضعاف شوكة المشركين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فمال إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه وقبل الفداء من الأسرى، فعاتبه الله تعالى على قبول الفداء، وقال عز وجل في ذلك: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 - 69]. وقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]؛ أي: فلولا أن يونس عليه السلام كان من الذاكرين اللهَ كثيرًا المسبِّحين بحمده في السرَّاء والضراء لجعلنا بطن الحوت مقبرةً له، لكنه كان يتعرَّف إلى الله في الرخاء، ففرَّج الله كربته في الشدة؛ ولذلك أُثِرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه أحمد وبعض أهل السنن: ((يا غلام، إني معلمُك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)). وقوله تعالى: ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾؛ أي: فأَمَرْنا الحوتَ بطرحِه على ساحل البحر في القضاء، وكان قد سَقِم ومرِضَ مما أصابه من الغمِّ والكربِ وبطن الحوت، و﴿ أَوْ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ ليست للشكِّ في عدد المرسل إليهم، بل هي للإضراب بمعنى بل، فقد أثبت مائة ألف، فاستقرَّ هذا العدد الكثير في نفوس السامعين، ثم ذكر أنهم يزيدون على ذلك، فيكون زيادة في تعظيم عدد المرسل إليهم، وهو أبلغ من قول القائل: أرسل إلى أكثر من مائة ألف، وأجمل وأفصح، وفي هذا تثبيت لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما مَنَّ الله تعالى به على يونس عليه السلام، والزائد من عدد هؤلاء عن مائة ألفٍ لا يعلمه إلا الله؛ إذ لم ينقل عن المعصوم صلى الله عليه وسلم تحديدٌ لهذه الزيادة. وقوله تعالى: ﴿ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾؛ أي: فاستمرُّوا على إيمانهم، وازدادوا إيمانًا بما رسمه لهم يونس عليه السلام، ففتح الله عليهم من البركات والخيرات مدَّة استمساكهم بالدين الذي جاءهم به يونس عليه السلام. وقال تعالى في سورة (ن): ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [48 - 50]، وفي هذا المقام الكريم من مقامات ذكر يونس عليه السلام يبدأُ الله عز وجل بأمر حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه له مهما كان منهم؛ لأنه سيِّدُ أولي العزم من المرسلين، ثم نبَّهَهُ إلى أنه لا ينبغي له أن ينفدَ صبرُه كما نفدَ صبرُ أخيه يونس عليه السلام بعد أن امتلأ كربًا وغمًّا من أذى قومه له، فإنَّ يونس عليه السلام ليس من أولي العزم من المرسلين، فهو من جملة النبيين المرسلين من غير أولي العزم، وقد قال الله تعالى في واحد منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، وقال لشيخ المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]. وهذا لا يمنع أن يقتدي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإخوانه النبيين فيما جاؤوا به من الهدى بما فيهم يونس عليه السلام؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى جملة مِن النبيين والمرسلين في سورة الأنعام وفيهم يونس عليه السلام قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكرهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رحيل الأستاذ المحقِّق محمد أديب الجادر (1373- 1444هـ/ 1953-2023م) فُجِعنا صباح يوم الثلاثاء 23 من ذي الحِجَّة 1444هـ، بنبأ وفاة أستاذنا الحبيب وأخينا الكبير الفاضل، الأستاذ الدمشقي المحقِّق أبي وائل محمَّد أديب الجادِر ، الذي وافته منيَّته فجرًا، بسكتة قلبية مفاجئة، وهو في تمام صحَّة وعافية! تغمَّده الباري بعفوه ورحمته، وأحسن عزاءنا فيه، وعزاء أسرته وإخوانه، وعارفيه وخُلَّانه. وإنا لله وإنا إليه راجعون. صلتي به كنت عرفتُه قديمًا عام 1994م وأنا طالبٌ في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، يوم كان أمينًا لقاعة الباحثين في دار الكتب الظاهرية ( في بناء المدرسة العادلية، المقابلة لبناء الظاهرية ). وتوثقت صلتي به هناك، وبرجُلَين فاضلَين من خاصَّة أصحابه هما الأستاذ مأمون الصَّاغِرْجي والأستاذ عدنان عبدُ ربِّه ، وكانوا ثلاثتُهم من العاكفين على الكتب، المشتغلين بالبحث والتحقيق. وكان أوصاهم بي ابنُ دفعتهم أستاذُنا المِفضال د. محمَّد حسَّان الطيَّان صاحب الأيادي الناصعة عليَّ، فلقيتُ من كرمهم وحُسن رعايتهم الكثير، وأشركوني متدرِّبًا في بعض عملهم؛ في مقابلة المخطوطات، ومراجعة تجارِب الطباعة، وفهرسة الكتب، فأفدتُّ من صحبتهم عظيم الفائدة، وتُوِّج ذلك بأن ضمُّوني إلى فريق الموظفين في الظاهرية، التابعة لمَجمَع اللغة العربية بدمشق، ففتحوا لي بذلك بابًا من أبواب المعرفة والاتصال بالكتب والعلماء والأعلام. واستمرَّ عملي في ذَراهم سنتين، ثم تفضَّلوا عليَّ مرَّة أُخرى بأن رشَّحوني للعمل في مكتب التحقيق بمؤسسة الرسالة ( مكتب دمشق )، بإشراف شيخنا المحدِّث شعيب الأرنؤوط في عمَّان رحمه الله، وإدارة شيخنا محمد نعيم عِرق سُوسي وأستاذنا إبراهيم الزيبق بدمشق، فكان من ذلك خيرٌ لي وأيُّ خير! فلله الحمدُ على جميل فضله، ولهم جزيلُ الأجر والكِفاء. وعرفت من طريقهم ثُلَّة كريمة من أصحابهم الأفاضل، ممَّن كانوا يتردَّدون إلى الظاهرية للقائهم والاستئناس بهم، من خيار الباحثين المُفيدين المحقِّقين، وعلى رأسهم الأستاذُ إبراهيم صالح ، والأستاذُ بسَّام الجابي رحمهما الله تعالى. واستحكمَت صِلَتي بالأستاذ محمد أديب، ولم يُشعرني يومًا إلا أنه صديقٌ صَدوق، وأخٌ كبير وَدود، وبقيت هذه الصِّلة طيِّبةً وثيقةً على مدار السنين، لم يعكِّر صفوَها شيءٌ من اختلاف الرأي، وتبايُن النظر. وكان أرسل إليَّ رسالة صوتية في صباح يوم الخميس آخر أيام شهر رمضان المبارك 1444هـ (20/ 4/ 2023هـ) أخبرني فيها برؤيا رآها واستبشر بها خيرًا، قال: رأيتُ في المنام أني معك في المدينة المنوَّرة عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم [ في المسجد النبوي الشريف ]، وإذ بالشيخ عبد القادر الأرناؤوط يأتي ويجلس بيننا، ونمضي في أحاديثَ على درجةٍ عالية من الودِّ والمحبَّة. وأعرف أنك تحبُّ الصور، فأطلب من ابن الشيخ أن يصوِّرَنا، ونقف أنا وأنت والشيخ عبد القادر ويتولَّى ابنه تصويرَنا. هذه هي الرؤيا وإن شاء الله تكون خيرًا، ربي يجمعنا بكلِّ رحمة وبركة وود. من صفاته: عرفتُ في الأستاذ شهامةً ومروءة ظاهرة، وكرمًا وبذلًا بسَماحة نفس وبسطة يد، وبِرًّا بإخوانه ووفاءً لهم، وخَفْضَ جناح ولينَ جانب. وكانت مجالسُه مجالسَ بهجة وأُنس، فهو حاضرُ النكتة والبديهة والإطراف اللمَّاح، مع جرأة في الحقِّ وقوَّة. أذكر له موقفًا فيه شجاعة وجَسارة إبَّانَ عملي في الظاهرية: كانت قاعاتُ البحث والمطالعة في المكتبة الظاهرية قاعاتٍ مختلطة، يدرس فيها الطلَّاب والطالبات معًا، ويحضِّرون حلَقات بحوثهم لجامعاتهم على اختلاف تخصُّصاتهم. وقد أفضى هذا الاختلاطُ إلى ما لا يُحمَد من نشوء عَلاقات غرام وصِلات هُيام بين الشباب والشوابِّ؛ يجلس الفتى قُبالةَ الفتاة، والطالب بجوار الطالبة للدراسة والبحث، فلا يلبثان أن يتبادلا رسائلَ الإعجاب ثم العشق والوَلَع! وكنَّا نبذل الجهد في ضبط القاعات وإتاحة جوٍّ مناسب للبحث والمطالعة والقراءة قدرَ الإمكان، وقد أعيانا هذا الواقعُ وآلمَنا، فنحن مؤتمَنون على المكان، ومسؤولون أمام الله أوَّلًا ثم أمام أولياء الأمور الذين يُرسلون أبناءهم وبناتهم للدراسة لا للهزل والعبَث! وانتهينا إلى نتيجة قاطعة مُفادها أن الاستمرار على هذه الحال غيرُ مُجدٍ على الطلَّاب والطالبات نفعًا، وسَيؤول بهم إلى دروب الخيبة والضَّياع بدل الفلاح والنجاح! وكان من الصعب جدًّا أن نتوجَّه إلى المسؤولين بطلب رسميٍّ للفصل بين الفريقين في المكتبة، فما كان من الأستاذ أديب إلا أن أخذ الأمرَ على عاتقه، ودخل القاعة الكبرى في الظاهرية، وأعلن على رؤوس الجميع بحزم قرارَ الفصل، جاعلًا القاعةَ الكبرى للطلَّاب، والقاعةَ الصُّغرى للطالبات، وهاجَت القاعتان وماجَتا بأصوات المعترضين والمعترضات، فصاح بهم صيحةً مدوِّية، أن القرار قد صدر من الجهات العليا، ومن لم يعجبه فليُراجع فيه المسؤولين! ولا يخفى أن مثل هذا الصَّنيع لا يجرؤ عليه إلا ذو شَكيمة! واستمرَّ هذا الفصلُ سنوات طويلة، ولا أدري هل بقيَ أو آلَ الحالُ إلى ما كان. وحضَرتُ له موقفًا آخرَ لا يُنسى: يوم زارنا في مكتب تحقيق التراث بمؤسسة الرسالة، بعد انتقالي للعمل فيه، فقد رغب بعدَ لقائه مشايخنا في التعريج على صاحب المؤسسة الأستاذ رضوان دعبول رحمه الله في مكتبه، ودخلتُ معه، وما كِدنا نجلس حتى بدأ الأستاذ دعبول في تقريعه؛ قائلًا له: ألم تجِد سوى دارٍ صاحبُها نصراني لتنشر فيها كتابك الأخير! فأجابه على الفور: ومالي لا أنشر لدى ناشر نصراني يلتزم الأمانةَ في عمله، ويؤدِّي الحقوقَ للمؤلِّفين والباحثين، في حين بعضُ الناشرين المسلمين لا يرعَون أمانةً ولا يؤدُّون حقًّا؟! فبهتَه بجوابه وأسكتَه! وبقي أن أقول: إن الأستاذ أديب أثَريُّ المنهَج، سَلفيُّ المشرَب والهَوى، تأثَّر بالشيخين المحدِّثين الجليلين شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرناؤوط رحمهما الله، ولكن حُبِّب إليه العملُ في تحقيق كتب التصوُّف، وكان يقول: إنها ترقِّقُ القلب، ويراها جزءًا من تراث الأمَّة ينبغي إخراجُه والعناية به، أيًّا كان الموقفُ منه والاختلاف بشأنه! وكنت شرعتُ في مساعدته على مقابلة الأصول الخطِّية لطبقات الصوفية الكبرى لزين الدين المُناوي، حتى وصلنا إلى عبارات فيها غُلوٌّ شديد، وشَطحٌ بعيد، لا يقرُّه الشرع ولا العقل! فاعتذرت إليه وتوقفت عن العمل معه، وتقبَّل عُذري بصدر رحب. رحم الله أبا وائل وجمعنا به في جنَّات النعيم إنَّ العينَ تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقولُ إلا ما يَرْضى ربُّنا: لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل. سيرته وأعماله سيرة موجزة: • ولد الأستاذ محمد أديب بن محمود الجادِر في دمشق عام 1373هـ/ 1953م. • تخرَّج في قسم اللغة العربية بكلِّية الآداب في جامعة دمشق عام 1977م. (ومن زملاء دُفعته عدد من خيار أساتذتنا الأكارم منهم: د. محمد حسان الطيان، ود. يحيى مير علم، ود. علي أبو زيد، ود. محمود سالم محمد، وأ. عدنان عبد ربه وهو الأول على دفعتهم، وأ. أحمد بن سليم الحمَّامي، وأ. عبد الناصر سعيِّد، وأ. غسان كلَّاس). • التحقَ فور تخرُّجه بمكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، واستمرَّ عمله فيه سنتين، متتلمذًا على يد الشيخ شعيب الأرنؤوط رحمه الله. • ثم عمل في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، مدَّة عشر سنوات تقريبًا، ثم استقال. • انتقل للعمل في مَجمَع اللغة العربية بدمشق عام 1992م، فعيِّن أمينًا لقاعة الباحثين في بناء المدرسة العادلية بدار الكتب الظاهرية، التابعة للمَجمَع. • ثم انتقل إلى مقرِّ المَجمَع عام 1998م، وتولَّى أمانة سرِّ عدد من اللجان منها: اللجنة الإدارية، ولجنة المخطوطات وإحياء التراث. • وكان عضوَ لجنة تحقيق تاريخ دمشق لابن عساكر، وشارك في تحقيق أحد أجزائه. • وبقي في عمله بالمجمع إلى تقاعده عام 2013م. • بدأ شغفه في تحقيق التراث عام 1980م، وصدر له أكثرُ من خمسين كتابًا. • توفي بدمشق، فجر الثلاثاء 23 من ذي الحِجَّة 1444هـ، يوافقه 11/ 7/ 2023م. • شُيِّع جُثمانه من مشفى المجتهد بدمشق، وصُلِّيَ عليه بعد صلاة العصر في جامع الإيمان بحيِّ المزرعة، وصلَّى عليه شيخُنا محمد نعيم عِرق سُوسي وألقى كُليمةً في تأبينه، وهو من أصدقائه القُدامى وزملائه في الطلب على الشيخ شعيب، ثم دُفنَ في مقبرة الدَّحْداح. أعماله العلمية: ( مرتَّبةً على حروف المُعجَم ) • الأذكار من كلام سيِّد الأبرار، للنووي يحيى بن شرف (ت 676هـ)، بالاشتراك مع الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه، دار البشائر بدمشق. • الإرشاد والتطريز في فضل ذكر الله وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين والفقراء والمساكين، لعفيف الدين اليافعي (ت 768هـ)، دار الكتب العلمية ببيروت. • أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر، لمحمد جميل الشطِّي (ت 1379هـ)، بالاشتراك مع الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه، دار البشائر بدمشق. • أُنس المَسجون وراحة المَحزون، لصفي الدين ابن البُحتري الحلبي (كان حيًّا 625هـ)، دار البشائر بدمشق، ثم دار صادر ببيروت. • الأوراد المأثورة ومُنتخَب التوسُّلات، لجمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)، دار البشائر بدمشق. • البحر المورود في المواثيق والعهود (العهود الصُّغرى)، لعبد الوهَّاب الشعراني (ت 973هـ)، دار الكتب العلمية ببيروت. • البرق المتألِّق في محاسن جِلِّق، لمحمد بن مصطفى ابن الراعي (ت 1195هـ)، مجمع اللغة العربية بدمشق. • تاريخ دمشق، لابن عساكر (ت 571هـ)، المجلَّد 18، مجمع اللغة العربية بدمشق. • تاريخ الصوفية، وبذيله مِحَن الصوفية، لأبي عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412هـ)، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • تحرير البيان في تقرير شُعَب الإيمان ورُتَب الإحسان، لمحيي الدين ابن عربي (ت 638هـ)، دار الدقَّاق بدمشق. • تذكرة الأولياء، لفريد الدين العطَّار (كان حيًّا 607هـ)، دار المكتبي بدمشق. • التعرُّف لمذهب أهل التصوُّف، لأبي بكر الكلاباذي (ت 380هـ)، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • تعطير المَشام في مآثر دمشق الشام، لجمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)، في خمسة مجلَّدات، دار الكمال المتحدة ودار ابن كثير بدمشق. وقد طُبع بأخَرة وتوفي الأستاذ والكتابُ في التجليد، حتى إنه لم يكحِّل عينه برؤية غلافه الذي نُشِرَت صورته يوم وفاته. • تنوير القلوب في معاملة علَّام الغيوب، لمحمد أمين الكُردي الإربلي (ت 1332هـ)، خرَّج أحاديثه وهذَّبه وزاد فيه نجلُه نجم الدين أمين الكردي، اعتنى به محمد أديب الجادر، دار البشائر بدمشق. • جامع الأصول في أحاديث الرسول، لمجد الدين ابن الأثير الجزَري (ت 606هـ)، بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، ساعده الأساتذة مأمون الصاغرجي، وعدنان عبد ربه، ومحمد أديب الجادر، في ثلاثة عشر مجلَّدًا، دار ابن كثير بدمشق. • جامع الأصول في أحاديث الرسول (قسم التراجم)، لمجد الدين ابن الأثير الجزَري (ت 606هـ)، بإشراف الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، الجزء الخامس عشر (حرف الغين – حرف الياء)، دار ابن الأثير ببيروت. • جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام، لمُسلِم بن محمود الشَّيزَري أبي الغنائم (بعد 622هـ)، في مجلَّدين، دار الصفا ودار ضياء الشام بدمشق. • حالة أهل الحقيقة مع الله، لأحمد بن علي الرفاعي أبي العلَمَين (ت 578هـ)، دار صادر ببيروت. • حكايا الصوفية، لمحمد أبو اليُسر عابدين (ت 1401هـ)، بالاشتراك مع الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه، دار البشائر بدمشق. • خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا، لشهاب الدين الخَفاجي (ت 1069هـ)، تحقيق ودراسة د. محمد مسعود أركين، اعتنى به محمد أديب الجادر، مجمع اللغة العربية بدمشق. • الدرُّ النفيس من كلام الشافعيِّ ابن إدريس، ديوان الصَّفا لأهل الوَفا، لحسين بن مصطفى الحِصْني (ت 1173هـ)، دار البيِّنة بدمشق. [سيُنشَر قريبًا]. • ديوان الجَوهَر النفيس في أشعار الشافعيِّ ابن إدريس، لعبد القادر بن عمر نَبْهان (ت 1331هـ)، قرَّظه: عبد الرزَّاق البَيطار، ومحمد بن محمد المبارك، وأحمد الشِّنقيطي، ومحمد خالد الأتاسي، وأحمد عمر نبهان، دار البيِّنة بدمشق. [سيُنشَر قريبًا]. • ديوان الخُبْزَ أُرُزِّي نصر بن أحمد البصري (ت 330هـ)، دار أمل الجديدة ودار الهلال بدمشق. [ملحوظة: في ضبط لقب الشاعر ستَّة أوجه ذكرها ابنُ خَلِّكان في "وَفَيات الأعيان" 5/ 382، عن مقدِّمة الديوان ص5]. • ديوان سعد الدين ابن العربي (ت 656هـ)، دار الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي بدمشق. [وكنت صوَّرتُ له نسخته الخطِّية المحفوظة في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، من نسخ مكتبة برنستون في أمريكا]. • ديوان محمد سليم الجُندي (ت 1375هـ)، حقَّقه واعتنى به، ولمَّا يُطبَع. • ديوان نجم الدين بن سِوار الدمشقي (ت 677هـ)، مجمع اللغة العربية بدمشق. • رسائل ابن رُشد، لأبي الوليد ابن رُشد الحفيد (ت 595هـ)، قرأه وعلَّق عليه محمد جمال الدين القاسمي، اعتنى به محمد أديب الجادر، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • روض الرياحين في حكايات الصالحين، لعفيف الدين اليافعي (ت 768هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ عدنان عبد ربه، وشاركتُ في فهرسة الكتاب، دار البشائر بدمشق. ثم أُعيد نشره مع تكملته "عجائب الآيات المشتملات على غرائب الكرامات" للمؤلِّف، في دار الفتح بعمَّان، في مجلَّدين. • رياض الصالحين من كلام سيِّد المرسَلين، للنووي يحيى بن شرف (ت 676هـ)، بالاشتراك مع الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه، دار البشائر بدمشق. • زاد المعاد في هدي خير العباد ( فهارس الكتاب )، لابن قيِّم الجوزية (ت 751هـ)، بتحقيق الشيخين شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة ببيروت، وبه اشتَهَر وعُرف قديمًا. • شرح كتاب مواقع النجوم للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي المسمَّى بـ " طوالع منافع العلوم في مطالب مواقع النجوم "، لعبد الله صلاح الدين العشاقي الروحي (ت 1197هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ محمود إيرول قليج، في ثلاثة مجلَّدات، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • الصحيح المختار من رياض الصالحين والأذكار للإمام النووي، اختارها بالاشتراك مع الأستاذ مأمون الصاغرجي، دار البشائر بدمشق. • الصُّلح بين الإخوان في حُكم إباحة الدُّخان، لعبد الغني النابُلُسي (ت 1143هـ)، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • طبقات الأولياء المكرَّمين رضي الله عنهم أجمعين، لشمس الدين السَّخاوي (ت 902هـ)، دار الفتح بعمَّان. • طبقات الشاذلية الكبرى المسمَّاة "جامع الكرامات العَلِىَّة في طبقات السادة الشَّاذِليَّة"، للحسن بن محمد الكوهن الفاسي الشاذلي المغربي (ت 1347هـ)، دار البيروتي بدمشق. • الطبقات الكبرى المعروف بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، لعبد الوهَّاب الشعراني (ت 973هـ)، ومعه الطبقات الوسطى والصُّغرى للمؤلِّف، في خمسة مجلَّدات، دار ضياء الشام بدمشق. • الطيوريات، من انتخاب أبي طاهر السِّلَفي (ت 576هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ مأمون الصاغرجي، دار البشائر بدمشق. • الكامل في التاريخ، لعزِّ الدين ابن الأثير الجزَري (ت 630هـ)، المجلَّدان السادس والسابع، وقد أنجز تحقيقَ الكتاب كاملًا فريقٌ من الباحثين (منهم: د. محيي الدين مستو، ود. عمَّار النهار، والأستاذ أكرم البوشي، والأستاذ مأمون الصاغرجي، والأستاذ عدنان عبد ربه، ود. محمود الحسن)، ويقوم على فهرسته الأستاذ مأمون الصاغرجي، وسيصدر عن دار ابن كثير بدمشق، في نحو عشرين مجلَّدًا. • كنوز الأولياء ورموز الأصفياء، لمُحرَّم بن محمد القسطموني (بعد 1010هـ)، دار المكتبي بدمشق. • الكواكب الدرِّية في تراجم السادة الصوفية، وهو طبقات الصوفية الكبرى، لزين الدين المُناوي (ت 1031هـ)، ومعه الطبقات الصُّغرى المسمَّى "إرغام أولياء الشيطان بذكر مناقب أولياء الرحمن" للمؤلِّف، في ستة مجلَّدات، دار صادر ببيروت. • الكواكب المنيرة المجتمعة في تراجم المجتهدين الأئمَّة الأربعة، لإسماعيل بن محمد العَجلوني (ت 1162هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ أحمد بن سهيل المشهور، دار الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي بدمشق. وهو مشتمل على أربعة كتب هي: عِقْد اللآلئ والمَرجان في ترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان، وتسهيل المَسالك بترجمة الإمام مالك، وتاج الملوك النفيس بترجمة الإمام الشافعي محمد بن إدريس، وعِقْد اللآلئ والزَّبَرجَد في ترجمة الإمام الجليل أحمد. حقَّق الأستاذ أديب ترجمتَي أبي حنيفة والشافعي، وحقَّق الأستاذ المشهور ترجمتَي مالك وأحمد. • اللُّمَع، لأبي نصر السرَّاج الطُّوسي (ت 378هـ)، دار الفتح بعمَّان. • المُختار في مناقب الأخيار، لمجد الدين ابن الأثير الجزَري (ت 606هـ)، بالاشتراك مع الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه، في ستة مجلَّدات، دار ابن كثير بدمشق. • مختصر الدرَّة الفاخرة فيما انتفعتُ به في طريق الآخرة، لمحيي الدين ابن عربي (ت 638هـ)، دار الفتح بعمَّان. • مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل، لابن حزم الظاهري (ت 456هـ)، دار البشائر بدمشق. • مقالات الأدباء ومناظرات النجباء، لعلي بن عبد الرحمن الغرناطي (كان حيًّا 762هـ)، دار البشائر بدمشق. • مكاشفة القلوب المقرِّب إلى علَّام الغيوب، المنسوب إلى أبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ عدنان عبد ربه، دار البشائر بدمشق. • مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار، للحسين بن نصر ابن خميس (ت 552هـ)، في مجلَّدين، مركز زايد للتراث والتاريخ بأبو ظبي. • مناقب أبي حنيفة وتلاميذه أبي يوسف ومحمد رحمهم الله، لمُحرَّم بن محمد القسطموني (بعد 1010هـ)، دار المكتبي بدمشق. • المنبِّهات على الاستعداد ليوم المَعاد، لابن حجَر العسقلاني (ت 852هـ)، دار اقرأ بدمشق. • المَواقف والمُخاطبات، للنفَّرِي محمد بن عبد الجبَّار (ت 354هـ)، دار نينوى للدراسات والنشر بدمشق. • النجوم الزَّواهر في معرفة الأواخر، لشهاب الدين ابن اللبُّودي (ت 896هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ مأمون الصاغرجي، مجمع اللغة العربية بدمشق. • نفحات الأُنس من حضَرات القُدس، للمُلَّا نور الدين الجامي (ت 898هـ)، دار الكتب العلمية ببيروت. • نهاية السُّول في خصائص الرسول محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لمجد الدين ابن دِحية (ت 633هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ مأمون الصاغرجي، دار البشائر بدمشق. • الوحيد في سلوك طريق أهل التوحيد، والتصديق والإيمان بأولياء الله تعالى في كل زمان، لجمال الدين القُوصِي المعروف بابن نُوح (ت 708هـ)، بالاشتراك مع الأستاذ أحمد بن سهيل المشهور، دار الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي بدمشق. وهو آخر ما كان يعمل على تحقيقه، وقد قاربَ الانتهاء، وتوفي وقد سهر إلى الفجر عاكفًا عليه، رحمه الله تعالى وغفر لنا وله. أسرته وشهادات عارفيه أسرته: أخته: مؤمنة بنت محمود الجادر ، ولدت بدمشق عام 1944م، وهي أمُّه الثانية، ومن أحبِّ الناس إليه، تعيش معه في بيته ويلازمها وتلازمه، ويحنو عليها ويرعاها، ولا يخاطبها إلا بما تحبُّ من كلمات تفيض عذوبةً ولطفًا. زوجتاه: زوجته الأولى: أمُّ وائل مَسَرَّة بنت محمد بشير الصيَّاد ، ولدت بدمشق عام ١٩٥٣م، تزوَّجها الأستاذ 1980م. تخرَّجت في كلِّية العلوم بجامعة دمشق، قسم الرياضيات عام 1981م، وعملت معلِّمة سنوات. وله منها أربعة أولاد؛ ثلاثُ بنات وابن. وزوجته الأُخرى: أمُّ المُغيرة نِبال بنت صلاح صُبح ، ولدت بدمشق عام 1975م، تزوَّجها عام 2021م. تخرَّجت في كلِّية الآداب بجامعة دمشق، قسم اللغة العربية عام 2004م، وحصلت على دبلوم تأهيل تربوي 2006م، ثم على الماجستير من قسم البلاغة والنقد 2015م في موضوع (النقد التطبيقي في القرن السادس الهجري) بإشراف الصديق د. شلاش قدَّاح، وتحضِّر حاليًّا رسالةَ الدكتوراه بعنوان (النقد الأدبي في كتب تراجم القرن السابع الهجري في المشرق) بإشراف د. حسين الزعبي. وهي معلِّمة متميِّزة في مرحلة التعليم الأساسي. أولاده: غِفار بنت محمد أديب الجادر ، من مواليد دمشق عام 1983م، تخرَّجت في كلِّية العلوم بجامعة دمشق، قسم إحصاء رياضيات عام 2005م، بتقدير ممتاز مع وسام التفوُّق، ونالت في مراحل دراستها ثلاثَ مِنَح لتفوُّقها، وحصلت على دبلوم تأهيل تربوي 2006م. تزوَّجها المَخبَريُّ الكيميائي مروان خرزم عام 2006م، ولديهما ابنان وابنتان. و غِنى بنت محمد أديب الجادر ، من مواليد دمشق عام 1984م، حافظة لكتاب الله تعالى، تخرَّجت في كلِّية العلوم بجامعة دمشق، قسم أحياء دقيقة عام 2005م، وحصلت على دبلوم تأهيل تربوي 2007م. تزوَّجها الطبيبُ إبراهيم الحِمصي عام 2007م، ولديهما ابنان وابنتان. و مي بنت محمد أديب الجادر ، من مواليد دمشق عام 1988م، تخرَّجت في كلِّية الاقتصاد قسم تجارة واقتصاد عام 2011م، تزوَّجها الأخ خالد ساميَّة المتخصِّص في التجارة والاقتصاد أيضًا عام 2018م، ولديهما ابنان. و وائل بن محمد أديب الجادر ، من مواليد دمشق عام 1990م، حاصل على شهادة معهد كهرباء، تزوَّج عام 2016م الأخت رهف الشيخ، ولديهما ابن وابنة. شهادات عارفيه: ● أبدأ هذه الشهادات بما خطَّته يراعةُ زوجه الفاضلة الأستاذة نِبال بنت صلاح صُبْح : كانت عيشةُ أبي وائل رحمه الله مثلًا فريدًا فذًّا؛ فكان يُؤثِرُ مرضاة الله تعالى وثوابَه، ويشتري الآخرةَ بالدنيا، ويسعى للآخرة سَعْيَها. أديبٌ أريب، مُرهف الحسِّ، رقيقُ الشُّعور، يصل الرَّحِم، يَحْدَبُ على المساكين حَدَبًا شديدًا، يحمل في جوانحه قلبَ أسد، وتسير في عُروقه عَزمةُ مارد، مع رقَّة العاطفة وكثرة البِرِّ بوالدَيه، والحبِّ الشديد لأولاده وأخيه وأخَواته وأولادهم وأزواجهم، والمحبَّة والودِّ لزوجَيه. تفعل الكلمةُ الطيِّبة فعلَها فيه، كيف لا وهو يردِّد دومًا ﴿مَثَلُ كَلِمةٍ طَيِّبةٍ كشَجَرةٍ طَيِّبة﴾، ويقدِّر حُسنَ ردود الأفعال. يُمضي أوقاتًا، مع شدِّة حِرصه على الوقت، يُصلح بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجته، وكلَّما ألمَّ بقريب أو صديق أو جار أو أحد المعارف ما يملأ القلبَ غيظًا، ويُسخِنُ الفؤادَ حنَقًا، لجأ إليه ليستمعَ إلى نُصحه، ويُصِيخَ إلى قوله؛ فأحاديثُه وقصصه ومواساته وإرشاداته تغرسُ السَّكينة وتشدُّ العَضُد. وفي كلِّ مجلس يتزاحمُ الحاضرون حوله؛ الكبارُ يريدون الاستئثارَ بأحاديثه الراقية الحاثَّة على التواصي بالصبر والمَرحَمة، أو الباعثة على الضَّحك من الأعماق للترويح عن القلوب. والصِّغارُ يريدون كلمةً تعزِّز من قيمة ذواتهم، وتحفِزُهم إلى العمل، ويرغبون بابتسامة تُشعِرهم بأن لهم مكانةً في قلب أديب. وفَّقَه الله للعمل الصالح، وحبَّب إليه تطبيقَ السنَّة النبوية الشريفة في شؤون حياته كلِّها: في الأكل: يأكل ما حَضَر، وما عابَ طعامًا قطُّ. في الشُّرب: يحبُّ الشَّرابَ الحُلوَ؛ لأن المُصطفى صلى الله عليه وسلم كان يحبُّه. في اللباس: يَلبَسُ ما سَتَر، ولا يتخلَّى عن الثَّوب حتى يَبْلى ويَخْلُق، وكم لبِسَ الثَّوبَ بعد رَفْئِه! في الصلاة: إذا ابتلَّت النعالُ عند اشتداد المطر صلَّى في رَحْله، وإذا اشتدَّ الحرُّ أخَّر صلاةَ الظهر حتى الإبراد. في صلاة الجمعة: يغتسل ويتطيَّبُ بطِيب أهل بيته، ويبكِّر إلى المسجد. في الطريق: يعطي الطريقَ حقَّه، ويسير في الظلِّ. في الكلام: كان رطبَ اللسان بذِكر الله، يُكثر من التهليل والتسبيح. في الغضب: يكظِمُ غَيظَه، ويُكثر من الاستغفار والتَّرجيع [قول: إنا لله وإنا إليه راجعون]. في العِتاب: يُخلص النصحَ ويعِظُ الموعظةَ الحسنة. في مقابلة الجهل: يلزَمُ الحِلمَ، ويدعو بالصَّلاح. في مجلسه: لا يكاد يُخليه من فائدة نفيسة، أو نادرة غريبة، أو فكرة مفيدة، أو نكتة لطيفة. في خُلقه: كان ذا خُلق رفيع، شَفوقًا رحيمًا عَطوفًا، وكان يُصْفِينا كلَّنا الودَّ، ويَمحَضُنا جميعًا الوِداد. في أعماله اليومية: يحرِصُ على الطاعة والعبادة، والسَّماحة والبِرِّ، والانكباب على الكتب مطالعةً وتحقيقًا. وكان يلتمس العُذرَ للجميع؛ فإن لم يكن عُذرٌ التمسَ أعذارًا، وقال: لكلِّ إنسان ظروفُه. وكان يحثُّنا على البِرِّ، فبِرِّي بأمِّي مقدَّم على حقوقه، وبِرُّ أولاده بأمِّهم مُقدَّم على بِرِّه هو؛ لأنها الأمُّ وحقُّها أعظم. وزواجه الثاني الذي كان يبحث عنه وتَتُوق إليه نفسُه، أراده أن يكونَ وِئامًا وأُلفةً وجمعًا للأسرة، ولا يقول عن الضَّرَّة إلا كلمة أُخت؛ أُختُك أمُّ وائل، أُختُك نِبال. وبيتُه الأوَّل له الأوَّلية في كلِّ شيء، وهذا بالاتفاق والتراضي، بل كان ممَّا يزيد تمسُّكي به، والحِرص على صُحبته، وكان يقدِّر لي ذلك أيَّما تقدير. وقد أحبَّ الموسيقا الراقية، وله ذوقٌ رفيع في اختيار اللوحات الفنية الجميلة وتعليقها. كان وكان، والآن صار إلى رحمة الرحيم الديَّان؛ مَن كان يرجو رحمتَه ويخشى عذابَه، ويتضرَّع إليه أن يتقبَّل منه عملًا أو كتابًا، أو جملةً أو كلمةً أو حرفًا. أصبحتُ أرملةً أنا وأختي أمُّ وائل، مثلَ اللَّواتي كان يتفقَّدُ أحوالهُنَّ، ويسأل الله لهُنَّ السَّتْر في الدارين. فيا الله اغفِر لزوجي أبي وائل وارحَمه، واعفُ عنه وعافِه، وأكرِم نُزُلَه، ووسِّع مُدخَلَه، واغسِله بماءٍ وثلج وبَرَد، ونقِّه من الخَطايا كما يُنقَّى الثَّوبُ الأبيض من الدَّنَس، وأبدِله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وقِهِ فتنةَ القبر وعذابَ النَّار، واجمَعنا به في جنَّات النعيم، مع النبيِّين والصدِّيقين. وألهِمني اللهمَّ التجلُّدَ والصبر، وأعنِّي على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، ووفِّقني للسَّعي لآخرتي، واجعلني من المَقبولين. ● وكتب الأستاذ الشيخ أحمد بن سليم الحمَّامي في رثائه: رحم الله الأستاذ المحقِّق محمد أديب الجادر أبا وائل رحمةَ الأبرار الأخيار. كان الوفاءُ شيمةً له في زمن قلَّ فيه الوفاء، بسَّامَ المُحَيَّا، جميلَ المنطق، حلوَ العبارة، يُضفي على المجلس والمُجالِس البهجةَ والسرور. أحبَّه الناس وأحبَّهم، يسعى في خدمة الآخرين؛ باذلًا معروفه بأيسر طريقة دون مَنٍّ ولا أذى، وترك في نفوس أصدقائه وأحبابه أجملَ انطباع، وتراه على طوله الفارع تحسَبه فظًّا غليظ القلب، وإذا به عُجِنَ باللطفِ ودماثةِ الخُلق، مع سرعة بديهة وحُسن جواب. ما رأيته أغضبَ أحدًا، وإن كان فعل كان يسارع لإرضائه والمبادرة بالاعتذار، نفسُه كانت هيِّنة عليه، في سبيل إرضاء مَن حوله وإسعادهم. كان كثيرَ الإنتاج في عالم الكتب والمخطوطات. أسأل الله أن يثقِّلَ ميزانه بما بذل، وأن يجعلَ ما أصابه تكفيرًا لسيِّئاته، ورفعًا لدرجاته، وأن يرحمَنا إذا صِرنا إلى ما صار إليه. عزائي لأهله وذويه وأصحابه، وأعزِّي نفسي على فَقْدِ صاحبٍ من أعزِّ أصدقائي وأصحابي، ومن أقربهم إلى نفسي. بل إنني أقول: إننا على بُعد الديار والمنزل ما كنَّا نفترق بأرواحنا ورسائلنا. ثم إني أقول كما قال الأوَّل: وما كان قيسٌ هُلكُه هُلكَ واحدٍ ولكنَّه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما اللهم ارفع درجته في المَهديين، واخلُفه في عقبه في الغابرين، واجعله من ورثة جنَّة النعيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكلُّ أناسٍ سوفَ تدخُلُ بينَهُم دُوَيهِيَةٌ تصفَرُّ منها الأنامِلُ ● وكتب أستاذنا د. محمد حسان الطيَّان : صديق العمر الأستاذ المحقِّق محمد أديب الجادر في ذمَّة الله. رحمك الله أبا وائل، ما كان أجملَ وُدَّك، وأطرفَ مجلسَك، وأوفى صحبتَك. لم تغيِّرك الأيام على تباعُد المكان والزمان. كنت الأخَ والصديق والصاحبَ الأمين، والصالحَ البارَّ الكريم. ولا أزكِّي على الله أحدًا. أكرم الله نزُلَك، وجعلك في علِّيين. وجزاك عمَّا قدَّمتَ وأحييتَ من تراث الأمَّة خيرَ الجزاء وأوفاه. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ● وكتب الشيخ د. أحمد فؤاد شُمَيس : محمد أديب الجادر أبو وائل رفيق العمر، وصديق الدرب، والأخ الوفي.. مضى اليوم إلى ربِّه، راضيًا مرضيًّا، بهدوئه ونقائه وصفائه. أمضى عمره في العلم والتعليم، وله بصمةٌ واضحة في التحقيق والتدقيق؛ فقد أخرج الكثير من الكتب المفيدة، التي يحتاج إليها طلَّاب العلم، بل يتلقَّفُها كبار العلماء. كان حُرًّا أبيًّا صادقًا، لم يخَف ولم يجبُن ولم يُهادِن ولم يُمالئ، بل بقيَ رجلًا يوم عزَّ الرجال. كانت بيني وبينه خاصيَّات لا يعرفها إلا القليل. رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنَّاته. ● وكتب الأخ الحبيب الشيخ محمَّد وائل الحنبلي : رحمةُ الله وبركاتُه عليك أيها الأستاذُ المحقِّق محمد أديب الجادر. خلالَ دراستي في الثانوية كنتُ أُكثِرُ التردُّدَ إلى المكتبة الظاهرية أيامَ الامتحانات، فإذا أردتُّ الخروجَ عن جوِّ المذاكرة والمراجعة دخلتُ المكتبةَ العادلية، وكان الدخولُ إليها خاصًّا بالباحثين وطلَّاب الدراسات العليا، وهناك عرَفتُ أستاذًا تهابُه - من بُعدٍ - العَين، ولكن ما إنْ تُجالِسه حتى تألفه النفسُ ويذهب عنها البَين، فكان أوَّلَ سؤال سألَنِيه رحمه الله: مَن شيخُك؟ وهو سؤالٌ يدلُّ على ذكاءٍ وفِراسة. فقلتُ له: المفسِّر الأديبُ الشيخ أحمد نصيب المحاميد ، فقال: «هذا شيخنا كلُّنا، وهو بقيَّةُ السلف الصالح في بلدتنا»، ثم صار بيني وبينَه وُدٌّ وأُلفة. ومضَت الأيامُ وصِرتُ أتردَّد إلى مَجمَع اللغة العربية بدمشقَ؛ لأشتريَ مجلَّتَه لأحدِ شيوخي الهنود المحدِّث الفقيه حبيب الله بن علي قُرْبان المَظاهري، أو للاطِّلاع على مكتبتها والمخطوطات المحفوظة فيها، فكان الأستاذُ الجادر هو الذي يُساعدني في ذلك، بل ويُقدِّم لي بعضَ الكتب والمطبوعات هديةً، ثم كان السببَ في توطيد العَلاقة والمحبَّة بأمين مكتبة المَجمَع إذ ذاك الأستاذِ خير الله الشريف حفظه الله. وفي إحدى ليالي دمشقَ السَّالفةِ الأنيسة: زارني كوكبةٌ من أهل التحقيق والعلم في داري بحيِّ العُقَيبة بدمشق، فكان الأستاذُ الجادر أحدَهم، وكانت ليلةً لا تُنسى، وممَّا قاله لي ليلتَها: «أنا أُحبُّ البيوتَ القديمة، وأشعر فيها ببركة الصالحين الذين سَكَنوها، والعلماء الذين كانوا فيها». ثم توالت الزياراتُ العائلية في بيته، وكذلك خلالَ عملِه بالمَجمَع في غُرفة مكتبه. أقول هذا الكلامَ موقنًا بأني لم أكن في مستوى صُحبته سِنًّا ومعرفة، وإنما يَستشِفُّ القارئُ ممَّا سبق مدى أخلاقه النبيلة، وطِيب سَجاياه الحَميدة. كان بحقٍّ أُنسًا لمُجالِسه، ذا مِزاح لطيف، يَشُوبه صوتٌ أجشُّ، قد لا يُدرك مُستَمِعُه أنه يُلاطفه أو يُمازحه ما لم يُدرِك طبعَه. وعند صدور تحقيقي لكتاب: "شمائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم" أظهر سرورًا وفرحًا، وأثنى عليه أمامَ والدي ثناءً عاطرًا، وأنا على ثقةٍ أنه ما فعل ذلك إلا لرفع عَزيمَتي واستنهاض هِمَّتي، وهذا من تواضُعه وسلامة صدره، من الحسد وآفات أصحاب المِهنة الواحدة! الكلُّ يعرِفُ تفرُّغَه للتحقيق ونشر التراث، أحبَّ كتبَ التراجم والتواريخ، وقد كتب عددٌ من الأساتذة ترجمةً وتعريفًا به، وبالكتب التي اعتَنى بها، ولكنِّي أقول متمِّمًا لهم: إن تفرُّغَه للبحث العلمي لم يكن ليَصرِفَه عن حضور صلاة الجماعة قدرَ استطاعته، ولم يكن عملُه في تحقيق التراث يُبعده عمَّا يجري في بلدِه خاصَّةً، وعن أحوالِ المسلمين عامَّةً، كان والله يعيش بألم وحُرقة لِما يَمرُّ على الأُمَّة من مِحَنٍ وبلاء، كان يُخفي تحت بسطة جسدِه وجُشَّةِ صَوتِه قلبًا رقيقًا، ورُوحًا لطيفة، كان يتمثَّل في ذلك حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «المُسلم أخو المُسلم»، لا يعرفُ تبلُّدَ المشاعر، ولا وَهْنَ الأحاسيس. أبوحُ بهذا الكلام وهو الوحيدُ الذي أخبرتُه بعَزْمي على الخروج من دمشق، ثم جاءني بعد صلاة الجمعة إلى داري بحيِّ العُقَيبة، والدمعةُ والله في عينَيه، فودَّعَني وودَّعتُه، وكان ذلك آخرَ اجتماعٍ بيني وبينَه، في منتصف شهر رجبٍ سنة 1432هـ. وأقول اليومَ في كلمة رثائه: «اللقاءُ والموافاةُ يومَ القيامة، وفي أعالي الجنَّة إن شاء الله تعالى، فما أحبَبتُك إلا لله، ولا أحبَبتَني إلا لله، رحمك الله، وجعلك في جنَّات النعيم أبا وائل». وختامًا أقول لأبنائه وأسرته: هنيئًا لكم ذاك التراثُ المطبوعُ الذي تركه والدُكم، وأغبِطُكم على تلك السُّمعة والمكانة التي عُرفَ بها أبوكم، وأحسنَ الله عزاءَكم، وأعظم أجرَكم، وغفر لميِّتكم، وألهمكم الصَّبرَ والسُّلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكلُّ الشكر للأستاذ المُبدِع الوفي أيمن ذو الغنى حفظه الله تعالى، الذي أتاح لي وأكرمني بالكتابة عن فقيدنا رحمه الله. ● وأبَّنَه شيخُنا محمد نعيم عِرق سُوسي قبيل الصلاة عليه في جامع الإيمان، بمَرثِيَة واعِظة، وممَّا قاله فيها: أوصانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا صلَّينا على الميِّت أن نُخلصَ له الدعاء، ومَن نصلِّي عليه الآن هو أخٌ لنا وحبيب إلى قلوبنا، وصديقنا وصاحبنا وجارنا، وعرفناه منذ مدَّة طويلة. عاش حياته كلَّها مع العلماء الكبار، مع علماء الإسلام في مؤلَّفاتهم ومصنَّفاتهم، وذِكر أخبارهم وحكاياتهم وقصصهم، وعاش حياةً نظيفة وجميلة بصحبة هؤلاء الكبار، كانت حياته كلُّها موفورةً على تحقيق هذه الكتب المفيدة النافعة، التي أسأل الله أن يجعلَها في ميزان حسناته. طبعًا نحن لا نزكِّي على الله أحدًا، ولكن نقول ما نعرفه من هذا الرجل الطيِّب الفاضل، الذي عاش هذه الحياة المباركة، وترك أولادًا صالحين بفضل الله تعالى. وكان ممَّن يُلازم المسجد، ويحافظ على صلاة الجماعة في المسجد، وخاصَّة صلاة الفجر؛ كان لا يدَعُ صلاة الفجر في هذا المسجد أبدًا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتُم الرجلَ يعتاد المساجد فاشهَدوا له بالإيمان ) [حديث ضعيف]، وقال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يُظلُّهم الله في ظلِّ عرشه، يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه) وذكر منهم: ( رجل قلبه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعودَ إليه ). فأسأل الله تعالى أن يكون هذا عزاءنا في هذا الرجل الفاضل، في أخينا الأستاذ محمد أديب الجادر رحمه الله تعالى، أسأل الله أن يجعلَه في علِّيين، وأن يجعلَه مع النبيين والصدِّيقين، والشهداء والصالحين، وأن يُكرمَ أهله وذويه بالصبر والرضا والسُّلوان، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين. وأقول لهم: أعظمَ الله أجركم وغفر لميِّتكم، وأحسن عزاءكم. ● وأختم هذه الشهادات بكلمة مُبينة كتبها أستاذنا المحقِّق المؤرِّخ الأديب إبراهيم الزيبق قال فيها: سأفتقد صوتكَ أبا وائل.. لم تعُد تجمعنا اللقاءاتُ إلا على فترات متباعدة، ولكنَّ صوتك كان يتخطَّى المسافات، ويدخل عليَّ في عُزلتي، وأوَّل ما يصلُ إلى أذني منه كلمةُ "كيفك" بصوتك الأجشِّ، تتبعها بضحكتك المجَلجِلة. كان في صوتك على خُشونته دِفءُ الصداقة الحميمة وعذوبتُها، وتسترسلُ في الحديث تتسابق الكلماتُ تريد أن تعرفَ عنِّي كلَّ شيء في فترة انقطاعنا؛ الأولاد وصحَّتهم واحدًا واحدًا، وأحوالي وماذا أكتب. وتضحكُ من مراوغَتي في الجواب عن سؤالك الأخير. كنتَ أكثرَنا شبابًا وقوة، ونحن على أعتاب السبعين، وكنتَ أصدقَنا ابتسامة، وبرغم ملامحك الصارمة كان لك قلبٌ في وداعة طفل. ولا تحلو مجالسُنا إلا بحضورك البهيِّ، ونِكاتك التي تنسابُ من فمك كشلَّال عذب، تجعلنا أحيانًا نخرج عن وَقارنا، ونسترسل في الضَّحك، وأنت هادئ لا تكاد تبتسم. وكم كنتَ تحتمل على سبيل المِزاح من جوارح الكلام ما لا يحتمل غيرُك أقلَّه؛ ضَنًّا بالصداقة، ولا تفارق شفتَيك الابتسامة، وقلبَك الرضا، على شدَّة حساسيتك ورهافتك. ويوم كتبتُ كلمةً في رثاء أخينا بسام الجابي ، هتفتَ لي مُثنيًا عليها، وقلتَ مُداعبًا: هل ستكتب رثاءً في كلِّ أصدقائك؟ قلتُ: افعَلها أنتَ ولا عليك. وضَحِكنا. وها أنت قد فعلتَها. وما شعَرتُ مرَّة بثِقَل القلم في يدي حين أكتب، كما أشعر الآن! صدِّقني لا يُطاوعني قلمي أن أقولَ: رحلتَ! فأنت دائمًا بيننا بقامتك الفارعة، وابتسامتك الودود، وقلبك الطيِّب. رحمك الله رحمك الله. تمَّت كتبها: أبو أحمد المَيداني أيمن بن أحمد ذو الغنى الرياض 27 من ذي الحِجَّة 1444هـ ● نُشِرت مختصرةً في جريدة ( البصائر ) الجزائرية الأسبوعية العريقة، العدد رقم (1175)، بتاريخ الأحد 28 من ذي الحِجَّة 1444، 16 تموز/ يوليو 2023، الصفحة 17. وهي صحيفة ورقية توزَّع في أرجاء الجزائر، تصدُر عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتُعَدُّ لسانَ حال الجمعية الناطق. وكان أسَّسها العلَّامةُ المجاهد عبد الحميد ابن باديس عام 1354هـ/ 1935م، أي قبل تسعين عامًا، رحمه الله تعالى. مصادر الترجمة: ♦ مراسلات مع زميلَيه في الطلب والعمل، ورفيقَي دربه، وشريكَيه في كثير من كتبه، الأستاذين مأمون الصاغرجي وعدنان عبد ربه بارك الله فيهما. ♦ ترجمة ذاتية مختصَرة للمترجَم له، في رسائلَ صوتية أرسلها إلى صديقنا الأستاذ المؤرِّخ أحمد العلاونة بطلب منه، وَقَفَني عليها مشكورًا. ♦ فهارس مكتبة شيخنا عبد العزيز ابن قاسم، زوَّدني بها أخي الشيخ الحافظ الجامع وئام بدر، جزاه الله خيرًا. ♦ التواصل مع زوجه الفاضلة الأستاذة نِبال بنت صلاح صُبْح، وولدَيه الكريمين ابنه وائل، وابنته غِنى وفقهما الله. الأستاذ محمد أديب الجادر رحمه الله تعالى في دار الكتب الظاهرية بدمشق (المدرسة العادلية) عام 1994م من اليمين: الأساتذة نادر شرابي، عدنان عبد ربه، أديب الجادر، د. عادل دياب وفي الخلف: أيمن ذو الغنى، د. فارس علاوي إهداء بخطِّ الأستاذ محمد أديب الجادر لكاتب الترجمة في معرِض الكتاب بالرياض، جُمادى الأولى 1436هـ (آذار 2015م) من اليمين: أيمن ذو الغنى، أديب الجادر، الشيخ أحمد الحمَّامي، الشيخ نظر الفاريابي
التأثر والتأثير هكذا ضاعت المسألة الاستشراقية أو الفكر الاستشراقي بين هذين الاتجاهين، التأثر والتأثير، فأضحت تبحث عن الخط الوسط بينهما فلا تكاد تجده إلا لدى بعض المتأخرين، الذين تعمقوا في دراسة الاستشراق، وربما درس بعض هؤلاء المتعمقين على مستشرقين فخالطوهم وعرفوا عنهم مواقفهم. وهناك نماذج يمكن سردها من هذه الفئة المتوسطة من النقاد، لولا أنه يخشى أن تحسب على أنها أميل إلى الفئة المتأثرة منها إلى الفئة الرافضة لفكر الاستشراق؛ ذلك أنه ثبت أن معظم الدارسين على المستشرقين لابد أن يتأثروا إيجابا بهم من قريب أو بعيد [1] ، وأن لم يتأثر بعضهم بالفكر الاستشراقي تأثر بالمنهجية التي يسير عليها الاستشراق في دراسته للإسلام، ويرى بعض الكتاب هذا التأثير من مسوغات سعي اليهود في الغرب والشرق للسيطرة على مراكز الدراسات الاستشراقية في الجامعات الأجنبية [2] . يدخل هذا القول في الأحكام التعميمية التي افترضت قوة تأثير الاستشراق على الطلبة المسلمين، لا سيما منهم من لديه أزمة ثقة بثوابته دون النظرة العكسية من قِبَل طلبة مسلمين آخرين، لا تظهر عليهم عوامل أزمة الثقة بهذا الدين، فيبلغونه للآخر ويسعون بهدوء إلى تقديمه إلى هذا الآخر من خلال الحوار الهادئ في قاعات المحاضرات وأروقة الجامعات، والمقالات والبحوث في الدوريات والكتب [3] ، ونتيجةً لذلك يبرز تأثُّر المستشرقين وغيرهم بالإسلام، كما يؤثِّرون في المسلمين [4] . مع عدم إغفال هذا البعد في التأثُّر، ومع عدم إغفال الأقوال السيئة عن الإسلام من قبل كثير من المستشرقين، ومحاولة إقصائه باعتباره مؤثرًا في حياة أتباعه، وبالتالي حياة الآخرين [5] ، فإن النظرة من وجه واحد؛ هو الوجه السلبي للاستشراق، قد يُضفي على الاستشراق والمستشرقين في موقفهم من الإسلام قوة في التأثير غير عادية، لا يقوى المسلمون على اختراقها، وهذا موقف فيه مِن التهويل ما يستحق المراجعة وإعادة النظر، لا سيما مع وجود شواهد حية لهذا الجانب من التأثُّر الإيجابي يمكن رصدها في حياة بعض المستشرقين. الصورة "ليست قاتمة تمامًا؛ إذ من القديم كان بعض الأوروبيين قادرين على بلوغ نظرة أكثر توازنًا، لكنهم كانوا دائمًا قِلَّةً، وكانت لهم إخفاقاتهم، لقد حاولت هذه الحفنة من الناس تصحيح الأخطاء التي وقع فيها معاصروهم، والارتفاع فوق مستوى الرأي الذي نقل إليهم، وبكل تأكيد علينا الآن أن نشجع هذا التراث المتسامح، المتراحم والشجاع" [6] . [1] انظر: مُحمَّد الدسوقي. الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، المنصورة: دار الوفاء، 1415هـ / 1995م، ص 52 - 53، و156 - 157. [2] انظر: عبدالقهَّار داود عبدالله العاني: الاستشراق والدراسات الإسلامية، عمَّان: دار الفرقان، 1421هـ / 2001م، ص 11. [3] انظر، مثلًا، تأثير الشيخ مُحمَّد حسنين عبدالرزَّاق وغيره من علماء العربية على المستشرق هاملتون جب لدى: ناصر عبدالرزَّاق الملَّا جاسم، الإسلام والغرب: دراسات في نقد الاستشراق، عمَّان: دار المناهج، 1423هـ / 2004م، ص 171 - 172. [4] انظر، مثلًا: مكارم الغمري: مؤثِّرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1412هـ / 1991م، 328 ص، (سلسلة عالم المعرفة؛ 155)، وانظر، أيضًا: كاتارينا مومزن: جوته والعالم العربي / ترجمة عدنان عبَّاس علي، مراجعة عبدالغفَّار مكاري، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1415هـ / 1995م، 384 ص، (سلسلة عالم المعرفة؛ 194). [5] انظر: محسن جاسم الموسوي، الاستشراق في الفكر العربي، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 1993هـ، 206 ص. [6] انظر: كارين آرمسترونغ. الإسلام في مرآة الغرب: محاولة جديدة في فهم الإسلام؛ مرجع سابق، ص 19.
مختصر الصحيحين بلفظ مسلم في الأحاديث المتفق عليها لوليد الحمدان صدر حديثًا كتاب: "مختصر الصحيحين بلفظ مسلم في الأحاديث المتفق عليها" ، تأليف: د. "وليد بن عبد الرحمن الحمدان" ، عن : "دار المحدِّث للنشر والتوزيع" . وهذا المختصر هو اختصار لأحاديث كتابي صحيح البخاري ومسلم، أصح كتب السنة النبوية، وقد اشتمل على جل أحاديثهما، وهي الأحاديث الأصول، التي تدور عليها غالب أحكام الشريعة ومسائلها. وقد اشتمل على ثلاثة كتب: الكتاب الأول: جمع فيه ما رواه الشيخان - البخاري ومسلم-، سواء في ذلك ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معًا - جميع المتن أو غالبه أو اختصره أحدهما أو لم ينكر لفظه مع الاتفاق على الصحابي - وهو الموصوف بـ (المتفق عليه) على اصطلاح جمهور المحدثين، فإنهم لا يطلقون الاتفاق إلا على إخراج إسناده ومتنه معًا (النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر 1/٢٩٨)، وهو غالب ما أثبته الجامع في أصول أحاديث هذا الكتاب، أو ما اتفقا على متنه دون إسناده، وذلك عند اختلاف الصحابي، مع التنبيه على ذلك، وقد توسع في مواضع قليلة فأثبت أحاديث لم يتفقا على متنها إلا في بعض ألفاظها أو معانيها، ورأى من المناسب إلحاقها به، وقد ميزها بحرف (م) بجانب ترقيم الحديث، مع التنبيه على الاختلاف في ذلك، تم إن الكاتب ألحق بأحاديث الأصل بعض الشواهد والروايات، وما أشار إليه بحرف (م) فهو من رواية مسلم مما انفرد به عن البخاري، وما أشار إليه بحرف (خ) فهو من رواية البخاري مما انفرد به عن مسلم. ومنهجه في الاختصار: • اختار لفظ الحديث من صحيح مسلم، ثم بحث عن أقرب الألفاظ إليه من صحيح البخاري، وجعلها الرواية المعتمدة وقارن بينها وبين بقية روايات الحديث في صحيح مسلم وصحيح البخاري، فأثبت ما اتفقوا عليه من الألفاظ وما اختلفوا فيه مما له أثر في المعنى والأحكام، وقد اقتصر على بعض الاختلافات والروايات في هذا المختصر، وتوسع في أصله وهو ((الجامع المختصر لأحاديث الصحيحين)). • اختصر في الروايات والزيادات في الغالب ولهذا أدرجها بعد الأحاديث الأصول، وأما الأحاديث الأصول فنادرًا ما اختصرها. • وإذا قال: وفي رواية، فهي رواية تابعة للحديث قبلها، فإن كان الحديث قبلها متفقًا عليه فالرواية كذلك. • وألفاظ أصول أحاديث هذا الكتاب هي ألفاظ الإمام مسلم في صحيحه، وما وضعه بين القوسين (...) فهو لفظ انفرد به مسلم أو خالف فيه لفظ البخاري. • وسلك في ترتيبه ترتيب المنذري في مختصره لصحيح مسلم؛ في كتبه وأبوابه في الغالب، ووضع لأحاديثه أرقام صحيح مسلم المطبوعة. الكتاب الثاني: جمع فيه أحاديث انفرد البخاري عن مسلم بإخراجها. الكتاب الثالث: جمع فيه أحاديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجها. ووضع لأحاديث هذا المختصر أرقام صحيح مسلم المطبوع، ولأحاديث البخاري أرقام صحيحه المطبوع، وهي أرقام طبعة عبد الباقي. ولا يذكر في أحاديثه إلا ما كان مسندًا من الأحاديث والآثار سواء كانت مرفوعة أو موقوفة، وما قال البخاري في إسناده: وقال فلان، وهو من شيوخه، جعله في حكم المتصل، وفي مقدمة صحيح مسلم آثار لم يذكرها، وإنما ذكر المرفوع، مع الإشارة إلى المعلقات نادرًا. والذي دعاه إلى تقسيمه إلى الثلاثة كتب كون ذلك مفيدًا للحافظ، ومعينًا لطلبة العلم على الاستذكار. وقد راعى الكاتب أن تكون الجادة واحدة في تقريب الصحيحين فجعل ترتيب المتفق عليه متوافقًا مع ترتيب المنذري في مختصره لمسلم. وقد قسم هذا المختصر إلى اثني عشر جزءًا تيسيرًا على الحافظ، وليكون مقسمًا على أشهر السنة. ود. "وليد بن عبد الرحمن بن عبد الله الحمدان" من مواليد بلدة البير من قرى المحمل- شمال مدينة الرياض عام 1392هـ، حصل على الشهادة الجامعية من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عام 1415 هـ. • حصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عام 1418 هـ، وكان موضوع رسالة الماجستير: "الإتلاف المشروع في الفقه الإسلامي" ، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تخصص: فقه وأصوله، قسم الدراسات الشرعية، عام 1422هـ، وكان موضوع رسالة الدكتوراه: دراسة وتحقيق لكتاب "التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب" ، ومختصر ابن الحاجب هو: "جامع الأمهات" ، ومؤلفه هو: ابن الحاجب، ومؤلف "التوضيح" هو: العلامة خليل بن إسحاق المالكي المتوفى سنة 776هـ، وكان نصيب الباحث من الكتاب هو: من باب سجود السهو من كتاب الصلاة إلى آخر كتاب الزكاة. • عمل محاضرًا ثم أستاذًا مساعدًا بكلية المعلمين بتبوك. • عين رئيسًا لقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بتبوك. • عمل أستاذًا مساعدًا بجامعة الملك سعود بالرياض، كلية التربية البدنية والرياضة. • عين أستاذًا مشاركًا في ربيع الأول من عام 1439 هـ. من مؤلفاته: • "جامع الصحيحين" . • "فضل وأعمال عشر ذي الحجة وأيام التشريق (ورقات أصولية فقهية)" . • "الفتوى بين المفتي والمستفتي" . • "نفائس المجالس (قواعد وفوائد فقهية وأصولية من دروس فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن غديان رحمه الله)" . • "مقدمة الجامع لأحاديث الأحكام وبيان شيء من عللها" . • "الجامع لأحاديث الأحكام وبيان شيء من عللها (الجزء الأول)" . • "المقدمة في النحو والصرف" . • "الإمام البخاري رحمه الله وتصرفه في صحيحه (شواهد من الصحيح)" . • "التأسيس لقواعد أصول الفقه" . • "فتوى المقلد" . • "الترخص بأقوال أهل العلم" .
أعظم كتب الشريعة نفائس الإملاء شَرحُ ابن عقيل، مَنْ منكم لا يعرفه؟ الكل يعرفه، ومن أمعنَ النظر فيه وجد أنَّ ابن عقيل يتموَّج في شرحه كالبحر، وقد شُرحت الألفية بأكثر من مائة شرح كلها في كِفَّة وشرح ابن عقيل في كِفَّة، وقد جاء الشاطبي لينافس ابن عقيل ومثله الأشموني وابن هشام والمكودي وكذلك ابن بونا في طُرَّتِه؛ لكن تميَّز شرح ابن عقيل بالسهولة والعذوبة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد كتب الله لهذا الشرح شهرةً واسعةً وخلودًا منقطع النظير، ورغم موسوعية شرح الشاطبي، ودقة طُرَّة ابن بونا، وجمال تطريز ابن هشام، إلا أن الله كتب لشرح ابن عقيل الذيوع والانتشار، فلا تكاد تُذكَر ألفية ابن مالك إلا ويُذكَر معها شرح ابن عقيل، فهو بحقٍّ كما قال أبو حيان قاضي شريعة النحو في عصره: "ما تحت أديم السماء أنْحَى من ابن عقيل". لكن ما أريد أن أحدثكم به الآن أن هذا الشرح النفيس لم يكن إلا إملاءً في بعض المجالس النحوية، نصَّ على ذلك البدر العيني وغيره، فكيف لو كان ابن عقيل تفرَّغ لهذا الشرح وكتبه كتابة مُدقِّق؟ وأعظم كتاب جامع في تفسير القرآن تفسير الإمام الطبري بإجماع الأمة كان إملاء، فقد روى الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة -يعني: أن عنده من العلم في التفسير ما يملأ ثلاثين ألف ورقة - فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فلما رأى فتور هِمَّتِهم أملاه عليهم في ثلاثة آلاف ورقة، فكم الفرق بين ثلاثة آلاف وثلاثين ألف ورقة؟! إنه عشرة أضعاف، وهو الآن يقع في ثلاثين مجلدًا، ولو كانت هِمَّةَ طلابه عالية لكان الثلاثون مجلدًا ثلاثمائة مجلد! فكانَ يبدأ في تفسيره كالبحر وهم يكتبون فكانت حصيلة هذه المجالس التفسيرية كتابه «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» وقد أملاه على تلاميذه من سنة 283 إلى سنة 290هـ. وعلى ذكرِ ابن جرير إمام المفسرين الطبري وتفسيره العظيم فقد كنتُ أطالع في آثار البشير الإبراهيمي فوجدته يتأسَّف ويتحسَّر على مجالس الشيخ محمد عبده التي لم تدوَّن ؛ إذ يقول: "وكان من إصلاحاته العلمية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان رحمه الله -يقصد محمد عبده- وهو مَنْ هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عباراته ولكن السامعين لتلك الدروس -على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة، وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها مما لم تنطوِ عليه حنايا عالم، ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامُهم لتقييد تلك الدروس إلا قليلًا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد...انتهى كلامه". وقفتُ مستغربًا أمام كلام العلَّامة الكبير حبر الجزائر وبحرها ومُجدِّد دينها البشير الإبراهيمي وهو يتحسَّر أسفًا على عدم تقييد علم الشيخ محمد عبده، وقد وصفه بأوصاف ما أظنه وصف أحدًا سواه بها. لقد كان يتمنى أن تكون دروس الشيخ محررةً منقولةً من طلابٍ يكتبون في الدرس ما يسمعونه من أستاذهم على طريقة الإملاء. وقد عددتُ للإمام الإبراهيمي في آثاره ما يقرب من عشرين موضعًا يُثني على الشيخ محمد عبده، وأطلق عليه لقب إمام المصلحين، ولقب إمام النهضة، ووصفه أنه إمام المفسرين بلا منازع، وأبلغ من تكلَّم في التفسير بيانًا لهديه، وفهمًا لأسراره وتوفيقًا بين آيات القرآن وآيات الأكوان، وذكر أنه كان يُفسِّر القرآن بلسانين: لسان العرب، ولسان الزمان، وأنه فسَّر القرآن بطريقة لم يسبقه إليها أحد، وبقيتُ أتساءل أسفًا: ما الذي أذهلَ طلابه وهم كُثُر عن أن يلتقطوا ما يقذفه البحر إليهم من جواهر ولآلئ ودُرَر؟! ولقد قلتُ في نفسي: لعلهم لم يدركوا أهمية الأمر، وأن الأمالي ركن من أركان نقل العلم، أو لعلهم يذهلون وهم في لُجَّة البحر عن اغتراف ما تُشَنَّف به آذانهم. ومن العجائب في عالم الأمالي أن تجد عالمًا تنزل على كتبه جائحة فيعيدها كلها من استظهاره لها، فهذا أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المتوفى سنة 287هـ، قال: "ذهبت كتبي فأمليتُ من ظهر قلبي خمسين ألف حديث". ونقل تقي الدين السبكي أن: "كتبَ خِزانة المدرسة النظامية حَرقت في زمن حياة نظام الملك فشقَّ عليه ذلك، فقالوا له: لا تخف إن ابن الحداد وهو من فقهاء الشافعية يُملي للكتَّاب جميع ما حُرق من حفظه، فأرسلوا خلفه فأملى جميع ما حرق في مدة ثلاث سنين ما بين تفسير وحديث وفقه وأصول ونحو ذلك". لله دره وهو يستذكر كل هذه الموسوعات العلمية، ولقد صدق الشاعر حين قال: ليس بعلمٍ ما حوى القِمَطْرُ ما العلمُ إلا ما حواه الصَّدْرُ وقد يُعتدى على عالم من قِبَل السلطان، فيحرق كتبه أو يُصادِرها أو يعبث بها، فإن كان متقنًا لما فيها أعادها كما كانت، ومن عجيب ما قرأت حول هذا ما حصل لابن حزم وقد كان -أعلم المغرب بعلوم الشريعة وأجمعهم لها- وكانت عنده مكتبة عظيمة جدًّا، فوشى به الحُسَّاد إلى المعتضد بن عباد حاكم أشبيلية، فأراد أن ينتقم منه شَرَّ انتقامٍ، فأمر بإحراق كتبه، فهجم عليه جنود المعتمد، وصادروا كُتُبه، وقاموا بإحراقها، فماذا قال وهو يشاهد منظر إحراق الكُتُبِ؟ لقد قال بكل ثقة وقوة وعزة: فَإِنْ تُحْرِقُوا القِرْطَاسَ لا تُحْرِقُوا الَّذِي تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي ومن الطرائف ما نُقِل عن المبارك أن أباه أخفى كتبه، ولم يجد حيلة لاستردادها والعثور عليها، فأملاها مرةً أخرى من حفظه وقوة استيعابه. أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلا تخفى على ناظرٍ سعةُ اطِّلاعه، وتبحُّره، وغزارة علمه، وسيلان ذهنه، وتوقُّد ذكائه، وكثرة محفوظه؛ فلقد جمع العلوم بين عينيه يأخذ من أيها شاء، ويترك ما شاء. وللعلم فهذا العلم البحر تبلغ مؤلفاته أكثر من خمسمائة مصنف، وأملى في سجنه الأخير ستين مجلدًا دون الرجوع إلى أي مرجع، وأدعُ الحديث لأخصَّ تلاميذه وألصقهم به الحافظ ابن عبدالهادي ليحدثنا عن إملائه؛ إذ يقول: "وللشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من متقدمي الأمة ولا متأخِّريها جمع مثل ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنَّف ولا قريبًا من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صَنَّفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب". ومن أغرب ما أوردته كتب التاريخ ما حصل للإمام السرخسي صاحب أكبر موسوعة في الفقه الحنفي، فقد حُبِس السرخسي في قعر بئر مُعطَّلة، فأملى على طلابه ثلاثين مجلدًا في الفقه من غير مطالعة كتاب أو رجوع إلى مصنف، وكان سبب سجنه أن حاكم (أوزجند) وهي بلدة تقع حاليًّا في إيران تزوَّج جارية قبل أن يستبرئها، فسَألَ السرخسي عن فعلهِ ذلك، فأفتاه أن فعله حرام لا يجوز، ونكاحه باطل، فغضب منه الحاكم فسجنه في بئر، وبقي محبوسًا خمس عشرة سنة، فسأله الطلاب وهو في السجن أن يشرح لهم كتاب محمد، وهو أحد متون الأحناف المهمة؛ فأجابهم لذلك، وأملى كتابه المبسوط وهو في قاع البئر وهم على شفيرها يكتبون ويدوِّنون ثم يُفرِّغون ما كتبوا، وهكذا حتى أنهى موسوعته. وفي موسوعته الضخمة التي لا تزال شاهدةً على معاناته، وتبحُّره وغزارة علمه في نفس الوقت يجد القارئ شيئًا من ذكرياته التي دوَّنها، فعند فراغه من شرح العبادات كتبَ: "هذا آخر شرح العبادات، بأوضح المعاني، وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمعة والجماعات". وقال في آخر كتاب الطلاق: "هذا آخر كتاب الطلاق، المؤثر من المعاني الدقاق، أملاه المحبوس عن الانطلاق، المبتلى بوحشة الفِراق، مصليًا على صاحب البراق، صلى الله عليه وآله وصحبه أهل الخير والسباق، صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق، كتبه العبد البريُّ من النفاق". وقال في آخر كتاب العتاق: "انتهى شرح العتاق، من مسائل الخلاف والوفاق، أملاه المستقبل للمحن بالاعتناق، المحصور في طرق من الآفاق، حامدًا للمهيمن الرزَّاق، ومصليًا على حبيب الخلاق، ومرتجى إلى لقائه بالأشواق، وعلى آله وصحبه خير الصحب والرفاق". وقال في آخر شرح الإقرار: "انتهى شرح كتاب الإقرار، المشتمل من المعاني ما هو سِرُّ الأسرار، وإملاء المحبوس في موضع الأشرار، مصليًا على النبي المختار. وأملى غير المبسوط في الجُبِّ فكتابه في أصول الفقه يقع في مجلدين وهو من أجمل كتب الأصول أيضًا كان إملاء وهو متداول مطبوع، وأملى وهو في سجنه أيضًا شرح السير الكبير الذي يعد من أهم المراجع للباحثين في العلاقات الدولية الإسلامية، وقد أملاه وهو مسجون في تلك الجُبِّ، فلما وصل إلى باب الشروط تم الإفراج عنه فأكمل إملاءه بعد خروجه، ويعتبر كتابه هذا من أفضل كتب القانون؛ بل يعد أول كتاب أُلِّف في القانون الدولي، وقد تُرجم إلى عدة لغات، وطبعته الجامعة العربية، ولم تمهله المنية؛ إذ توفي بعد الإفراج عنه بأربع سنوات. وإن كنتَ أديبًا عندك شغف بالأدب فلا بُدَّ أن تكون طالعت كتاب "الأمالي" للقالي؛ إذ يُعَد هذا الكتاب ركنًا رابعًا لكل أديب، وقصة هذا الكتاب أن أبا علي القالي العالم الكبير والأديب النحرير رحل من بغداد إلى الأندلس فحطَّ رحاله في مدينة قرطبة تاج عواصم الأندلس؛ حيث الجمال والصفاء والسياحة الفكرية، فدخل جامع قرطبة فانفتقت قريحته، وانطلق من على كرسي اللغة والأدب يُملي، والطلاب حوله يكتبون، فكانت الحصيلة هذا الكتاب الماتع الذي أشبه بحديقة وارفة الظلال، عذبة الماء، نقية الهواء فيها من كل ألوان الربيع. ويعتبر هذا الأديب أول من نقل علم الأدب العربي إلى الأندلس. ومثلُ القالي ابنُ دُريد العالم الأديب المصقع، والنحرير الذي ملأ الدنيا أدبًا، فقد أملى الجمهرة عن ظهر قلبٍ في بلاد فارس. ويأخذك العجب وأنت تقرأ في كتاب المخصَّص لابن سِيْدة، وهذا الكتاب يقع في خمسة مجلدات ضخمة أملاها هذا العلم الجليل وقد كان أعمى البصر وعوَّضه الله نورًا في البصيرة، فألَّف موسوعته هذه التي تحار فيها من أول نظرة إليها؛ فهي موسوعة لغوية أدبية تحتوي على البديع من المعاني، والجزل من الألفاظ، ويكفيك أن مؤسسات علمية وهيئات بحثية تعجز اليوم عن الإتيان بعُشْرها صناعةً وتحريرًا، فكيف تسنَّى لهذا العلم أن يمليها؟ وكما علمتَ أنَّ أعظم كتب اللغة والتفسير والفقه والأدب كانت إملاءً، فكذلك أعظم كتاب في شروح الحديث النبوي وهو فتح الباري، فهذا الإمام الشوكاني أثناء ترجمتهِ لابن حجر قال عن ابن حجر: "ثم تصدَّى لنشر الحديث، وشهد له بالحفظ حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه إجماعًا"، ثم قال: "ولا ريب أن أجَلَّ مصنفاته فتح الباري، وكان شروعه في تصنيفه سنة 817 هـ على طريق الإملاء". وأملى أيضًا ابنُ حجر تخريجه لكتاب الأذكار المسمى بـ"نتائج الأفكار" إملاء على طلبته، وهو كتاب قَيِّم له وزنه العلمي. وتحدَّث عن أحد مشايخه في الحديث أنه أملى أربعمائة مجلس من مجالس الحديث كلها من حفظه شاملة فوائد حديثية محررة مهذبة متقنة، وتحدث السخاوي في "فتح المغيث" قال: أمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة، وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة، والأعمال بالنيات..". ومثلُ ابن حجر العلامةُ المُحدِّث الجِهْبِذ البحر تقي الدين ابن دقيق العيد؛ فقد شرحَ عمدة الأحكام إملاء، وأصبح لشرحه الذيوع والانتشار في العالم الإسلامي. والحافظُ المنذري أيضًا أملى كتابه الشهير الترغيب والترهيب من حفظه، وقد عددتُ له في كتابه تسعة عشر موضعًا وهو يقول: "وإسناده لا يحضرني الآن". لقد كان يتدفق كالبحر دون العودة إلى أي مرجع هو يُحدِّث والطلاب يكتبون. وممن اشتهر بالإملاء من فطاحلة العلماء وبحوره شعبة بن الحجَّاج ومالك، والبخاري، والدارقُطني، والخطيب البغدادي، وابن عساكر، وابن الصلاح، والمِزّي...وغيرهم كثير، فأينما وجد الإمام الحافظ تحلَّق حوله التلاميذ وبدأ يُملي عليهم. ثم عَزَّ الإملاء دهرًا، وانقطع زمنًا بسبب عدم وجود الأئمة المتقنين والجهابذة الحُفَّاظ، ثم عاد من جديد على يد أعلام كُثُر، منهم ابن الملقِّن، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم. وذكر ابنُ النديم أنَّ ابنَ الأعرابي أملى على الناس ما يُحمَل على أجمال. وللشناقطة طاقة عجيبة في الاستذكار والاستيعاب فتجدهم يستظهرون الكتب، فهذا مفخرتهم العلَّامـة سيدي محمـد بن العلَّامـة سيـدي عبدالله بن الحـاج إبراهيـم العلـوي -وقد عاصر الإمام الشوكاني وتوفي في السنة التي توفي فيها الشوكاني يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رُمِي بجميع مراجعها في البحر لـتمكَّـنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح..". استذكار عجيب، وذاكرة قوية، ولا يتأتَّى ذلك إلا بعد ملازمة الكتاب وتكراره حتى يرسخ في الذهن. وإذا أردت أن تعرف ما معنى الإملاء؟ فتعريفه كما يقول الحاج خليفة: «الأمالي هو جمعُ الإملاءِ، وهو أن يقعدَ عالمٌ وحوله تلامذتُه بالمحابر والقراطيسِ، فيتكلَّمُ العالِمُ بما فتح اللهُ سبحانه وتعالى عليه من العلم، ويكتبُه التلامذةُ؛ فيصيرُ كتابًا ويسمُّونه «الإملاء» و«الأمالي»، وكذلك كان السَّلفُ من الفقهاء والمحدِّثين وأهلِ العربيَّةِ وغيرِها في علومهم، فاندرَسَت لذَهاب العِلمِ والعلماءِ، وإلى الله المصير». أحيانًا يكون الدافع لاستظهار الكتب هو مخافة الضياع أو الغرق أو السرقة كما روت كتب التراجم ما حصل للإمام الغزالي مع رئيس عصابة أحد قُطَّاع الطرق، ولقد قال لها كلمة عجيبة فامتثل لها، وعزم على حفظ كتبه التي كان يحملها معه، قال الغزالي: "قُطِعَتْ علينا الطريقُ وأخذَ العيارون جميعَ ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفتَ إليَّ مُقدمهم وقال: ارجعْ ويحك وإلا هلكت. فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ علي تعليقتي فقط، فما هو بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت له: كُتُبٌ في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة عِلْمِها، فضحك وقال: كيف تدَّعي أنك عرفت علمها؟ وقد أخذناها منك، فتجردتَ من معرفتك، وبقيت بلا علمٍ؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلَّم إليَّ المخلاة. قال الغزالي: هذا مُستنطقٌ أنطقه الله ليُرشدَني به في أمري، فلما وافيت (طوس) أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميعَ ما علَّقته، وصرتُ بحيث لو قُطِعَ عليَّ الطريق لم أتجرَّد من علمي". ورحم الله الإمام الشافعي فما أصدق ما قال: عِلمي معي حيثُما يمَّمْتُ يَتبعني صَدري وعاءٌ له لا بطنُ صندوقِ إن كنتُ في البيتِ كان العلمُ فيهِ معي أو كنتُ في السُّوقِ كان العلمُ في السُّوقِ لقد رأيتَ الكثيرَ من النماذج المدهشة التي كانت تتموَّج كالبحور إن تحدّثَت فقد تُعيد كتبَها إملاءً إن نَزَلتْ عليها الجوائح، أو تعرَضتْ للحريق والسلبِ، أو طُلب منهم الحديث في مجال من مجالات العلوم والفنون، فما الذي جعلهم كالبحور؟ إنها الموسوعية العلمية التي كانت تُبنى وتُصقل وتُصاغ وَفْقَ مناهج محددة يتفرَّغ فيها العالم كذا من السنين لإتقان تخصُّصه، ويساعده في ذلك الاغتراب عن الأوطان، والرحلة للقاء علماء الأمة المتبحِّرين لا كمثل طلبة العلم اليوم إلا من رحم ربي يأخذون علمهم من الصحف والمجلات والمواقع التي تنشر ما هبَّ ودبَّ دون تحقيق أو تمحيص. وقبل ذلك كان التجرُّد شعارهم فما كانوا يطلبون العلم بُغية دنيا أو جاه، فبارك الله في علومهم، وعَلَّمهم ما لم يعلموا، وفتح عليهم من فتوحاته، وأغاثهم من صيوب غيوثه، وفتق أذهانهم فاستنبطوا واستدركوا وشرحوا وبيَّنوا. إننا بحاجة اليوم إلى العالِم الموسوعي المتفنِّن الذي إن تكلم في علوم الشريعة قلتَ هو النهاية.
مختصر السيرة النبوية لابن شيخ الحزاميين صدر حديثًا كتاب: "مختصر السيرة النبوية" للإمام عماد الدين الواسطي الحنبلي أحمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بابن شيخ الحزاميين (ت 711 هـ)، في مجلدين، اعتنى به: د. "وليد محمد عبد الله العلي"، و"فيصل يوسف أحمد العلي"، نشر: "دار مدى للنشر والتوزيع". وهو اختصار للكتاب المشهور "السيرة النبوية" للإمام ابن هشام - رحمه الله -، بدأ فيها الواسطي بمقدمة بين فيها أهمية السيرة النبوية، والسبب في إقباله على العمل على تهذيب سيرة ابن هشام واختصارها بقوله: "فأحب أن يختصر جمل السيرة، شفقة في حق غيره من الطالبين، وتسهيلًا لما صعُب منها على المريدين". وأما عن سبب اختياره لسيرة ابن هشام تحديدًا فقال: "سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، إذ كانت أنسب السير المدونة، ولمعظمها في الصحيحين معلمة". ونجد أن كتابه على جانب كبير من الأهمية لأنه عني بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي ألفها ابن إسحاق وهذبها ابن هشام، فسيرة ابن إسحاق كانت هي المصدر الخصب والمادة الأساسية لكل من يكتب أو يتحدث في السيرة، أما عن منهجه في الاختصار فيتضح فيما يلي: "فأحب أن يختصر جمل السيرة.. فحذف منها معظم الأشعار والأنساب، وأمورًا تقع كالحشو في الكلام، إلا أنه لا يغير كلام المؤلف عن موضعه، اللهم إلا عند الاختصار، فلابد من ذلك وربما زاد على نفس كلامه، في الأبواب والتراجم..". ونجد أنه اختصر أيضًا في الوقائع التاريخية وقام بحذف بعض المواضيع كأسباب نزول الآيات وغيرها.. ولكن رغم اختصاره فقد حافظ على ترتيب الأحداث وسياقها كما أوردها ابن إسحاق، ولم يتدخل بتقديم أو تأخير فيها، كما اعتنى في كتابه بالإبقاء على روح النص الأصلي رغم الحذوفات. وكما هو ظاهر من ذلك التهذيب، فإن الواسطي ألف كتابًا مختصرًا ليستفيد منه طلاب العلم. ويختلف اختصاره وتهذيبه الشديد عن تهذيب "ابن حزم" للسيرة النبوية في أن تهذيب ابن حزم كان اختصارًا شديدًا بشكل أشبه ما يكون بالخطوط العريضة للسيرة النبوية، في حين جاء تهذيب الواسطي بترسم خطى ابن إسحاق وابن هشام، وسار على منوالهما في إيراد القصة يسردها سردًا، إلى جانب عدم تدخله في الروايات بالنقد أو التفنيد، بحيث جعل الواسطي اختصاره للسيرة النبوية قصة متكاملة شاملة، بعيدة عن تفريعات الرواة والشواهد الشعرية وشرح الألفاظ والأنساب والقصائد، بشكل أقرب للفهم والتلقين لطلبة العلم المبتدئين. وللكتاب العديد من النسخ الخطية في مكتبات العالم المختلفة، منها نسخة مكتبة الشهيد علي باشا بتركيا برقم مخطوط (1942)، ونسخة أخرى بنفس المكتبة برقم (1894)، ونسخة مكتبة يوزكات برقم (399)، ونسخة الدكتور طلال الرفاعي كانت ملكًا للشيخ "محمد الرشيدي" أحد علماء الحرم المكي، ونسخة مكتبة يني جامع تحت رقم (898)، إلى جانب نسخة محفوظة في مكتبة برلين الوطنية تحت رقم (9566)، ونسخة محفوظة بمكتبة جامعة ليدن بهولندا كتبت قبل وفاة المؤلف بأربعة سنوات تقريبًا. وقد قام المحقق بالمقابلة على تلك النسخ وإثبات المتن الأصلي للسيرة، والتقدمة للكتاب بترجمة نافعة عن المؤلف وعصره، ومنهج التحقيق. والمؤلف هو ابن شيخ الحزاميين (657 - 711 هـ = 1259 - 1311 م) وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن مسعود، عماد الدين الواسطي البغدادي ثم الدمشقيّ. فقيه كان شافعيًا. وأقام بالقاهرة مدة خالط بها طوائف من المتصوفة فتصوف. وقد كان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ بين أتباع تلك الطائفة، ولكنه رزق حب الحق والنفور عن البدع، وألهم طلب العلم في صغره، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ "عز الدين الفاروتي" وغيره. وقرأ شيئًا من الفقه على مذهب الشافعي، ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة منهم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. وفد دمشق، ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتقل إلى مذهب ابن حنبل، ورد على المبتدعة الذين خالطهم. ونجد أنه لما صحب ابن تيمية دله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل عليها بنهم شديد فلخص تهذيب ابن هشام لسيرة ابن إسحاق في كتاب مفرد، ثم أقبل على مطالعة كتب الحديث والسنن والآثار، وحبب إليه ذلك جدًا، واعتنى بأمر السنة أصولًا وفروعًا، ثم تفرغ للرد على المبتدعة فهتك أستار الاتحادية، وكشف عوراتهم، وألف تآليف كثيرة في الطريقة النبوية في السلوك انتفع بها كثير من متعبدة أهل الحديث والأثر، وكانت له عناية بالفقه فاختصر كتاب "الكافي" في مؤلف مفرد أسماه "البلغة"، وشرع في شرح "منازل السائرين" للهروي الذي شرح ابن القيم في (مدارج السالكين)، ولكن الواسطي لم يتمه. وكان يتقوت من النسخ ولا يكتب إلا مقدار ما يحتاج إليه، قال ابن حجر: وخطه حسن جدًا في غاية الجودة. توفي بدمشق. وكان صاحب حال وسلوك حسن ومكاشفة. أثنى عليه الشيخ ابن تيمية وقال: "هو جنيد وقته". وكان يجله ويعظمه. وقال البرزالي: "رجل صالح عارف، صاحب نسك وعبادة، وانقطاع وعزوف عن الدنيا. وله كلام متين في التصوف الصحيح. وهو داعية إلى طريق الله تعالى، وقلمه أبسط من عبارته". وقال ابن رجب في ذيل الطبقات عن معجم البرزالي: "وكان محبًا لأهل الحديث، معظمًا لهم. وأوقاته محفوظة". وقال الذهبي: "كان سيدًا عارفًا كبير الشأن، منقطعًا إلى الله تعالى. وكان ينسخ بالأجرة ويتقوت، ولا يكاد يقبل من أحد شيئًا إلا في النادر. صنف أجزاء عديدة في السلوك والسير إلى الله تعالى، وفي الرد على الإتحادية والمبتدعة. وكان داعية إلى السنة، ومذهبه السلف الصالح في الصفات، يُمِرها كما جاءت، وقد انتفع به جماعة صحبوه، ولا أعلم خلف بدمشق محْي طريقته مثله". صنف كتبًا منها: • رسالة (مفتاح طريق الأولياء وأهل الزهد من العلماء). • (اختصار دلائل النبوة). • (شرح منازل السائرين) للهروي. • (التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار في مناقب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية). • (نصيحة في صفات الرب جل وعلا) • (مدخل أهل الفقه واللسان إلى ميدان المحبة والعرفان). • وله نظم نافع.
الاستشراق والإسلام [1] تصنيف المستشرقين بتتبع ما كتبه النقاد من عرب أو عجم حول أطروحات المستشرقين عن الإسلام يُمكن الخروج بتصنيف دقيق لمواقف المستشرقين من الإسلام، يُبنى هذا التصنيف على الاستقراء، ولا يكفي فيما يبدو أن تدرس حالة متمثلة في مستشرقٍ كتب عن الإسلام، ثم يعمد الباحث إلى تعميم أحكامه على طائفة المستشرقين كلهم. العمق في دراسة الاستشراق وتوجهات المستشرقين كفيل بالخروج بحكم موضوعي على هذه الظاهرة، وهناك سعي إلى تصنيف دراسة المستشرقين للإسلام من منظور سلبي، من حيث نظرتهم لهذا الدين، إلى العوامل الآتية: • الافتراضات المسبقة. • الادعاء المتعمد. • الخطأ في الاستنتاج • توارث الآراء. • التجزئة. • عدم الدقة في استعمال المصطلحات. • استخدام صيغ الشك. • التعميم [2] . حاول النقاد الأولون من العرب والمسلمين هذا المنهج في تصنيف الدراسات الاستشراقية عن الإسلام، لكنهم وقعوا تحت تأثير أزمة الثقة بالاستشراق والمستشرقين، بعد أن سبقهم من وقع تحت تأثير الانبهار بذلك، بشكل متطرِّف، أو أوجد شكلًا متطرفًا في موقف بعض العلماء المسلمين من هذه الدراسات، جاء هذا رد فعل لذاك التوجه المتطرف السابق، ولقد قيل: إن التطرف يولد تطرُّفًا معاكسًا له ومضادًّا له. الذي يبحث عن شواهد وأدلة لتوجُّه حسن أو سيئ، إيجابي أو سلبي، سيجد كثيرًا منها في إسهامات المستشرقين [3] ، والذي يسعى إلى الاستقراء لا بد أن يقف على هذه الشواهد [4] ، وتبرز نبرات الاحتراز لدى من يستقرئون الشواهد الاستشراقية الإيجابية لمواقف بعض المستشرقين من الإسلام [5] ؛ ذلك أن هاجس اتهامهم بأنهم من تلاميذ المستشرقين ومتأثرون بهم يرد في مثل هذه المواقف، وهو هاجس لا يصادَرُ، ولكنه لا يُعمَّم. [1] نُشر هذا الفصل بعنوان: مراجعات في نقد الاستشراق: الاستشراق والإسلام، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع 3 (ربيع الآخر 1428هـ)، ص 13 - 44. [2] انظر: مُحمَّد فتح الله الزيادي. الاستشراق: أهدافه ووسائله، دراسة تطبيقية حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون، طرابلس (ليبيا): المؤلف، 1998م، ص 116 - 124. [3] انظر: أحمد عبدالوهَّاب، الإسلام في الفكر الغربي: دين ودولة وحضارة، القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1993م، 144 ص. [4] انظر: عرفان عبدالحميد، المستشرقون والإسلام: محاولة أولية لتفهُّم الأسس التاريخية لطبيعة العلاقات الفكرية بين الإسلام والغرب، ط 2، بيروت: المكتب الإسلامي، 1980م، 29 ص. وانظر، في المقابل: صالح زهر الدين، الإسلام والاستشراق، بيروت: دار الندوة الجديدة، 1412هـ / 1991م، ص 33 - 43. [5] انظر: محمود حمدي زقزوق، الإسلام والاستشراق، القاهرة: مكتبة وهبة، 1404هـ / 1984م، 36 ص.
سرية القَرَدة قادها زيد بن حارثة، والقردة قريبة من ذات عرق التي هي ميقات أهل العراق، وسبب هذه السرية أن صفوان بن أمية أراد أن يخرج في تجارة كعادته إلى الشام، ولكن شكا من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين قطعوا عليهم طريق التجارة إلى الشام من كل مسالكه البرية والساحلية، وقال صفوان: نحن أهل تجارة، وإذا قعدنا عنها أكلنا رؤوس أموالنا، فلا بد من العمل، ثم أرشدوه إلى فرات بن حيان العجلي، فهو خبير في طرق نجد شرقي المدينة، فتجهز صفوان وبعث معه كثير من رجال قريش أموالهم للتجارة، وانطلق في طريق مغاير بعيد عن سلطة المسلمين، ووصلت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل زيد بن حارثة على رأس مائة راكب، وفي منطقة القردة تم اعتراض القافلة وتم الاستيلاء عليها، ونجا معظم رجالها، ووقع في الأسر الدليل مع آخرين، وعرض عليه الإسلام ليخلص من القتل، فأسلم وأُخلي سبيله، كانت في جمادى الآخرة سنة ثلاث للهجرة. مِن هذه السرية يتبين لنا مدى الحصار الذي أثر على تجارة قريش؛ حيث ضاقت ذرعًا بهذا الحصار الذي كاد يخنقها ويشل تجارتها، فليس لها من سبيل إلا الإذعان للإيمان أو الموت فقرًا، أو الحرب التي جربتها في بدر، ومع ذلك فقد لجأت لخيار الحرب لتبرهن أنها ما زالت قوية ولم يؤثر على قوتها ما نالها في غزوة بدر.
يونس بن متَّى عليه السلام (1) نتحدَّثُ إليكم في هذا الفصل عن نبيِّ الله ورسوله ذي النون يونس بن متَّى عليه الصلاة والسلام. وقد أرسل الله تبارك وتعالى يونسَ إلى أهل نينوى من الموصل بالعراق، فدعاهم إلى الله وحدَه، ونبذ عبادة ما سواه، وقد بذل لهم النصحَ، وبلَّغهم رسالةَ ربه، ولما لم يكن يونس عليه السلام من أُولي العزم من المرسلين، لم يتحمَّل ما لم يتحمَّله أولو العزم من الرسل من الصبر على تكذيب قومه له وإيذائه، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أن قومه أغضبوه، وأنه أحسَّ منهم الكفرَ، فتهدَّدهم بعقوبةٍ من الله عز وجل تحلُّ بهم إن لم يؤمنوا به، وبدأت أمارات العذاب تظهر في جَوِّهم، وأخذت مقدمات العذاب تتَّجِهُ نحوهم، فظنَّ يونس عليه السلام أنه قد أدى ما عليه من أعباء الرسالة، ما دام قد أوضح لقومه الطريقَ، وعرفهم صراطَ الله المستقيم، وحذَّرهم من أسباب سخط الله وغضبه، وأن الله تعالى لن يضيق عليه إن هاجر من أرض قومه، وأن له أن يذهب حيث يشاء، فاتَّجَهَ نحو البحر، وركب سفينةً مشحونةً، ويظهر أن أهل السفينة عندما رأوه، وشاهدوا ما علاه من الوقار والبهاء لم يحاولوا ردَّه عن ركوب سفينتهم. غير أنَّ البحر لمَّا هاج اضطرَّ ركَّابُ السفينة إلى تخفيف حمولتِها من الرُّكَّاب، فعملوا قرعةً ليُلقوا في البحر من تَقَعُ عليه القرعة، فكان يونس عليه السلام ﴿ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ [الصافات: 141]، أي: ممَّن وقعت عليهم السهام، فأُلْقِي في البحر وهو في كَرْبِه وغمِّه وهمِّه الذي فارقَ عليه قومَه، فهيَّأ اللهُ عز وجل له حوتًا - أي سمكة - فابتلعه الحوت، وصان الله تبارك وتعالى يونس من أذى الحوت، فلم يكسر له عظمًا، ولم يخدش له لحمًا، وإنما صار بطنُ الحوت كالسجن المؤقت ليونس عليه السلام، وأحاطت به ظُلْمَةُ بطن الحوت داخل ظُلمات البحر، فصرخ يونس ينادي ربه متوسِّلًا إليه بكلمة التوحيد التي من أَجْلِها خلق الله الإنسَ والجن، ومن أجلها أنزل الكتب وأرسل الرسل، ومن أجلها يقامُ سوق الجنة والنار، وقد نزَّه الله عز وجل عن كلِّ نقصٍ، واعتذر إلى الله عز وجل من فراره من قومه، فقال: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فاستجاب الله له، ونجَّاه من الغمِّ، فأسرع الحوت إلى شاطئ البحر، وقذفَ بيونس في العراء، وهو مريض من شدة ما أصابه من الهول والكربِ والهمِّ والغمِّ، وأنْبَتَ اللهُ تعالى عليه شجرةً من يقطين، واليقطين هو ما لا ساق له مِن النبات، ويقال لحمله: القرع، أو هو الدباء، وهو نوع من القرع. وقد ذكر العلماء في حِكمة إنبات اليقطينة على يونس عليه السلام أن ورقة شجرة القرع في غاية النعومة، وأنه كثير، وأنه ظليل، ولا يقربه الذباب، ويؤكل ثمرُه من أوَّل طلوعه إلى آخره نَيًّا ومطبوخًا، ويؤكل بقشرة وببذره أيضًا، وفيه نفعٌ كثير، وتقوية للدِّمَاغِ وللبدنِ، إلى غير ذلك؛ ولذلك أُثِرَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبُّ الدباء؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن خيَّاطًا دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبَّع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أَزَلْ أُحِبُّ الدباء من يومئذ. وقد ردَّ اللهُ تبارك وتعالى ليونسَ كمالَ صحَّته، وأخبره بأن قومه آمنوا لما رأوا عذابَ الله متجهًا نحوهم، وأنَّ اللهَ قَبِلَ منهم إيمانَهم وكشفَ عنهم عذابَ الخِزْيِ في الحياة الدنيا، وأمره الله تبارك وتعالى بالرجوع إليهم والاستمرار في توجيههم إلى صراط الله المستقيم، فرجع إليهم يونس عليه السلام، وكانوا أكثر من مائةِ ألف إنسان، وقد أفاض الله عليهم من الخيرات والبركات، فعاشوا آمِنين في ظلِّ شريعة الله التي بعث بها يونس عليه السلام. وقد ذكر الله تبارك وتعالى جوانبَ مِن قصة يونس عليه السلام في مواضع من كتابه الكريم، وقد ذكر في كلِّ مقام منها مقالَه الذي يناسبه، فذكر في سورة سميت بكاملها سورة يونس أنه امتنَّ على أمة يونس بِمِنَّةٍ تفرَّدوا بها من بين الأمم السابقة، وأنه استثناهم بها من قاعدة: أن من آمَنَ من الكفار عند رؤيةِ العذابِ لا ينفعه إيمانُه على حدِّ قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 84، 85]، فقد استثنى الله تبارك وتعالى أمة يونس من هذه القاعدة، فإنهم عندما رأوا مقدِّمة العذاب مقبلةً عليهم آمنوا بالله وصدقوا يونس عليه السلام، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98]. وفي سورة الأنبياء يقول عز وجل: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88]، فقوله تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ ﴾؛ أي: واذكر في المرسلين صاحب النون، والنون: الحوت، والمراد به يونس عليه السلام، فقد لقَّبه الله تعالى بصاحب النون وصاحب الحوت؛ لالتقام الحوت له، ورحمته به، وملازمته له فترة من الزمن، وتخليصه إيَّاه من الغرق، حتى طرحَه على الساحل، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ﴾؛ أي: فارق قومَه وهو ممتلئ من الغضب عليهم لكفرهم به، وتكذيبهم له، فهو غاضب عليهم وهم عليه غضاب، وقوله تعالى: ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: فحسب أن الله تعالى لن يُضيِّق عليه إذا فارق قومه الكافرين بعد أن بلغهم رسالةَ ربهم، وكان هذا عن اجتهاد منه عليه السلام، فمعنى نَقْدر: نضيِّق؛ على حد قوله تعالى: ﴿ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ﴾ [القصص: 82]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ [الإسراء: 30]؛ أي: يوسِّع على من يشاء، ويضيِّق على من يشاء، فلا ينبغي أن يخطر ببال مسلم أن ﴿ وَيَقْدِرُ ﴾ هنا بمعنى يستطيع، فإن آحاد المؤمنين من غير الأنبياء لا يخطر ببالهم أن الله يعجز عن شيء ولا يستطيعه؛ إذ هو على كلِّ شيءٍ قدير.
محددات المعنى عند المفسرين واللغويين لسليمان يوسف محمد عبدالله صدر حديثًا كتاب " محددات المعنى عند المفسرين واللغويين، دراسة تطبيقية في القرآن الكريم "، تأليف: د. " سليمان يوسف محمد عبدالله "، نشر: " دار ملامح "، الشارقة- الإمارات. وهذا الكتاب في أصله أطروحة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية- تخصص علم اللغة، بكلية اللغات في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، تحت إشراف الدكتور "محمد داود محمد داود" وذلك عام 1436 هـ- 2015 م. هذه الأطروحة تهدف إلى التعريف بالمعنى، وأنواعه، والأدوات التي تحدده، ونظرياته، وبيان قدم العناية بتحديد المعنى وتوضيحه، منذ صدر الإسلام، وتوضيح أن محددات المعنى من الموضوعات والقضايا البينية التي تتقاطع فيها كثير من العلوم. كما تبرز الدراسة الصلة الوثيقة والعتيقة بين المفسرين واللغويين. وقد وقع اختيار هذا الموضوع لمحاولة القراءة في التراث العربي، وإشارة إلى مواطن الإبداع عند علمائنا - رحمهم الله -، سعيًا في طلب ميراث المفسرين واللغويين، واستكمالًا للجهود السابقة وتدوينًا لها. ولما كان من الموضوعات المتجددة كانت مادته ثرة غنية، تناول العلماء كل طرف منها، سواء في ذلك المفسرون واللغويون، وقد أفادت الدراسة جدًا من جهود السابقين قديمهم وحديثهم، مفسريهم ولغوييهم، ليتصل جهد الأول بالآخر فلا تنفصم هذه العرى المتينة. إلا أن الكاتب لم يقف على مصنف أفرد هذه المحددات بالدراسة على هذا النحو الذي يعرض آراء القدماء والمحدثين، ويربطها بشتى فنون المعارف الشرعية واللغوية. وقد تعددت المناهج المتبعة في هذه الدراسة نظرًا لطبيعتها الجامعة بين التنظير والتطبيق، فسلك الكاتب المنهج الوصفي، والاستقرائي، والتحليلي. وتكمن مشكلة البحث في الإجابة على سؤال رئيس: ما محددات المعنى عند المفسرين واللغويين؟ تتفرع عنه عدة أسئلة في أوجه الشبه والاختلاف بين الفريقين - قدامى ومحدثين - في الأدوات التي تجلي المعنى، ومدى الاستفادة منها في تفسير النص القرآني. وانقسم البحث إلى فصول أربعة، بدأت الدراسة بالكلام عن المعنى، وأنواعه، ومحدداته، ونظرياته، ثم المستوى الصوتي، ثم المستوى الصرفي، ثم المستوى التركيبي على النحو التالي: الفصل الأول: المعنى ومحدداته، فيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف المعنى وأنواعه. المبحث الثاني: محددات المعنى ونظرياته. الفصل الثاني: تحديد المعنى على المستوى الصوتي، في مبحثان: المبحث الأول: وقف التعانق وأثره في تحديد المعنى. المبحث الثاني: دور العلامة الإعرابية في تحديد المعنى. الفصل الثالث: تحديد المعنى على المستوى الصرفي، فيه مبحثان: المبحث الأول: مبنى الصيغة وأثره في تحديد المعنى. المبحث الثاني: معنى الصيغة وأثره في تحديد المعنى. الفصل الرابع: تحديد المعنى على المستوى التركيبي، فيه مبحثان: المبحث الأول: دور السياق في تحديد المعنى. المبحث الثاني: الجملة وتحديد المعنى. ومن أهم النتائج التي خرجت بها الدراسة أنه لم يخل عصر - منذ عصر الصحابة - من العناية بتحديد المعنى، وإن اختلفت توجهاتهم واصطلاحاتهم، وضرورة التكامل المعرفي بين المفسرين واللغويين في تحديد المعنى القرآني. وأن غالب هذه المحددات من الموضوعات والقضايا البينية التي تتقاطع فيها علوم القراءات والتجويد، والتفسير، والفقه، وعلم الأصوات، والدلالة، والنحو والصرف، والبلاغة والأدب والعروض، وقد اهتمَّ بها القدماء والمحدثون. كما بينت الدراسة أن الدلالة اللغوية للنص الشرعي من أبرز القضايا المعرفية والمنهجية في الحضارة العربية الإسلامية. وأن التلقي السليم للنص، وتمثل المعنى، يتأسس على مجموعة من القواعد والأصول التفسيرية البيانية، أو التعليلية المقاصدية. وبحكم سعة اللغة العربية فقد اتجه العلماء إلى القواعد اللغوية من أجل تفهمهم للنص. كما أن القواعد اللغوية تساعد المفسر والمفتي على التلَّقي السليم للنص القرآني، والاستنباط السديد، والتعرف على مقصدية النص التشريعية. كما أن الداعي إلى استحضار ما هو لغوي في كتب التفسير هو توقف تحديد المعنى على المرجع اللغوي.
الاستشراق والإسلام [1] (النظرة إلى الإسلام) ليس المجال هنا مجال الحديث عن عموميات الاستشراق، من حيث مفهومه وتاريخه ودوافعه وأهدافه ووسائله وارتباطاته بالاستعمار والتنصير واليهودية، فقد أُشبِعت هذه التمهيدات بحثًا، وخضعت مثل قضايا أخرى غيرها للاختلاف والنقاش، وشابها شيء من الحدة والقسوة في الطرح، كما شابها شيء من اللين في جانب آخر من الطرح. تركزت الوقفات عن الاستشراق والإسلام على موقف المستشرقين من الإسلام، على اعتبار أن المستشرقين لم يكونوا جميعًا مجرد علماء أكاديميين فحسب، بل كان منهم المستشارون لهيئات سياسية ودينية في الغرب، وشغل رهط منهم مناصب رسميةً في وزارات الحربية والخارجية والاستعمار، إبان وجود الاستعمار ووجود وزارات له، ولا يزال بعضهم يزاول دورًا استشاريًّا في بعض وزارات الخارجية والدفاع والمؤسَّسات الاستخباراتية، برنارد لويس، نموذجًا. لم يكن كل المستشرقين كذلك، بل كان منهم علماء خدموا التراث الإسلامي بالتحقيق والدراسة والترجمة والحفظ والفهرسة والتكشيف، لكن من الملاحظ أنه من غير الشائع في المنشور العربي عن الاستشراق في موقفه من الإسلام أن تقف على تركيز على البعد الحسن / الإيجابي لهذه الخدمات. وهذا يعد مأخذًا على هذه الفئة من الذين كتبوا نقدًا للاستشراق، ربما بافتراض أن الاستشراق كان كله ضررًا على الإسلام، وأنه خوف الغرب من الإسلام، وأنه يتحمَّل ما وصلت إليه العلاقة بين الشرق والغرب، ولم تخل هذه الأحكام من المغالاة والمبالغة، وهي كذلك لا تخلو من الصحة [2] . من المهمِّ عند البحث في الاستشراق والإسلام الابتعاد عن التعميم في الأحكام؛ إذ إن ما يقال عن موقف بعض المستشرقين من الإسلام يدخل في جانب منه في حيز الأقوال الإيجابية التي تستلُّ أحيانًا من سياقها، وتوظَّف لمصلحة هذا المستشرق أو ذاك [3] ، والأقوال السلبية المأخوذة عن بعض المستشرقين هي كذلك قد تُنتزع من النص بعيدًا عن السياق الذي جاءت فيه. من هنا لزم أن تكون الإدانة محصورةً على هذه الفئة من المستشرقين الذين يثبت من السياق أنهم أساؤوا لهذا الدين، وقد أساء إليه مُستشرقون كثيرون بناءً على نية مبيتة عند فئة منهم، وبناءً على عدم انتمائهم لهذا الدين، عند فئة ثانية، وبناءً على جهلهم بلغة هذا الدين، عند فئة ثالثة، وفئة رابعة منهم اتكأت على أعمال المستشرقين السابقين الذين كانوا أشد حدةً من المتأخرين، فبنوا على هذا الاتكاء نظرياتهم التي سعوا إلى تسويقها بين الغربيين والشرقيين. تبقى فئة خامسة من المستشرقين في مواقفهم من الإسلام؛ هي تلك الفئة التي وقعت في أخطاء يقع فيها المؤلِّفون عمومًا؛ فهي مردودة عليهم، وهذا يقتضي قدرًا من الجهد في تتبع الحالات واحدةً واحدة [4] ، ينقل إسماعيل أحمد عمايرة عن رودي بارت قوله: "ونحن في هذا نطبِّق على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها، المعيارَ النقدي الذي نطبِّقه على تاريخ الفكر عندنا، وعلى المصادر المدوَّنة لعالمنا نحن" [5] . يعلِّق إسماعيل أحمد عمايرة على عبارة رودي بارت بقوله: "فالمستشرق مرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يدور حوله مِن حركات علمية، ولعل في هذا ما يفسر الدهشة والاستغراب اللذين يرتسمان على وجه المسلم وهو يقرأ كتابات المستشرقين؛ فهم يَقيسون الأمور بموازين مختلفة، إلى حدٍّ كبير، عن مقاييسنا، بل إنَّ اختلاف المقاييس هو الذي أوقع كثيرًا من المستشرقين في الخطأ، وهم يَزِنون بها ثقافةً أخرى مختلفة، كما أوقعَنا ذلك في خطأ مقابل حين أقدمنا على تقويم أعمالهم دون معرفة كافية بطبيعة مناهجهم، ومستلزماتها، والاستنتاجات المترتبة عليها" [6] . [1] نُشر هذا الفصل بعنوان: مراجعات في نقد الاستشراق: الاستشراق والإسلام، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع 3 (ربيع الآخر 1428هـ)، ص 13 - 44. [2] انظر: نديم نجدي: أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد - حسن حنفي - عبدالله العروي، بيروت: دار الفارابي، 2005م، ص 9 - 21. [3] انظر: أحمد بن حجر آل بو طامي آل بن علي: الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، ط 3، الدوحة: مكتبة الثقافة، 1403هـ، 206 ص. [4] تتبَّع أحمد عبدالوهَّاب رهطًا من المستشرقين، واقتبس منهم شواهد عن الإسلام في الفكر الغربي، انظر: أحمد عبدالوهَّاب. الإسلام في الفكر الغربي: دين ودولة وحضارة، القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1993م، 144 ص. [5] انظر: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون والمناهج اللغوية: المنهج التاريخي، المنهج المقارن، المنهج الوصفي، المنهج الإحصائي، ط 2، عمَّان، دار حنين، 1992م، ص 13. [6] انظر: إسماعيل أحمد عمايرة: المستشرقون والمناهج اللغوية، المرجع السابق، ص 14.
في وفاة شيخنا محمد بن عبد العلي الأعظمي رحمه الله انتقل إلى رحمة الله شيخنا العالم المحدِّث الدرّاكة الجليل، بقية مشايخ أهل الحديث الأكابر في الهند: محمد بن عبد العلي الأعظمي، يوم الثلاثاء 23 ذي الحجة 1444 (بتقويم مكة، أو 22 بتقويم الهند) يوافقه 11 تموز (يوليو) سنة 2023م، عن 92 سنة ونصف تقريبًا، رحمه الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته. فإنا لله وإنا إليه راجعون. كان شيخنا الفقيد من أواخر العلماء أصحابِ أصحابِ شيخ الكل نذير حسين الدهلوي (ت1320) بالسماع المتصل رواية ودراية مع الإجازة. وهذه ترجمة مختصرة له رحمه الله، وفاءً لبعض حقِّه الخاص والعام: اسمه ومولده ونشأته وشيوخه: هو أبو الجود، محمد بن عبد العلي بن عبدالله بن عليم الله بن جمال الدين، الأنصاري -ولاءً شرفيًّا كما أظنُّه أخبرني- المَوِّي مولدًا ومقرًّا ووفاة، الأعظمي -نسبةً إلى منطقة أعظم كَرَه شمالي الهند- السَّلَفي الأثري مذهبًا؛ كما كتب في إجازته المطبوعة. وُلد خامس رجب سنة 1352 (يوافقه 24 أكتوبر سنة 1933م) في مدينة مَوّ (مئو نات بهنجن) في أسرة علمية صالحة، حيث تربى على يد والده (1317-1388) أحد كبار علماء منطقته. شرع في العلم مبكّرًا على يد والديه، فقرأ القرآن في بيته، ثم دخل المدرسة القريبة وهي الجامعة العالية العربية، وكان يدرّس فيها والده، وأخوه الأكبر الشيخ العالم عبد الحكيم (1339-1424) ، وتنقّل في عدة مدارس أخرى في الهند، ومنها جامعة فيض عام في مَوّ، والمدرسة السَّعيدية في بنارَس القريبة، ودار السلام في عمر أباد، ودار الحديث الرحمانية في دهلي. ووُفِّق للأخذ عن جماعة من العلماء، ولا سيّما في مدينته مَوّ الزاخرة بالأكابر، فمن شيوخه فيها: 1- والده: أخذ عنه القرآن والمبادئ في بيته، ودرس عليه في المدرسة العالية: الكافية في النحو، والقراءة الرشيدة في الأدب العربي. 2- عبد الله شائق الموّي: شيخ والده وأخيه من قبل، لازمه ثلاث سنوات، ومما أخذ عنه: الجزء الأول من الأجزاء الثلاثين من صحيح البخاري، ثم من كتاب الزكاة إلى آخر الصحيح، دراية. كما درس عليه أجزاء من ديوان الحماسة، والأنوار المنتخبة في الأدب العربي، والإنشاء العربي، والإفاضة القدسية، والتوضيح والتلويح في أصول الفقه، وتفسير الفاتحة وأول البقرة من تفسير البيضاوي، والجزء الثالث من الهداية في الفقه الحنفي، وحكمة العين في الفلسفة. 3- محمد سليمان بن داود الموّي: درس عليه في المدرسة العالية العربية كتاب شرح ملا جامي على كافية ابن حاجب في النحو، وترجمة معاني القرآن الكريم، والنصف الأول من مختصر القدوري في الفقه، والصغرى والكبرى، والتهذيب، وشرح التهذيب من كتب المنطق. 4- محمد أحمد بن ملا حسام الدين المَوّي: درس عليه في مدرسة فيض عام الأجزاء الأخيرة من كتاب بلوغ المرام. 5- عبد الصمد المباركفوري: أخذ عنه في المدرسة العالية أولًا: المقررات الابتدائية للغة الفارسية والعربية، كما درس عليه من أول بلوغ المرام. ثم درس عليه بعدُ في دار الحديث الرحمانية الجزء الأول من مشكاة المصابيح إلى كتاب الزكاة، والمصطلح. 6- الشيخ عبد الرحمن النَّحوي: درس عليه في مدرسة فيض عام: النصف الأخير من تفسير النسفي، وصحيح مسلم. 7- محمد أحمد بن الحافظ عبد الغني: درس عليه في مدرسة فيض عام الربع الأول من سنن أبي داود. 8- شيخنا عبد العزيز الأعظمي العمري: أخذ عنه في المدرسة العالية سنن الترمذي، ونزهة النظر. 9- محمد إسحاق الخيدوفوري الموّي: درس عليه شرح ملا جامي، وجزءًا من بلوغ المرام. 10- عبد الباقي الخيدوفوري الموّي: أخذ عنه وعن سابقه في المدرسة العالية. ومن شيوخه في دار السلام في عمر أباد، في ولاية تاميل نادو: 11- محمد نعمان الأعظمي: أخذ عنه مشكاة المصابيح من كتاب الزكاة إلى آخر المجلد الأول (كتاب النكاح) درسًا. وأيضًا درس عليه في بيته في مدينة مَوّ أيام الإجازات: الثلث الأول من كتاب نور الأنوار في أصول الفقه الحنفي. 12- عبد السبحان ابن شيخه محمد نعمان: أخذ عنه ترجمة معاني القرآن الكريم، والسراجية في الفرائض، والقطبي في المنطق. 13- شيخنا عبد الرحمن بن عبد اللطيف العمري، المعروف بأبي البيان حَمّاد: أخذ عنه أجزاء من المجلد الأول من المشكاة. 14- عبد الواجد الرحماني البيارم بتي: درس عليه الجزء الأول من شرح الوقاية في الفقه الحنفي. شيخه في بنارس: 15- أبو القاسم محمد سيف بن محمد سعيد البنارسي: أخذ عنه في مدرسته السعيدية: من أول صحيح البخاري إلى نهاية كتاب الزكاة، وأجزاء من المجلد الأول من صحيح مسلم، وتفسير سورة البقرة من تفسير القرآن بكلام الرحمن لثناء الله الأمرتسري. ومن شيوخه في دار الحديث الرحمانية في دهلي، حيث درس في الصف الرابع، ثم رجع مع اضطرابات حادثة التقسيم: 16- نذير أحمد الرحماني الأملوي: درس عليه الجزء الثاني من شرح الوقاية. 17- محمد عبدُه الفَلَاح البنجابي: درس عليه النصف الأخير من مشكاة المصابيح. 18- عبد المعز الرحماني: درس عليه القطبي في المنطق و تلخيص المفتاح في البلاغة. حصل على شهادة الفضيلة من جامعة فيض عام، وحصل على شهادات: مولوي، وعالم، وكامل، وفاضل، من الهيئة التعليمية الحكومية في الهند، وأكمل دراسته سنة 1369 تقريبا (يوافقها 1950م) . شيوخ الرواية: أجاز له عامة -كما حدّثني مرارًا وكتبه لي- أربعة من الشيوخ الأكابر الآخذين قراءة وإجازة عن شيخ الكل نذير حسين: 1- محمد أحمد بن حسام الدين الموّي (ت1367) 2- أبو القاسم البنارسي (ت1369) 3- ومحمد نعمان الموّي (ت1371) 4- ومحمد سليمان الموّي (ت1378) وكان أحيانًا يقتصر على هؤلاء لعلوّهم على غيرهم، وإلا فقد أخبرني شفاهًا أنه أجاز له أيضًا: محمد عبدُه الفلاح، وعبد الرحمن النَّحوي، وعبد الله شائق. وأخبرني الشيخ الرحلة المفيد صلاح الشَّلّاحي وكان لقي الشيخ قبلي أن الشيخ مجاز من سبعتهم. ورأيت ابن شيخنا الشيخ المكرم: أسعد الأعظمي ذكر في ترجمته لوالده أنه يتصل أيضًا بنذير حسين نازلا عن شيوخه: عبد الله شائق، وعبد الصمد المباركفوري، ونذير أحمد الأملوي، وعبد الرحمن النحوي، وعبد الواجد الرحماني، ومحمد أحمد بن عبد الغني، ومحد عبده الفلاح، وشيخينا عبد العزيز الأعظمي، وأبي البيان حماد. وللفائدة، فقد سألتُ شيخنا عن شيخه أبي القاسم البنارسي: فدمعت عيناه، وقال: كان محقِّقًا في تحقيق الحديث صحة وضعفًا وسقمًا، والمصادر العلمية، وفي نقاشه مع الهنادك والمقلدين والنصارى، وشغلته عن الدعوة والتعليم شيئًا. وكان راغبًا في شرح البخاري، لكن لم يجد من يساعده في هذا العمل. وهو أعلم من لقيت في الحديث. ودراستي ومزاملتي له أربعة شهور، وأصيب بالفالج، وتوفي. وحضرتُ جنازته، وكانت كبيرة، حضر كثير من سكان مَوّ وما حولها. وكان يدرّس بالأردية، وكانت خطب مؤلفاته بالعربية من إنشائه الخاص. الخدمات العملية: شرع شيخنا بالتدريس بعد تخرجه، وخدم تدريسًا وتأليفًا وإرشادًا وإقراءً لعدة عقود، منها نحو 35 سنة في الجامعة العالية العربية التي دَرَس فيها -ودرّس فيها أبوه وأخوه من قبل- في ثلاث مدد مختلفة، وترقى إلى منصب الأمين العام المساعد للجامعة، وشيخ الجامعة، وشيخ الحديث، والمفتي بها نحو ربع قرن. ومن المدارس الأخرى التي درّس فيها: المدرسة المحمدية ببلدة ديوريا،        ومدرسة الإصلاح ببلدة سرائمير، وجامعة فيض عام في موّ، وكلية فاطمة الزهراء للبنات في مّو، وكلها في الولاية الشمالية (أترا براديش) ، ودرّس وقتًا في مدرسة فيض العلوم ببلدة سيوني (ولاية مدهيا براديش) . ودُعي للتدريس من الجامعة السلفية في بنارس أكثر من مرة، وغيرها، ولكنه اعتذر وآثر العمل في المدرسة العالية العربية في بلده موّ، بالإضافة إلى خدماته الكثيرة في الدعوة والخطابة والدروس في المساجد والمؤتمرات العلمية، وإشرافه على جمعية دعوية في مَوّ. وخلال مسيرته التعليمية: درّس البخاري أكثر من 25 مرة، وصحيح مسلم أربع مرات، وجامع الترمذي خمس مرات، والمشكاة ثلاث مرات، وكتب العقيدة، والفقه، والتفسير، والفرائض، والنحو، والصرف، والمنطق. فأخذ عنه عدد من الأكابر، ومنهم في الهند: شيخنا الدكتور مقتدى حسن الأزهري رحمه الله، والدكتور عبد العلي بن عبد الحميد حامد رحمه الله؛ محقق شعب الإيمان للبيهقي، وشيخنا محفوظ الرحمن الفيضي، والدكتور مظهر أحسن الأزهري، وطبقات عدة، فهو من شيوخ المشايخ في مّو، ومنهم من المدرّسين في الجامعات الشرعية المشايخ: شفيع الرحمن البهاري، والدكتور ظفر الإسلام، ومحمد حنيف المدني، ومحمد نصر الله الجونفوري، نور العين السلفي، وعبد الكبير المباركفوري، وأبو القاسم عبد العظيم الموّي، ومنهم ابن شيخنا: الشيخ المكرم البارّ أسعد الأعظمي. * ونظرًا لعلو سند شيخنا فقد ارتحل له الرحالة من الهند وخارجها، واستدعي للإقراء في الكويت وغيرها مرارًا، وسُرد عليه فيها الكتب الكبار والصغار، وبعض هذه المجالس كانت مشهودة، مثل مجلس صحيح مسلم في الجامع الكبير بالكويت سنة 1431 حضره فوق الألف. فأخذ الرواية عنه الآلاف في بلاد العرب، ومن أعيانهم شيخنا عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي، قرأ عليه شيئًا في مكة، واستجازه. وأخذ عنه الإجازة جماعة أيضًا باستدعاءاتي المتعددة، وفي استدعاءات غيري ممن لقيه في بلده، مثل استدعاءات الإخوة المشايخ الكرام: صلاح الشلّاحي، وصالح العصيمي، وعمر حبيب الله، وأبي الحجاج يوسف العلّاوي، وعبد الأحد فتيل الكجراتي، وجمع، أو من لقيه في رحلاته لبلاد الخليج العربي، مثل الشيخ: عمر النشوقاتي. وأجاز بواسطتي عبر توكيله لي جمًّا غفيرًا. من مؤلفاته بالأُردية: 1- آداب الزواج: في نحو 200 صفحة، طبع مرتين في موّ. 2- تذكرة البخاري: في نحو 180 صفحة، فيه التعريف بشخصية الإمام البخاري، وخصائص صحيحه، وشروحه، ويتضمن نبذة عن أنواع كتب الحديث وألقاب المحدثين، والرد على بعض المطاعن والشبهات على صحيح البخاري. طُبع في مكتبة الفهيم في موّ، وفيها طبعت جملة من أعمال شيخنا. 3- کائنات کا آغاز وانجام (بداية الكون ونهايته) : 165 صفحة، طبع في الجامعة السلفية في بنارس. 4- نواب صدیق حسن خان اور ان کی وهابیت (موقف النواب صديق حسن خان من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) في 48 صفحة، طبع في موّ. 5- نماز نبوی (صفة صلاة النبي) في 64 صفحة، طبع مرارًا. 6- مستند دعائی (الأدعية المأثورة) في 32 صفحة، طبع مرارًا. 7- شرعی منتروں سے علاج (الرقية الشرعية) في 48 صفحة، طبع غير مرة. 8- فضائل أعمال کے دفاع کا علمی وتحقیقی جائزہ (تعقيب على ما أُلّف في الدفاع عن كتاب فضائل الأعمال) في 34 صفحة، طبع في موّ. 9- نقوش رحماني (مراسلات الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري معه) . 10- تین طلاقیں علمائے احناف کی نظر میں (الطلاق الثلاث عند علماء الحنفية) في 48 صفحة. 11- مولانا أبو الکلام آزاد، مذهبي فکر وعمل کے آئینے میں (العلامة أبو الكلام آزاد وآراؤه الدينية وحياته العملية) في 244 صفحة، طبع في موّ. 12- لمحات موت (الاستعداد للرحيل) في 96 صفحة، طبع في موّ. 13- تلخيص كتاب فقه السنة للسيد سابق، لم يُطبع. * وبالعربية: 14- التحلي بالذهب للنساء: في 32 صفحة. ومما قام بترجمته إلى الأردية: 15- آداب المشي إلى الصلاة، لمحمد بن عبد الوهاب، في 48 صفحة، طبع في موّ. 16- التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي. في 144 صفحة، طبع في موّ. 17- القطبية، لأبي إبراهيم ابن سلطان، في 244 صفحة، طبع في موّ. 18- جلب المنفعة في الذب عن الأئمة المجتهدين الأربعة، للنواب صديق حسن خان القنوجي، ترجمة من الفارسية. في 160 صفحة، طبع في موّ. ومن الكتب التي قام بخدمتها تحقيقًا وتعليقًا ونشرًا: 19- دعاية الإيمان إلى توحيد الرحمن، للنواب صديق حسن خان القنوجي، قام الشيخ بتبسيط عبارته، وترجمة نصوصه، وتخريج أحاديثه وفهرستها. إصدار إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية، بنارس. • الإضافة إلى مقالات كثيرة وأبحاث وردود في مجلات متعددة قاربت العشرين في الهند، بالأردية والعربية، ومنها مجلات: الجامعة السلفية في بنارس، ومجلة محدّث، والبلاغ، وترجمان، وصحيفة سهارا. مكانته عند العلماء: كان الشيخ ذا مكانة بارزة عند أكابر محدّثي الهند وعلمائها، وله صلات وطيدة معهم، ويقدّرون علمه وجهوده، وهو ممن يلقب بلقب «أستاذ الأساتذة» لكثرة تلامذته النابغين على طبقات عدة، حيث درّس شيخنا من نحو سبعين سنة بل تزيد. فمنهم شيخ المحدّثين عبيد الله الرحماني (ت1414) ، كان بينهما المراسلات والزيارات المتبادلة والاستشارات، ومع أنه في رتبة شيوخه إلا أنه كان يرسل إلى شيخنا بعض الاستفسارات في المسائل العلمية، ويجيب عليها، والعكس، ثم جمع شيخنا المراسلات وأخرجها في كتاب: نقوش رحماني. ومنهم مجيزنا الشيخ عبد الرؤوف الرحماني النيبالي (ت1420) ، كان يزوره في بيته في موّ، وبينهما المراسلات والتقدير المتبادل، وطلب شيخنا للتدريس في جامعة سراج العلوم في نيبال، ولكنه اعتذر. وفي بعض مراسلاته التشجيع والإشادة ببعض كتابات شيخنا، ومنها: في رسالة بتاريخ 29/10/1995م، وفيها: «اطّلعتُ على مقالتكم القيّمة المنشورة في مجلة البلاغ ممباي، المشتملة على رد بليغ، وحقائق تاريخية، ومعرفة تامة بحياة العلامة أبي الكلام آزاد. وقد تولدت في نفسي الكئيبة موجات جديدة للفرح والسرور بقراءة هذا المقال... وقد كان الكاتب "راهى" تجاوز الحد في مقاله، وأتى بإساءات، وقد قمتم برفعها كلها، وكتبتم مقالة قيّمة مشتملة على بيان منزلة العلماء، وتكريم المسلم، وهذه منّة منكم على الجميع. جزاكم الله خيرًا عن العلماء على أداء فرض الكفاية عنهم، وأطال حياتكم مع العلم والعمل وإحقاق الحق». ومنهم الشيخ مختار أحمد الندوي الرئيس الأسبق لجمعية أهل الحديث المركزية لعموم الهند، نزامل مع شيخنا في الدراسة على أبي القاسم البنارسي، واستمرت الصلة بينهما، والاستشارات، ولما أسس كلية فاطمة الزهراء للبنات في موّ أسند إلى شيخنا إدارتها. ومنهم الشيخ نذير أحمد الأملوي ، وهو من مشايخ شيخنا في الرحمانية، نظرًا لمعرفته بكفاية تلميذه، اختاره نائبًا له في ثمانينيات القرن الماضي لما انتُخب رئيسًا لجمعية أهل الحديث لمديرية أعظم كره، وبينه وبين شيخنا مراسلات وتعاون على أعمال الخير. ومنهم شيخنا الدكتور مقتدى حسن الأزهري، وهو شخصية إسلامية بارزة، والرئيس السابق للجامعة السلفية في بنارس، وكان من تلامذة شيخنا، وبينهما قرابة، فكان يزور شيخنا كثيرًا ويستشيره ويقدّره. نشر له بعض أعماله في إدارة النشر في الجامعة، وقدّم لبعضها، وأثنى عليه فيها، ومنها قوله في تقديمه لكتاب دعاية الإيمان إلى توحيد الرحمن لصديق حسن خان، الذي قام الشيخ الأعظمي بتحقيقه وتخريجه (ص10) : «هذا الكتاب قام بخدمة تسهيله وتخريجه وترتيب فهارسه فضيلة الشيخ محمد الأعظمي حفظه الله تعالى. والشيخ يتمتع بمكانة بارزة في فهرس مشايخي الأجلاء، وتحيط خدماته بنصف قرن من الزمان. وليس بوسعي أن أعرّف بخدمته هذه (أي لهذا الكتاب) حق تعريفه، ولكنني لابد أن أقول: إن قراء الكتاب يشعرون بالمتعة والسرور بسعة نظره وخلوص نيته وطول خبرته العلمية والدعوية إن شاء الله. وتسهل لهم الاستفادة من هذا الكتاب القيم للنواب رحمه الله....». وقال أيضًا في تقديمه لكتاب كائنات كا آغاز وأنجام لشيخنا (ص9) : «إن مؤلف الكتاب الشيخ محمد الأعظمي عالم واسع الثقافة، دقيق النظر، تمتاز حياته بخدمة علوم الكتاب والسنة، دائما يدافع عن العقيدة الإسلامية الصحيحة بجرأة وقوة». ومنهم الشيخ عبد الوحيد بن عبد الحق السلفي رحمه الله، الأمين العام الأول للجامعة السلفية في بنارس، ورئيس جمعة أهل الحديث المركزية لعموم الهند سابقًا، كان كثير الاحترام لشيخنا، ويراسله، ويكلفه ببعض الأعمال للجامعة، والتمس منه مرارًا الانتقال للتدريس فيها، ولكن اعتذر شيخنا. قلت: ومنهم شيخنا عبد العزيز الأعظمي العمري ، مفتي أهل الحديث في الهند، وأستاذ الأساتذة، فقد زرت موّ يوم 9/4/1426 رفقة شيخنا مقتدى حسن الأزهري، وكان أخبر المشايخ في موّ أن أحد طلبة العلم العرب سيأتي، وواخجلتاه! كان في استقبال الفقير في مدخل الجامعة العالية العربية المشايخ عبد العزيز، وعبد الحكيم مَجاز الأعظمي، وشيخنا المترجَم، وهم أكابر شيوخ المدينة آنذاك، لتواضعهم البالغ وتقديرهم للعرب، فرأيت الشيخ عبد العزيز يعامل شيخنا معاملة الند والقرن، مع كونه تلميذه وأصغر منه سنًّا، ورأيت من تقدير بقية الشيوخ وتقديمهم لشيخنا ما يبيّن قدره، وكان في غاية التواضع والرزانة واللطف في مقابلتي وأنا في سن أصغر أولاده، وعليه مهابة، وتحلّيه ابتسامة محبّبة وبشاشة، رحمه الله وإياهم جميعًا. وقال الشيخ أسعد الأعظمي في النبذة التي كتبها لي عن والده: «ومن العلماء الموجودين الذين لهم التواصل مع الشيخ: فضيلة الدكتور جاويد أعظم بن عبد العظيم، رئيس الجامعة السلفية بنارس حاليًّا، وفضيلة الدكتور عبد العلي بن عبد الحميد، مدير الكلية الإسلامية بلندن، وفضيلة الشيخ مظهر أحسن الأزهري، نائب رئيس الجامعة السلفية، والأمين العام للجامعة العالية العربية بمَوّ، والشيخ عارف جاويد المحمدي؛ جمعية إحياء التراث الإسلامي بدولة الكويت، وفضيلة الشيخ محمد زياد التكلة؛ الرياض، وفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العجمي؛ الكويت، وفضيلة الدكتور عبد العزيز الفريح؛ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفضيلة الدكتور عبد الرحمان بن عبد الجبار الفريوائي؛ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وفضيلة الشيخ محمد عُزير شمس؛ مكة المكرمة، وفضيلة الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي؛ مكة المكرمة». قلت: ومن مظاهر تقديره أن روى عددٌ من أهل العلم عنه في كتبهم ومقدمات تحقيقاتهم وأثباتهم في حياته، ومنهم الشيخ محمد بن ناصر العجمي في جملة من أعماله، ويُلحق بهم الفقير كاتبه في عدد من أعمالي. أخذي عنه: ذكرتُ آنفًا لقائي الأول به، وسألته سؤالًا عابرًا عن شيوخه، واستجزته لي ولمن في استدعائي، وطلبت منه التوكيل بالإجازة، وأكرمني بذلك. ثم لمّا صارت دورات الحديث المشهودة في الكويت، وكان التعاون مع منظّميها الكرام: اقترحت اسم شيخنا ضمن الشيوخ، وأول ما دُعي إلى دورة إقراء مشكاة المصابيح -وجاء معه ابنه الشيخ الفاضل أسعد، المدرس في الجامعة السلفية في بنارس، ومدير تحرير مجلة صوت الأمة آنذاك- فقرأنا جميع الكتاب -بمشاركة الزملاء- عليه وعلى شيخنا عبد الوكيل الهاشمي مجتمعَين في 12 مجلساً أولها عصر السبت 6/3 وآخرها بعد العشاء ليلة الأربعاء 10/3/1431 في الجامع الكبير. وقرأت عليهما تلك السفرة في فندق سفير ضحى 7/3: حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وأول حديث من البخاري، وكتاب العلم منه، ومقدمة صحيح مسلم وأول حديث منه، والأربعين العوالي منه لابن حجر، ونخبة الفكر. ثم ضحى الاثنين 8/3 سمعت عليهما جزء الحسن بن عرفة بقراءة الشيخ أنس العَقيل. ثم قرأت عليهما عقود الدرر لابن ناصر الدين، وبواعث الفكرة له، ونظم سماع ابن طبرزذ لسنن أبي داود له أيضا، ورسالة ما يجب للناظر حفظه للشاه عبد العزيز، وقصيدة الحكم بن معبد الخزاعي في السنة، والنادريات من العشاريات للسيوطي، ومنظومة عبد القاهر التبريزي في الوعظ والسنة، وبغية الطالب الحثيث للكمال الشُّمُنّي، وتسمية من روى مختصر المزني عنه للأكفاني، واعتقاد الشافعي، والعقيدة الطحاوية، ولامية ابن تيمية. ثم قرأ الشيخ محمد الجيلاني غرامي صحيح، ثم قرأت مجلسين من أمالي النسائي، ثم قرأ الشيخ أنس جزء محمد بن عبد الله الأنصاري، ثم ختمت المجلس بقراءة جزء البيتوتة للسرّاج، وأدب النفوس للآجري وملحقه. واستفصلت منه أكثر عن شيوخه في هذه السفرة، وفصّل لي فيهم وفي مسموعاته. ثم تيسر مجيئه في دورة صحيح مسلم الكبرى، فقرأت عليه بمشاركة الزملاء جميعه -ضمن جملة من المشايخ الأكابر- في 18 مجلسًا، من عصر الثلاثاء 26/11 إلى بعد العشاء ليلة الاثنين 3/11/1431، وفيه قرأت أوائل السبعة. وسمع عليه فوق الألف بحمد الله. ثم سمعت عليه مع ثلة من المشايخ الأكابر الموجود المطبوع من صحيح ابن خزيمة في الكويت، من عصر الأحد 6 إلى ليلة بعد صلاة العشاء السبت 12/5/1432 (بتقويم أم القرى) . وسمعت عليه في الفندق بقراءة الشيخ محمد بن ناصر العجمي خمسة أحاديث من أول المجالس الأربعة التي أملاها الخطيب في جامع دمشق، ضحى الأربعاء 9/5/1432. وطلبتُ من ابنه الشيخ أسعد أن يزوّدني بترجمة مفصلة عن أبيه، فأرسل لي لاحقًا ترجمة وافية في نحو 20 صفحة، وأذن لي في تحريرها وترتيبها وتصحيحها ونشرها، جزاه الله خيرًا. وكان ذلك آخر لقائي بشيخنا في هذه الدنيا رحمه الله، وجاء زيارات أخرى إلى الخليج العربي لم أسعد بلقائه فيها. ثم سمعت عليه عبر الاتصال أشياء، ومنها: سمعت عليه بالهاتف وهو بمكة ثاني رجب سنة 1433: مقدمة الشاه ولي الله للبخاري، ومعظم رسالة ما يجب للناظر حفظه (الموجود في الورقة الأولى من المخطوط لمحمد بن حسين الأنصاري) ، وجزء ولي الله في الذب عن ابن تيمية. وسمعه ابني علي في الرابعة إلا يسيرا من آخر الرسالة التيمية، ومثله عمر إلا يسيرًا من أول المقدمة، وزوجي رضاء مثله وفاتها نحو نصف المقدمة. وكتب قيد السماع الشيخ عبد الله التوم. ثم سمعت عليه جزء الجعفري المجلي شهري المكلل بالأولوية عبر الاتصال المباشر ضحى الثلاثاء 2/4/1434. ثم سمعت عليه المنتقى من حديث أبي نعيم الأزهري للضياء ضحى الاثنين 14/6/1435 ثم المجلس الثالث من أصل أربعة من أمالي عبد الغافر الفارسي عليه ضحى السبت 4 رجب، ثم المجلس الرابع الأخير ضحى الاثنين 6 منه. ثم لم أجد عندي مقيّدًا الاتصال بالشيخ بعد هذا التاريخ، وآخر عهدي أني سألت عنه من مدة غير بعيدة فقالوا إن الشيخ مريض وبدنه ضعيف، وحاولتُ الاتصال به غير مرة لرغبة بعض الإخوة ترتيب قراءة للبخاري عليه، وأرادوني أن أقرأه لهم، فاشترطت أن يكون البث عامًّا للمجلس، لكن ما تيسر الأمر من أصله، والحمد لله على كل حال، ثم حال الأجل دون الأمل. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وتقبل منه صالح أعماله، وعظّم أجر أهله وطلابه وأحسن عزاء الجميع فيه. إنا لله وإنا إليه راجعون. مصادر الترجمة: ترجمة موسعة كتبها الشيخ أسعد ابن شيخنا، بطلبي، بتاريخ 7 رمضان سنة 1432، بتهذيب وتلخيص، وهي عمدتي ههنا. الإجازات الهندية (1/213) : لعمر حبيب الله، وقد لخص فيه الترجمة السابقة تلخيصًا حسنًا بتحريرات وإضافات كعادته الحميدة. مشافهات ومذكرات كاتبها. وكنت قيّدتُ عن شيخنا أخبارًا دوّنتها في دفتر رحلتي الهندية، وليس تحت يدي في الغربة، وسبق أن نقلتُ منه بعض الإفادات ونُشرت ضمن مقدمة تحقيق إجازة أبي القاسم البنارسي لمحمد بن عبد اللطيف بعناية الشيخ المفضال بدر العتيبي (ص67) . وترجم له أيضًا خالد الصدّيقي في تراجم علماء أهل الحديث، وأيضًا في ذهني أنه مترجم في العدد الممتاز لمجلة ترجمان سنة 2005 في تكريم كبار مشايخ الحديث في الهند، وليسا تحت يدي في الغربة. ويُنظر أيضًا: الإسعاد في مدارج الإسناد للشيخ محمد بن ناصر العجمي (ص119) ، والكوكب المنير الساري له (ص130) ، والبدر التمام في شيوخ ومرويات الشيخ نظام (1/137) ، ومعجم شيوخ صفوان الداودي (رقم 74) . • هذا آخر ما يسر الله كتابته في الحال مع الغربة وتشوُّش البال، والحمد لله على كل حال. ملحق للصور والوثائق
معاوية الملك الْمُحنَّك " لقد كان معاوية ملكًا حقًّا، لكنه كان يملك من العبقرية والكفاءة ما يجعله خليقًا بهذا الْمُلك، ولم يعتمد البطش والإرهاب سبيلًا لسيطرته واستتباب حكمه، بل كانت السياسة الرشيدة العاقلة الحكيمة التي اختطَّها هي التي حفِظت له هذا الملك عشرين عامًا دون منازع، ولا أبالغ إذا قلتُ: إن نهج معاوية في هذا الشأن هو قبس من نهج النبوة، فكان غزوُ القلوب والإحسان إليها هو الأصل، مع الوعي والحذر الشديدَين ألَّا تنتفضَ الأمة عليه ". ♦ روى أبو داود من حديث سعيد بن جمهان عن سفينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلافة النبوة ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي الله الملك - أو ملكه - من يشاء) )؛ قال سعيد: قال لي سفينة: "أمْسِكْ عليك: أبا بكر سنتين، وعمر عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وعليٌّ كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًّا عليه السلام لم يكن بخليفة، قال: كذبت أسْتَاهُ بني الزرقاء؛ يعني بني مروان". ♦ قال الذهبي: "وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالَون فيه، ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد وُلِدوا في الشام على حبِّه، وتربَّى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق". ♦ ذكر ابن كثير في البداية عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ أنه وفد على معاوية، قال: فلما دخلت عليه حسبت أنه قال: سلمت عليه، فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال: قلت: ارفضنا من هذا، وأحْسِن فيما قدمنا له، فقال: لتكلمني بذات نفسك، قال: فلم أدَعْ شيئًا أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال: لا تبرأ من الذنوب؟ فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، إن لي ذنوبًا إن لم يغفرها هلكت بسببها، قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليَّ من إصلاح الرعايا، وإقامة الحدود، والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله، ولا نحصيها أكثر من العيوب والذنوب، وإني لَعلى دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، والله على ذلك ما كنت لأُخيَّر بين الله وغيره إلا اخترتُ الله على غيره مما سواه، قال: ففكرت حين قال لي ما قال، فعرَفت أنه قد خصمني، قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك، دعا له بخير. ♦ روى الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي قبيل، يأثُر عن معاوية بن أبي سفيان أنه صعِد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته: "إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن شاء أعطيناه، ومن شئنا منعناه"، فلم يُجِبْهُ أحد، فلما كان الجمعة الثانية، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فلما كان الجمعة الثالثة، قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل، ثم دخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس: إن هذا الرجل أحياني أحياه الله؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون أئمة من بعدي، يقولون ولا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار، كما تتقاحم القردة) )؛ [قال الهيثمي: رجاله ثقات]، وإني تكلمت أول جمعة، فلم يرد عليَّ أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية، فلم يرد عليَّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، ثم تكلمت في الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل، فردَّ عليَّ فأحياني، أحياه الله. ♦ قال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان، أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقِيَهُ الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجَّه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار، صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم؛ فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا، ودخل، فسكَّن عائشة بن عثمان، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي، إن الناس أعطَونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبِعْناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشترَوا منا، شحُّوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم، نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا، وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليَّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونِعْمَ الخَلَفُ أنا لكِ بعد أبيكِ. ♦ روى أبو داود الطيالسي عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، قال: وفدنا إلى معاوية مع زياد، ومعنا أبو بكرة، فدخلنا عليه، فقال له معاوية: حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفعنا به، قال: نعم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الصالحة، ويسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((أيكم رأى رؤيا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، إني رأيت رؤيا، رأيت كأن ميزانًا دُلِّيَ من السماء، فوُزنت أنت وأبو بكر، فرجَحتَ بأبي بكر، ثم وُزِن أبو بكر بعمرَ، فوزن أبو بكر عمرَ، ثم وُزْن عمر بعثمان، فرجَح عمرُ بعثمانَ، ثم رُفع الميزان، فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء) )، فغضب معاوية، وزَخَّ في أقفائنا فأُخْرِجنا، فقال زياد لأبي بكرة: ما وجدت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا تحدث به غير هذا؟ فقال: والله لا أحدثه إلا به حتى أفارقه، قال: فلم يَزَلْ زياد يطلب الإذن، حتى أذِن لنا، فأدخلنا، فقال معاوية: يا أبا بكرة، حدِّثنا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفعنا به، قال: فحدَّثه أيضًا بمثل حديثه الأول، فقال معاوية: لا أبا لك، تخبرنا أن نكون ملوكًا، فقد رضينا أن نكون ملوكًا. ♦ إن جوَّ الحرية الذي مارسه المسلمون في ظل معاوية هو الذي هيَّأ المجال الخصب للطاقات الإسلامية أن تنموَ وأن تُبْدِعَ، وهيَّأ المناخ لمتابعة الفتوحات الإسلامية التي توقفت قرابة عشر سنين؛ نتيجة الصراعات الداخلية، والفتنة الكبيرة في الدولة الإسلامية. ومعرفة معاوية بالرجال، وحرصه على الكفاءات، سدَّ الطريق أمام المتسلقين والمتزلِّفين والمنافقين أن يكون لهم صَولةٌ في سلطانه، حتى الشخصيات الكبيرة كان لا يغفر لها الهفوة والذلة، إذا كانت تمس المبدأ والعقيدة؛ فعبدالرحمن بن خالد رضي الله عنهما كان من أبرز الشخصيات بجوار معاوية في محنته، وكما رأينا معاوية مع أخيه عنبسة كيف يعزله عندما رأى عنصر التشفي والحقد هو الذي يحكمه، فها هو يعامل ابن خالد كذلك. قال عبدالرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمعاوية: أما والله لو كنا بمكة على السواء، لعلمت، قال معاوية: إذًا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان، منزلي الأبطح، ينشق عني سيله، وكنت عبدالرحمن بن خالد، منزلك أجياد، أعلاه مَدَرَةٌ، وأسفله عَذِرة. ♦ وفَخَرَ مولًى لزياد بزياد عند معاوية، فقال له معاوية: اسكت، فوالله ما أدرك صاحبك شيئًا بسيفه، إلا أدركت أكثر منه بلساني. ♦ أما ما يتعلق بالتوريث، فقد أخطأ معاوية بلا شك، ولكنه خطأ لا ينال من مكانته؛ فقد كان رأيه الخشية على الأمة من الفتنة والانقسام بعدما عاش فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، وما حدث من قتال علي رضي الله عنه، ثم قتل علي، ثم خلافة الحسن والانقسام. فكان يرى أنه لا بد من جمع الناس خشية تفتُّت الدولة، خاصة وقد فتح الله عليه بالجهاد في سبيل الله بلادًا عديدة (42 غزوة تمت في عهده، حتى وصلت إلى أسوار القسطنطينية) ، واتسعت دولة الإسلام. قال ابن كثير: "وقد كان معاوية لما صَالحَ الحسن عهِد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوِيَ أمر يزيدَ عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهل؛ وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب، وترتيب الملك والقيام بأُبَّهتِه، وكان ظنَّ ألَّا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى؛ ولهذا قال لعبدالله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذَرَ الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ، فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم، بايعته، ولو كان عبدًا مُجدَّع الأطراف". أما من يتفلسفون بالليبرالية وحرية الشعب، فإن أوروبا ظلت قرونًا عديدة تُحكَم بالملكية، ولم نَرَ منهم نقدًا لهم، وما زالت الملكية البريطانية تحكم، ولها سلطات، وتشمل الصلاحيات الملكية صلاحيات قبول تعيين رئيس الوزراء في جلسة خاصة تسمى جلسة تقبيل اليدين، لا يتم الموافقة إلا بها، وتعيين الوزراء وعزلهم، وتنظيم الخدمة المدنية، وإصدار جوازات السفر، وإعلان الحرب، وصنع السلام، وتوجيه أعمال الجيش، والتفاوض والتصديق على المعاهدات والتحالفات والاتفاقيات الدولية، ولا يعترضون، ولا تسمع لهم همسًا؛ لأنهم عبيدٌ للغرب. ولا يفوتني التأكيد على أن الشريعة الإسلامية تفرض على المسلمين الشورى في اختيار الحاكم، والتفصيل يطول في اختيار الحاكم. "ومن جهة ثانية، فإمكانات الحكم ورجاله وسلاحه كلها متوفرة في الشام، وبنو أمية عصب الملك؛ قد تمرَّسوا بمسؤوليات الحكم، وخَبَروا أساليبه، وجمهور قاعدة الحكم من الجنود وأجهزة الدولة قد انصاعوا على الولاء لمعاوية رضي الله عنه، فأي تغيير جديد في هذه الأجهزة قد يعيد البلبلة والفوضى من جديد". فلقد ذكر ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: "يا أيها الناس، ما أنا بخيركم وإن منكم لَمن هو خير مني - عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل - ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدرَّكم حلبًا". ولقد صدق الواقع حدس معاوية ونبوءته، فبعد هلاك يزيد، ماذا كان الأمر؟ العراق والحجاز لعبدالله بن الزبير، والشام لعبدالملك بن مروان، وسالت الدماء أنهارًا، حتى انتصر عبدالملك على خصمه. وتلك العراق التي أقضَّت مضجع الخلافة الإسلامية هي نفسها التي تعلن الثورة على يزيدَ، وتستدعي الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم تقوده إلى الذبح متخلية عنه، بعد أن منحوه قلوبهم، وشهروا عليه سيوفهم. وعندما دُعِيَ ابن الزبير رضي الله عنه إلى أن يمضي إلى الشام، رفض ذلك؛ لأن أركان الحكم في الشام، وجنوده وأعوانه لا يرتاح إليهم أولًا، ولا يمكن أن يخلصوا له من جهة ثانية. لقد تركَّز الملك ومفاهيمه في الشام، ولقد تبدَّل الكثير من أسس الخلافة الأولى التي كانت تربِط الأمة بالمبدأ أكثر من ربطها بالشخص. هكذا آل الوضع، وصدق معاوية حين قال: رضينا بها ملكًا. ♦ والجمع بين معاوية وابنه يزيدَ بحكم واحد جهلٌ وخَلَلٌ في الفَهم، وظلم، فمعاوية صحابي جليل، يترضَّى عنه أهل السنة، بخلاف ابنه يزيدَ، فهو ليس صحابيًّا، وهو الذي في حكمه تم قتل الحسين رضي الله عنه ومن معه من أهله؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [النجم: 38].
متن أبو شجاع بنظم شرف الدين العمريطي صدر حديثًا كتاب " متن أبي شجاع "، للقاضي الشيخ أبي شجاع، أحمد بن الحسن بن أحمد الأصبهاني، ومعه نظم العمريطي المسمى بـ" نهاية التدريب في نظم غاية التقريب "، سلسلة تراثيات مضيئة، نشر: " دار كشيدة للنشر والتوزيع ". وهذا الإصدار يتضمن ويجمع بين متن أبي شجاع ونظم العمريطي له، بصورة تتيح للدارسين متابعتهما معًا في كل فصل من فصول الكتاب، للاستفادة من مزايا العملين، فكما تميز متن أبي شجاع باختصاره وإيجازه، وتقريبه وتقسيمه، تميز نظم العمريطي بإحكام صياغته وسهولة قراءته، مع اشتماله على العديد من التقريرات والإضافات التي تجعله كالشرح للمتن.. ويعد متن أبي شجاع من أكثر متون الفقه الشافعي انتشارًا في مناطق العالم الإسلامي شافعية المذهب، وهو مقرر للتدريس في معظم مدارس العلوم الشرعية فيها. وقد انبرى الكثير من العلماء لخدمة هذا المتن، فكُتبت عليه العديد من الشروح والحواشي، كما قام البعض بنظمه في ثوب شعري، ومنهم العلامة الشيخ "شرف الدين العمريطي". ووسم أبو شجاع متنه بـ "متن الغاية والتقريب" ، وأكثرَ في مؤلفه من التقسيمات وحصر الخصال لذلك حظى بالعناية التامة من ناظمٍ له وشارحٍ وموضحٍ عليه، وتُلقي بالقبول من علماء الشافعية. يقول "أحمد بن الحسين الأصفهاني" في مقدمة كتابه: "سألني بعض الأصدقاء حفظهم الله تعالى أن أعمل مختصرًا للفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه ورضوانه، في غاية الاختصار ونهاية الإيجاز؛ ليقرب على المتعلم درسه، وعلى المبتديء حفظه، وأن أكثر فيه من التقسيمات، وحصر الخصال، فأجبته إلى ذلك". ويعرف هذا المتن لوجازته باسم (غاية الاختصار) أيضًا، وهو من أبدع ما صنف في مختصر الفقه، وأجمع ما فيه على مقدار حجمه، لذا قال بعضهم: أيا من رام نفعًا مستمرًا ليحظى بارتفاعٍ وانتفاعِ تقرَّب للعلوم وكن شُّجاعًا بتقريب الإمام أبي شُجاعِ وهذا المتن مُهم جدًا لمن أراد أن يُحيط بمهمَّات المسائل والأحكام في كل أبواب الفقه، ويُقدَّم على كثيرٍ من المصنفات، لقوة عبارته في تأسيس فهم المسائل الفقهية بأسهل عبارة. وفصول الكتاب الفقهية تجاوزت المئة بسبعة فصول، وستة عشر بابًا. وعدد مسائله تنيفُ على ثلاثة الآف مسألة، ونجد أن منهج الترجيح عند الشافعية: القول بالدليل الذي ليس له مُعارضة، واعتماد مذهب الشافعي الجديد إذا نَصَّ عليه. ويظهر هذا في كثيرٍ من مسائل المتن. وقع القاضي أبو شجاع في بعض الأوهام الفقهية الاجتهادية وهي ستة مواضع: كراهة استدبار الشمس والقمر، والصحيح خلافه، وصلاة الجماعة سنة مؤكدة والصحيح أنها فرض كفاية، وإطالة الركوع دون السجود في صلاة الكسوف والخسوف، والصحيح إطالة السجود أيضًا. واشتراط اتحاد الحالب في زكاة الخليطين، والصحيح عدم اشتراط اتحاد الحالب. واشتراط أن تكون الدراهم والدنانير مضروبة في شركة العنان، والصحيح عدم اشتراط ذلك، فيكفي أن تكون مثلية كالعملات اليوم. ووجوب حدَّ الزنى على من وقع على بهيمة، والصحيح أنه يُعزَّر. أما أرجوزة شرف الدين العمريطي، فتتكون من 1200 بيت نظم فيها العمريطي مختصر أبي شجاع حيث جاء هذا النظم في غاية العذوبة والإتقان مما يجعل حفظه سهلًا للطالب. وبالنسبة للمنظومة فلها ميزة على الأصل بأن ناظمها العمريطي متأخر عن النووي والرافعي بخلاف أبي شجاع، وعلى قولهما الفتوى - كما لا يخفى - فما كان من هذا العلامة إلا أن حذف الضعيف واستبدله بالمعتمد وقد يشير أو لا يشير لذلك في المتن، ولا ريب أن الطالب المبتدئ لا يكلف إلا بمعرفة المعتمد. وصاحب المتن القاضي أبي شجاع الشافعي هو شهاب الدين أحمد ابن الحسين بن أحمد الطيب الاصفهانى فقيه من علماء الشافعية، اختلف في مولده ووفاته، قيل إنه من المُعمّرِين عاش 160 سنة، وذكر تلميذه أبو طاهر السِلفي أن شيخه أبا شجاع وُلدَ بالبصرة سنة 433 هـ، درس أبو شجاع المذهب الشافعي ما يزيد على أربعين سنة في مدارس البصرة، وقد انتقل آخر حياته إلى المدينة المنورة وعمل في خدمة الحرم النبوي حتى توفي عام 500 هـ. قيل أنه تولى الوزارة سنة 447 هـ فنشر العدل والدين، وكات لا يخرج من بيته حتى يصلي، ويقرأ من القرآن ما أمكنه، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، وكان له عشرة أنفار يفرقون على الناس الزكوات ويتحفونهم بالهبات، يصرف على يد الواحد منهم مئة وعشرين ألف دينار، فعم إنعامه الصالحين والأخيار، ثم زهد في الدنيا، وجاور بالمسجد النبوي. وقد عاش القاضي مئة وستين سنة لم يختل له عضو من أعضائه، فقيل له في ذلك، فقال: ما عصيت الله بعضو منها، فلما حفظتها في الصغر عن معاصي الله، حفظها الله في الكبر. أما الناظم فهو: يحيى بن نور الدين بن موسى بن رمضان بن عميرة، شرف الدين العمريطي. • فقيه، أصولي، ناظم، شافعي، من العلماء. • من قرية عمريط (بشرقية مصر). • له ولع بالنظم، ومنظوماته رائقة بديعة الألفاظ كان يساعد بها الطلاب على تحصيل العلوم، ومنها: "تسهيل الطرقات في نظم الورقات" لإمام الحرمين في الأصول، و"الدرة البهية؛ نظم الآجرومية"، و"التيسير، نظم التحرير" في الفقه، و"نهاية التدريب في نظم غاية التقريب" لأبي شجاع الفشني. • توفي رحمه الله في حدود سنة: تسعين وثمانمائة (890 هـ) - (1485 م)، وقيل: (988 هـ) - (1580 م).
الاستشراق والإسلام [1] (الاستِشراق وحروب الفرنجة) تمهيد : يعدُّ الحديث عن الإسلام، من حيث كونه دينًا سماويًّا خاتمًا، بعث به رسول هو آخر الرسل والأنبياء، وأنزل به كتاب هو آخر الكتب المنزلة، من المسلمات التي يقوم عليها هذا الدين، ويؤمن بها جميع المسلمين، إلا أنَّ الإسلام بهذه الكيفية لم يكن موضع قبول عام في بداية انطلاقته من مكة المكرمة من بعض العرب والأمم المحيطة بجزيرة العرب، منذ أن صدح به رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة، فقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنتًا في تبليغ الرسالة بين قومه وذويه، ثم امتدَّ الإنكار إلى رقعة أوسع كلما زاد انتشار الإسلام [2] . رأت بعض الأمم المجاورة أن في انتشار الإسلام تهديدًا لوجودها، وتأثيرًا على مصالحها بين الناس، فناصبت هذا الدين العداء، ومع ذلك فإن هذا الدين ظل محفوظًا بحفظ الله تعالى له، وظل الإقبال عليه مستمرًّا؛ بحيث انتشر بين الأمم بالقدوة والدعوة، كما انتشر بينها بالفتوحات [3] ، بما في ذلك النفوذ إلى أوروبا عن طريق التجارة، مِن خلال (السوق الضخمة) مدينة "البندقية التي كانت تعتمد على التجارة المشرقية، وتحافظ على الطريق البحرية إلى القسطنطينية (إسطنبول فيما بعد)، وإلى الإسكندرية (المشبهة غالبًا بالبندقية)، وإلى الشاطئ المشرقي على امتداد معظم هذه المرحلة" [4] . يعدُّ الاستشراق أحد الروافد التي عرف الغرب من خلالها الإسلام، إلا أنها معرفة لم تكن في مجملها دقيقةً، وسيتبيَّن من هذه الوقفات أن الاستشراق في مهمته هذه قد اتكأ على معلومات شعبية غربية قديمة ذات بعد ديني مسيحي، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الغرب للإسلام، بل الأثر الكبير لهذه الفجوة بين الغرب والإسلام قبل أن تنطلق حروب الفرنجة من الغرب إلى الشرق [5] . الاستِشراق وحروب الفرنجة : حملت أوروبا على الإسلام حملات حربية سمَّيناها نحن المسلمين حروب الفرنجة، واصطلح في أوروبا على تسميتها بالحروب الصليبية [6] ؛ لأنها حملت الصليب معها متجهة إلى أرض الشام ومصر، وكان المحاربون بالإضافة إلى الصليب الرمز يعلِّقون شارة الصليب على صدورهم [7] ، واستمرَّت هذه الحروب لمائتي عام من سنة 491هـ الموافق لسنة 1098م إلى سنة 690هـ الموافق لسنة 1291م، ووصل عدد هذه الحملات إلى تسع حملات، كان هدفها الأول والمعلَن هو تحرير أرض الشام ومصر من المسلمين، والتنعُّم بأرض السمن والعسل أرض الميعاد، ثم تأتي الأهداف الأخرى، التي لا تصادر في هذه الحملات، كالهدف الاقتصادي الذي لم يكن الهدف الأول لهذه الحملات، على أن التسمية الغربية ليست مقصورة على هذه الحملات التسع فقط، بل كانت تطلق على أي حملة حربية دوافعها دينية، كما هي الحال في الحملات الصليبية على طائفة الألبيجوا أو الكاتار، جنوب فرنسا قريبًا من منطقة ألبي في القرن الثالث عشر الميلادي (1209 - 1229م) [8] . على أي حال فقد كثر الحديث حول الحروب الصليبية؛ من حيث دوافعها وأهدافها، وسعى بعض الكتاب إلى استبعاد الدافع الديني، وقصر هذه الحملات على الدافع الاقتصادي، رغم أن الجهة التي جاء منها الفرنجة الصليبيون في ذلك الوقت كانت تنعم بالخيرات الكافية، في ظاهر الأرض وباطنها، دون الحاجة إلى قطع هذه المسافات على البهائم وفي تقلبات الجو وتضاريس الأرض، تحمل الجند الصليب على أكتافها للفوز بمكسب اقتصادي، يقول عمر لطفي العالم في مقدمته للطبعة الأولى من كتاب: تاريخ حركة الاستشراق ليوهان فوك: "في القرن الميلادي العاشر أطلق البابا أوربان الثاني صيحة ارتعشت لها الأجنة في البطون، سارت أوروبا بعدها نحو الشرق بين راغب في الجنة، وطامع في الثروة، أو أسير لشهوة القتل وحب الانتقام" [9] . المهم أنه على مدى قرنين من الزمان تشكلت العلاقة بين الغرب والإسلام من منطلق حربي، ولا يزال هذان القرنان يحددان هذه العلاقة، يقول كل من أحمد الجهيني ومحمد مصطفى: "وقد لعبت الحروب الصليبية دورًا لا يُمكن تجاهله في تشويه صورة الإسلام، فقد "استمر تيار الدعاية يتدفق ضد المسلمين بالأكاذيب إلى جميع أنحاء أوروبا، التي أمدت الحروب الصليبية بالمال والعتاد قرونًا عديدة، ولم تكن الأنباء التي يحملها العائدون من المعركة قريبةً من الصدق، ومن أجل ذلك فقد امتلأت عقلية السواد الأعظم من أبناء أوروبا بكثير من المعلومات المكذوبة عن الإسلام والمسلمين، ولم تتمكن حركة تثقيف الشعوب في العصر الحديث من إزالة هذه الأفكار بعد" [10] ، "وقد صور الإسلام كدين للعنف، كدين دموي وقاس، وصور معتنقوه كمتعصبين يعرضون على من يغزونهم الخيار الشرس بين تغيير دينهم أو الموت" [11] . هذا الخطاب الديني المسيحي ذو التوجه السياسي هو الذي شكل الاستشراق التقليدي، فقد ورث المستشرقون هذا الخطاب وحافظوا عليه، وتمثَّل هذا الخطاب "في كون الإسلام نسخة مشوهة، أو صورة معدلة ضالة للمسيحية" [12] ، وأنه هرطقة وخروج عن تعاليم المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام وما إلى ذلك من الاتهامات الجزافية التي لا تُنبئ عن روح علمية أو عدل في إطلاق الأحكام [13] . لذا يؤرخ بعض المعنيين بالدراسات الاستشراقية بداياتها بالحملات الصليبية، والذي يظهر أنها بدأت قبل ذلك بزمن، منذ انطلق الطلبة الأوروبيون إلى الأندلس وصقلية لنقل علوم المسلمين إلى أوروبا، فقد كان من أهداف هذه البعثات دراسة الإسلام والعمل على التصدي له فكريًّا، جنبًا إلى جنب مع التصدي الحربي، الذي قد لا يجدي أمام القوة الإسلامية، التي طرقت أبواب أوروبا، من جنوبها الغربي أولًا ثم من شرقها، ومع هذا لم تخل هذه المرحلة من التأثر بعلوم المسلمين، بل وأنماط حياتهم، بالتشبه بالمسلمين في عاداتهم ولباسهم وأنماطهم العلمية [14] . بلغ هذا التأثر بالإسلام مبلغًا كبيرًا حتى لقد قيل: إن اللباس العربي أضحى علامةً للوجاهة العلمية إلى اليوم، لا سيما في المناسبات العلمية؛ كمناقشة الرسائل العلمية، وحفلات التخرج في المؤسسات التعليمية والعلمية [15] ، "لقد كانت إسبانيا المسلمة بمثابة السير الناقل العظيم الذي لولاه لضاع الأدب اليوناني الكلاسيكي والفلسفة اليونانية القديمة التي تمَّت ترجمتها إلى العربية، واحتفظت بها إسبانيا هناك إلى حين انتقالها إلى أوروبا، بعد ترجمتها من العربية إلى اللاتينية" [16] ، ويقول جاك غودي: "وفي إيطاليا أثر وجود المسلمين كذلك في الحياة اليومية، واحتلَّ العرب صقلية لمدة قرنين قبل أن يسودها النورمان عام 1091، وحتى بعد ذلك كان إمبراطور النورمان روجيه الثاني يلبس ثوبًا عربيًّا في البلاط ويتكلم العربية، ويعلِّم الفنون والعلوم العربية، ويستخدم أصحاب الحرف العرب الذين بنوا الكاتدرائية الرائعة والدير في مونريال (1172) [17] . يقول محمد عبدالله مليباري عن هذه الاقتباسات: "بدأ الغرب أول ما بدأ ينفض عن ذهنه آثار الهجعة المظلمة التي عاشها طوال أربعة قرون بالعودة إلى الشرق؛ حيث قامت حضارة إسلامية مزدهرة توغَّلت في أرجاء العالم الشرقي كله، وجزء من أوربا الغربية، ودون أن يفكر في الموضوعات الكبرى لأوجه الاختلافات عن طبيعة الإنسان الأصيلة، وعن مركزه في الحياة، راح ينهل من ذلك المعين، وعندما أحس بالاختلافات الناجمة عن الطبيعة الذاتية حاول إنكار الفكر الإسلامي كحقيقة قائمة، معزيًا أن نقطة انطلاقه بدأت بالحضارة اليونانية التي واصلت مسيرتها حتى انتهت إليه، وكان للاستشراق دوره الفعال في كل المراحل التي سار فيها التاريخ الحضاري الأوربي الحديث، ابتداءً من مرحلة الاقتباس، فالانتهال، فالأفكار، فالعودة إلى الحق بالاعتراف لدور الأمة الإسلامية في الحضارة الإنسانية، وفعاليته في تكوين الفكر العلمي والأدبي" [18] . تجاهل هذا التأثير الإسلامي على أوروبا يُمكن أن يعد مظهرًا من مظاهر الاستشراق، وهو كذلك مظهَر من مظاهر التأريخ للنهضة الأوروبية، لكنه تجاهُل لا يثبت أمام حقيقة أن للإسلام أثرًا واضحًا في هذه النهضة، سعى جاك غودي وآخرون منصفون مثله إلى توكيده، من خلال استعراض الوجود الإسلامي في أوروبا إلى اليوم؛ حيث تزيد الجالية المسلمة على خمسة عشر مليون مهاجر، رغم قِلَّة تأثيرهم السياسي، مقارنةً بالدهْلَزة (اللوبي) الصهيونية [19] . تبع تجاهل التأثير الإسلامي على أوروبا تجاهل الإسلام نفسه، وقلة المكتوب عن الإسلام بموضوعية؛ بحيث عمد الراغبون في التعرف على الإسلام إلى إسهامات بعض المستشرقين، التي لم تحقق الرغبة في الوصول إلى المعلومة الصحيحة عن هذا الدين، تقول كارين آرمسترونج: "هناك ندرة مذهلة في الكتب التي تتناول سيرة محمد بين أيدي عموم القراء (عندنا في الغرب)، إنني مدينة - تحديدًا - للمجلدَين اللذين كتبهما مونتغمري واط / محمد في مكة / و / محمد في المدينة، لكن كليهما قد وضعا للدارسين، ويَفترضان معرفة أساسية مسبقة بحياة محمد ليست متوفرة لدى كل شخص، وكتاب مارتن لينغز / محمد؛ سيرته استنادًا إلى أقدم المصادر / يقدم فيضًا من المعلومات المدهشة، مأخوذة من كتاب سيرة محمد في القرن الثامن والتاسع والعاشر، لكن لينغز يكتب للمؤمنين... من المحتمَل أن السيرة المتداولة في الوقت الحاضر والأكثر جاذبية للقراء هي تلك التي كتبها مكسيم رودنسون بعنوان / محمد /... لكنه يدوِّن هذه السيرة كريبي ودنيوي" [20] ، وهذا الأب روبرت كاسبار يقول: "إن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته أبدًا، بل ولم يحاول ذلك مطلقًا، وحتى خيرة المسيحيين القلائل الذين كانوا يعيشون على مقربة من الإسلام من أمثال: يوحنا الدمشقي وتيودور أبي قرة أو بولس الصيدوني لم يتمكنوا من إدراك جوهر الإسلام وعظمته، والتي تتمثل في السمو إلى الله الواحد الأحد، ولعل ذلك يرجع أساسًا إلى أن الغرب المسيحي قد اكتفى لعدة قرون طويلة بتشويه الإسلام ومؤسسه بأسخف الأقوال دون أن يكلِّف نفسه عناء دراسة هذه العقيدة" [21] ، ويقول زكاري لوكمان: "يستحيل أن نتتبع رؤى المسيحية اللاتينية للإسلام باعتبارها تقدمًا بسيطًا من الجهل إلى المعرفة، على العكس، فبعد الجهل العميق والافتقار للاهتمام اللذين ميزا الفترة السابقة على عام 1100، تمَّ إنتاج كتلة صغيرة من المعرفة الدقيقة حول معتقدات الإسلام وحياة النبي، بهدف السجال والتبشير إلى حد كبير، ولكن ظهر معها أيضًا طاقم من الصور والتصورات المشبوهة، الازدرائية في الغالب، كانت منتشرةً في كل مستويات المجتمع" [22] . [1] نُشر هذا الفصل بعنوان: مراجعات في نقد الاستشراق: الاستشراق والإسلام، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع 3 (ربيع الآخر 1428هـ)، ص 13 - 44. [2] انظر: مُحمَّد فتح الله الزيادي، انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه، بيروت: دار قتيبة، 1411هـ / 1990م، 201 ص. [3] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار؟! - عمَّان: دار مجدلاوي، 1422هـ / 2002م، 224 ص. [4] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا، تعريب: جوزف منصور، بيروت: عويدات، 2006م، ص 119، والطريف في هذا الأمر أنَّ البابوية كانت لا تقرُّ التعامُل التجاري مع غير "المؤمنين". [5] انظر: توماش ماستناك: السلام الصليبي، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م، ص 143 - 232. [6] سمَّى المسلمون هذه الحملات بحروب الفرنجة، وتسمية الحروب الصليبية جاءت من الصليبيين أنفسهم. انظر: أمين معلوف. الحروب الصليبية كما رآها العرب / ترجمة عفيف دمشقية، ط 2، بيروت: دار الفارابي، 1998م، 352 ص. [7] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار!؛ مرجع سابق، ص 30. [8] انظر: هنري بينا - روث. ما هي العلمانية / ترجمة ريم منصور الأطرش، مراجعة جمال شحيِّد، دمشق: المؤسَّسة العربية للتحديث الفكري، 2005م، ص 13. [9] انظر مقدِّمة المترجم في: يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والاسلامية في أوروبا حتَّى بداية القرن العشرين / تعريب عمر لطفي العالم، دمشق: دار قتيبة، 1417هـ / 1997م، ص 7. [10] انظر: أحمد الجهيني ومُحمَّد مصطفى، الإسلام والآخر، القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 2005م، ص 176. [11] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط / ترجمة شريف يونس، القاهرة: دار الشروق، 2007م، ص 84. [12] انظر: أحمد الجهيني ومُحمَّد مصطفى: الإسلام والآخر، المرجع السابق، ص 178 - 179. [13] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار؟! مرجع سابق، ص 52. [14] انظر: محمود حمدي زقزوق: الإسلام والاستشراق، ص: 71 - 102، في: نخبة من العلماء المسلمين، الإسلام والمستشرقون، جدة: عالم المعرفة، 1405هـ / 1985م، 511 ص. [15] حصل للِّباس العربي في أوروبا والغرب بعض التحوير في شكل العباءة العربية، بما في ذلك لبس العمامة والذؤابة، وعمدت بعض المراكز العلمية العربية والإسلامية إلى استعارة هذا الشكل المحوَّر عن اللباس العربي وألبسته أساتذتها وطلبتها في المناسبات العلمية! [16] انظر: عبدالله العلي العليان: الإسلام والغرب ما بعد 11 سبتمبر 2001، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005م، ص 200. [17] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا؛ مرجع سابق، ص 110. [18] انظر: مُحمَّد عبدالله مليباري. المستشرقون والدراسات الإسلامية، الرياض: دار الرفاعي، 1410هـ / 1990م، ص 36. [19] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا؛ مرجع سابق، 232 ص. [20] انظر: كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: محاولة جديدة في فهم الإسلام / ترجمة مُحَمَّد الجورا، ط 2، دمشق: دار الحصاد، 2002م، ص 18. [21] انظر: عبدالراضي محمد عبدالمحسن: ماذا يريد الغرب من القرآن؟ الرياض: مجلة البيان: 1427هـ / 2006م، ص 72. [22] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته؛ مرجع سابق، ص 84.
تأملات في سيرة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن سيرة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من السير العميقة؛ لما كان عليه هذا الرجل من محبة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، ولكنه لم يوفق للهداية ومات على الكفر. وكان أبو طالب واسمه عند الجميع عبد مناف بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، وهو والد علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وكان منيعًا عزيزًا في قريش، وسيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة، وكان شقيق عبدالله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبدالمطلب عند موته، فكفَله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث، وكان يذُب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد عنه كلَّ من يؤذيه، وأخباره في حياته والذب عنه معروفة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله: وَاللهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم حَتّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفينًا [1] وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدائح عدة، منها قوله لما استسقى أهل مكة فسقوا: وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بوجههِ ثِمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأراملِ ومنها قوله في قصيدة له: شَقَّ لَهُ مِنِ اسمِهِ كَي يُجِلَّهُ فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ قال ابن عيينة عن علي بن زيد: ما سمعت أحسن من هذا البيت. ولَما اتفقت قريش وتعاهَد كبارهم على حصار بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، وأن يضيقوا عليهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل. قام أبو طالب في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه وحياطته والقيام دونه، فأجابوا إلى ذلك وأجمعوا أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم شِعب [2] بني هاشم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فأجابوا لذلك، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه حتى كفارهم دخلوا الشِّعب حَميةً للرحم والقرابة، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أبو لهب بن عبد المطلب، فقد انحاز إلى قريش وفارق بني هاشم وبني المطلب. وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرًا فإذا نام الناس، أخذ أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فأضجعه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فُرشهم فيرقُد عليها [3] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هدايته غاية الحرص، فلما بايع أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُبْكيكَ؟» قال رضي الله عنه: لأن تكونَ يدُّ عمِّك مكانَ يدِه، ويسلمُ ويُقرُّ اللهُ عينَك أحبُّ إليَّ من أن يكون [4] . واستمر أبو طالب في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه إلى وفاته. روى البخاري ومسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَالِبٍ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِالمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِالمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56] [5] . وفي رواية أنه قال: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ [6] . قال أبو طالب في شعره: لَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا لَوْلاَ المَلامَةُ أَو حَذَارِ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَني سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد أسلم وحسُن إسلامه في آخر حياته [7] ، أما أبو جهل الطاغية المعروف فقد قُتل يوم بدر على الكفر. قال ابن كثير رحمه الله : وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تُداني ولا تُسامي ولا يُمكن لعربي مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان، لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه؛ ا.هـ [8] . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] فتح الباري (7/ 591). [2] الشعب هو ما انفرج بين جبلين. انظر: لسان العرب (7/ 128). [3] انظر: دلائل النبوة لأبي تميم (1/ 273). [4] أورد هذا الحديث الحافظ في الإصابة (7/ 199) وعزاه إلى عمر بن شبه النميري في كتاب مكة وصحح إسناده. [5] صحيح البخاري برقم (3884)، وصحيح مسلم برقم (24) واللفظ له. [6] صحيح مسلم برقم (25). [7] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 36). [8] البداية والنهاية (4/ 314-315) بتصرف.
طبعة ملونة من مختصر خليل من إصدارات دار المعراج صدر حديثًا طبعة ملونة ومميزة من كتاب "المختصر في فروع المذهب المالكي"، الش هي ر بمختصر خليل، لمؤلفه: العلامة "خليل بن إسحاق الجندي المصري" (ت 776 هـ) ، قام على خدمته: "محفوظ بن ساعد بوكراع" و"عبدالحق بن أحمد بو ربيعة"، نشر: "دار المعراج للنشر والتوزيع". ويُعَدّ "مختصر الشيخ خليل"، للشيخ الإمام "ضياء الدين أبو المودة خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المالكي المعروف بالجندي" من أشهر المختصرات الفقهية على مذهب السّادة المالكية، بل ربما كان أشهرها على الإطلاق في القرون المتأخرة، ويشهد لذلك عناية العلماء به وعكوف طلاب العلم على حفظه ودراسته، وتلقيهم له بالقبول. وبالنظر في منهج الشيخ خليل الذي سلك في هذا المختصر نلاحظ أنه اقتصر على مشهور المذهب وما تكون به الفتوى من الأقوال، وترك بقيّتها ولم يُخرج من المسودة إلاَّ ثلثه الأول إلى النكاح، ومع ذلك أقام في تأليفه خمسًا وعشرين سنة، ووُجد باقيه فجمعه أصحابه، وألّف بعده "بهرام" باب المقاصّة منه، وأكمل " الأقفهسي " جملة يسيرة ترك لها بياضًا. وكان ظهور الشيخ خليل بن إسحاق - الفقيه المالكي - في القرن الثامن، وبروز مختصره الفقهي الجامع الذي نال إعجاب أهل المغرب، ممكنًا لمصر منزلتها عند فقهاء المالكية بتونس، وفي المختصر أثر واضح لمتقدمي الفقهاء الأفارقة مثل: اللخمي، وابن يونس، والمازري، وهم ثلاثة من الأربعة الذين بني على اختيارهم مختصر خليل كما هو مبين في خطبته. وقد جمع فيه خلاصة فقه المذهب المالكي بطريقة مختصرة جدًا ويعتبر هذا الكتاب وشروحه، المعتمد في نقل أرجح الأقوال التي تم اعتمادها في الفقه المالكي. وهذه الطبعة الجديدة من هذا المختصر المبارك امتازت بعدة ميزات منها: اعتماد المحققين على نسخة المتن التي شرح عليها العلامة "الدردير" لما عُرِفَ به من التحقيق والضبط، ولاعتماده في التدريس في هذه العصور المتأخرة. مع الإشارة إلى الخلاف الموجود بين نسخ متن "المختصر"، مما نبه عليه الشراح (الدردير، والزرقاني، والحطاب، والخرشي، وعليش ) ، وكلها مطبوعة، مع الاكتفاء بذكر الخلاف الذي ينبني عليه معنى. كما قام المحققان بوضع رقم تسلسلي من أول الكتاب إلى آخره لمسائل الكتاب واصطلحا على تسميته (الصورة الكبرى) مستعينين بشرح الخرشي، إذ أنه شرح المختصر بهذه الطريقة، فهو يأتي بالصورة ثم يأتي بشرحها، وهذا في الغالب الأكثر. وقد نوه العلماء أن العلامة خليل قد عمد في مختصره إلى الترميز، مما جعل متنه لغزًا كبيرًا، فلا يكاد يقرأ بعيدًا عن شرح، لذا عمدا إلى وضع مسهلات كان قد اعتمدها العلماء في بعض الزوايا الجزائرية؛ كي تعين على فهمه وشرحه منها: ♦ النقطة الحمراء (( • ) ): تنوب عن الفاصلة، وتوضع عند المحل الذي يمكن التوقف عنده، ويسمونها: " الصورة الحمراء ". ♦ الترجيعة: وهي خط ممتد فوق العبارات المرجَّعَة إن فصلت بكلام، فتقرأ مع بعضها، كالمبتدأ مع خبره، والشرط مع جوابه، يضعون جزءًا من هذه العلامة فوق الشطر الأول من الجملة، وجزأه الآخر على تمامها، وقد عوض المحققون تلك العلامة بتلوين الشطر الأول وجزئه الثاني، بنفس اللون، فيقرأ الأول مع الثاني مع تجاوز كل ما ورد بينهما، ثم بعد ذلك يقرأ ما بينهما صورة صورة، فإن تغير اللون فيعلم القارئ أنه أمام مسألة أخرى فيها ترجيع آخر. كما أضيفت للكتاب الألوان لفك الملغز منه ليصير سهلًا ميسورًا للقراء وأدعى للاستيعاب، مع ترتيب الألوان وإعادتها في كل فصل من فصول المختصر، فجعل اللون الفيروزي الأول في كل فصل، ثم الأرجواني، ثم الأخضر، وهكذا كما هو موضح في الكتاب. وقد ألحق به المحققان كتاب " الجامع " المنسوب للمؤلف، مقابلًا على العديد من النسخ، وهي خمس نسخ خطية مع مطبوعتيه، وأثبتا الخلاف المهم من النسخ، واتبعا طريقة النص المختار، مع تقسيمه أربعة أحزاب ونهجا فيه نفس النهج الذي اتبعاه في المختصر. وصاحب " المختصر " العلامة خليل: هو خليل بن إسحاق بن موسى المالكي - المعروف بالجندي - وكان يسمى محمدًا، ويلقب ضياء الدين، سمع من ابن عبد الهادي، وقرأ على الرشيدي في العربية والأصول، وعلى الشيخ عبد الله المنوفي في فقه المالكية، وشرع في الإشغال بعد شيخه وتخرج به جماعة، ثم درس بالشيخونية وأفتى وأفاد ولم يغير زي الجندية. وكان صينًا عفيفًا نزهًا، كانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة 767 هـ. من مصنفاته: • "المختصر" في الفقه، ويعرف بـ "مختصر خليل"، وقد شرحه كثيرون. • "التوضيح" شرح به مختصر ابن الحاجب فِي سِتّ مجلدات انتقاه من شرح ابن عبد السلام وَزَاد فِيهِ عزوَ الأقوال وإيضاحَ مَا فِيهِ من الْإِشْكَال. • "المناسك" . • "مخدرات الفهوم في ما يتعلق بالتراجم والعلوم" . • "مناقب المنوفي" .
الإنترنت عالم مشتت ولكن! في عالم الإنترنت لا مجال للفِكاك من رِبْقَةِ الأسْرِ إلى استراحة التركيز، فالمشتِّتات تلهو متبرجة على جانبي الطريق، وأسرى الهوى كُثُر لا مقوِّم لهم، ولا كبير هدف لديهم. وفي ساحة الإنترنت الغَثُّ والسمين، والمنقذ من الضلال والمردي فيه، والصحبة الصالحة وجلساء السوء، وأخطر ما فيه "مضيعات الوقت"، الذي هو الفارق بين إنسان سويِّ الإرادة، وآخر راكب الأمنيات، متوهِّم الرغبات. الإنترنت عالم مشتِّت، ومن يسايره، فهو والمنبت سواء، لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، لا يرجع من تعرجاته إلا بخُفَّي حُنين، كحاطبِ ليلٍ غير أن له جعجعة، وليس ثَمَّ طَحينٌ. إن شعراء العصور المختلفة وفقهاءَها ومفكريها وغيرهم ممن بنَوا تراث الأمة وثقافتها، جيلًا بعد جيل - قد رأوا الحياة واقعًا معيشًا، لامَسُوا مادياتها، وحلَّقوا مع أفكارها وتصوراتها، وفلسفتها ومراميها، فحَكَوا عن الحياة كما هي، وصوَّروا مقاصدها وإرهاصاتها بدون تجميل، ولا تشويش، ولا تشويه، كما تفعل أصابع القص واللَّزق في عالم الإنترنت. الإنترنت ليس حقيقة زائفة، ولا خيالًا عابرًا، غير أننا لا نحسن استخدام تلك الأداة، كما أحسن البدوي استخدام عصاه في مآرب عديدة؛ فنحن من يجري وراء كل ناعق، ليس لدينا الوقت لتمييز، ولا كثير جهد لتقليل هذا الخَبْطِ العشواء الذي نحياه ونتجرَّعُه حتى الثُّمالة. تتلاشى بركة الوقت، وقوة البدن، وإعمال الفكر، وجدوى التواصل بمقدار ما نرمي بأجسادنا على وسائد الإنترنت الْمُهْتَرِئة، فيتسلل إلى أجسادنا الخمول، وإلى عقولنا الاستسلام، وإلى همَّتِنا الكسل والدَّعَةِ، وإن كانت لنا فكرة، ضاعت مع المشتِّتات، وذابت في أفكار الآخرين؛ جيِّدِها وسيِّئِها. علينا أن نتخذ الإنترنت كأداة تثقيف تزيد من قوة تفكيرنا ونظرتنا إلى الأمور. نتخذه كأداة مُدارَسة، ووسيلة مساعدة ومساندة في تحصيل العلم، ومتابعة العلماء والْمُعلِّمين. نتخذه كوسيلة اتصال لتعزيز صلة الرحم، والتواصل البنَّاء مع الناس. نتخذه كوسيلة ترفيه بلا إفراط في مشاهدة ما نميل إليه، ونستفيد منه. إن ضاعت الاستفادة من الإنترنت، فهو كسائر المحرَّمات، فإن كانت الخمر تُذهِب العقول، فإن الإنترنت يجلب إليها ما يفسدها من مشاهدَ محرَّمة، ومتابعات يقلِّد فيها الناسُ السفهاءَ والمجرمين، وما أكثر الجرائم التي جلبها التقليد في هذا العالم الخفيِّ! يقول طرفة: إذا القوم قالوا مَن فتًى خِلتُ أنني عُنيتُ فلم أكْسَلْ ولم أتبلَّدِ
ورقة تعريفية عن كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي أولًا: اسم الكتاب: الإتقان في علوم القرآن. ثانيًا: اسم المؤلف: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين السيوطي الشافعي. مؤلفاته: كان أغزر أهل عصره تأليفًا واختصارًا، وألَّفَ في كثيرٍ من العلوم، وتُقدَّر مؤلفاته المطبوعة ب331 عنوانًا، والمتبقي ما بين مخطوط أو مفقود أو مجهول المكان. تاريخ تأليف كتاب الإتقان في علوم القرآن: تعجب السيوطي في زمان طلبة العلم من المتقدِّمين؛ لكونهم لم يؤلفوا كتابًا في أنواع علوم القرآن كما صنعوا بالنسبة لعلم الحديث، ثم بعد اطِّلاعه على كتاب شيخه الكافيجي "التيسير في قواعد علم التفسير"، وكتاب البلقيني "مواقع العلوم من مواقع النجوم" دعاه وقوفه على "مواقع العلوم" إلى تصنيف كتاب "التحبير في علم التفسير"، ثم أراد أن يُنشئ كتابًا آخر أوسع منه، وشجَّعَه على ذلك وقوعه على كتاب "البرهان" للزركشي؛ مما قوَّى عزمه على تصنيف كتاب "الإتقان في علوم القرآن" في سِنِّ التاسعة والعشرين؛ على هذا يكون بين تأليف كتاب "التحبير" و"الإتقان" سِتُّ سنوات. زيادات السيوطي في علوم القرآن: أضاف السيوطي مباحثَ جديدةً إلى علوم القرآن، وكانت على أربعة أقسام: القسم الأول: ما لم يُسبَق إليه. القسم الثاني: إضافات السيوطي الجديدة إلى ما في البرهان للزركشي. القسم الثالث: علوم القرآن التي أصَّلَها في البرهان للزركشي. القسم الرابع: إضافات المسائل الجديدة. مصادر الإتقان: بلغت مصادره في الإتقان نحو 550مصدرًا على وجه الإجمال، وشملت مصادره على العموم أحدَ عشرَ علمًا؛ هي: التفسير وعلوم القرآن والحديث والعقيدة والفقه والأصول والسيرة النبوية والزهد والسلوك واللغة وفروعها والتراجم العامة والتراجم الخاصة والفنون العامة. وقد اقتصر صاحب كتاب "موارد السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن من الدراسات القرآنية ومنهجه فيها جمعًا ودراسةً" على الموارد التي نَصَّ عليها السيوطي، وبلغت 105على سبيل الإجمال، ثم بدأ في تفصيلها، وأخبر أنها 11موردًا عرضت لعلوم القرآن بعامة، و23 عرضت لفن من علوم القرآن، و7 موارد من كتب الناسخ والمنسوخ، و4 من كتب فضائل القرآن، وبلغت موارده في التفسير 30موردًا على طريق الإجمال: 17من التفسير بالمأثور، و9 من التفسير بالرأي المحمود، و4 من التفسير بالرأي المذموم، و7عرضت للإعجاز في القرآن الكريم، و6موارد عرضت لصور من الإعجاز، و13موردًا في القراءات بعامة، و4موارد في خَطِّ المصحف. ثم أخبر صاحب الكتاب د. عبد الله الرومي أن الإمام السيوطي إمام فَذٌّ ذو عقلية مُتَّقدة ومستنيرة، واسع الاطِّلاع، جامع لكثير من العلوم، فهو عالم بعلوم القرآنِ وبالتفسير واللغة والقراءات وغيرها، وقال بتنوُّع مواضيع موارده من الدراسات القرآنية واشتمالها على عدد من أنواع علوم القرآن، وكذلك قال بأمانة ونزاهة السيوطي العلمية حيث عزا ما ينقل لأصحابه في مؤلفاتهم، وكذا أخبر بتغايُر منهج السيوطي في النقل من حيث: أولًا: من حيث الكثرة والقِلَّة. ثانيًا: من حيث طبيعة النقل، فتارةً بالنص أو مع اختلاف يسير، وتارة بالمعنى، وتارة ينقل بنحوه أو شبهه، وتارةً ملخصًا. ثالثًا: من حيث موقفه من هذه النقولات، فتارةً يناقش أو يناقش ويرد، وتارة يسلم أو يسلم مع زيادة توضيح وبيان، وتارة يرد؛ ص 409-423 بتصرُّف. القيمة العلمية لمصادر السيوطي في الإتقان: 1- حفظ لنا السيوطي نصوصًا عديدةً في كتب مفقودة نحو "تفسير الفريابي وابن مردويه" و"كتاب الإفراد والجمع" للأخفش. 2- إمكان أخذ تصوُّر عن كتاب مفقود من حيث محتواه وترتيبه؛ ككتاب المصاحف للأصبهاني. 3- إضافة نصوص ناقصة إلى كتب مطبوعة. مميزات الإتقان: 1- الإضافات الجديدة. 2- الوقفات التقويمية في بعض المسائل. 3- اختيارات السيوطي. 4- القيمة العلمية لمصادره. 5- إجادة السيوطي الكتابة في بعض أنواع علوم القرآن؛ كعامِّه وخاصِّه، وطبقات المُفسِّرين. 6- الاهتمام بالمسائل الكِبار دون ما لا طائل تحته. 7- انتقاداته واعتراضاته وتعقُّبه للزركشي. 8- تصديره كثيرًا من المباحث بأهمِّ المصنَّفات في النوع المتدرجة تحته. 9- التيسير لسُبُل البحث والدراسة؛ لجمعه مادة علمية يصعب على كثير الاطلاع عليها في مظانِّها. 10- من أُمَّات الكتب المعتمد عليها في الدراسات القرآنية. 11- تلخيص عدد من أنواع علوم القرآن بعبارة سهلة لا استطراد فيها يخرجه عن لَمْلَمة زمام الموضوع المُتحدَّث فيه. وأضاف صاحب كتاب "علوم القرآن بين البرهان والإتقان: دراسة موازنة" د. حازم حيدر ابتكارَ السيوطي لثلاثة أنواع من علوم القرآن لم تُفرَد من قبله، ولم يتعرَّض لها من كتب في علوم القرآن بشكل مجموع؛ وهي: الأرضي، والسمائي، وفيما أُنْزِل من القرآن على لسان بعض الصحابة، وما أنزل منه على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ص 688. مكانة الإتقان بين كتب علوم القرآن: يُعَدُّ الإتقان من الكتب المهِمَّة في مجال الدراسات القرآنية، وقد تقدَّمت طباعته، فكان من أوائل الكُتُب التي طُبِعَت في العالم الإسلامي، وقد كان ذلك سببًا في تعريف الناس بكتاب "البرهان" للزركشي؛ لوفرة ما ينقله عنه. وقد أثنى عليه جَمْعٌ من أهل العلم؛ كأبي بكر المرعشي، وابن عقيلة، والزرقاني، وغيرهم، ويُعَدُّ تلخيصًا محكمًا للبرهان، وتَمَّ اختصاره في نحو ثلاثةَ عشرَ كتابًا؛ مثل: "مختصر الإتقان" لصلاح الدين أرقه دان اللبناني، وهو مطبوع، وتُرجِم كتاب الإتقان إلى اللغة الفارسية والأُرْديَّة. ويُعَدُّ الإتقان أوسع مصنف في علوم القرآن منذ بداية التأليف في المباحث الكلية للعلم، وترجع عناية العلماء به إلى عدة أسباب منها سعة مباحثه، وشهرة مُصنِّفه، وكثرة مصنفاته، وكذا تأخُّر طباعة البرهان بعد طباعة الإتقان بمائة وستة أعوام. وقد أثَّر الإتقان في كثير من العلماء بعده، فظهر ذلك جليًّا في استفادتهم من كتاب السيوطي رحمه الله. من هذه الكتب: "الزيادة والإحسان في علوم القرآن" لابن عقيلة المكي، و"مِفْتاح السعادة ومِصْباح السيادة" لطاش كبري زاده، و"التبيان" لطاهر الجزائري. طبعات الكتاب: طبع الكتاب أكثر من عشر مرات، منها طبعة المطبعة المعمدانية في كلكتا الهند، وطبعات كثيرة بالقاهرة، وطبعة إحياء العلوم ببيروت، وطبعة دار ابن كثير بدمشق، وطبعة دار الكتاب العربي ببيروت، وكل هذه الطبعات نالها قصور وأخطاء؛ لذا تم التفكير في طبعة جديدة؛ وهي طبعة مَجْمَع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وقد تميَّزت بمقابلة النصوص على عدد كبير من النُّسَخ؛ لتلافي الأخطاء السابقة، ونالت نصوص الإمام السيوطي حظها من التوثيق والنظر العلمي والتصويب. المآخذ على كتاب الإتقان: وُجِدَت بعض الملحوظات على كتاب السيوطي منها: 1- حاد في بعض المسائل عن منهج السلف. 2- إيراد عدد من الروايات الواهية وسكت عنها. 3- التوسُّع في إيراد الإسرائيليات. 4- التناقض في بعض المسائل. 5- ترك الترجيح في بعض المسائل. 6- إيراد معلومات عديدة دون عزو لأصحابها. 7- ترك التعريف. 8- ترك الترتيب. منهج السيوطي في كتابه: قال رحمه الله: «فَوَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ الْعَلِيَّ الشَّأْنِ الْجَلِيَّ الْبُرْهَانِ الْكَثِيرَ الْفَوَائِدِ وَالإتقان، وَرَتَّبْتُ أَنْوَاعَهُ تَرْتِيبًا أَنْسَبَ مِنْ تَرْتِيبِ الْبُرْهَانِ، وَأَدْمَجْتُ بَعْضَ الْأَنْوَاعِ فِي بَعْضٍ، وَفَصَلْتُ مَا حَقُّهُ أَنْ يُبَانَ، وَزِدْتُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْفَرَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ وَالشَّوَارِدِ مَا يُشَنِّفُ الْآذَانَ، وسمَّيْتُه بـ"الإتقان فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ"، وَسَتَرَى فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّصْنِيفِ مُفْرَدًا، وَسَتُرْوَى مِنْ مَنَاهِلِهِ الْعَذْبَةِ رِيًّا لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَقَدْ جَعَلْتُهُ مُقَدِّمَةً لِلتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ الَّذِي شَرَعْتُ فِيهِ، وسمَّيْتُه بـ"مَجْمَع الْبَحْرَيْنِ وَمَطْلَعِ الْبَدْرَيْنِ الْجَامِعِ لِتَحْرِيرِ الرِّوَايَةِ وَتَقْرِيرِ الدِّرَايَةِ"، وَمِنَ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ وَالْمَعُونَةَ وَالرِّعَايَةَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب». وبعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله في تعداد أبواب كتابه؛ حيث قسَّمه إلى ثمانين نوعًا هي كالآتي: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ. الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْحَضَرِيِّ وَالسَّفَرِيِّ. الثَّالِثُ: النَّهَارِيُّ وَاللَّيْلِيُّ. الرَّابِعُ: الصَّيْفِيُّ وَالشِّتَائِيُّ. الْخَامِسُ: الْفِرَاشِيُّ وَالنَّوْمِيُّ. السَّادِسُ: الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ. السَّابِعُ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ. الثَّامِنُ: آخِرُ مَا نَزَلَ. التَّاسِعُ: أَسْبَابُ النُّزُولِ. الْعَاشِرُ: مَا نَزَلَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: مَا تَكَرَّرَ نُزُولُهُ. الثاني عشر: ما تأخَّر حكمه عَنْ نُزُولِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْ حُكْمِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا نَزَلَ مُفَرَّقًا وَمَا نَزَلَ جَمْعًا. الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا نَزَلَ مُشَيَّعًا وَمَا نَزَلَ مُفْرَدًا. الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا أُنْزِلَ مِنْهُ عَلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا لَمْ يُنَزَّلْ مِنْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّادِسَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ. السَّابِعَ عَشَرَ: فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَأَسْمَاءِ سُوَرِهِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: فِي جَمْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: فِي عَدَدِ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ. الْعِشْرُونَ: فِي حُفَّاظِهِ وَرُوَاتِهِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: فِي الْعَالِي وَالنَّازِلِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُتَوَاتِرِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْمَشْهُورِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْآحَادِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الشَّاذِّ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَوْضُوعُ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُدْرَجُ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي بَيَانِ الْمَوْصُولِ لَفْظًا الْمَفْصُولِ مَعْنًى. الثَّلَاثُونَ: فِي الْإِمَالَةِ وَالْفَتْحِ وَمَا بَيْنَهُمَا. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْإِقْلَابِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْمَدِّ وَالْقَصْرِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي كَيْفِيَّةِ تَحَمُّلِهِ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ غَرِيبِهِ. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْحِجَازِ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ. الْأَرْبَعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُفَسِّرُ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ إِعْرَابِهِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فِي قَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ يَحْتَاجُ الْمُفَسِّرُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي خَاصِّهِ وَعَامِّهِ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُجْمَلِهِ ومُبَيَّنِهِ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُشْكِلِهِ وَمُوهِمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ. الْخَمْسُونَ: فِي مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فِي وُجُوهِ مُخَاطَبَاتِهِ. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: فِي تَشْبِيهِهِ وَاسْتِعَارَتِهِ. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي كِنَايَاتِهِ وَتَعْرِيضِهِ. الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ. السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ. الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي فَوَاصِلِ الْآيِ. السِّتُّونَ: فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ. الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي مُنَاسَبَةِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ. الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْآيَاتِ الْمُشْتَبِهَاتِ. الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ. السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَمْثَالِهِ. السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي أَقْسَامِهِ. الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: فِي جَدَلِهِ. التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْأَلْقَابِ. السَّبْعُونَ: فِي مُبْهَمَاتِهِ. الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: فِي أَسْمَاءِ مَنْ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ. الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: فِي أَفْضَلِ الْقُرْآنِ وَفَاضِلِهِ. الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ. الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: فِي خَوَاصِّهِ. السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: فِي رُسُومِ الْخَطِّ وَآدَابِ كِتَابَتِهِ. السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهِ وَتَفْسِيرِهِ وَبَيَانِ شَرَفِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ. الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: فِي شُرُوطِ الْمُفَسِّرِ وَآدَابِهِ. التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ. الثَّمَانُونَ: فِي طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ. المراجع: 1- الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، ط الملك فهد. 2- موارد السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن من الدراسات القرآنية ومنهجه فيها: جمعًا ودراسةً، د. عبدالله الرومي. 3- علوم القرآن بين البرهان والإتقان: دراسة موازنة، د. حازم حيدر. ورقة تعريفية مقدمة كبحث للتخرُّج من برنامج كفاية المبتدي للشيخ عمرو الشرقاوي.
يوسف الصديق عليه السلام (2) ذكرتُ في الفصل السابق ما كان من إخوةِ يوسف عليه السلام وكيدهم له، والاحتيال على أبيهم في أخذِهم يوسفَ منه وإلقائه في الجُب، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾ "أي: بعض المسافرين المارِّين من القوافل، والسَّيَّارة: جمع سيَّار، أي: الكثير السير المبالغ فيه" ﴿ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 7 - 10]، ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 11 - 18]. وكان موقفُ يعقوب عليه السلام - عندما أخبره بنوه بأن الذئبَ أكلَ أخاهم يوسف مع يقينه بكذبِ بنيه هؤلاء، وأن يوسفَ قد تعرَّض لامتحانٍ عسيرٍ - هو هذا الموقفَ الكريم من الصبر على البلاء، وتفويضِ الأمر لله وعدم الجزَع، وفي ذلك قدوة لكلِّ عبدٍ صالحٍ يُبتلى ويُمتحن. ولذلك روى البخاريُّ أن الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين الحصان الرزان عائشة رضي الله عنها لما رُميت بالإفك قالت: "واللهِ لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف؛ إذ قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]". وقد وصف الله تبارك وتعالى ما حدث ليوسف بعد أن ألقاه إخوته في الجُب بما يفيد أن وحشته في الجُب لم تَطُلْ، وأن الله تعالى هيَّأ له قومًا من المسافرين نزلوا قريبًا من الجُب، وبعثوا واردَهم، أي: شخصًا يرد الجُب ليستقي لهم، فألقى دلوَه في الجُب فتعلَّق بها يوسف عليه السلام، فلما أحسَّ به الوارد أخرجه وقال: يا فرحتي! هذا غلام، واتَّفق في السرِّ مع بعض رفقته أن يزعموا أنه: عبدٌ استبضعناه لبعض أهل المالِ القريبين من الجُب لنبيعَه لهم في مصر، وكأن يوسف عليه السلام رأى أنه لا يستطيع ردَّ دعواهم هذه في عبوديته، فاستسلم، وكأنَّ الذين جعلوه بضاعة أحسوا بأنهم أمام إنسان كريم، لا ينبغي أن تتداولَ مثله الأيدي، ورأوا أنه لا يصلح أن يضعوه إلَّا عند كبير وزراء ملك مصر تكرمةً له. فما أن قدموا مصرَ حتى قدَّموه لعزيزها وباعوه له بثمَن "رمزي"؛ ﴿ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20]، أي: قليلة؛ يقينًا منهم أن هذا الإنسانَ الكريمَ حريٌّ أن يستقرَّ في بيت العزيز على أيِّ حال، وأنهم ليسوا أهلًا لجعله تحت أيديهم أو أيدي سواهم ممَّن دون العزيز، وبدأت مراحل التكريم والإكبار والإجلال والإعزاز تترادف على يوسف عليه السلام، وكانت فرحة العزيز به غامرة، وقال ﴿ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾، وأنزليه أحسن المنازل؛ ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21]، وهكذا فرُبَّ ضارَّة نافعة؛ فقد انتقل من شظفِ العيش في البادية إلى أكبر القصور المتحضرة، وكان إلقاؤه في الجُب سببًا لوصوله إلى مصرَ وتنقله في أطوار الكرامة حتى صار ملكَها، فرحم الله به العبادَ والبلاد وبخاصة في سِنيِّ القحط والجدب، حتى امتدَّ ما أفاء الله به بسببه إلى أبويه وإخوته. وفي هذا تثبيت لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأني عالمٌ بأذى قومك لك، لكن الفرجَ قريب، فسأجعل لك حُسنَ العاقبة والتمكن منهم، وكذلك فعل الله عز وجل، فلم يطُلِ الأمر حتى هاجر رسولُ الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد سنين قريبة من سني ابتعاد يوسف عن أبيه فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ، ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا، وقد أُثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة الذين آذوه وأخرجوه: ((ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟))، قالوا: أخٌ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((لا أقول لكم إلا كما قال أخي يوسف: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء)). وقد وصف الله تبارك وتعالى انتقالَ يوسف إلى بيت عزيز مصر بأنه تمكينٌ له في الأرض، وقد بلغ فيه أشده، وآتاه الله الحكم والعلم، وفي ذلك كله يقول الله عز وجل: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ ﴾ "أي باعوه" ﴿ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ "كان زهدهم فيه زهدَ إجلال وإكبار لا زهد ازدراء واحتقار" ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 19 - 22]. وقد ذكر الله تبارك وتعالى عن زوجةِ العزيز أنها تَعَلَّق قلبُها بيوسف، وقد ﴿ شَغَفَهَا حُبًّا ﴾، أي: دخل حبُّه شغافَ قلبها، أي: غلافه أو حجابه، أو حبَّته أو سويداءه، فصار في قلبها كأنه مَلِكٌ وهي أَمَتُه، تبذل كلَّ ما تطيق لإسعاده وإعزازه وإكرامه، حتى بلغ بها الحال أن فكَّرت في مخالطته، فبذلت كلَّ ألوان الإغراء بها أمامه، وهو منصرف عنها غير عابئ بتصرُّفاتها، فلما أيقنتْ أن مراودتها له لم تَصرف وجهَه إليها رأت كما قيل: فَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمَنِّي ولكنْ تُؤْخَذُ الدُّنيا غِلابا وأنَّ التلويحَ لم يفدها بشيء، وأنه لا بد من التصريح ليوسف بحاجتها، ﴿ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾، أي: تهيَّئتُ وتجمَّلتُ من أجلك أنت فأقبل عليَّ، ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾، أي: أتحصَّن بالله وأستجير به من أن أرتكب جريمة الزنا، وهي أفحش الجرائم، وقد أحسن الله إليَّ كثيرًا، وهيَّأَ لي المنزل الحسن والمرجع الكريم، فكيف أقابلُ إحسانَه بمعصيتِه، والزناة لا يسعدون؛ ﴿ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾، أي: لا يسعد الزناة، فإنَّ الزنا مجلبة لزوال النعمة في الدنيا وعذاب الله في الآخرة، ولما كان الطيش والثورة الجنسية قد بلغا بالمرأة كلَّ مبلغٍ، لم تعبأ بامتناعه واعتصامه عن السوء فأقبلت عليه، ولولا أنَّ الله تعالى يعصم أنبياءه ورسلَه من السوء لأقبل عليها، ولكن يوسف عليه السلام قد تجلَّتْ له نِعَمُ الله عليه، فصرف الله عنه السوءَ والفحشاء، وخرج إلى جهة الباب هاربًا منها، فلحقتْه وأدركتْ قميصَه من خلفه فجبذته، فانقطع القميص من دُبر؛ أي: من خلف، لكنه تمكَّن من الباب، وكان العزيز عند هذا الباب، فسارعت إلى إلصاقِ التهمة بيوسف، وقالت لزوجها: ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، فدافع يوسفُ عن نفسه، وقال للعزيز: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾، فأنطق الله شاهدًا من أهلها فقال للعزيز: انظر القميصَ؛ إن كان قطعُه من جهة صدرِه فهي بريئة؛ لأنها تكون قطعتْه وهي تدافع عن نفسها وهو مقبِل عليها، وإن كان القميصُ قُطِعَ من جهة الخلفِ فهو بريءٌ؛ لأنها قطعته وهو يحاول الفرارَ منها وهي تلاحقه، فلما رأى أن قطع القميص كان من الخلف أيقن ببراءة يوسف عليه السلام. ومن الملاحظ هنا أن الشاهدَ بدأ بالنظر في قطع القميص من أمام؛ ليكون أَدْعَى لمحاولته براءتها؛ حتى لا يُتَّهم بمحاباة يوسف عليه السلام، وإن كان هذا الشاهدُ من أهلها، كما أن ذلك يكونُ أوقعَ في قبول شهادته عندهما، وهذا شبيه بما قال مؤمن آل فرعون لفرعون وقومه في موسى عليه السلام: ﴿ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، فإن هذا المؤمن بدأ فرضَ المسألة باحتمال أن يكون كاذبًا، وثنَّى باحتمال أن يكون صادقًا ليكون كلامُه أوقع في قلوبهم، وأقرب لتصديق نصحه لهم، ولم يُسمِّ الله تبارك وتعالى امرأةَ العزيز ولم يسمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون فيها: زليخاء أو زُليْخاء أو راعيل، ولما لم يكن لتعيين اسمها كبير فائدة لم يسمِّها الله عز وجل لنا، وإنما ذكر الأمرَ المهم الدالَّ على رفعة قدر يوسف ونزاهته بأنه في بيتها، وأنها غلَّقَتِ الأبواب، وأنها قالت: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ وأنها ﴿ هَمَّتْ بِهِ ﴾ [يوسف: 24]، ومع ذلك صرف الله عنه ﴿ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾. وفي ذلك كله يقول الله عز وجل: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 23 - 29].
غزوة بدر في القُرْآن الكريم أولى معارك الإسلام الخالدة التي وضعت حدًّا لغطرسة قريش، ورفَعت من معنويات المسلمين؛ حيث شفت صدورهم مما فعلت بهم قريش من إيذاء وتنكيل وقهر وصد عن سبيل الله، لقد خرجت قريش بعديدها وخيلها وخيلائها، وفي نيتها استئصال المسلمين والقضاء على الإسلام، وكان هذا ظاهرًا في تصريحات أبي جهل وأضرابه، وكانت قريش تتيه على المسلمين بمالها وجبروتها وسلطانها وعلاقاتها مع القبائل، وتؤثر بهذا على بقية العرب فيهابون منها الدخول في الإسلام، وبعضهم كان ينتظر ما تسفر عنه الحالة بين قريش والمسلمين، فكانت غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها تعد قاصمة الظهر لقريش، وفيه اهتزاز لمكانتها أمام العرب، وسقوطها بشكل مهين، كما أدى هذا الانتصار إلى بروز المسلمين كقوة لها وزنها في المنطقة، وتستوجب من الآخرين النظر في هذا الدين، وما أحدثه من قوة في نفوس أتباعه، وتغيير نمط حياتهم إلى الرقي الفكري والعمل وفق قانون الحق والعدل الإلهي. لقد استأثرت هذه الغزوة بصدر سورة الأنفال، حتى لقد ذكرتها بشيء من التفصيل؛ وذلك للأهمية البالغة لهذه الغزوة، وللرد مستقبلًا على من يقلل من شأن هذه الغزوة، على اعتبار عدد الحشد من الفريقين وعدد القتلى إذا ما قيست بالمعارك التاريخية الكبيرة، ولو علم هؤلاء أن قيمة المعارك ليست بضخامتها وكثرة حشودها، وإنما بما تحدثه من أثر في تغيير مجرى التاريخ، وبما يكون لها من نتائج على المدى البعيد، فالمعارك التي تسقط دولًا أو تبرز دولًا هي المعارك المهمة في التاريخ، أما التي ليست لها نتائج مهمة فإنها تتلاشى، مهما عظمت أو كثر حشدها، ونحن المسلمين لنا آلاف المعارك عبر التاريخ، ولكن البارز منها الذي أحدث تغييرًا في مجرى التاريخ معدود، مثل: اليرموك فتحت باب تقويض دولة الروم في الشام، والقادسية الدولة الفارسية، ووادي لكة، والزلاقة، وحطين، وعين جالوت.. قال تعالى بعد ذكر الأنفال وصفات المؤمنين: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 5 - 8]. القُرْآن كتاب الله، وهو الحق، ولا ينطق إلا بالحق، لقد قدمتُ خبر الغزوة كما ورد في السيرة، والقُرْآن هنا يدخل إلى أغوار القلوب، فيظهر ما خفي منها عن عين الناظر وأذن السامع، أظهر القُرْآن أن فريقًا من المؤمنين كان كارهًا للخروج ولقاء العدو، خصوصًا بعد أن فاتت العير وكانت سهلة المنال؛ لقلة عدد حراسها والمدافعين عنها، وأصبحت المعركة مع جيش يفوقهم عددًا وعدة، والآيات تفسر نفسها بنفسها، ولا يخفى الحال على من تلاها بتمعن ليدرك حالة المسلمين النفسية وما انتابهم من وجل عندما أصبحوا أمام الأمر الواقع، وهو القتال الذي لا بد منه، وكلمة: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ [الأنفال: 6]؛ أي: في القتال، وقد وعَدكم الله الظفَر بإحدى الطائفتين، العير وحيازتها، أو الظفر في قتال قريش، ولكن كانت قلوبكم مع الأسهل والأكثر مالًا، مع الفوز بالعير، وقد روى أبو أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رغبهم في الغنيمة من العير التي عادت من الشام بقيادة أبي سفيان ونفروا معه، ساروا أكثر من يومين، تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن العير قد فاتتهم، وأن قريشًا قد خرجت لقتال المسلمين، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعادوا، فقالوا: ثلاثمائة وثلاثة عشر، فقال: "فسُرَّ بذلك وحمد الله"، وقال: ((عدة أصحاب طالوت))، فقال: ((ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟))، فقلنا: يا رسول الله، لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، ثم قال: ((ما ترون في قتال القوم؟))، فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد - على ما ذكر في السيرة - معنى هذا أنهم كرهوا القتال أولًا، ثم قال الله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 9، 10]، وهذه صورة لاستغاثة النبي صلى الله عليه وسلم بربه: ((اللهم إني أنشدك وعدك))، فاستجاب الله لنبيه فأمده بالملائكة، وضرب عليهم النعاس ليستريحوا من العناء، والله حارسهم: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 11 - 13]؛ فالله سبحانه وتعالى هيَّأ لهم أسباب النصر من مدد الملائكة، ولن يهزم جيش معه الملائكة، وقد أنزل عليهم المطر بمقدار تحقيق الفائدة منه - التطهر به من أثر الاحتلام الذي أصاب بعضهم أثناء النوم، وبه ذهاب ما بثه الشيطان لما أصابهم، وبهذا أصبحوا ذاكرين الله ومتصلين به، مع تثبيت التراب تحت أقدامهم بهذا الماء - وبث الله الرعب في قلوب المشركين، وأمر الملائكة بتنفيذ أمور مهمة في مساعدة المسلمين، منها: أن يثبِّتوا الذين آمنوا، وأن يساعدوا في ضرب المشركين فوق الأعناق وعلى الأصابع؛ لكيلا تقوى على حمل السلاح، وفي شهود الملائكة بدرًا قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب))، وعن أنس قال: "كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل رسم النار"، وفي سورة "آل عمران" وفي معرض المن على المسلمين بنصرهم في بدر، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 123 - 126]. وعَوْدًا إلى سورة "الأنفال"، بعد بيان حال المسلمين النفسية وتقويتها بدعم الملائكة، يخاطبهم عز وجل بالثبات عند لقاء العدو: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 15 - 18]، ثم يصف الله تعالى حال العير قافلة أبي سفيان وكيف حجبت عن المسلمين؛ لأن الله تعالى أراد أن تكون حربًا يُذِلُّ الله فيها قريشًا، ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، فكانوا قريبًا مِن بعضهم البعض، جيش النبي صلى الله عليه وسلم وقافلة أبي سفيان، ولكن الله تعالى لم يُرِدْ أن يتم هذا اللقاء، لقد فصل بينهم جبل، فحجب بعضهم عن بعض، وسلِمَتِ القافلة، وكان الامتحان للمسلمين بالمواجهة الحربية وشدة البأس؛ لأن أمامهم حياة جهادية طويلة يجب أن يكونوا في تمام الاستعداد لها؛ لأنهم الصفوة المختارة من الذين صمدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم المهاجرون، والأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينتهم، وتعهدوا له بالنصرة والمضي معه لتبليغ الدعوة، فهيأ الله أسباب هذه المعركة: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43]، ففي هذه الرؤيا تشجيعٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على الإقدام؛ فقد هون له من شأن قريش، ويبقى الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين لكي يبث فيهم الإقدام على المعركة، فكان هذا الأمر عندما صف الفريقان للنزال: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، وهكذا عندما نظر المسلمون إلى جيش قريش لم يرعهم كثرتهم؛ لأن اللهَ تعالى أراهم قلة عددهم، وكذلك عندما نظرت قريش إلى المسلمين رأتهم قلة مقارنة بجيشهم، وهكذا كانت الحرب، ونصَر الله فيها عباده نصرًا مؤزرًا.
شرح مختصر المنار في أصول الفقه الحنفي لأحمد بن محمد الكوراني صدر حديثًا طبعة مزيدة ومنقحة من كتاب "شرح مختصر المنار في أصول الفقه"، تأليف: "طه بن أحمد بن محمد بن قاسم الكوراني" (ت 1300 هـ)، تحقيق: أ.د. "شعبان محمد إسماعيل"، نشر: "دار السلام للنشر والتوزيع". و هذا الكتاب مخطوطة في أصول الفقه حوت خلاصة موجزة لكتاب "المنار" في أصول فقه الحنفية للإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد النسفي (ت 710 هـ) حيث قام المؤلف بنظم ما جاء في كتاب "المنار" في مائة وسبعة وسبعين بيتًا، ثم شرح هذه الأبيات شرحًا موجزًا جمع فيه أهم مسائل علم أصول الفقه، على طريقة الحنفية، بأسلوب علمي دقيق خال من الاعتراضات التي ملئت بها كتب الأصول. ويعتبر كتاب "المنار" في أصول الفقه الحنفي من أهم الكتب المختصرة النافعة في هذا العلم، حيث حوى أهم مسائل علم أصول الفقه في أسلوب سهل واضح، مع اختيار أرجح الأقوال في كل مسألة، وانتقاء أرجح الأدلة. وكثرت على هذا المتن الشروح؛ وأول من شرحه المؤلف نفسه (النسفي) في كتابه المسمى "كشف الأسرار في شرح المنار". ويعتبر هذا الشرح للعلامة "طه بن أحمد الكوراني" على صغر حجمه من الكتب المهمة على متن "المنار" وذلك لاختصاره الوافي غير المخل حيث جمع المؤلف شتات علم الأصول وأهم مسائله في عدد قليل من الأبيات ثم قام بشرحها شرحًا موجزًا، إلى جانب دقته في اختيار العبارة السليمة التي تؤدي المعنى من أقرب الطرق، ورغم الاختصار فإنه أطال في بعض المسائل التي تحتاج إلى كبير إيضاح، وأحيانًا يسمي للقارئ المرجع أو المطولات التي يرجع إليها لمن أراد استيفاء الموضوع. وقد التزم المؤلف في مختصره هذا بأصل الكتاب وهو "المنار" نظمًا وشرحًا، مع التنبيه على ما يراه ضعيفًا من وجهة نظره، فيعدل عنه إلى ما هو الراجح في اسستدلالاته. وقد قام المحقق بمقابلة الكتاب على نسخة خطية عزيزة بخط المؤلف نفسه، وقد وضع المتن بهامش الكتاب، وقام بالتعريف بالأعلام والكتب التي ترد في الكتاب بالقدر الذي يتفق وأسلوب التحقيق، كما قدم للكتاب بمقدمة وافية عن أهمية المتن والشرح والتعريف بالماتن والشارح. والإمام النسفي هو أبو البركات حافظ الدين النسفي هوعبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (710هـ - 1310م) فقيه حنفي، ولقب بأبو البركات، ظهر في مدينة نسف في أوزبكستان، يعتبر أحد الزهاد المتأخرين، والعلماء العاملين، ومتكلم أصولي من فقهاء الحنفية من أهل إيذَج (بلدة بين خوزستان وأصبهان) ووفاته فيها ونسبته إلى "نسف" من بلاد ما وراء النهر بين جيحون وسمرقند. تتلمذ على شيوخ كثيرين من أمثال الوجيه الرازي، وشمس الأئمة الكردري، والسراج الثقفي، والزين البدواني، وروى الزيادات عن أحمد بن محمد العتابي، وسمع منه الصغناقي وحج وظهرت فضائله، ورحل إلى بغداد. كان واسع العلم كثير المهابة وسيدًا في الفقه والأصول وبارعًا في الحديث، وكان محبًا للصوفية، وعزر ابن أبي حجلة لكلامه في ابن الفارض. اختلف في وفاته، قيل 701هـ، وقيل 710هـ. من مؤلفاته: • "عمدة عقيدة أهل السنة والجماعة". • "تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل" وهو تفسير متوسط الحجم اختصره من تفسير الكشاف وتفسير البيضاوي. • "كنز الدقائق"، وجاء في فروع الحنفية، لخص فيه الوافي بذكر ما عم وقوعه، حاويًا مسائل الفتاوى والواقعات، وجعل علامة الحاء لأبي حنيفة، والسين لأبي يوسف، والميم لمحمد، والزاي لزفر، والفاء للشافعي والكاف لمالك، واعتنى به العلماء والفقهاء فأكثروا عليه الشروح منها: شرح الإمام فخر الدين أبي محمد عثمان بن علي الزيلعي وسماه "تبيين الحقائق لما فيه ما اكتنز من الدقائق" والعلاّمة زين العابدين بن نجيم المصري (ت921هـ) وسماه: "البحر الرائق في شرح كنز الدقائق" وصل فيه إلى آخر كتاب الدعوى، ونظمه ابن الفصيح أحمد بن علي الهمداني وسماه "مستحسن الطرائق" وغيرها كثير.. • "المنار": وجاء في أصول الفقه، وهو متن جامع مختصر، وهو فيما بين كتبه المبسوطة والمختصرة. • كتاب "كشف الأسرار"، شرح فيه المنار. • "العمدة" وشرحها وسماه "الاعتماد". • "المستصفى في شرح المنظومة" (وهي منظومة أبي حفص النسفي). • "شرح النافع" سماه بـ"المنافع" و"الكافي" في شرح "الوافي" وكلاهما له. والشارح هو "طه بن أحمد بن محمد بن قاسم الكوراني" السندجي، الكوراني، البغدادي، عالم فاضل وفقيه وأصولي وعالم بقواعد اللغة العربية وآدابها وشاعر، تولى القضاء مدة طويلة بالعراق، كان آخرها قضاء "الموصل"، ولد سنة 1231 هـ الموافق 1816 في بلدته "كوران" التي انتسب إليها، ثم رحل إلى بغداد لطلب العلم، حتى ألمَّ بسائر العلوم النقلية والعقلية. تتضح في اختياراته أنه كان حنفي المذهب رغم أن "عمر رضا كحالة" يذكره على أنه شافعي المذهب، ومن مؤلفاته: • "رسالة في مصطلح الحديث". • "رسالة في الرد على النصارى". • "رسالة في وجوه النظم واعتباراته". • "شرح على التهذيب في المنطق لسعد الدين التفتازاني". • "منظومة في العروض". • "هدي الناظرين" في شرح القسم الثاني من التهذيب في علم الكلام. • "نظم وشرح كتاب المنار للنسفي".
يزيد بن معاوية • يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميَّة الأموي الدمشقي، كان ضخمًا كثير اللحم كثير الشَّعَر . • جعله أبوه معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ولي عهده، وأكره الناس على ذلك.. قال الحسن البصري: أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحُمِلت ونال من القُرَّاء فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة؛ فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولًا، فأبطأ عنه، فلمَّا ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال أمرًا كنت أوطئه وأهيئه، قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد مِنْ بعدك! قال: أو قد فعلتَ؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك، فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وَضَعْتُ رِجْلَ مُعَاوِيَةَ فِي غَرْزِ غَيٍّ لا يَزَالُ فِيْهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة. • وقال ابن سيرين: وفد عمرو بن حزم على معاوية، فقال له: أذكرك الله في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بمن تستخلف عليها، فقال: نصحت وقلت برأيك، وإنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، وابني أحق. • وقال عطية بن قيس: خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبَلِّغه ما أملت وأعِنْه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلًا فأقبضه قبل أن يبلغ ذلك، فلما مات معاوية بايَعَه أهل الشام ثم بعث إلى أهل المدينة من يأخذ له البيعة فأبى الحسين وابن الزبير أن يبايعاه، وخرجا من ليلتهما إلى مكة. • بُويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة سِتٍّ وعشرين، فكان يوم بُويع ابن أربع وثلاثين سنة، فأقَرَّ نواب أبيه على الأقاليم، لم يعزل أحدًا منهم، وهذا من ذكائه. وكانت دولته أقلَّ من أربع سنين. • بعد وفاة أبيه [أي: دفنه] أتى الناس لصلاة الظهر، فخرج وقد تغسَّل ولبس ثيابًا نقيَّة، فصلَّى وجلسَ على المنبرِ، وخطبَ فقال: "إن أبي كان يُغْزيكم البحر، ولست حاملكم في البحر، وإنه كان يُشتيكم بأرض الروم فلست أُشتي المسلمين في أرض العدو، وكان يخرج العطاء أثلاثًا وإني أجمعه لكم، فافترقوا يثنون عليه؛ [سير أعلام النبلاء]. • قال الذهبي: له على هَنَاته حَسَنة؛ وهي غزو القسطنطينية [أي: مدينة قيصر]، وكان أمير ذلك الجيش، وفيهم مثلُ أبي أيوب الأنصاري . روى البخاري عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ فِي سَاحَةِ حِمْصَ وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا) قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: (أَنْتِ فِيهِمْ) ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) ، فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا) . وذلك أنها ماتت في الركوب الأول مع معاوية بن أبي سفيان، ودُفِنت هناك- أي: في قبرص الآن- وقبرها معروف، ولم تدرك أُمُّ حرام جيش يزيد هذا، وهذا من أعظم دلائل النبوَّة . • وعن عمرو بن قيس، سمع يزيد يقول على المنبر: "إن الله لا يؤاخذ عامةً بخاصةٍ إلا أن يظهرَ مُنكرٌ فلا يُغير، فيؤاخذ الكل". وقيل: قام إليه ابن همَّام، فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين على الرَّزيَّة، وبارك الله في العطية، وأعانك على الرعية، فقد رزئت عظيمًا، وأعطيت جزيلًا، فاصبر واشكر، فقد أصبحت ترعى الأمة، والله يرعاك؛ [سير أعلام النبلاء]. • وعن نهيك بن عمرو القيسي قال: وفدنا إلى يزيد بن معاوية وقد حُزب له رواق بالري، فنادى مناديه: أين وفد أهل البصرة؟ وقد أمر لكم أمير المؤمنين بكذا وأمر لكم بكذا، قال بعضنا لبعض: ما نراه إلا قاعد يشرب، فجاءت ريح فرفعت طرف الرواق فإذا هو قاعد يقرأ المصحف. • ويُقال: إن يزيد أول من خدم الكعبة وكَسَاها الديباج الخسرواني . • فتح المغرب الأقصى على يد الأمير عقبة بن نافع، وفتح سلم بن زياد بُخارى وخوارزم . • ولم يكن ليزيد هِمَّة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبَوا على معاوية البيعة ليزيد . فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة : بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد: فإن معاوية كان عبدًا من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوَّله ومكَّن له، فعاش بقدرٍ ومات بأجلٍ فرحمه الله، فقد عاش محمودًا ومات برًّا تقيًّا والسلام . وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة : أما بعد : فخذ حُسينًا، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام . • ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء: توفي الحسن -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بالمدينة مسمومًا، سمَّتْه زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، دَسَّ إليها يزيد بن معاوية أن تسمَّه فيتزوجها ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها فقال: "إنا لم نرضك للحسن، أفنرضاك لنفسنا؟". • افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين واختتمها بواقعة الحرة فمَقَتَه الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين كأهل المدينة قاموا لله، وابن الزبير؛ ففي سنة ثلاث وستين بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه، فأرسل إليهم جيشًا كثيفًا، وأمرهم بقتالهم ثم المسير إلى مكَّة لقتال ابن الزبير فجاؤوا وكانت وقعة الحرة على باب طيبة، وما أدراك ما وقعة الحرة؟! ذكرها الحسن مرة فقال: والله ما كاد ينجوا منهم أحد، قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم، ونهبت المدينة، وافتض فيه ألف عذراء، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ [رواه مسلم]. وكان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي، قال الذهبي: ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل -مع شربه الخمر وإتيانه المنكرات- اشتدَّ عليه الناس، وخرج عليه غير واحد، ولم يبارك الله في عمره، وسار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير فمات أمير الجيش بالطريق فاستخلف عليهم أميرًا، وأتوا مكة فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، وذلك في صفر سنة أربع وستين، واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل وكان في السقف، وأهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام، فجاء الخبر بوفاته والقتال مستمر، فنادى ابن الزبير: "يا أهل الشام، إن طاغيتكم قد هلك" فانقلوا وذلوا وتخطفهم الناس، ودعا ابن الزبير إلى بيعة نفسه وتَسمَّى بالخلافة، وأما أهل الشام فبايعوا معاوية بن يزيد ولم تطل مدتُه. وعدة المقتولين بالحرة من قريش والأنصار ثلاثمائة وستة رجال. • قال أهل العلم: وله نظراء من خلفاء الدولتين وكذلك في ملوك النواحي بل فيهم من هو شر منه، وإنما عظم الخطب؛ لكونه ولي بعد وفاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتسع وأربعين سنة، والعهد قريب والصحابة موجودون؛ كابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده. • والذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة أنه «لا يسب ولا يحب»؛ أي: لا نحبه ولا نسبه . قال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي -يعني: الإمام أحمد بن حنبل-: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد . قال: يا بني! وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت! فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني! ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟ وروي عنه: أنه قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية؟ قال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟ فـيزيد عِنْدَ عُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، لَا يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةَ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ؛ وَلَا يَسُبُّونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ لَعْنَةَ الْمُسْلِمِ الْمُعِينِ؛ لِمَا رَوَى البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حمارًا، وَكَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- ضَرَبَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: (لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُجِيزُونَ لعنه لِأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الظُّلْمِ مَا يجوِّز لعن فَاعِلِهِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَرَى مَحَبَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَوَلَّى عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ؛ وَبَايَعَهُ الصَّحَابَةُ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ، وَكَانَتْ لَهُ مَحَاسِنُ أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيمَا فَعَلَهُ . وَالصَّوَابُ: هُوَ مَا عليه الْأَئِمَّةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِمَحَبَّةٍ وَلَا يُلْعَنُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِلْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ لَا سِيَّمَا إذَا أَتَى بِحَسَنَاتٍ عَظِيمَةٍ . • وَقَدْ يُشْتَبَهُ يزيد بن معاوية بِعَمِّهِ يزيد بن أبي سفيان، فَإِنَّ يزيد بن أبي سفيان كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ خَيْرُ آلِ حَرْبٍ، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الشَّامِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أبو بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي فُتُوحِ الشَّامِ، وَمَشَى أبو بكر فِي رِكَابِهِ يُوصِيهِ مُشَيِّعًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ، فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاكِبٍ وَلَسْتَ بِنَازِلٍ، إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ بَعْدَ فُتُوحِ الشَّامِ فِي خِلَافَةِ عمر، وَلَّى عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَكَانَهُ أَخَاهُ معاوية، وَوُلِدَ لَهُ يزيد فِي خِلَافَةِ عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وَأَقَامَ معاوية بِالشَّامِ إلَى أَنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ . • فلا شَكَّ أن يزيد بن معاوية ليس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس من التابعين لهم بإحسان، وقد جرت في فترة خلافته أمور عظام، من أعظمها: قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قتله جيش عامله عبيدالله بن زياد -عاملهم الله بما يستحقُّون- وذلك في وقعة مشهورة مذكورة أحداثها في كتب التاريخ، من أبشعها أنهم منعوا الحسين -رضي لله عنه- وجماعة من أهل بيته الماء، وقتلوهم شَرَّ تقتيل، وبعث برؤوسهم إلى يزيد من العراق إلى الشام، ويقال: إنه سُرَّ بقتلهم، ثم ندم فيما بعد على ذلك . ومن تلك العظائم أيضًا: أنه جهز جيشًا إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيادة أحد جنوده، وأمره أن يبيح المدينة ثلاثة أيام عندما يستولي عليها الجيش، وقد فعل ذلك، وقُتل فيها من الصحابة والتابعين خلقٌ كثيرٌ، وارتكبوا الفواحش . ومع هذا كله؛ فالمحققون من أهل العلم لا يكفِّرون يزيد، بل يكلون أمره إلى الله . والأولى الإمساك عن سبِّه بما لا تدعو له المصلحة، وعن لعنه؛ إذ لا يجوز لعن المسلم المعين، كما أنه لا يقال فيه: "رضي الله عنه" بحال، فلا هو صحابي، ولا هو تابع لهم بإحسان. • وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية الموقف من يزيد بن معاوية فقال: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فِرَق: طرفين ووسطًا. فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافرًا مُنافقًا، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله تشفِّيًا من رسول الله وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بَدْر وغيرها، وأشياء من هذا النمط، وهذا القول سهل على الرافضة الذين يُكفِّرون أبا بكر وعمر وعثمان فتكفير يزيد أسهل بكثير. والطرف الثاني: يظنُّون أنه كان رجلًا صالحًا وإمامًا عدلًا، وأنه كان من الصحابة الذين وُلِدوا على عهد النبي وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربَّما فضَّله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيًّا. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسِيَر المتقدمين؛ ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسُّنَّة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة. والقول الثالث: أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين له حَسَنات وسيئات، ولم يُولَد إلَّا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرًا؛ ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسُّنَّة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبَّتْه، وفرقة لا تسبُّه ولا تحبُّه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. • من أشهر أولاد يزيد «معاوية بن يزيد» كنى أبا ليلى، وهو الذي قال فيه الشاعر : إني أرى فتنة قد حان أوَّلُها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا • قال عبدالرحمن بن أبي مدعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلَّم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبَّه، ولم أردْه، واحكم بيني وبين عبيدالله بن زياد . • وكان نقش خاتمه «آمنت بالله العظيم».
شرح لمعة الاعتقاد لمحمد بن محمود آل خضير صدر حديثًا كتاب " شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد "، للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) تأليف: د. " محمد بن محمود آل خضير "، تقديم: الشيخ " عبد الله بن عبد الرحمن السعد "، نشر: " مكتبة الرشد ". وهو شرح مختصر جامع لمهمات كلام ابن قدامة المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد "، فيه تقرير مسائل على كتاب "الموفق" في مسائل أصول الدين، وبين يدي هذه الرسالة ذكرٌ شيء من شأن مصنفها، ونبذة عن أتباع المذاهب الأربعة في تقرير مسائل أصول الدين. و"لمعة الاعتقاد" للإمام ابن قدامة المقدسي من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد بدأها المصنف بمقدمة قرر فيها مسألة الربوبية، ثم ذكر عقيدة أهل السنة في صفات الله تعالى، مستدلًا على ذلك بجملة من الآيات والأحاديث الدالة على إثبات الصفات، وقد ذكر هذه المسألة لكثرة المخالفين لأهل السنة فيها، من جهمية، ومعتزلة، وأشعرية، وماتريدية، ونحوهم من الفرق الضالة. ثم ذكر رحمه الله عقيدة أهل السنة في مسائل الاعتقاد الأخرى؛ كالقضاء والقدر، والإيمان، واليوم الآخر، وأشراط الساعة، وباب ختم النبوة، وفضل الصحابة، ومسائل أخرى في الإمامة وغيرها. والرسالة الواسطية المعروفة لشيخ الإسلام ابن تيمية قد وضعها الإمام ابن تيمية، على محاكاة هذه الرسالة للموفق، وإن كان شيخ الإسلام قد استظهر فيها أكثر في باب الاستدلال بالنصوص، وزاد عليها جملًا وأصولًا، كمسألة العلو والقدر فإنه أطال فيهما وفصل أكثر من الموفق رحمه الله. وسماها (لمعة الاعتقاد) لوضوح أدلتها وما تضمنته، واللمعان: الإضاءة والنور، والاعتقاد هو ما يجزم بصحته ويعقد القلب عليه، ثم وصفها بقوله (الهادي إلى سبيل الرشاد) أي: أن اعتقاد ما فيها يكون دالًا إلى الطريق التي من سلكها فهو من الراشدين. وعلى هذا فإن الشيخ رحمه الله تعالى لم يرد من رسالته هذه أن تكون كتابًا مفصلًا في الاعتقاد، وإنما أرادها لمعة تبين الطريق، أو أرادها بلغة للسالكين؛ بحيث إنه إذا قرأها الإنسان واستوعبها وفهمها استقام لديه معرفة العقيدة من جوانبها المتعددة، وهو رحمه الله تعالى ربط عقيدته بالأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما طريقة ابن قدامة فهي الاقتصار على قراءة النصوص في الصفات وإمرارها كما جاءت وعدم الاشتغال بتفسير شيء منها لفظًا أو معنى، وعلى هذا أغلب المشتغلين بالفقه. وتعد لمعة الاعتقاد للموفق ابن قدامة، من الكتب السلفية النافعة في معرفة اعتقاد أهل السنة في أصول الإيمان، فقد بين فيها منهج السلف الصالح تجاه الآيات والأحاديث الواردة في أسماء الله وصفاته، وموقفهم من المحكم والمتشابه، وغيرها من عقيدة أهل السنة. وطريقة عمل الشيخ "محمد بن محمود آل خضير" أن يأتي بالمتن باللون الأحمر بين معقوفتين ثم يقوم بالشرح وتفريع المسائل تحت مباحث كلام ابن قدامة رحمه الله، وهو من أوسع الشروح وأشملها، على ما تميز به هذا الشرح من كثرة النقول عن العلماء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، كما أنه اعتنى اعتناءً كبيرًا بذكر ما أجمع عليه السلف في كثير من مسائل الاعتقاد التي ذكرها ابن قدامة. والشارح هو د. "محمد محمود آل خضير" حاصل على ماجستير في الفقه المقارن من جامعة أم درمان الإسلامية، وحاصل على الدكتوراه في فقه المعاملات من جامعة المدينة العالمية بماليزيا، حاصل على شهادة المدقق الشرعي من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. • حاصل على شهادة أخصائي الأسواق المالية من المجلس العام للبنوك الإسلامية. • عمل في الإفتاء عبر الهاتف بوزارة الأوقاف القطرية مدة عامين. • عمل في الإفتاء بموقع الشبكة الإسلامية بوزارة الأوقاف القطرية لخمس سنوات. • عمل في الإفتاء بموقع الإسلام سؤال وجواب عشر سنوات. له عدد من الكتب والبحوث منها: • زكاة عروض التجارة. • أحكام الهدنة في الشريعة الإسلامية. • حج الصبي وما يترتب عليه. • شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي. • شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي. • شرح العقيدة الطحاوية. • تحقيق نظم الفردوس في النوازل للعلامة المرابط اللمتوني الشنقيطي. • الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل. • معيار المرابحة، دراسة تأصيلية تطبيقية.
العالم الصالح والشيخ الناصح عبد الله بن محمد بديع ذو الغنى (1378- 1444هـ/ 1959- 2022م) رحم الله ابنَ عمِّنا فضيلةَ الشيخ العالم، والمحدِّث المسنِد عبد الله ذو الغنى ، أحسَبُه من العلماء الصالحين المخلِصين، ومن الدعاة الأتقياء الأخفياء الصادقين، ومن العبَّاد المتواضعين المُخبِتين، العازفين عن الظهور والشُّهرة. عاش عمرَه في طاعةِ الله ورسوله، وطلبِ العلم والتعليم، نائيًا بنفسه عن زهرة الدنيا وبهجَتها. نسبه وولادته: هو أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بديع، بن عبد الهادي، بن أحمد، بن محمود، بن طالب، بن محمد ذو الغنى القُرَشيُّ، يرجع نسبُه إلى الصحابيِّ الجليل عَمرِو بن العاص بن وائل السَّهْميِّ القُرَشيِّ الكِنانيِّ رضي الله عنه. ويلتقي في نسبه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في جدِّه كعب بن لؤيٍّ. وُلد في حيِّ المَيدان بدمشق ، زُقاق العَصا بمحلَّة مَصطَبة سعد الدين (نفوس ساسة 18) ، صباح يوم السبت سابع ذي الحِجَّة عام 1378هـ، يوافقه 13حَزِيران عام 1959م، على ما دوَّنه أبوه رحمه الله يوم ولادته. وخالُ أبيه علَّامةُ الشام الشيخُ محمَّد بهجة البَيطار (ت 1396هـ/ 1976م) ، وصهرُه (زوج خالته) هو محمد ابنُ شيخ قرَّاء المَيدان العالم المقرئ سَليم اللَّبَني (ت 1399هـ/ 1979م) ، رحمهم الله تعالى. تعلُّمه وتحصيله نشأ في كنَفِ أبيه الصالح الحاجِّ محمد بديع ذو الغنى، وتلقَّى تعليمَه النظاميَّ في مدارس دمشق، ونال شهادة الدراسة الثانوية الفرع العلمي عام 1978م، ومن أساتذته في ثانوية جودة الهاشمي: سيِّدي الوالدُ المربِّي أحمد ذو الغنى رحمه الله، درَّسه مادَّتي الفيزياء والكيمياء، والأستاذُ الشيخ محمد راتب النابُلُسي، درَّسه مادَّة اللغة العربية. وخلَّف الأستاذ النابلُسي أثرًا طيِّبًا في نفسه ونفوس زملائه؛ بتوجيههم إيمانيًّا وتربويًّا بأسلوب غير مباشر، والنصح لهم بما يقوِّم سلوكهم، ويجنِّبهم الفتنَ التي طالما زلَّت بها أقدامُ الشباب في تلك المرحلة العُمْرية. وحُبِّب إليه في وقت مبكِّر طلبُ علوم الشريعة والعربية فقصَد مجالسَ عدد من كبار شيوخ حيِّ المَيدان ؛ الشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني ، وشقيقه الشيخ صادق حَبَنَّكة، وشيخ القرَّاء حسين خطَّاب. ولزم الشيخَ د. مصطفى ديب البُغا في جامع الغوَّاص وتخرَّج عليه في الفقه الشافعي. واضطُرَّ إلى الهجرة من سورِيةَ إلى لبنانَ عام 1980م، وهو في الحادية والعشرين من عمره. ورغب في التخصُّص بعلوم الشريعة فانتسبَ في بيروت إلى كلِّية الإمام الأَوزاعيِّ للدراسات الإسلامية، وحصل منها على شهادة (ليسانس) دراسات إسلامية عام 1989م، ثم التحقَ بالجامعة اللبنانية كلِّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية عام 1992م، درسَ فيها سنتين ولم يُتمَّ دراسته. وقد انقطع في بيروت لطلب العلم، وواظبَ على حضور دروس علمائها وشيوخها، ولا سيَّما دروسِ فضيلة الشيخ مفتي البِقاع خليل المَيس رحمه الله (ت 1442هـ/ 2021م) ، الذي استحكمَت صلتُه به، وتبوَّأ عنده منزلةً رفيعة من الحبِّ والتقدير. وكان الشيخُ يوجِّه بعضَ طلَّابه إلى تعلُّم الأدب منه، ويصفه بقوله: عبد الله ذو الغنى مخلِصٌ وفيٌّ، ومُجدٌّ مثابر، وذو خُلقٍ رفيع. وحفظ جُلَّ القرآن الكريم على الشيخ محمد بن درويش رمضان (ت 1421هـ/ 2000م) في جامع الخاشقجي ببيروت، وكان من أوائل من قرأ عليه ختمةَ ضبطٍ وإتقان مع حفظ الجزَرية، وأجازه بإقراء القرآن الكريم بإجازته من الشيخ المقرئ المربِّي حسين أحمد عُسَيران الصَّيداوي نزيل بيروت (ت 1426هـ/ 2005م) ، وذلك بتاريخ 12 ربيع الأوَّل 1413هـ يوافقه عاشر أيلول 1992م. ولإتقانه العالي للتلاوة والتجويد كلَّفه الشيخُ رمضان الإشرافَ على بعض طلَّابه الجدُد في مسجده، كالشيخ الفاضل أمين سليم الكُردي أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية حاليًّا وفَّقَه الله، وكان يقول لهم: إذا أردتُّم الإتقانَ فاقرؤوا كما يقرأ الشيخ عبد الله ذو الغنى. ولزم دروسَ الشيخ المحدِّث د. بسَّام الحَمْزاوي سنواتٍ طويلة، قرأ عليه فيها في الفقه والأصول والتفسير وعلوم العربية؛ ومن الكتب التي قرأها ودرسها عليه: "منهاج الطالبين" للإمام النَّوويِّ في الفقه الشافعي، و"منهاج الوصول إلى علم الأصول" للبَيضاويِّ، وتفسير الإمام النسَفيِّ "مدارك التنزيل وحقائق التأويل"، و"شرح قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام في النحو، و"البلاغة الواضحة" لعلي الجارِم ومصطفى أمين. فضلًا عن علوم الحديث وكتب السنَّة على ما سيأتي. ثم قرَّر بأخَرةٍ إكمالَ دراسته العليا ، فاختار موضوعًا مهمًّا ودقيقًا في دراسة الحديث النبويِّ الشريف أصوليًّا، باقتراح من شيخه د. بسَّام الحَمزاوي، فكان موضوع رسالته في (الماجستير) : (قسم الأفعال من كتاب التقاسيم والأنواع للإمام ابن حِبَّان البُستي، دراسة أصولية) ، بإشراف الشيخ المحدِّث الأستاذ الدكتور علي نايف بِقاعي، ومناقشة الشيخَين المحدِّثَين الأستاذ الدكتور صالح معتوق، والأستاذ الدكتور وَفيق حِجازي مفتي راشَيَّا، وكانت المناقشة في 24 من شوَّال 1442هـ يوافقه الخامس من حَزِيران 2021م، وحصل على الشهادة بتقدير ممتاز. وهي على الحقيقة رسالةٌ في علم أصول الفقه التطبيقي؛ لاعتمادها على القواعد الأصولية التي استخرجها ابنُ حِبَّان من الأحاديث الشريفة. وقد طُبعت الرسالة في كتاب بعنوان "كتاب التقاسيم والأنواع لابن حِبَّان، قسم الأفعال دراسة أصولية"، بتقديم الشيخين المحدِّثين د. علي بِقاعي، ود. بسَّام الحَمزاوي، في مركز علوم الحديث النبوي الشريف للنشر والدراسات العلمية والطباعة والتوزيع، في صَيدا، عام 1444هـ/ 2022م، في 323 صفحة. وجعلَ إهداء الكتاب إلى والدَيه الراحلَين رحمهما الله تعالى؛ وفاءً لهما، وبِرًّا بهما، قال فيه: "اللهمَّ اجعل عملي هذا صالحًا، ولك خالصًا، وللأمَّة نافعًا، وتقبَّله منِّي. اللهمَّ اجعله صدقةً جاريةً في صحيفة والديَّ الحبيبَين الكريمَين: والدي محمد بديع ذو الغنى الذي وجَّه عينيَّ وأعينَ إخوتي نحو كتاب الله منذ لحظة الوعي الأولى، وكان عونًا لنا في كلِّ خير. ووالدتي ربيعة ذو الغنى التي أمضَت حياتها قائمةً بدينها، وفيَّةً لزوجها، ترعى بيتَها، وتدعو لأولادها بالخير والصَّلاح والرضا". وكان أرسل إليَّ رسالةً أنبأني فيها أنه بصَدَد إرسال نسخةٍ من الكتاب هديةً إليَّ في الرياض، ولم تصِل إلا بأخَرةٍ بعد رحيله يرحمه الله. وقد حلَّاها بكلمة إهداء شرَّفني بها، وأحسن الظنَّ بي قائلًا: "تقدمة إلى ابن عمِّي وأخي الحبيب الطيِّب الشيخ أيمن أحمد ذوالغنى، مع الحبِّ والتقدير، وأرجو الله تعالى أن يجمعَنا على ما يحبُّ ويرضى، مع الرجاء بدعوة صالحة". وأرَّخ الإهداء في 28 من المحرَّم 1444هـ يوافقه 26/ 8/ 2022م. مع السُّنَّة الشَّريفة فضلًا عن عناية الشيخ بالقرآن الكريم قراءةً وإقراءً، اعتنى بالسنَّة النبوية الشريفة وعلومها، فأقبل على تحصيلها روايةً ودراية، وحرَص على حضور مجالس السَّماع لكتب الحديث النبويِّ الشريف التي أُقيمت في بيروت، وأجازه عددٌ من أفاضل شيوخ الحديث والرواية المحصِّلين إجازاتٍ خاصَّة وعامَّة قراءةً وسماعًا، ومنهم شيخُنا المؤرِّخ المسنِد محمد مطيع الحافظ، والشيخُ المحدِّث المسنِد حسين حسن صَعْبيَّة، والشيخُ المحدِّث المسنِد عبد الحميد بن منير شانوحة، وشيخُنا المحدِّث المسنِد محمد بن ناصر العَجْمي، وشيخُنا المحدِّث المسنِد د. بسَّام الحَمزاوي، وشيخُنا الحافظ الجامع المقرئ والمحدِّث المسنِد د. يحيى الغَوثاني. وممَّا سمعه على شيخنا الحَمزاوي : الكتب الستَّة (البخاري، ومسلم، وأبو داود، والتِّرمِذي، والنَّسائي، وابن ماجه) ، و"موطَّأ الإمام مالك" برواية يحيى بن يحيى اللَّيثي، ورواية محمد بن الحسن الشَّيباني، وكثيرٌ من "مسند الإمام أحمد بن حنبل" (توفِّيَ قبل إتمام الكتاب) ، و"سنن الدَّارِمي"، و"الأدب المفرد" للبخاري، و"المعجم الصغير" للطَّبَراني. وقرأ عليه غيرَ قليل من كتب المصطلح، منها: "شرح البيقونية"، و"نزهة النظَر في توضيح نخبة الفِكَر" للحافظ ابن حَجَر، و"إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سُنن خير الخلائق" للإمام النَّووي، و"علوم الحديث" لابن الصَّلاح، واختصاره لابن كثير، و"ألفية الإمام السُّيوطي"، وحضر معه جلَسات مذاكرة في "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للحافظ السُّيوطي. وممَّا سمعه على شيخنا العَجْمي من كتبه ومرويَّاته وتخريجاته وتحقيقاته وغيرها: "الأربعون الحنبلية المسموعة" وهي أربعون حديثًا ممَّا ساقَه الأئمَّة من طريق الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل، و"ثلاثيَّات مُسنَد الإمام أحمد بن حنبل" لمحبِّ الدين المَقْدِسي، و"جُزءٌ فيه ستَّة مجالس" من أمالي شيخ الحنابلة القاضي أبي يَعْلى الفَرَّاء، و"جنَّات ونهَر في أحاديث سيِّد البشَر" وفيه سياقُ أسانيد شيوخ العصر إلى كتاب العلم من صحيح البخاري، و"الأربعون الأبدال العَوالي المسموعة بالجامع الأموي بدمشق" لمؤرِّخ دمشق الحافظ أبي القاسم ابن عساكر، و"كتاب اليقين" للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا، و"كتاب مكارم الأخلاق" للإمام الحافظ أبي القاسم الطبَراني، و"مأخَذُ العلم" للإمام اللغوي أحمد بن فارس، و"بداية العابد وكِفاية الزاهد" في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام عبد الرحمن البَعْلي، و"أخصَر المختصَرات" في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام ابن بَلبان الدمشقي الحنبلي. وممَّا سمعه على شيخنا الغَوثاني : "موطَّأ الإمام مالك". وله إجازةٌ من الشيخ صَعْبيَّة شيخ دار الحديث الأشرفية بدمشق: بصحيح البخاري كاملًا. وممَّا سمعه على الشيخ شانوحة ضمن نشاطات الزاوية البيروتية للتدريس العتيق: "كشف الكُربة في وصف أهل الغُربة"، و"ذم قسوة القلب" كلاهما للحافظ ابن رجب الحنبلي، و"القصيدة المُنفَرِجة" المنسوبة للإمام أبي حامد الغَزالي، و"المُزدَوِجة الحَسْنا في الاستغاثة بأسماء الله الحُسْنى" ليوسف بن إسماعيل النبهاني. وفي زيارةٍ لشيخه القديم د. مصطفى ديب البُغا إلى بيروت في آذار عام 2019م سمع عليه "عُمدة الأحكام" روايةً ودراية، وأجازه به. واستضافه الشيخُ عبد الله في بيته مع لفيفٍ من أهل العلم والفضل، وأولمَ لهم. وتولَّى الشيخُ عبد الله تدريسَ مادَّة الحديث النبويِّ في (مركز علوم الحديث النبوي الشريف) الذي أسَّسه شيخُنا بسَّام الحَمزاوي، بمدينة صَيدا في لبنان، من بواكير إنشائه، وفي (دار اقرأ) في بيروت، وفي المساجد التي تولَّى إمامتَها والخطابةَ فيها. ونفع الله به في صَيدا وبيروت وطرابُلُس؛ فتخرَّج به أجيالٌ من طلَّاب العلم في القرآن والحديث والفقه والآداب، ومنهم من نبُهَ واشتَهَر، جزاه الله خيرَ الجزاء. شمائله وسَجاياه امتنَّ الله سبحانه على الشيخ عبد الله بصفاتٍ كريمة، وخصالٍ شريفة؛ هي صفاتُ الربَّانيين من عباد الله المخلَصِين، نحسَبه كذلك ولا نزكِّيه. ولعلَّ أظهرَها في شخصيَّته ثلاثُ صفات : أوَّلها الشَّغَف بالعلم، وثانيها العبادة والإخبات، وثالثها التواضُع وهضم الذات. أمَّا شغفُه بالعلم فتجلَّى في حِرصه الدائم على حضور مجالس العلم، والاستزادة من التحصيل الشرعي، والرغبة الصادقة في التعلُّم؛ في صحَّته وسقَمِه، مُذ كان غلامًا فتيًّا إلى أن لقيَ وجه ربِّه، وقد بقي يحضُر مجالسَ العلم في مرضه الأخير والخُرطومُ الطبِّي ممدَّدٌ إلى أنفه. وحِرصُه هذا على العلم جعله ضَنينًا جدًّا بوقته، لا يكاد يُضيع دقيقةً واحدةً في غير تعلُّم أو تعليم، أو طاعة وعمل صالح. و أمَّا عبادتُه وإخباتُه فكان دائمَ الإقبال على ذِكر الله تعالى في حضور قلبٍ وخشوع جوارح، والإلحاح بالدعاء بتذلُّل وخضوع، محافظًا على قيام الليل والتهجُّد لا يكاد يدَعُهما إلا لظرف قاهر. وكان قلبُه معلَّقًا في المسجد، شديدَ الحِرص على الصلوات الخمس في الجماعة، حتى مع استحكام مرضه، وشدَّة إعيائه، كان يتجلَّد ويتصبَّر ويمضي إلى المسجد على قدميه، محتسبًا الأجرَ عند الله. ولم يُعرَف عنه الإفطارُ يومَي الاثنين والخميس إلا لِما يراه عُذرًا غالِبًا. ومن أعماله الصالحة التي كان يخفيها تصدُّقه بعُشْر راتبه لوجه الله تعالى، مع أنه لم يكن من ذوي اليَسار، بل لم يكن ممَّن تجِبُ عليه الزكاة. وحجَّ الشيخُ ثلاث حِجَّات وكان مرشدًا دينيًّا في الحجِّ فأدَّى عمله بأمانة وعلوِّ همَّة، ولم يألُ في إفتاءٍ ووعظ وتوجيه، وكان قدوةً للحُجَّاج بسلوكه وحالِه، قبل لسانه وقالِه. و أمَّا تواضعُه وهضمُه ذاتَه فكان لا يرى نفسَه شيئًا ذا بال، مُؤْثرًا الصَّمتَ والخفاءَ، وخفضَ الجناح لطلَّابه وإخوانه والمؤمنين. ولم يكن يجدُ غَضاضةً في القراءة والإفادة ممَّن هم أصغرُ منه سنًّا وأقلُّ خبرة؛ رائدُه في ذلك قولُ وَكيع بن الجرَّاح: " لا يَنبُل الرجلُ حتى يكتبَ عمَّن هو فوقه، ومَن هو مثله، ومَن هو دونه". وكم طلبتُ إليه أن يزوِّدَني بسيرته الشخصية فكان يأبى تواضُعًا، وكَبْحًا لحظوظ نفسِه. ولا أُراني مغادرًا هذه الفِقرةَ حتى أذكرَ ثلاث مناقبَ أُخرى من شمائله الرفيعة لا مَندوحةَ عن ذكرها؛ وهي: العفاف، والأمانة، والحكمة. أمَّا عفافُه فقد كان شديدَ الصِّيانة لنفسه ودينه وأخلاقه، في بيئة متغرِّبة متفلِّتة، لا يكاد يَسلَمُ فيها من الفتن إلا من عصمَه الله منها. قَدِمَ إليها وهو في مَيعة الصِّبا وشِرَّة الفتوَّة، فكان حازمًا في غضِّ بصَره وحفظ فَرْجِه، ينأى بنفسه عن مواطن المُيوعة والشُّبَه، مستقيمًا على الجادَّة التي أمر الله بها، لا يَحيدُ عنها ولا يتنكَّبُ سَننَها. و أمَّا أمانتُه فكان يراقب الله في أعماله الوظيفية وتعامُلاته المادِّية، وفي كلِّ ما حمل على كاهِله من مسؤوليَّاتٍ تتصل بتوزيع الصَّدَقات والزَّكَوات والمساعدات؛ يؤدِّي لأصحاب الحقوق حقوقَهم، من غير بَخْسٍ ولا ظلم ولا تطفيف. ولا تمتدُّ عينُه إلى ما ليس له حقٌّ فيه، فعُرفَ بالصِّدق والأمانة، وحَظِيَ لدى كلِّ من عمل معهم حتى ممَّن كانوا على غير دينه ومِلَّته، ووثِقَ به الغريبُ قبل القريب. و أمَّا حكمتُه فقد حَباه الله منها نصيبًا وافرًا، ولا سيَّما في استجلاب القلوب الشاردة عن مَهْيَع الحقِّ، والأفئدة الضالَّة عن سبيل الهداية والرُّشد، يلبَسُ لكلِّ موقفٍ لَبوسَه اللائقَ به، ويخاطب كلًّا باللسان الذي يَعقِلُه، فهدى الله على يدَيه كثيرًا من الخلق؛ بحُسن تأتِّيه وسلامة طَوِيَّته. مرضه ووفاته ابتُليَ الشيخُ بداء السَّرطان في المَرِيء قرابةَ ثلاث سنين، كابدَ فيها ما لا يكاد يُطاق من أَوْصاب، لكنَّه بفضل الله الكريم أبدى من الصَّبر والاصطِبار، ومن الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره، ما يُرجى له أجرُ أُولي العزم من الصابرين. وأُجريت له جِراحةُ استئصالٍ لثُلُثَي المَرِيء وجُزءٍ من المَعِدة، وناقشَ رسالته للماجستير وهو يعاني آلامًا مبرِّحة، ولكن مضَت المناقشةُ بسلام ولله الحمد. وشاء سبحانه بحكمته ألا يُجديَ العلاجُ نفعًا، فعاد البلاء أشدَّ وطأةً وأمضَّ وجعًا، مع التهابٍ شديد أصاب رئتيه، بقي يعاني من جرَّائه حتى أُدخلَ العناية المشدَّدة (الفائقة) في المركز الطبِّيِّ بالجامعة الأميركية في بيروت، ولبِثَ فيها قرابةَ ثمانية أيام، حتى وافته منيَّتُه مساء يوم الأحد 27 من ربيع الأوَّل 1444هـ يوافقه 23 من تشرين الأول 2022م، رحمه الله تعالى وجعل ما ابتلاه به من نصَبٍ ووصَبٍ كفَّارةً ورِفعة، وعزاؤنا أنه مات مهاجرًا غريبًا مريضًا، ونرجو أن يكون صدِّيقًا شهيدًا. وصُلِّي عليه أَصِيلَ يوم الاثنين 28 من ربيع الأوَّل في جامع البساتنة، ودُفن في جَبَّانة (مَقبَرة) الأوقاف الإسلامية الجديدة (الحرج) ببيروت. إن العين تدمَعُ، والقلبَ يحزَنُ، ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. ♦♦♦♦♦ أسرته جدُّه: الحاجُّ عبد الهادي بن أحمد ذو الغنى: من وجهاء حيِّ المَيدان وتجَّاره و (قبضاياته) . عُرف بالصَّلاح والورع، والشَّهامة والمروءة، وله مواقفُ مشهودة في الشَّجاعة والجرأة وقوَّة الشَّكِيمة. وكانت تجارتُه بين الشام وقرى حَوران. توفي عام 1350هـ/ 1933م. تزوَّج بهيجة بنت محمد بهاء الدين البَيطار، شقيقةَ الشيخ العلَّامة محمد بهجة البَيطار رحمهما الله. ووالده: الحاجُّ أبو نصوح محمد بديع بن عبد الهادي ذو الغنى، وُلد بحيِّ المَيدان في دمشق عام 1337هـ/ 1919م: شيخ فاضل عصامي، من أهل الورع والعبادة، أُولعَ بتلاوة القرآن الكريم فكان يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويختمُه في الشهر أربع مرَّات على الأقل. حضر دروسَ الشيخ حسن حَبَنَّكة، والشيخ حسين خطَّاب، وصَحِبَ الشيخ صادق حَبَنَّكة ولازمه، وكان من خَواصِّه وأخدانه. وتأثَّر بخاله العلَّامة السَّلَفي الشيخ محمد بهجة البَيطار، رحمهم الله أجمعين. افتَتَح سنة 1939م مكتبةً صغيرة لبيع الكتب و (القرطاسية) في محلَّة الجَزماتية قرب جامع الأمير مَنجَك في حيِّ المَيدان، وبقي يعمل فيها حتى وفاته عام 1420هـ/ 1999م. كان كتبَ مذكِّرات شخصية عن أصل أُسرته وتاريخها وجدودها، أفدتُّ منها كثيرًا في كتابي (أُسرة ذو الغنى الدمشقية، تاريخ وأعلام) يسَّر الله تمامه، وخلَّف قصائدَ وأشعارًا منها قصيدةٌ في رثاء خاله الشيخ البَيطار. ووالدته: أم نصوح ربيعة بنت سليمان ، بن حسين، بن محمود، بن طالب، بن محمد ذو الغنى، وُلدت بحيِّ المَيدان في دمشق عام 1340هـ/ 1921م، وتوفيت فيها عام 1428هـ/ 2007م، ولم تكن حجَّت، فحجَّ عنها ولدُها الشيخ عبد الله عام 1438هـ. وهي أختٌ غير شقيقة لزوج عمَّتي الشيخ أبي عدنان محمد بن سليمان ذو الغنى (1332- 1418هـ/ 1914- 1998م) ، أحد مؤسِّسي دار الحديث الأشرفية بدمشق عام 1953م، في مِنطَقة العَصْرُونية، برَآسة الشيخ محمود الرَّنْكُوسي (ت 1405هـ/ 1985م) رحمهم الله جميعًا. وزوجته: الأستاذة الحاجَّة ناهد بنت محمد الفاكهاني ، وُلدت في بيروت عام 1390هـ/ 1971م، تزوَّجها الشيخ عبد الله في مَطلَع عام 2004م، وتولَّى عقدَ قِرانهما فضيلةُ الشيخ خليل المَيس رحمه الله، ثم زاره مهنِّئًا. وهي حاصلةٌ على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وعلى الإجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، وعلى دبلوم دراسات عليا باللغة العربية، ودبلوم دراسات عليا في التربية (طرائق تدريس اللغة العربية وآدابها) ، وانتسبت إلى كلِّية الشريعة، وحالت أعباءُ الأسرة دون إتمامها الدراسة. حافظة لكتاب الله تعالى، وحضرت مع زوجها غيرَ قليل من مجالس رواية الحديث، ولها إجازاتٌ فيما سمعت من كتب السنَّة. عملت في التعليم وفي التصحيح اللغوي والتحرير الأسلوبي، وهي مربِّية صالحة فاضلة، وعاقلة حكيمة رَزينة، وفَّقَها الله وصبَّرها. وولداه: محمد بن عبد الله ذو الغنى، وُلد في بيروت عام 1425هـ/ 2005م، طالب في أُولى سنوات دراسته الجامعية بتخصُّص هندسة الحواسيب والاتصالات. و حسن بن عبد الله ذو الغنى، وُلد في بيروت عام 1426هـ/ 2005م، طالب في آخر سنوات المرحلة الثانوية. وقد حضَرا مع والدهما كثيرًا من مجالس الحديث والسَّماع، ولهما إجازاتٌ ببعض الكتب، وفَّقَهما ربِّي وجعلهما خلَفَ خيرٍ لأبيهما الفاضل الراحل. ♦♦♦♦♦ شهادات عارفيه ● قال الشيخ المحدِّث الدكتور صالح معتوق وكان عضوًا في لجنة مناقشة رسالة الشيخ عبد الله للماجستير: إنني أشرَفتُ وناقشتُ قرابة 400 رسالة علمية بين رسائل ماجستير ودكتوراه، ولكنَّ الرسائل التي أعتزُّ بها؛ لما بذله فيها أصحابُها من جهد جادٍّ أصيل، ولما فيها من سداد منهج وعلم وتقصٍّ وفوائد، لا تزيد على عشرين رسالة، ومن هذه الرسائل رسالةُ الشيخ عبد الله ذو الغنى. ● ووصفه شيخنا المحدِّث المسنِد المحقِّق محمد بن ناصر العَجْمي بقوله: الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله كنت أحبُّه جدًّا، وهو من أهل القرآن وقرَّائه، ومَظِنَّة ولاية وتقًى. وقد رأيت فيه الصدقَ والديانة والصلاح، وصدق اللهَج في الدعاء، وكان إليه المنتهى في الأدب والتصوُّن، ويعامل إخوانه وأصحابه وكأنه التلميذُ وهم شيوخه. وإن رؤيتَه والإصغاء إلى كلماته وسماع دعَواته، تبعث في النفس حبَّ الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتذكِّر بالدار الآخرة، وهو من نوادر من رأيتُ في هذا الباب، ولا أزكِّي على الله أحدًا. كان حريصًا على حضور جميع مجالس سماع حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم التي أقمتُها وأُقيمَت في بيروت، تقبَّل الله منه وغفر لنا وله. ● وذكر طرفًا من شمائله فضيلةُ الشيخ أمين بن سَليم الكُردي (أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية) قائلًا: إن ممَّن منَّ الله عليهم وخصَّهم بالمراتب العَليَّة - ولا نزكِّيه على الله تعالى - الشيخَ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى، فقد عرفته في أوائل أيام جلوسي بين يدي الحاج محمد رمضان رحمه الله؛ لتعلُّم القرآن الكريم، قبل دخولي كلِّية الشريعة، وما زلتُ أذكر ذلك اليومَ عندما قال لي الحاج محمد رمضان رحمه الله: "إذا أردتَّ أن تُتقنَ القرآن الكريم فكُن مثلَ ذاك الرجل الذي يجلس هناك"، وكان الرجلُ الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى. ومنذ ذلك الوقت وأنا أنظرُ إليه؛ إلى تواضُعه وزهده، وسَمْته الحسَن وأدبه، وصوته المنخفض اللطيف، ولينه وطَرْفه الحيي. الشيخ عبد الله صحبةُ سنواتٍ طويلة وأُخوَّةٌ في الله رائعة، ومعرفةٌ قديمةٌ في مجالس العلم والمساجد وميادين الطاعات والعبادات. رجلٌ كان يعيش خارجَ زماننا الصَّاخب بعيدًا عن كل الضَّجيج، يعيش في ذلك الهدوء الذي تراه في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ هُوَ الَّذي أنزَلَ السَّكِينةَ في قُلُوبِ المُؤمِنينَ لِيَزدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم ولِلَّهِ جُنودُ السَّماواتِ والأرضِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 4]. رحمَكَ الله تعالى يا صديقي، لم تَنَلْ منَ الدُّنيا لأنك لم تطلُبها، ولم تَنَلِ الدُّنيا منكَ لأنها لا تقوى على مَن هم مثلُك. أسأل الله تعالى أن يحفظَ عائلتَك وذرِّيتَك، وأن يتمِّمَ حفظ القرآن لولدَيك كما أحببتَ ورغبت. رحمَكَ الله يا أخي الحبيب، وتقبَّلَ منك تعليمَك لكتابه المجيد، وتدريسَك لحديث نبيِّه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، ونشرَكَ لمختلِف العلوم الشرعية. نفعَ الله تعالى المسلمين بما ألَّفتَ وكتبتَ وجعلتَه صدقةً جاريةً من بعدك. ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا سبحانه: ﴿ إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إليهِ راجِعُون ﴾ . والمُلتَقى الجنَّة بإذن الله تعالى. ● وكتب في نعيه فضيلةُ الشيخ محمود أحمد عَكَّاوي (شيخ قرَّاء بيروت، وإمام وخطيب المسجد العُمَري الكبير، ومدير مركز خدمة القرآن الكريم التابع لدار الفتوى) . رحمك الله رحمةً واسعة يا خادمَ كتاب الله، وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم. في الثمانينات حينما كنتُ أحفظ كتاب الله تعالى تعرَّفت على شيخي عبد الله ذو الغنى في مجلس الحاج محمد رمضان رحمه الله في مسجد الخاشقجي، حيث كان كتابُ الله يجمعنا، فربطَتني به صحبةٌ طيبة، وكنت أذهب إلى بيته في مِنطَقة الغبيري حيث كان يسكن، وأقرأ عليه محفوظاتي، فيضبِطُ لي مخارجَ الحروف والصفات، وكان يُكثر لي من النصيحة. كان نعمَ الأخُ والصديق والأستاذ والشيخ، كان ذا خُلُق وأدب وتواضع وسَمت حسن، قليلَ الكلام، متمسِّكًا بدين الله تعالى وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. مُلتقانا عند حوض حبيبنا وسيِّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. ● ورثاه الشيخ عبد المنعم الخالد أبو المعتصم (إمام جامع العفيف في حيِّ المهاجرين بدمشق سابقًا) بقوله: قويٌّ في دينه، مقبلٌ على ربِّه، ناصحٌ لمن حوله، يبغي الخير في الأعمال والأقوال، مُخبتٌ، راضٍ بقضاء الله تمام الرضا، محبٌّ للصالحين من عباد الله، وهو منهم والله حَسيبُه. خالطتُه في عملٍ مدَّةَ عامين فما شهدتُّه أفطرَ يومَي الاثنين والخميس لا صيفًا ولا شتاءً! ليت الذين يبغُون الصدارةَ والوجاهة، ويطلبونها ليلَ نهارَ، يبلغون مُدَّهُ في الأخلاق أو نَصِيفَه! اللهم ارحم عبدَك عبد الله ذو الغنى وأنزله منازلَ الصدِّيقين. ● وكتب الشيخ محمد الحنجول: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" كتابٌ جليل للإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، كنَّا نقرؤه بصُحبة صديقنا وشيخنا الحبيب عبد الله ذو الغنى مع ثُلَّةٍ من الإخوة المشايخ طلَّاب العلم، على شيخنا المحدِّث د. بسَّام عبد الكريم الحَمزاوي حفظه الله ورعاه. وما زلت أذكر تلكمُ الليلةَ التي كنَّا نقرأ في الكتاب بعد منتصف الليل في منزل شيخنا وفقيدِنا الغالي الشيخ عبد الله ذو الغنى، وقد أمدَّ لنا سُفرةً غنيَّة بطعم أخلاق العلم قبل طِيب الطعام. "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" ليس مجرَّدَ كتاب قرأناه، وإنما هو رجلٌ تجلَّت فيه أخلاقُ طلَّاب العلم والعلماء، تجلَّت في شيخنا وفقيدنا الغالي الشيخ عبد الله، صاحبِ التواضُع الرفيع، والصَّدر الرحب، والابتسامة الواسعة، والحِرص الشديد على الصُّفوف الأماميَّة في طلب العلم والعمل الصالح. الشيخ عبد الله ذو الغنى الذي عشق العلمَ وأحبَّه أهلُه، ولطالما كان المقدَّمَ في الدعاء؛ التِماسًا للإجابة، لصلاحه الظاهر والباطن، نحسَبُه كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا. إلى اللقاء يا شيخنا الحبيب، رحمك الله، آنسَك الله، عوَّضَك الله الجنَّة، وحفظ أهلك من كلِّ سوء وشرٍّ، وجعلهم خيرَ خلفٍ لخير سلف، ورفع قدرَك في أعلى علِّيِّين، مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقًا. ● ومن أصحابه في الحجِّ الشيخُ الحاجُّ ضرار حمُّود ، وقد أرسل شهادته في رسالة صوتية قائلًا: لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمًّى، فلنصبِر ولنحتسِب. أعظمَ الله أجرَنا، وأحسنَ عزاءنا، وغفر لميِّتنا. إن موت الشيخ عبد الله ذو الغنى الذي كان رفيقَنا في الحجِّ، وصاحبَنا وشيخَنا وإمامنا، وأخانا وحبيبنا.. رحمه الله رحمةً واسعة، مُصابٌ كبير، فقد كان صاحبَ همَّة عالية في الإيمان، فهو عالم كبير ومتواضع جدًّا لا ترى فيه أيَّ شيء من التكبُّر، والله يتولَّى السَّرائر، نحسَبُه كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا. نحسَبُه من أهل العلم، وأهل الصدق، وأهل الإخلاص، ومن أهل الحديث، كان يدرِّس الحديثَ الشريف، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "نضَّر الله امرَأً سمعَ مقالتي فوعاها، وبلَّغَها كما سَمِعَها"، وقال: "بلِّغُوا عنِّي ولو آية"، وكان الشيخُ مبلِّغًا بكلِّ تواضع، وداعيًا إلى الله بعلمه وبسَمْته وأخلاقه وآدابه وهمَّته. أكرِم به من شيخٍ فاضل جليل كريم، بلغ الستِّين ونحن في حجِّ عام 1440هـ/ 2019م، وكان نشيطًا يمشي كشباب العشرين، دائمًا يتقدَّم الإخوةَ في الحج من غير توقُّف، ولا يُجارى في مَشيه، ولا يُجارى في همَّته بالطاعة والذِّكر. وكان من خير المرشدين في وفد الحج، ويجيب عن الأسئلة الفقهية وينصح ويعِظ. وعندما كنَّا في فندق الروحانية كان يشغل كلَّ وقته بالطاعة والتدريس، فيُلقي درسين أو ثلاثة في الحديث وغيره، وأظنُّه أجاز بعض الحُجَّاج بالأربعين النووية، فأيُّ همَّة بعدَ هذه الهمَّة، وأيُّ عطاء مثلُ هذا العطاء؟! أجزل الله له المثوبةَ، ورحمه رحمةً واسعة، وأخلفَنا عنه؛ فالعالمُ إذا ماتَ ثُلِمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا تُسَدُّ إلا بخلَفٍ مثله. وقد كان عالمًا من ورثة الأنبياء، وكان محبًّا للخير، ومُرشدًا للغير. ● ومن أصحابه القُدامى الأستاذُ الشيخ أيمن عبد الوهَّاب ، وقد كتب عن صلته به قائلًا: تعرَّفتُ على الشيخ عبد الله ذو الغنى في نهاية الثمانينات في مسجد الشهداء في بيروت، يجلس مع زميلٍ له في الدراسة، يدرسان الكتبَ المقرَّرة عليهما في كلِّية الإمام الأَوزاعيِّ في بيروت، وكان هادئًا مبتسمًا، قريبًا من القلب. ثم في منتصف التسعينات بدأنا (مجموعة من شباب المسجد من اختصاصات مختلفة، وكنت الوحيدَ بينهم من طلَّاب العلم) معه حَلْقةً يومية بعد صلاة الفجر لحفظ القرآن الكريم؛ ليُضافَ إليها لقاءٌ أسبوعي لقراءة "موطَّأ الإمام مالك" رحمه الله تعالى، وشرح أحاديثه. فزرعَ فينا حبَّ الكتاب، وكان رحمه الله تعالى سببًا في تعلُّقي بالكتاب، ومداومة قراءته. ثم في مَطلَع الألفَين ميلادية بدأنا بقراءة كتاب "فتح الباري" للحافظ ابن حَجَر، فكان يستضيفُني في مكان إقامته المتواضع، فيَلقاني لقاء المحبِّ، ويكرمني بضيافته الغنية المليئة بالكرم والجود، وأتممنا قراءة الجزء الأول ونصف الجزء الثاني. وقد نشِطَ في إقامة الدَّورات الصيفية المسجدية، للطلَّاب والطالبات من الناشئة، فكان صاحبَ الهمَّة العالية والحركة الدؤوبة؛ لتيسير فرص نجاحها. عمل الشيخُ رحمه الله في أعمال مختلفة؛ لكفاية نفسه ومَن يعول، وكان دائمًا ما يسألُ الله تعالى أن يشغَلَه بالعلم والتعليم، ويجعلَ رِزقَه هناك. في مرضه الأخير رحمه الله تعالى لم أسمع منه غير الرضا عن قضاء الله، وتكرار الحمد على لسانه، وعندما اشتدَّ به الوجَع كان يسأل الله حُسنَ المَخرَج. ● وكتب الشيخ الدكتور عبد الرحمن المارديني : صحِبتُه في الحجِّ حيث كان موجِّهًا ومرشدًا للحُجَّاج، فرأيته صاحبَ همَّة لا يترك صلوات الجماعة في الحرم، وأداء العمرة كلَّ يوم. وكان خطيبًا متكلِّمًا فقيهًا، إذا تكلَّم كان لموعظته نكهةٌ فقهية أصولية، وكان رحيمًا يصحب الحُجَّاج لتعليمهم أحكامَ الطواف والسعي وسائر أعمال العمرة. هيِّن ليِّن رحيم متواضع، تواضعُه سجيَّة غيرُ متكلَّف. ذات مرَّة قال لي: لديَّ رجاءٌ عندك، فحسِبتُ أنه سيطلب ما لا أستطيع تقديمه؛ وإذ به يطلبُ مني أن أشرحَ له منظومةَ الجزرية، مع أنه يكبُرني بأكثرَ من عشر سنين، وهو قارئ قديمٌ للقرآن، لازمَ الشيخ محمد رمضان رحمه الله تعالى وختمَ عليه. فأسأل الله أن يجعلَه في أعلى علِّيِّين. ● ووصفه الأستاذ الشيخ محمد أحمد العاصي (المعروف بالمطيع) قائلًا: عرفتُ الشيخ عبد الله ذو الغنى قبل ٢٥ سنة، كنت في أول الشباب، كان لا ينقطع عن جماعة، متواضعَ الجناب، ساكنًا هادئًا، حريصًا على مجالس العلم مع جلالة علمه، يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويعمل بكدٍّ وهمَّة، ليَطعَم من كسب يده. حضرتُ معه مجالس الحديث الشريف في بيروت، ثم في مكة المكرَّمة خلال رحلة الحج، فكان لا ينقطع عن مجلس، ويحرِص على الحضور بهمَّة عالية قلَّ نظيرها، ويدأب على الدوام في المجالس وإن تأخَّر موعدُها؛ فحضَرنا بعد منتصف الليل، وبعد الفجر، وعند رَمْضاء الظهيرة. كان صاحبَ سريرة صالحة، وورع نادر، وممَّا أخبرني به خلال زيارتي له في مرضه الذي صبر وصابر عليه، أنه كان يستخير ويصلِّي ركعتين بشأن كلِّ صديق وأخ يعرفه، فإمَّا يتابع بصحبته وإمَّا يتركه؛ وذلك لكثرة الخيانة وقلَّة الوفاء ونُدرة الصدق في ذلك الوقت. ● وشهد أحدُ أصحابه المقرَّبين الشيخ الفاضل أحمد الفليطي وفَّقه الله، بقوله: عرفتُ الشيخ عبد الله ذو الغنى منذ عام ٢٠٠٨ طالبَ علم مجدًّا، وفي التعليم متقنًا مخلصًا. حضرنا معًا مجالسَ الحديث الشريف الليلية الخاصَّة مع شيخنا المحدِّث بسَّام الحَمزاوي، فكان يجاهد نفسَه على حضورها وهو أكبرُنا سنًّا، وأعرفُنا بدقائق ما يمرُّ معنا. يغسل النومَ عن عينيه بالماء كلَّ نصف ساعة تقريبًا؛ ليعاودَ (تركيزه) من جديد، واستمرَّ فيها حتى توقفَت دون انقطاعٍ منه أو ملل. ثم كانت مجالسُ الكتب الستَّة والموطَّأ وغيرها في النهار، فحضَرها كاملةً، وكنت أستعين به فيفتتح المجلسَ أحيانًا بتلاوة القرآن الكريم بإتقانه المميَّز، ويُعينني في قراءة المتون بعضَ الأحيان، ويختم لنا بالدعاء أحيانًا. ثم كانت رحلةُ التدريس في الدَّورات الحديثية، بين (دار اقرأ) في بيروت، و (مركز علوم الحديث الشريف) في صَيدا، فرأيت بأمِّ عيني تحضيرَه المتقَن والأنيق للدروس التي يقدِّمها، وكانت الدروسُ الأبلغ هي السَّمْت الحسَن، والخُلق المحمَّدي الراقي. ثم قدَّر الله تعالى وتعرَّضتُ لحادث سيرٍ كُسِرَت فيه يدي اليُمنى، فتعذَّر عليَّ الذهابُ إلى دورات طرابُلُس فكان الشيخ عبد الله خيرَ مُعينٍ لي؛ إذ تجشَّم عناء السفر إلى طرابُلُس مدَّة شهرين أو ثلاثة حتى أنهى المقرَّر فجزاه ربِّي خيرًا. وهو رجلٌ عفيف صَبور غَيورٌ على دينه، محبٌّ للدعوة إلى الله تعالى، يَمقُت الكذب وأهلَه، ويحبُّ الصِّدق وذَويه. لا مكانَ للغِيبة والنَّميمة في مجلسه، وقد طهَّر منها قلبَه ولسانَه وجوارحَه. يعمل ويأكل من كسب يدِه طيلةَ النهار، ثم يمسح عناءَ العمل وتعبَه بطلب العلم، وخاصَّة على سماحة مفتي البِقاع شيخنا المرحوم خليل المَيس كلَّ أربعاء، وعند غيره من الشُّيوخ باقي أيام الأسبوع. حتى رأيتُه بمجلسٍ لأحد الشيوخ، وكان العَجَب أن الشيخ الذي كنَّا حاضرين مجلسَه انكبَّ على يد الشيخ عبد الله ليقبِّلَها أمام أكثرَ من ٣٠٠ طالب وطالبة، فللَّه دَرُّه من طالبٍ ومعلِّم وصديق متواضع، وأخٍ محبٍّ حنون. آخرَ مرَّة صحِبتُه فيها إلى مركز طبِّي كنَّا بصحبة شيخنا بسَّام الحَمزاوي وبسيَّارته، فرأى معي كتابين على غلافهما صورٌ لشيخنا خليل المَيس، فطلب مني تأمين مثلهما، وتنهَّد وجعًا لا من آلام مرضه التي كانت باديةً عليه، إنما على فراق الشيخ خليل الذي كان في قلبه ومجالسه مكانةٌ خاصَّة للشيخ عبد الله ذو الغنى، وكان من القلَّة الذين زارهم مهنِّئًا بزواجهم من الطلبة، وكان الشيخ خليل يقول لي: تعلَّم الأدب منه، ويذكره لي بالوفي والمجدِّ والمخلص والخلوق. زرتُه وشيخي بسَّام الحَمزاوي عقب آخر عملية جراحية أُجريَت له في مشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، فكانت حاله تُبكي الحجَر، وأردتُّ أن أحكيَ له فُكاهةً لأُسَلِّيَ عنه، وكنت كثيرًا ما أفعلُ ذلك معه، لكن عندما رأيتُ جراحَ جسمه أمسكتُ عن ذلك. وبعد قليل قال الشيخ بسَّام: ما رأيكَ نقرأ أربعين حديثًا شريفًا؟ فأبدى سرورَه، وقال: يا ليت. فقرأناها وأجازنا بها الشيخُ بسَّام، فتهلَّل وجهُ الشيخ ذو الغنى، ودخل أحدُ الأطبَّاء فوجده كذلك فقال: مولانا (بايِن سِنَّك) اليوم، تعالَوا كلَّ يوم زوروه لنراه ضاحكًا. فقلتُ له: الضَّحكُ ليس لنا، إنما هو لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فقال: تعالَوا واقرؤوا ما تحبُّون، المهمُّ أن نرى مولانا ضاحكًا. وممَّا لفتَني حضورُه مجالس سماع كتاب "الجامع الصغير" للإمام السُّيوطي على شيخنا د. بسَّام الحَمزاوي في ربيع الأول عام ١٤٤٣ بعد الفجر وبعد العشاء كلَّ يوم، و (نرابيش) الأجهزة الطبِّية متصلةٌ بفمه وأنفه! وللشيخ عبد الله أعمالٌ علمية، من واجبنا تجاهَه إخراجُها لطلَّاب العلم، منها بحثه للماجستير المتعلِّق بكتاب "التقاسيم والأنواع" للإمام ابن حِبَّان البُستي، الذي أنجزه قبل وفاته. وقال لي: أرجو من الله الشِّفاء لأُنهيَ الدكتوراه. ومنها شرحه على "الأربعين النووية"، ولا شكَّ عندي في وجود غيرها ممَّا يحتاج إلى التتبُّع والجمع من مكتبته وحاسوبه. رحمه الله تعالى وعوَّض الأمَّة خيرًا. وكتب بعضُ طلَّابه من الشباب النابهين شهاداتٍ في شيخهم الراحل، بارك الله فيهم. ● قال الأخ محمد عبيدة الطبَّاع: رحم الله سيِّدي وشيخي المربِّي عبد الله ذو الغنى، من أجمل ما تتعلَّمه منه دعوةُ الناس بالحبِّ، وخوض الحياة بالحبِّ، فلا تكاد تعرف له شانئًا، ولا تكاد تراه أبغضَ مسلمًا، مع التواضُع الحقيقيِّ الجمِّ. وكم كنتُ أعجَبُ من الشيخ، لا ينام الليلَ وهو يعمل ويُقرئ، لم أرَه يومًا من الأيام انقطع عن صلاة الجماعة في المسجد، كان صاحبَ همَّة عالية. عندما أذهب إلى بيته كان يُكرم الجميع، كان كريمًا لا يردُّ سائلًا، وكان رحمه الله تعالى إذا حضَرتَ مجلسَه شعرت كأنك في روضةٍ من رياض الجنَّة. وكان للشيخ أسلوبٌ جميل جدًّا في مادَّة علم الحديث، عندما يشرح عن الصَّحابة عيناه تذرِفان من الدمع. أتذكَّر عندما قلتُ للشيخ: أريد أن تشرحَ لي كتاب "الكواكب الزاهرة في الأربعين المتواترة" للعلَّامة مفتي الشام محمود الحَمزاوي رحمه الله، فكان في كلِّ حديث يشرحه يبكي رحمه الله، وإذا ما قرأتَ عليه آياتٍ من كتاب الله تراه يتفاعلُ معها كأنه يسمعُها أولَ مرَّة، ويبكي ويتفكَّر في الآية. كان رحمه الله من بقيَّة السلف الصالح. ● وقال الأخ الشيخ إبراهيم الدَّالي : عِشتُ مع الشيخ عبد الله ذو الغنى سنواتٍ ما رأيتُ أكثرَ منه تواضعًا وزهدًا وغَيرةً على دينه. عاش تقيًّا نقيًّا زاهدًا صابرًا محبًّا لطلب العلم. وكان رقيقَ القلب صاحبَ مبدأ، وكانت الدنيا لا تعنيه. كانت وصيَّتُه لي في أولادي أن أبعدَهم عن لقمة الحرام، وأن أستعينَ بالله على تربيتهم في ظلِّ هذا الانحراف. أستطيع أن أعطيَه لقب (بقيَّة السلف) رحمه الله وعوَّضَه الجنَّة. ● وقال الأخ مجد الحسين : صحِبتُ شيخنا الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله ما يقارب خمس سنوات، في بيته وفي المسجد وفي مركز علوم الحديث. كان شديدَ التواضُع ولا يحبُّ الشهرة، خفيٌّ جدًّا في أعمال البِرِّ، وفي التحصيل العلمي. وربما يقول لي: عملتُ كذا ليلةَ البارحة، ويغيِّر الموضوع إلى موضوع آخرَ. وكان يوصيني بحفظ القرآن، وتعلَّمتُ القراءة عنده حتى أتمَمتُ قراءة آخر ثلاثة أجزاءٍ، ثم بدأتُ بالحفظ وسمَّعتُ له ما يقارب جزءًا ونصفًا من البقرة. وأوصاني بحفظ "نهاية التدريب" وحضَرتُ له عدَّة دروس في شرحه له، وحفظت ما يقارب نصفَه حتى الآن. وكان يوصيني بحفظ أحاديث "عُمدة الأحكام" وحضَرتُ له عدَّة دروسٍ في شرحه. وأخبرته مرَّةً أني حفظت عدَّة منظومات، ففرح لي أكثر ممَّا فرحتُ بتوفيق الله لي، وشكرته وقلت له: جزاكم الله خيرًا على ما علَّمتَني إيَّاه، فغضب جدًّا وقال: لا بل جزاكم الله خيرًا أن قبلتموني أعلِّمكم، إنما أنا عبدٌ ضعيف مسكين، أرجو رحمةَ الله. وكاد يبكي! ثم دعا لي، وكان يوصيني بالمداومة على صلاة الجماعة، ويقول: تتيسَّر الأمورُ إن شاء الله. وأختصرُ هذه المدَّة التي قضيتُها معه بجملة، ولا أدري هل تصحُّ أو لا، ولكن لا أجدُ غيرَها تعبِّر عن الأثر الذي تركه فيَّ، أقول: لقد تعلَّمتُ من حاله مع الله أكثرَ من علمه . وأختم شهادات عارفيه بشهادة أحد أبناء جيرانه الذين نشؤوا في كنفه، وتحت رعايته وتوجيهه، مدَّة عشر سنوات قبل زواجه، وهو الأخ قاسم السيِّد . ● قال الأخ قاسم: عِشنا معه مدَّةً طويلة في الحرب والسِّلْم، علَّمَنا الصلاةَ والصوم وتلاوة القرآن، كان يجمع صغارَ شباب الحيِّ في مسكنه، ويهتمُّ بنا بلا تفرقة، ويقدِّم الضيافة ويُكرمنا، ويشجِّعُنا على القرآن وصلاة الجمعة، ويتابعنا ولا يتركنا. كان الأبَ والأخَ والصديق، ولم يمرَّ في حياتنا أحدٌ مثله. يشتغل للدِّين من قلبه، وقد قضى حياته يعلِّم ويتعلَّم. كان دومًا لا وقتَ لديه يُضيعه، وكان يقول: إذا لم تنتفعوا منِّي فدَعُوني أنتفِع منكم. كان جادًّا في أيِّ موضوع يتعلَّق بالدِّين، فلا يتنازل مهما كان، يُجيب على قدر السؤال وَفقَ الشَّرع، ولا يُراعي مصلحةَ السائل الشخصية الضيِّقة. وذات مرَّة قلتُ له: نحن نخطِئ، لكنَّك أنت تقضي حياتك كلَّها بالطاعات، فلماذا تُكثر من العبادات وصلاة الليل، وما عليك ذنوب تُذكَر؟ فقال: أرجو ألَّا أُحاسَبَ يومَ الحساب. وكان مَرضِيَّ الوالدين؛ يحبُّ أباه حبًّا غير طبيعي وأمَّه رحمهما الله، ويحترم أخوَيه كثيرًا. كانت ثقتُنا فيه تامَّة تامَّة؛ أراجعه في أيِّ مسألة تواجهني، حتى إني كنتُ أتْبَعُه أحيانًا إلى حيثُ هو وإن كان بعيدًا عن بيروت، ولم أكن أرتاح إلا حينما أحكي له همومي، وكان يُرشدني دائمًا إلى الخير. وكنَّا نفرح عنده، وطعامه الذي يقدِّمه في بيته طيِّب مُشبِع؛ كنتُ أقول له: أنا آكلُ هنا وهنا، لكنَّ الطعام عندك مختلف، فيقول لي: المالُ الحلال طعمه لذيذ . قضى حياته لا طمعَ له في الدنيا إلا ما تقتضيه الحاجة؛ لا مطالبَ لديه عند أحد، عاش عفيفًا نظيفًا، بل كان يساعد غيرَه من قلبه وإن كان مُعسِرًا. باختصار كان شيخًا بكلِّ معنى الكلمة، وكنَّا نستحي أن نقول له: عرِّفنا شخصًا مثلك؛ لأننا كنَّا لا نرى مثله. ● واطَّلع على هذه الترجمة قبل نشرها أخي الحبيبُ رفيق الطلب وزميل العمل، الشيخ الطُّلَعة المحصِّل المُفيد، الحافظ المُسنِد محمد زياد بن عمر التكلة ، فكتب معلِّقًا: رحم الله الشيخ عبد الله ذو الغنى، وجزاكم الله خيرًا أخي الحبيب أيمن. أبكتني هذه الترجمةُ والله، وكم لله من العباد الأتقياء الأخفياء الأنقياء، لعلَّ الله ادَّخرَ رفعَ ذكرهم ونشرَ القَبول العامِّ لهم - سوى القَبول الخاصِّ من معارفه الأقربين - بعد وفاتهم. وفي إجماع شهادات عارفيه ما يدلُّ على إخلاصه، وعلوِّ شأنه رحمه الله. ولعلِّي تشرَّفتُ بلقائه في مجلس شيخنا مطيع الحافظ في طرابُلُس، ولا أدري إن حصل في غيره، وأظنُّ في بعض مجالس بيروت أيضًا. وبعد قراءة الترجمة والشهادات أتمثَّل بقول القائل: وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ وأنتَ اليومَ أوعَظُ مِنكَ حيَّا تعازيَّ لزوجه وأولاده وإخوته ولكم، ولذويه ومحبِّيه، وكم نرجو الخيرَ لأولاده: ﴿ وكان أبوهُما صالحًا ﴾ . جمعَنا الله به في الفردوس، ورزقَنا شفاعةَ إمام المحدِّثين رسول ربِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، التي جمعتنا سنَّتُه ومجالسُه. كتبه ابن عمِّه أبو أحمد المَيداني أيمن بن أحمد ذو الغنى عفا الله عنه، وأحسن ختامه الرياض 15 ربيع الآخِر 1444هـ (ثم كان التبييضُ النهائي في غُرَّة شوَّال 1444هـ) ♦♦♦♦♦ المراجع: ♦ كتاب (أُسرة ذو الغنى الدمشقية، تاريخ وأعلام) لكاتب الترجمة أيمن بن أحمد ذو الغنى، مخطوط. ♦ التواصُل مع زوجته الفاضلة الأستاذة ناهد بنت محمد الفاكهاني، وولديه محمد وحسن سلَّمهما الله. ♦ التواصُل مع شقيقه الأخ عبد الهادي ذو الغنى، وشقيقته الحاجَّة غادة ذو الغنى. ♦ التواصُل مع شيخنا المحدِّث المحقِّق محمد بن ناصر العَجْمي. ♦ التواصُل مع شيخنا المحدِّث المسنِد د. بسَّام الحَمزاوي. ♦ التواصُل مع صديقه الأخ الشيخ المسنِد أحمد الفليطي. ♦ الإفادة من شهادات عارفيه المثبتة في الترجمة. ♦ ورقة نعيه. الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى إهداء بخطِّ الشيخ عبد الله ذو الغنى إلى ابن عمِّه كاتب الترجمة يوم حصوله على الماجستير، عن يمينه: د. وفيق حجازي، د. علي بِقاعي، د. صالح معتوق
المبارزة قبل القتال أرادت قريش أن تعرف قوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت عمير بن وهب فطاف بمعسكر النبي صلى الله عليه وسلم واستقل عددهم، فخاف أن يكون لهم كمين، فشرَّق وغرَّب، فلم يرَ شيئًا، فأخبر قريشًا بعددهم؛ ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا، لكنه قال: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح - الإبل التي تسحب الماء من البئر - يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة إلا سيوفهم، ألا ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، والله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل منا رجلًا، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير في العيش بعد ذلك، فارتؤووا رأيكم. ثم أرسلوا أبا أسامة الجشمي، ففعل مثل الأول، ورأى أن القوم مستعدون للموت، وقام بعد ذلك صاحب الجمل الأحمر، وهو عتبة بن ربيعة، ونادى بالناس من قريش: يا قوم، أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه، واعصبوا هذا الأمر برأسي، واجعلوا جبنها بي؛ فإن منهم رجالًا قرابتهم قريبة، ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه وأخيه فيورث ذلك بينهم شحناء وأضغانًا، ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم، مع أني لا آمن أن تكون الدائرة عليكم، وأنتم لا تطلبون إلا دم هذا الرجل والعير التي أصاب، وأنا أحتمل ذلك، وهو عليَّ يا قوم.. لا تردوا نصيحتي، ولا تسفهوا رأيي، فانبرى له أبو جهل يسفِّه رأيه، ويتهمه بالجبن، وأنه يكره أن يقتل، أو يقتل ابنه الذي هو مع المسلمين - وابنه هو أبو حذيفة. وأصرَّ القوم على القتال؛ لأن أبا جهل يريد ذلك، ويعُدُّ نفسه سيدهم، ولم يدرِ أنه يسعى إلى حتفه، ثم تصافَّ الفريقان وأصبح القتال وشيكًا، وجاء الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في العريش يدعو ربه - لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم - اقتربوا منكم - فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشَوْكم - يختلطوا بكم - فقال أبو بكر: يا رسول الله، قد دنا القوم وقد نالوا منا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أراه الله إياهم في منامه وهم قليل وهو يدعو الله أن ينصره، ولما تقاربوا أكثر خرج من بين المشركين الأسود بن عبدالأسد وأقسم أن يشرب من الحوض، وأن يهدمه، فاستقبله حمزة فضربه فأطار قدمه، فزحف حتى وقع في الحوض وشرب منه، ثم أجهز حمزة عليه وقتله، وهنا خرج عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من بين صف المشركين لكي يرى أبو جهل بطولتهم وطلبوا المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، قال عتبة: أخرجوا لنا أكفاءنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، وبدأت المبارزة، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي الوليد، واختلف كل من عبيدة وشيبة ضربتين، أصاب كل منهم الآخر، ثم أجهز حمزة وعلي على شيبة، واحتملا عبيدة جريحًا، حيث توفي فيما بعد، وكان بعد هذا الالتحامُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة))، وصبر المسلمون في القتال، والتزموا بما عاهدوا الله ورسوله عليه، وأمد الله المسلمين بالملائكة، فثبتوا الذين آمنوا، وانجلت المعركة عن نصر مؤزَّر للمسلمين، وهزيمة منكرة للمشركين، فقُتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وكان معظم قتلى المشركين من رؤوس الضلال، وعلى رأسهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وزمعة بن الأسود، ونوفل بن خويلد، واستشهد مِن المسلمين أربعة عشر.
خواطر : علمتني الكتب الحمد لله، الذي علَّم وقوَّم، وبيَّن وفهَّم، وأرشد وألهم، والصلاة والسلام على نبيه الْمُلْهِم الْمُلْهَم، وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد : فعلمتني الكتب : أنها خير جليس، ونعم الأنيس، وأنها العِلْقُ النفيس، والملاذ إذا حَمِيَ الوطيس؛ ولقد أحسن من قال : أعز مكان في الدُّنا سَرجٌ سابح وخيرُ جليس في الزمان كتابُ وكذا من قال : أنِستُ إلى التفرد طول عمري فما لي في البرية من أنيسِ جعلت محادثي ونديمَ نفسي وأُنسي دفتري بدل الجليسِ علمتني الكتب : أن لها لسانًا وشفتين، وكلما كنت لها ملازمًا وبها لصيقًا، وإليها مقبلًا، وعليها منكبًّا، كنتَ أعلم بحركة شفتيها ومنطوق لسانها. علمتني الكتب : أنه لا يخلو كتاب من فائدة. علمتني الكتب : أن لها لذةً تُلهِب أريحية القارئ، وتُحرِّك وِجدان الناظر، وتهتز لها القلوب، وتلتذ لها الأسماع وتطرَب، وتهَشُّ لها النفوس وترتاح، وتُذهِب العُبُوس والعُسر، وتجلب البشاشة والبِشر. علمتني الكتب : أن ما يُسمع غير ما يُقرأ، وأن ما يُنقَل عنها قد يكون مغايرًا لِما فيها، فلا يغني عنك هذا أو ذاك، فلا بد من الرجوع إليها والأخذ منها، والإقبال بكليتك عليها، ومن اكتوى بمثل هذا، يعرِف ما قلت ويدرِه. علمتني الكتب : أنها تشحَذُ الفكرة، وتروِّض الموهبة، وتصقُل الألباب، وتنمِّي الآداب. علمتني الكتب : أنها أعظم زاجر وواعظٍ بك يصيح، ومخادِن لك نصيح. علمتني الكتب : أنها تُبدِّد الوَحدة، وتُؤنِس الوَحشة، وهي نور في الغَبَشة، وضياء في الظلمة، ونديم في الخَلوة. علمتني الكتب : أنها تُذهِب رانَ القلوب، وتغسل دَرَنَ النفوس، وتَنفي الخَبَثَ، وتُنهِي العَبَث، وتُذهِب وَحَرَ الصدور، وتجلو ما بالعيون من الغَشْي. علمتني الكتب : أن فيها غُنيَة لمن عجز عن الأسفار، وركوب السفن التي تمخُر عُباب البحار. علمتني الكتب : أن منها ما هو جند من جنود الله عز وجل، يهدي الله عز وجل بها من يشاء، ويثبِّت الله عز وجل بها من يشاء من عباده. علمتني الكتب : أن القناعة فيها زهد، والزهد فيها ترك، والترك لها جهل. علمتني الكتب : أن لها نشوة زكية، ومعها نشوة طيبة، وبها نشوة مُسْتَمْلَحة . علمتني الكتب : أن ما لا تحتاجه اليوم منها، حتمًا ستحتاجه غدًا، وأن ما ليس منها علمٌ لك اليوم، سيصير من علمك غدًا، فتريَّث ولا تتعجل. علمتني الكتب : أن لكل مطالعة شِرَّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى شيء منها، فقد أحسن. علمتني الكتب : أنها آلة التحصيل، والعاقل لا يجعل تحصيلها وكثرتها حظَّه من العلم، وجمعَها نصيبَه من الفهم؛ وقد أحسن القائل : فجمعُك للكتب لا ينفع إذا لم تكن حافظًا واعيا علمتني الكتب : أنه ينبغي ألَّا يحقِرَ أحدنا منها شيئًا، وإن عَزَفْتَ عنها، ولم تحتَجْ إليها، فلا أقل من أن تلقاها بوجه طلقٍ. علمتني الكتب : أنه مهما كانت نية الْمُقْبِل عليها، فلن يَعدَم من كتاب خيرًا. علمتني الكتب : أن بينها وبين مُقْتنيها والناظر فيها قصصًا وهُيامًا، وشغفًا وحبًّا، وعشقًا وغرامًا، لا يمكن لأحدهما معها أن يلتفت عنها يمنة أو يسرة، فضلًا عن أن يتشاغل - ولا أقول ينصرف - أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يعلمان علمًا يقينًا لا يخالطه شك، ولا يعتريه ظنُّ أن ذلك من الأمور الْمُبْطلة لتلك الخَلَّة، وهي - والله وبالله وتالله - من أجَلِّ ما أنت سامع من قصص العشق والهيام، تضمحلُّ عندها وتنقطع، وتتقشع وتذهب كل تلك الأُقصوصات الخرقاء التي لا تعدم علة، والأساطير الجوفاء التي لا قلبَ لها، والأباطيل المستشْنَعة المزوَّقة التي لا أصل لها، والتي ملأت منذ صِبانا صماخَ آذاننا نتنًا، وأجوافنا قَيحًا. علمتني الكتب : أنه على قدر الصناعة تكون الآلة. علمتني الكتب : أنها أعز عليَّ من بُؤْبؤ عيني، وأرحم بنفسي مني بها، وأشفق عليَّ مني لها. علمتني الكتب : أن من أحسن إليها أحسنت ولا بد إليه، وقديمًا قيل : "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". علمتني الكتب : أنه على قدر الهمة تكون البُلغة، وعلى قدر الْمُؤنة تكون المعونة، وعلى قدر النية يكون الجزاء، وعلى قدر البذل يكون العطاء، وعلى قدر الزرع يكون الحصاد، وعلى قدر الاحتساب يكون الاكتساب، وعلى قدر حثِّ الخطى يكون البلوغ والرضا، وعلى قدر المسارعة يكون الاستحقاق، وعلى قدر النَّصب والصبر يكون الثواب والأجر، والجزاء - كما قيل - من جنس العمل. علمتني الكتب : أنه كم ترك الأول للآخر، والسابق للاحق، والمتقدم للمتأخر! وأنه قد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل، فالحرصَ الحرصَ على الجِدِّ والمثابرة، والإلْظَاظ والمواظبة، والاستكثار من المطالعة، والازدياد من القراءة، والتوسع والتوغل فيها بالمعروف، وأن من استكثر من شيء نُسب إليه، وأن عمارتها – إن صح التعبير – تكون نظرًا وفهمًا، وبذلًا وعطاء، ودلالة وإرشادًا، وتصحيحًا وتنقيحًا، وتحقيقًا وتأليفًا؛ فإن ذلك كله من عمارتها، وبذل الوسع والانهماك في طلبها وتحصيل ما فيها، والمبالغة في التدقيق، والتأنق في التحقيق، والتحري عند التوثيق، ولا سيما مع القدرة، والحذرَ الحذرَ أن نكون ممن يقتات السَّوف ويعيش بالأمانيِّ، والتحرُّز التحرز أن نقول ها هنا : نَظِرةٌ إلى ميسرة، فهو غير مقبول هنا وإن كان في غيره مقبولًا، فتذكر دومًا : كم ترك الأول للآخر! وقد نسبها ابن سيد الناس - كما في الدرر لابن حجر - لأبي الحجاج جمال الدين الحافظ يوسف بن الزكي المزي رحم الله الجميع؛ وقد قيل : لا زلت من شكري في حُلَّة لابسها ذو سلبٍ فاخرِ يقول من تقرع أسماعه كم ترك الأول للآخرِ هذا كله مع اعترافنا وتسليمنا إلى من تقدَّمَنا بالفضل في زمانهم؛ لمحاسن فِعالهم وأقوالهم، وفقههم وعلومهم المشهورة المسطورة، فالفضل للمتقدم، وليس الغنيُّ كالمعدم، وفوق كل ذي علم عليم، ومدِّعي الكمال من البشر مُليم. ولو قبل مَبكاها بكيتُ صبابةً إذًا لشفيت النفس قبل التندُّمِ ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ علمتني الكتب : أن لكل مجتهد نصيبًا، وله من حسن الذكر نصيبًا، ولا أقول : كل مجتهد مُصيب، فإن الأولى سليمة مقدمتها، صحيحة نتيجتها، أما الثانية المنسوبة إلى عبيدالله بن الحسن، فأولها سفسطة، وآخرها زندقة؛ كما كان يقول أبو إسحاق الإسفراييني، وهي كذلك تهدم الشريعة، وتعكس الحقيقة، فقولهم هذا خطأ ظاهر، تردُّه النصوص ردًّا بيِّنًا، وتدفعه دفعًا ظاهرًا، فلا يصح شرعًا، وهو ممتنع عقلًا؛ فالمصيب عند التحقيق له أجران، والمخطئ له أجر، وتذكَّر أن المرء غير معصوم، والنسيان في الإنسان غير معدوم. علمتني الكتب : أن قيمة كل امرئ ما يُحسن، فرضِيَ الله عن قائلها، وليس كلمة أحضَّ على طلب العلم منها كما قيل، وقد أحسن الخليل بن أحمد الفراهيدي حين قال في قصيدة له : لا يكون السَّرِيُّ مثل الدَّنِيِّ لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيِّ قيمة المرء كلُّ ما أحسن المر ء قضاء من الإمام عليِّ علمتني الكتب : وجوب الحرص على معرفة الحق والتعلق به، وبذل الجهد للإنصاف ولزومه، ومفارقة العوائد وطلب الأوابد؛ فإن الحق في مثل هذا الزمان مأخوذ بيد الإهمال، وعدم الاحتفال، ولا يكاد يعرفه إلا واحد بعد واحد، ومتى عظُم المطلوب قلَّ المساعد، على أن الحق - والحمد لله - كان وما زال وسيظل مصونًا عزيزًا، نفيسًا كريمًا، وهو لا يُنال قط مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوُّف والتشوق إلى سببه، ولو كان ذلك كذلك، ما كان على وجه الأرض مُبْطِلٌ ولا جاهل، ولا بطَّال ولا غافل. علمتني الكتب : أنه متى ما ظفرت بأحد يشجعك على جمعها وتحصيلها، والعكوف عليها ومطالعتها، والإقبال عليها وقراءتها، فشُدَّ عليه بكلتا يديك، وعَضَّ على صحبته بناجذَيك؛ فقلَّما تجد له نظيرًا أو مثيلًا؛ لأنك لن ترى - يا محب الكتب والمطالع فيها - حولك إلا مرغِّبًا عنها، ومزهِّدًا فيها، ذكرانًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبة، والله المستعان. علمتني الكتب : أن الفائدة الْمُقْتَنَصَة منها تختلف باختلاف الناس، وأهم ما فيها الْمُجْمَع عليه أو ما يقاربه، فاحرص عليه وابدأ به، فإن فيه خيرًا كثيرًا، وفضلًا وفيرًا. علمتني الكتب : أن فيها ما لا يوجد إلا فيها، والموفَّق من أقبل عليها قصدًا، وجعل له منها ذُخرًا، وولج فيها وخرج منها محمودًا . علمتني الكتب : أن منها رياضًا فَيْحَاءَ، وأخرى غنَّاء، وأرضًا مزهرة، وبساتينَ مثمرة، وبقاعًا فِساحًا، ودوحة رداحًا، وفَلاة جدباء، وصحارى قاحلة، والراعي الحذِق الفطِن يرعى بما يحسن، فيما يحسن، ويُسِيم ماشيته في المرعى الحسن؛ فإن للراعي على ماشيته إصبع. علمتني الكتب : أنها أنْفَسُ من كل نفيس، ولا يجهل قدرها إلا خسيس، ولا يزهد فيها ويرغب عنها إلا جاهل، أو من تلبَّس به إبليس. علمتني الكتب : أن لها نَهْمَةً من أدمنها قط لا يُشفَ منها، وحقًّا أقول : منهومان لا يشبعان : الأول : منهوم كُتُب، والثاني : منهوم كتب أيضًا، وتأمل تراجِم أهل العلم تجد عجبًا، وترى قصائص وأقاصيص وقصصًا، ولا ينبئك مثل خبير. علمتني الكتب : أنها كالوَجَبات، فمنها ما لا يمكن لك أن تستغنيَ عنه بحال، ومنها ما هو كالحلوى، وبين هذا وذاك صنوف طيبة وأصناف حسنة، كما أن فيها أيضًا الأزْبَر المؤذي، والوباء والسُّم الزُّعاف، وكلٌّ أدرى بما يُقيم صلبه، ويُقوِّي عوده، وينفعه في دينه ودنياه وآخرته، كما يعلم ما يضره ولا ينفعه، ومن جهل أو شكَّ أو تحيَّر؛ فعليه بقول المولى جل وعلا : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل : 43]. علمتني الكتب : أن العمر قصير، والوقت يسير، وإن لم تكن لبيبًا حريصًا، فاتك منها الكثير والكثير؛ فاحرص على ما ينفعك منها في العاجل والآجل، والحال والمآل، والحَلِّ والترحال. علمتني الكتب : أنها سلعة - عند الكثيرين وللأسف الشديد - كاسدة غير نافقة، وسوق بائرة غير تاجرة، العيون إليها فاترة، والهِمَم عنها راغبة، والتَّثْبِيط عنها كثير، والتعويق بينك وبينها كبير، والمرغِّبون فيها قليل، والمزهِّدون عنها كُثُر، من القرابة ومن دونهم، وما لم تكن صاحبَ إرادة وهمَّة، وعزيمة ونَهْمة، فتوشك أن تقع صيدًا لمخالبهم، وضحية لبراثنهم، وأسيرًا لفخاخهم؛ فتنبَّه. علمتني الكتب : أن من رُزِق لذة المطالعة فيها، ونهمة الإقبال عليها، فقد رُزِق خيرًا كثيرًا، علِمه من علمه، وجهِله من جهله. علمتني الكتب : أنه كما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، فكذلك لا يستوي أهل القراءة والعلم مع غيرهم. علمتني الكتب : أن في طياتها كنوزًا يعجز العاقل عن تصورها، والشاعر عن نظمها، والأديب عن نثرها، والحاسب عن عدِّها، والقانص عن صيدها؛ لكن الأمر كما قيل : ((سددوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا))، و((القصدَ القصد تبلغوا))، و((أحب الأعمال أدومها وإن قلَّ))، و"ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلُّه"، وتذكر : ولن يشادَّ أحدٌ الكتب إلا غلبته. علمتني الكتب : أنها خزائنُ حَوَتْ من الكنوز غُرَرًا، وجمعت من النفائس دُرَرًا، أبوابها مغلقة، والطرق إليها مُوصَدة، وعليها أقفال، ف البلوغ إليها متعذَّر، والتنقيب عنها متعسر، ومفاتحها متباينة متعددة، تنوء به العُصبة، ولا تتأتى لأي أحد، فمن كان - مع هذا كله - لها راغبًا، ومن وعورة الطريق راهبًا، فليتزوَّد بعشر متلازمات متماسكات، مطَّردات ثابتات، نافعات – ولا بد - بإذن رب الأرض والسماوات، أُنْبِيك عنها ببيان، من غير حُكْلَة ولا عُجمة، ولا تَمْتَمَةٍ ولا فأفأة؛ لتكون لك كزادٍ في مسيرك للبلوغ إليها، وعدة ومفتاحًا في قدومك للولوج عليها، فدونكها أخي القارئ؛ فإنها - بإذن الله - جامعة نافعة، سهلة مواتية، رافعة غير خافضة: أولاها : التقوى والإخلاص. وثانيها : الاستعانة والاستشارة. وثالثها : الضراعة والدعاء. ورابعها : الشكر والحمد. وخامسها : التأني والصبر. وسادسها : الهمة والنَّهمة، والإرادة والمداومة. وسابعها : الفَهم والإنصاف، وترك التعسف والإسفاف. وثامنها : حسن التنقل، والحرص على ما يسُدُّ الخَلَّة، ويرفع الحاجة. وتاسعها : العزوف عن الكِبْر والبَطَر، وملازمة التواضع والانكسار. وعاشرها : التخطيط والتوثيق، والبداءة بالأنفع ثم النافع، وبالأهم فالمهم، ثم ما يرفع الملالة ويدفع السآمة، وهكذا دواليك دواليك، وهَذَاذَيك هذاذيك، وحَنَانَيك حنانيك، مرةً بعد مرة، وكَرة بعد كرة، وعندها بعون من الله عز وجل وتوفيقه يَبين الصبح لذي عينين، وكما قيل: وغِبُّ - غب الأمر مغبته وعاقبته - الصباح يحمَد القومُ السُّرى. علمتني الكتب : أن روَّادها يتفاوتون بتفاوت الأخذ منها، ومن أراد أن يستمر ونفسه تنازعه وهو يخشى أن يحقِرَ ما أخذ منها، فلينظر من هو دونه، ولْيحمَدِ الله عز وجل، وليمضِ قُدُمًا. علمتني الكتب : أنه لا يمكن أن يُجعَلَ من له سهم فيها، كمن لا سهم له. علمتني الكتب : أنه قطُّ لا يخيب من أخذ منها بنصيب. علمتني الكتب : أن البدع عمَّت وطمَّت، وانتشرت وتفشَّت، وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها، فيا من سلمك الله منها، احفظ، وافهم، وكن من الشاكرين. علمتني الكتب : أن لكل زمان طلابًا للحق باحثين عنه، فبالأمس - أيام الفترة - ترى سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، قدوة الطالبين للحق، وأُسوة الباحثين عنه، بذلوا فوُفِّقوا، وحرَصوا ففازوا، ويا سبحان الله! كم أدرك الحق طلابه في تلك الفترة! وكم عمِيَ على الكثير اليوم بعد زمن النبوة! علمتني الكتب : أن طلاب الحق حاضرون في كل زمان ومكان - والحمد لله - آخذين له بقوة، ظاهرين به بعزَّة، يقِلُّون ويكْثُرون، يزيدون وينقصون، لكن لا تخلو الأرض من قائم لله عز وجل بحُجة قوية، يدعو الناس إلى الْمَحَجَّة السَّوِية. علمتني الكتب : أن منها - والله الذي لا إله إلا هو - ما يُستغنى به عن كثير من ملذات الحياة ومتاعها، فضلًا عن ترفها وبذخها. ولقد أحسن العلامة المقريزي أيما إحسان؛ حين قال في درر العقود الفريدة: وقد أعرضتْ نفسي عن اللهوِ جملةً وملَّتْ لقاء الناس حتى وإن جلُّوا وصار بحمد الله شغلي وشاغلي فوائد علمٍ لستُ من شغلها أخلو فطَورًا يَرَاعي كاتبٌ لفوائد بصحتها قد جاءنا العقل والنقلُ وآونة للعلم صدري جامعٌ فتزكو به نفسي وعن همِّها تسلو علمتني الكتب : أنها كالأسانيد علوًّا ونزولًا، فلا تكتفِ بما حُدِّثت عما فيها أو ما في بعضها، ولا ترضَ بذلك، وكن صاحبَ همة تعلو بها مع الكتاب خيرٌ لك من النزول مع السماع، ولا سيما أن فيه ما فيه. علمتني الكتب : أن ما فيها صيدًا ثمينًا، لا بد من تقييده، ولو لم تدعُ إليه الحاجة في وقته، فكم والله أغفلنا التقييد مرات وكرات، اعتمادًا على الذاكرة أحيانًا وعلى الكتب أخرى، وفقدنا بذلك الكثير من الخير الوفير، وكم سيكلفك ذلك وقتًا وجهدًا كبيرين كثيرين للبحث عنها مرة أخرى! فأنت بتقييدك لها تنجو من ذلك كله، بل منها - وهذا من عجيب ما وقع لي - ما بقِيَ كالخيال في ذاكرتي أدرك وَسْمَه، ولا أعلم رسمه على الحقيقة، ولم أهتدِ إليه مرة أخرى إلى الساعة هذه، فسبحان الله! وقد قيل : العلم صيد والكتابة قَيدُه قيِّد صيودك بالحبال الواثقةْ فمن الحماقة أن تصيد غزالة وتتركها بين الخلائق طالقةْ علمتني الكتب : أنه إياك ثم إياك أن تركَنَ إلى حفظك أو تغترَّ به، ومن عجيب ما قرأت - حتى لا نغتر بحفظنا ونركن إليه - ما كنت قرأته قديمًا في تهذيب التهذيب في ترجمة عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله قوله : "ما كتبت سوداءَ في بيضاءَ، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفِظته، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده عليَّ"، أقول : فتأمل سبحان الله! مع قوة هذا الحفظ الذي لم يتأتَّ للكثير من معاصريه ومن قبله ومن بعده في تلك الحقبة، فكيف بزماننا الذي لو اجتمع الحَفَظَةُ قاطبة ما بلغوا مُدَّه ولا نَصيفه - أقول : مع هذه القوة، إلا أنه قد فاته خير كثير في تركه للتقييد، ويكفي شهادته هو على نفسه بيانًا لذلك؛ حين قال : "ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل، لكان به عالمًا". علمتني الكتب : أن في الأنس معها والتعلق بها غُنية عن كل أحد، وليس في شيء قط من أمور الدنيا أيًّا كان غنية عنها؛ ولقد أحسن من قال : إذا اعتللتُ بكتب العلم تشفيني فيها نزاهة الحاظي وتزييني إذا اشتكيت إليها الهمَّ من حزنٍ مالت إليَّ تعزِّيني تسلِّيني حسبي الدفاترُ من دنيا قنَعت بها لا أبتغي بدلًا منها ومن ديني علمتني الكتب : أن لزومها وصحبتها تغني - والله الذي لا إله إلا هو - عن صحبة الكثير من الرجال، فكيف بالأنذال؟! لنا جلساء ما نَمَلُّ حديثهم ألبَّاء مأمونون غيبًا ومشهدا يفيدوننا من رأيهم علمَ مَن مضى وعقلًا وتأديبًا ورأيًا مُسدَّدا بلا مؤنة تُخشى ولا سوء عشرة ولا تتقي منهم لسانًا ولا يدا فإن قلت: هم موتى فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلستُ مُفنَّدا يفكر قلبي دائبًا في حديثهم كأن فؤادي ضافةُ سُمٍّ أسودا والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.