text
stringlengths
0
254k
نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة نكبة القدس سنة 626 هـ التاريخ في حقيقته مجال للاعتبار والعِظات؛ لتتعلم الأمة من تاريخها ما يعينها على بناء الحاضر، واستشراف المستقبل. وأخرج البخاري في (الأدب المفرد) عن هشام عن أبيه قال: "كنت جالسًا عند معاوية فحدَّث نفسه ثم انتبه، فقال: لا حليم إلا ذو تجربة"، وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة"؛ [أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، فتح الباري، ج: 17، ص: 32] . وبين الألم والأمل أنقُل النكبات التي أصابت الأمة الإسلامية على مدار التاريخ مع بعض بشائر العودة إلى طريق ربها؛ لتُمسك بزمام القيادة من جديد؛ ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]. الذي يبحث حال الأمة يجد أن فترات الضعف فيها أكثر من فترات القوة، فترات الضعف فيها تتسم الأمة باللجوء إلى الله، والسعي لوحدة الصف والاعتصام بحبل الله المتين، فيقيِّض الله لهذه الأمة قائدًا يصحح لها المسار؛ لتعود إلى رشدها، ويكون النصر حليفها وتقْوَى، وبعد فترة من وقت القوة والتمكين يتسرب الترف إلى القيادة والطغيان، والنزاع والفرقة، والولاء لغير الله؛ فتضعف الأمة، وتُسلب منها مقدراتها استلابًا، وهكذا. فسُنَّة الله غير قابلة للتبديل والتغيير؛ ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]؛ قال السعدي: "فلم يبقَ لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تُبدل ولا تُغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتُسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك"؛ [تيسير الكريم الرحمن، ج: 1، ص: 691] . ونعيش مع نكبة أصابت الأمة، وكيف خرجت منها، ومن هو القائد الذي صحح المسار وبداية حديثي بالملك الكامل الذي فرَّط في القدس لصديقه الملك الصليبي فردريك الثاني. الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، تملَّك الديار المصرية أربعين سنةً، وتُوفي سنة 635 ه، عقد الملك الكامل محمد صاحب مصر سنة (626 ه) هدنة لمدة عشر سنوات مع الإمبراطور الألماني فردريك الثاني؛ قائد الحملة الصليبية السادسة الهزيلة، سلَّم الملك القدس لفردريك، على أن يتعهد بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوروبا. ويصف ابن الأثير حال المسلمين: "وتسلُّم الفرنج البيتَ المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأَكْبَروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه، يسَّر الله فتحه بمنه وكرمه"؛ [الكامل في التاريخ، ج: 1، ص: 434]. وعاد الإمبراطور إلى بلاده بعد أن حقق ما لم تحققه أي حملة صليبية منذ الحملة الأولى. ثم فتح بيت المقدس الناصر داود بن عيسى637 هـ، بعد انتهاء الهدنة، وتولى حكم مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل سنة 637ه، وتوفي 647هـ/1249م مرابطًا بالمنصورة ضد الحملة الصليبية السابعة، بقيادة لويس التاسع، والتي انتصر فيها المسلمون، وكان أفضل ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين . قال الذهبي عنه : " كان عزيز النفس، عفيفًا، حييًّا، وقورًا، وكان يحب أهل الفضل والدين، والمماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم، كانوا أبلغ من يهاب السلطان، وإذا خرج يرعِدون منه"؛ [ سير أعلام النبلاء، ج: 23، ص: 187] . من أعمال نجم الدين أيوب: ♦ بناء المدارس بمصر لتخريج العلماء. ♦ استقبال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام بعدما أخرجه الصالح إسماعيل من دمشق، فأكرمه نجم الدين وولَّاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، وقلَّده قضاء مصر والوجه القبلي. ♦ إبطاله حانات الخمور، وذلك حين خرج على قومه في أبهى زينته ، التفت الشيخ عز بن عبدالسلام إليه، وناداه بصوت مرتفع: "يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملكَ مصر ثم تبيح الخمور؟"، فأمر بإغلاقحانات الخمور، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز ولا يخالفه. ♦ مصر معمورة بالعلماء في حكم نجم الدين أيوب : " سنة 641 ه، قال شمس الدين ابن الجوزي: ودخلتُ تلك الأيام إلى الإسكندرية، فوجدتها كما قال الله تعالى: ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50] معمورة بالعلماء والأولياء؛ كالشيخ محمد القباري، والشاطبي، وابن أبي الشامة، ووعظت بها مرتين"؛ [تاريخ الإسلام للذهبي، ج: 14، ص: 345] . قتال ملوك بني أيوب: ودبَّ النزاع والفرقة للأسف من جديد بين بني أيوب، واستعان بعضهم على بعض بالصليبيين؛ يقول المقريزي: "في سنة 641ه بعث الصالح إسماعيل بن أبي بكر سلطان دمشق وابن أخيه الناصر داود بن عيسى سلطان بيت المقدس، ووافقا الفرنج على أنهم يكونون عونًا لهم على ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب سلطان مصر، ووعداهم أن يسلما إليهم القدس، وسلماهم طبرية وعسقلان أيضًا، وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس، وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى. واستعان نجم الدين بالخوارزمية من بلاد الشرق لمحاربة أهل الشام. نجم الدين أيوب ملك مصر يحرر القدس صفر 642هـ: قطع الخوارزمية الفرات وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فساروا إلى غوطة دمشق، وهم يقتلون ويسبون، وتحصن الصالح إسماعيل بدمشق، وضم عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلت غزة وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف فيمن كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء، وساروا إلى غزة فنزلوها"؛ [ السلوك لمعرفة دول الملوك، ج: 1، ص: 418] . معركة غزة: "نزل الخوارزمية على غزة، وأرسل إليهم الصالح أيوب الأموال والعساكر بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، فاتفق الصالح إسماعيل، والناصر داود، والمنصور صاحب حمص مع الفرنج، واقتتلوا مع الخوارزمية وعساكر مصر قتالًا شديدًا، فهُزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤوس أطلاب المسلمين، وقُتل من الفرنج زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعةً من ملوكهم، وخلقًا من أمراء المسلمين. وقد قال بعض أمراء المسلمين: قد علمتُ أنَّا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنَّا لا نفلح"؛ [ البداية والنهاية، ج: 13، ص: 192] . ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين في صفر 642 هـ/ يوليو 1244م، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م). تزييف تاريخ الإسلام: تاريخ الأمة هو روحها النابض ومنطلقها للنهضة، وأعداؤنا هدفهم تصوير تاريخنا جملة من الخلافات والصراعات، وإظهار نقاط الضعف لتنطفئ روح الكفاح، نعم، صراعات وقتال على سلطان الحكم بما فيه من ولاء البعض لغير الله، لكن العاقبة في النهاية للحق وأهله، وهذه التفاعلات سنة من سنن الله تعالى، وإنما هو تاريخ أمة حين تفرط في أمر ربها، تُدَنَّس مقدساتها، وتتخلف عن زمام القيادة وركب الحضارة.
نصوص أوروبية عن فتح الأندلس شهِد عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86-96هـ/705-715م) حركة فتوح واسعة النطاق اتَّسعت معها رقعة الدولة العربية الإسلامية اتساعًا عظيمًا، ففُتحت بلاد ما وراء النهر وبلاد السند شرقًا، وغربًا استُكمِل فتح بلاد المغرب، وفُتحت بلاد الأندلس التي كان فتحها من "أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملة الحنيفية" على حد قول المقري نقلًا عن ابن حيان نقلًا عن الرازي. وقد ورد ذكر أخبار هذا الفتح في عدد كبير من المصادر التي وصلتنا، سواء العربية - بطبيعة الحال - أو الأوروبية، وهذه الأخيرة هي التي سنخصِّص لها هذا البحث، والذي سنقوم فيه وَفق تسلسل زمني باستعراض تسعة نصوص من مصادر أوروبية مختلفة بلغتها الأصلية تتحدث عن الفتح الإسلامي للأندلس، ثم نرفق كل نص بتعليق يتضمن مصدره وتاريخه ولغة تدوينه، وشرحًا موجزًا له. وقبل الشروع في استعراض النصوص، نختم هذه المقدمة باقتباس من كتاب "أطلس تاريخ الإسلام" للدكتور حسين مؤنس يعلق فيه على فتح الأندلس بقوله: "يعتبر فتح الأندلس تاجًا لفتوح المسلمين في الغرب، فبالإضافة إلى أنه كان فتحًا رائعًا من الناحية العسكرية، فإنه أضاف إلى دولة الإسلام قطرًا ضخمًا من أقطار أوروبا، فامتد الإسلام به على ثلاث قارات، وبهذا الفتح نجح العرب في دخول أوروبا من الغرب في حين فشلوا في دخولها - بمحاولة فتح القسطنطينية - من الشرق، ثم أُتيحت لهم الفرصة بعد ذلك للتوغل في غرب أوروبا وقلبها المسيحي حتى قرب نهر السين، ومن ذلك الحين أصبح الإسلام عاملًا رئيسيًّا من العوامل الموجهة لتاريخ الغرب الأوروبي". النص الأول: Sarracenorum Hulit sceptra regni, secundum quod exposuerat pater eius, succedit in regnum. Regnat annis VIIII., uir totius prudentiae in exponendis exercitibus, tantum cum diuino expers fauore, ut paene omnium gentium sibimet proximarum uirtutem confregerit. Romaniamque inter omnia assidua uastatione debilem facit. Insulas quoque prope ad consummationem adduxit. Indiae fines uastando perdomuit. In occiduis quoque partibus regnum Gothorum antiqua soliditate firma tum apud Spanias per ducem sui exercitus nomine Musae adgressus edomuit et regno abiecto uectigales fecit. جاء هذا النص في "المدونة البيزنطية - العربية" ( Chronica Byzantia-Arabica )، ويعود تاريخها للعام 743 أو 744م، وكتبت باللغة اللاتينية، ويتحدث النص عن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ( Hulit ) وبعض الأمور التي قام بها في خلافته، ومنها فتح إسبانيا والقضاء على مملكة القوط على يد قائده موسى بن نصير ( Musae ). النص الثاني: Huius temporibus in era DCCXLVIIII anno imperii eius quarto, Arabum LXLII, Ulit sceptra regni quinto per anno retinente, Rudericus tumultuose regnum ortante senatu inuadit. Regnat anno uno. Nam adgregata copia exercitus aduersus Arabas una cum Mauros a Muze missos, id est, Taric Abuzara et ceteros, diu sibi prouinciam creditam incursantibus simulque et plerasque ciuitates deuastantibus, anno imperii Iustiniani quinto, Arabum nonagesimo tertio, Ulit sexto, in era DCCL Transductinis promonturiis sese cum eis confligendo recepit eoque prelio fugatum omnem Gothorum exercitum, qui cum eo emulanter fraudulenterque ob ambitionem regni aduenerant, cecidit. Sicque regnum simulque cum patriam male cum emulorum internicione amisit, peragente Ulit anno sexto. ... Huius temporibus in era DCCXLIIII, anno imperii eius quarto, Arabum XLII, Ulit quinto, dum supra nominatos missos Spania uastaretur et nimium non solum hostili, uerum etiam intestino furore confligeretur, Muze et ipse, ut miserrimam adiens per Gaditanum. جاء هذا النص في "المدونة المستعربية" ( Chronica Muzarabica )، ويعود تاريخها للعام 754م، وكتبت باللغة اللاتينية، ويذكر النص أنه في خلافة الوليد بن عبد الملك ( Ulit ) قام رودريق ( Rudericus ) بالاستلاء على عرش إسبانيا، وحارب العرب والبربر الذين أرسلهم موسى بن نصير ( Muze ) مع طارق بن زياد ( Taric Abuzara ) والآخرين، ولكنه انهزم وضاعت المملكة والبلاد، وبعدها بفترة عبر موسى بن نصير بنفسه المضيق إلى إسبانيا، ويلاحظ القارئ أن هناك خلطًا بين طارق بن زياد وبين أبو زرعة طريف بن مالك صاحب الحملة الاستطلاعية إلى الأندلس، وهذا أمر يتكرر في عدد من المصادر الأوروبية. النص الثالث: 10. Tunc Sarracinorum gens infidelis et Deo inimica ex Aegypto in Africam cum nimia multitudine pergens, obsessam Cartaginem cepit captamque crudeliter depopulata est et ad solum usque prostravit. 46. Eo tempore gens Sarracenorum in loco qui Septem (Septa) dicitur ex Africa transfretantes, universam Hispaniam invaserunt. Deinde post decem annos cum uxoribus et parvulis venientes, Aquitaniam Galliae provinciam quasi habitaturi ingressi sunt. Carolus siquidem cum Eudone Aquitaniae principe tunc discordiam habebat. Qui tamen in unum se coniungentes, contra eosdem Sarracenos pari consilio dimicarunt. Nam inruentes Franci super eos, trecenta septuaginta quinque milia Sarracenorum interimerunt; ex Francorum vero parte mille et quingenti tantum ibi ceciderunt. Eudo quoque cum suis super eorum castra inruens, pari modo multos interficiens, omnia devastavit. جاء هذا النص في الكتاب السادس من "تاريخ اللومبارد" ( Historia Langobardorum ) لبولس الشماس ( Paulus Diaconus )، ويعود تاريخه إلى أواخر القرن الثامن الميلادي، وكتب باللغة اللاتينية، ويتناول الفصل العاشر خبر قيام المسلمين القادمين من مصر بغزو إفريقية واستيلائهم على قرطاج، أما الفصل السادس والأربعين، فيذكر خبر قيام المسلمين الذين عبروا من سبتة بإفريقية بغزو إسبانيا، كما يتطرق للحديث عن معركة بلاط الشهداء. النص الرابع: His temporibus in Spania super Gotos regnabat Witiza, qui regnavit annis VIII et menses III. Iste deditus in faeminis, exemplo suo sacerdotes ac populum luxuriosae vivere docuit, irritans furorem Domini. Sarraceni tunc in Spania ingrediunt. Goti super se Rudericum regem constituunt. Rudericus rex, cum exercitu magno Gotorum, Sarracenis obviam venit in prelio, sed inito prelio, Goti debellati sunt a Sarracenis. Sicque regnum Gotorum in Spania finitur et infra duos annos Sarraceni paene totam Spaniam subiciunt. جاء هذا النص في "مدونة مواسياك" ( Chronicon Moissiacense )، ويعود تاريخها للعام 818م، وكتبت باللغة اللاتينية، ويذكر النص أنه عندما كان يحكم إسبانيا ملك القوط غيطشة ( Witiza ) - الذي كان متفانيًا في حب النساء، واقتدى به الكهنة والشعب في عيش حياة الترف، حتى أثار غضب الرب - دخل المسلمون إسبانيا، وجعل القوط رودريق ( Rudericus ) ملكًا عليهم، فواجه المسلمين بجيش كبير، وانهزم أمامهم وسقطت مملكة القوط، وفي غضون عامين أخضع المسلمون كامل إسبانيا تقريبًا. النص الخامس: Ruderico regnante gotis Spanie anno regni sui tertio ingressi sunt sarraceni in Spania die III idus nouembris era DCCLII. Regnante in Africa Ulid, amir almuminin filio de Abdelmelic anno arabuon centesimo. era et anno quo supra ingressus est Abuzubra sub Muza ducem in Africa comanente et maurorum patrias defecante. Alio anno ingressus est Taric. Tertio anno prelio jam eodem Taric agente cum Ruderico ingressus est Muza iben Nuzeir, et periit regnum gotorum. De rege quidem Ruderico nulla causa interitus ejus cognita manet usque in odiernum diem. Arabes tamen regionem simul cum regno possessam. Omnis decor gotice gentis pabore uel ferro periit. Quia non fuit in illis pro suis delictis digna penitentia. Et quia derelinquerunt precepta Domini et sacrorum canonum instituia. Dereliquid illos Dominus ne possiderent desiderauilem terram. Et qui semper dextera Domini adjuti hostiles impetus deuincebant tellasque bellorum prostrabant judicio Dei a paucis superati pene ad nicilum sunt redacti, ex quibus multi ucusque dinoscuntur manere humiliati. Urbs quoque Toletana cunctarumque gentium uictrix ismaeliticis triumfis uicta subcumbuit eisque subjecte deseruit. Sicque peccatis concruentibus Ispania ruit. Anno gotorum CCCLXXX. جاء هذا النص في "المدونة المتنبئة" ( Chronica Prophetica )، ويعود تاريخها للعام 883م، وكُتبت باللغة اللاتينية، ويذكر النص أنه عندما كان رودريق ( Ruderico ) يحكم إسبانيا وكان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ( Ulid, amir almuminin filio de Abdelmelic ) يحكم إفريقية، دخل أبو زرعة طريف بن مالك ( Abuzubra ) الذي كان تحت قيادة موسى بن نصير ( Muza iben Nuzeir ) إسبانيا، وفي العام التالي دخل طارق بن زياد ( Taric )، وبعد ثلاث سنوات من المعركة التي خاضها طارق ضد رودريق، دخل موسى بن نصير وهلكت مملكة القوط بسبب خطاياهم وتخليهم عن وصايا الرب، بينما لم يعرف سبب وفاة رودريق، وسيطر العرب على البلاد والمملكة، واستسلمت طليطلة للإسماعيليين المنتصرين. النص السادس: Sicut jam supra retulimus, Ruderico regnante, Gothis in Spania, per filios Vitizani Regis oritur Gothis rixarum discessio: ita ut una pars eorum Regnum dirutum videre desiderarent: quorum etiam favore atque farmalio Sarraceni Spaniam sunt ingressi anno Regni Ruderici tertio, die III. Idus Novembris, Era DCCLII, Regnante in Africa Ulit Amiralmuinin filio de Abdelmelic, anno Arabum C. Ingressus est primum Abzuhura in Spania sub Muza Duce in Africa conmanente et Maurorum patrias defecante. Alio anno ingressus est Tarik. Tertio anno jam eodem Taric praelio agente cum Ruderico, ingressus est Muza Iben Muzeir, et periit Regnum Gothorum, et tunc omnis decor Gothicae gentis pavore vel ferro periit. De Rege quoque eodem Ruderico nulli causa interitus ejus cognita manet usque in presentem diem. جاء هذا النص في "مدونة البلدة" ( Chronicon Albeldense )، ويعود تاريخها للعام 883م، وكُتبت باللغة اللاتينية، و يذكر النص أنه عندما كان رودريق ( Ruderico ) يحكم إسبانيا وقع الانقسام بين القوط بسبب أبناء الملك غيطشة ( Vitizani ) الذين أرادوا تدمير المملكة بمساعدة المسلمين الذين دخلوا إسبانيا عندما كان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ( Ulit Amiralmuinin filio de Abdelmelic ) يحكم إفريقية، وفي الأول دخل إسبانيا أبو زرعة طريف بن مالك ( Abzuhura ) الذي كان تحت قيادة موسى بن نصير (Muza Iben Muzeir)، وفي العام التالي دخل طارق بن زياد ( Taric )، وبعد ثلاث سنوات من المعركة التي خاضها طارق ضد رودريق، دخل موسى بن نصير وسقطت مملكة القوط، ولم يُعرف سبب وفاة رودريق. النص السابع: Postquam Vitiza fuit defunctus, Rudericus in regno est perunctus, cuius tempore adhuc in peiori nequitia creuit Spania. Anno regni illius tertio, ob causam fraudis filiorum Vittizanis, Sarraceni ingressi sunt Spaniam. Quumque rex ingressum eorum cognouisset, statim cum exercitu egressus est eis ad bellum; sed suorum peccatorum clade oppressi, et filiorum Vittizanis fraude detecti, Gotti in fugam sunt uersi, quo exercitus fugatus usque ad internicionem pene est deletus; et quia dereliquerunt Dominum ne seruirent ei in iustitia et ueritate, derelicti sunt a Domino ne habitarent terram desiderabilem. De Ruderico vero rege, cuius iam mentionem fecimus, non certam cognouimus causam interitus eius. Rudis namque nostris temporibus, quum ciuitas Viseo et suburbium eius iussunostro esset populatum, in quadam ibi baselica monumentum inuentum est, ubi desuper epitaphium huiusmodi est conscriptum: Hic requiescit Rudericus ultimus rex Gotorum. جاء هذا النص في "مدونة ألفونسو الثالث" ( Crónica de Alfonso III )، ويعود تاريخها لأيام ملك أستورياس ألفونسو الثالث (866-910م)، وكتبت باللغة اللاتينية، ويذكر النص أنه بعد وفاة ملك القوط غيطشة ( Vitiza ) انتخب رودريق ( Rudericus ) ملكًا، وبسبب خيانة أبناء غيطشة غزا المسلمون إسبانيا، فقاد رودريق جيشًا لمواجهتهم، فانهزم وأبيد الجيش تقريبًا، وكان ذلك بسبب خطايا القوط وتخليهم عن وصايا الرب؛ إضافةً لخيانة أبناء الملك السابق، أما عن رودريق فلم يعرف شيء مؤكد عن موته، ولكن تم العثور في كنيسة بمدينة فيزيو - الواقعة شمال البرتغال حاليًّا - على شاهد قبر مكتوب عليه: "هنا يرقد رودريق آخر ملوك القوط". النص الثامن: τέθνηκεν Ἀβιμέλεχ, ὁ τῶν Ἀράβων ἀρχηγός, καὶ ἐκράτησεν Οὐαλίδ, ὁ υἱὸς αὐτοῦ, ἔτη ἐννέα. Τῷ δʹ αὐτῷ ἔτει πάλιν ὑπέστρεψεν Ἰουστινιανὸς εἰς τὴν βασιλείαν, καὶ ῥᾳθύμως καὶ ἀμελῶς ταύτην διακυβερνῶν, τῆς Ἀφρικῆς ἐπεκράτησαν ὁλοσχερῶς οἱ Ἀγαρηνοί. Τότε ὁ τοῦ Μαυίου ἔγγονος μετὰ ὀλιγοστοῦ τινος λαοῦ διεπέρασεν ἐν Ἱσπανίᾳ, καὶ ἐπισυνάξας πάντας τοὺς ἐκ τοῦ γένους αὐτοῦ, ἐκράτησεν τὴν Ἱσπανίαν μέχρι τῆς σήμερον, ὅθεν οἱ τὴν Ἱσπανίαν κατοικοῦντες Ἀγαρηνοὶ Μαυιᾶται κατονομάζονται. جاء هذا النص في كتاب "إدارة الإمبراطورية" ( De Administrando Imperio ) للإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع بورفيروجنيتوس ( Κωνσταντίνος Ζ΄ Πορφυρογέννητος )، ويعود تاريخه للعام 952م، وكتب باللغة اليونانية، ويذكر النص أنه بعد وفاة زعيم العرب عبد الملك بن مروان ( Ἀβιμέλεχ )، خلفه ابنه الوليد ( Οὐαλίδ ) الذي حكم تسع سنوات، وبسبب تراخي الحكومة البيزنطية وإهمالها، سيطر الهاجريون على كامل إفريقية وملكوها، ثم عبر حفيد معاوية ( Μαυίου ) مع عدد قليل من الرجال إلى إسبانيا، وبعد أن جمع كل قبيلته معًا سيطر عليها حتى هذا اليوم، ولذلك يسمى الهاجريون المقيمون في إسبانيا بالمعاويين. النص التاسع: Igitur era DCCXLVII, Hulit fortissimus rex barbarorum totius Africe, ducatu Iuliani comitis filiorumque Vitize, Taric strabonem, unum ex ducibus exercitus sui cum XXV. millibus pugnatorum peditum ad Yspanias premisit, ut cognita Iuliani dubia fide, bellum cum Yspano rege inciperet. ... At Rodericus dum hostis auditur advenisse, collecto Gotorum robustissimo exercitu, acer et imperterritus primo subiit pugne; adeo quod per septem continuos dies infatigabiliter dimicans, XVI millia ex Taric peditibus interfecere. ... Muza exercitus Africani regis princeps, cum infinita multitudine equitum, peditumque ad Yspaniam dirigitur. Dein renovato bello, turmas unas post alias, ad prelium barbarus augere cepit. Porro Yspanus rex more solito, prelio intentus, cepit acrius instare, ac propensus in hostes ferire. Cum tandem instantibus barbaris, Yspani milites deficere ceperunt, atque pre longitudine belli fatigati, quisque hosti locum dare. Rodericus, post ubi nulla sibi auxilia videt, per aliquot dies paulatim terga prebens, pugnando occubuit. جاء هذا النص في كتاب "التاريخ الصامت" ( Historia Silense )، ويعود تاريخه للفترة ما بين عامي 1109 و1118م، وكتب باللغة اللاتينية، ويتحدث النص عن قيام الوليد بن عبد الملك ( Hulit ) "أقوى ملوك البرابرة بجميع إفريقية"، بتسيير جيش من المشاة إلى إسبانيا تحت إرشاد يوليان ( Iuliani ) وأبناء غيطشة ( Vitize ) يقوده طارق بن زياد ( Taric ) الذي بعد أن اطمأنَّ إلى يوليان بدأ الحرب ضد الملك الإسباني رودريق ( Rodericus )، فقام هذا الأخير بتجميع جيش قوي وخاض معركة ضد طارق استمرت سبعة أيام، قُتل فيها ستة عشرة ألف من جيش طارق، ثم بعد ذلك عبر موسى بن نصير ( Muza ) أمير جيش الملك الإفريقي مع عدد كبير من الفرسان والمشاة، وتجددت المعركة، وانهزم القوط بعد أن أنهكهم التعب، بينما تراجع رودريق لعدة أيام قبل أن يخرَّ صريعًا في المعركة. هكذا نكون قد انتهينا من عرض هذه النصوص والتعليق عليها، وفي الختام أود الرد على منشور انتشر منذ مدة على منصة فيسبوك يزعم كاتبه أن "طارق بن زياد هو ابن أمير المؤمنين ملك المغرب، وأنه ربما يكون بذلك وليًّا للعهد، ولا يتبع الأمويين أو موسى بن نصير"، والحقيقة أن المنشور كله عبارة عن جملة من الأخطاء والمغالطات، إلا أنه وللأسف تناقلته عدد من الحسابات على المنصة دون حتى التأكد من صحته. ويستند هذا الادعاء الزائف إلى ورقة من مخطوط يعود تاريخه إلى القرن 14م بعنوان "مجموعة من سجلات ملوك العهد القديم والأمم والقناصل والأباطرة الرومان والملوك القوطيين وممالك قشتالة وأراغون ونابارا والبرتغال" ( Compendio de crónicas de reyes del Antiguo Testamento, gentiles, cónsules y emperadores romanos, reyes godos y de los reinos de Castilla, Aragón, Navarra y Portugal )، ويتحدث النص المكتوب في هذه الورقة عن فتح الأندلس، ويشير إلى طارق بن زياد بأنه "ابن أمير المؤمنين ملك المغرب"، دون أن يذكر اسم هذا الملك صراحة، وربما توهم المؤلف فظن أن لقب أمير المؤمنين هو اسمه، ومهما يكن، فإنه لا أحد في تلك الفترة ينطبق عليه هذا الوصف سوى الخليفة الوليد بن عبد الملك. والحقيقة أن الأمر كله لا يتعدى سوى خطأ وقع فيه المؤلف أو الناسخ، فبنى عليه صاحب ذلك المنشور قصته السخيفة، وضرب بما أجمعت عليه المصادر التاريخية عرض الحائط، وحتى يتبين للقارئ مدى سخف هذا الادعاء، أشير هنا إلى خطأ مشابه في "مدونة المسلم الرازي" ( Crónica del Moro Rasis )، ولكن هذه المرة يجعل الكاتب من طارق ابنًا لنصير ( Tarife/Taric el fijo de Nazayr )، وللإشارة فهذه المدونة هي ترجمة إسبانية عن نسخة برتغالية لقطعة من كتاب "أخبار ملوك الأندلس" للمؤرخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي (ت 344هـ). وفي الأخير هناك مسألة أخرى أيضًا لا بأس من أن أشير إليها، وهي أننا نجد في بعض التواريخ الأوروبية إضفاء لقب "ملك" على بعض الولاة المسلمين، ونضرب مثالًا على ذلك بـ "مدونة مواسياك" التي تذكر أخبار فتوح ولاة الأمويين على الأندلس بجنوب فرنسا، ويظهر فيها هؤلاء الولاة متصفين بهذا اللقب، حيث تصف المدونة كلًّا من السمح بن مالك الخولاني ( Sema ) وعنبسة بن سحيم الكلبي ( Ambisa ) وعقبة بن الحجاج السلولي ( Ocupa ) بـ "ملك المسلمين" ( Rex Sarracenorum )، وتصف عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ( Abderaman ) بـ "ملك إسبانيا" ( Rex Spanie ). ♦♦ ♦♦   ♦♦ ♦♦ ثبت المصادر والمراجع: Joannes Gil, Corpus Scriptorum Muzarabicorum, Vol. 1, Madrid, 1973 Paulus Diaconus, Historia Langobardorum, ed. Ludwig Bethmann and Georg Waitz, Hannover, 1878 David Claszen and J. M. J. G. Kats, Chronicon Moissiacense Maius: A Carolingian World Chronicle from Creation Until the First Years of Louis the Pious, Vol. 2, MPhil Thesis, Leiden University, 2012 Manuel Gómez-Moreno, Las primeras crónicas de la Reconquista: el ciclo de Alfonso III, Boletín de la Real Academia de la Historia, Tomo 100, 1932 Enrique Flórez, España Sagrada: Theatro geográfico-histórico de la Iglesia de España, Tomo 13, Segunda edicion repetida, Madrid, 1816 Crónica de Alfonso III, ed. Zacarías García Villada, Madrid, 1918 Constantine Porphyrogenitus, De Administrando Imperio, ed. Gy. Moravcsik, trans. R. J. H. Jenkins, Washington, D.C., Dumbarton Oaks, 1967 Historia Silense, ed. Francisco Santos Coco, Madrid, 1921 Pascual de Gayangos, Memoria sobre la autenticidad de la crónica denominada del moro Rasis, Madrid, Real Academia de la Historia, 1850 ♦♦ ♦♦   ♦♦ ♦♦ صورة: النص الخامس في ورقة من مخطوط بالكتابة القوطية الغربية يعود تاريخه إلى نهاية القرن العاشر أو بداية القرن الحادي العشر للميلاد. El Códice de Roda, Madrid, Real Academia de la Historia, Cód. 78
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العولمة - الالتفات) بدا في الوقفة السابقة أن أوليفييه روا مشروع مستشرق، وأنه ينبغي العناية به؛ رغبةً في الإسهام في تصحيح الصورة عن الإسلام والمسلمين؛ ذلك أن هذا المستشرق المنتظر يتسم بالسعة في الاطلاع، وإن كانت معظم معلوماته في كتابه هذا "عولمة الإسلام" معلومات إعلامية طغى عليها البعد السياسي مع التركيز القوي على ضواحي باريس، ومن يسكنها من مسلمين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية، وتكثر بينهم المشكلات، وكأنهم - على حد عرضه - يعيشون على هامش المجتمع الباريسي [1] . على أي حال، فلا بد من التعاطي مع جميع المستشرقين والإعلاميين الذين يتناولون قضايا المنطقة من بعد، بناءً على عدد من الانطباعات المستقاة من قراءات أترابهم، دون أن تطأ أقدامهم بالضرورة الأرض التي يتحدثون عنها والناس الذين هم مناط الحديث،وهذا ديدن أولئك الذين كثرت كتاباتهم أخيرًا عن المنطقة خاصة، وعن العالم الإسلامي عامة،وقليل منهم من يعايش موقعًا من المواقع التي يتحدث عنها، وإذا عايش موقعًا خرج منه بانطباعات بنى عليها أحكامًا تعميمية لا تصدُقُ بالضرورة على جميع المجتمعات، وخلط فيه بين السلوكيات الاجتماعية المتوارثة والممارسات الدينية التي تعود إلى أصل شرعي. مهما يكن من أمرٍ، فإن الإسراع في تبني هذه الفئة والإقبال عليها بالدعوة لها لمعايشة الواقع والالتقاء بالعلماء والمفكرين قمِينٌ بأن يعطي صورة أكثر وضوحًا، كما أنه حري بأن يقطع الطريق على أولئك الذين يتسارعون في الإفادة من هذه الفئة في ترسيخ العداوة للإسلام والمسلمين، كما عملوا مع المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية والإقامة الدكتور/ برنارد لويس، الذي أعلن صراحة صهيونيته ويهوديته حالما حط الرحال في جامعه برنستون في ولاية نيوجرسي في الشرق الأمريكي. مما يؤخذ على المنتديات والمؤسسات الفكرية العربية والإسلامية محدودية الالتفاف على هذه الفئة والتأخر في ذلك. ومما يذكر هنا أن المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) في المملكة العربية السعودية قد تنبه لهذه الفئة، فاستدعى عددًا ممن كانت لهم إسهامات فكرية سلبية ضد الإسلام والمسلمين من المستشرقين والإعلاميين الغربيين، فكان أن دعا فرد هاليداي والسموءل هنتجنتون وفوكوياما وغيرهم، كما فعل قبل ذلك الملتقى الفكري الإسلامي الذي كان يعقد في الجزائر سنويًّا؛ إذ كان يدعو رهطًا من المستشرقين يحاورهم علماء المسلمين ويحاورونهم، مما نتج عنه تفاعل علمي وفكري أسهم في تقديم صورة معتدلة عن هذا الدين القويم. وعليه، فإن الحماس لأوليفييه روا لا يأتي من منطلق أنه مشروع مستشرق منصف فحسب، بل لأن مثل هؤلاء يستقطبون، وإلا فكتابُه فيه مغالطات صريحة وواضحة يمكن الوقوف عليها بسهولة، وكذلك نزوعه إلى المعلومة الإعلامية السريعة - كما مر ذكره. وقد أسهمت المترجمة لارا معلوف في شيء من الغموض في ذكرها للمصطلحات والشخصيات الإسلامية، فبالرغم من أن جهدها في الترجمة جهدٌ رائعٌ في مدة محدودة؛ إذ صدر الكتاب سنة 2002م/ 1422هـ بالفرنسية وانتهت من ترجمته ونشره سنة 1423هـ/ 2003م، إلا أنها لم توفق في معرفة المصطلحات الشرعية، مثل فرض العين وفرض الكفاية؛ إذ تعبر عن ذلك بأنه فرض فردي أو واجب جماعي، وجامع مكة، والمراد الحرم المكي الشريف، ودار الأرقام؛ أي: دار الأرقم بن أبي الأرقم، وجزر المولوك؛ أي: جزر الملوك، والشنكيتي؛ أي: الشنقيطي، والبراق؛ أي: البراك، وكون نصر الدين الألباني سعوديًّا دون التعليق في الهامش، والعقلة؛ أي: العقلا، وهذه كلها أسماء معروفة. كان يمكن أن يتأكد منها بالسؤال لأهل الذكر، ومع هذه الملحوظة المنهجية تظل الترجمة سلسة أسلوبًا، صحيحة لغة، أعانت على الاسترسال في القراءة،ولا يتسع المجال لمزيد من الوقوف على أفكار الكتاب بما فيه العنوان، "عولمة الإسلام"؛ إذ إن لتلك وقفاتٍ تطول، بما في ذلك الاسترسال في الحديث عن العولمة وارتباطاتها الثقافية والاقتصادية التي لم تركز عليها هذه الوقفات، على اعتبار أنها محدد قوي من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، وإنما جاء ذلك عرضًا في ثنايا الحديث عن المحددات كلها، ومما حفلت به المكتبة العربية من إنتاج عربي أصيل أو مترجم. [1] انظر: أوليفييه روا ، عولمة الإسلام - مرجع سابق - ص 222.
حصار النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشِّعب لَمَّا فشا الإسلام في مكة، وانضم إليه فتيان من قريش عُرفوا بالشدة والجرأة أمثال حمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، وأن محاولتهم مع النجاشي في إعادة المسلمين من الحبشة قد باءت بالفشل، وأن المهاجرين قد وجدوا دارًا اطمأنوا بها على دينهم وحرية عبادتهم - تواطأت قريش فيما بينها على تشديد النكال بالمسلمين، فقرروا عزل المسلمين في مكة ومقاطعتهم اقتصاديًّا وتجويعهم ووضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الموت جوعًا وإما الرِّدة وترك الدِّين، فكان من أهم بنود الاتفاق: • ألا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب، ولا ينكحوا إليهم. • ألا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا. ولكي يوثقوا ما تعاهدوا عليه كتبوا الاتفاقية في صحيفة وأودعوها جوف الكعبة، وأخذوا على أنفسهم جميعًا الالتزام بنص الاتفاق وعدم خرقه مهما وصل إليه الأمر من شدة، ولما علم بذلك بنو هاشم وبنو المطلب انحاز الجميع إلى أبي طالب تضامنًا وتحديًا لعتاة قريش، إلا أبا لهب، فإنه أبى الانحياز إلى عشيرته، ووافق طغاةَ قريش على موقفهم. وانتقل المسلمون ومَن والاهم إلى شِعب لأبي طالب، وهناك صمدوا على ضنك العيش وشدته، إلا ما كان يأتيهم خفية تحت جنح الليل من طعام، فقد ورد أن هشام بن عمرو بن الحارث كان يأتي بالبعير وقد حمَّله طعامًا إلى أول الشعب فينزع خطامه ثم يضربه على مؤخرته ليتجه إلى داخل الشعب فيأخذه المحاصرون ويوزعونه فيما بينهم، ثم يوقر جملًا آخر بالقمح ويفعل كما فعل سابقًا، ومع ذلك تبقى المعاناة وتشتد وطأة الحصار وصعوبة تحمله، واستمرت الحالة قرابة السنتين وقد تضوروا جوعًا حتى اضطر كثير منهم إلى أكل ورق الشجر والعشب ليسدوا جوعتهم، وهنا رأى عدد من أصحاب المروءة أن هذه المقاطعة جائرة، وكان منهم هشام بن عمرو، فقد كلم صديقه زهير بن أبي أمية في هذا الشأن، فاستجاب له، ثم سعى إلى ضم آخرين لهم وزنهم وجرأتهم، أمثال: المطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فاتفق هؤلاء على الاجتماع سرًّا في الليل ونسقوا فيما بينهم لكي يخرجوا بموقف موحد، وفي الصباح قام زهير بن أمية وطاف بالبيت سبعًا ثم وقف وقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: والله لا تشق. قال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. قال هشام بن عمرو مثل ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليل، فقد أحس بأن هذا التنسيق لم يكن مصادفة، وإنما عن تدبير بين هؤلاء، وربما ظن أن الأمر قد يتعدى هؤلاء فخشي أن يخرج هذا الأمر عن سيطرته، فسارع إلى قبول العرض بإنهاء المقاطعة وتمزيق الصحيفة. ولما دخل زهير بن أبي أمية إلى الكعبة لتمزيق الصحيفة وجد أن الأرَضَةَ قد أكلت الصحيفة إلا ما كان منها "باسمك اللهم"، عبارة ورثتها قريش من الحنيفية كانت تصدِّر بها كتبها، وهكذا انتهت المقاطعة، وسري عن بني هاشم والمطلب ما أرهقهم. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: ((يا عم، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدَعْ فيها اسمًا لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان))، فقال أبو طالب: أربك أخبرك بهذا؟ قال: ((نعم))، وانطلق أبو طالب إلى الكعبة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا من قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبًا دفعتُ إليكم ابن أخي، فقال القوم: قد رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا في الصحيفة فكانت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زادهم إلا طغيانًا، وهنا قام الخمسة الذين ذكرناهم آنفًا فعملوا على نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة. ويروى أن سبب المقاطعة هو أن قريشًا أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعبهم ومنعوه ممن أرادوا قتله، فلما رأت قريش وقوف عشيرته معه كتبوا بينهم الصحيفة.
العلاقات الإنسانية مهددة بالمادية العلاقات الإنسانية والاجتماعية لا تُبنى على حقوق وواجبات جامدة، ولا أدوار ثابتة غاية الثبات؛ وإنما هي علاقات مرنة، وتقبل الأخذ والردُّ. ولقد جمعني حديثٌ عن الحقوق مع أحد الإخوة الصالحين، فقال لي: قال لي الشيخ "فلان" ذات مرة: إذا أردْتَ أن توزِّع الميراث ويرضى كلُّ الأطراف؛ فعليك أن تتنازل بعض الشيء عن حقِّك"، وبالفعل فمثلًا إذا مات رجلٌ وترك بنتًا واحدةً أو بناتٍ دون أخٍ عصبة، فغالبًا ما يترك الأعمام نصيبَهم من الإرث لبنات أخيهم، رغم أنهم إذا طالبوا بحقِّهم فلا عيبَ في ذلك؛ ولكن دوام العشرة يقتضي بعض التنازل. وكذلك في الزواج، فإن حقوق وواجبات الزوج والزوجة معروفة ومشتهرة بين الناس؛ ولكن تجِد العلاقات الزوجية الناجحة معتمدة إما على الوضوح والشدة فى إعطاء كُلِّ ذي حقٍّ حقَّه، أو المرونة في العلاقة بين الزوجين، وهذا أدْعَى للنجاح بينهما. أمَّا ما نراه من كلام دُعاة خراب البيوت من تحريض للمرأة على زوجها وأهله، وتحريض للرجل على زوجته وأهلها، ووَصْم أهل الطرفين بالصفات الذميمة، ونشر حالة من الرعب والتربُّص بين الأزواج، فليس هدفهم إلا "هدم الأسرة المسلمة"؛ لنشر الرذيلة والحياة المادية الرخيصة، لتكون الغاية من الحياة هي إسعاد "الأنا" وإرضاؤها، فالعلاقات الإنسانية- ومنها الأسرة- تقوم على البذل والعطاء، فالزوج يُضحِّي بماله وجهده لأجل أهل بيته، والمرأة تُضحِّي بجهدها لأجل زوجها وأبنائها، والصديق يُضحِّي بماله لأجل مساعدة صديقه وإقراضه دون فائدة مرجوَّة، والقويُّ ينصر الضعيف ابتغاء مرضاةِ الله، والغني يبذل ماله للفقير ناظرًا إلى الجنة.. إلخ. وهذا على عكس المعتقد المادي الذي يسعى أنصارُه إلى نشره بين الناس، فالمادية تقوم على "الأنانية" المفرطة، فالقرض لا يوجد إلا "بفائدة"، والعلاقات لا تنبني إلا لهدف، والإنسان يسعى لإرضاء شهواته التي يريدها، حتى لو رأى الرجل نفسَه امرأةً، أو رأت المرأة نفسَها رجلًا، فهو وما يُحِبُّ، والأبُ غيرُ ملزَمٍ بالتضحية لأجل أبنائه، والمرأة غير ملزمة بخدمة زوجها ولا فِلذات أكبادها... إلخ، يسعى هؤلاء إلى إرضاء شهوات النفس في الدنيا، فترى كل الإعلانات التجارية الرأسمالية "مثلًا" تعتمد على مخاطبة شهوات النفس، وتغذية الطبقية المجتمعية، أو الإحساس اللحظي بالطبقية، والمعاملة في المطاعم والشركات الخدمية تُغذِّي إحساس السيادة على حساب الموظف الذي يُصوُّره لك ربُّ العمل على أنه "عبدٌ خادِمٌ" لإرضاء شهواتك! ومن هنا تتحوَّل العلاقات الإنسانية إلى علاقات مادية، حتى في أهم أنواعها - الأسرة - تتحوَّل إلى علاقات مادية بحتة، فيُطالب أهل الفتاة بمَهْرٍ كبيرٍ وبيتٍ كالقصر، ويُطالب الشابُّ بجهاز من العروس كأنها ابنة أمير وهو ابن أمير، ويُطالب المدعوون بقاعة وزفاف في قاعة من ألف ليلة وليلة، وطعام في بوفيه مفتوح، فتَحَوَّلَ الزواجُ إلى مباهاةٍ ماديةٍ، واشتراطات وتعاقُدات مادية، لا كما كان عقدًا اجتماعيًّا لبناء أسرة تتَّسِم بالسكينة والمودَّة. ووصلت الفتنة المادية إلى "الموت"؛ ففي بعض بلداننا الإسلامية صار الناس يُزخرِفون قبورَهم التي سيَدْفِنون موتاهم فيها، حتى إنني رأيت قبورًا وُضِع على أرضياتها وجدرانها الرخام والجرانيت، وزُخرِفت بأجمل الزخارف، وزُيِّنت بأجمل الزهور، كأنها دارُ خلودٍ، وقرأتُ على شاهد أحد القبور "مدفن صاحب العِزَّة فلان بن فلان"! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد جاء الإسلام موازنًا للعلاقة بين المادية والإنسانية، وأعاد تحجيم تطرُّف النفس البشرية الباحثة عن المادية، وأظهر ذلك الداء العضال في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فقال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، وغير ذلك الكثير من الآيات، وألحقها الله عز وجل بعلاج ذلك الداء، حتى تسكن النفس الإنسانية، وتعلم يقينًا أن الدنيا ليست مجرد علاقات مادية فحسب، فقال تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]، ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، وغير ذلك من الآيات الكريمة التى تزن بينهما. فإذا ترك الإنسان سَمْعَه لأتباع المادية الداعين لها، الذين يسعون إلى خراب البيوت والذمم، انقلب على وجهه خاسرًا، ربما خسر بيته أو أسرته، أو أصدقاءه، أو خسر الذي هو خير من ذلك ألا وهو "جزيل الثواب أو رِضا الله تعالى عنه". ولقد أخبرنا الله عمَّن يُشبه ذلك الصِّنْف الماضي الذي يجعل حساباته كلها مادية بحتة، ويرى مظاهر رِضا الله في الإنعام بالمال، وسخطه في التضييق على العبد في الرزق، فقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16] ووصف الله عز وجل هذا الصِّنْف ومن شابهه من غالب البشر بقوله عز وجل: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]؛ أي: كثيرًا شديدًا، وهذا كقوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17] ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20، 21]. أما أولئك الذين تغيَّرت حساباتهم من المادية إلى الإنسانية الفطرية المؤمنة فمثل ذلك الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه حذيفة، قال: سمِعتُ رسول الله الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ، قِيلَ لَهُ: انْظُرْ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ، فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ، فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ))؛ وهذا ولا شك أعظم مكانةً، فيكفيه الفوز بالجنة، فانظر إلى أي الفريقين تُحِبُّ أن تكون!
لمع اللوامع في توضيح جمع الجوامع لابن رسلان صدر حديثًا كتاب "لمع اللوامع في توضيح جمع الجوامع"، للإمام العلامة "شهاب الدين أحمد بن الحسين ابن رسلان الرملي الشافعي" (ت 844 هـ)، دراسة وتحقيق: "أحمد مرشد"، قدم له: أ.د. "أسعد عبد الغني الكفراوي"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". وهذا الكتاب شرح على متن من أهم متون أصول الفقه، ألا وهو كتاب: ((جمع الجوامع)) لتاج الدين عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي - رحمه الله - فهو بحق من أهم المختصرات وأشهرها في أصول الفقه، حيث اعتصره مصنفه من زهاء مائة مصنف - كما ذكرَ في مقدمته - جمعَ فيه جلَّ مسائل أصول الفقه المتفق عليها والمختلف فيها، وحرر مباحثه، ورتب أبوابه، وجمع آراء العلماء في أكثر المذاهب، فاحتلّ عندهم مكانة عظيمة، وعناية فائقة، فتناولوه بالشرح والتعليق، ومنه هذا الشرح النفيس لابن رسلان الشافعي الذي جلَّى فيه عبارة تاج الدين ابن السبكي، وأوضحها بأبسط عبارة، وأقرب طريق، فتميز عن الشروح الأخرى المطبوعة بمزايا عديدة من أبرزها: 1- توسط حجمه بين الشروح، فليس بمبسوط المقام بحيث تعجز الهمم عن دركه، وليس بالوجيز الذي يحتاج إلى حل ألفاظه، وتجلية معانيه. 2- سهولة عبارته، وترابط موضوعاته، ووضوح منهجه. 3- براعة ابن رسلان في إيضاح عبارة ابن السبكي، وتبسيطها، وفكّ رموزها بعبارة سهلة يفهمها المتخصصون في أصول الفقه وغيرهم. 4- عنايته بشرح الأدلة والتعليلات، والإضافة إليها في كثير من المسائل. 5- اهتمامه بالأمثلة مع تخريج الفروع على الأصول كما نص على ذلك بقوله: ((وقد استخرت الله في تعليق يوضح لمعاينه ما أشكل من معانيه، ببسط عبارته المشكلة مع إظهار ضمائره، وذكر الأمثلة مع تخريج الفروع على الأصول)). 6- تحريره لمحل النزاع، وبيان محل الخلاف، وسببه، ونوعه في كثير من مسائل الخلاف الأصولية. 7- تنبيهه على بعض المسائل التي أغفلها ابن السبكي وغيره من شُرَّاح كتابه. 8- اهتمامه بالنقل عن الأئمة، وتوثيق تلك النقول عنهم، حتى ما يرد منها في كلام المصنف بعبارة: (( وقيل )) فإنه يشير إلى قائله غالبًا. 9- عنايته ببيان الفروق بين الأقوال، والمسائل، والمصطلحات. 10- تتبعه لأقوال ابن السبكي في كتبه الأخرى ومقارنتها بما في جمع الجوامع. ونجد أن العلماء في عصر ابن رسلان يولون اهتمامهم ببيان وتوضيح المختصرات في شتى الفنون؛ حيث بشرح وتوضيح تلك المتون العلمية، كانوا يهدفون إلى تبسيطها وفك عباراتها المغلقة على طلبة العلم. ولقد كان من هؤلاء العلماء ابن رسلان الرملي - رحمه الله - حيث اهتم بتوضيح وبيان أهم المختصرات، ولا سيما في أصول الفقه، كمختصر ابن الحاجب، ومنهاج الوصول للبيضاوي، وجمع الجوامع لابن السبكي. ولقد صرح ابن رسلان بذلك في مقدمة شرحه لجمع الجوامع بقوله: (( … وبعد: فإن كتاب جمع الجوامع للإمام العلامة تاج الدين عبدالوهاب السبكي - تغمده الله بغفرانه - كتاب صغر حجمًا، وغزر علمًا، غير أنه من الإيجاز كاد يعد من الألغاز، وقد استخرت الله في تعليق يوضِّح لمُعَايِنِه ما أشكل من معانيه، ببسط عبارته المشكلة مع إظهار ضمائره، وذكر الأمثلة، مع تخريج بعض الفروع على الأصول، كما هو مسطور، ومن كلام الأئمة منقول، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله وسيلة للرحمة والغفران، وبه المستعان، وعليه التكلان)). ويتميز أسلوب ابن رسلان في شرحه بتمثيله للمسائل الأصولية، وتخريج الفروع الفقهية على الأصول. وقد احتفى ابن رسلان بهذا الشرح كثيرًا، وكان يعرضه على العلماء، ويوقفهم عليه؛ لينظروا فيه، كما فعل مع محمد بن أحمد الغزي (ت 864هـ) عندما زاره الغزي في بيت المقدس سنة 838هـ. والتزم ابن رسلان الرملي - رحمه الله - في هذا الشرح بالأبواب والموضوعات الواردة في متن جمع الجوامع، وهي على النحو الآتي: • المقدمات. • الكتاب، ومباحث الأقوال. • السنة. • الإجماع. • القياس. • الاستدلال. • التعادل والترجيح. • الاجتهاد والتقليد. • علم الكلام والتصوف . وقد قام المحقق بمقابلة الكتاب على نسخه الخطية، ومنهم نسخة نفيسة كتبها أحد تلاميذ ابن رسلان، فهي نسخة التلميذ، ومقابلة على نسخة المؤلف نفسه. مع التعليق على المواطن التي خالف فيها الشارح صاحب المتن، وبسط القول فيها، مع بيان القول المختار في المسألة. مع تخريج الأحاديث والآثار، وعزوها لمصادرها، والتقدمة للكتاب بتقدمات مفيدة في التعريف بصاحب المتن والشارح، ومنهج ابن رسلان في التأليف. وابن رسلان الشافعي هو شيخ الإسلام شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن أمين الدين حسين بن حسن بن علي بن يوسف بن علي بن أرسلان، ويقال: رسلان، الرملي المقدسي، ولد سنة 773هـ، أو سنة 775هـ، في مدينة الرملة بفلسطين، انكب على طلب العلم منذ طفولته، كان رحمه الله كثير الاشتغال بالعلم، ملازمًا للمطالعة، مقيمًا بالرملة تارة، وبالقدس تارة أخرى، ولما كان في الرملة ولي التدريس بالمدرسة الخاصكية مدة طويلة، ثم ترك التدريس وانقطع لعبادة الله تعالى، ولما استقر به المقام في بيت المقدس أقام بالمدرسة الختنية، واشتغل بالتعليم والتأليف والتدريس تبرعًا، وأما رحلاته فقد ضنّت كتب التراجم عن ذكر أي رحلة، سوى أنه رحل به أبوه صغيرًا من الرملة إلى القدس. وأيضًا لمّا شبّ تردد إلى القدس كثيرًا؛ للأخذ عن علمائها القاطنين بها، أو الزائرين لها. لما تأهل في العلم رشّحه ذلك التأهيل إلى منصب الإفتاء حيث جلس للإفتاء للناس مدة، وذلك عندما أجازه الجلال البلقيني، والقاضي الباعوني، لما رأياه من براعته في الفقه . وكان زاهدًا متهجدًا، وعرف عنه التواضع والبعد عن الظهور، حتى بلغ من عظيم تواضعه أن طلب من أحد تلاميذه - وهو العز الحنبلي - الإقراء عنده ولو درسًا واحدًا، وأن يحضر الشيخ ابن رسلان عنده، فيمتنع التلميذ أدبًا مع شيخه. ومن شيوخه: "محمد بن أحمد بن عبدالرحمن القرمي الشافعي"، و"عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي الشافعي"، و"إبراهيم بن أحمد بن عبدالواحد التنوخي"، و"علي بن محمد بن محمد بن أبي المجد بن علي الدمشقي"، و"محمد بن محمد بن مسعود الدقاق النيسابوري الكازروني الشافعي"، و"أحمد بن خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي ثم المقدسي"، و"أحمد بن محمد بن محمد المصري القرافي".. وغيرهم الكثير. ومن تلامذته: "ابن مزهر القاضي"، و"ابن زكنون"، و"علي بن أحمد بن الحسن بن علي الرملي"، و " محمد بن علي الحصكفي الشافعي"، و"إبراهيم بن حسن البقاعي"، و"محمد بن محمد بن عبدالرحمن الكناني البلقيني الشافعي".. وغيرهم. توفي في مدينة القدس، بمسكنه بالمدرسة الختنية قبلة المسجد الأقصى سنة ( 844 هـ ) أربع وأربعين وثمانمائة من الهجرة النبوية، عن عمر تجاوز فيه السبعين سنة. ♦ له: • (صفوة الزبد فيما عليه المعتمد في الفقه الشافعي) منظومة في الفقه، على المذهب الشافعي. • (شرح سنن أبي داود). • (منظومة في علم القراآت). • (شرح البخاري) ثلاث مجلدات، وصل فيه إلى باب الحج. • (طبقات الشافعية) تراجم. • (تصحيح الحاوي) فقه. • (إعراب الألفية) نحو. • (الروضة الأريضة في قسم الفريضة). • (مختصر روضة الطالبين للنووي). • (مختصر أدب القضاء للغزي). • (شرح ملحة الإعراب للحريري). • (إعراب ألفية ابن مالك). وغيرها.
في فترات الضعف تطفو جيف الإلحاد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فحينما يتحدث الإنسان عن جوانب الضعف في حياة الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر، يجد نفسه محاصرًا بجوانب الضعف في كل مناحي الحياة، فإن أردت الحديث عن الانهيار الأخلاقي، فحدِّث ولا حرج، وإن أردت الحديث عن الغزو الفكري، ففي المجال متسع، وإن أردت الحديث عن الانحدار الاقتصادي وما آلت إليه الشعوب من جوع وضنك وتشرد، فالأمور واضحة لكل ذي عينين، كلها جوانب مبكية، حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبح الحال يصفه قول القائل: ولو كان سهمًا واحدًا لاتقيتُه ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ ولعل من أخطر جوانب الضعف، ذلك الضعف الثقافي والخمول الفكري، الذي انحدرت إليه أغلب طبقات الأمة، فأصبحت لا تعبأ إلا بالمظاهر الجوفاء. ولقد أحسن الشاعر الأستاذ محمد إقبال؛ حينما وصف ذلك الضعف الفكري والتمسك بالمظاهر الجوفاء في حياة الأمة قائلًا: أرى التفكير أدركه خمول ولم تبقَ العزائم في اشتعالِ وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقالِ وجلجلة الأذان بكل حيٍّ ولكن أين صوت من بلالِ منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العُبَّاد خالِ إن هذا الخمول الفكري والضياع الثقافي الذي انحدرت إليه طبقات الأمة – إلا من رحم ربك – ليعد من أخطر ما يواجه نهضة الأمة في واقعها المعاصر. حتى كان من التعبيرات الموحية العميقة لبعض الدعاة قوله: إن ضياع الخلافة أهون على حياة الأمة من ضياع الثقافة؛ ذلك أن الخلافة إذا سقطت والثقافة لا تزال باقية، فإن الأمة سرعان ما تفيق وتسترجع خلافتها وريادتها، أما إذا سقطت الثقافة، فأنى للخلافة أن تعود؟ بل ومن ذا الذي يسعى لإعادتها؟ هل يسعى لإعادتها الجهلاء أم صنائع الاستعمار القائمين على إذابة هوية الأمة ومشخصاتها؟! إن صنائع الاستعمار هؤلاء قد تم إعدادهم بعناية فائقة، ليكونوا معاول الهدم في كيان أمة الإسلام، ولعل ما قاله الفيلسوف جان بول سارتر وهو يجيب عن سؤال خطير وُجِّه إليه وهو: كيف يظهر المفكر في الشرق والعالم الإسلامي؟ فأجاب: "كنا نحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من إفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في شوارع لندن وباريس وأمستردام فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نروح بعضهم في أوربا، ونلقنهم أسلوب الحياة على أساس جديد وطرز جديدة من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، حيث يرددون ما نقوله بالحرف تمامًا مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاسًا صادقًا وأمينًا لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها، وكنا واثقين أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنها في أفواههم، ليس هذا فحسب، بل إنهم سلبوا حق الكلام من مواطنيهم" [1] . فانظر إلى هذه الشخصيات المصطنعة، كيف تعد لها الكراسي والألقاب البراقة، واللقاءات والندوات في المؤتمرات الدولية، ألا تكون الفتنة بهم أشد؟ نعم، إنك تجد مِن هؤلاء مَن يُوصم بالمفكر، ومنهم من يُوصم برائد التنوير، وهذا عميد الأدب، وذاك أستاذ الأجيال، فإذا نظرت إلى أطروحاتهم الفكرية فما هي إلا ترديد لأقوال المستشرقين ومَن على شاكلتهم من أعداء الإسلام، ورحم الله الأستاذ أنور الجندي عندما عبر عن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق، والذي يعتبر العمدة في الفكر العلماني الفاصل للدين عن الحكم والسياسة - قال عنه الأستاذ الجندي: "حاشية علي عبدالرازق على متن مرجليوث"، نعم، فأطروحاتهم الفكرية لا تتعدى هذا الوصف. ولقد أجاد الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن"؛ حينما قال عنهم: "وما زالت هذه من عجائب حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين الإسلامي وكتابه العربي الخالد، فكلما وهن عصر من عصوره رماه الله بزنديق، فإذا الناس أشد ما كانوا طيرة، وأبلغ ما كانوا دفاعًا ومحاماة، وإذا الدين أقوى ما كان فيهم وأثبت". ولا يفوت الرافعي رحمه الله أن يحذر الأمة منهم قائلًا: "وجب أن تحذرهم الأمة، وأن تقرهم في هذا الحيز من تخيلاتهم وأوهامهم، فهم من الأمة إذا غلبت هي عليهم، وليسوا منها إذا غلبوا عليها" [2] . إن التواجد الإعلامي الواسع في هذه الآونة لهؤلاء الرويبضة، والموسومين فيها بالمفكرين ورواد التنوير لخير دليل على مدى ما وصلت إليه الأمة من الاضمحلال الفكري، ومن ثَمَّ فلا يتوقع الإنسان إلا مزيدًا من الطعن في ثوابت الأمة؛ لأن المثل القائل: "مَن أمِنَ العقوبة أساء الأدب"، لأفضل ما ينطبق عليهم؛ لأنهم لم يأمنوا العقوبة فحسب، ولكنهم ضمنوا علو الصيت من خلال تسخير وسائل الإعلام لهم، وإغداق المال عليهم، ولعل مما يحضرني في هذا الصدد تلك العبارات للأستاذ عادل التل في حديثه عن التواجد الإعلامي لكلٍّ من جودت سعيد ومحمد شحرور، بل وهذا التآلف الذي قام بينهما، ولاقى دعمًا وترحيبًا من مختلف المراكز الإعلامية، فيقول: "وقد سيطر جودت سعيد ومحمد شحرور وأتباعهما بسرعة فائقة لا مثيل لها على الساحة الثقافية، وفُتحت لهم الأبواب، فجميع المراكز الثقافية وُضعت تحت تصرفهم، في طول البلاد وعرضها، وقد ظهر ذلك جليًّا خلال الحملة الإعلامية التي رافقت نشر كتاب محمد شحرور، فلم يمضِ سوى أيام قليلة حتى تم توزيعه على مختلف الأصعدة الثقافية والسياسية، وقد تطور الأمر حتى شمل الإهداء كبار الشخصيات المسؤولة وبعض رؤساء الدول، ولم يكن هذا الأمر ليحدث، لولا أن أجهزة ذات نفوذ ظاهر تقود هذه الحملة، وتدعم الجهود التي تساهم في تقرير الأفكار الدخيلة التي يحملها كتاب شحرور خاصة وكتب جودت عامة" [3] . ولعل الكثير من المسلمين لا يعرف شيئًا عن كتاب محمد شحرور الذي سخرت له وسائل الإعلام لنشر ما تضمنه من أضاليل، وبالمناسبة هو مهندس مدني ذهب إلى روسيا لدراسة الهندسة، وفجأة تحول إلى مفكر ومفسر ورائد من رواد التجديد الإسلامي، ولكي يعرف القارئ شيئًا عنه وعن خطورة ما يصبو إليه هو ومَن وراءه، فاقرأ معي هذه العبارات له يقول: "وأما مقولة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على أن يؤول القرآن، فنقول: 1– إما أن يكون تأويله صحيحًا بالنسبة لمعاصريه فقط، أي التأويل الأول، فيكون بذلك قد تسبب في تجميد التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه، ثم تتقدم المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم فتبدو تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك قد قصم ظهر الإسلام بنفسه. (انتبه أيها القارئ العزيز لهذه النقطة). 2- وإما أن يكون تأويله صحيحًا بالنسبة لجميع العصور؛ أي: إن النبي كان يستطيع أن يؤول القرآن التأويل الصحيح في جميع الأزمان، فيكون بهذا قد تسبب بما يلي: أ – لا يوجد أحد من العرب الذين عاصروه قادر على فهم التأويل. ب – لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على التأويل الكامل لكل القرآن، لكان ذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة، فيصبح شريكًا لله في علمه المطلق. (هل انتبهت أخي القارئ لخطورة هذا الكلام؟!). ج- يفقد القرآن إعجازه" [4] . هل انتبهت أيها القارئ العزيز لما يريد تقريره في هذا الكلام؟ إنه يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم لو فسر القرآن لكان تفسيره قاصرًا على عصره لا يتعداه إلى غيره من العصور، وحتى لو فعل ذلك لترتب على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأضرار؛ منها كما يقول: "فيكون بذلك قد تسبب في تجميد التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه". ثم هناك مشكلة أخرى تترتب على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – لو كان قد حدث – وهي أن تفسيره إذا كان قاصرًا على عصره، ثم تقدم العلم، وأثبت خطأ النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا يُفهم من قوله: "ثم تتقدم المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم، فتبدو تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك قد قصم ظهر الإسلام بنفسه". ثم ترى كيف يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم غير كامل المعرفة، إذ لو أنه كان كذلك لشارك الله في علمه؛ فيقول: "لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على التأويل الكامل لكل القرآن، لكان ذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة فيصبح شريكًا لله في علمه المطلق". ألا ترى أن هذا الكلام فيه تنحية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وفقدان الثقة بكل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكأن الله تعالى لم يقل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]. ويقول الله تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، فجعل طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عين الطاعة لله عز وجل، فهل من يكون مقامه كذلك في التشريع يُقال عنه مثل هذا الكلام الساقط لمحمد شحرور؟! فلنعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمر وكُلِّف ببيان القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، وفي الآية الأخرى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة الجمعة يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام: أولًا: ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ [الجمعة: 2]، وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفًا واحدًا؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [الجمعة: 2]، والتزكية هي: تربيتهم. إذًا لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس: هذا حلال، وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاؤون، لا، بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقًا وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن)). ثم المرحلة الثالثة: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [الجمعة: 2]، فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مر ذكرها: ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ [الجمعة: 2]. إذًا تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عني العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة. إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا الآن نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام - وليسوا بمسلمين - أصبحوا يرفضون السنة كلها. فأين هذا الكلام الذي يقرره علماء الإسلام عن بيان النبي للقرآن الكريم مما يقرره محمد شحرور وأمثاله من دعاة الضلال؟! إنه نفس الاتجاه الذي عبر عنه الأستاذ محمد إقبال حينما قال: وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب فجدد لنا شرعًا يلائمه العصرُ رأيت بأرض الهند أي عجيبة فإسلامها عبد ومسلمها حرُّ إنها الشنشنة الإلحادية القديمة المتجددة منذ أيام الفرق الباطنية في محاولات اللعب بآيات القرآن، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم تحت مسمى التأويل أو العصرنة، أو التجديد، أو ما شئت أن تسميه من هذا الكلام، وما هو في الحقيقة إلا محاولة للَيِّ عنق النصوص الشرعية لتتلاءم مع أهوائهم، إنهم يريدون أن يكونوا أحرارًا، والإسلام هو العبد يفعلون به ما يريدون بدون ضابط في التأويل، إنهم يريدون إسلامًا يكون بين أيديهم كالجثة الهامدة وهم يطلقون لمباضعهم الأعنة في تقطيع نصوصه كما يحلو لهم. ولو أن هؤلاء وجدوا من يقف أمام سفههم هذا، وتلاعبهم بمقدسات الأمة، لَما تمادوا إلى هذه الدرجة، ولعل هذه الحادثة التي ذكرها القاضي عياض في كتاب (الشفا) لنموذج مشرق من نماذج الحكام الذين لا يتركون المجال أمام هؤلاء العابثين؛ وكما قال القائل: ولو كل كلب عوى ألقمته حجرًا لأصبح الصخر مثقالًا بدينارِ يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "حكم من تعرض بساقط قوله وسخيف لفظه لجلال ربه دون قصد: • وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه، وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه، وجلالة مولاه... أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته... أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه، وعرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه. • وهذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والتنقص لربه. وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب [5] ، وكان خرج يومًا فأخذه المطر فقال: "بدأ الخراز يرش جلوده" [6] . وكان بعض الفقهاء بها... أبو زيد صاحب الثمانية [7] ، وعبدالأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى [8] ، وقد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول، يكفي فيه الأدب. وأفتى بمثله القاضي حينئذٍ موسى بن زياد [9] ، فقال ابن حبيب: "دمه في عنقي... أيُشتم ربٌّ عبدناه ثم لا ننتصر له... إنا إذًا لعبيد سوء ما نحن له بعابدين وبكى"، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبدالرحمن بن الحكم الأموي [10] ، وكانت عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه [11] ، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين... وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبخ بقية الفقهاء وسبَّهم. • وأما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة، والفلتة الشاردة ما لم يكن تنقصًا وإزراءً فيعاقب عليها، ويؤدب بقدر مقتضاها، وشنعة معناها [12] . بمثل هذه المواقف الجادة - التي لا تعطي الفرصة لمزيد من العابثين - تُقمع تيارات الإلحاد، وتُكسر شوكتها، أما إذا وجدوا التبجيل والاحترام وسخرت لخدمة ضلالهم ونشر إلحادهم وسائل الإعلام، فحدِّث ولا حرج عما يصيب مقدسات الأمة. [1] نقلًا عن/ حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب/ هاشم حسن فرغل صـ269، 270، طبعة دار الصابوني للطباعة والنشر. [2] تحت راية القرآن/ مصطفى صادق الرافعي/ ص 8، 9. [3] كتاب: النزعة المادية في العالم الإسلامي/ عادل التل ص75، ط: الأولى، دار البينة للنشر والتوزيع، سنة 1415 ه – 1995م. [4] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص 60، 61. [5] عجب: اسم زوجة عبدالرحمن الأموي أمير قرطبة. [6] الخراز: من يثقب الجلود للخياطة والجلود تبل ويرش عليها الماء عند خرزها لتلين. [7] الثمانية: بوزن العدد المعروف وقيل بمثلثة مضمومة وياء مشدد ولعلها بلدة أو قرية وكان أميرًا عليها. [8] أبان بن عيسى سكن قرطبة يكنى أبا القاسم، كان فاضلًا زاهدًا ورعًا، وهو قاضٍ من قضاة المدينة توفي سنة اثنين وستين ومائة نصف ربيع الأول. [9] موسى بن زياد: قاضٍ من قضاة المدينة كان معاصرًا لأبان بن عيسى وعبدالأعلى بن وهب وغيرهما. [10] عبدالرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس، وكان عادلًا مجاهدًا توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. [11] حظايا: جمع حظية كهيئة وهي المرأة المقربة عند زوجها وعجب هذه من زوجات عبدالرحمن أمير الأندلس. [12] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، (2/ 637)، الناشر: دار الفيحاء – عمان، الطبعة: الثانية - 1407 هـ.
كتاب الورع لعبد الملك بن حبيب الأندلسي صدر حديثًا "كتاب الورع ‎ " ، للإمام: "أبي مروان عبد الملك بن حبيب الأندلسي" (ت 238 هـ) ، تحقيق: د. "نبيل أحمد بلهي" ، نشر "دار السلام للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب لعبد الملك بن حبيب من مصنفات كتب الزهد والورع، وموضوعه الرئيس: الورع في التعامل مع النفس، ومع الله عز وجل، ومع الآخرين سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات، فجاءت أبواب الكتاب على النحو التالي: 1- الورع عن أخذ اللُّقَطَة. 2- باب في فضل كسب الحلال. 3- ما جاز في التجارة. 4- الورع عن طلب الدنيا بالدين. 5- باب الرغبة في أكل الطيبات. 6- ما جاء فيمن حرم الحلال. 7- ما جاء فيمن اضطر إلى الحرام وأكل الميتة. 8- جامع الورع. 9- الورع في محاسبة النفس. 10- الورع عن كسب الحرام. 11- الورع عن السحت وتفسيره. 12- باب ما يصنع المسلم في الفتنة. 13- الرغبة في طاعة الله عز وجل. 14- الورع عن كثرة الكلام. 15- الورع عن الكذب. 16- الورع عن الغيبة والنميمة. 17- الورع عن الغضب. 18- الورع عن أذى الناس وكشف عوراتهم وترويعهم. 19- الورع على أن لا يستهزئ بالناس. 20- الورع عن الفحش واللعن والطعن والسباب وإيذاء الناس. 21- الورع عن النظر إلى المرأة ومقاربتها ونظر الفجأة وغيره. 22- باب الورع عن الحسد والبغي. 23- الورع عن التجسس ومراقبة حديث القوم، والنظر في الكتب أو في الدور. 24- الورع في الصمت وإيذاء الناس واغتيابهم. 25- الورع عن الظلم وما جاء في التشديد فيه. 26- باب الورع عن صحبة السلطان. 27- الورع عن العطاء من السلطان الجائر. 28- الورع عن الطاعة. 29- الورع عن معاصي الله والتحذير منها. 30- ما جاء في فضل العمر وما يتصل به من الحديث. 31- ذكر السبعة الذين لعنهم الله في خلقه. 32- ذكر الأربعة الذين يؤذون أهل النار على ما بهم. وصاحبه هو فقيه الأندلس وعالمها، وقد ذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك" أن له كتابان في الورع: الأول "كتاب الورع في العلم" ، والثاني "كتاب الورع في المال" . وتتميز هذه النشرة بدراسة علمية موسعة عن المؤلف والكتاب، إضافة إلى ضبط النص، وأسماء الرواة ما لا تجده في الطبعات الأخرى السابقة للكتاب. مع مقابلة الكتاب على نسخه الخطية المتاحة، وإخراج أحاديثه الكثيرة، وأقوال الصحابة والتابعين الواردة في الكتاب، وتصويب الأخطاء والتصحيفات، وللكتاب نسخة من محفوظات المكتبة الوطنية بمدريد تحت رقم (5146) كتبت بخط مغربي كتبت في وقت متأخر جدًا في القرن 16 أو 17 الميلادي. والمؤلف هو "عبد الملك بن حَبِيب بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الإلبيري القرطبي، أبو مروان" عالم الأندلس وفقيهها في عصره. أصله من طليطلة، من بني سُليم، أو من مواليهم. ولد في إلبيرة، وسكن قرطبة. وزار مصر، ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بقرطبة. استقدمه الأمير عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة، ورتبه في المفتين مع يحيى بن يحيى الليثي وغيرهما، غير أن ابن عبد البر قال أنه: "كان بينه وبين يحيى بن يحيى وحشة" ، حتى مات يحيى قبله، فانفرد برئاسة العلماء. وكان ابن لبابة يقول: "عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، ويحيى بن يحيى عاقلها، وعيسى دينار فقيهها" . وقدّمه الماجشون على سحنون، وقال ابن بشكوال أنه حين بلغ سحنون وفاة ابن حبيب، قال: "مات عالم الأندلس! بل والله عالم الدنيا" ، كما قال عنه أبو عمر الصدفي في تاريخه: "كان كثير الرواية، كثير الجمع, يعتمد على الأخذ بالحديث, ولم يكن يميزه, ولا يعرف الرجال, وكان فقيهًا في المسائل" . توفي عبد الملك بن حبيب السلمي في رمضان 238 هـ، وقيل في رمضان عام 239 هـ. كان عالمًا بالتأريخ والأدب، رأسًا في فقه المالكية. له تصانيف كثيرة، قيل: تزيد على ألف. منها: "حروب الإسلام" ، و "طبقات الفقهاء والتابعين" ، و "طبقات المحدثين" ، و "تفسير موطأ مالك" ، و "الواضحة" في السنن والفقه، و "مصابيح الهدى" ، و "الفرائض" ، و "مكارم الأخلاق" ، و "الورع" ، و "استفتاح الأندلس" قطعة من أحد كتبه، و "وصف الفردوس" في الأزهرية، و "مختصر في الطب" في الرباط، و "الغاية والنهاية" رسالة في 24 ورقة، أولها: باب ما جاء في فضل المرأة الصالحة.. وغير ذلك.
نحو ملكة نقدية علمية راشدة إنه لمن نافلة القول أنَّ ديننا الحنيفَ دينُ العلمِ والتفكرِ وإعمالِ العقل، ورفضِ التقليدِ، والتعصب دون نقدٍ واستدلال، والقرآن الكريم والسنة المشرَّفة زاخران بتوجيه المسلمين إلى البحث والنظر، والتدبر في كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، وحثِّهم على الإتقان والإبداع في مجالات المعرفة، وميادين العلوم المختلفة. ولقد ضرب علماؤنا أروع المثل في تطبيق هذا التوجه الإسلامي، فأبدعوا في شتى المجالات العلمية، كما كان لهم أكبرُ الحظ والنصيب في حركة النقد العلمي، مِن خلال نقد الأفكار والمذاهب والأديان، وجهودُهم في مقارنة الأديان، ونقدِ المنطق اليوناني ـ على سبيل المثال ـ أظهر مِن أن تخفى. وإن طلاب العلم والباحثين يُنتظَر منهم أن يُسهموا في النهوض الحضاري، ومواجهةِ المشروعات المعادية لديننا وأمتنا الإسلامية، ومواكبة المستجدَّات، وحسن التعامل معها، وإيجاد الحلول للمشكلات والحوادث النازلة. ولكي يصل طلابنا وباحثونا إلى تحقيق ذلك الذي ننتظره منهم، ينبغي ألا يكونوا مجردَ أوعية للعلم فقط، بل يجب أن يتمكَّنوا من ناصية البحث والاستنباط، والقدرة على النقد، والإبداع الفكري، والانعتاق من التقليد المجافي للنظر والاستدلال، كما ينبغي أن تتهيأ لهم الملكة النقدية الراشدة. والواقع أننا نلحظ ضعفًا في الملكة النقدية لدى كثيرين من الباحثين وطلاب العلم، وهذا أمرٌ جدير بالبحث في أسبابه، والاهتمام بعلاجه، وهو ما أُحاول إلقاء الضوء عليه في السطور التالية: إن من أسباب ضمور الملكة النقدية وضعفها: الوقوعَ في أَسْر السمعة والشهرة التي تُنسَجُ حول العلماء، أو الألقاب التي تُخلَع على أحدهم، مثل الإمام، أو العلامة، أو المفكر الكبير ...؛ فيقرأ الباحث أو الطالب وحاسة النقد لديه تكون مخدَّرة، بفعل تأثُّرِه بتلك الشهرة، وينطلق في القراءة مِن أن عقله دون عقل مَن يقرأ له، وفهمَه ومستوى تفكيره أقلُّ منه! ويزيد مِن تكريس هذه الحالة مسلكُ بعض الأساتذة من المشرِفين على الباحثين والطلاب؛ حيث يقف لهم بالمرصاد إنْ أَعمَل أحدُهم عقلَه، وأتى بما يخالف ما هو مسطور في المراجع، أو استدرك على أحد العلماء، أو إحدى الهيئات العلمية، أو تناولهم بالنقد الموضوعي! والواقع أن هذا نهجٌ ينبغي إصلاحه. ويجدر بنا أنْ نأخذَ بأيدي طلابنا وباحثينا لتكوين وتعميق ملكة نقدية علمية موضوعية راشدة لديهم. وقد تكون البيئة الفكرية أو الاجتماعية في مكان ما أو زمان ما ضارةً ومعوِّقة لنموِّ وازدهار الملكة النقدية لدى الباحثين أو طلاب العلم، بسبب فَهْم وسلوكِ بعض المنسوبين للدعوة والعلوم الشرعية؛ حيث إن بعضهم غَرْقى في التعصب الممقوت للأشخاص أو الأفكار، حالُهم كالدراويش الذين يقدِّسون شيوخهم، ويرونهم على حقٍّ مهما صدر منهم، ولا يعرفون شيئًا عن النقد العلمي، ولم يتصوروه في واقعهم، ولا يتورعون عن ممارسة الإرهاب الفكري ضد من يقوم بواجبه في البيان والنقد، حين يصدمهم القولُ بأن شيخهم قد جانبه الصواب في كذا أو كذا، وهؤلاء قد يشكلون نوعًا من الرأي العام غير الصحي في البيئة الثقافية، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي! من طرق العلاج: إن تكوينَ وتعميقَ ملكةٍ نقديةٍ علميةٍ موضوعيةٍ راشدةٍ لدى الطلاب والباحثين - يمكن أنْ يتحقق مِن خلال محورين: أحدهما: نظري، والآخر: عملي. أما المحور النظري، فيكون بصياغة المناهج والمقررات الدراسية والعلمية على نحو يحارب نزعة التقليد الخاطئ والتعصب الممقوت، ويعمِّق روحَ البحثِ والتفكيرِ والابتكار في نفوس الباحثين، وينقِّيها مِن المفاهيم المغلوطة في هذا الشأن. على سبيل المثال توجد مفاهيم مغلوطة في الوسط العلمي تُضعِف وتكبِّل النزوعَ نحو الابتكارِ والتفكيرِ المُبدِع، والنقْدِ البناء؛ مثل العبارة التي تَرسَّخ مدلولُها الخاطئُ لدى كثيرين مِن الأساتذة والطلاب، وهي: "ما ترَك الأَول للآخِر شيئًا"! والواقع أنها بمنطوقها ومفهومها تَضرُّ بالعلم وأهلِه، بل الصواب - كما قال الراسخون في العلم المنصفون -: "كم تركَ الأولُ للآخِر". ومِن حُسن الحظ أن أكثر علمائِنا المتقدِّمين لم يَقعوا فريسةً لمثل هذه العبارة وأشباهِها؛ وإلا مَا كنا قد رأيْنا هذه الثروةَ العلميةَ العظيمةَ التي أودعوها مصنَّفاتهم في سائر العلوم، وشتى فنون المعرفة. ويرحمُ الله الإمامَ ابنَ مالكٍ النَّحْويَّ ـ صاحبَ "الألفية" في النحو ـ؛ إذْ قال: "وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهيَّة، ومَوَاهِبَ اختصاصيَّة، فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعض المتأخرين ما عَسُرَ على كثيرٍ مِن المتقدمين، أعاذَنا اللهُ مِن حَسَد يَسُدُّ بابَ الإنصاف، ويَصُدُّ عن جميل الأوصاف". وأما المحور العملي لتكوين ملكةٍ نقديةٍ علميةٍ موضوعيةٍ راشدةٍ، فيمكن أن يتحقق بعدة إجراءات؛ منها: 1- التوجيه والنصح المباشر، والتحفيز والتشجيع من قِبَل الأساتذة للطلاب والباحثين على التفكير الإبداعي، وحثُّهم على إعمال عقولهم فيما يطالعون ويَدْرسون. أذكر أن شيخي وأستاذي العلامةَ المحدِّثَ الأستاذَ الدكتور "سيد نوح" ـ يرحمه الله ـ حدثنا أن الأستاذ "عبد البديع صقر" ـ يرحمه الله ـ كان يقول ـ ما معناه ـ: حينما تقرأ كتابًا: إنْ لم تجعل عقْلَك فوق عقل الكاتب، فلا أقل مِن أنْ تجعلَ عقلك في مرتبة مساويةٍ له، وهذا كي لا تتسلل الأفكار إلى عقلك دون تمحيص. 2- التوريث المنهجي والمهاري مِن قِبَل الأساتذة لطلابهم، فيرشدونهم إلى كيفية هذه الصنعة ودقائقها وأسرارها، مِن خلال خبرتهم ومسيرتهم العلمية، فيكتسب الطلاب والباحثون ملكةَ النقدِ العلميِّ الرشيد. 3- ومع التوجيه والتوريث لا بد مِن التدريب العملي للباحثين وتقويمهم، ومتابعتهم في هذا الشأن؛ حتى نطمئنَّ إلى اكتمال قدراتهم النقدية، وصوابية منهجيَّتهم العلمية. 4- على الطلاب والباحثين أنْ يُكثِروا مِن المطالعة في كتب العلماء المعاصرين المعروفين بالمهارة النقدية العلمية، والرؤية العقلية الإبداعية، مثل الأستاذ "أنور الجندي"، والدكتور "عبد الوهاب المسيري"، والدكتور "محمد البهي"، والأستاذ "محمود محمد شاكر"، والأستاذ الشيخ "أبي الحسن الندوي"، وغيرهم ـ يرحم الله الجميع. إنه بقدر ما يُلحقه الجهل بنا من أضرار فادحة؛ كذلك تعطيل أو تعويق الملكة النقدية الراشدة، يُلحق بنا أضرارًا عظيمة، والله المعافي.
عبيدالله بن عبدالله بن عمر العدوي: حياته ودوره الاجتماعي والعلمي في المدينة المنورة إعداد الباحث: حذيفة حامد الإشراف العام الأستاذ: نكتل يوسف محسن المبحث الأول: حياته ونشأته. المطلب الأول: اسمُه ونسبُه وكنيتُه ولقبُه. هو عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعُزَّى بن رياح بن عبدالله بن قراط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي المدني، وأمُّه هي أم سالم بن عبدالله [1] ، ولا شك أن سبب تسميته قد أخذت نصيبًا كبيرًا من عمِّه عبيدالله بن عمر بن الخطاب الذي كان مُرافقًا لوالده وفارسًا شجاعًا ورجلًا كريمًا. المطلب الثاني: مكانته بين الرُّواة والتابعين: ذُكِرَت الكثير من الآراء حول عبيد بن عبدالله بن عمر، منها: أنه كان ثقةً قليلَ الحديث [2] ، وقد روى عبيدالله بن عبدالله بن عمر عداده في أهل المدينة، روى عن أبيه عبدالله بن عمر في الصلاة والحج والبيوع، وروى عنه الوليد بن الكثير والزُّهْري ومحمد بن إسحاق [3] . كما روى يونس عن الزُّهْري عن عبيدالله عن الصُّمَيْتة؛ وهي امرأة من بني ليث، تُحَدِّثُ أنها سمِعَتْ، فذكره وزاد فيه: قال الزُّهْري: ثم لقيتُ عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب فسألته عن حديثها فحَدَّثَنِيه عن الصُّمَيْتة. هذه روايةُ ابن وهْبٍ عن يونسَ، وهي موافقةٌ لرواية عقيل، ورواه عتبة عن يونس؛ فأدخل صفيةَ بنتَ أبي عبيد بين عبيدالله والصُّمَيْتة، ورواه ابنُ أبي ذئبٍ عن الزُّهْري فقال: عن عبيدالله عن امرأة يتيمةٍ، عن صفيةَ بنتِ أبي عبيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [4] ، إذن هو كما قيل: ثقة وإن كان الزُّهْري يسأله، وهو ثقة عمدة السيرة النبوية، فهو قد وصل مكانةً مُتقدِّمةً من الوثوق. المطلب الثاني: مكانته بين المؤرخين والتابعين: ورَدَ الكثيرُ من الآراء حول مكانته الاجتماعية والعلمية ولا غَرْوَ فهو ابن شيخ الإسلام عبدالله بن عمر، ولا بُدَّ أن له من علم أبيه نصيبًا وقد ذكر، عيسى بن حفص، قال: رأيت على عبيدالله بن عبدالله بن عمر ثوبين مُعَصْفرَينِ، يروح فيهما بعد العصر، يشهد فيهما العشاء، وبلغ من وثوقه أنه روى عنه الزُّهْر [5] . وأخرج البخاري في المحصر وغزوة الحديبية عن الزهري ونافع، عنه، عن أبيه عبدالله بن عمر، وأخرج في الصلاة عن الزهري، عنه، عن أبيه، قال أبو زرعة: هو ثقة [6] . المطلب الثالث: وفاته: توفي عبيدالله بن عبدالله في حياة أخيه سالم، فقد ذكر أنه كان قد شهد عبيدالله بن عبدالله بن عمر، وعلى قبر عبيدالله فسطاط ورش على قبره الماء [7] ، وكان رحمه الله يُعِدُّ العُدَّة للموت حتى إنه كتب على باب داره والذي بقي حتى القرن الثالث الهجري قرأه ابن أبي الدنيا قائلًا: قرأت على باب دار عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب مكتوبًا: اعمل وأنت من الدُّنيا على حَذَرٍ واعلم بأنَّكَ بعد الموتِ مبعوث واعلم بأنَّك ما قدَّمْتَ مِن عمَلٍ محصى عليكَ وما جمعْتَ موروث [8] مما يعكس استعداده للموت، ويقينه فيه، وحسن عمله رحمه الله. المبحث الثاني: حياته الأسرية: المطلب الأول: زوجاته: على الرغم من حالة الغموض والضبابية التي تلفُّ حياة المشاهير من الصحابة والتابعين وعكوف الشمس عن الشروق على حياتهم الأسرية إلا أن ثمة بعض الخيوط التي توصلنا له، فقد ذُكِر أنه تزوَّج عدَّةَ زوجاتٍ في حياته، وهي من المسائل التي كانت متعارفًا عليها في تلك الفترة؛ حيث إن العرب كانت تُكثِر من الزوجات لطلب الولد، ولأن الأبناء كانوا ذوي أهمية كبيرة في حياتهم بسبب الحروب التي كانت دائرةً بين المسلمين وبين غيرهم من الأقوام، وقد كانت زوجته الأولى هيَ عائشة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، والثانية هي أمُّ عبدالله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق، والثالثة هيَ أمُّ ولد وأنجبت له إسماعيل فقط. [9] المطلب الثاني: أبناؤه: وَلَدَ لعبيدالله بن عبدالله عدة أبناء ذكورًا وإناثًا؛ وهم: أبو بكر، وعُمَر، وعبدالله، ومحمدٌ، وأمُّ عمر، وأمُّهم عائشة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، والقاسم بن عبيدالله، وأبو عبيدة، وعثمانُ، وأبو سلمة، وزيدٌ، وعبدُالرحمن، وحمزةُ، وجعفر، وهما توأم، وقريبة، وأسماء؛ وأمُّهم أمُّ عبدالله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وإسماعيل لأمِّ ولد [10] ، ويُلاحَظ أن تسميتهم إمَّا على اسم صحابي أو هو خصص اسمًا من أسمائهم لآل البيت؛ مثل: الحمزة، والقاسم، وجعفر رضي الله عنهم، وهو ما يعكس الترابُط الاجتماعي بين آل عمر وآل النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: جهوده العلمية والعسكرية: المطلب الأول: جهودُه العلمية: كان عبيدالله من الرُّواة الثقاة في المدينة المنورة، ويكفي من توثيقه أن الزُّهْري والبخاري أخذا عنه، وهي مكانة حديثيَّة كبيرة لحفيد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى عن أبيه وأبي هريرة والصُّمَيْتة الليثية، وعنه ابنه القاسم، وابن ابنه خالد بن أبي بكر بن عبيدالله، وعيسى بن حفص بن عاصم بن عمر، وابن أخيه عبيدالله بن عمر بن حفص، والزهري، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأبو الأسود يتيم عروة، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، ومحمد بن إسحاق وغيرهم، قال الواقدي: كان أسَنَّ من عبدالله بن عبدالله فيما يذكرون [11] . وكان ثقة قليلَ الحديث، وقال أبو زُرْعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال غيره: مات في ولاية عبدالواحد البصري، وكان عزْلُ البصري سنة ستٍّ ومائة، قلت: وقال العجلي: تابعي ثقة. [12] وأثنى عليه الكثير من العلماء، وروى الحديث النبوي، ومنهم أبو زرعة الرازي، وقال عنه: إنهُ ثقة، وقال أحمد بن شعيب النسائي: إنه ثقة، وقال أحمد بن صالح الجيلي: ثقة، وقال ابن حجر العسقلاني: ثقة، وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: ثقة قليل الحديث. [13] رحِمَ الله عبيدالله بن عبدالله، وأجزل عطاءه ومثوبته، وجزاه عن الإسلام خيرَ الجزاء. [1] ابن سعد، أبو عبدالله محمد بن سعد البصري، الطبقات الكبرى، تحقيق: زياد محمد منصور، مكتبة العلوم والحكم (بيروت: 1987)، 7/ 201. [2] الأصفهاني، أبو بكر أحمد بن علي، رجال صحيح مسلم، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل- أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، (بيروت: 2006) ، 7/ 14. [3] ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود، (بيروت: 1415ه‍)، 7/ 265. [4] ابن سعد، الطبقات ، 5/ 203. [5] ابن سعد، المصدر نفسه، 5/ 155. [6] ابن عساكر، علي بن الحسن الدمشقي، تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة، دار الفكر للطباعة والنشر، (بيروت :1995)، 9/ 1968. [7] الأصفهاني، أبو بكر أحمد بن علي، رجال صحيح مسلم، تحقيق: محمد حسن إسماعيل- أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، (بيروت: 2006) ، 7/ 14. [8] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 38/6. [9] ابن سعد، الطبقات، 5/ 155. [10] ابن سعد، الطبقات، 5/ 155. [11] ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، تهذيب التهذيب، مطبعة دار المعارف النظامية، (بيروت: 1911) 7/ 25. [12] ابن حجر، المصدر نفسه، 5/ 13. [13] ابن عساكر، المصدر السابق، 38/6.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العولمة - عولمة الدين) يكتب أستاذ الفلسفة ومدير أبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا الأستاذ الزائر بجامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية أوليفييه روا باللغة الفرنسية عن عولمة الإسلام، وتترجمه إلى اللغة العربية رولا معلوف [1] ، ويركز فيه على حال المسلمين الاجتماعية والسياسية والدينية في الغرب بعامة، وفي فرنسا بخاصة، إلا أنه يربط ذلك بما يدور في العالم الإسلامي من حركات وحوارات ومتغيرات في التوجهات داخل المجتمع المسلم، ويحاول أن يربط بين هذا وذاك باسم علمنة الإسلام، أو عولمة الإسلام [2] . انطلق أوليفييه روا من أفغانستان منذ سنة 1405هـ/ 1985م، عندما أصدر كتابه: أفغانستان: إسلام وعصرية سياسية، ثم أصدر كتابًا بعنوان: تجربة الإسلام السياسي [3] ، وتلاه كتابه عن أحداث 22/ 6/ 1422هـ، الموافق 11/ 9/ 2001م [4] . ورغم تركيز المؤلف على الجاليات المسلمة في أوروبا، فإن لديه معلومات محدثة عن الوضع في البلاد العربية والإسلامية، مما يوحي بأن أوليفييه روا مشروع مستشرق جديد ينطلق في عصر العولمة، إلا أنه يعتمد في معلوماته، بالإضافة إلى التقارير والصحف، على خلفية كثير من الأوروبيين والغربيين عمومًا عن الإسلام والمسلمين، تلك الخلفية القائمة على عدد من المحددات للعلاقة بين الشرق والغرب، لا يستطيع المتحدث عن هذه العلاقة إغفالها أو التغاضي عنها، وإن كانت هناك رغبة في تناسي بعضها؛ كالحروب الصليبية التي امتدت في تسع حملات لأكثر من مائتي سنة، لكنها لم تحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها. كما لا يُغفل أوليفييه روا بعض المحددات الأخرى؛ كالتنصير الذي لا يزال قائمًا ومنطلقًا في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، ومن خلال الأساليب المعروفة لهذه الحملات التنصيرية. ثم من المحددات كذلك الاستشراق الذي يُعَدُّ المؤلِّفُ مشروعًا جديدًا من مشروعاته، مما يستدعي العناية به، ودعوته إلى مزيد من الحوار والنقاش؛ إذ إنه من خلال قراءة كتابه: عولمة الإسلام، رغم ما ورد فيه من أفكار تستحق النقاش والرد، فإن القارئ يرى فيه مشروع مستشرق منصِف، يصف الحال كما هي عليه، وإن أدخل على هذه الحال أو تلك قدرًا من التحليل كما يراه هو، لا كما هو الواقع بالضرورة. مهما يكن، فإن العولمة تعد أحد المحددات للعلاقة بين الشرق والغرب [5] ، بالإضافة إلى محددات أخرى غير ما ذُكر سبق التطرق لها في وقفات سابقة؛ كالاستشراق الذي لا يتوقع له أن ينقشع في ضوء بزوغ نجم العولمة،وإذا كان الأمر كذلك فإنه من المهم العناية بهذا المحدد من منطلق الحوار مع الآخر، الذي كان وسيظل ركنًا من أركان التفاعل مع الثقافات الأخرى. وما الكتاب الذي جرى ذكره هنا إلا وسيلة من وسائل هذا الحوار المطلوب على مختلف الصعد؛ لبيان الحق، وإيضاح ما دخل في حيز الأوهام لدى أولئك الذين يُقبلون بقوة على الحديث عن هذا الدين الحنيف من خلال ممارسات بعض المنتمين إليه أحيانًا، مما يؤدي إلى الحكم عليه من خلال هذه الممارسات أو تلك. [1] انظر: أوليفييه روا ، عولمة الإسلام/ ترجمة: رولا معلوف - بيروت: دار الساقي، 1424هـ/ 2003م - ص 222 . [2] انظر: محمد أركون ، العلمنة والدين/ ترجمة: هاشم صالح - بيروت: دار الساقي، 1996م - ص 136. [3] انظر: أوليفييه روا ، تجربة الإسلام السياسي/ ترجمة: نصير مورة - ط 2 - بيروت: دار الساقي، 1996م - ص 213 . [4] انظر: أوليفييه روا ، أوهام 11 أيلول: المناظرة الإستراتيجية في مواجهة الإرهاب/ ترجمة: حسن شامي - بيروت: دار الفارابي، 2003م - ص 118. [5] انظر في مجال الحديث عن العولمة: نعوم تشومسكي، وآخرون ، العولمة والإرهاب: حرب أمريكا على العالم، السياسة الخارجية الأمريكية وإسرائيل/ ترجمة حمزة المزيني - القاهرة: مكتبة مدبولي، 2003م - ص 276 ، ونعوم تشومسكي ، الهيمنة أم البقاء؟ السعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم/ ترجمة سامي الكعكي - بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م - ص 310 ، ومحاضير محمد ، العولمة والواقع الجديد/ تحرير هاشم مقر الدين - دار الإحسان: مكتب رئيس الوزراء الماليزي، 1423هـ/ 2002م - ص 251 ، وعلي بن إبراهيم الحمد النملة ، العولمة وتهيئة الموارد البشرية في منطقة الخليج العربية - ط 2 - الرياض: المؤلف، 1430هـ/ 2009م - ص 176 ، لا سيما قائمة المراجع من هذا العمل وغير ذلك كثير.
حمزة بن عبدالله بن عمر العدوي حياته وأثره في الجانب الاجتماعي والعلمي في المدينة المنورة المبحث الأول: ولادته ونشأته ووفاته: المطلب الأول: اسمه ونسبه: حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، يُكنى أبا عمارة، وواضح أن التسمية والكنية قد أخذت من اسم وكنية سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وهو ما يعكس عمق الترابط بين آل عمر بن الخطاب وآل البيت الكِرام، ينتمي حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل إلى بني عدي أحد بطون قريش، أبوه الصحابي عبدالله بن عمر بن الخطاب، وجده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وعمَّتُه أمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر زوجة النبي محمد، وهو أخو التابعي سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب لأبيه وأُمِّه، وأُمُّهما أمُّ ولد [1] . ولحمزة بن عبدالله من الولد: عمر، وأم المغيرة، وعبدة، وأمُّهم أمُّ حكيم بنت المغيرة بن الحارث بن أبي ذؤيب، وعثمان، ومعاوية، وأم عمرو، وأم كلثوم، وإبراهيم، وأم سلمة، وعائشة، وليلى، أمهاتهم أمهات أولاد [2] . المطلب الثاني: إخوته وأخواته: وله إخوة وأخوات؛ هم: سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وواقد بن عبدالله بن عمر، وبلال بن عبدالله بن عمر بن الخطاب [3] . المطلب الثالث: وفاته: تُوفي حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 110 في عصر هشام بن عبدالملك الأموي بعد حياة حافلة بالنشاطات العلمية والاجتماعية روى خلالها الكثيرَ من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم [4] . المبحث الثاني: حياته الأسرية وأقوال العلماء فيه: تحيط الغيومُ الحياةَ الأسريةَ لحمزة بن عبدالله، حاله في هذا كحال الكثير من أبناء المدينة المنورة، ولا تكشف لنا شمس لحقيقة إلا عن نَزْرٍ يسيرٍ من هذا الجانب، فقد ذُكِر أنَّ أُمَّه أمُّ ولدٍ لم يفصح عن اسمِها، ولعلَّها من اللواتي لم ينلْنَ حظًّا من العلم والتأثير، ومع هذا فقد ذكر أنَّ أمَّه كانت من صالحي أهل المدينة، وأنها أم أخيه سالم بن عبدالله [5] . تزوَّج فاطمة بنت سالم وأنجبت له ابنَه عُمَرَ بْنَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَوَلَدَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ حَمْزَةَ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ أَبُو أُسَامَةَ، وَغَيْرُهُ [6] . المطلب الثاني: أقوال العلماء فيه: قال علي بن المديني يقول: سمِعتُ يحيى بن سعيد يقول: فقهاء أهل المدينة اثنا عشر: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، وحمزة بن عبدالله بن عمر، وزيد بن عبدالله بن عمر، وعبيد الله بن عبدالله بن عمر، وأبان بن عثمان بن عفان، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، وإسماعيل بن زيد بن ثابت [7] . قال ابن أبي الدنيا: حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب في الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة، ويكنى أبا عمارة [8] . وقال عنه ابن عساكر: روى عنه الزُّهْري، وكان ثقة قليل [9] . المبحث الثالث: حياته العلمية وجهوده في هذا الجانب: المطلب الأول: شيوخه وطلابه: يفتخر حمزة بن عبدالله أن له شيوخًا من الصحابة الكرام، وممن أخذوا بحظٍّ وافرٍ من العلم الشرعي؛ وهم: أمير المومنين عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك بن النضر، والصحابية حفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وعبدالله بن الزبير بن العوام بن خويلد، وعبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل [10] . أما طلابه؛ فهم: حارث بن عبدالرحمن بن عبدالله بن سعد صدوق حسن الحديث، سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ثقة ثبت، سفيان بن سعيد بن مسروق بن حمزة بن حبيب ثقة حافظ فقيه إمام حجة وربما دلَّس، وصالح بن كيسان ثقةٌ ثَبَتٌ، صفوان بن سليم ثقة، وعبدالله بن حبيب بن قيس بن دينار ثقة، وعبدالله بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله ثقة، عبيدالله بن يسار ثقة، عتبة بن مسلم ثقة، محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، معاوية بن يحيى ضعيف الحديث، وموسى بن عقبة بن أبي عياش ثقة فقيه إمام في المغازي، يونس بن القاسم ثقة، يعقوب بن الزبير مجهول الحال [11] . المطلب الثاني: روايته للحديث النبوي: كان أهل المدينة مهتمُّون لدرجة كبيرة برواية الحديث النبوي فضلًا عن القرآن الكريم؛ وهو أمر طبيعي؛ لأن جنبات المدينة قد حوَتْ ذكرياتٍ ومشاهدَ قول الحديث ومناسبات قوله في السنوات الإحدى عشر التي قضاها النبي صلى الله وسلم في المدينة، وقد روى الحديث عن: أبيه عبدالله بن عمر بن الخطاب، وعمَّتِه حفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر [12] . وروى عنه: الحارث بن عبدالرحمن وحفيد أخيه خالد بن أبي بكر بن عبيدالله بن عبدالله بن عمر، وصفوان بن سليم، وأخوه عبدالله بن عبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسلم بن شهاب، وعبيدالله بن أبي جعفر المصري، وعتبة بن مسلم المدني، وعثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، والزُّهْري، وموسى بن عقبة، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، وأبو عبيدة بن عبدالله بن زمعة [13] . كما روى عَن عَائِشَة فِي الصَّلَاة، وَأَبِيهِ عبدالله بن عمر فِي الزَّكَاة وَالْحج وَالْجهَاد.. وفضائل عمر، وروى عَنهُ الزُّهْرِيُّ مُحَمَّد بن مُسلم، وأخو الزُّهْرِيِّ عبدالله بن مُسلم فِي الزَّكَاة، وعبيدالله بن أبي جَعْفَر، ومُوسَى بن عقبَة، وَعتبة بن مُسلم [14] . المبحث الثالث: الأحاديث التي رواها: روى حمزة بن عبدالله راوي مسلم الكثيرَ من الأحاديث في أبواب الحديث العديدة؛ منها: باب الشؤم عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَوْ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، شَكَّ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الشُّؤْمُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ))، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((وَالسَّيْفِ))، قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ مَنْ يُفَسِّرُ هَذَا الْحَدِيثَ، يَقُولُ: "شُؤْمُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَلُودٍ، وَشُؤْمُ الْفَرَسِ إِذَا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَشُؤْمُ الدَّارِ جَارُ السُّوءِ" [15] . كما روى بباب مسألة الناس، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ)) [16] . وعَنْ عَبَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُوتِيتُ بِقَدَحٍ فِيهِ لَبَنٌ، فَشَرِبْتُ حَتَّى رَأَيْتُ الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظَافِيرِي، ثُمَّ نَاوَلْتُ فَضْلِي عُمَرَ فَشَرِبَ))، فَقِيلَ: مَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الْعِلْمُ)) [17] . وَحَدَّثَنِي مَالِك، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ، وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ)) [18] . كما روى في باب "في طلب الحلال": أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَوْ أَنَّ طَعَامًا كَثِيرًا كَانَ عِنْدَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَا شَبِعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يَجِدَ لَهُ آكِلًا، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ مُطِيعٍ يَعُودُهُ، فَرَآهُ قَدْ نَحَلَ جِسْمُهُ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ امْرَأَتِهِ: أَلا تُلَطِّفِينَهُ، لَعَلَّهُ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ جِسْمُهُ، وَتَصْنَعِينَ لَهُ طَعَامًا؟ قَالَتْ: إِنَّا لَنَفْعَلُ؛ وَلَكِنَّهُ لا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، وَلا مِمَّنْ بِحَضْرَتِهِ إِلا دَعَاهُ عَلَيْهِ، فَكَلِّمْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُطِيعٍ: يَا أَبَا عَبْدالرَّحْمَنِ، لَوْ أَكَلْتَ فَيَرْجِعَ إِلَيْكَ جِسْمُكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَيَّ ثَمَانِي سِنِينَ مَا أَشْبَعُ فِيهَا شَبْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ إِلا شَبْعَةً وَاحِدَةً، فَالآنَ تُرِيدُ أَنْ أَشْبَعَ حِينَ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي إِلا ظِمْأُ حِمَارٍ" [19] . وروى: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، قَالَ: ((لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ))، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، كَثِيرُ الْبُكَاءِ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَرَاجَعَتْهُ عَائِشَةُ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ)) [20] . [1] المزي، تهذيب الكمال، 7/ 332. [2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7/ 67. [3] المزي، المصدر السابق، 7/ 333. [4] الذهبي، تاريخ الإسلام، 7/ 68. [5] ابن سعد، الطبقات، متمم التابعين، 1408. [6] المزي، تهذيب الكمال، 7/ 335. [7] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 15/ 207. [8] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 15/ 205. [9] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 15/ 205. [10] الذهبي، تاريخ الإسلام، 7/ 69. [11] الذهبي، تاريخ الإسلام، 7/ 69. [12] المزي، تهذيب الكمال، 7/ 333. [13] المزي، المصدر نفسه، 7/ 334. [14] ابن منجويه، رجال صحيح مسلم، 1/ 146. [15] معمر، الجامع، 116. [16] معمر، الجامع، 116. [17] ابن طهمان، المشيخة، 145. [18] ابن طهمان، المشيخة، 145. [19] مالك، الموطأ، 1753. [20] ابن الجعد، المسند، 244.
كتاب البديع في نقد الشعر للأمير أسامة بن منقذ تحقيق محفوظ أبي بكر بن معتومة صدر حديثًا " البديع في نقد الشعر "، تأليف : الأمير " أسامة بن منقذ" (ت 584 هـ)، تحقيق: " محفوظ أبي بكر بن معتومة "، نشر " مكتبة الثقافة الدينية "- القاهرة. وهذا الكتاب أحد مؤلفات الأمير المؤرخ الأديب الشاعر " أسامة بن منقذ " القليلة التي وصلتنا، والتي جمع فيها المؤلف ما تفرق في كتب العلماء المتقدمين المصنفة في نقد الشعر، وذكر محاسنه وعيوبه، كما قال في تقديمه للكتاب. ونجد أن "أسامة بن منقذ" قد وقفَ على: كتاب البديع لابن المعتز، وكتاب الحالي للحاتميّ، وكتاب المحاضرة للحاتميّ، وكتاب الصناعتين للعسكريّ، وكتاب اللُّمع للعجميّ، وكتاب العمدة لابن رشيق، فجمع من ذلك أحسن أبوابه، وذكر منه أحسن مقالاته، ليكون مغنيًا عن هذه الكتب وتضمين كتابه أحسن ما فيها. ويقرر أسامة بن منقذ أن هؤلاء كان لهم "فضيلة الابتداع، وله فضيلة الاتِّباع"، وبذلك حفظ لنا أسامة في كتابه ما ضيعه الزمن من بعض كتب مصادره. ويتكون الكتاب من خمسة وتسعين بابًا، ذكر فيها جملة من أبواب البلاغة، منوعة دونما ترتيب كما نرى في كتب البلاغة اليوم، فترى من أبواب علم المعاني: التتميم والاحتراس والتذييل والإسخاب والإطناب والمساواة. ومن أبواب البيان: الاستعارة والكناية والإشارة. والكتاب حافل بتلمس الأسباب التي تزين الأسلوب الأدبي وتكسبه الجمال والروعة، وأغلبه من معاني علم البديع، ويدلل على ذلك بعض الأبواب التي تدرس بعض خصائص الأساليب العربية، كباب النفي، والتذييل، والتسهيم، والتشطير، والمقابلة، والتطريف، والاعتراض، والمبادئ والمطالع، والأواخر والمقاطع، والتخليص والخروج.. وغير ذلك. كما تناول أسامة بن منقذ في كتابه باب السرقات الشعرية، حيث بين فيها المقبول وغير المقبول، بحسه النقدي الشعري، فأسامة من الشعراء الفرسان القلائل، والذي جال وصال في الميدانيين: ميدان الشعر وميدان الفروسية. وعرضَ أسامة كذلك في ثنايا أبواب كتابه مما يعرض للنصوص فيذهب بالكثير من بهائها، فحدثنا عن الحشو، والغلط، والتفريط، والفساد، والتناقض، والتهجين، والمعاظلة، والبرود، والجهامة، والتكلف، والتعسف، والمخالفة، والتثليم، وغير ذلك مما يقلل من قيمة النص، ويكثر من الأمثلة في كتابه، ويستعين بما يكون من القرآن الكريم وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور البلاغة اللفظية، ثم يتبع ذلك بأمثلة من الشعر والنثر. وقد حقق الكتاب من قبل على يد كل من د. "أحمد أحمد بدوي" ود. "حامد عبد المجيد"، وهذه المحاولة التحقيقية الجديدة قامت بخدمة النص، والتعليق عليه بما يلزم، والمقابلة على ما تواجد من النسخ الخطية لمتن الكتاب. والمؤلف هو أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري (488 - 584 هـ = 1095 - 1188 م)، أبو المظفر، مؤيد الدولة: أمير، من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر (بقرب حماة، يسميها الصليبيون Sizarar ) ومن العلماء الشجعان. له تصانيف في الأدب والتاريخ، منها (لباب الآداب) و(البديع في نقد الشعر) و(المنازل والديار) و(النوم والأحلام) و(القلاع والحصون) و(أخبار النساء) و(العصا) منتخبات منه. ولد في شيزر، وسكن دمشق، وانتقل إلى مصر (سنة 540 هـ) وقاد عدة حملات على الصليبيين في فلسطين، وعاد إلى دمشق. ثم برحها إلى حصن "كيفي" فأقام إلى أن ملك السلطان صلاح الدين دمشق، فدعاه السلطان إليه، فأجابه وقد تجاوز الثمانين، فمات في دمشق. وكان مقربًا من الملوك والسلاطين. وله (ديوان شعر) وكتب سيرته في جزء سماه (الاعتبار) وهي مذكرات أسامة بن منقذ في الحروب الصليبية مع ملحقها في أخبار الصالحين ومشاهد الصيد والقنص، كتبها بعد الثمانين.
الخطاب الإعلامي والثقافة العصرية لا يمكن البتة لأي مجتمع في التاريخ البشري أن يستغني عن المادة الإعلامية؛ وإلا ظلَّ صوتُه مكتومًا، وفكرُه مطموسًا، فعمد كُلُّ مجتمع إلى توظيف الآليات التي تُمكِّنه من التعريف بمقوماته والتعبير عن ذاته إعلانًا عن وجوده الإنساني، فقد كانت الفلسفة والحكمة لسانًا ناطقًا بثقافة اليونان قبل الميلاد، وكان الشعر لسان العرب حتى عَدُّوه ديوانًا لهم، فقالوا: "الشعر ديوان العرب"، وكانت العمارة لسانًا ناطقًا بحضارة الرومان، وهكذا أوجدت كُلُّ حضارةٍ لها مادةً تُخبِر عنها وتُميِّزُها عن غيرها من حضارات الدنيا، فلما تطوَّرت التقنية، ودخل الإنسان غمار العلوم التجريبية، فانفتح الأفق أكثر فأكثر أمام العقل البشري ليُعلن ثورته المادية المتسارعة؛ مما جعل الحدود تتقارب بل وتنصهر في بوتقةٍ واحدةٍ تحت مُسمَّى "العولمة"، غدا العالمُ كلُّه يعيش وكأنه في بيت واحد، تتناقل فيه الأخبار والمعلومات تباعًا وكأنها موجاتٌ في بحر واحد تتوالى دون توقُّف، فكان لا بُدَّ للإعلام من تطوير نفسه ومواكبة هذا التحوُّل المتسارع الذي أحدثته الرقميات، فبعد أن ظلَّ الإنسان يتلقَّف المادة الإعلامية من المذياع والصُّحُف والمجلات في وقت سابق حان دور الإعلام السمعي البصري مجسدًا في التلفاز الذي دخل البيوت العربية منذ الثمانينيَّات بشكل خاص، لتعقبه ثورة الصحون الهوائية بعد عقد من الزمن فتصبح "موضة عصرية" لا غِنى للبيوت عنها، فإلى حدود هذه المرحلة من التاريخ ظلَّ الخطابُ الإعلاميُّ مُحمَّلًا بثقافة جادة، استهدفت المتلقي من شتَّى الفئات استهدافًا واعيًا مشحونًا برغبة أكيدة في صناعة جيل واعٍ يمتلك ثقافةً عربيةً وإسلاميةً، وقادرٍ على الإبداع والإنتاج؛ ذلك أن المادة الإعلامية امتازت برُوح التنوُّع ودقة المقصد والامتلاء الثقافي الغني، فالمتلقي يومها كان يجد نفسه أمام موادَّ تمتح من الفكر والعلم والثقافة بشتَّى تشكُّلاتها البنيوية المختلفة، فكان الثَّراء البنَّاء عنوانًا للخطاب الإعلامي، فالمتلقي الصغير كان يجد في المشاهدة إضافة إلى المتعة والترفيه مادةً ثقافيةً عبر برامج التثقيف والمعرفة والصقل اللغوي التي كانت تُقدِّمها المادة "الكرتونية" المنتقاة بعناية والمقدمة بلغة عربية وفرنسية سليمة يستضمرها الطفل يومًا بعد يوم لتغدو جزءًا من التلقي المعرفي ينضاف إلى ما تصنعه المدرسة، وتزيد المادة الوثائقية بكلا اللُّغتين شحذ الأذهان الصغيرة وصقلها مع ما تحمله من ثقافة واسعة تزيد المدارك انفتاحًا والخيال اتساعًا تنداح دوائره، وينهل منها الكبار كذلك الذين يجدون في المواد الإعلامية جاذبيةً تجعل الكُلَّ أمام رهبة التلفاز صامتًا وهو يتلقَّى مسلسلًا تاريخيًّا يحكي بطولات العرب في فخرٍ، أو يسرد هزائمهم في حسرة، يُوثِّق الأحداث ويستقرئ التاريخ ليضع الجيل الجديد أمام مرآة التاريخ، فينظر ما كان منه ليستفيد، ويأخذ العِبْرة من الأسلاف، أو يتلقَّى مسلسلات علماء المسلمين في حلقات عديدة تُخصِّص كلّ واحدة لعالم جِهْبِذ قدَّم عبقريته على طبق من ذهب للعالم كلِّه، فيبصر المتلقي صغيرًا كان أو كبيرًا ما صنعه علماؤنا الأفذاذ فيدهش لذلك ويقف وقفةَ الإجلال للعلم الذي يُملمِل في داخله شغَفَ المعرفة وعِشْقَ العلوم. وتأتي المادة الدينية عبر أسئلة الإفتاء بحضور علماء كِبار يجيبون عن أسئلة الدين المشكلة على الأفهام، لحظتها يُطبِق الصَّمْتُ في كل البيوت، وتُرخَى الأسماع لالتقاط كل صغيرة وكبيرة ينطق بها العالم، فتعمُّ الفائدة في انتظار ما سيُسفر عنه لقاء آخر مع هذا العالم أو ذاك. هذه جملةٌ قصيرةٌ من المواد الإعلامية التي عَنَّتْ بالذاكرة، قبل أن يغشى الصحن الهوائي العقول، ويطبق على الأجفان ليغمض العيون عن رؤية هذه المواد الراقية ذات النفع الكبير، لتبدأ قصة التحوُّل في خطابنا الإعلامي الذي دخل غمار المنافسة مع الكثير من القنوات الفضائية التي استجدت فسلبت منا تلك المنافع، الأمر الذي اضطر معه إعلامُنا إلى ركوب الموجة منساقًا وراء التغريب الجارف، فلم يكن له بُدٌّ سوى الخضوع لجلاله، والخنوع لسلطانه، فجارى سفاسفه، وحاكى تفاهته حتى سقط في فَخِّ العولمة من حيث يدري أو لا يدري، فبات منغمسًا في صناعة موادِّه متغافلًا عن المقصد النبيل من الإعلام، فملأ الفقرات بالمسلسلات المدبلجة، ينفق من أجل شرائها الأموال الباهظة مع ما تبثُّه من سموم قِيَميَّة خطيرة، ويُنشئ البرامج المسفة، فبهت وجه الفكر، وخَفَتْ ضوءُ الثثقيف بعد أن فطن إلى أن الجيل الجديد ما هو إلا صناعة جديدة مشحونة بفكر التغريب، لا يأخذ إلا بالقشور التي يهواها، أما اللُّبُّ فهو عنه بعيد، لا حظَّ له منه، بعد أن زادت العوالم الرقمية الطين بلة، وحملت هذا الجيل على نَبْذ المنافع وحُبِّ المضارِّ دون أن يعي أنه إلى المهالك أقربُ، يجد في عوالم الفيديو وفي المواقع المختلفة ذات الطابع الترفيهي لذَّةً لا تُقاوَم، وفي مواقع التثقيف والمعرفة يلفي ضيقًا، ويستشعر مَلَلًا كأن الأرض تضيق عليه بما رحُبت، ففرغت الأذهان إلا من التفاهة والفَسْل، وعرا الألسنةَ خَطَلٌ وعِيٌّ، فلا تكاد تجد الواحد منهم قادرًا على الاسترسال بكلام فصيح بأيٍّ لغة، ولا يكاد مَن تتوسَّم فيه خيرًا أن يخطَّ قلمُه نصًّا؛ بل فقرةً تتماسك أجزاؤها حتى يملأها لحنًا، هذا إن لم يعجز قلمُه عن الكتابة، إنه جيل المعرفة الجاهزة، لا جهد يبذله في سبيل التحصيل؛ لأن العالم الرقمي حقًّا قد أتى كالسيل العرم، فجرف معه العقول، وأخذ معه الأجساد، فلما كان الوضع على هاته الحال جرى الإعلام في نفس النَّسَق، كُلُّ همِّه أن ينافس ويسير وَفْق "موضة العصر الجديد" مُتجاهلًا القِيَم والأخلاق وصناعة الإنسان التي أُوكِلت إليه، من أجل تحصيل الأرباح وتحقيق مزيد من العائدات، فدَسَّ الوثائقيَّات والمسلسلات التاريخية والدينية والبرامج ذات الحمولات الثقافية والإبداعية في رفوفه، وجعلها جزءًا من التاريخ الإعلامي الذي كان مُشْرِقًا كُلَّ الإشراق، بخلاف ما نجده اليوم من ضعف ووهن سرى في الجسد الإعلامي المهترئ رغم الأقلام الناقدة التي حاولت أن ترُدَّه إلى جادة الصواب؛ إلا أنه سار ولا زال يسير في طريقه المتعنِّت للدرجة التي جعلت الرجل الذي لا يفقه شيئًا من أبجديات القراءة والكتابة يُعبِّر عن امتعاضه للمادة الإعلامية، ويُعلن عن سخطه مما يُقدَّم للمتلقي، فهو يدرك فقط بفراسته أن خطابنا الإعلامي سائرٌ نحو الحضيض إن لم نقل: إنه هاوٍ في الحضيض حقًّا. قد يحتجُّ الإعلاميُّون اليوم بحاجة المتلقي إلى مثل هاته الموادِّ ذات الطابع الترفيهي، والمفرغة من أيِّ محتوى تثقيفي وتعليمي لميله النفسي نحوها؛ إذ إن تقديم خطابات معرفية وفكرية لن يحظى بنِسَب مشاهدة عالية، خاصة في ظل العالم الرقمي اللامتناهي، صحيح أن هذا الاحتجاج مقبولٌ في هذا السياق التاريخي؛ إلا أنه لا يُمثِّل ذريعةً أمام الرسالة الإعلامية الملزمة بالاجتهاد في إعادة البريق إلى المادة المقدَّمة، وتوجيه دفَّة هذا الجيل إلى بَرِّ الأمان؛ لذا فالخطابُ الإعلامي ملزمٌ بأداء دوره في إطار حلقات تتكامل، منطلقها البيت الصغير الذي يسهم في التكوين النفسي للطفل عبر توجيهه نحو الاختيارات الصائبة التي تعود عليه بالنفع؛ مما يجعلها جزءًا من ثقافته في مراحل لاحقة، ويأتي دور المدرسة في ترسيخ هذا التوجه عَبْر نَشْر القِيَم الأخلاقية والمعرفية البانية لجيلٍ قادرٍ على الإبداع، جيلٍ من شأنه أن يُفكِّر وينتقد ويمارس حقَّه في الانتقاء بوعي دون أن نغفل دور المجتمع المدني بهيآته المختلفة لنَشْر الوعي الجمعي بقيمة الفكر والثقافة والمعرفة ونبذ أشكال التفاهة والإسفاف التي تمارسها العوالم الرقمية والمادة الإعلامية، وتستطيع المؤسسة الدينية أن تزيد من تعزيز هذا الفكر الإيجابي منطلقة من الوحي بمضامينه القوية في هذا السياق، ومن التاريخ الإسلامي بما يحتويه من أمثلة داعمة للمشهد الفكري والثقافي الرائع، فعندما تتضافر كل هذه الحلقات ويُكمِل بعضُها بعضًا، حينها سينجح الإعلام في صناعة جيل قوي من الناحية الفكريَّة والمعرفية، جيلٍ يستطيع النهوض بأعباء الأمة، ويسير بها قدمًا نحو التقدَّم والازدهار؛ لأننا يومها سنكون قد صنعنا جيلًا حقيقيًّا يمتلك الحماس والقوة من أجل بناء الحضارة. وبِناءً على هذا الطرح فإننا لا نُحمِّل الإعلامَ كُلَّ المسؤولية فيما وصلنا إليه؛ لأنه يحتاج إلى وسائل مساعدة تُعينه في مهمته؛ لكننا نُحمِّله مسؤولية البدء؛ لهذا فهو مطالَب بالعمل الجادِّ من منبره الخطابي القوي ذي التأثير الكبير على المجتمعات؛ إذ نراه بمثابة الضوء الأخضر يُعلِن الانطلاق تحقيقًا لما نصبو إليه، فهو الكفيل بجرِّ القاطرة، والقادر على قيادتها في الآن نفسه، فإذا فعل سنكون على موعدٍ كبيرٍ مع التاريخ، نُحيي فيه ما واريناه الثَّرى، فنبعث من المراقد كلَّ جميلٍ راقٍ فقدَتْهُ النفوسُ في زمن العولمة؛ لأن فطرة الإنسان دومًا تنزع نحو الجمال ونحو القِيَم النبيلة، فلا بُدَّ أنها ستنبذ التفاهة، وتطمس كل مصادرها، ولسنا ندَّعي هنا سهولة الأمر على الإطلاق فهو محتاج إلى جهد وصفاء نيَّة وصدق سريرة، وتضافُر حقيقي وفعَّال لكل الحلقات التي ذكرنا؛ لكن الغلال ستُجْنى بعد عقد أو عقدين على الأكثر تبعًا لدرجات الاجتهاد، وسنعود بالخطاب الإعلامي إلى الواجهة ليعبر بصدق دون أن يمارس لغة الإخفاء، ويغدو وسيلةً حقيقيةً من وسائل التثقيف والتحفيز على الإبداع والتفكير والنقد؛ لا وسيلةً للترفيه وملء وقت الفراغ وقَتْل المَلَكات وبث القيم المشوَّهة، إعلام قادر على مسايرة العصر الجديد بكل تحدياته وصناعة ثقافة جديدة مواكبة للتحوُّلات الجذرية التي تقع في المجتمع، لا ينأى فيها عن العوالم الرقمية بما تحمله من صور إيجابية، وفي نفس الوقت لا ينجرُّ وراءها، فيظل مُتمسِّكًا بالريادة لا ينساق وراءها محققًا لنفسه توازنًا ديناميًّا كفيلًا يمنحه القدرة على إنجاز مشروعاته وتحقيق طموحاته.
السرقات الإلكترونية من الجرائم المنتشرة بكثرة عبر وسائل تقنية المعلومات والمواقع الإلكترونية السرقات الإلكترونية، ولها عدة صور تنتهي بأخْذِ مالٍ أو معلوماتٍ أو صورٍ خاصة أو أوراقٍ رسميةٍ أو أي عرض من ممتلكات المستخدم دون إذنه وقبوله، ورغم أن المسروق هنا يكون شيئًا معنويًّا عادة (أي: غير محسوس)، إلا أنه لا يزال نوعًا من السرقة التي حرَّمها الله؛ وذلك لأن السارق يأخذ ما لغيره بدون حقٍّ ولا إذن، بطُرُق ملتوية وغير مقبولة، وهذا فِعْلٌ مُحرَّمٌ، وربَّما يدخل في باب السرقة التي هي من كبائر الذنوب وتستوجب الحد؛ قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38]. وقد فرض الله حَدَّ السرقة ليكون رادِعًا ومانعًا لآفة السرقة، بحيث إذا طُبِّق على بعض الأفراد يردع البقية ممن تُوسْوسُ له نفسُه بهذه الجريمة في المستقبل؛ فينتهي عنها وينْعَم بعدها المجتمع بالأمن والسلامة من هذه الآفة؛ ولذلك لم يتهاون الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيق هذا الحَدِّ مهما كان، وعندما حاول أسامةُ بن زيد الشفاعةَ في المرأة المخزوميَّة التي سَرَقَتْ نهاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لعلمه بأن التهاوُن في إقامة الحَدِّ سيضعف أثرُه في رَدْع الناس، ويرجع انتشار السرقة من جديد، وجاء هذا في حديث عروة رضي الله عنه، حيث قال: إنَّ امْرأةً سَرَقَتْ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومُها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلمَّا كلَّمَه أسامةُ فيها تلوَّن وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( أتُكلِّمُني في حَدٍّ من حدود الله ؟!))، قال أسامةُ: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسولُ الله خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهْلُه، ثم قال: ((أمَّا بَعْدُ، فإنما هَلَكَ الناس قبلَكم؛ أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطمةَ بنت محمدٍ سَرَقَتْ لقَطَعْتُ يَدَها)) [1] . أمثلة لطرق السرقات التي تحدث عبر تقنية المعلومات والمواقع الإلكترونية: كثيرًا ما تصل رسائل إلكترونية من قِبَل نصَّابين تبدو على شكل الرسائل البنكية الرسمية لتخدع المستلم فيظنُّها مرسلةً من بَنْكه فيُدخِل معلوماتٍ حسَّاسةً، مثل: كلمة السِّرِّ، ورَقْم بطاقة الدَّفْع، والرَّقْم الوطني، ونحوها من المعلومات التي يستطيع بها اللصُّ الوصولَ لحسابات المستخدم وسحب المال منها، وأحيانًا تكون الروابط لمواقع تبدو مثل أحد الشركات أو المتاجر الكبرى فيُدخِل المستخدمُ معلوماته لشراء سلعة، وتتمُّ سرقة المعلومات بهذه الطريقة. عبر دخول متلصِّص لحسابات المستخدمين في مواقع الشركات والمتاجر الإلكترونية الكبيرة مثل أمازون وغيرها، وهناك يمكنهم شراء سلع على حساب الضحية أو سرقة معلومات مهمة؛ مثل: بيانات الدفع، والعنوان، وغيرها، وذلك بعد حصوله بشكلٍ ما على كلمة السِّرِّ واسم المستخدم، وكثيرًا ما يحدث هذا عند بيع الأجهزة الإلكترونية كالجوَّال والحاسوب، فبالرغم من مَسْحِها، فإن بعض اللصوصِ المحترفين يستطيعون استعادةَ الملفات المحذوفة. عن طريق استلام مكالمة هاتفية مسجَّلة برسالة مخادعة تقنع مستقبل المكالمة بأن الاتصال من جهة حكومية ونحوها، وتطلب منه الضغط على زِرٍّ مُعيَّن، ويتمُّ بعدها سَحْبُ المعلومات المخزَّنة في الهاتف الجوَّال. عن طريق الهاكر لقواعد البيانات من الشركات التي تُخزِّن معلومات عملائها. أحيانًا تصل اتصالات هاتفية من مجهول بسَرْد الأكاذيب مثل أنه عامل من شركة مايكروسوفت ويريد الاتصال بالجهاز لإصلاح ويندوز أو نحوها من الحيل والأكاذيب، فيُصدِّقه المستخدم ويقبل دعوته للاتصال بجهازه عبر الشبكة الافتراضية الخاصة (VPN)، وعندها يستطيع المتلصِّص البحث في الجهاز عن المعلومات الحسَّاسة والصور الخاصة والملفات الرسمية والحكومية مثل الهوية الشخصية ونحوها. وهناك طرق أخرى كثيرة، ولعل هذه أكثرها انتشارًا. تمييز المواقع والشركات ذات الثقة من غيرها: هناك علامات تُساعد المستخدم في تمييز الشركات ذات الثقة من الشركات غير الموثوق بها، وعلى الرغم من أنها ليست دقيقةً، ولا يمكن الجزم القاطع بها في الحكم على الموقع أو الشركة، إلا إنها قد تساهم كثيرًا في حماية المستخدم وتمكينه من معرفة بعض المواقع المشبوهة والابتعاد عنها؛ ولذا الأفضل التعامل مع الشركات الكبرى التي حظيت بثقة الناس؛ مثل: جوجل وأبل ونحوهما، والبعد عن الشركات التي لا يشتمل موقعها على أي نوع من أنظمة حماية المواقع، وتبدو غيرَ آمنة. أمثلة لأنظمة حماية المواقع: كما ذكرنا أن المواقع الموثوق بها عادة تحتوي على نوع من الحماية لتحمي مستخدميها وحفظ خصوصيتهم، وهناك عدة طرق للحماية، نذكر منها: أن يحتوي الموقع على نظام أمن طبقة النقل ( Secure Socket Layer ) أو باختصار ( SSL )، وتعرف ببدء عنوان الموقع بــ( https:// ) بدلًا عن ( http:// ). استعمال شركات الأمن الإلكتروني التي تُقدِّم خدمة تأمين شامل للمواقع لا سيما للشركات والمتاجر الإلكترونية، ومن أمثلتها ( SquareTrade ) و( Comodo SSL ) و( SiteLock ). كذلك تأمين قواعد البيانات والمُخَدِّمات ( Servers ) المخزنة بها داخل الشركات، وهذا لا يظهر للمستخدم ولا بد من البحث عمَّا إذا كانت الشركة المستضيفة لهذه البيانات تستخدم نوعًا من الحماية مثل تشفير البيانات، وأحيانًا تقوم الشركات باستعمال سيرفرات من شركات أخرى مثل: سيرفرات أمازون ( AWS )، وجوجل كلاود ( Google Cloud )، وميكروسوفت أزور ( MS Azure )، وغيرها، وهذه الشركات الكبيرة عادة لها إمكانات حماية قوية ويصعُب اختراقُها. صفات المواقع والشركات الموثوق بها: ومن صفات الشركات ذات الثقة أنها عادة: • تكون خالية من الإعلانات. • تكون لها منتجات ذات قيمة للبيع. • يكون لها موقع احترافي ( Professional Website ). • تكون عادة شركات كبرى ومشهورة، ولها أكثر من مكتب واحد، ولها فروع في أكثر من موقع. صفات المواقع والشركات المشبوهة: من العلامات التي عادة ما تُثير الشُّبْهة حول الموقع أو الشركة أنها توفِّر خدمات مجانية دون أي مقابل، فكثيرٌ من الشركات التي لا توفر غير المنتجات المجانية يكون هدفها هو التجسُّس وسرقة البيانات وإرسال الدعايات المزعجة. تصميم مواقعها عادة غير احترافي أو به روابط لا تعمل. مواقعها تكون عادة مليئة بالدعاية والصور ذات الألوان الصارخة. تظهر عادة في مواقعها نوافذ منبثقة ( Popup Windows ) تطلب الإجابة عن سؤال بالضغط على زِرٍّ، مثلًا تظهر رسائل عن ربح جائزة مثل رحلة سفر بعد الرد على بعض الأسئلة، ثم ما إن يبدأ المستخدم بالمشاركة بالإجابة عن سؤال، حتى يتبعه سلسلة من الأسئلة التي تدعوه لشراء سلعة للحصول على الجائزة أو الاشتراك في خدمة ونحوها، وحتى إن فعل تأتي رسائل أخرى عن شراء سلع وخدمات أخرى، وهكذا تُدخِل المستخدم في متاهات، وتجعله يشتري أشياءَ لم يكن يحتاج إليها أو يريد شراءها، وبعد كل هذا عادة ما لا يحصل المستخدم على أي شيء ذي قيمة؛ بل يتم خداعه، وتضييع وقته، والحصول على معلومات منه تُستخدَم في التسويق. أنها تسرق معلومات المستخدم المخزنة في ملفات الارتباط ( Cookies )، وبعد تصفُّح الموقع عادة ما يصل لمتصفِّحه كمٌّ من رسائل الدعاية عن طريق البريد الإلكتروني أو رسائل الجوَّال وغيرهما، ويتم ذلك عادة بزراعة برامج خبيثة للدعاية ( Malware ) في جهازه. السرقات الإلكترونية من منظور مقاصد القرآن الكريم: السرقات الإلكترونية هي أخْذُ حَقٍّ دون وجْهٍ، ويتضرَّر منها المسروق منه؛ ولذا فقد تدخل ضمن السرقات العادية والتي هي محرمة شرعًا بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وتتناقض مع مقصد التشريع أو الأحكام. السرقة عملية لا أخلاقية، وهذا يتناقض مع مقصد تهذيب الأخلاق. السرقة فيها ظلمٌ، وتُزعزِع أمْنَ المجتمع واستقراره، وتتناقض مع مقصد سياسة الأمة وأمن الدولة، فتنشر الفساد والذُّعْر وعدم الأمن وتتناقض بذلك أيضًا مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية. السارق لا يرتدع للوعيد، وهذا يتناقض مع مقصد المواعظ، والإنذار، والتبشير، والوعيد. النصائح والضوابط المقترحة: يجب الحذر من الرسائل المشبوهة وعدم التسرُّع بفتح الروابط فيها إلا بعد التأكُّد أنها من الجهة المعنية كالبنك ونحوه، وعادة الرسائل المشبوهة تُعرَف بالنظر إلى الإيميل المرسلة منه، فإذا لم يكن ينتهي باسم الشركة المعنية، يجب ألا يفتح الرابط من غير البحث في أمرها، وكثيرٌ من الأحيان إذا نسخ المستخدم نصَّ الرسالة وبحث عنه في مُحرِّك جوجل، يجد أن مستخدمي الإنترنت تحدثوا عنها، وأنها تحتوي على غش ( Scam )، ويُحذِّرون منها. يجب تجنُّب التعامل مع الشركات غير الموثوق بها بقدر الإمكان، ومع الوقت واستخدام الإنترنت لعدة أعوام يكتسب المستخدم الخبرة والحِسَّ الذي يجعله يُحدِّد إذا ما كان الموقع أو الشركة آمنًا أو لا إلى حَدٍّ كبير. [1] أخرجه الألباني في صحيح النسائي (٤٩١٨) وصححه.
وسقطت جوهرة الأندلس بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فترجع فكرة فتح مدينة الأندلس إلى زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ حيث كان عقبة بن نافع الفهري يفكر دائمًا في اجتياز المضيق من إفريقيا والذهاب إلى إسبانيا إن أمكن حدوث ذلك. ويُذكر أن موسى بن نصير قبل أن يفتح الأندلس بسنوات أرسل ابنه عبدالله في سنة 89 هجرية؛ لكي يفتح جزر الأندلس الشرقية، أو جزر البليار وميورقة ومنورقة، وقد عد هذا الفتح المبكر أحد العوامل التي سهلت فتح الأندلس. الأندلس هي اسم الأرض الواقعة تحت الحكم الإسلامي في شبه جزيرة ألبيريا، أو ما يعرف الآن بإسبانيا وأجزاء من البرتغال، وأراضي جنوب فرنسا، وكانت الأندلس تسمى بإسبانيا الإسلامية، وقد أصبحت من الولايات التابعة للخلافة الإسلامية في عصر الأمويين بعد فتحهم لها سنة 711 ميلادية. فتحت الأندلس تحت قيادة القائد العسكري طارق بن زياد عام 711 ميلادية الموافق 92هجرية؛ حيث توجه الجيش الإسلامي لمضيق طارق وهاجم جيش الملك رودريك، وانتصر المسلمون فيما يعرف بمعركة "لكة". وقد استمر الفتح لعام 726 ميلادية الموافق 107هجرية، وقد امتد الوجود الإسلامي إلى ثمانمائة سنة تقريبًا. أسهم المسلمون في الأندلس إسهامًا حضاريًّا قلَّ أن نجد له مثيلًا في التاريخ الإنساني، ولا تزال إلى يومنا هذا تأثيرات الأندلسيين واضحة المعالم، فقد خرجت الأندلس علماءَ في كافة التخصصات، استطاعوا أن يُطوروا العلوم وأن يؤسِّسوا لحضارة إسلامية أندلسية عريقة خالدة، تضم أرض إسبانيا حاليًّا العديد من المعالم المهمة والبارزة التي تعود إلى الحقبة الإسلامية في أرض إسبانيا، ولعل أبرز هذه المعالم: قصر الحمراء الذي يعتبر علامة فارقة من علامات العمارة الإسلامية، بالإضافة إلى بقايا من مدينة الزهراء التي كانت تعتبر واحدة من أهم المدن الأندلسية على الإطلاق. وجامع قرطبة الذي يرجع إلى القرن الثاني عشر الميلادي، والعديد من المعالم الأخرى المميزة التي تسهم بشكل كبير في استقطاب السياح من كل أنحاء العالم. ومن أشهر العلماء الذين كانوا نتاجَ الوجود الإسلامي في أرض إسبانيا: الطبيب أبو القاسم الزهراوي، والصيدلي أبو جعفر الغافقي، والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، والفيلسوف ابن رشد، والشاعر ابن زيدون وابن حزم، والعديد من العلماء وعلماء الدين، والفنانين والشعراء. وفي مثل هذه الأيام سقطت الأندلس عام 1492ميلادية كانون الثاني - يناير، وانتهى الحلم الإسلامي في أوروبا، وذلك بعد تحقُّقه مدة ثمانية قرون. وقد اختلف الكثيرون في رصد الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى ذلك حتى أوصلهم الدكتور عبدالحليم عويس إلى أربعين سببًا، وسنحاول في هذه الإطلالة أن نسلط الضوء على أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس جوهرة المسلمين. 1- غلبة العوامل العنصرية من قبلية وقومية على وشيجة الإسلام والأخوة الإسلامية. 2- ضعف العقيدة الإسلامية في النفوس والضمائر، وتطويعها لخدمة القومية والعنصرية والوطنية. 3- تغليب المصالح على المبادئ، وبالتالي التحالف مع أعداء الإسلام ضد إخوان العقيدة، وشركاء الحضارة والمصير، واستمر الخلاف قائمًا حتى قال شاعرهم: ما بال شمل المسلمين مبدَّد فيها وشمل الضد غير مبدد واستمر الخلاف حتى كان بنو وطاس ينتمون إلى بطن من بطون بني مريد، وينافسونهم في طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبدالحق بطش بهم، وقتل معظم رؤسائهم،.... وأسلم عبدالحق زمام دولته إلى اليهود، فبغوا وعاثوا في الدولة فسادًا كعادتهم. فهذا المعتضد بن عباد يذهب إلى ملك قشتالة، ويطلب منه الصلح ويدفع له المال...... بل ضعف مفهوم الولاء والبراء، حتى إن بعض حكام المسلمين استوزروا وزراءَ نصارى ويهودًا يُصرفون لهم أمور دولة الإسلام. وهذا أبو عبدالله الصغير سلطان غرناطة الأخير يرسل رسالة إلى ملك الإسبان، يعتذر فيها عما فعله أبو عبدالله الزغل في إحدى المعارك ضد النصارى من قتل وجراح، ولَما سقطت مالقة وحوِّل مسجدها الأعظم إلى كنيسة - رده الله إلى أصله - أرسل أبو عبدالله الصغير إلى ملك النصارى يهنئه في ذلك، وسبب فرحه أنها كانت معقلًا لمنافسه عمه الزغل. إن موالاة أعداء الإسلام الصليبيين، وإحسان الظن بهم، من أهم الأسباب التي عززت سقوط الأندلس، ففي عهد ملوك الطوائف أنشأ حكام الأندلس علاقات حسنة مع الصليبيين، واستعانوا بهم، وآمنوا بعهودهم، ومن أمثلة ذلك: ما قام به ابن رزين حسام الدولة؛ حيث أهدى الملك الإسباني ألفونسو الهدايا النفيسة، وذلك من أجل تهنئته لاحتلاله مدينة طليطلة، وما كان على ملك إسبانيا إلا أن يقدم له قردًا احتقارًا له، ولكن حسام الدولة ظن أن ذلك فخر كبير. ومن ذاك قصة أحد الولاة واسمه أبو زيد هذا الرجل ثار عليه أهل بلنسية، فلما ثاروا عليه وأرادوا خلعه، قام وعقد لواءً، وذهب إلى ملك النصارى خاينوي، واتَّفق معه أن يقوم أبو زيد ويعطي ملك النصارى جزءًا من بلاد المسلمين، وأن يقدم الجزية لملك النصارى. ونجد مثالًا آخر: ابن الأحمر عقد معاهدة مع ملك النصارى ملك قشتالة، اتَّفق معه على أن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة باسم ملك قشتالة، وفي طاعته، وأن يؤدي له جزية سنوية، وأن يقدم له عددًا من الجند متى وأين طلب ذلك، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة باعتباره من الأمراء التابعين للعرش، وأن يتنازل له عن بعض بلاد المسلمين، وبالفعل سلم ابن الأحمر لهم جيان وأرجونة وبركونة، وبيغ والحجاز وقلعة جابر للنصارى، وفي سنة 645 هجرية ساعدهم في حصارهم للحاضرة الإسلامية إشبيلية والاستيلاء عليها. وبسبب هذا التخاذل سقطت كثير من الولايات الأندلسية في الفترة الزمنية من عامي 627 هجرية إلى 655 هجرية، وكان سقوط أكثر ممالك المسلمين في الأندلس في أقل من ثلاثين عامًا، تنقلب خارطة الأندلس ويتمكن منها عبَّاد الصليب، وتُصبح معظم الأندلس أرضًا نصرانية تحارب الإسلام بكل ما تملك من أجل سحقه ومحوه من الوجود. 4- إلغاء الخلافة الجامعة وظهور الطوائف: وعهد الطوائف هو عهد التفكك وعهد من السنوات الصعبة من الفرقة والتنافس والتشتت والضياع، بدأ عندما أعلن أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور إلغاء الخلافة، ويكفي أن تعلم أنها بلغت دول الطوائف في فترة من التراث بلغت سبعًا وعشرين طائفة أو إمارة أو دويلة، تتنافس فيما بينها، فبعد أن كانت الأندلس دولة واحدة، تحولت إلى كم، إلى سبعة وعشرين دولة، وصدق الشاعر وقتها حين وصف هذا الوضع الصعب، فقال: ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد 5- تخلِّي جمهرة من العلماء والدعاة عن رسالتهم، وعدم سماع الحكام والأمراء لنصيحة العلماء المخلصين: تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم وخيانتهم للمسؤولية الإسلامية العامة، وعلى مرأى ومسمع من هؤلاء جميعًا، سقطت معظم المدن الإسلامية الأندلسية، وتشاغل كثير من العلماء بشؤونهم الخاصة عن شؤون أمتهم، وانشغلوا بالخلافات الفرعية. يقول ابن حزم وهو ممن قام بواجبه رحمه الله، يقول: ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرَّهم، الناصرون لهم على فسقهم. ويصور أحد الشعراء حالة العلماء وحالة الفساق، وعبَّر عن الوجهاء من الفساق بالكلاب قال - وهذه مدينته أو قريته اسمها بسطة -: الكلب صار ببسطة أعلى وأشرف من فقيه أنَّى فقيه يعتلي لمحلِّه أو يرتقيه ولذلك سقطت الأندلس لما لم يسمع للعلماء، ولم يسمع تحذيراتهم، وكان معظم العلماء يغلب عليهم التعصب للرأي والمذهب والجنس والوطن. 6- الانغماس في الشهوات والركون إلى الدعة والترف والتكاثر المادي، وتبديد طاقة الأمة في بناء القصور المترفة، والمساجد المتحفية، وانتشار المخدرات والخمور. يقول المؤرخ هوفووهو نصراني؛ يقول العرب: هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يَميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال في الشهوات. ويقول شوقي أبو خليل عن تلك الحقبة: لقد استناموا للشهوات والسهرات الماجنة والجواري الشاديات، وإن شعبًا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة، لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد، وخذوا بعض الأمثلة على هذا الأمر: ذكر عدد من المؤرخين أن أسباب مقتل ابن هود أنه تنازع هو ونائبه ووزيره في المرية محمد الرميمي على جارية نصرانية، كل منهم يريدها لنفسه، والعدو يتربص بهم، فقام الوزير ودس من قتل ملك المسلمين أحد ملوك الطوائف ابن هود بسبب جارية نصرانية. ويقول عبدالله عنان في نهاية الأندلس: عن أبي الحسن أحد ملوك بني الأحمر أنه ركن في أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل في أهوائه وملاذِّه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحسن، أُخذت سبيَّة في إحدى المعارك، واعتنقت الإسلام كما يقولون. ولهذا حل بالأندلس ما حل بها، وانشغل المسلمون في بناء القصور وبناء الدور، وبناء المزارع والبساتين، وعدوهم يعبث ويعمل عمله الرهيب حتى أتاهم على حين غرة. دخلنا الأندلس عندما كان نشيد طارق في العبور: الله أكبر، وأضعنا الأندلس عندما أصبح نشيد المسلمين دوزن العود وهات القداح راقت الخمرة والورد صحا ضاعت الأندلس لما انتشر اللهو والغناء والموسيقا، والانحلال والخمور، وشتى صور الفساد والفسق والفجور. 7- فساد القلوب والضمائر وانتشار الأمراض القلبية من حقد وحسد وبغضاء، وآفات اللسان من غيبة ونميمة وغيرهما. 8- الاستهانة بالدماء، مما سبب معارك ضارية بين المسلمين من أجل نزوات الحكم وشهوات النفس، ودوافع العنصرية. 9- فساد النظام السياسي، وقيامه على الحكم المطلق البعيد عن الشورى وعن العدل؛ مما أصاب الأمة بالظلم، وعدم الولاء، وهما بداية خراب الأمم، وكذلك إسناد المناصب المالية والإدارية إلى أهل الثقة والولاء للنظام والدولة. 10- إبطال فريضة الجهاد ضد أعداء الإسلام، وإخضاع الأمم لمعاهدات استسلام ضد المسلمين لمصالح سياسية، ولم يترك المسلمون في الأندلس الجهاد فقط على أساس أنه فرض عين، بل تركوا معه الإعداد للجهاد والوسائل المادية والمعنوية اللازمة له. 11- المعاهدات السرية التي كانت تُبرم بعيدًا عن الشعب، وفيها من صور الخيانة الكثير. 12- للنساء نصيب في سقوط الأندلس، وقد تدخل بعضهن في شؤون الحكم، فنشرن البغضاء والصراعات من وراء الكواليس، كما نشر بعضهنَّ الفساد والانحلال، ومنهن ولادة بنت المستكفي. 13- تجلَّى الدور الخياني لبعض العائلات المعروفة مثل عائلتي بني سراج، وبني أشقونة لتحقيق مآرب مصلحية ضد عائلة نصر في غرناطة. 14- قيام بعض أمراء بنى نصر برهن أبنائهم لدى النصارى مقابل الوصول للحكم. 15- تعويق حركة الدعوة بالوسائل الدعوية المعروفة والمتدرجة، والاعتماد على الحروب من أجل الدولة لا الدعوة. 16- الاستهانة بالأعداء أثناء فترات القوة. 17- أدى طمع الوزراء في السلطة، واستبدادهم بها إلى قيام الوزير خالد وزير السلطان يوسف الثاني بقتل إخوة السلطان الثلاثة حبًّا وطمعًا في السلطة. 18- يُعد عقوق الأبناء سببًا في سقوط الأندلس. 19- كثرة الثائرين والمتمردين نتيجة غياب الشورى والعدل، وغياب المؤسسات الإسلامية الكفيلة بتحقيق المساواة بين الجميع، فظهرت ثورات عديدة تطالب وتنادي بالاستقلال الذاتي، ومن أشهر هذه الثورات تلك التي قادها عمر بن حفصون الذي استطاع من خلالها أن يعزل قرطبة عن سائر المناطق الأخرى، ثم اتصل بالعباسيين في العراق والأغالبة في إفريقية، ولما يئس من الوصول إلى أهدافه أظهر ما كان يبطنه من النصرانية عام 899 ميلادية. وكان الأعداء يتربصون بالإسلام في الأندلس، فملوك النصارى في الشمال لا يكلون ولا يملون في زرع الجواسيس، وتفجير الثورات، ودعم المنشقين من أجل القضاء على الإسلام والدولة العبيدية الفاطمية الرافضية في إفريقية تحالفت مع ابن حفصون النصراني المرتد ضد مسلمي الأندلس، وأرسلت الدعاة، وأسسوا حزبًا رافضيًّا في الأندلس، وتستروا بالطرق الصوفية. لقد كانت الشبكات التخريبية الاستخباراتية التي فجرت الثورات وتسترت بالإسلام من الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة الأندلس الإسلامية، وزوال الإسلام منها. 20- كان لنظام ولاية العهد الوراثي حتى مع عدم الجدارة، أثره في سقوط الأندلس وسوء سياسة الولاة، وإرهاق الناس بالضرائب والجبايات، والإتاوات والمكوس التي ما أنزل الله بها من سلطان لسداد مطالب القشتاليين الذين كثُر عبثهم وغدت لهم السيادة الحقيقية. 21- اختراق اليهود والمسيحيين للقلب الإسلامي، وسيطرتهم على بعض مواقع التأثير وتدبير المؤامرات ضد المسلمين، واستغلال فترات الضعف. وقد ذكر أن ملك قشتالة بثَّ القسيسين والرهبان من البرتغال إلى القسطنطينية ينادون في البلاد من البحر الرومي إلى البحر الأخضر: غوثًا غوثًا، ورحمة رحمة؛ أي: ينادون بني جلدتهم، فجاء عبَّاد الصليب من كل فج عميق. ويذكر أيضًا أن البابا فرستان الثاني توسط بين مختلف الأمراء الإسبان، فوفَّق بينهم، وسَرعان ما نسوا خصوماتهم وهم يعتقدون جازمين أنهم جاؤوا من كل أصقاع أوروبا لنُصرة دينهم على دين آخر. ونجد أيضًا اتحاد ملك قشتالة وأراجون بزعامة فرناندو الخامس وإيزابيلا من أسباب سقوط الأندلس تزوَّجا واتَّحدا في مملكة واحدة، هي مملكة قشتالة لإسقاط الأندلس، فكانت أراجون وقشتالة وممالك الشمال، تشبه الكِيان الصهيوني حاليًّا، فكانت سرطانًا في جسد الأندلس. وكانت أوروبا تقف وراء مملكتي قشتالة وأراجون مستخدمة وسائل دبلوماسية وكنسية وعسكرية. 33- غدر النصارى ونقضهم للعهود: النصارى لا يقلون في غدرهم عن اليهود، وكذلك في نقض العهد والميثاق سواء بسواء، دخل النصارى ابده، ونقضوا العهد المقطوع، واقتحم الجنود النصارى المدينة، وقتلوا من أهلها ستين ألفًا، وسبَوا مثلهم، وهذا بأمر من أحبارهم وباباواتهم وملوكهم. وعندما احتل الطاغية الإغواني بلنسية، ووقَّع المعاهدة، رحل عنها عشرات الألوف من أهلها، وحُوِّلت المساجد إلى كنائس، ونال المسلمون من كل أنواع الاضطهاد. والمعاهدة التي عقدت لتسليم غرناطة نقضت بعد سبع سنوات فقط؛ يقول لوبون في حضارة العرب: إن الراهب بليدة أبدى ارتياحه لقتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من مائة وأربعين ألف مهاجر مسلم، حينما كانت متوجهة إلى إفريقيا هؤلاء يريدون الهرب من الأندلس، ولكن ما رضي النصارى بهروبهم، فقتلوا منهم مائة ألف دفعة واحدة. 34- انحراف شيوخ الغزاة المجاهدين عن أهدافهم ومسارهم الجهادي، وطمعهم في عرض الدنيا. 35- ضعف الفقه الحضاري، وغياب الوعي بسنن الله الاجتماعية في نِقم الأمم وسقوطها، كان هذا وراء انحدار الأمور في الأندلس، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المراجع والمصادر التي اعتمدت عليها: 1- دكتور عبدالحليم عويس: أربعون سببًا لسقوط الأندلس. 2- دكتور خالد الجابري: سقوط الأندلس التاريخ يعيد نفسه. 3- مشاري بن علي النملان: فتح الأندلس ، مقال بموقع الألوكة 17- 1- 2017. وغيرها.
الحرية مسؤولية الإنسان هو محور أي عمل في الإسلام وإصلاح أحواله وزيادة شوكته وهمته، والارتقاء به وصلاحه وإنسانيته وكرامته، وعلو همته إلى أعلى وأفضل ما يمكن من مستوى - هو الشغل الشاغل لمنهج الإسلام، ومن تلك الأسس تربية الإنسان على امتلاك سيادته الذاتية، وزمام أموره، وعدم تبعيته لأي أحد على غير هدًى وبصيرة، وربَّى الإسلام داخل المسلم الإحسان لكل الناس، وعدم الإساءة لأحد حتى لو أساء له، وعدم الانقياد الأعمى لأي أحد؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167]. وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 66، 67]، موضحًا التخاصم بين التابعين والمتبوعين، ولعل الفكر الإسلامي كان واضحًا في أن الحرية هي مسؤوليتك التي ترتقى بنا بعيدًا عن الانقياد الأعمى دون هدًى، والحرية هي قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته وشخصه، والحرية في الفكر الإسلامي ليست الفوضى واتباع الهوى والشهوات، دون قيد أو ضوابط شرعية، إنما هي مسؤولية الفرد عما أعطاه الله من حرية وأمانة، ومعايشته للكون والبيئة التي يعيش فيها، ومراعاته لكل البشر، وألَّا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام، وتقويض أركانه، وألَّا تفوت حقوقًا أعم منها، وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها، وألَّا تؤدي حريتك إلى الإضرار بحرية الآخرين. والإسلام ربَّى المسلم على عدة قيم تثبت ذلك؛ ومن ذلك: رفض سكوت المظلوم عن حقه المغتصب، بل اعتبر ذلك ظلمًا لنفسه، وأيضا رفض الإسلام الاعتذار الضعيف؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 39 - 41]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]. وحرَّر الإسلام المسلم من الضعف والاستكانة، وجعل الرجولة الحقيقية هي الإيجابية المعترف بها للوجود الإنساني؛ بحمل الأمانة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]. ومما لا شك فيه أن المسلم بإسلامه يتحرر من التبعية البغيضة، ويكافح ويربي نفسه على المسؤولية في الشدائد، ويقوِّي عزيمته وهمته لمواجهة الصعاب بشجاعة ومسؤولية ورجولة وتصميم؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. وعن خباب بن الأرتِّ: ((شكونا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ [البخاري في المناقب]. وفي كلام الحبيب تربية على التحرر من الخوف والمسؤولية، وعدم التبعية، والانقياد الأعمى بالخوف، إنما ننقاد للإسلام وأصوله التطبيقية، حتى مع اختلاف البيئات والأحوال والظروف، ويضع الإسلام المسلم في أبهى صورة وأفضل مكانة، أينما كان يعيش، وكيفما كان يعيش، والمسلم بإسلامه يكون مسؤولًا عن حريته، ومن تلك المسؤولية ألَّا يخاف؛ فالخائف مريض مختص الهمة، غافل عن كل ما حوله، فمسلم الحرية لا يخاف على حياته، ولا على رزقه؛ فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145]، وقد عبَّر عن المعنى السابق الفاروق عمر رضي الله عنه: "ألا وإنه لن يبعد من الرزق ولن يقرب من الأجل أن تقول حقًّا"، والإسلام فاز وانتشر بدافع من فهم الحقائق السابقة، فنُشرت "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بدون الخوف على الحياة، فكانوا نبراسًا حقيقيًّا واقعيًّا، ونموذجًا تربويًّا للحرية والمسؤولية، والجهاد في سبيل الله، والموت في سبيل الله كانت أسمى أمانيهم. والحبيب محمد صلى الله عليه وسلم كان داعيًا لأغلى سلعة؛ هي الإيمان، وصحة العقيدة، وعلو الهمة والكرامة، والحرية، وتربية الإنسانية على أن الدنيا ليست هي المحدِّدة لمقدار أرباحك عند طاعتك، فلا حدود لأرباحك في الآخرة بالنسبة لمقاييس الدنيا، فنعيمك مقيم، وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والدستور التربوي الإسلامي يضع حريتك كإنسان مسلم، ومسؤوليتك عن تلك الحرية، وعدم تبعيتك سوى لله ولرسوله، وتنفيذك لأوامر الله هي الدليل على الرجولة؛ قال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]، ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، وحريتك تعطيك القدرة على حمل الرسالة، وحسن العمل على نشر "لا الله إلا الله محمد رسول الله"، وعدم الحرص والبخل والخوف، وكل ما سبق ضد الحرية والمسؤولية وفضائلهم، فديننا دين الوسط، فلا بسط فيه للصرف، ولا قبض فيه للبخل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32]، ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]. وكما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان؛ حيث يبيح إشباعها، ويلبي مطالبها ضمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد حتى تستقيم وتحقق الخير للإنسان، ولا تعود عليه بالشر، كان هذا شأنه مع نزعة حب التملك الأصلية في الإنسان؛ فقد أباح الملكية الفردية، وشرع في ذات الوقت من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار الضارة التي قد تنجم عن طغيان هذه النزعة من فقدان للتوازن الاجتماعي، وتداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع، ومن النظم التي وضعها لأجل ذلك نظم الزكاة والإرث والضمان الاجتماعي، ومن ثَمَّ اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية، وشرع من التشريعات والتوجيهات ما يشجع على اكتسابه وتحصيله، ويكفل صيانته وحفظه وتنميته. فَلْيَنَلِ الإنسان المسلم نصيبه من الدنيا بحرية، وليدافع عن نصيبه من الدين بحرية دون الاعتداء على بني الإنسان، ودون عبادة للمال أو المنصب أو الجاه أو الخوف منهم أو عليهم؛ قال رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلغه غيره، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كانت الدنيا نيته فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))؛ [رواه ابن حبان، وصححه الألباني]. فحقًّا وصدقًا ويقينًا: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 33، 34]، فالله هو وحده الرازق المستحق للعبادة والخوف منه سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]. الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان؛ تلك هـي الحرية. والحمد لله رب العالمين. أهم المصادر: • القرآن الكريم. • تفسير ابن كثير. • صحيح البخاري. • صحيح مسلم. • سنن ابن ماجه. • مسند الإمام أحمد. • السلسلة الصحيحة للألباني. • الأخلاق في الإسلام، وزارة الأوقاف السعودية. • الأخلاق في الإسلام، الدكتور محمد عبدالقادر حاتم. • إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي.
جمال مشعل مقريزي القرن الواحد والعشرين علم الجغرافيا علمٌ نافعٌ وجامعٌ، ويُعتبَر من العلوم الضرورية لدراية التاريخ، والارتباطُ بينه وبين التاريخ وثيقٌ؛ فالأرض هي المسرح الذي حدثت عليه الوقائع التاريخية، ولا شك أن الجغرافي الكبير جمال مشعل ابن شربين الدقهلية أحد الشخصيات الثقافية العامة المُهِمَّة والمؤثرة في المشهد الثقافي المصري، وكان يمتاز بأنه إذا تحدَّث إليك لم يمكنْكَ من أن تسير معه كما تسير مع نفسك، وإنما يضطركَ إلى أن تُفكِّر وأن تجهد نفسَكَ في أن تَفهمَه وتُحِسَّه، فقد رحل عنَّا بجسده في يوليو من عام 2019م؛ ولكنه سيظل موجودًا بيننا بأعماله الأدبية العظيمة عبر الزمان والأجيال، وكان لزامًا علينا نحن أمانة مؤتمر الدقهلية الأدبي للدورة الحالية اختياره ليكون الشخصية العامة للمؤتمر في هذه الدورة، فهو كاتبٌ كبيرٌ كان لا يستطيع العيش بدون كتابه، وجغرافي ومؤرخ قدير، وصاحب بصمة حقيقية مشهود لها في المشهد الثقافي والأدبي، وقد ترك لنا عددًا كبيرًا من المؤلَّفات في الجغرافيا وأدب الأطفال وغيرهما، منها: • "موسوعة الأوائل (5 أجزاء). • موسوعة أسماء الناس (جزآن). • موسوعة أقوال الحكماء (مجلد). • موسوعة الطفل المسلم (مجلدان). • موسوعة الألغاز (مجلدان). • بالإضافة لموسوعة أوائل مصر والعمل الجغرافي والتاريخي العظيم موسوعة البلدان المصرية. وقد كان عضوًا بنادي أدب شربين، وباتِّحاد كُتَّاب مصر، وحائزًا لجائزة الدولة التشجيعية عام 2012م في العلوم الاجتماعية، كما شارَكَ في مؤتمرات ثقافية وأدبية عديدة في تركيا والكويت والسعودية والعراق ولبنان والأردن. خرج جمال مشعل من قرية كبيرة قابعة على الضفة الغربية لنهر النيل فرع دمياط تتميَّز بالحركة التجارية الواسعة والنشاط الاقتصادي الكبير، وتعرف هذه القرية بالضهرية، وهي قرية عريقة تتبع مركز شربين محافظة الدقهلية، وتُنسَب إلى الخليفة الفاطمي السابع الظاهر لإعزاز دين الله (1021 م - 1036م) ابن الخليفة الحاكم بأمر الله منصور ملك مصر، خرج منها باحثًا عن مادة تائهة وسط الأوراق القديمة والكُتُب المُكدَّسة والسنين المتراكمة في دوَّامات الجغرافية والتاريخ حاملًا مشاعل وهَّاجة من ماضٍ عريقٍ يستنطق الناس والأماكن، وفي حقيبته الكثير من مؤلَّفات مَنْ سبقوه في هذا الشأن، قاصدًا كل نواحي مصر؛ شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، عازمًا على إتمام هذه الموسوعة مهما كَلَّفَتْه، وقد كانت مُهِمَّةً صعبةً ومريرةً بالفعل، وبرغم ذلك كان مشعل مستمتعًا بها، ولم يكلَّ أويمَلَّ يومًا من البحث والتنقيب؛ فقد كان عاشقًا للبحث التاريخي، صبورًا فيه، لا تمنعه المصاعب والمتاعب، ولا تُوقِفُه الأزماتُ والعقبات عن مواصلة العمل، ولا تُرهِقُه ندرةُ المصادر والمراجع، فخرج مؤرِّخًا مستقلًّا بشخصيته، والحيادية وعدم الانحياز لطرف من الأطراف، وعدم تسليمه الكامل بكل ما يقرأ ويطَّلِع عليه من وثائق ومصادر؛ بل كان يُخضِع كل ذلك لميزانه النقدي الحسَّاس، فتجرَّد من العواطف والأهواء والميول الذاتية، وتميَّز باتِّساع الأُفُق العقلي وتَفتُّح البصيرة، والتجرُّد من الخرافات والأساطير التي تنتج أفكارًا خاطئة، وأنماطًا غير سليمة من التفكير. وقد كنتُ شاهِدًا على ذلك المجهود الكبير الذي بذله مشعل في سبيل إنجاز وخروج موسوعته العريقة للنور ( موسوعة البلدان المصرية ) ومعاصرًا له، وذلك بحكم صداقتي له واهتمامي بالتوثيق لشربين وتوابعها من خلال مشروعي البحثي ( ذاكرة شربين ) الذي تحدَّث عنه كثيرًا، وأثنى عليه فى الإعلام، وأيضًا بحُكْم اصطحابه لي في الكثير من تنقُّلاته في البلاد المصرية؛ لتحقيق تاريخها وأسمائها ومواقعها ومصادرها المختلفة في كُتُب الجغرافيا والتاريخ والرحلات وزياراته العديدة للجمعية الجغرافية ودار الكتب المصرية ودار الوثائق، ومكتبة المتحف الزراعي بالقاهرة وغيرها الكثير والكثير، كما كان مُولِعًا باقتناء النوادر الجغرافية للبلاد المصرية، وكان يُنفِق عليها بسخاء في سبيل اقتنائها أو الاحتفاظ بنسخة مصوَّرة منها برغم الظروف الحياتيَّة القاسية التي كان يعيشها، وقِلَّة الإمكانيَّات المادية التي كان يُعانيها. ففي موسوعته العريقة البلدان المصرية الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة ضمن سلسلة إبداعات التفرُّغ عام 2014م استكمل مشعل ما بدأه المقريزي والجبرتي وعلي مبارك باشا ومحمد رمزي بك، فقد برع فيها مشعل بحكم خبرته العملية ودرايته العلمية واطِّلاعه الواسع؛ فهو كاتِبٌ واسِعُ الاطِّلاع في مختلف المجالات بصفة عامة، وفي مجال اختصاصه بصفة خاصة، فقد كان ذا ثقافةٍ جغرافيةٍ تاريخيةٍ واسعةٍ، وكان لديه حِسٌّ سحريٌّ خاصٌّ بالمكان، فتَغَلْغَل في البلاد المصرية باحثًا ومُنقِّبًا ومُحقِّقًا حتى عرف أصول البلاد وتاريخها ومواقعها أو كاد وصار الحُجَّة الكبرى بين المهتمين بهذا الشأن، كما كان على اتِّصال بالعلماء والجغرافيين والمؤرِّخين ورجال الآثار المهتمِّين بجغرافية وتاريخ مصر في كل مكان؛ وبذلك جَمَع بين الدراسة والبحث والتحقيق العلمي، وبين الدراسة الحَقْليَّة بالإضافة لإيمانه العميق بأن المادة الجغرافية والتاريخية ليست دراسةً للتجربة فقط؛ بل كان يقوم بإعادة توثيقها والتأكُّد من صحَّتِها، فكان عليه أن يلجأ إلى السجِلَّات والمراجع والآثار الباقية والرِّوايات والمشاهدات والتحقُّق من صحَّتِها وصدق مضمونها، كما تميَّزت الموسوعة بمهارة مشعل في التصنيف، وأقصد به تصنيف المعلومات وتنظيمها وتقويمها، وهي مهارةٌ أساسيةٌ لبناء الإطار المرجعي المعرفي له، وتميَّزت أيضًا بالمهارة المقارنة، وأعني بها مقارنته بين الأفكار والأحداث وَفْق أوجه الشبه والاختلاف، والبحث عن نقاط الاختلاف والاتِّفاق بين مَنْ سَبَقُوه في هذا المجال وأيضًا مهارة التلخيص، وهي قدرته على التوصُّل إلى الأفكار العامَّة أو الرئيسة، والتعبير عنها بإيجاز ووضوح، وهي عملية تنطوي على قراءة ما بين السطور وتجريد وتنقيح وربط النقاط البارزة. وبذلك أكسب موسوعته المصداقيَّة النادرة والطرافة التاريخية، فصارت عملًا موسوعيًّا تسجيليًّا وصفيًّا رائعًا لجميع البلاد المصرية بالإضافة إلى العِزَب والكُفُور والنُّجُوع التي قد يُهمِلُها البعض وهم بصدد التأريخ والتسجيل لمثل هذا الموضوع، ولقد اهتمَّت الموسوعة بتاريخ وجغرافية ومساحة المكان وما طرأ عليه من تطوُّر إداري في المراحل التاريخية المختلفة، وتعود الأهمية القصوى لهذه الموسوعة إلى استكمال مشعل لمشوار كبير بدأه أقرانُه من الجغرافيين الأوائل، وكان لا بُدَّ من استكماله وضرورة تسجيله وإثباته؛ لتكون هذه الموسوعة نِبْراسًا يعرف الأجيال الجديدة بمصر المكان والمكانة؛ مما يؤدي إلى تعميق الانتماء والولاء لمصر في عصر العولمة، وما يُسمَّى بالسماوات المفتوحة.
قبطان أم قرصان من سُنَنِ الله تعالى في خلقه ما قرره في مجال الخدمات المتبادلة بينهم، فيما يُعرَف بـــ(التسخير)؛ وهذا ما ذكره الله في قوله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، ولا يقصد بالتسخير استعلاء بعض الناس على بعضهم بسبب مادي متعلق بالحياة الدنيا، وما يُقدِّر الله فيها من أرزاق وتوفيقات أو إخفاقات، بل المقصود هو تبادل الخدمات والمنافع في إطار ما يقدره الله، وما يمنحه للناس من تفاوت، فالذي يكون لدى هذا، يكون حاجة لغيره، والذي يفتقده ذاك، يجده عند الآخر، وهكذا بناء على ذلك التفاوت في الأرزاق والمواهب والاستعدادات ضمن السنة الكونية. هذه النقطة المهمة لا بد أن يستوعبها – ابتداءً - كل مخلوق من البشر؛ إذ عليها تتكئ الكثير من القناعات، التي بِناءً عليها تصدر مختلِف الأفعال والأقوال، والتصرفات والسلوكيات، وعليه فإن أي فرد لا يفهم هذه القاعدة على حقيقتها وكما ينبغي لها؛ فإنه ما يزال بعيدًا جدًّا عن الأصل، وعما يليق به ومنه كآدمي؛ ولذلك فإن مقالنا هذا لمن فهم هذه السُّنَّة، وهو مستعد للتعامل معها إيجابًا كواحدة من ملازمات الفطرة البشرية السوية. وقد "خلق الله الإنسان أمةً واحدةً؛ أي: مرتبطًا بعضه ببعض في المعاش، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم، إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضًا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن تَوْفِيَتِه جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قُوى الآخرين إلى قوته، فيستعين بهم في بعض شأنه، كما يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم: ( الإنسان مدني بالطبع )؛ يريدون بذلك أنه لم يُوهَب من القُوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قُدِّر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء، كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن"؛ [تفسير المنار 2 /225]. إذًا فهذه هي الحقيقة، وهذه هي السنة، وهكذا ينبغي أن تفهم ويتم السير عليها في جميع الظروف والأحوال؛ لأنها ملاصقة للإنسان في كل حالاته. هنا نشير إلى نقطة مهمة لا يدركها الكثير من الناس، الذين قد يغفُلون عن هذه الحقيقة لأسباب بشرية قاصرة، تشكل كلها أخلاقًا غير سوية، وتخرجهم عن إطار البشرية الحقة، بينما يظنون أنفسهم جنسًا مميزًا من البشر، وهذا ما نراه أكثر توافرًا لدى المتكبرين، أو من لا يفهم هذا المبدأ حق الفهم. وما يُؤسَف له أن تجد قصورَ فَهمِ هذا المبدأ لدى بعض من تولى مسؤوليات إدارية، وأصبحوا مؤتَمَنين على فرق عمل تصغُر أو تكبُر، وذلك في خضم الأعمال والخدمات المتبادلة، خصوصًا المهام موقع التكليف، وبإمكانك النظر والمراقبة لكيفية التعامل مع الآخرين من موقعك كرئيس أو مرؤوس، وهل ترى أن الجميع مستوعب لهذا المبدأ حقًّا، أو أنك ستواجه مواقف وتصرفات لا ينبغي أن تكون كذلك، فيما لو فهم الجميع المبدأ، وتعاملوا على أساسه؟ وهذا طبعًا بشكل عام، أما حين يحصل التقصير من طرف، أو يحصل الخطأ أو التجاوز؛ فحدِّث ولا حرج عما يمكن مواجهته من تصرفات وقرارات وتوجهات، وما يمكن بناؤه من قناعات، والسير عليه من سلوكيات، وتكون كلها أو جلُّها تحت غطاء الحرص والمسؤولية والأمانة؛ إلخ. من أقرب الصور التي يمكن ضربها في هذا الإطار لنعرف حجم الانفصام إزاء هذا المبدأ لدى البعض - هو مثل رجل من عِلْيَةِ القوم، قام بتصرف معين قام به شخص آخر من عامة الناس، فهل سيكون ردُّ الفعل والتعامل مع هذا وذاك بنفس الأمر، إذ اشتركا في نفس الخطأ، وربما نفس الموقف؟ أمر آخر تراه متشكلًا لدى بعض المسؤولين على غيرهم من البشر والأعمال، يتجلى في أخذ فريق العمل ناحية مراده ومراد العمل حصرًا، دون أي اعتبارات مقدَّرة وعملية لناحية الفرد الواحد، والفريق الواحد الذي يقع تحت مسؤوليته؛ ولذلك فمن الطبيعي أن تجد انعدام أو ضعف جوانب مهمة للغاية لدى أولئك الأفراد، قد اجتمعت فيهم أو أجمعوا عليها؛ مثل: الولاء الوظيفي، والأمن الوظيفي، والراحة النفسية، بل تتأثر لديهم حتى القيم المهمة التي قد تُعَدُّ من أهم القيم الجوهرية في الفرد والمجموعة والمؤسسة؛ مثل: الجودة، والاحتساب؛ إلخ. أيها المدير: أنت قبطان السفينة التي تقودها في لُجَّةِ البحر، ومعك فريقك الذي لا سفينة له في تلك الحال إلا سفينتك أنت، فأنت الرُّبَّان الذي لا بد أن تواجه كل التحديات، وتراعي كل الرُّكَّاب، وتتعامل مع مختلف السلوكيات، كما تضع نُصب عينيك الهدف، وتُحسن استخدام كافة الوسائل، وخلال رحلتك كلها تعلم أنها ما كانت رحلة إلا بالفريق، ولا معنى لها إلا بالمجموعة، وتلك المجموعة هي عبارة عن أفراد، لكل منهم سلوكيات واستعدادات ليس بالضرورة أن تكون متطابقة، أو حتى متشابهة؛ فهم على كل حال بشرٌ مثلك، ويسري عليهم ما يسري عليك ضمن قانون السخرية، فالسؤال بعد إيضاح كل هذا: هل تقود فريقك نحو الهدف الذي تريده أنت، أم نحو الهدف الذي يريده الجميع؟ هذا السؤال الذي لا بد أن تطرحه على نفسك بين كل آن وآخر، بينما أنت تعالج القيادة كرُبَّان؛ إذ قد تُنسى كثيرًا في خضم المهام والمسؤوليات، ومواجهة التحديات المتعاقبة، كما قد يغريك فخامة المنصب، أو ضرورة الموقع، حتى تكون ملِكًا أكثر من الملك، ومن ثَمَّ تفعل أكثر مما ينبغي، أو تحتاط أكثر من اللازم، وكلها تعود بالسلب على فريقك وإن على المدى الطويل، وفي تلك الأثناء من السهولة أن يصل المركب إلى غير هدفه، وإن وصل فبنفوسٍ ليست مستعدة لمهام ما بعد الوصول، وهو الأهم، بينما تظن نفسك قد حققت إنجازًا بمجرد إيصال السفينة إلى شط الأمان، ولكن في الحقيقة لا فرق بينك كرُبَّان وبين من يسطو عليك في عرض البحر لغصب حقك، وانتزاع موقعك، ومن الطبيعي أن تقاوم ذلك الغاصب، لكن إذا كنت ستنتهي بنفس النتيجة التي ينتهي إليها هو؛ والمتمثلة في النهاية بضياع المركب، وتغيير خط سيره أو خسارة الفريق؛ فما الفرق بينك وبينه إذًا؟ وهنا لا بد أن يتمثل أمامك دومًا هذا المثال، فهل أنت يا صديقي المدير قبطان أو قرصان؟
القدس: المكان والمكانة يُخطئ اليهود وغيرهم ممَّن يعاونهم أو يقف بجوارهم ويُساندهم إذا اعتقدوا أن القدس مكان كأيِّ مكان، أو مدينة كأي مدينة بها مبانٍ ومنشآت وطُرُق ومؤسسات، يتصرَّفون فيها كيفما شاءوا، ويُصدِرون القرارات بشأنها بالتمليك أو بالهِبة؛ ذلك لأن هذه المدينة ارتبطتْ بالعُروبة منذ نشأتها، وبِلِواء التوحيد منذ أن وطئ أرضَها أقدامُ الأنبياء على مَرِّ الدهور والعصور، فهي أرض براء من كل مظاهر الشرك والوثنية مهما فعل فيها الصهاينة، ومهما ادَّعَى اليهودُ أنَّ لهم السيادة عليها، وأنهم بُناتُها والمؤسِّسون لها. ويكفي لهذه المدينة قُدْسيَّة ذكر الله تعالى لها في آياتٍ عِدَّة من القرآن الكريم على سبيل التصريح والتلميح؛ يقول الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، ومن المتفق عليه دون خلافٍ أو تأويل أنَّ المسجد الأقصى في القدس من أرض فلسطين، وقال تعالى في قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81]، والأرض المباركة هي فلسطين- أي: ما حول المسجد الأقصى- وذلك باتِّفاق الآراء، وقال تعالى في قصة سبأ: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]، وهو ما كان بين مساكن سبأ في اليمن وبين قرى الشام من العمارة القديمة، فباركنا فيها- أي: الشام- ومنها القدس مركز البركة، وقال تعالى: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 - 3]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: التين بلاد الشام، والزيتون بلاد فلسطين، وطور سينين الجبل الذي كَلَّم اللهُ موسى عليه السلام عليه، والبلد الأمين مَكَّة . وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]، قال ابن عباس: هي بيت المقدس. كذلك ذكَرَها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صحيحة؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود في سننه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، ومعلوم أن المسجد الأقصى قلب مدينة القدس، ويأتي شرف هذا المسجد من كونه ثاني مسجد وُضِع في الأرض؛ روى البخاري ومسلم في الصحيحين وأحمد في مسنده عن أبي ذرٍّ الغفاري- رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلتُ: ثُمَّ أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلتُ: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنةً، ثم أين أدركتك الصلاة بعد فصَلِّ، فإنَّ الفضل فيه"، والقدسُ أرْضُ المحشر والمنشر يوم القيامة. وروى الإمام أحمد في مسنده، عن علي بن بحر، عن عيسى بن يونس، عن ثور بن يزيد، عن زياد بن أبي سودة، عن أخيه عثمان، عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، أفْتِنا في بيت المقدس، قال: "أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصَلُّوا فيه، فإن صلاةً فيه كألف صلاة"، قالت: أرأيت مَنْ لم يطق أن يتحمَّل إليه أو يأتيه؟ قال: "فليُهْدِ له زيتًا يسرج فيه؛ فإنَّ مَنْ أهدى كان كمَنْ صَلَّى فيه"، وعن أبي الدَّرْداء وجابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَضْلُ الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائةُ ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة"؛ أخرجه البيهقي في السنن الصغرى، رقم (1821)، وصحَّحَه الألباني في صحيح الجامع (4211). إنَّ مدينة بهذه القُدسيَّة وبهذه المكانة لا يُمكِن أن يُفرِّط فيها كُلُّ من انْتَسَب إلى الإسلام، ولا يغيرها قرار جائر أو تواطؤ مرفوض. الرسول صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بمدينة القدس: بمجرد أن مكَّن الله تعالى للمسلمين في المدينة، وذلك بعد اعتراف المشركين بهم دولةً وقوَّةً في صُلْح الحديبية في العام السادس الهجري بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في إرسال الرُّسُل والكُتُب إلى الملوك والأمراء، خاصة في بلاد الشام وبلاد الروم، فقد أرسل إلى هرقل- وكان يومها في بيت المقدس - كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وعدم الصَّدِّ عن سبيل الله، هذه الرسائل كانت تمهيدًا وتوطئةً لفتح بيت المقدس، وتخليص مَسْرى الرسول صلى الله عليه وسلم من احتلال الرُّومان له، وزاد هذا الاهتمام بتسيير الجيوش في غزوة مؤتة في العام الثامن الهجري، وغزوة تبوك في العام التاسع الهجري، وفي شهر صفر من العام الحادي عشر للهجرة جهَّزَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم جيشًا كبيرًا أمَّرَ عليه أسامة بن زيد - رضي الله عنه - ليذهب إلى فلسطين ليثني الروم عن إرهاب الناس وإرغامهم على عقيدة الوثنية وعبادة غير الله تعالى، ومَنحهم حرية الاعتقاد؛ ليعبدوا ما يريدون دون إكراه، واشتدَّ المرضُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك كان دائم السؤال عن بعث أسامة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، وكأنه يُؤكِّد لنا أهمية فتح بيت المقدس واسترداده من أيدي الرومان، فلا يصحُّ أن تكون قِبْلة المسلمين الأُولى بيدِ غيرِهم. وتوالى الاهتمام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من قِبَل الخلفاء الراشدين، فجهَّز أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- الجيوش وانتصر على الروم في اليرموك، وأكمل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- المسيرة وفتح بيت المقدس، واستلم مفاتيحها في شهر ربيع الأول من العام الخامس عشر الهجري، واعتنى الأُمَراء بعد ذلك بعمارة هذه المدينة المُقدَّسة خاصة المسجد الأقصى والآثار الإسلامية بها. فهل نتَّحِد ونعتصم، ونُنحِّي التنازُع جانبًا؛ لنكون أهلًا لنَصْر الله ومعيَّته، ولنصبح قوةً في العالم وتكتُّلًا له كلمته، فلا يتجرَّأ عليه أحد، وليسترد مُقدَّساته المسلوبة، وأرضه المنهوبة؟!
رمضان واستعادة النفس الرائدة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد: فإن بناء النفس الإنسانية من القضايا التي لاقت عناية بالغة في التصور الإسلامي، سواء على المستوى الروحي التعبدي، أو على المستوى الريادي الحضاري؛ فالإسلام أعطى مساحة كبيرة لتلك القضية، فكان البناء الروحي بتنقية النفس من الآسار وأغلال الذنوب التي تكبِّلها عن مواصلة التحليق عاليًا في رحاب الملكوت، والتأمل في قدرة الله عز وجل، وبديع صنعه في الكون: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3]، وهذا لا يأتي إلا بعد التضرع والإخبات والإنابة لله عز وجل، كما كان حال إبراهيم عليه السلام : ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]. والنفس الإنسانية كالأرض التي تُسقَى بالماء، فكلما سقاها صاحبها بالماء العذب، أنبتت أفضل الثمار، وهكذا قلب الإنسان؛ كلما رَوِيَ من الطاعات والعبادات الصالحة، بُعثَتْ فيه الحياة، وتجددت على الإنسان ملامحُ التقوى والفَلَاح، ودائمًا ما يضرب القرآن الكريم مثلًا على حياة القلب بإنزال المطر على الأرض فيحييها؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 57، 58]. قال ابن القيم: "أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتَبرٌ بالآخر مَقِيس عليه، ثم ذكر قياسًا آخر؛ أن من الأرض ما يكون أرضًا طيبة، فإذا أُنزل عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضًا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدًا - أي قليلًا غير منتفع به - فهذه إذا أُنزِل عليها الماء، لم تُخرِج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشبَّه سبحانه الوحيَ الذي أنزله من السماء على القلوب، بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا، وشبَّه القلوب بالأرض؛ إذ هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به، كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا تُخرج نباتها به إلا قليلًا لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي، وزكا عليه، وعمِل بما فيه، كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر، فالمؤمن إذا سمِع القرآن وعقَله وتدبَّره، بَانَ أثرُه عليه؛ فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يمرُع ويخصب ويحسُن أثر المطر عليه، فيُنبت من كل زوج كريم، والْمُعْرِض عن الوحي عكسه، والله الموفِّق" [1] . وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [النحل: 64، 65]. يقول ابن كثير: "وكما جعل تعالى القرآنَ حياةً للقلوب الميتة بكُفرها، كذلك يحيي الله الأرض بعد موتها بما ينزله عليها مِنَ السماء مِن ماء" [2] . ونحن في شهر الحياة والبعث القلبي للإنسان من جديد، شهر القرآن والتدبر والرقي الروحي إلى معارج القبول واليقين، والمسارعة إلى قوافل الذاكرين والمخبتين بين يدي الله عز وجل، فهذه هي الريادة الروحية، التي يطالب الإسلام دائمًا بها، ويدعو ويؤكد عليها. فإن المعاصي والذنوب خَبَثٌ، وإن الماء إذا بلغ قُلتين لم يحمل الخبث، والله عز وجل يساعد العبد الذي يرجو ويحاول الوصول إلى الخير؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. كما أن الريادة الحضارية يؤسِّس لها هذا الشهر العظيم، فهو ذو خصوصية معينة؛ فقد وقعت أول الانتصارات الإسلامية في هذا الشهر العظيم، بدايةً من غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان 2ه، وتوالت الانتصارات، فهذان المعنيان المؤسِّسان للريادة الروحية والحضارية دائمًا يحتاج الإنسان إليهما، فكلما شعر الإنسان باليأس، فإن عليه تصفُّح تاريخ الأمة المشرِق، والصفحات المنيرة في مسيرتها الحضارية؛ فإن هذا باعثٌ على النهوض من جديد. إن الوقوف على العَتَبات المشرِقة في تاريخ الأمة من عوامل النهوض من الكبوات، والصعود إلى المجد، وهذا نلتمسه في انتصاراتنا الخالدة والضاربة بجذرها في عمق التاريخ الزماني والمكاني، وقد كانت الحكمة الربانية في بدء هذه الانتصارات في شهر رمضان المبارك؛ حتى يتحلل الصحابة رضي الله عنهم من كل شيء يربِطهم بالدنيا والتعلق بها، حتى الطعام والشراب؛ فهذا هو الدرس الحقيقي من الصيام. تنازُل النفس الإنسانية عن المباحات التي أجازها الله لها، ومنها الطعام والشراب؛ لذلك كان بناء الصحابة بناءً حقيقيًّا ليس مزيفًا، أو غير ذلك. وبفعل هذه الفلسفة وقعت معظم الانتصارات في شهر رمضان المبارك؛ كفتح مكة، واليرموك، ومعركة القادسية، وبلاط الشهداء عام 114 هـ، فتح عمورية سنة 223هـ، فتح حارم، وعين جالوت، ومعركة شقحب، وفتح بلاد الأندلس، ومعركة الزلاقة، وموقعة حطين، وملاذكرد، ثم حرب رمضان 1973م. وغيرها من المعارك التي خلَّدها التاريخ، وإنني في سرد هذه المعارك أؤكد على أهمية بعث الهمة العالية في النفوس، ومقاومة الانكسار، فهذه المعارك غيَّرت شكل الكون، وليس المكان الذي وقعت فيه فقط، وبها سادت الأمة لقرون طويلة. يمكن من خلالها أن تنهض النفس من جديد، كلما اعتراها الخمول والسكون. كذلك، فإن النفس كلما أخفقت، وركنت إلى الدنيا والدَّعَة والانشغال بالقضايا التي تُميت القلب، فإن القراءة في سِيَرِ الصالحين باعثٌ على نهوضها من جديد. فإن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الدنيا على أنها دار خلود أو بقاء، أو أنهم جاؤوا إليها لجمع الأموال، وبناء القصور، وغير ذلك من ترف الحياة؛ فقد زار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا عبيدة بن الجراح، وكان واليًا على الشام، فوجد بيته عبارة عن مجموعة أحجار يضع عليها ثيابه، وبعض الأواني، فقال له عمر رضي الله عنه: لمَ لا تتخذ لك بيتًا يا أبا عبيدة وأنت أمير المؤمنين والوالي هنا؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عندي بيتًا أفضل من ذلك بكثير، فقال له: أين؟ فقال: في الجنة. هكذا كانت نظرة الرعيل الأول للدنيا، سواء في حالة الإمارة أو في حالة الاتباع. وهكذا رمضان يعلمنا الريادة الروحية، والرقي بالنفس، والنهوض بها من جديد، ويعلمنا الرساليَّة في التعامل مع الأمور، والنظر في تاريخ الأمة ومجدها في حالة الإخفاق، ويعلمنا ضبط البوصلة في حالة إن فُتِحت علينا الدنيا. [1] ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج: 1 /108 . [2] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج: 4 /580 .
البراء بن مالك يُترجِم له الذهبي بقوله: "هو البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن يزيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الأنصاري النجاري المدني، البطل الكرَّار، صاحب النبي صلى الله عليه وسلَّم، وأخو خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنس بن مالك، شهد أُحُدًا، وبايع تحت الشجرة"؛ ( السِّيَر ). إنه واحد من أشهر المجاهدين الأبطال الذين كان لهم صولات وجولات في ميادين القتال؛ بل إن تاريخ الإسلام ليحتفظ له بمواقف بطوليَّة نادرة دلَّت على كريم عُنْصره، وعِزَّة نفسه، وعظيم تَقْواه، وعُمْق إيمانه، وقد زيَّن كل هذه الصفات وتوَّجها بخُلُق الزُّهْد في الدنيا والإيثار على النفس. ذلك هو سَمْتُ المناضل الذي استعاض عن حُبِّ الدنيا ومتاعها بحبِّ الله ورسوله، لم يضِنَّ لا بنفسه ولا بماله في سبيل نصرة دِين الله، فاستحَقَّ أن ينال الحظوة الكبرى والمِنَّة التي يطمع فيها كل مؤمن صادق خلوص؛ ألا وهي حُبُّ اللهِ وحُبُّ رسولِه؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]. نجح البراء في هذا الاستحقاق؛ استحقاق مَحبَّة الله بامتياز، وهذا بشهادة خيرِ خَلْق الله كلهم الرسول الأكرم- صلى الله عليه وسلم- إذ يقول في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه والترمذي في كتاب المناقب عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: « كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَبَرَّهُ » مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مالك. فيا له من شرف عظيم ومكانة رفيعة! لا يطُولُها إلا المجاهدون الأبرار الذين يتمنون أن تُختَم مسيرتهم البطولية بنيل أرفع وسام؛ وسام الشهادة في سبيل الله، جاء في الإصابة لابن حجر عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: "دخلت على البراء بن مالك وهو يتغنَّى، فقلت له: قد أبدلك الله ما هو خير منه، فقال: أترهب أن أموت على فراش، لا والله، ما كان الله ليحرمني ذلك، وقد قتلت مائة منفردًا، سوى من شاركت فيه" . أما وقد عرفنا المكانة الخُلُقيَّة التي تبوَّأها الصحابي البراء بن مالك، آن لنا أن نتساءل عن المواقف النضالية التي أهَّلَتْه ليحوز هذا الشرف العظيم، فعن بكر بن سليمان عن ابن إسحاق أن البراء كان من أبطال حرب الردَّة، ففي يوم حرب مسيلمة الكذَّاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترس، على أسنَّة رماحهم ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم وعليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، فجُرح يومئذٍ بضعة وثمانين جُرحًا؛ ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه. جاء في المعجم الكبير للطبراني بإسناد حسن، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، قال: بينما أنس بن مالك وأخوه البراء بن مالك عند حصن من حصون العدوِّ، والعدوُّ يلقون بكلاليب من سلاسل محماة، فتعلَق بالإنسان، فيرفعونه إليهم، فعلق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك، فرفعوه حتى أقلُّوه من الأرض، فأتي أخوه البراء، فقيل له: أدْرِك أخاك وهو يقاتل الناس، فأقبل حتى نزا في الجدار، ثم قبض بيديه على السلسلة وهي تدار، فما برح يجرهم ويداه تدخنان حتى قطع الحبل، ثم نظر إلى يديه، فإذا عظامه تلوح، قد ذهب ما عليها من اللحم، وأنجا الله عز وجل أنس بن مالك رضي الله عنه". لقد كانت للبراء بن مالك ملامح بطوليَّة كثيرة لا يسعفنا المقام في إيرادها، وتبقى موقعة "تُستَر" شاهدة على فروسيَّة واستبسال هذا البطل الذي تمنَّى على الله أن يرزقه الشهادة ليتوِّج بها مسار نضاله المميز. حدثت موقعة "تُستَر" في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، في السنة العشرين من الهجرة، ودارت رحاها بين المسلمين والفرس، أما سبب وقوعها فيرجع بحسب ابن كثير في البداية والنهاية "إلى أن "يزدجرد" كان يُحرِّض أهل فارس وأهل الأهواز ناعيًا عليهم مُلْكَ العرب بلادهم، فما كان منهم إلَّا أن تعاهدوا على حرب المسلمين، وقرروا أن يقصدوا البصرة، ولما علم أمير المؤمنين عمر بما ينوي الفرس فعله، أصدر أوامره لكل من سعد والي الكوفة وأبي موسى والي البصرة بتجهيز جيش المسلمين لكسر شوكة الفرس، ولم يَفُتْه رضي الله عنه أن يُسمِّي الأبطال الشُّجْعان الذين ينبغي أن تسند إليهم المهام الحربية القيادية، وقد خصَّ بالذكر البطل البراء بن مالك وثُلَّة من أقرانه الأبطال الأشاوس؛ كعاصم بن عمرو ومجزأة بن ثور وحذيفة بن حصن والحصين بن معبد والنعمان بن مقرن وعبدالله بن ذي السهمين، وفي أولى جولات هذه الحرب ألحق النعمان بن مقرن رضي الله عنه – وكان على رأس جيش الكوفة- الهزيمة بالهرمزان وذلك بإربل، فاضطر القائد الفارسي إلى ترك رامهرمز وفرَّ من هناك إلى تُستَر، حيث حاصره جيش الكوفة ومعه جيش البصرة، فاستمر الحصار عدة أشهر حدثت خلاله مناوشات ومواجهات بين الطرفين، وقد حفظ التاريخ للبراء دوره الفعَّال في معركة تُستَر؛ إذ يقول ابن كثير وهو يثني على شجاعته وبسالته: "وقتل البراء بن مالك أخو أنس يومها مائة مبارز، سوى من قتل غير، وكذلك فعل كعب بن ثور ومجزأة بن ثور وأبو يمامة وغيرهم من أهل البصرة... حتى إذا كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك وكان مجاب الدعوة: يا براء، أقسمْ على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني" وكذلك كان، نصرَ الله جنده المسلمين، وأكرم عبده المجاهد البراء بمنَّة الشهادة، رحمه الله وأثابه خير الثواب، وأدخله جنات عدن مع الصدِّيقين والشهداء.
عتبة بن ربيعة هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد: كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهليَّة، وجيه من وجهاء مكة، ومن حكماء قريش وزعمائها، كان مُعَظَّمًا في قومه، نافذ القول، خطيبًا مفوَّهًا، موصوفًا بالرأي والفضل والحلم، كان لقبه «العدل»؛ لأنه يعدل كل حلم قريش. وهو جد معاوية بن أبي سفيان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لأُمِّهِ. كان يُقال: لم يَسُدْ من قريش مُمَلَّق إلا عتبة وأبو طالب؛ فإنَّهما سادا قريشًا بغير مال. وعندما تزوَّج أبو سفيان ابنته هند بنت عتبة بن ربيعة، بعث عتبة بابنه الوليد إلى بني أبي الحقيق، فاستعار منهم الحلي، ورهن الوليد نفسه عند نفرٍ من بني عبد شمس، وذهب بالحلي، ثمَّ فكُّوه وردُّوه إلى أهله في مكَّة المكرَّمة. ولد عتبة في مكَّة قبل عام الفيل بثلاث سنوات، ونشأ بمكة يتيمًا في حجر حرب بن أُميَّة، وتعلَّم القراءة والكتابة والأنساب وأخبار العرب وتاريخ قريش على يد أفضل المعلمين في تهامة، كما تعلَّم الفروسيَّة وفنون المبارزة، وكان في طليعة الفرسان في حرب الفِجَار، وخاض فيها المعركتين الأخيرتين. وأوَّل ما عُرِفَ عنه توسُّطه للصُّلْح في حرب الفِجَار (بين هوازن وكنانة) وقد رضي الفريقان بحكمه، وانتهت الحرب على يديه. وكان عتبة بن ربيعة صديقًا للصحابي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فكان عتبة عندما يذهب إلى يثرب ينزل ضيفًا عند الصحابي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وكان سعد عندما يذهب إلى مكَّة ينزل ضيفًا عند عتبة. أدرك الإسلام وطغى وتكبَّر عن الدخول فيه، وشهد بَدْرًا مع المشركين، وكان عتبة يتميَّز بطول القامة وقوَّة البنية، ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم "بَدْر" فلم يجد ما يسع هامته، فاعتجر على رأسه بثوبٍ له، وقاتل قتالًا شديدًا، فأحاط به علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث وقتلوه. روي عن أمية بن الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يُبْعَث في بلادنا، وكنت أظن أني هو، وكنت أتحدَّث بذلك، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد إلا عتبة بن ربيعة إلا وقد تجاوز الأربعين ولم يُوْحَ إليه، فعرفت أنه غيره. قال أبو سفيان: فلما بُعِثَ محمدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت لأمية، فقال: أما إنه حق فاتبعه، فقال: وما يمنعك أنت؟ قال الحياء من نساء ثقيف أني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعًا لفتى من بني عبد مناف. قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، قيل: هو عتبة بن ربيعة، وكان يلقب بريحانة قبيلة قريش، وقيل: الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. ومن حماقات عتبة موقفه مع أبي بكر الصديق وكان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أول خطيب دعا إلى الله عز وجل وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا ووُطِئ أبو بكر، وضُرِبَ ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مَخْصُوفَيْنِ [خَصْف النعل: خَرْزُه، من الخَصْف: الضم والجمع]، ويحرفهما لوجهه، ثم نزا على بطن أبي بكر، وأثر على وجهه حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تيم تتعادى، فأجلوا المشركين وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، فتكلَّم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعتبة بن ربيعة هو الذي أوفدته قريش لمفاوضة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة، فإن كُفَّار قريش لما أكربهم أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغاظهم شأنه تشاوروا في أمره، فقال لهم عتبة: يا معشر قريش، ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرض عليه أمورًا لعلَّه يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكفُّ عنا، وذلك لما لم يقدروا أن يصلوا إليه بمكروه، فقالوا له: بلى، فقام إليه عتبة. [وفي رواية الإمام عبد بن حميد في (مسنده) بسنده عن جابر بن عبدالله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأتِ هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتَّتْ أمْرَنا، وعاب ديننا، فليُكلِّمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال له]: "يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال له: "قل يا أبا الوليد، أسمع"، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا؛ وإن كنت تريد به شرفًا، سوَّدْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا مَلَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرِّئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوي منه. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستمع منه قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟"، قال: نعم، قال: فاستمع مني، فقال: أفعل. فقال: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت: 1 - 7]. فمضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، فلمَّا وصل إلى قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] أمسك عتبة على فَمِه وناشَدَه الرَّحِم أن يكُفَّ. ثم عاد إلى قريش قائلًا: والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله، ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وبعد إعراض ثقيف بالطائف عن دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قفل الرسول -عليه الصلاة والسلام- عائدًا إلى مكة، إلى البلد الذي لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وأُكْرِه الباقي على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعب الجبال. وقال زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فَرَجًا)) . ولا بُدَّ أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش؛ ومن ثَمّ رأى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته، فبعث إلى "المطعم بن عدي" يعرض عليه أن يجيره حتى يُبلِّغ رسالةَ ربِّه! فقبل "المطعم" واستنهض أبناءه، فحملوا أسلحتهم، ووقفوا عند أركان البيت الحرام، وتسنَّم "المطعم" ناقته، ثم نادى: يا معشر قريش، قد أجرْتُ محمدًا، فلا يَهْجه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الكعبة صلَّى ركعتينِ، ثم انصرف إلى بيته، و"مطعم" وأهله يحرسونه بأسلحتهم. وقيل: إن أبا جهل سأل مطعمًا: أمجير أم متابع [أي مسلم]؟ قال: بل مجيرٌ. قال: قد أجرنا من أجرت! وحفظ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمطعم هذا الصنيع، فقال يوم أسْرَى بَدْر: (لو كان المطعم حيًّا لتركت له هؤلاء النَّتنى) . كان المطعم -كأبي طالب- على دين أجداده، وكان كذلك مثله في المروءة والنجدة. وقد أراد أبو جهل أن يتهكَّم بنبي يحتاج إلى جوار، وكأنه يتساءل: لِم لمْ تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟ ولذلك قال -لما رآه-: هذا نبيُّكم يا بني عبد مناف؟ فرَدَّ عليه عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون مِنَّا نبي وملك؟ فلما أخبر رسول الله بسؤال أبي جهل ورد عتبة قال: ((أمَّا أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك -وذلك أنه قالها عصبية لا إيمانًا- وأمَّا أنت يا أبا جهل، فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا، وأمَّا أنتم يا معشر قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون)) . وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير وأبو يعلى الموصلي في مسنده أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب. في غزوة بَدْر في السنة الثانية للهجرة عندما تجمَّع الفريقان للقتال، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من المشركين على جملٍ أحمر يسير في قومه، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- وكان قريبًا من المشركين، عن صاحب الجمل الأحمر، فأجاب حمزة بأنَّه عتبة بن ربيعة، وكان ينهاهم عن القتال. وفي بداية غزوة بَدْر بدأ القتال بمبارزات فردية حيث تقدَّم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم، وطلبوا مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمزة وعليًّا وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم، وكان أصغرَ المسلمين عليٌّ، وأصغرَ المشركين الوليد بن عتبة، وتمكَّن حمزة من قتل عتبة، ثم قتل عليٌّ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدَّى للوليد وجرح كل منهما الآخر، فعاونه حمزة وعلي فقتلوا الوليد، واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين. وفي رواية: خرج الصحابي عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- إلى عتبة بن ربيعة لقتاله، والصحابي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى الوليد بن عتبة، والصحابي حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- إلى شيبة بن ربيعة، وتجادلوا وتضاربوا، فأمَّا عليٌّ وحمزة؛ فقد قتلا كلًّا من الوليد وشيبة، وكان عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- أكبرَ القوم؛ فكلُّ واحدٍ من الحارث وعتبة بن ربيعة ضرب ضربتين ثمَّ جاء الصحابيان عليٌّ وحمزة إلى عتبة بن ربيعة وأجهزا عليه وقتلاه. وروى: الإمام أحمد، ومسلم؛ عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك قتلى بَدْر ثلاثة أيام حتى جيفوا، ثم أتاهم، فقام عليهم، فقال: "يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! هل وجدتم ما وعد ربُّكم حقًّا؛ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أقبلت قريش ومعه أصحابه أخبر أصحابه بمصارعهم، وقال: (هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام) . ومن أبناء عتبة الذين أسلموا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة، وكان من فضلاء الصحابة، جمع الله له الشرف والفضل. كان إسلامه قبل دخول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دار الأرقم، ولما هاجر إلى الحبشة عاد منها إلى مكة، فأقام مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقتل يوم اليمامة شهيدًا، ولُقِّب بالشهيد ذي الابتسامة، وهو مولى سالم الذي أرضعته زوجته سهلة كبيرًا، وكان سالم أيضًا من سادات المسلمين. تزوَّج عتبة ثلاث مرات ولم يجمع بين زوجاته، وباقي أبناء عتبة غير أبي حذيفة: الوليد وهو ما يُكنَّى به، وقد قُتِل مشركًا معه في بَدْر، وبقيَّة أبنائه من الصحابة الكِرام، وهم: أبو هاشم [أسلم يوم فتح مكة، وكان زاهدًا بعيدًا عن ملذَّات الدنيا، راويًا لأحاديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومات في خلافة معاوية] وأم أبان [زوجة طلحة بن عبيدالله أحد العشرة المبشَّرين بالجنة] وهند [زوجة أبي سفيان وأم معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- شاركت في معركة اليرموك] وفاطمة [زوجة عقيل بن أبي طالب ابن عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واشتهرت بفصاحتها ومالها الكثير]، وقد أسلموا بعد فتح مكة رضوان الله عليهم . لقد وهب الله عزَّ وجلَّ عتبة بن ربيعة عقلًا راجحًا يستطيع أن يُميِّز به بين الحقِّ والباطل، ووهبه لسانًا بليغًا يستطيع أن يُحاور به ويُناور، ووهبه مكانةً تجعل الناس يسمعون رأيه، ويَتَّبعون فكره؛ لكنه للأسف الشديد كان مُصابًا بداء خطير نسف كلَّ إمكانيَّاته، وحطَّم كلَّ مواهبه، ألا وهو داء «الإمعية»! لقد ضعفت شخصيَّة عتبة حتى صار يسير بلا إرادةٍ وراء زعماء آخرين لعلَّهم أقلُّ حكمةٍ منه؛ ولكنَّهم أقوى شخصيَّةً؛ وذلك بصرف النظر عن مسألة الحقِّ والباطل؛ فقد أدرك عتبة حقَّ الإسلام؛ ولكنَّه سار مع باطل مكة، وفَهِمَ معجزة القرآن؛ لكنَّه اتَّبَع تفاهات زعماء قريش، ثُمَّ أطلقها صريحةً واضحةً: "خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ"!... إنَّه يُريد أن ينتظر المعركة بين المسلمين والعرب، فإذا انتصر المسلمون فهو معهم، وإذا انتصر العرب فلا ضير، فسيكون معهم كذلك! وظلَّت فيه هذه الصفة الذميمة إلى آخر أيَّام عمره؛ حيث كان يَنْهَى الجيشَ المكي عن حرب المسلمين في بَدْر، وقد أدرك بحكمته ورجاحة عقله أنَّ المعركة خاسرة؛ لكنَّه في النهاية اتَّبَع الجموع، وأعرض عن الحقِّ، وكانت النتيجة أن قُتِل كافرًا في أُولى لحظات المعركة . وقد أوضحت رواية البيهقي موقفًا مخزيًا لعتبة حين جاءه أبو جهل يَتَّهمه بترك الوثنيَّة للإسلام، فإذا بعتبة يشرح له بالتفصيل روعة القرآن، وقوَّة حجَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويُؤَكِّد صدقه التامَّ؛ بل يُبدي رعبه من نزول الصاعقة التي حذَّرهم منها محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد كلِّ هذا رأيناه يُقْسِم بالله! على أيِّ شيء أَقْسَمَ؟! لقد أقسم ألَّا يُكَلِّم محمدًا أبدًا ! أَبَعْدَ كلِّ هذا اليقين في صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون البُعْد عنه؟! ولماذا؟! هل لأنَّ الجموع الكافرة آنذاك أكثر من المسلمين؟ وهل عندما يكثر المسلمون ستترك الوثنيَّة إليهم؟ أيُّ حماقةٍ تلك التي يعيشها هؤلاء الناس ! وكأنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتحدَّث عن عتبة بن ربيعة وأمثاله حين قال: ((لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا)) ؛ [الترمذي، وهو ضعيف وحسنه الألباني موقوفًا على ابن مسعود]، وعندما سُئل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الإمَّعة قال: «يَجْرِي مَعَ كُلِّ رِيحٍ». فلْيَحْذَرْ كلُّ عاقل من هذه الخواتيم التعسة؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ وهب الإنسان عقلًا، وهو سائله عنه، وقد يبتليه بتكثير جموع أهل الباطل، فلا يَصُدَّنَّه ذلك عن الحقِّ أبدًا.
مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عبدالله بن مسعود بن غافل الصحابي القارئ الملقِّن، والغلام المعلَّم، والفقيه المفهَّم، شهِد بدرًا، وهاجر الهجرتين، وكان يوم اليرموك على النفل. وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسِواكه وسِواده ونعله وطهوره . كنيته: أبو عبدالرحمن أمه رضي الله عنها: هي أمُّ عبد بنت عبد ود، رضي الله عنها، أسلمت ولها صحبة. أوصافه الخُلُقية: كان رجلًا نحيفًا قصيرًا شديدَ الأدمة. إسلامه: كان إسلامه قديمًا في أول الإسلام، في حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب قبل إسلام عمر بزمان، وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنمًا لعقبة بن أبي مُعَيط، فمرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ شاة حائلًا من تلك الغنم، فدرَّت عليه لبنًا غزيرًا. قصة إسلامه: روى أحمد في "المسند" (3598) وابن حبان (7061)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن ، وفيه أن ابن مسعود قال: ((كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام، هل من لبن؟ فقلت: نعم، ولكنني مؤتمن، قال: فهل من شاة حائل لم ينزُ عليها الفحل؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلُص، فقلص، ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله؛ فإنك عليم معلَّم)). سادس ستة في الإسلام: وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (6 / 384) (32233)، وابن حبان في "صحيحه" (7062)، عن عبدالله بن مسعود، قال: "لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا". بدريٌّ من أهل بدر: شهد بدرًا والحديبية، وهاجر الهجرتين جميعًا؛ الأولى إلى أرض الحبشة، والهجرة الثانية من مكة إلى المدينة، فصلى القبلتين. مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أخرج البخاري والترمذي عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: ((سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدْيِ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نأخذ عنه؛ فقال: ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أمِّ عبد)). وأخرج مسلم بسنده إلى عبدالرحمن بن يزيد، قال: سمعت ابن مسعود، يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذنك عليَّ أن يُرفَع الحجاب، وأن تستمع سِوادي، حتى أنهاك)). وسوادي: سري، قال: أذِن له أن يسمع سره. وأخرج البخاري والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه قال: ((قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا ما نرى إلا أن عبدالله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لِما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم)). فضل لابن مسعود دلَّ عليه القرآن: في الحديث الذي رواه مسلم: أن عبدالله بن مسعود قال: ((لما نزل قول الله جل وعلا من سورة المائدة: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 93]، فلما نزلت وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عبدالله، أنت منهم)). خذوا القرآن من عبدالله بن مسعود: وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل، وأُبيِّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة)). أخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو، قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، وقال: إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقًا، وقال: استقرئوا القرآن من أربعة؛ من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل)). وأخرج أحمد في "المسند" (35) عن عبدالله بن مسعود، ((أن أبا بكر وعمر بشَّراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)). أول من جهر بالقرآن في مكة: أخرج ابن اسحاق في "السير والمغازي" (ص 186)، وعنه أحمد في "فضائل الصحابة" (1535)، قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: ((كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود، قال: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يُسْمِعهموه؟ قال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني؛ فإن الله عز وجل سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها فقام عند المقام، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم رافعًا صوته ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه لَيتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، قال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينَّهم بمثلها، قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون)). علمه بالقرآن: أخرج البخاري ومسلم عن مسروق، قال: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((والله الذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه)). وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ((والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورةً، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم)). وأخرج البخاري ومسلم عن علقمة، قال: ((كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أُنزلت، قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنت)). وهو الذي قال فيه أبو موسى الأشعري: "لا تسألوني ما دام هذا الحَبْرُ فيكم" [1] . وروى البخاري ومسلم عن إبراهيم، قال: ((ذهب علقمة إلى الشأم، فأتى المسجد فصلى ركعتين، فقال: اللهم ارزقني جليسًا، فقعد إلى أبي الدرداء، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة؟ قال: أليس فيكم صاحب السر الذي كان لا يعلمه غيره؛ يعني حذيفة؟ أليس فيكم - أو كان فيكم - الذي أجاره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان؛ يعني عمارًا؟ أوليس فيكم صاحب السواك والوساد؛ يعني ابن مسعود؟ كيف كان عبدالله يقرأ: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]؟ قال: والذكر والأنثى [2] ، فقال: ما زال هؤلاء حتى كادوا يشككوني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)). نصحه لحاملي القرآن: أخرج الإمام أحمد في "الزهد" (892) عن عبدالله بن مسعود، قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بلَيلِه إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا، حكيمًا حليمًا، عليمًا سكينًا، وينبغي لحامل القرآن ألَّا يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا صخَّابًا ولا صيَّاحًا، ولا حديدًا". أقرب الصحابة إلى الله زلفى: أخرج الترمذي عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: ((أتينا على حذيفة، فقلنا: حدثنا بأقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم هديًا ودلًّا، فنأخذ عنه ونسمع منه؟ قال: كان أقرب الناس هديًا ودلًّا وسمتًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ مسعود، حتى يتوارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد هو من أقربهم إلى الله زلفى))؛ [قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]. وأخرجه البخاري عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نأخذ عنه، فقال: ((ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد)). هجرته إلى الحبشة : أخرج أحمد في المسند (4400) بإسناد ضعفه محققو المسند، عن عبدالله بن عتبة، عن ابن مسعود، قال: ((بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحوٌ من ثمانين رجلًا، فيهم عبدالله بن مسعود، وجعفر، وعبدالله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتَوا النجاشي، وبعثتْ قريشٌ عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدَا له، ثم ابتدراه عن يمينه، وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: فأين هم؟ قال: هم في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا ألَّا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل، هو كلمة الله وروحه، ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد، قال: فرفع عودًا من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة، والقسيسين، والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يسوى هذا، مرحبًا بكم، وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، فإنه الذي نجد في الإنجيل، وإنه الرسول الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيتُه حتى أكون أنا أحمل نعليه، وأوضِّئه، وأمر بهدية الآخرين فرُدت إليهما، ثم تعجل عبدالله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته)). وتمسكوا بعهد ابن مسعود: وأخرج الترمذي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذَينِ مِن بعدي من أصحابي؛ أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدْيِ عمار، وتمسَّكوا بعهد ابن مسعود)). زهده رضي الله عنه: أخرج البغوي في "معجم الصحابة" (1411) بسنده عن تميم بن حذلم، قال: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أبا بكر وعمر، فما رأيت أحدًا أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أحب إليَّ أن أكون في مِسْلاخه منك يا عبدالله بن مسعود". وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (35660) عن عبدالله بن مسعود، قال: "من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم، فأضروا بالفاني للباقي". وأخرج أبو داود في "الزهد" (167) بسنده عن أبي عبيدة، قال: قال عبدالله: "من استطاع منكم أن يجعل كَنزه في السماء؛ حيث لا يناله اللصوص، ولا يأكله السوس، فإن قلب كل امرئ عند كنزه " . وقال ابن أبي شيبة في "المصنف" (34578): حدثنا وكيع عن سفيان عن زبيد عن مرة عن عبدالله، قال : ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فإذا أحب الله عبدًا أعطاه الإيمان، فمن جبن منكم عن الليل أن يكابده، والعدو أن يجاهده، وضنَّ بالمال أن ينفقه، فليُكْثِرْ من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). وقال ابن أبي شيبة في "المصنف " (35692): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله، قال : ((أنتم أكثر صيامًا، وأكثر صلاةً، وأكثر جهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا : لِمَ يا أبا عبدالرحمن؟ قال : كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة)). عبدالله بن مسعود خليق بالإمارة: أخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت مؤمِّرًا أحدًا من غير مشورة منهم، لأمَّرت عليهم ابن أم عبد)). أثقل في الميزان من أُحُدٍ: أخرج أحمد في "المسند" (3991) عن ابن مسعود، ((أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكْفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَّ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده، لَهما أثقل في الميزان من أُحُدٍ)). سماع النبي صلى الله عليه وسلم لقراءته: روى البخاري ومسلم (800)، وأبو داود (3668)، والترمذي (3025) عن عبدالله بن مسعود قال: ((قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ، قلت: يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: نعم، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: حسبك الآن، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان)). سماع النبي لقراءته وتأمينه على دعاء ابن مسعود: وأخرج أحمد في "المسند" (4340) عن ابن مسعود، قال: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وهو بين أبي بكر، وعمر، وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ النساء، فانتهى إلى رأس المائة، فجعل ابن مسعود يدعو، وهو قائم يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسأل تُعْطَهُ، اسأل تعطه، ثم قال: من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد، فلما أصبح غدا إليه أبو بكر، ليبشِّره، وقال له: ما سألت الله البارحة؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة محمد في أعلى جنة الخلد، ثم جاء عمر فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم الله أبا بكر، ما سبقته إلى خير قط، إلا سبقني إليه)). جهاده في سبيل الله : لم يتخلف عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن أي غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد شهد المشاهد كلها. أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((من ينظر ما صنع أبو جهل، فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى بَرَدَ، فقال: آنت أبا جهل؟ أنت أبا جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتلتموه - أو قال: قتله قومه - قال أبو جهل: فلو غير أكَّار قتلني))، وفي مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم (7221): ((فلو أن غيرك قتلني)). شدة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم: ورد عن أبي قلابة، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُقبَض، وقبضه ذَهابُ أهله، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يُقبَض، أو متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدُّع، والتنطُّع، والتعمُّق، وعليكم بالعتيق" [3] . وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "مَن كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة وأبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقْلِ دينه؛ فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم كانوا على الهدْيِ المستقيم" [4] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا قال: "يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا - يعني مفصل الأنملة - فإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى، وإنه لم يكن أهل كتاب قط، إلا كان أول ما يتركون السنة، وآخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم أهل كتاب لتركوا الصلاة" [5] . عمر بن الخطاب يثني على ابن مسعود: ولِيَ ابن مسعود رضي الله عنه قضاء الكوفة وبيت مالها لعمر بن الخطاب، وصدرًا من خلافة عثمان ، ولمـا سيَّره عمر رضي الله عنه إلى الكوفة كتب إلى أهلها: "إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبدالله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر فاسمعوا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم فاسمعوا فتعلموا منهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي"؛ [أخرجه الحاكم في المستدرك (3 / 438) (5663)، صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي]. علمه والرجوع إليه في الفتوى: كان لابن مسعود رضي الله عنه المكانةُ العالية في نفوس الصحابة؛ لجوانب التميز في شخصيته، سيما في باب العلم والفتوى والاجتهاد؛ ولذلك أوصى معاذ بن جبل أصحابه في مرض موته، فقال: "إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهط؛ عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلام الذي كان يهوديًّا، فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه عاشر عشرة في الجنة))؛ [أخرجه الترمذي (3804)]. أخرج البخاري بسنده إلى هزيل بن شرحبيل، قال: ((سُئل أبو موسى عن بنت، وابنة ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائتِ ابن مسعود، فسيتابعني، فسُئل ابن مسعود، وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم)). وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي موسى الهلالي، عن أبيه، ((أن رجلًا كان في سفر، فولدت امرأته، فاحتبس لبنها، فجعل يمصه ويمجه، فدخل حلقه، فأتى أبا موسى الأشعري، فقال: حرمت عليك، قال: فأتى ابن مسعود، فسأله؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحرم من الرضاع، إلا ما أنبت اللحم، وأنشز العظم، وفي رواية أبي داود: فقال أبو موسى: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم)). وأخرج أبو داود عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، في رجل تزوج امرأةً، فمات عنها ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصَّداق، فقال: ((لها الصداق كاملًا، وعليها العِدَّة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق، وفي رواية: قال: اختلفوا إليه شهرًا - أو قال: مرات - قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العدة، فإن يكُ صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجراح، وأبو سنان، فقالوا: يا بن مسعود، نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق – وإن زوجها هلال بن مرة الأشجعي – كما قضيت، قال: ففرح عبدالله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وقال الإمام أحمد في "مسائله" (1147): حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن عامر، قال: "ما رأيت رجلًا أفقهَ صاحبًا من عبدالله بن مسعود". بيانه رضي الله عنه لأصول وأدلة الأحكام: أخرج النسائي وصححه الألباني عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: ((أكْثَروا على عبدالله ذات يوم، فقال عبدالله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترَون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقضِ بما في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، فليقضِ بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليقضِ بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا قضى به الصالحون، فليجتهد رأيه، ولا يقول: إني أخاف، وإني أخاف؛ فإن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدَعْ ما يُريبك إلى ما لا يريبك)). وفيه بيان حجية الإجماع. وفيه الحث على الاجتهاد في استنباط الأحكام لمن كان أهلًا لذلك. وفيه بيان لأدلة الأحكام؛ وهي الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد. ابن مسعود وروايته للحديث النبوي: اتفق البخاري ومسلم له في الصحيحين على أربعة وستين، وانفرد له البخاري بإخراج أحد وعشرين حديثًا، ومسلم بإخراج خمسة وثلاثين حديثًا، وله عند من بقي بالمكرر ثمانمائة وأربعون حديثًا. من حدَّث عنه: حدث عنه: أبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعمران بن حصين، وجابر، وأنس، وأبو أمامة، في طائفة من الصحابة ، وعلقمة والأسود، ومسروق، وعبيدة، وأبو واثلة، وقيس بن أبي حازم، وزر بن حبيش، والربيع بن خثيم، وطارق بن شهاب، وزيد بن وهب، وولداه؛ أبو عبيدة، وعبدالرحمن، وأبو الأحوص عوف بن مالك، وأبو عمرو الشيباني، وخلق كثير. وصيته لأتباعه: أخرج أحمد في "الزهد" (889)، وأبو داود في "الزهد" (159) عن عبدالرحمن بن حجيرة، عن أبيه، قال: كان عبدالله بن مسعود إذا قعد يقول: "إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتةً، فمن زرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبةً، ومن زرع شرًّا يوشك أن يحصد ندامةً، ولكل زارع ما زرع، لا يسبق بطيء بحظِّه، ولا يُدرِك حريص ما لم يُقدَّر له، فمن أُعطِيَ خيرًا فالله أعطاه، ومن وُقِيَ شرًّا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة". موته رضي الله عنه: مات عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، فدُفن بالبقيع، وكان يوم توفي فيما قيل: ابن بضع وستين سنة، وصلى عليه الزبير بن العوام رضي الله عنهما. وقال فيه أبو الدرداء يوم جاءه خبر موته: "ما تُرك بعده مثله"؛ [أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1540)]. وهذا ما تيسر. والله وحده من وراء القصد. [1] أخرجه البخاري(6736). [2] الظَّاهرُ أنَّها نزَلَت أوَّلًا هكذا، ثمَّ نزَل: ﴿ وَمَا خَلَقَ ﴾ ، ولم يَسمَعْها أبو الدَّرْداءِ وابنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنهما، فاقْتَصَرا على ما سَمِعاه؛ لأن المصحف جمع في عهد أبي بكر وأجمع عليه الصحابة. [3] الدارمي (144)، البدع والنهي عنها لابن وضاح (163)، السنَّة لمحمد بن نصر المروزي (80). [4] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2 / 97)، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (498)، الشريعة للآجري (1143). [5] مستدرك الحاكم (8584)، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (122)، الإبانة لابن بطه (194).
العَقْلُ والقَدَرُ الحمد لله؛ أما بعد: فلقد جعل الحكيم القدير سبحانه للعقل البشري سورَه الذي يحمي له سلامته، وحدَّه الذي يستحيل عليه اجتيازه، وسقفه الذي يعجِز مهما قويت حدَّته وذَكَتْ قريحته من اختراقه؛ ﴿ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]، فالمدرَكات أكثر وأعظم وأخفى، وأجلى من أن يحيط بها ذيَّاك العقل الإنساني؛ ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]؛ رحمةً من الله تعالى لذلك العقل العظيم، إنْ هو آمَنَ بربه، واتبع هديه، ولم يكن من الكافرين الذين سخِفت عقولُهم، وصغُرت أحلامُهم، وانقلب إدراكُهم، فأهوى بهم للدَّرَكَات، ومع ذلك فلا يزال غرورُ كثير من الناس يكابر في ذلك؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 6، 7]. فأعظم ما في الإنسان عقله وقلبه، فالعقل جوهرة في الغاية من النَّفَاسة، والنهاية في الإعجاز، والقلب سيد مختار، يتلقى من عقله ما يعينه على مراده، بهما علِم المرء وكُلِّف وعمِل وحرث وجرى في دار ابتلائه، بما جرت به مقاديره، وَهَبَهُ ربُّه عقلًا يُميز به الطريقين، وقلبًا يختار به أيَّ السبيلين، وقدرًا يحوطه في الدارين، قد نُسجت حياته على منواله، وخُبِّئت قابل أعماله تحت ستار غيبه، إرادته في خياريه تامة، ومشيئته في طريقيه مكتوبة، وهو بكل ذلك تحت مِظلة قدره، يُيسر لإدراكه، ويعمل مختارًا بموجبه؛ ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88]، و((كلٌّ مُيسَّر لِما خُلق له)) [1] ، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10]، فقدرُ الله تعالى سابق، وعملُ عبده لاحقٌ، وحجتُه على عبده قائمةٌ، فلا يعذب أحدًا إلا بعمله لا بمجرد قدره؛ ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]. إن دراسة مباحث علم القضاء والقدر لا بد فيها من مزيد حذرٍ وتحفُّظ، وتحرُّز واحتراس، فهو مزِلَّة أقدام لأقوام لم يتأدبوا بأدب التواضع؛ لجهلهم الطبيعي بمساربه وغموضه وحدوده التي لا يُرام ما وراءها، ولا تنكشف أستار أطرافها إلا على نور الشرع لا غير؛ لأن القدر سر الله تعالى، وقد أذِن لنا سبحانه بأن بيَّن لنا قدر ما نحتاجه من هذا العلم المقدَّس الشريف، وقلنا بشرفه وقدسيته لتعلقه بأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله؛ كالعلم، والخلق، والحكمة، والمشيئة، والإحاطة، والرحمة، والعدل، واللطف، والبر والرزق، وغيرها، بل قد جعله الله تعالى ركنًا سادسًا للإيمان، لا ينعقِد دينُ المرء، ولا يصح إسلامه إلا بالإيمان به. فمن رحمة الله تعالى بنا أن بيَّن لنا قدرَ ما نحتاجه من هذا العلم، دون ما لا حاجة لنا به في هذه الدار، ويكفينا فيه معرفته، وحُسن التصور لمراتبه الأربع؛ العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، وما يستتبع ذلك من مباحث كتلمُّس بعض الحكم الربانية في المقادير، وقضية عدم وجود الشر المطلق في العالم، ورحمة الله السابقة غضبه، وعدله المطلق، وملكه التام، وخلقه كل شيء، ونحو تلك المباحث والحواشي، دون التعمق الممنوع في أنفاق علوم لم يأذَن سبحانه لنا بها، مع ما يتْبَع مخالف ذلك من عقابيلَ عقلية، ومهالك فكرية، ومزالق إيمانية، فالله تعالى أرحم بنا من أنفسنا الأمَّارة. وإذا أغلق الله تعالى عنا بابًا، فليس مرد ذلك حرماننا من شيء يقربنا إليه، بل حقيقته حشو كرامة ربانية علِمها وقضى بها من خلقنا وحدد مداركنا وقوانا، فحرسنا بذلك وحفظنا من مزالق لا تقوى على الثبات فيها عقولُنا ولا أفئدتنا؛ ولقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال لمن نازعه في القدر: "القدر سر الله فلا تكشفه" [2] ؛ أي: لا تبحث عنه، ولا تحاول كشفه، فلا يعلمه غير الله، فالقدر مبني على علم الله وحكمته ومشيئته وربوبيته، والعبد - مهما كان حاله - عاجز عن إدراك ذلك، ولله الحكمة البالغة، وهو اللطيف الخبير. فقدر الله تعالى صادر عن علمه وحكمته وقدرته سبحانه، وحكمته صفة من صفات جلاله وجماله، فكيف للعبد أن يدرك إلا ما أذِن الله تعالى له به؟ وعليه أن يتدبر قول الحكيم العليم الرحيم: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، فعلى المؤمن الناصح لنفسه أن ينكمش على علمه الذي أذِن الله له بمعرفته، وأن يقنع به، ولا يحاول تجاوزه؛ حتى لا يَكِلَه الله تعالى إلى نفسه العاجزة الجاهلة القاصرة، فيضلَّ ويعطَب ويهلِك. ولقد نصحنا ورفق بنا ورحمنا من نهانا عن ذلك صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقِئ في وجنتيه الرُّمَّان، فقال: أبهذا أُمرتم، أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألَّا تنازعوا فيه)) [3] ، فللعقل حدُّه ومنتهاه الذي لا يسمح له شرعًا ولا قدرًا بتعديه، مهما كابر وظن أنه كذلك. وقال أبو المظفر السمعاني: "سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحَيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، اختُصَّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لِما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب" [4] ، وقال الآجري رحمه الله في كتابه العظيم ( الشريعة ): "لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر، فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق" [5] . وليست علوم القدر بمعزل عن غيرها من علوم كثيرة يستحيل على العقل البشري احتمالها؛ إما لأنها تفُوق قدرة مدارك العقل الإنساني، وإما لأنها متعلقة بعالم غير عالمنا، وإن تعلق بعضها بعالمنا ونحو ذلك، واعتبر ذلك بما هو أشرف من هذا كله؛ ألا وهو احتجاب الله تعالى عنا في الدنيا؛ لعدم قدرتنا على احتمال رؤية وجهه تبارك وتعالى في الحياة الدنيا؛ حتى لا تحرقنا سُبُحات وجهه الجميل الجليل، تبارك وتعالى، وجل وتقدس؛ ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) [6] ، وعن قتادة عن عبدالله بن شقيق قال: ((قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: رأيت نورًا)) [7] ؛ أي: نور الحجاب، أما في الآخرة فإن أعظم نعيم الجنة هو التمتع والتلذذ برؤية الله تبارك وتعالى؛ فعن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترَون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألَّا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا)) [8] ، وعن صهيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجِّنا من النار؟ فيُكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم)) [9] ، نسأل الله الكريم من فضله. ومن فروع هذا الباب الشريف معرفة أن فهمه يكون بأداة التفكر فيه؛ وهي العقل الذكي، المتحفظ، الملتزم بحدوده التي بيَّنها له الوحي، فلا يقول فيها بهوى، ولا يخوض فيها بغيٍّ؛ فيزيغ عنها فيهلِك؛ لأن موارد العقل اثنان لا غير: الأول: المكنة والجوهر والآلة الإدراكية المميزة لحدود التصورات، وإحسان المقارنات، وهضم المعلومات، وكشف المجهولات، بالعلم بحقائقها وحدودها ونحو ذلك. الثاني: حقيقة الأمر كما هو، وحقائق الأمور سواء أكانت معنوية أم مادية لا تكون متيقنة إلا ما أذن الشرع بإدراكها بالحواس، إما على سبيل التجربة والتأمل، والاختبار والاستمرار، أو عن طريق الإخبار الشرعي ابتداءً، فمهما علا كعب العقل، واشتد في حدَّتِه، وتاه في غروره، واتسع في مداركه، فهو يظل في كثير من الأمور - ولا بد - طفوليًّا ساذجًا، جاهلًا بتفاصيل ومآلات الحقائق المادية المعنوية الدنيوية، بَلْه الحقائق الغيبية والأخروية؛ ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]. ويلحق بذلك معرفة العقل الذي تُوزَن به الأمور في الشرع، فهل هو عقل فلان أو عقل فلان، أو هو العقل المنتظم لدى العقلاء الذي لا يختلفون على تقريراته، ولا يتنازعون في أحكامه؟ هو الثاني بلا ريب؛ لأن عقل الإنسان الواحد يعتريه الضعف، ويلحقه النقص، ويدركه العجز، ويعترض له الوهم، ويمكر به الهوى، ويغطيه النسيان، وغير ذلك من نواقصه ونواقضه، بل يعتريه تبدل الآراء في ثاني الحال، فيجد أن ما قرره اليوم هو عين ما نفاه غدًا، وما ظنه يومًا واجب التصديق بوزن المناطقة - البعيد عن عصمة الوحي المنزل - إذ به يرى خللًا فيه ينزله عن رتبة الواجب للجائز، وقد ينزل للمستحيل؛ ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37]. لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياك ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمدًا لك ليس لواحد إلاك إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين علاك يا أيها الإنسان مهلًا ما الذي بالله جل جلاله أغراك إن مشكلة العقل الكبرى ومعضلته العظمى أنه كائن معنوي لا حسي، فالحاسة مادة تُحَسُّ وتُدرَك بأمثالها ومتقابلاتها من الحواس، ولئن كان ميزان الحسيَّات ماديًّا، فإن الاتفاق على حدوده سهل يسير؛ لذا فقد جعل البشر مكاييل وموازين وأطوال ومقادير حسية لكل مادة بحسبها؛ منها الثقيل كالصخر والحديد والرمل، ومنه الخفيف كالمعادن النفيسة والجواهر الغالية ونحوها، فصار لكل مادة محسوسة إجمالًا ميزانًا واضحًا متفقًا عليه في الجملة. ولكن الأمر ليس كذلك في المعنويات، فميزانها ليس بوضوح موازين الحس؛ لصعوبة ضبط حدودها؛ لأنها مجرد معنًى في الذهن لا في خارجه من الحس المادي، لذلك تُقاس المعنويات بأمثالها أو أشباهها من المعنويات، فالصبر، والاحتمال، والحب، والبغض، والتوكل، والإيمان، والفرح، والذكاء، والرأي، والحفظ، والأمل، والذكرى، والألم، واللذة، والطموح، والكسل، والرغبة، والجوع، والحنين، والخوف، والغِبطة، والرحمة، والأسى، ونحو ذلك مما لا يكاد يتناهى تنوعًا واختلافًا، وتباعدًا واقترابًا، فلا ضابط محدد يضمن اتحاد ذهنين فأكثر على تقدير معنًى ما؛ لأنها غير منضبطة حسًّا ولدخول الخيال والوهم فيها. مع التنبيه إلى أن الإحكام في حسن التصور في الفطريات وما يتبعها؛ كالإيمان بالله وربوبيته ووحدانيته - أوضحُ وأحكم وأتم من موازين الحس طرًّا؛ لأن الوهم، والخيال، والتداخل، والخطأ، والخداع، والنسيان، والاشتباه، ونحو ذلك يدخل فيها ما لا يدخل في هذه الإيمانيات اليقينية القاطعة، ما لم تُشَبْ بخلل عقدي يتنكب بها عن سابلة الحق، وطريق الهدى، ونهج السعادة والفلاح، والله المستعان. إذا تقرر ذلك، فما هو العقل أو القواعد أو الحدود أو الميزان الذي يصح أن يكون ميزانًا يُتحاكَم إليه عند اختلاف العقول؟ والجواب: أن العقل بمفهومه العام منقسم إلى عقلين: فالعقل الأول: هو العقل الخاص بالفرد الواحد، وهو العقل الذي عليه مناط التكليف الشرعي، فيُقال: فلان عاقل، وفلان غير عاقل. والعقل الثاني: هو الأحكام العقلية التي اجتمع عليها جملة العقلاء، فالعقل الذي يرجع إليه العقلاء عند اجتماعهم أو اختلافهم، ويشيرون إليه بالأمور التي يقبلها ويقرها العقل الصحيح، أو يردها ويحيلها ونحو ذلك؛ فهو العقل المنتظم لمجمل آراء العقلاء، وهو القانون الذي انتظم عقولهم إجماعًا أو أغلبيًّا ساحقًا، فهو كالقواعد والموازين والحدود والقوانين التي اجتمعت عليها عقول عامة العقلاء، أو سوادهم الأعظم في بعض الأمور، فإن خالفها أحد يومًا قالوا: قد خالف العقل وشذ بالرأي، وبهذا سار الناموس الرباني على بني الإنسان، فلم يتركهم هملًا ولم يخلقهم سدًى، ولم يجعلهم أفرادًا منعزلين لكل منهم نظامه، وقانونه، ومزاجه، وطيشه، وبهيميته، وشهوته في كل شيء، بل قد جمع قرائحهم وألَّف عقولهم على جملة من الأمور التي تنتظم أمورهم الكبار، التي لا يقوم معاشهم إلا بها، فاصطلحوا وتواطؤوا وتوافقوا - عفويًّا – بأمر ربهم الكوني، وتقديره الإلهي، ورحمته الأزلية السرمدية، على حدود عقلية، ومدارك معرفية، بها يفقهون الحد الأدنى من الأمور الحياتية والمعاشية والمصيرية، ولعل هذا من أسباب مراعاة الشريعة العرف السليم غير المتعدي حدود الشرع، فهو من هذا الباب ولو من وجه. واعلم أن من ثبت منهم على حد العقل الصحيح فلم ينفلت عِقال عقله، فإنه ولا بد سينتظم له أمور حياته الأبدية الأخروية أيضًا؛ لذا كرر الله تعالى توبيخ من لا يُعمِل عقله فيما ينفعه في آخرته بقوله: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وإنما يكون العقل وسيلة هدى لصاحبه إن عامل عقله بإنصاف، فلم يتبع عنه هواه، ويتضح ذلك بأمرين: أولاهما: أنها تدله ضرورةً على أمور الفطرة الأولى التي لم تنحرف بسيول ضلالات الآخرين، فلا زال في باطن كل عقل علمٌ كامنٌ، يقتضي اعترافه وإيمانه بربوبية وإلهية الله تعالى، ما لم ينحرف بمؤثر خارجي، ينجِّس علمه، ويعكِّر فهمه، ويظلم معرفته. إضافة إلى أن ذلك الحد الأدنى من الحاجة المعرفية من الكلام والعلم، والحياة والتدين، والحرث والانتفاع بخير الأرض والسماء بإذن الله تعالى للاستخلاف الآدمي في الأرض - هو موجود معهم من حينهم؛ لأن الله تعالى قد علم آدم أسماء كل شيء، ويسر له أسباب المعاش في الأرض له ولذريته، فتعاقب نسله على قبول أحكام ما اجتمعت بداهتهم عليه، ومما أثروه عمن سبقهم من آبائهم. وعليه؛ فهذا التوافق والتواطؤ العقلي والحضاري على كبريات ومُحتَّمات ومُسلَّمات أمور الحياة الدنيا والأخرى لم يبدأ صدفة، بل بدأ بتعليم الله تعالى لآدم الذي نقلها لخَلَفِهِ فسارت في الأجيال، حافظة لهم أسباب اجتماعهم وتفاهمهم وتعاونهم، ثم نُسِيَ بعضها وبقِيَ بعضها، وتراكمت خبراتهم وتجاربهم في كل جهة من جهات الحس والمعنى مما يطيقون، والمقصود أن العقل الصحيح إن سلِمَ من مؤثر من خارج، فهو يرجع بصاحبه إلى الفطرة الصحيحة والعقيدة النقية الأولى؛ ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]. وثانيهما: أنها تلزمه الاكتفاء بنبع الهدى الوحيد المتمثل بما جاء به المرسلون، وهذا جليٌّ ظاهر لا يتردد فيه إلا جاهل أو مكابر، برهان ذلك: أن العاقل كلما قوِيَ عقله واتسعت مداركه، أيقن أن ما يجهله أكثر مما يعلمه، وأن وراء هذا الكون المشهود، والخلق البديع، والجمال الباهر، والتناسق المعجز، والدقة العجيبة، والعظمة الهائلة أن وراء ذلك كله ربًّا قديرًا، وإلهًا يستحق توحيده بالتألُّه والعبادة، وأن العبد مهما وصل من قوة أو إرادة أو علم، فهو فقير بكلِّيَّته لعون سيده وتربيته وحفظه وهدايته، مهما شطت به ظعائن الهوى، وندَّت منه كبائر الجحود، وهجمت عليه خواطر الشيطان، فإذا تدبر حاله ذلك، علِم أن محدودية عقله مهما بلغت حدته وسعته، فإنها تلزمه الاكتفاء بما جاء من المصدر الوحيد الموثوق، الذي لا تنتهي أطرافه في هذه الدار الدنيا من علوم الشرع المنزَّل، وهو العلم المحكَم الكامل الفذُّ الجامع المانع، فإن بحث بجد وإخلاص للحقيقة، وجد أن الإسلام هو الدين الوحيد اللائق بعهد الله تعالى للبشر؛ لِما فيه من براهين عقلية، ودلالات فطرية، ولوازم معرفية، تقوده للإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالهدى من الله تعالى، فإذا كان كذلك، سلَّم معاقد التسليم، وأزِمَّة الانقياد للشرع الإلهي الحنيف. واعلم - رحمني الله وإياك - أن المعيار الضابط لهذا العقل العام هو الشرع المطهر المصون، فما قرره الشرع صريحًا صحيحًا، علمنا أن العقل العام للعقلاء يقبله، وما نفاه الشرع أو منع منه ونحو ذلك، فحينها نعلم يقينًا أنه مخالف للعقل الصحيح، ومحصلة هذا أمران: الأول: أنه لا تعارض ألبتة بين النص الصحيح الصريح وبين العقل الصحيح، فإن ظهر تعارض، فالأمر عائد إما لعدم صحة النص - الكتاب والسنة - وإما لعدم صراحته، ومن ثَمَّ الخطأ في فهمه، وإما لخطأ التقرير العقلي أصلًا، فإن كان النص صحيحًا صريحًا كنصوص الإيمان والصفات واليوم الآخر والقَدَر والنبوات ونحو ذلك، فحينها يكون الخلل في التصور العقلي للشخص الذي ظن وجود تعارض؛ إذ لا تعارض ألبتة بين ما قاله الله تعالى وبين ما خلقه، فالعقل خلقه، والشرع أمره؛ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]. الثاني: أن معيار العقل السليم، ومسبار الإدراك العميق هو الشرع الصحيح، ومن زعم التعارض بين دلائل الشرع وموارد العقل، فعليه أن يراجع ميزان دلائل وتصورات عقله مع ذلك العقل المنتظم للعقلاء، وهو ما تبينه الشريعة الغراء، فإن هذا العقل الصحيح يستحيل أن يخالف الشرع؛ ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88]، ﴿ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ﴾ [الملك: 3]. وبالجملة؛ فالعقل العاقل هو ذلك العقل المستضيء بالعلم المعصوم من الزيغ، أما العقل المنفلت من عقاله، فهو ما نقص إدراكه بجهل، أو تعكر تصوره بكِبرٍ، أو تساقطت قوته بفساد قصد، أو انحرفت معرفته بتنكُّب الوحي لِما سواه، ففساد الماء من المياح، وفساد الجدول من تلوث ينبوعه، وفساد القصد ملوث للبصيرة، فكما أن صلاح القلب له تأثير مباشر على سلامة التصور وذكاء القريحة، فالضد بالضد، فالزكاء مورد الذكاء، وتدبَّرْ راشدًا مسددًا مهديًّا قولَ الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 56]، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله. [1] مسلم (٦٨٣٠). [2] الطحاوية (93). [3] الترمذي (2133)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2 /223). [4] نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 477). [5] الشريعة للآجري (149). [6] مسلم (1/111). [7] مسلم (1/ 178)، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الزاد (3/ 36- 38): "واختلف الصحابة هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 13، 14]: إنما هو جبريل، وصح عن أبي ذر أنه سأله: هل رأيت ربك؟ فقال: (( نور أنى أراه)) ، أي: حال بيني وبين رؤيته نور، كما قال في لفظ آخر: ((رأيت نورًا))، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يَرَه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: "وليس قول ابن عباس: إنه رآه مناقضًا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: ((رأيت ربي تبارك وتعالى)) ، ولكن لم يكن هذا في الإسراءِ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقال: نعم رآه حقًّا؛ فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى: إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحُكيت عنه روايتان، وحُكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، وأما قول ابن عباس: إنه رآه بفؤاده مرتين؛ فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين في صورته التي خُلِقَ عليها، وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم". [8] البخاري 1/145 (554)، ومسلم 2/113 (633) (211). [9] مسلم 1/112 (181) (297).
تسمية الأشياء بغير أسمائها الشرعية من حيل الخبثاء المغرضين الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، وخبير بما يصنعون، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؛ بل ويعلم ما كان منهم وبهم وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان سيكون؟! جَلَّ في عُلاه ولا معبود سواه، وهو الذي أمرنا أن نتَّبِع ولا نبتدع، ودعانا للاقتداء برسوله النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم، ونقتفي آثره القويم، وصراطه المستقيم، خير البريَّة وأفضل من عَلَّم البشريَّة، ما من خير إلا ودعانا إليه، وما مِن شَرٍّ إلا وحذَّرنا منه ومن سوء عواقبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، إذا تحدَّث كفى، وإذا صاحَبَ صَفَا، وإذا عاهَدَ وفَى، أُتِي جوامع الكَلِم، ويحسن اختيار الكلمة والمصطلح كما تعلم من كتاب الله القرآن الكريم الذي جاء فيه قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104]؛ وذلك لأنه كما في تفسير الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلُّمِهم أمْرَ الدين: ﴿ رَاعِنَا ﴾ ؛ أي: راعِ أحوالَنا، فيقصدون بها معنًى صحيحًا، وكان اليهود يريدون بها معنًى فاسدًا، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة؛ سدًّا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز، إذا كان وسيلةً إلى مُحرَّم، وفيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفُحْش، وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن، فقال: ﴿ وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، ﴿ وَاسْمَعُوا ﴾ لم يذكر المسموع، ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن، وسماع السُّنَّة التي هي الحكمة، لفظًا ومعنى واستجابة، ففيه الأدب والطاعة"؛ (ا هـ). وعلى نفس النهج القرآني القويم يُنبِّهنا صلى الله عليه وسلم لحُسْن اختيار اللفظ والعناية بالكلمة؛ فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُؤوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير»؛ سنن ابن ماجه. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «إِن مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ السَّلامِ، وَحُسْنُ الْكَلامِ»؛ الطبراني، ومن حُسْن الكلام احترام اللفظ القرآني والحديثي والتشبُّث به، وحسن اختيار الكَلِم واللفظ أولًا قبل التحدُّث به في كل أمور ديننا ودُنْيانا. نَعَم، لقد أخبرنا الله عز وجل عن شياطين الإنس والجِنِّ أنهم يُوحِي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القول غرورًا، وهذه من حيلهم وخبثهم في إضلال بني آدم؛ إلباس الشيء غير لبوسه، وتسميته بغير اسمه حتى يقع تزيينه للنفوس الجاهلة والمتردِّدة الضعيفة فتقترف ما حرَّم الله تعالى، وتستحقُّ بذلك عقاب الله عز وجل، بلى، إنَّ شياطين الإنس والجن الذين يمتهنون الافتراء والتلبيس على الناس يدركون تمامًا خطورةَ الكلمة وأهميتها؛ لذلك يحرصون على التلاعب بها، ويسمُّون الأمور بغير اسْمِها حتى تتقبَّلَها النفوس وتنخدع وتطبع معها، ولا يزالون يُزيِّنُون لهم ذلك حتى يقعوا في المحذور والحرام، وهذه بُغْيَتُهم ومقصدهم من تحريف الكَلِم وتزيينه وزخرفته! بلى، إن تحريف الكَلِم عن مواضعه لمن أشدِّ أنواع التلبيس والتضليل، وقد برز اليهود في هذا المكر والتحريف عن غيرهم من الأُمَم؛ حيث حرَّفُوا ألفاظَ التوراة والإنجيل، وحرَّفُوا معانيها، وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم، واتَّبَعهم في هذا الغي والضلال الذين في قلوبهم زيغ ومرض من بني جلدتنا؛ من مُغْرِضين وأعداء ديننا الإسلامي الحنيف، ولتفادي الوقوع في فخِّهم وضلالهم، على المسلم اللبيب الفطن ألَّا ينخدع بهذه الحيل الخدَّاعة، وأن يتفطَّن لها، ويكون على بصيرة من أمر دينِه ودُنْياه، فلا يمتدح إلا ما امتدحه الله ورسوله، وإنْ ذَمَّه كُلُّ الناس، ويذم ما ذمَّه الله ورسوله وإن امتدحه كلُّ الناس وأهل الباطل وزخرفوه وزيَّنوه. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- تسمية الإلحاد بالحداثة والحرية؛ للتطبيع معه وقبوله. 2- و تسمية الربا الحرام بالفائدة؛ تمهيدًا للتعامل به. 3- وتسمية الزنا والتفسُّخ بالحرية الفردية والعلاقات الرضائية؛ لعل النفس تميل إليه وتقترب منه. 4- وتسمية الخمر ومشتقاته بالمشروبات الروحية ولسان حالهم يقول: لا حرج في شربه وتناوُله. 5- وتسمية الحجاب واللباس الشرعي بالرجعية والظلامية والتزمُّت أو بـ"الخرْقة"- باللسان الدارج- حتى تنفر منه البنات والنساء ولا يُعِيروه اهتمامًا. 6- وتسمية المجون والفحش بالفَنِّ والنجومية؛ حتى لا تتحرَّج منه النفوس. 7- وتسمية الرشوة بالهدية والإكرامية إيذانًا بانتهاء زمن الرشوة واللفظ الشرعي. 8- وتسمية القمار باليانصيب ولعب الحَظِّ؛ حتى يكسر حاجز الكلمة المنفرة منه، ودفع الشباب له إيهامًا بالغِنى القريب وتحقيق الأحلام. 9- وتسمية التبرُّج والسفور بالتحرُّر والرُّقي والتقدُّم؛ ليجعلوا النساء والبنات يطبعْنَ معه، وحتى تكون في متناولهم متى شاؤوا وحيثما شاؤوا. 10- وهكذا تسمية كذا بدل كذا... وتسمية... وتسمية.... واللائحة طويلة... ومما لا شك فيه أن كل هذه وما على شاكلتها من مصائد شياطين الجن والإنس وفخاخهم ومكائدهم، ف تسمية الأمور بغير أسمائها الشرعية والحقيقية بداية النهاية للغرض من التسمية أصلًا، وهي من حِيَل الخبثاء المغرضين كما أسلفنا، وهي كذلك من الأساليب القذرة والقديمة للتلبيس على الناس؛ لأن الاسم غالبًا ما يُوحي بخُبْث المُسمَّى وقبحه؛ مما يحدث لدى المتلقِّي نفورًا منه واشمئزازًا، لأجل ذلك يلبس المحرم والخبيث زيًّا ورداءً ليس له؛ لتزينه للناس ودفعهم لاقترافه والوقوع فيه كممنوع؛ ومِنْ ثمَّ الوقوع فيما حرَّم الله تعالى وأمر بتجنُّبه؛ ومِنْ ثَمَّ الوقوع في النار عياذًا بالله تعالى. وفي الختام: ليكُنْ في علم كل مسلم لبيب أن خير مَنْ يُحْسِن اختيار اللفظ والكلمة في كل أمورِنا هو الله سبحانه وتعالى ورسولُه المختار صلى الله عليه وسلم، وكل مَنْ يحاول غير ذلك فقد جانب الصواب؛ إمَّا عن غفلة وجهل، وإمَّا عن قصد وخبث وغرض قذر، فتغيير اسم الشيء المُحرَّم لن يجعله حلالًا أبدًا، وتزيين الباطل لن يجعله حقًّا، وزخرفة الخبيث لن يجعله طيِّبًا مهما أوتينا من بلاغة وبيانٍ. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (الله سبحانه إنما حَرَّم هذه المُحرَّمات...لما اشتملت عليه من المفاسد المضرَّة بالدنيا والدين، ولم يحرمها لأجل أسمائها وصورها)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة مُتَّفِقة عليها.. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثمَّ قد يُجعل اللفظ حجة بمجرده، وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق (المرجع: النبوات، ص 333)، ولنكن جميعنا حريصين كل الحرص على تسمية الأشياء بأسمائها الشرعية كما سمَّاها الله الحكيم الخبير ورسوله الكريم الذي أتي الحكمة وجوامع الكلم حتى يبقى لهذه الأسماء أثَرُها البالغ في النفوس وتُبلغ من خلالها العبر المقصودة والدروس. نسألُ الله تعالى أن يهدينا إلى الطيب من القول، والصالح من العمل، وأن يهديَنا إلى صراط الحميد، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأقوالنا... آمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
سلمان الفارسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد: فسلمان الفارسي رضي الله عنه هو أحد الذين كتب الله تعالى لهم الهداية، بالدخول في دين الإسلام، بعد أن كان من المجوس، الذين يعبدون النار، فأحببت أن أذكِّر نفسي وطلاب العلم الكرام بشيء من سيرته العطرة، وتاريخه المشرق المجيد، لعلنا نسير على ضوئه؛ فنسعدَ في الدنيا والآخرة. اسمه ونسبه: هو سلمان الفارسي، أصله من فارس، وكان اسمه قبل الإسلام: مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك، من ولد آب الملك، وهو سابق الفرس إلى الإسلام. كنيته: أبو عبدالله. ويُقال له: سلمان ابن الإسلام، وسلمان الخير؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 2، ص: 283، سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 505]. إسلام سلمان الفارسي: روى أحمد عن عبدالله بن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه (فمه)، قال: ((كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يُقال لها: جي، وكان أبي دهقان قريته – كبيرها - وكنت أحبَّ خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته؛ أي ملازمَ النار، كما تُحبس الجارية، وأَجهدتُ في المجوسية حتى كنت قَطَنَ – خادم - النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعةً، قال: وكانت لأبي ضَيعة – أرض - عظيمة قال: فشُغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شُغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطَّلِعْها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمرُ الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتِها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا، والله إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثتْ إليَّ النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضَوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذِنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم، أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجلَ سوءٍ، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطِهِ المساكين، حتى جمع سبع قِلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لِما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدُلَّنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًّا لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدَّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالموصل؛ وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالْحَقْ به، قال: فلما مات وغُيِّب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا بِنِصِّيبين؛ وهو فلان، فالْحَقْ به، وقال: فلما مات وغُيِّب، لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي، قال: فأقِمْ عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر، قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما نعلم أحدًا بقِيَ على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأتِه، قال: فإنه على أمرنا، قال: فلما مات وغُيِّب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقِم عندي، فأقمت مع رجل على هديِ أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغُنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر، قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمانُ نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حَرَّتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد، فافعل، قال: ثم مات وغُيِّب فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم، فأعطيتهموها، وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى، ظلموني، فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحِق لي في نفسي، فبينما أنا عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكرٍ، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي، أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال فلان: قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدِم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي، قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَوَاء، حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي، فلكمني لكمةً شديدةً، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبِلْ على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئت به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازةً من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدرته، عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبِّله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحول فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا بن عباس، قال: فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق، حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتِبْ يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفَقير، وبأربعين أوقِيَّةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وديةً، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر - يعني الرجل بقدر ما عنده - حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقِّر لها، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي، ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها، جئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقِيَ عليَّ المال، فأُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ قال: فدُعيت له، فقال: خذ هذه، فأدِّ بها ما عليك يا سلمان، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟ قال: خذها؛ فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقيةً فأوفيتهم حقهم، وعُتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفُتْني معه مشهد؛ [حديث حسن، مسند أحمد، ج: 39، ص: 140، حديث: 23737]. علم سلمان الفارسي: روى سلمان ستين حديثًا، وأخرج له البخاري أربعة أحاديث، ومسلم ثلاثة أحاديث، روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وعقبة بن عامر، وأبو سعيد الخدري، وكعب بن عجرة، وأبو عثمان النهدي، وشرحبيل بن السمط، وغيرهم؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 505، أسد الغابة لابن الأثير، ج: 2، ص: 287]. روى البخاري عن سلمان الفارسي قال: "فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ستمائة سنة"؛ [البخاري حديث: 3948]. روى الترمذي عن يزيد بن عميرة قال: ((لما حضر معاذ بن جبل الموتُ، قيل له: يا أبا عبدالرحمن، أوصِنا، قال: أجلسوني، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلام، الذي كان يهوديًّا فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 2991]. روى ابن سعد عن أبي البختري قال: "سُئل علي بن أبي طالب عن سلمان الفارسي، فقال: أُوتيَ العلم الأول والعلم الآخر، لا يُدرَك ما عنده"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 4، ص: 64]. روى ابن سعد عن يزيد بن عميرة، وكان تلميذًا لمعاذ بن جبل، أن معاذًا أمره أن يطلب العلم من أربعة، أحدهم سلمان الفارسي؛ [الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج: 4، ص: 64]. مناقب سلمان الفارسي: (1) روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُنزلت عليه سورة الجمعة: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: 3]، قال: قلت من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا - اسم كوكب - لَنَاله رجال أو رجل من هؤلاء))؛ [البخاري حديث: 4898، مسلم حديث: 2546]. (2) روى البخاري عن أبي جحيفة وهب السوائي، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلةً - مرتدية ثياب مهنة المنزل، وتاركة لثياب الزينة - فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصَلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان))؛ [البخاري حديث: 1968]. (3) روى مسلم عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو، ((أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذَها، قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر، فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي))؛ [مسلم حديث: 2504]. هذا الإتيان لأبي سفيان كان قبل إسلامه في الهدنة بعد صلح الحديبية، وذلك عندما جاء لزيارة ابنته، أم حبيبة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ قال النووي: "في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء"؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 8، ص: 305]. جهاد سلمان الفارسي: شهد سلمان مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق، وهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وشهد خيبرَ، وفتحَ مكة، وحنينًا، وتبوك، وغيرها من باقي المشاهد، وشهد فتوح العراق، وكان أميرًا على المدائن (عاصمة الفرس) في خلافة عمر بن الخطاب؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 2، ص: 285، الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 2، ص: 60]. أخوة الإسلام بين سلمان وعمر بن الخطاب: قال العتبي: "بعث إليَّ عمر بن الخطاب بحُلَل (ثياب) فقسمها، فأصاب كل رجل ثوبًا، ثم صعد المنبر وعليه حلة، والحلة ثوبان، فقال أيها الناس: ألا تسمعون، فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبدالله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا، وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبدالله، ثم نادى: يا عبدالله بن عمر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله - أستحلفك بالله - الثوب الذي ائتزرتُ به، أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان: فقل الآن نسمع"؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 1، ص: 535]. سلمان يأكل من عمل يده: (1) قال الحسن البصري: "كان عطاء سلمان الفارسي خمسة آلاف درهم، وكان أميرًا على ثلاثين ألفًا من أهل المدائن، عاصمة الفرس، يخطب في عباءة، يفترش نصفها ويلبس نصفها، وكان إذا خرج عطاؤه، تصدق به، وكان يأكل من عمل يده؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 4، ص: 65]. (2) قال النعمان بن حميد: "دخلت مع خالي على سلمان بالمدائن - وكان سلمان أميرًا عليها - وهو يعمل الخوص فسمعته يقول: أشتري خوصًا بدرهم، فأعمله، فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 4، ص: 66]. تواضع سلمان الفارسي: روى أبو نعيم عن أبي قلابة: أن رجلًا دخل على سلمان الفارسي، وهو يعجن، فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 201]. قبس من كلام سلمان الفارسي: (1) قال أبو البختري: "صحب سلمان رضي الله تعالى عنه رجلٌ من بني عبس، قال: فشرب من نهر دجلة شربة، فقال له سلمان: عُدْ فاشرب، قال الرجل: قد رويتُ، قال سلمان: أترى شربتك هذه نقصت من ماء دجلة شيئًا؟ قال: لا، قال: كذلك العلم لا ينقص، فخُذْ من العلم ما ينفعك؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 188]. (2) قال سلمان: "أكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرهم كلامًا في معصية الله عز وجل"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 188]. (3) قال سلمان: "أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث: ضحكت من مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يُغفَل عنه، وضاحك ملء فيه، لا يدري أمسخطٌ ربه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة؛ محمد وحزبِه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين، حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 207]. (4) قال سالم مولى زيد بن صوحان: "كنت مع مولاي زيد بن صوحان في السوق، فمرَّ علينا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقد اشترى وسقًا (كمية كبيرة) من طعام، فقال له زيد: يا أبا عبدالله، تفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن النفس إذا أحرزت رزقها (حصلت عليه)، اطمأنت، وتفرغت للعبادة، ويئس منها الوسواس"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 207]. (5) قال سلمان: "إنما مَثَلُ المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره، منعه، وقال: لا تقربه، فإنك إن أتيته أهلكك، فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما قد فضل به غيره من العيش، فيمنعه الله عز وجل إياه ويحجزه، حتى يتوفاه، فيُدخله الجنة"؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 1، ص: 546، 547]. (6) قال سلمان: "إذا أسأت سيئة في سريرة (السر)، فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية؛ لكي تكون هذه بهذه"؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 1، ص: 548]. (7) قال سلمان: "لما خلق الله آدم، قال: واحدة لي وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك؛ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك فما عمِلت من شيء جزيتُك به، وأما التي بيني وبينك، فمنك المسألة والدعاء، وعليَّ الإجابة"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 99، رقم: 35664]. (8) قال سلمان: "كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، فكانت ترى بيتها من الجنة"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 99، رقم: 35665]. (9) قال سلمان: "إذا كان العبد يذكر الله في السراء ويحمده في الرخاء، فأصابه ضرٌّ فدعا الله، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف، فيشفعون له، وإن كان العبد لم يذكر الله في السراء، ولا يحمده في الرخاء، فأصابه ضر فدعا الله، قالت الملائكة: صوت منكر فلم يشفعوا له"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 101، رقم: 35673]. (10) روى ابن أبي شيبة عن أبي عثمان، قال: قال لي سلمان الفارسي: "إن السوق مَبيض الشيطان ومَفرخه، فإن استطعت ألَّا تكون أول من يدخلها، ولا آخر من يخرج منها، فافعل"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 104، رقم: 35684]. (11) قال سلمان: "لو بات الرجلان أحدهما يعطي القيان البيض (يُكثِر من الصدقات)، وبات الآخر يقرأ القرآن ويذكر الله، لرأيت أن ذاكر الله أفضل"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 103، رقم: 35679]. (12) روى ابن أبي شيبة عن جرير، قال: "نزلنا الصفاح (اسم مكان) فإذا نحن برجل نائم في ظل شجرة، قد كادت الشمس تبلغه، قال: فقلت للغلام: انطلق بهذا النطع فأظِلَّه، فلما استيقظ إذا هو سلمان، قال: فأتيته أسلم عليه، قال: فقال: يا جرير، تواضع لله، فإن من تواضع لله رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قال: قلت: لا أدري، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، ثم أخذ عودًا لا أكاد أراه بين إصبعيه، فقال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال: قلت: يا أبا عبدالله، أين النخل والشجر؟ فقال: أصوله اللؤلؤ والذهب، وأعلاه الثمر"؛ [إسناده صحيح، مصنف ابن أبي شيبة، ج: 12، ص: 101، رقم: 35672]. وفاة سلمان الفارسي: (1) روى ابن ماجه عن ثابت عن أنس بن مالك قال: ((اشتكى سلمان فعاده سعد - أي: ابن أبي وقاص - فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس، أليس، قال سلمان: ما أبكي واحدةً من اثنتين؛ ما أبكي ضنًّا للدنيا، ولا كراهيةً للآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهِد إليَّ عهدًا، فما أراني إلا قد تعديت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد، فاتقِ الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همِّك إذا هممت، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعةً وعشرين درهمًا من نفقة كانت عنده))؛ [حديث صحيح، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 3312]. (2) قال عامر الشعبي: "أصاب سلمان صرة مسك يوم فُتحت جلولاء، فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة، قال: هاتي هذه المسكة، فمرسها - ضعيها - في ماء، ثم قال: انضحيها حولي؛ فإنه يأتيني زوَّار الآن، قال: ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلًا حتى قُبض (مات)"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 4، ص: 69]. توفي سلمان الفارسي في خلافة عثمان بن عفان بالمدائن، سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة؛ [صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 1، ص: 548]. بشرى صالحة: روى ابن سعد عن سعيد بن المسيب، عن عبدالله بن سلام أن سلمان قال له: أي أخي، أينا مات قبل صاحبه، فليتراءَ له، قال عبدالله بن سلام: أو يكون ذلك؟ قال: نعم، إن نَسَمة المؤمن مخلَّاة (طليقة) تذهب في الأرض حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجن، فمات سلمان، فقال عبدالله: فبينما أنا ذات يوم قائل بنصف النهار على سرير لي، فأغفيت إغفاءة، إذ جاء سلمان، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقلت: السلام عليك ورحمة الله أبا عبدالله، كيف وجدت منزلك؟ قال: خيرًا، وعليك بالتوكل، فَنِعْمَ الشيءُ التوكلُ، وعليك بالتوكل، فنعم الشيء التوكل، وعليك بالتوكل، فنعم الشيء التوكل؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 4، ص: 70، حلية الأولياء لأبي نعيم، ج: 1، ص: 205]. رحم الله سلمان الفارسي رحمةً واسعةً، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة. ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم الكرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة؛ فإن دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة؛ وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مـحمد، وآله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
شرح السنة للإمام المزني تحقيق جمال عزون صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب "شرح السنة"، للإمام المزني (ت 264 هـ)، تحقيق: د. "جمال عزون"، نشر: "دار المنهاج للنشر والتوزيع". شرح السنة للمزني أحد كتب السنة والعقيدة؛ ألفه إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي (ت 264 هـ)، وهي رسالة مسماة باسم " شرح السنة "، أو " عقيدة الإمام المزن ي" كما جاءت في سماعات بعض النسخ، وهي واحدة من تلكم الجهود لأسلافنا في بيان اعتقاد السلف. وقد بين فيه ما يلى: بيان طريقة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، وعبادة الله - عز وجل -، وحق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحق الصحابة - رضي الله عنهم -، وحق الأولياء والأئمة، وإصلاح المجتمع، ومسائل القبر والآجال والبعث والنشور، وما جاء في الجنة والنار، والرؤية يوم القيامة، وطاعة ولي الأمر، والإمساك عن تكفير أهل القبلة. كما بين فيها المحافظة على أداء الفرائض والرواتب واجتناب المحرمات، والصلاة وراء الأئمة والجهاد معهم والحج، وقصر الصلاة والاختيار بين الصيام والإفطار في الأسفار. وسبب تأليف الرسالة أن جماعة من أهل السنة بطرابلس المغرب كانوا في مجلس مذاكرة، فجرى ذكر علماء أهل السنة كمالك والشافعي والثوري وأحمد والمزني وغيرهم، فعارض معارض في المزني وقال: ليس من جملة العلماء، فلما أنكروا عليه، قال: لأني سمعته يتكلم في القدر، ويجادل بالقياس والنظر، فغمهم ذلك وأرسلوا إليه يسألوه عن عقيدته، فكتب إليهم هذه الرسالة يبين فيها معتقده وهو معتقد أهل السنة والجماعة. ونجد أن رسالته هذه متفقة مع أقواله العقدية التي نقلها عنه العلماء في إثبات الصفات، وأن كلام الله غير مخلوق، وإثبات الرؤية، وأن الأعمال من الإيمان، والنهي عن الخوض في علم الكلام. وقد اعتمد المحقق في تحقيق هذه العقيدة على ثلاث نسخ خطية، وقدم لها بمقدمة نافعة في التعريف بالرسالة ومؤلفها، كما أثبت نسبة هذا المؤلَّف إلى صاحبه وعلق عليه بما يقتضيه المقام، وذيل الرسالة بالفهارس التي تخدم الرسالة. وصاحب الرسالة المزني هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق بن مسلم بن نهدلة بن عبد الله المصري (175 هـ- 264 هـ). حدث عن: الشافعي، وعن علي بن معبد بن شداد، ونعيم بن حماد، وغيرهم. وهو قليل الرواية، ولكنه كان رأسًا في الفقه. حدث عنه: إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة، وأبو الحسن بن جوصا، وأبو بكر بن زياد النيسابوري، وأبو جعفر الطحاوي، وأبونعيم بن عدي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو الفوارس بن الصابوني، وخلق كثير من المشارقة والمغاربة. وامتلأت البلاد بـ " مختصره " في الفقه، وشرحه عدة من الكبار، بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة بـ " مختصر " المزني. قال الفقيه أبو إسحاق: فأما الشافعي -رحمه الله- فقد انتقل فقهه إلى أصحابه، فمنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني. مات بمصر في سنة أربع وستين ومائتين. قال: وكان زاهدًا عالمًا مناظرًا محجاجًا غواصًا على المعاني الدقيقة. صنف كتبا كثيرة: "الجامع الكبي ر"، و" الجامع الصغير" ، و" المنثور "، و" المسائل المعتبرة "، و"ا لترغيب في العلم "، وكتاب " الوثائق ". قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي، قال البيهقي: ولما جرى للبويطي ما جرى كان القائم بالتدريس والتفقيه على مذهب الشافعي المزني، قال المنصور الفقيه: لم تر عيناي وتسمع أذني أحسن نظمًا من كتاب المزني، وأنشد أيضًا في فضائل المختصر وذكر من فضائله شيئا كثيرًا. وقال الشافعي: "لو ناظر المزني الشيطان لقطعه ". وهذا قاله الشافعي والمزني في سن الحداثة، ثم عاش بعد موت الشافعي ستين سنة يقصد من الآفاق وتشد إليه الرحال، حتى صار كما قال أحمد بن صالح: لو حلف رجل أنه لم ير كالمزني لكان صادقًا، وذكروا من مناقبه في أنواع طرق الخير جملًا نفيسة لا يحتمل هذا الموضع عشر معشارها. وهي مقتضى حاله وحال من صحب الشافعي. قال الذهبي: وبلغنا أن المزني - رحمه الله - كان مجاب الدعوة، ذا زهد وتأله، أخذ عنه خلق من العلماء وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي في الآفاق. توفي المزني بمصر ودفن يوم الخميس آخر شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين، قال البيهقي: يقال كان عمره سبعًا وثمانين سنة. للإمام المزني رحمه الله مؤلفات متعددة غالبها في الفقه ومسائل المذهب، فمن تلك المؤلفات: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق. غير أن أشهر كتبه وأبعدها صيتًا، وأكثرها شروحًا من علماء المذهب، هو كتابه المختصر الذي عُرف بمختصر المزني، وقد أثنى عليه أهل العلم، وتحدثوا عن ذيوعه بين الناس؛ قال أبو العباس أحمد بن سريج: "وهو أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي رضي الله عنه، وعلى مثاله رتبوا، ولكلامه فسروا وشرَحوا" . والمحقق هو د. "جمال عزّون" من مواليد الجزائر في 12 /05 /1965م. ♦ حصل على درجة الماجستير قسم الفقه بكليّة الشّريعة بالجامعة نفسها عام 1418هـ وكان بحثه تحقيق قطعة من كتاب شرح التّلقين، تأليف: الإمام محمّد بن علي بن عمر المازري المتوفّى سنة 536هـ. ♦ وحصل على درجة الدكتوراه قسم الفقه بكليّة الشّريعة بالجامعة نفسها عام 1423هـ. وعنوان بحثه: إسماعيل بن إسحاق القاضي المتوفّى سنة 282هـ حياته واختياراته الفقهيّة (تحت الطّبع). ♦ عمل رئيسًا لقسم المخطوطات بمركز سعود البابطين الخيري للتّراث والثّقافة بالرّياض. حقّق عددًا من كتب التّراث منها: 1- الآيات البيّنات فيما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات لابن دحية الكلبيّ الأندلسيّ المتوفّى سنة 633 هـ. 2- شرح الحديث المقتفى في مبعث النّبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي شامة المقدسيّ. 3- أداء ما وجب من بيان وضع الوضّاعين في رجب، تأليف ابن دحية الكلبي الأندلسي المتوفّى سنة 633هـ. 4- مجموع فيه: أ- وصيّة الذّهبي لمحمّد بن رافع السّلامي. ب- جزء في اتّباع السّنن واجتناب البدع للذّهبي. جـ- نصيحة ابن دقيق العيد لأحد نوّابه في القضاء. د- ملحق بكلمات في العلم وأدب الطّلب مستخرجة من تراث الحافظ الذّهبي. 5- كتاب اعتقاد أهل السّنّة، تأليف: الحافظ أبي بكر الإسماعيلي ت 371هـ. 6- جواب أبي بكر الخطيب البغدادي عن سؤال بعض أهل دمشق في الصّفات. 7- إسماعيل بن يحيى المزني المتوفّى سنة 264هـ ورسالته شرح السّنّة. 8- جزء في عدم صحّة ما نقل عن بلال بن رباح رضي الله عنه من إبداله الشّين في الأذان سينًا لقطب الدين الخَيْضَري. 9- وصيّة القاضي ابن الميلق ت797هـ للقضاة وأصحاب المناصب والوظائف. 10- مسألة سبحان لنفطويه، تحت الطّبع في مكتبة المعارف بالرّياض. 11- خطبة الكتاب المؤمّل للرّدّ إلى الأمر الأوّل لأبي شامة المقدسي. 12- ما وضح واستبان في فضائل شهر شعبان لابن دحية الأندلسي. 13- حصول التهاني بالكتب المهداة إلى محدّث الشّام محمّد ناصر الدّين الألباني ط في ثلاث مجلّدات. 14- يعمل الآن في تحرير كتابه فوات الأعلام للزّركلي ويقع في 10 مجلّدات يسّر الله إتمامه.
شرح التصريف العزي للشريف الجرجاني تحقيق محمد الزفزاف صدر حديثًا كتاب: "شرح التصريف العزي" ، للسيد الشريف الجرجاني، تحقيق: "محمد الزفزاف" ، نشر: "دار الظاهرية للنشر والتوزيع" . وهو من سلسلة "نوادر مصورة" حيث كان هذا الكتاب مقرر التدريس بالسنة الثالثة الثانوية بالمعاهد الدينية الأزهرية سنة 1936 م، وقدم له العلامة "محمد محيي الدين عبد الحميد" الذي وصف الكتاب بأنه: "واسع المباحث، دقيق العبارات، كثير التعليلات، جم الفائدة، كثير العائدة، جمع شذور الفن وما تفرق منه" . ومتن "تصريف العزي" الذي ألفه العلامة "عز الدين عبد الوهاب بن إبراهيم الزنجاني الشافعي" المعروف بـ "العزي" من أهم المتون في علم التصريف، ونجد أثر "العزي" في علم التصريف - خاصةً - من الأهمية بمكان، فقد شهد له العلماء ببراعته في علوم اللغة والأدب وبخاصة النحو والصرف، والمعاني والبيان، والعروض والقوافي ، وكتب عددًا من المؤلفات في علم الصرف من أبرزها: • فتح الفتاح في شرح مراح الأرواح في الصرف. • الكافي شرح الهادي في النحو والصرف. • المعرب عما في الصحاح والمغرب، في اللغة. ولأهمية "تصريف العزي" ووجازته كمتنٍ سهلٍ من متون علم الصرف، أقبل عليه العديد من العلماء يشرحون ويفكون عباراته، ويضعون عليه الحواشي والمنظومات، ومن أهم تلك الشروح شرح "الشريف الجرجاني" الذي فكَّ مشكله، وبيَّن مغلق عباراته، ووضع عليه العديد من الأمثلة مع بيان إشاراته وخوافيه، مما قرَّبَ إلى الأذهان فهم الكتاب. وقد جاء تحقيق الأستاذ "محمد الزفزاف" المدرس في كلية اللغة العربية وقتذاك ليزيد من قيمة الكتاب، حيث صحح عباراته، وقابل بين نسخه الموثوقة، مع إثرائه بالعديد من التعليقات حيث وضع الكتاب ضمن المناهج الدراسية للطلبة الأزاهرة في مصر حينها. وواضعه هو الشريف الجُرجاني (740- 816 هـ / 1339 -1413 م) علي بن محمد بن علي الشريف الحسني الجرجاني المعروف بسيد مير شريف، فلكي وفقيه وفيلسوف ولغوي. عاش في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع الهجري (الرابع عشر الميلادي - الخامس عشر الميلادي). ولد الجرجاني في جرجان عام 740 هـ / 1339م، وقد تلقى العلم على شيوخ العربية، واهتم اهتماما خاصا بتصنيف العلوم، وكذلك بعلم الفلك، وكان من أهم العلماء الذين تأثر بهم في علم الفلك الجغميني وقطب الدين الشيرازي والطوسي، وقد تناول رسائل هؤلاء العلماء بالشرح والتبسيط لإيمانه بأهمية هذه الرسائل ووجوب تداولها بين طلاب العلم. قدمه التفتازاني للشاه شجاع بن محمد بن مظفر فانتدبه للتدريس في شيراز عام 779هـ/1377م، وقد عاش معظم حياته في شيراز، وعندما استولى تيمورلنك على شيراز عام 789هـ /1387م انتقل الجرجاني إلى سمرقند وظل هناك حتى توفي تيمورلنك عام 807هـ/1404م فعاد إلى شيراز وتوفى بها عام 816 هـ / 1413م. ومن المعروف أن للجرجاني أكثر من خمسين مؤلفًا في علم الهيئة والفلك والفلسفة والفقه ولعل أهم هذه الكتب: • "كتاب التعريفات" وهو معجم يتضمن تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في الفنون والعلوم حتى عصره، وهذا المعجم من أوائل المعاجم الاصطلاحية في التراث العربي، وقد حدد فيه الجرجاني معاني المصطلحات تبعًا لمستخدميها وتبعًا للعلوم والفنون التي تستخدم فيها، وجعل تلك المصطلحات مرتبة ترتيبًا أبجديًا مستفيدًا في ذلك من المعاجم اللغوية حتى يسهل التعامل معه لكافة طالبيه، وهذا المعجم من المعاجم الهامة التي لا نستطيع الاستغناء عنها إلى الآن، وقد أشاد به المستشرقون كافة لأهميته الدلالية والتاريخية. • "رسالة في تقسيم العلوم" . • "خطب العلوم" . • "شرح كتاب الجغميني في علم الهيئة" . • "شرح الملخص في الهيئة للجغميني" . • "شرح التذكرة النصيرية" وهي رسالة نصير الدين الطوسي. • "تحقيق الكليات" . • متن مختصر مضبوط في علم النحو اسمه ( نحو مير ).
نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة عين جالوت رمضان 658هـ (2) وتمزيق الأسطورة دور العلماء في المحنة: "بعث الملك الناصر إلى مصر يستنجد بعسكرها، عندما بلغه توجه هولاكو نحو الشام، وعُقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور، وحضر الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، وسُئل في أخذ أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال: إذا لم يبقَ في بيت المال شيء، أو أنفقتم الحوائض الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس، سوى آلات الحرب، ولم يبقَ للجندي إلا فرسه، ساغ الأخذ من أموال الناس في دفع الأعداء" [1] ، وبدأ قطز بنفسه، وباع كل ما يملك، وامتثل الأمراء أمره، واستشار قطز الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في الخروج لقتال التتار، فقال: اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر. ولاية سيف الدين قطز لمصر: قبض قطز على الملك المنصور وعلى أخيه، وعلى أمهما، واعتقلهم بقلعة الجبل في ذي القعدة سنة 657 ه، واعتلى حكم مصر؛ يقول عنه الذهبي: "كان أنبل مماليك المعز أيبك ، ثم صار نائب السلطنة لولده المنصور، وكان فارسًا شجاعًا، سائسًا، دَيِّنًا، محببًا إلى الرعية، ويُقال: إنه ابن أخت خوارزم شاه جلال الدين، وإنه حرٌّ، واسمه محمود بن ممدود " [2] ، سنتان بين سقوط بغداد ودخول التتار حلب ودمشق، ولم تستطع الجيوش الإسلامية - بقيادة بني أيوب - أن تفعل شيئًا، بل يأكل بعضهم بعضًا، يزيد على ذلك ولاء أكثرهم للتتار. ملك التتار حلب ودمشق (صفر 658ه): "نزل هولاكو على مدينة حلب في نهاية المحرم 658ه، وراسل الملك المعظم توران شاه بن الناصر يوسف على أن يسلمه البلد ويؤمنه، فأبى إلا محاربته، فحصرها التتار سبعة أيام، وأخذوها بالسيف وقتلوا خلقًا كثيرًا، وخربوا جميع سور البلد ومساجدها، ورحل الملك الناصر منتصف صفر 658هـ يريد غزة، وترك دمشق خالية، ولحق الملك الأشرف موسى صاحب حمص بهولاكو، وسار الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر بحريمه وأولاده، وفزع أهل حمص وحماة، وصار هولاكو إلى دمشق بعد أخذ حلب بستة عشر يومًا، فقام الأمير (الخائن) زين الدين الحافظي بتسليم المدينة إلى هولاكو، وغار التتر على بلاد الشام حتى وصلوا غزة وبيت جبريل والخليل، فقتلوا وسبوا وعادوا إلى دمشق، واستطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانًا من هولاكو بإقامة دينهم؛ فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات وعلى أبواب المساجد" [3] . موالاة أمراء المسلمين للتتار: وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضًا سورية بكاملها - حلب ودمشق وحمص وحماة - وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين - غزة وبيت جبريل والخليل - وذلك في عامين فقط، ساعدهم على ذلك تفرق المسلمين فيما بينهم، و تعاون بعض أمراء المسلمين معهم أمثال: الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، وأميرا منطقة الأناضول (وسط وغرب تركيا) الأخوان كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، والأمير الأشرف موسى الأيوبي أمير حمص، والملك السعيد (حسن بن العزيز) صاحب بانياس الذي انضم بجيشه مع التتار، والأمير الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الأيوبي أمير حلب ودمشق، ولم يبقَ خارج عن حكم التتار في الجانب الشرقي إلا مصر والحجاز واليمن، ومصر موقع استراتيجي؛ لأنها بوابة شمال إفريقيا، وأرسل هولاكو رسله بكتاب لمصر: "يعلم الملك المظفر قطز أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم البلاد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تُؤويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فجمع قطز الأمراء، واتفقوا على قتل الرسل، وعُلقت رؤوسهم على باب زويلة" [4] . جهود قطز الدبلوماسية : استقرار الجبهة الداخلية في مصر، تهدئة أمراء المماليك لما أنكروا عليه توثُّبه على الملك، فبيَّن لهم أن هدفه الاجتماع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا كسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم. الدبلوماسية الخارجية: "كتب الملك قطز للملك الناصر كتابًا يقسم أنه لا ينازعه في الملك، وأنه نائب عنه بمصر، ومتى حل بها أقعده على الكرسي، وقال: إن اخترتني خدمتك، وإن اخترت قدمت بالعسكر نجدة لك، فإن كنت لا تأمن حضوري، سيَّرت إليك العساكر، فاطمأن الملك الناصر، ولم يكتفِ قطز بهذا، بل راسل بقية أمراء الشام، فالوحيد الذي استجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، والتحق بعض جيشه بقطز" [5] . • العفو عن المماليك البحرية: كتب لبيبرس أن يقدم عليه، فقدم في جماعة فأنزله بدار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها. • النداء إلى الجهاد في مصر: ونُوديَ في القاهرة وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، "وكان العز بن عبدالسلام وعلماء مصر يحثون الناس على الجهاد في سبيل الله، فأخرجوا ما عندهم، وأعدوا العدة وجمعوا السلاح، وأُقيمت معسكرات التدريب في كل مكان، واهتزت مصر بالتكبير، وصار كل مسلم يشتهي المعركة، وهذا درس مهم في أهمية التكامل بين الأمراء والعلماء" [6] . خروج الجيش من مصر في أول رمضان 658ه: "سار قطز بالجيش حتى نزل بالصالحية، وتكلم مع الأمراء في الرحيل فأبَوا، فقال: يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن أبى يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين، فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كُرْهٍ، ونزل بالجيش غزة، ثم رحل من طريق الساحل على عكا، وبها يومئذٍ الفرنج فخرجوا لمساعدته، فشكرهم واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وأقسم متى تبِعه منهم فارس يريد أذى عسكر المسلمين، رجع وقاتلهم" [7] . قوة تأثير القائد قطز في جنده واختيار الله له: جمع قطز الأمراء وحضَّهم على القتال، وذكَّرهم بما وقع بالمسلمين من القتل والسبي، وحثهم على نصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله، فضجُّوا بالبكاء، وتحالفوا على التضحية في سبيل الله. المعركة في عين جالوت (فلسطين) الجمعة 25 رمضان 658ه: "عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر المسلمين، وانتفض طرف منه، فألقى قطز خوذته من على رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيَّده الله بنصره، وقُتل كتبغا قائد التتر، وقُتل بعده الملك السعيد حسن بن العزيز، وكان مع التتر، وحُملت رأس كتبغا إلى القاهرة" [8] . هروب التتار: "وسار جيش المسلمين في أثر التتر إلى قرب بيسان (فلسطين)، فرجع التتر وصافوا مصافًّا ثانيًا، فهزمهم الله، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، فصرخ قطز: وا إسلاماه، ثلاث مرات، يا ألله انصر عبدك قطز، فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه، ومرَّغ وجهه على الأرض، وقبَّلها وصلى ركعتين شكرًا لله تعالى" [9] . أثر الأمل بعد الخذلان: لما ورد الخبر إلى دمشق بهزيمة التتار، قتل أهلها أعوان التتار، وفر الزين الحافظي ونواب التتار من دمشق، فكانت مدة استيلاء التتار على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام. أساليبهم في حرب الإسلام واحدة: التتار أمة وحشية لا تعرف إلا القتل والإبادة والتخريب، لا يعرفون الدبلوماسية أو العهود، فقد نقضوا كثيرًا من العهود، وقد سار على دربهم من الصليبيين والصهاينة؛ فالقلوب واحدة في حقدها على الإسلام والمسلمين؛ {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]؛ " لا عهد لهم ولا قرابة، ولا يخافون الله فيكم، بل يسومونكم سوء العذاب لو ظهروا عليكم" [10] . الحرب النفسية ضد المسلمين: من أهم الوسائل التي استخدمها التتار لإضعاف الروح المعنوية : الوصول إلى بعض الأدباء والأمراء المسلمين كالأمير زين الدين الحافظي (الخائن)؛ ليقوموا بحرب إعلامية قذرة داخل البلاد الإسلامية، يعظمون فيها جدًّا من إمكانيات التتار، ويقللون جدًّا من إمكانيات المسلمين؛ حتى لا يتخيل مسلم أنه يحارب تتريًّا. إعلان التحالفات مع أمراء المسلمين وغيرهم، كتابة الرسائل التهديدية الخطيرة، وأعد التتار العدة المناسبة لذلك الأمر، ووصلوا إلى بعض الخونة من المسلمين الذين لديهم فنٌّ في كتابة الرسائل كنصير الدين الطوسي (العميل)؛ ليكتبوا لهم الرسائل بالسجع المشهور في ذلك الوقت، وكانت رسائلهم تدب الرعب في المسلمين. [1] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص507. [2] سير أعلام النبلاء، ج16، ص3. [3] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص511. [4] المرجع السابق، ج1، ص514. [5] المرجع السابق، ج1، ص508. [6] رجال من التاريخ، علي الطنطاوي، ج2، ص 85. [7] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص515. [8] ذيل مرآة الزمان، ج1، ص361. [9] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص517. [10] تيسير الكريم الرحمن للسعدي .
في ساحة المعركة ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس ليتحسسوا الماء، وقال: أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظريب - وهو تل صغير - فاندفعوا إلى ذلك المكان، فوجدوا روايا لقريش ومعها السقاؤون، فأخذوها وأمسكوا بعدد منهم وفر الباقون، وأفلت أحد السقائين، واسمه عجير، فنادى قريشًا بأن أصحاب محمد قد أخذوا أسقيتكم، فماج معسكر الكفر وكرهوا ما جاء به، وبات المشركون في وجَل أن يدهَمَهم المسلمون ليلًا، فتعاهد قسم منهم أن يتحارسوا ريثما يطلع الصباح، وقدم الفتيان الأربعة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الماء ومعهم الأسقية التي غنموها والسقاة، وأخذوا يستجوبونهم، فتكلموا بأنهم أتباع جيش قريش، فقالوا: أنتم تكذبون، أنتم سقاة أبي سفيان، أين هو؟ وأين القافلة؟ وضربوهم حتى أقروا أنهم من سقاة أبي سفيان، وذلك تحت الضرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما انتهى، قال لهم: ((إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذَبوكم تركتموهم))، فقالوا: يخبروننا يا رسول الله أن قريشًا قد جاءت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدَقوكم، خرجت قريش تمنع عيرها، وخافوكم عليها))، ثم أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على السقاة، فقال: ((أين قريش؟))، قالوا: خلف هذا الكثيب الذي ترى، قال: ((كم هي؟))، قالوا: كثير، قال: ((كم عددها؟))، قالوا: لا ندري، قال: ((كم ينحرون؟))، قالوا: يومًا عشرة، ويومًا تسعة، قال: ((القوم ما بين الألف والتسعمائة))، ثم قال لهم: ((مَن خرج من مكة؟))، قالوا: لم يبقَ أحد به طعم إلا خرج، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها))، ثم قال: ((أشيروا علَيَّ في المنزل))، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، قال الحباب: فإن هذا ليس بمنزل، انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم؛ فإني عالم بها وبقُلُبها، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه، وماؤه كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضًا، ونقذف فيه الآنية، فنشرب ونقاتل، ونغوِّر ما سواها من القُلُب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حباب، أشرتَ بالرأي))، وتم ما أشار به الحباب، وأرسل الله مطرًا خفيفًا لبَّد به الأرض، وأصاب المسلمين تلك الليلة النعاسُ، وناموا ليلتهم، ثم إنهم بنوا للرسول صلى الله عليه وسلم عريشًا، وأسفر الفجر، وصلى المسلمون، ثم صفُّوا واستعدوا للقاء، وقد رتَّبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نظام بديع، ورايتُه مع مصعب بن عمير، وكان ظهره إلى الشمس ووجوه قريش إليها، وهبت رياح النصر والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويذكره ويطلب منه النصر على الأعداء، وقال: ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذِّب رسولك، اللهم نصرَك الذي وعدتني، اللهم أحنهم - أمِتْهم - الغداة)).
لوط عليه السلام (1) نتحدَّثُ في هذا الفصل عن لوط نبيِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قرن الله تبارك وتعالى قصَّةَ لوط بقصة إبراهيم عليهما السلام في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه الكريم، وذكر عز وجل أن لوطًا آمن لإبراهيم، وأشار إلى أنه هاجرَ معه، حيث يقول: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ [العنكبوت: 26]. وقد أشرتُ فيما مضى إلى أن الله عز وجل أرسل لوطًا إلى أهل سدوم وما حولها من دائرة الأردن، وبقي خليلُ الرحمن في فلسطين، وكان أهلُ سدوم وقراها من أكفر خلق الله وأفجرهم، وقد ابتدعوا في الفجور بدعةً لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالَمين، فكانوا مع شِرْكِهم بالله عز وجل يأتون الذُّكرانَ من العالَمين، ويقطعون السبيلَ، ويأتون في ناديهم المنكرَ ويعملون الخبائث، فجاءهم لوط عليه السلام يدعوهم إلى ربهم وينهاهم عن هذه الجرائم التي يرتكبونها، ويحذِّرهم من عقوبة الله إذا استمروا على باطلهم، فلم يستجيبوا له، وقال بعضهم لبعض ﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، وكأنهم مِنْ تسلُّطِ الرجس على قلوبهم صاروا يعدون الطهارة عيبًا، يستحقُّ به المتطهِّرُ الإبعادَ. وقالوا للوطٍ عليه السلام: ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 29]، قال لوط عليه السلام عندما استيئَسَ منهم: ﴿ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [العنكبوت: 30]، فأرسل الله عز وجل ملائكةً وأمرهم أن يَمرُّوا بإبراهيم الخليل يبشرونه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وأمرهم إذا انصرفوا من عند إبراهيم أن يَقْلِبوا قرى قوم لوط على أهلها بعد أن يأمروا لوطًا بالخروج من ديارهم. فجاؤوا إلى سدوم في صورة رجال من أجمل خلق الله، فجاء قوم لوط إليهم مسرعين يريدونَ بهم السوءَ، فانذعر لوط عليه السلام، وقال لقومه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ﴾ [هود: 78]، إنَّ نساءكم خيرٌ لكم وأطهَر، قالوا: يا لوط، أنت تعرف أن شهوتَنا في الرجال، ولا رغبةَ لنا في النِّساء، فاشتدَّ غيظُ لوط عليه السلام، وقال لهم: ﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾ [هود: 80]، يعني: لدمَّرتُكم، ولكني آوي إلى الله عز وجل، فمن أوى إليه فقد آوى إلى ركن شديد، فعند ذلك أعلمه الضيوف أنهم ملائكة، وأنهم رُسُل الله لإهلاك قومه، ويذكر أن جبريل عليه السلام بعد أن طمأنَ لوطًا عليه السلام على أنه لن ينالهم منهم أذى ضرب جبريل أعينهم فطمسها، وقالوا للوط: ﴿ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، وقالوا له: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ﴾ [الحجر: 65]، وبشَّروه بأن ﴿ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ﴾ [الحجر: 66]، فخرج لوط عليه السلام وابنتاه، فنجَّاهم الله من العذاب الأليم، وقلبت الملائكة أرضَ قوم لوط عليهم، فجاءهم حاصبٌ مِن فوقهم، وخسفٌ من تحتهم، فانقلبت أرضهم كما انقلبت فطرتهم، وقد أبقاها الله عز وجل إلى اليوم آية بيِّنةً يعرفها أهلُ الجزيرة العربية إذا قدموا إلى الشام أو رجعوا منها؛ على حد قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 137، 138]. وقد جعل الله عز وجل امرأةَ لوط قدوة لكلِّ كافر إلى يوم القيامة؛ حيث يقول: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10]، وقد شرحتُ فيما مضى أنَّ خيانة امرأة نوح وامرأة لوط لم تكن خيانة زوجيَّة بالزِّنا، وإنما كانت كُفرًا بالله عز وجل ومحاربةً لرسله عليهم الصلاة والسلام. وقد ساق الله تبارك وتعالى قصَّةَ لوط في مواضع من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الأعراف: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 80 - 84]. وقال في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 69 - 83]. وقال تعالى في سورة الحجر في قصة بشارة إبراهيم بإسحاق وهلاك قوم لوط: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 49 - 77]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شرح البيقونية للشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني صدر حديثًا كتاب "شرح البيقونية" ، تأليف: العلامة الشيخ "محمد بن عبد الباقي الزرقاني" (ت 1112 هـ)، تقديم وتعليق: "محمد عبد اللطيف محمد الطيب" ، سلسلة تراث الأزهريين، نشر: "دار كشيدة للنشر والتوزيع" . وهذا الإصدار يتضمن ويجمع بين متن منظومة البيقوني في علم الحديث، وشرح شيخ المحدثين بمصر في زمانه العلامة "محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي" عليها. وقد اشتهرت في علم الحديث العديد من المنظومات التي لاقت رواجًا وقبولًا بين أوساط المتعلمين، وتأتي المنظومة البيقونية ضمن أشهر مختصرات هذا العلم، وتعد لذلك من أفضل ما يبدأ به الطلاب في علم مصطلح الحديث. وقد قام خاتمة المحدثين بالديار المصرية، العلامة الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي، بشرح هذه المنظومة شرحًا وافيًا، اشتمل على ما لا بد من معرفته لدارسي علم مصطلح الحديث، مع تعزيز الشرح بالعديد من الفوائد والشواهد الحديثية. و "المنظومة البيقونية" للشيخ عمر أو طه بن محمد البيقوني المتوفي سنة (1080هـ) وهي منظومة من بحر الرجز تقع في (34) بيتًا كما ذكر المؤلف ذلك في آخرها بقوله: فَوْقَ الثَّلاثِينَ بِأَرْبَعٍ أتَتْ أَقْسَامُهَا، ثُمَّ بِخَيْرٍ خُتِمَتْ وهي من المنظومات المختصرة الموجزة، بين فيها ناظمها شروط الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف، والمرفوع والمقطوع والموقوف، والحديث المتصل والمسلسل، والحديث العزيز والمشهور، والحديث المعنعن والمهمل، والحديث المرسل، والحديث المقلوب، والعلة في الحديث، والحديث المضطرب، والمدرج، والمنكر، والمتروك والموضوع، كل ذلك في أبيات قلائل بأوجز عبارة وأيسرها. وبعد أن ذكر ذلك يقول: وَقَدْ أَتَتْ كالْجَوْهَرِ الْمَكْنُونِ سَمَّيْتُهَا: "مَنْظُومَةَ الْبَيْقُونِي" ولشهرة هذه المنظومة في علم الحديث توالت عليها الشروح والتعليقات، ومنهم هذا الشرح لخاتمة المحدثين في مصر الشيخ محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد شهاب الدين بن محمد بن علوان، الشهير بالزُّرقاني المصري الأزهري المالكي، أبو عبد الله (1055 هـ - 1122 هـ / 1645م - 1710م)، وهو محدث، فقيه، أصولي، من أعلام المذهب المالكي، ولد بالقاهرة سنة (1055 هـ) وتوفي بها سنة (1122 هـ)، ونسبته إلى زرقان قرية من قرى منوف بمصر. عده الشهاب المرجاني في وفيات الأسلاف من مجددي المائة الحادية عشر من المالكية. ويرى "عبد الحي الكتاني" إن آثاره الباقية تقف شاهدًا على تجديده وتبحره. نشأ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في جو علمي ابتداء من أسرته التي كانت أسرة علم، اشتهرت بذلك في الديار المصرية، عرفوا بالتأليف والتدريس ونشر أحكام الدين وأصوله. كان محمد بن عبد الباقي الزرقاني شغوفًا بالعلم والعلماء منذ صغر سنه، توجه صوب كتاب الله فحفظه ثم تعلم مبادئ اللغة والعبادة ثم انتقل إلى حلقات العلماء بالجامع الأزهر حيث المتون والشروح والأمهات في كل المجالات تدرس من طرف فطاحل العلماء. قال عنه خير الدين الزركلي في الأعلام: "محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الزرقاني المصري الأزهري المالكي، أبو عبد الله: خاتمة المحدثين بالديار المصرية. مولده ووفاته بالقاهرة، ونسبته إلى زرقان (من قرى منوف بمصر) من كتبه (تلخيص المقاصد الحسنة) في الحديث، و(شرح البيقونية) في المصطلح، و(شرح المواهب اللدنية)، و(شرح موطأ الإمام مالك)، و(وصول الأماني) في الحديث." ومن مؤلفاته: • شرح موطأ الإمام مالك سماه "أبهج المسالك بشرح موطأ الإمام مالك" ، وهو شرح وسط بين الطول والقصر، وتعرض فيه لشرح متون الأحاديث من جهة اللغة، وأفاض في شرح المذاهب الفقهية، ولم يعن بالرجال ولا بتراجم الأبواب، وقد نال الكتاب حظًا موفورًا من الشهرة. قال عنه محمد علوي المالكي: "فلا أظنّ أنّني مجانبٌ للواقعِ الصّادقِِ إن قلت: إنّ هذا الشّرح أحسن شروح الموطأ المتوسّطة، مفيدٌ لمن اقتصر عليه، وجيّدٌ لمن رجع إليه" . • إشراق مصابيح السير المحمدية بمزج أسرار المواهب اللدنية: (شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني). قال سركيس: وهو شرح حافل جمع فيه أكثر الأحاديث المروية في شمائل المصطفى وسيره وصفاته الشريفة. • شرح المنظومة البيقونية في علم مصطلح الحديث. • مختصر المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة. • وصول الأماني في الحديث. أما الناظم فهو عمر (أو طه) بن محمد بن فتوح البيقوني الدمشقي الشافعي (توفي نحو 1080 هـ / نحو 1669 م) هو عالم بمصطلح الحديث. وهو صاحب "منظومة البيقوني" المشهورة في مصطلح الحديث. ولا يعرف الكثير عن البيقوني، حتى قال الزرقاني في آخر شرحه للمنظومة البيقونية: "ولم أقف له على اسم ولا ترجمة، ولا ما هو منسوب إليه" . إلا أن عددًا من العلماء ذكروا أطرافًا من سيرته . وزاد الأجهوري في حاشيته على شرح الزرقاني وذكر: "وجد بهامش نسخة عليها خط الناظم ما نصه: واسمه الشيخ عمر ابن الشيخ محمد بن فتوح الدمشقي الشافعي" . وأضاف بدر الدين الحسني في آخر صفحة من شرحه للبيقونية المسمى بـ "الدرر البهية" ما نصه: "البيقوني توقَّف في هذه النسبة غالب من كتب هنا ورأيت لبعضهم أنها إلى " بيقون " قرية في إقليم أذربيجان بقرب الأكراد" . من آثاره التي ذكرها الزركلي: • "البيقونية" في مصطلح الحديث، وهي أشهر آثاره وشرحها محمد عثمان الميرغني وغيره. • "فتح القادر المغيث" ، ذكره الزركلي. وهناك كتاب آخر بنفس الاسم لأحد شروح البيقونية، ويُعتقد أن الزركلي نسبه خطأً للبيقوني.
المؤثرون المسلمون والمنابر الإلكترونية مُعترك العصر مع دخول عصر " وسائل التواصل الاجتماعي "، واكتساحه العالَم أجمع؛ بدأت الكثير من معالم الدعوة الإسلامية، وحركات الوعي الإسلامي تتغيَّر؛ تأثُّرًا بهذا العصر التواصلي، وتماهيًا مع آليَّاته التي فرضها فرضًا على الكافَّة، ومن هذه التمظهُرات التي استجدَّتْ هذه الظاهرة التي سأعرض لها هنا، وسمَّيتُها بالمنابر الإلكترونية، أقصد بذلك الإشارة إلى المنبر الحقيقيِّ في المسجد. ما هي ظاهرة المنابر الإلكترونية؟ وأقصد هنا بظاهرة المنابر الإلكترونية تلك النشاطات الإسلامية من الحسابات والقنوات التي ظهرت بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعيِّ؛ سواء الدعوية أو الثقافية أو العلمية، ولا أقصد بالمنابر الإلكترونيَّة الحسابات والقنوات العامة ( كحسابات الأزهر، والهيئات الشرعية المعروفة ) التي تتبع المؤسسات، فهذا أمر طبيعيٌّ لا يدخل في نطاق الحديث هنا؛ لسبب واضح: أنَّ هذه الحسابات والقنوات العامة هي انتقال من مظهر النشر الورقيِّ والتلفازي إلى مظهر إلكترونيِّ؛ أيْ: إنها ليست نشاطات جديدة؛ بل أحدثت نقلة في وسيط النشر فحسب. على خلاف ما قصدته بالمنابر الإلكترونية التي هي منصات الأفراد بأعيانهم والمؤسسات الصغيرة أو متناهية الصغر التي يمكن تصنيفها تحت قائمة النشاط الفرديِّ لا الجماعيِّ، وهي نشاطات ما كانت موجودة من قبل؛ بل هي الوافدة الجديدة على مُعطيات الثقافة الإسلامية المعاصرة، تلتزم وتستوطن وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي نفسها مواقع بالغة الضخامة؛ كفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وأنستجرام، وتيليجرام، وسناب شات، وغيرها). وتشمل هذه المنابر فئات مُتباينة، أهمها: 1- المُؤثِّرون المسلمون: وهؤلاء أشخاص من المشاهير في النشاط الإسلاميِّ، قد اختاروا التقليد لظاهرة "المُؤثِّرين" ( influencers ) على وسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء الأخيرون الأكثر انجرافًا وراء تلك النشاطات التي نراها على الفضاء العام، والتي في غالبها مباينة للفكرة الإسلامية، وللقيم الإسلامية، وأقرب ما تكون -بل هي بالفعل- تستنسخ ظاهرة "المُؤثِّرين" في الغرب، وتتبع منهجيَّتهم القِيَميَّة، ثم أتت هذه الطائفة من الناشطين في العمل الإسلامي، واتبعت طريق المؤثرين -الذين تأثَّروا بالغرب كما سبق- وصاروا يفعلون أفعالًا تلتزم حدَّ الشُّهرة والظهور؛ فيهتمون بلباسهم ومظهرهم العام، ومكان التصوير -إن كان تصوير- وينشرون الكثير من الصور والتفاعلات المظهرية فحسب، فإذا وصفتهم على وجه الحقيقة، فوصفهم أنهم "نجوم مجتمع"، لا ناشطون في العمل الإسلامي، ومن هذه الفئة مَن كان نشيطًا قبل دخول عصر التواصل الاجتماعي، فغيَّر الوسيط الواقعيَّ إلى الوسيط الإلكترونيِّ وحسب، ومنهم من نجح في استغلال معطيات هذا العصر للظهور من حال العدم، وهُم -بين فئات ظاهرة المنابر الإلكترونية- الأقل عُمْقًا، والأزهد في مجال النفع الحقيقيِّ، وإنْ كانوا الأعلى صوتًا، والأكثر من حيث المتابعون. 2- المنابر الشخصيَّة: وهؤلاء أشخاص بأعيانهم، يخروجون على الجمهور من حسابات شخصيَّة (صفحات أصلية أو حسابات عامة بأسمائهم)؛ تحمل اسمهم الحقيقيَّ أو اسمًا تعبيريًّا أو لقبًا، وهم الأكثر جديَّةً؛ بل هُم الجادُّون، المُريدون النفع، وليست إرادة النفع أو الجديَّة تعنيانِ الانضباط أو الصحَّة؛ فهذا شيء، وذاك آخر، وكأنَّهم بالفعل على حالتهم هذه؛ قد أسَّس كلٌّ منهم منبرًا (كالمنبر الحقيقيِّ في المساجد)، وأخذ يخاطب الجمهور من خلاله، وبعض هؤلاء يهتمون بالدعوة بشكل صريح، وبعضهم يهتم بالعلوم الإسلامية على اختلافها وتنوعها، وبعضهم يركز على منظومة علمية بعينها (كالتاريخ مثلًا أو الفقه أو العقيدة)، وبعضهم يزاول جميع ألوان الثقافة الإسلامية. 3- المنابر الصغيرة ومُتناهية الصغر: وهذه تشبه السابقة؛ لكنها تتمظهر في مظهر الجهة أو الجماعة أو الطائفة؛ لا مظهر الشخص كسابقتها؛ مثل: منبر أهل السُّنَّة، عشق الكُتُب، شئون الإسلام (هذه الأسماء ليست على وجه الحقيقة؛ بل على وجه المُشابهة لنمط الأسماء فحسب)، وشيء من هذا القبيل، وقد يكون المسئول عنها واحدًا أو أكثر يباشرون نشاط منبرهم. أهمية ظاهرة المنابر الإلكترونية: قد يبدو للقارئ أن هذه الظاهرة شأن طبيعي، وأمر هيِّن، وفي الحقيقة لهذه الظاهرة أهمية عظمى في الوضع التوعويِّ الإسلاميِّ الحاليِّ، وتكتسب أهميتها في عنصر "مُباشرتها للجمهور العام"، فهذه الفئات من المؤثرين المسلمين صارت هي التي تباشر المسلم المعاصر -وغير المسلم- في يومه وليلته، صارت هي وسيلته لرؤية الأمور، ونقل الأحداث، وهي أسرع المُشكِّلات لوعيه تجاه ما يجري، وما ذلك إلَّا لأنها أوَّل ما يلجأ إليه، وما تُسارع عينه إلى إبصاره، كما أنها مُصاحبة له، مُلازمة موجودة في الوقت الذي يختاره هو أن يراها، كما أن جميع القضايا تُطرح عليها، بما في ذلك القضايا التي لا يصح طرحها على المنابر الحقيقيَّة -لحرج سياسي أو اجتماعي أو غيره-، ويشارك فيها الجميع؛ مما يجعلها وكأنها مؤتمر دائم الانعقاد، به حرية أن تطرح، وأن ترد على طرح الغير، ولعلَّ هذا يشير إلى افتقار الواقع الحقيقيِّ إلى المُمارسة الفاعلة التي لا يجدها المُشارك إلا على الفضاء! ومن طغيان هذه الظاهرة أنْ صارتْ مَطمَع الجميع؛ حتى أصحاب المنابر الواقعية صاروا يطمعون في الحصول على نصيب في العالم الافتراضيِّ؛ فلا يكتفون بمكانهم في الدرس العلمي، أو النشاط العلمي الواقعي، أو البرنامج التلفازي؛ بل يزاحمون السابقين عليهم إلى مواقع التواصل، ينشئون حسابات وقنوات؛ ليظهروا فوق ظهورهم الواقعي الأساس؛ وما ذلك إلا لما رأوه من التأثير البالغ لهذه الظاهرة في الجمهور، لدرجة هوَّنتْ أمامهم مُشاركتهم الأساس التي يؤدونها. أسباب انتشار ظاهرة المنابر الإلكترونية: تتعدد الأسباب العامة والخاصة في انتشار هذه الظاهرة، ويمكن أن أجمل الأسباب -بغضِّ النظر عن تصنيفها- في الآتي: 1- فرضٌ فرضَه العصر الإلكترونيُّ المعيش الآن؛ وهذا التغيُّر الذي يُسميه البعض حكم العصر حدث ويحدث وسيحدث، فهو ليس بالأمر الجديد، يجري على الأحياء فيُحيل سلوكهم. 2- الاستبداد المفروض على الواقع الدَّعَويِّ، أو الدعوة في أرض الواقع، من تضييق على الخُطب والدروس في المساجد، والحد من الأنشطة الدَّعويَّة في محافل المجتمع، والتضييق على دور النشر التي تنشر المؤلفات الإسلامية -خاصةً المتعلقة بالوعي الجمعي الإسلامي، وقضايا الأمة- كل هذه الوسائل وغيرها أدَّى التضييق عليها إلى الرغبة في إيجاد ساحة أخرى للدعوة والثقافة الإسلامية. 3- التضييقُ في الإعلام التلفازيِّ والفضائيِّ في نقل الأخبار، والانتقائيةُ في هذا النقل؛ بما في ذلك التضييق على أخبار المسلمين في العالَم لمصالح سياسية مُؤقتة، أو التضييق في نقل بعض الأخبار التي لا تدعم الرؤية العامة للذين يتولَّون أمر الإعلام التلفازي والفضائي. 4- محدوديَّة الأماكن الحقيقية الواقعية في الدعوة والعلم، فكم من شخص لم يستطِع اللحاق بأيٍّ من هذه الفرص الواقعية في مجالي الدعوة والعلم! فلم يجد أمامه إلا اللجوء لهذا الواقع الافتراضي، والمنصَّات الإلكترونيَّة، وكم من شخص سُرِقت فرصته في الواقع؛ فهرب إلى العالم الافتراضي يشق طريقًا! 5- تلبية الرغبات الشخصية لأصحاب هذه المنصَّات؛ فمنهم من هو حماسيٌّ يغار على دينه وأحوال أمته؛ فيُدشِّن هذا النشاط الذي يستطيعه، ثم يستطيع من خلاله أن يجذب المتابعين ويكبر؛ ليصير منبرًا إلكترونيًّا ضخمًا، ومنهم من يريد الظهور بين الناس لهدف الظهور نفسه، وجلب أكبر عدد من التفاعُل، ومنهم الصادق في علمه ودعوته الممتلك لأدواته الذي يريد النفع العام لا يعبأ بزيادة التفاعل ولا نقصانه، إنما يعبأ بتصدير ما يريد. 6- إسهامات الدعاة والعلماء والناشطين المسلمين من أهل المَهجَر؛ فهناك آلاف منهم يقطنون أراضي الحضارة الغربية، وغيرها، هؤلاء -بحُكْم الضرورة- لا يجدون متنفَّسًا للإسهام في العمل والحراك الإسلامي؛ وبحُكْم الضرورة لا يجدون سوى هذه المنابر الإلكترونية للتشخُّص من خلالها، وأداء أدوارهم التي يريدون أداءها. 7- مَورد للكسب، ونشاط ذو ربح، وهو هنا لا يختلف عن اكتساب الرزق من وسائل التواصل في الوسط العام، ويكون الكسب عن طريق المشاهدات، والإعلانات، والشراكات، والدعايات للكتب ومراجعاتها من دُور النشر أو الكُتَّاب أنفسهم، أو لجهات معينة يكونون لسانًا ناطقًا لها، أو يشيرون إليها ليثق الجمهور فيها، والكثير من موارد الكسب الأخرى. إيجابيات ظاهرة المنابر الإلكترونية: 1- سدَّتْ فراغًا ناقصًا من العمل المؤسسي؛ فجهود الأزهر والجهات الرسمية المماثلة له في بقية العالم محدودة رغم اتساعها، وستظل محدودة مهما اتسعت؛ لأن القاعدة الجماهيرية أوسع وأضخم؛ فجاءت هذه الظاهرة من المنابر الإسلامية الجزئية الفردية لتسدَّ نقصًا في الجسد التوعوي الإسلامي، ما كانت لتسده غيرها، وليس على سبيل كَمِّ الدُّعاة فحسب؛ بل على سبيل الكيفيَّة الزمانيَّة والمكانيَّة أيضًا، فالدروس والخطب لها مواعيد يحضرها المستطيع في أوانها، والبعض منها كان يُسجَّل على شرائط، أما الآن فالدرس أو التدوينة أو الخطبة أو... ميعادها متى فتح الواحد من الجمهور التطبيق الذي يريد، دون تقيُّد؛ فصارت هي التي تنتظر الجمهور، لا الجمهور ينتظرها، ولا شكَّ أن هذا سدَّ نقصًا شديدًا في نطاقه. 2- احتوت قدرات القادرين والمُقدِمِين على تقديم هذه الأعمال، فالله قد وهب الكثير العلم والدعوة وطريقة الإرشاد؛ لكنَّ كثيرًا لم يكن يجد الفرصة السانحة لهذا، ولعلَّ هذه من أعظم إيجابيات هذه المنابر الإلكترونية. 3- بثَّتْ رُوحًا جديدة في الجسد الدعويِّ والثقافيِّ الإسلاميِّ، ومع كل عصر به الجديد، يحاول المسلمون المخلصون أن يواكبوا هذا العصر، ويُقولِبوا مادتهم في القالب الجديد. 4- وازنَتْ كفَّة الممارسات قليلة الأهمية التي تملأ هذه المواقع التواصليَّة، وما زال هذا الميدان به الكثير من الفُرص؛ فكَمُّ المحتوى التافه -بل الساقط الهازل الهادم- أضخم من أي محتوى هادف سليم مُحترِم للإنسان وعقله، هذا الوضع في العالم كله، ليس خاصًّا بالعالَم الإسلامي. 5- وسَّعت التضييق الذي أصاب الدُّعاة الواقعيين في الممارسة الواقعية، وبذلك فتحت طاقة أمل للدعاة وللجمهور في استمرار هذه الممارسات الدعوية رغم التضييق. 6- ساهمت بنشر المعرفة عن العلوم والكتب، وعن قضايا الأمة، وماضيها وحاضرها، ونبَّهت على قضايا المستقبل. سلبيات ظاهرة المنابر الإلكترونية: 1- تعاظُم دور الجمهور بشكل غير مسبوق، في السابق كان الكاتب بينه وبين الجمهور ستار؛ لأنه يكتب وحده في مكتبه، ليس أمامه إلا الورقة والقلم، وصحيح أن الكاتب ذا الشعبيَّة كان يخشى جمهوره، وردَّة فعله، فيصير الجمهور قيدًا عليه؛ حيث أراد المكانة والمكان، لكن الموقف الآن غير الموقف في الماضي؛ فلا حائل بين مَن يكتب وبين جمهوره، وقد كان الداعي يلقي الخطبة؛ فتَحُولُ بينه وبين الجمهور هيبةُ الموقف وهيبة المكان ( في الغالب المسجد )؛ أمَّا الآن فقد صار هذا سرابًا، وصار الجانبانِ كأنهما يقفانِ مُتقابلينِ، وبينهما زجاج الشاشة المُضيء. وهنا نصل إلى حال من حالات السلطوية المتبادلة بين المُؤثِّر وصاحب المنبر ( الذي يملك حق التعبير الأول، وتشكيل المواقف بما يقوله للجمهور )، وبين الجمهور (الذي يمتلك حق الردِّ الذي قد يكون هادئًا، وقد يكون عنيفًا، وقد يكون عقلانيًّا، وقد يكون هوجائيًّا، وقد يكون مُهذبًا، وقد يكون غير مُهذب)، فإنْ كان الجمهور عبئًا بعيدًا في الماضي؛ فقد صار عبئًا قريبًا في الحاضر، وإن كان الجمهور أقصى ما كان يفعله أن يرسل للجريدة خطابًا به تعليق على المقال أو المكتوب؛ فقد صار أمام الكاتب أو المُدوِّن يرجمه بالحجارة متى شاء بالحق أو بالباطل، ولعلَّ هذا يفرض على الكاتب أو المُدوِّن أن يقول للجمهور ما يريد، لا ما يجب عليه أن يقول؛ مخافة ردَّة فعل، أو خسران أتباع، ولعل هذا العنصر يُشكِّل طورًا جديدًا من أطوار في المشهد التوعويِّ الإسلاميِّ. 2- تفتيت المشهد الإسلاميِّ: فبعد أن كانت المركزية هي الأصل والأساس في العمل الثقافي والمعرفي والدعوي الإسلامي؛ صارت اللامركزية هي المسيطرة على المشهد، كان الأزهر مأذنةً واحدةً تُعلِّم الناس وتدعوهم، ثم صار هناك ألف أزهر وأزهر، وعالم التواصُل الإلكتروني واسع أشد الاتساع؛ واسع إلى الحد الذي قد يكون لدى المنبر ملايين المتابعين وليس معروفًا خارج دائرتهم، وفي كثير من الأحيان داخل دائرتهم ( حيث تكون مجرد متابعة جوفاء بلا إرادة في المتابعة الحقيقية )، وقديمًا كان العالم أو الداعية يظهر على التلفاز فيعرفه أكثر الناس؛ بسبب "مركزيَّة مَنصَّة التلقي"، أمَّا الآن فتفتَّتَ المشهد بشدة، وصرنا كأننا في جزر منعزلة، كل مجموعة من القوم لهم داعيهم الخاص. 3- الفوضى المعرفية، وأن كل شخص يعمل بغضِّ النظر عن مؤهله (أقصد هنا مُؤهِّله العلمي الحقيقيَّ لا مجرد الشهادة؛ فكثير من أصحاب الاختصاص لم يُغْنِ عنهم اختصاصُهم شيئًا)، كما أن كلَّ مُؤثِّر ومنبر يعمل ولا رقيب عليه، فالجمهور ليس رقيبًا؛ بل السلطة هي التي تقوم بدور الرقيب، ولا مُصحِّح له، فالجمهور ليس جهة تصحيح؛ بل الخبير هو جهة التصحيح، ومن مظاهر الفوضى هي حالة الشعبيَّة ( الشعبويَّة ) في تقديم العلم وفي تلقيه؛ التي تنشأ عن هذه الظاهرة. 4- المعرفة الجزئية المُشخصَنَة؛ حيث يقدم كل صاحب قناة أو حساب العلمَ أو الفكرَ حسب منظوره هو، وليس منظور الشخص في كل الأحيان صحيحًا؛ فتتسرَّب من خلال هذه المُمارسات العلمية والدعوية علومٌ مبتورةٌ جزئيةٌ مطبوعةٌ بطابع الشخص المُقدِّم، وهذه النوعية من المعرفة ليست بالضرورة ضارَّة؛ لكنَّ ضررها الحقيقيَّ أنها لا تُراعي تقديم المنظور الأشمل الذي به تكون المعرفة الصحيحة " الكاملة "، وبه يكون الفكر " الهادئ " المتَّزن الذي لا ينظر للآخرين ( وهؤلاء الآخرون ليسوا الأعداء؛ إنما هُم مِنَّا؛ لكنهم مخالفون لصاحب المنبر فحسب ) على أنهم مختلون عقلًا ونفسًا، أو أنهم أعداء للدين خائنون له، أو... أو... دون تحقق وتدبر، وفي الغالب نقف للتحقيق؛ فنجد أنهم مخالفون لصاحب المنبر شخصيًّا أو فكريًّا، لا أعداء كما وجَّه، ولا مُرتابون كما شكَّك. 5- الممارسات الشاغلة للمسلم عن هدفه الحقيقي؛ مثل صناعة "المعارك الوهمية" بين بعض أصحاب المنابر بعضهم بعضًا، ويهوِّل كل واحد منهم في الأمر، ويُعلي أصوات الصراخ حتى يظنَّ المُتلقي أنها معركة حقيقية يجب أن يلتفت إليها، ومثل الاهتمام بمواد تافهة ( كتب، أو موضوعات، أو غيرهما ) لا تستحق الاهتمام؛ بل صناعة حالة من "النجوميَّة" لها، وكل هذا بسبب غياب الرقيب والخبير عن هذه النشاطات. بعض تقويمات لظاهرة المنابر الإلكترونية: 1- صاحب المنبر الإلكتروني أنه قدوة في تصرُّفاته؛ لا في أقواله فقط، فهو مَن عرَّض نفسه لهذه الحال من الاقتداء؛ حينما قرَّر توجيه الخطاب الإسلامي للكافَّة، وهذا التوجيه قوَّم حاله؛ فلم تعد حالًا عموميَّة؛ بل صارت على نمطٍ وذاتَ هيئةٍ، وعلى فهم هذه المقدمة؛ يجب على صاحب المنبر أن يراعي هذه الحالة الاقتدائية في كل ما يوجهه للكافة. 2- عدم الاغترار بالإعجابات والتفاعلات، وهنا يجب العلم أن فتنةً من أعظم الفتن للإنسان هو التعرُّض للإعجاب من الناس، وكم من رجل وَرِع تقيٍّ هلك إثر هذه الفتنة! وبالقطع كذا فتنة تحول النشاط إلى نشاط تجاري؛ بل يجب أن يكون الهدف أمامهم واضحًا، فهُم لا يعبدون الإعجابات، ولا يُقدِّسون الأموال، ولا يسجدون أمام الشهرة؛ بل هُم عباد لله وحده لا شريك له، وإذا كانوا على غير هذه الحال المستقيمة؛ فإن الناس تنظر إليهم على هذه الحال المستقيمة؛ فعليهم ألَّا يخونوا هذه الأمانة (فإن هذه النظرة بالثقة أمانة في عُرف الشارع، وأداؤها أداء للأمانة). 3- تحرِّي ما يُصدَّر للجمهور، والتأكُّد منه قبل عرضه على الناس؛ بالرجوع إلى المصادر الموثوقة، وسؤال أهل العلم والخبرة؛ بل الأَوْلَى إنشاء جهة صغيرة من شخص أو أكثر لتكون جهة استشارة وإرشاد؛ فيخرج العمل جديرًا بالعرض أمام الجمهور، وليعلمْ صاحب المنبر أن المحتوى الخاطئ سيُسأل عنه أمام الله، ولا سبيل لدفع السؤال بالجهالة ( أيْ بأن صاحب المنبر جَهِلَ خطأ هذا الأمر ). 4- الاهتمام باللغة الفصحى والالتزام بها، ولأصحاب المنابر هنا دور ضخم، أضخم من أية جهة أخرى؛ حيث هم الملاصقون للناس، المُباشرون لهم في ليلهم ونهارهم، والفرصة على يديهم في تنمية رقعة استخدام الفصحى أكبر من أية فرصة أخرى، فهي أكبر من فرصة حفظ الطالب واضطراره لأداء امتحان ما؛ فهنا حياة حقيقية، وحالة متحركة مُشكِّلة للغة الجمهور، وهذا من أوجب الواجبات عليهم.
مناهج التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر وسماته وأنواعه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فلا شكَّ أن الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ويأتي دور أهمية الكتابة في هذا العلم وأهم المصنفات فيه، خاصة ما يتعلق بالعصر الحاضر. المحور الأول: مناهج التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر. مفهوم المنهاج: "(نهج) النون والهاء والجيم أصلان متباينان: الأول النهج، الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه، وهو مستقيم المنهاج، والمنهج: الطريق أيضًا، والجمع المناهج، والآخر الانقطاع" [1] . اصطلاحًا: "وسيلة محدَّدة توصِّل إلى غاية معينة" [2] . فيكون تعريف مناهج التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر: الخطة المنظمة لمسائل علم الدعوة وترتيبها، وتنظيمها وفق تقسيم يتفق مع علم الدعوة في الزمن المعاصر. فيمكن تقسيم مناهج التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر باعتبارات: أولًا: باعتبار مناهج البحث العلمي: منهج البحث التاريخي : ويستخدم في رصد المسار التاريخي لأي قضية أو مسألة يريد الباحث في مجال دراسات منهج الدعوة النظرَ فيها، وسبرَ أغوارها، والوقوف على حقائقها، وهذا المنهج غالبًا ما يستخدم في أبحاث تاريخ منهج الدعوة؛ مثل تاريخ دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، أو تاريخ دعوة أي عالم أو داعية من دعاة المسلمين، أو تاريخ أي مذهب أو تيار أو جماعة دعوية قديمًا أو حديثًا. منهج البحث الوصفي : ويستخدم هذا المنهج في توصيف مظاهر أي دراسة من دراسات منهج الدعوة، وبيان ما يتعلق بها، ومعرفة كنهها، وتفهُّم حقيقتها وأركانها ومسائلها المتنوعة. منهج البحث التحليلي : ويستخدم هذا المنهج في تحليل الظواهر والمعطيات لأي قضية من قضايا منهج الدعوة، ومسائله المتعلقة به، وهذا المنهج هام جدًّا، ولا يمكن الاستفادة منه إلا بعد معرفته والتحلي بصفات الباحث الحق، الذي يهدف إلى تحليل المسائل تحليلًا متكاملًا من جميع الأوجه، متجردًا عن الهوى والعصبية. منهج دراسة حالة : ويهدف هذا المنهج إلى التعمق في دراسة حالة معينة من الحالات التي تتصل بموضوعات ومسائل منهج الدعوة المتعددة؛ مثل بعض الحالات الفردية الخاصة، أو حالة معينة في مؤسسة اجتماعية، أو وضع معين في أحد أفراد الأسرة أو ما شابه ذلك، كما يمكن أن تتجه دراسة الحالة إلى رصد ظاهرة معينة وحالة طارئة، أو متجذرة في المجتمع مثل التدخين، أو المخدرات، أو النميمة، أو الطلاق، أو الانحرافات السلوكية لدى فئة معينة من المجتمع وهكذا [3] . ثانيًا: باعتبار أركان الدعوة. وهي الدراسات التي قامت في التصنيف في الوقت الحاضر، واعتمدت على اتباع أركان الدعوة في مؤلفاتها ورسائلها وكتاباتها. وهذا ملاحظ في التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر، فقد قامت الأقسام العلمية بالتركيز على مصطلح الدعوة وإفراده كعلم؛ لذلك جاءت مصنفات في العصر الحاضر مركزة على علم الدعوة بخلاف مصنفات المتقدمين في الدعوة. ومن أمثلة من كتب حول أركان الدعوة ما يلي: الداعية: • الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله. • مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بنت وهف القحطاني. • من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين في ضوء الكتاب والسنة وسير الصالحين، فضل إلهي. المدعو: • أحوال المدعو في ضوء الكتاب والسنة، محمد العمر. • أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم، حمود الرحيلي. • دعوة غير المسلمين، عبدالله اللحيدان. الوسائل والأساليب الدعوية: • أساليب الدعوة الإسلامية المعاصرة، حمد العمار. • الوسائل المشروعة والممنوعة في الدعوة إلى الله تعالى، محمد أزهري. الموضوعات الدعوية: • شمول الموضوعات الدعوية دراسة تأصيلية، جلوس القحطاني. وغيرها الكثير التي لا يمكن حصرها في ورقة علمية. ثالثًا: باعتبار مصادر الدعوة. الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تعتمد وتستند على مصادر أصلية في الشريعة الإسلامية؛ حيث إن الدعوة منبثقة من منهج الكتاب والسنة وسلف الأمة، فهي دعوة الأنبياء عليهم السلام؛ لذا اعتمدت مصادر الدعوة في العصر الحاضر على المصادر الشرعية. ومن أمثلة المصنفات باعتبار مصادر الدعوة ما يلي: • نصوص الدعوة في القرآن الكريم، ونصوص الدعوة في السنة النبوية، وكلاهما للمؤلف الدكتور حمد العمار. • الرسائل العلمية المتنوعة التي أُلِّفت حول فقه الدعوة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة النبوية. • والمصنفات المتنوعة التي تناولت دراسة جانب الدعوة في سور القرآن الكريم، وهي عديدة بحمد الله تعالى. المحور الثاني: سمات التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر: من أبرز سمات التي تميز فيها التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر ما يلي: 1- التخصص، فيتميز التصنيف في العصر الحاضر تخصصه الدقيق بعلم الدعوة؛ نظرًا لوجود الأقسام المتخصصة في علم الدعوة. الدراسات المتعلقة بالعصر الحاضر، تتميز الدراسات بتناول الواقع المعاصر وتوظيفه دعويًّا، وعنايتها بالواقع المعاصر وكيفية الاستفادة منه. 2- اتساع مفرداته لكل العلوم: تناول علم الدعوة وربطها مع التخصصات الأخرى؛ مثل: علم الاجتماع، والتفسير، والعقيدة، والحديث، وكذلك غيرها من التخصصات. 3- التنوع في التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر، فهناك دراسات تناولت الداعية، ورسائل المدعو، ورسائل الوسائل والأساليب، ورسائل تاريخ الدعوة، ورسائل مضمون الدعوة، وسير العلماء والحكماء، ودراسة واقع الدول دعويًّا، وغيرها. 4- التميز في الدقة في استخدام مناهج البحث العلمي، خاصة الرسائل العلمية التي تتبع للأقسام العلمية في الجامعات؛ حيث تسير على منهجية بحثية متقنة. 5- التأصيل العلمي المعتمد على الكتاب والسنة ومصادر التشريع الأساسية. 6- استخدام أدوات علمية دقيقة لقياس الواقع، ودراسته وتحليله، وتوظيفه دعويًّا؛ ومن ذلك: الاستبانات، الدراسات التحليلية، دراسة حالة، المقابلة...؛ إلخ. ولعل من السمات التي قصرت فيها التصنيف في الوقت الحاضر: • الحشو في بعض الرسائل العلمية ودعم التركيز على الإثراء العلمي، بخلاف تصانيف المتقدمين. • الضعف العلمي في بعض المصنفات في الدعوة في العصر الحاضر. • بعض الأخطاء النحوية التي قد تكون بسبب العامية التي طرأت على الألسنة، ولم تكن موجودة في عصور المتقدمين. • غلب الكم على الكيف، التركيز على الكم دون الكيف، بعض الدراسات المتأخرة انحصرت فيما ورد من الأقوال والآراء دون تعقيب ونقد، وإنما تكرار عند المتقدمين. المحور الثالث: أنواع التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر. تنوع التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله مقاصد التصنيف؛ فقال رحمه الله: وهي: "إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه" [4] . من خلال مقاصد التصنيف يتبين أن أنواع التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر ما يلي: 1- جمع متفرق؛ مثل: إعداد داعية في ضوء الكتاب والسنة، لجلوس القحطاني رسالة دكتوراة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والتي قسمت رسالتها إلى الإعداد الإيماني والمهاري والاجتماعي...؛ إلخ للداعية، وتأصيل هذا الإعداد من الكتاب والسنة حول كل فقرة من فقرات الرسالة. 2- إكمال ناقص؛ مثل الأبحاث التكميلية أو بعض أبحاث الترقية، مثل الدراسات التي تناولت ذكر بعض وسائل الدعوة على حدة، الدراسات التي درست آيات قرآنية أو سورًا قرآنية، وتوظيفها دعويًّا، والدراسات التي تناولت صفة من صفات الداعية على حدة، مثل: صفة علو الهمة للداعية لرقياز نياز؛ حيث تناولت في بيان مكانة الهمة العالية في الدعوة الإسلامية، وتوضيح كيفية بناء همة الداعية موضحة أصناف الدعاة إلى الله في شأن الهمة، وأنواع الهمة العالية، وطريقة اكتسابها للدعاة إلى الله. 3- تفصيل مجمل: كتعيين مبهم؛ مثل كتب التراجم، كذلك مثل المصنفات المعاصرة التي شرحت الرد على الجهمية للشيخ عبدالعزيز الراجحي، ومثل: منهج الدعوة إلى الله في النوازل والفتن العامة، محمد بن أحمد الفيفي، رسالة دكتوراة في قسم الدعوة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1434ه؛ حيث ذكر الباحث المنهج الدعوي في كل من أركان الدعوية فيما يتعلق بالداعية والمدعو، والوسائل والأساليب، وموضوع الدعوة فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة والأخلاق... حيث فصل الباحث الفتن العامة وإنزالها على المنهج الدعوي في التعامل معها. 4- التعقيبات والنقائص: ويكون بنقد شبهة معينة أو جماعة معينة، مثل: دعاة الصوفية والاستعمار، المفهوم، مظاهر العلاقة، أساليبها، آثارها، دراسة نقدية، محمد الزهراني، بحث محكم في مجلة البحوث والدراسات الشرعية، ع67، 1438ه؛ حيث بيَّن الباحث ما تحتويه هذه الفرقة من المخالفات والرد عليها، فقد بيَّن العلاقة بين دعاة الصوفية والاستعمار، وأساليب دعاة الصوفية مع الاستعمار، والآثار المترتبة على علاقة دعاة الصوفية مع الاستعمار. 5- تأصيل وتحليل شخصية: مثل الملوك والحكماء وللعلماء، مثال: سياسة الملك فيصل الدعوية، للباحث: إبراهيم بن عبدالله السماري، وتحدث عن سياسة الملك فيصل رحمه الله، وتحليلها من جوانب عدة، من الوسائل والأساليب، والميادين والتخطيط للدعوة، وغيرها. 6- تحقيق النصوص (المخطوطات): مثال على ذلك: كتاب تنبيه الغافلين من أعمال الهالكين لابن نحاس الدمشقي (ت: 814ه) من أول الكتاب إلى قول المؤلف في الباب الخامس "فصل ذكر جملة من الصغائر" دراسة وتحقيقًا، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 7- تصحيح الخطأ: وذلك من كتاب: تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية، للمؤلف محمد بن سعد الشويعر، عام 1419ه؛ حيث بيَّن شبهات الخصوم والرد عليها، وأوضح الخطأ الذي نُسب للإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. 8- اختراع معدوم: يصل إلى شيء جديد لم يسبق إليه، وجمع الشواهد والأدلة لوصول إلى فكرة جديدة، مثل: وسائل الدعوة إلى الله تعالى في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وكيفية استخداماتها الدعوية، رسالة دكتوراة للباحث إبراهيم بن عبدالرحيم عابد، 1427ه؛ حيث تطرق لذكر شبكات الإنترنت ووظفه وخدمة الدعوة إلى الله. [1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء، المحقق: عبدالسلام محمد هارون، دار الفكر، 1399ه، (5/ 361)، مادة نهج. [2] معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبدالحميد عمر، عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 ه، (3/ 2291). [3] انظر: الأسس العلمية لمنهج الدعوة الإسلامية، عبدالرحيم محمد المغذوي، ط٢، دار الحضارة، الرياض، ١٤٣١ه، ص ١٤٢- ١٤٣. [4] رسائل ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المحقق: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م، (2/ 186).
الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي سيوطي العصر الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي أو "سيوطي العصر" في التأليف؛ لأن مؤلفاته نيَّفت على الخمس مئة مؤلف كالحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطي، أو "الجاحظ الثاني"؛ لبراعته وإنجازاته الأدبية واللُّغوية والفكرية والتراثية. وُلِد الدكتور محمد في إحدى القرى المصرية منتميًا إلى سلالة عربية هم "بنو خفاجة" التي ينتمي إليها الأمير ابن سنان الخفاجي، وشاعر الأندلس ابن خفاجة، وغيرهما. تلقَّى تعليمه التقليدي في كُتَّاب القرية، وواصل تعليمه في سني عمره متعلمًا من أساتذة كبار في معاهد اللغة العربية، وفي جامع الأزهر حتى تحصل على شهادة العالمية "الدكتوراه" في الأدب والبلاغة لأطروحته "ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان". استطاع الخفاجي بما رسم لنفسه من منهاج علمي أن يُبْحِر في شتى العلوم والمعارف، وأن يُقدِّم للمكتبة العربية كثيرًا من المؤلفات والتحقيقات التراثية، وكتب المقالة الأدبية الفكرية العميقة في كثير من الصُّحُف والمجلات والتي كانت مقصد القُرَّاء والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري؛ لما تُقدِّمه تلك المقالات من قيمة ثقافية. كان الخفاجي ظاهرة حضارية ثقافية؛ فهو أديب وناقد ومُؤرِّخ ومُحقِّق وشاعر نُشِر شعره في خمسة عشر ديوانًا أقدمها ديوان (وحي العاطفة)، وآخرها ديوان (أحلام الأمس). وفي الشعر كانت للخفاجي آراؤه النقدية التي عبَّر عنها في مؤلفاته، ومنها رأيه في الشِّعر الحُرِّ والتجديد في شكل القصيدة العربية؛ حيث أقرَّ بقبوله، ولكن في أناةٍ وبقدر؛ حتى لا يُصدم القارئ والسامع بما لم يأْلَفْه، ومن الأَوْلَى أن يُسار في التجديد الشِّعري بخُطى معتدلة بعيدًا عن الهدم للبناء الفني الموروث للقصيدة العربية. وقد نادى بالتجديد في مضمون القصيدة الشِّعري دون الغلوِّ في تغيير شكل القصيدة العربية الذي من شأنه تمزيق مقومات الروح الشعرية، ويصرف الأجيال عن الشعر القديم وشُعَرائه الكِبار. وبالنسبة للصورة الأدبية؛ فيرى أنها التعبير بأسلوب جميل عن عاطفة الأديب سواء برزت الفكرة، أو سيطرت العاطفة، وتتركَّز عناصر الصورة الأدبية في الدلالة المعنوية للفظ فيها والعبارة، ثم تأتي المؤثرات الأخرى في دلالتها من الإيقاع الموسيقي، والصور، والظلال التي توحي بها العبارات، وبعدها يأتي تناول الموضوع، وحسن عرضه، وتنسيقه، وروعة الخيال، ووحدة العمل الأدبي وأصالة الأديب، وظهور شخصيته في التصوير والوحي فيه. ويُوضِّح هذه العناصر بالتفصيل واحدة واحدة مع إيراد الأمثلة التي تُبْرِز هذه المعالم في الصورة. وبالنسبة للإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات والصور والظلال التي يشعُّها التعبير؛ فيراها مؤثرات يكمل بها الأداء الفني. ونرى الدكتور خفاجي يُركِّز على الصورة الشعرية محددًا معالمها بقوله: "وأمَّا الصور الشعرية فنعني بذلك أنك حين تقرأ للشاعر قطعة يكون الشيء كأنه مرسوم أمامك بوضوح شديد ومُجسَّم بارز تجاه بصرك. وللدكتور خفاجي ميزانه الدقيق في المعادلة بين الشكل والمضمون؛ حيث لا يجب أن يطغى أحدهما على الآخر؛ وإلا خرج الكلام من باب الأدب فيقول: "فيجب على الأديب أن يُوازن بينهما موازنةً دقيقةً، فلا يطغى المضمون على الشكل؛ أي: الصورة، وإلا خرج الكلام من باب الأدب إلى باب العلم، ولا تطغى الصورة على المضمون؛ وإلا كان الكلام أدبًا لفظيًّا لا قيمة له في باب الفكر". نثر الخفاجي آراءه، وأفكاره، ونظرياته في كتب كثيرة في الأدب، والنقد، والبلاغة، والتاريخ، والتصوف، والإسلاميات، والتفسير، ومناهج البحث، والبحوث الأدبية، وتحقيق كتب التراث، وأولى جماعة (أبوللو) الشعرية عناية خاصة باعتباره أحد أعضائها منذ قيامها في عام (١٩٣٢م)؛ فقدَّم دراسة أدبية عنوانها (رائد الشعر الحديث) عن صديقه الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي رائد مدرسة (أبوللو) الشعرية، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أسَّس مع الدكتورين: عبد العزيز شرف، ومختار الوكيل جماعة (أبوللو) الجديدة في عام (١٩٨٤م)، كما أسَّس مع الدكتور شرف في عام (١٩٨٦م) (سوق الفسطاط للشعر والنقد) على نمط (سوق المربد) الشِّعري. كانت حياة الدكتور محمد رحلةً علميةً ثريةً ثمينةً؛ حيث تنقَّل بين كثير من البلدان أستاذًا للأدب والبلاغة والنقد، ومفيدًا من ثقافات تلك الدول وحضاراتها؛ فكتب (قصة الأدب في الحجاز)، و(قصة الأدب في ليبيا)، و(قصة الأدب في الأندلس). وحياة علمية مترفة مثل هذه جديرة بأن تكون ذات أثر علمي حضاري لا يقتصر على التأليف والتحقيق والنشر؛ ولذا فقد رأس أقدم جمعية أدبية ثقافية في مصر هي (رابطة الأدب الحديث) التي رأسها أمير الشعراء أحمد شوقي، والدكتور أحمد زكي أبو شادي، والدكتور إبراهيم ناجي. وشارك في إعداد تفسير القرآن الكريم المنشور من وزارة الأوقاف المصرية، والتفسير المنشور من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ودعا إلى إنشاء مجمع فقهي منذ عام (١٩٦٢م)، وتحقَّق ذلك بقيامه في مكة المكرمة في عام (١٩٨١م). ظلَّ الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي يبحث، ويُحقِّق، ويكتب، ويُؤلِّف، ويُشارك في المؤتمرات العلمية، والمهرجانات الثقافية حتى وافاه الأجل في شهر مارس عام (٢٠٠٦م)، فرحمه الله، وجزاه عن أُمَّتِه خيرًا. إن عالمًا موسوعيًّا كالدكتور محمد سخَّر نفسه للعِلْم، وللُّغة القرآن متنقلًا بين عدد من الدول أستاذًا، ومُحقِّقًا، وكاتبًا، وناشرًا، وشاعرًا، لهو جدير بأن يعرف سيرته الشباب، ويقرأ كفاحه العلمي طُلَّاب العلم؛ فهو لنا نبراس هادٍ، ومشعل مضيء.
سفرة الزاد لسفرة الجهاد لشهاب الدين الألوسي صدر حديثًا رسالة " سُفْرَةُ الزّاد، لِسَفَرَةِ الجِهَاد "، تأليف: العلامة " أبي الثناء شهاب الدين محمود الألوس ي"، اعتنى بها: " ذاكر الحنفي "، نشر: " دار النور المبين للنشر والتوزيع ". وهي رسالة مختصرة في الجهاد وتعريفه وفضائله وبعض أحكامه، كتبها العلامة " شهاب الدين محمود الألوسي " إبان الحروب بين الدولة المسكوفية (روسيا اليوم) والدولة العثمانية، تلك الحرب التي سميت بحرب القرم، وانتهت بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس، واستمرت الحرب من 1853 - 1856 م، وذلك فترة حكم السلطان عبد المجيد الذي نادى بالجهاد ضد الروس، وهب المسلمون لمساندة تلك الدعوة بالسلاح والقلم، وبين فيها " الألوسي " فرضية الجهاد ضد الكفار، وأنه من واجبات المسلمين للدفاع عن ديار الإسلام، ثم شرع في بيان أحكامه وآدابه. والرسالة مرتبة على مقدمة ومقصد ومتممة، أما المقدمة فعرف فيها " الألوسي " الجهاد لغةً واصطلاحًا، وبين حكمه التكليفي، وبين المستثنين من بعض الأحكام، وحكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد، وأما المقصد فذكر فيه ما يتعلق بفضل الجهاد من الأخبار، وكلام العلماء، وفضل ما يتعلق بذلك من الرباط والإنفاق، وأما المتممة ففيها عدة فوائد، تتعلق ببعض سنن الجهاد وأحكامه. وقد بسط المحقق " ذاكر الحنفي " الكلام في مقدمة التحقيق في تفصيل ملابسات إدباج الرسالة، وبيان تلك الحرب وأسبابها ومقدماتها ونتائجها، كما أجملَ ترجمةً لصاحب هذه الرسالة العلامة شهاب الدين محمود الألوسي. وللكتاب عدة مخطوطات منها مخطوطة بقسم المخطوطات في مكتبة الحرم المدني برقم خاص (874) ورقم عام (27363)، وأصلها موجود في موقع مخطوطات الأزهر رقم النسخة (333507)، في 18 ورقة كاملة، وورقة الغلاف صفحة واحدة، وفي كل صفحة 26 سطرًا، وفي كل سطر ما بين 12-16 كلمة، وخطها واضح جميل، وقد طبعت تلك النسخة من قبل في العراق في دار السلام ببغداد سنة 1333 هـ. والمؤلف هو العلامة "شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي" (1217-1270هـ، 1802-1854م). فقيه ومفسر ومحدث. ولد في بغداد، تلقى العلوم على شيوخ عصره، وكان شديد الحرص على التعلم ذكيًا فطنًا، لا يكاد ينسى شيئًا سمعه، حتى صار إمام عصره بلا منازع. اشتغل بالتأليف والتدريس في سن مبكرة، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فدرس في عدة مدارس، وقُلِّد إفتاء الحنفية سنة 1248هـ، فشرع يدرِّس سائر العلوم في داره الملاصقة لجامع الشيخ عبد الله العاقولي في الرُّصافة، وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلقٌ كثير من قاصي البلاد ودانيها. وله حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام ألَّفها وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة. أخذ الألوسي العلم عن فحول العلماء، منهم والده العلاَّمة، والشيخ خالد النقشبندي، والشيخ على السويدي، والشيخ علي الموصلي، والشيخ يحيى المروزي العمادي، ومحمد بن أحمد التميمي الخليلي المصري. كما روى عن عبد الرحمن الكزبري، وعبد اللطيف بن حمزة فتح الله البيروتي، والشمس محمد أمين بن عابدين مكاتبةً، واجتمع في إسلامبول بشيخ الإسلام عارف الله بن حكمة الله، وأجاز كل منهما صاحبه، والشمس محمد التميمي الحنفي، وأخذ في العراق عن علاء الدين عليّ الموصلي، وعلي بن محمد سعيد السويدي، وعبد العزيز بن محمد الشواف، والمعمر يحيى المروزي العمادي، والشيخ عبد الفتاح شوَّاف زاده، وغيرهم. تولى منصب الإفتاء ببلده عام 1248هـ، بموجب الفرمان السلطاني العثماني وبقي فيه حتى سنة 1263هـ. قام بعدة زيارات علمية إلى الآستانة وغيرها. له عدة كتب قيَّمة، أبرزها تفسيره الكبير "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" الذي استغرق تأليفه خمس عشرة سنة، ويُعدُّ هذا التفسير موسوعة كبيرة جمع فيه الألوسي خلاصة علم المتقدمين في التفسير، وقد ذكر فيه بعض إشارات الصوفية في التفسير. ومن كتبه إلى جانب تفسيره المشهور: • "نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول" وهو عن رحلته إلى الأستانة. • "نشوة المدام في العودة إلى دار السلام". • "غرائب الاغتراب". • "دقائق التفسير". • "الخريدة الغيبية". • "كشف الطرة عن الغرة". • "حاشية قطر الندى". • "شرح سلم المنطق". • "الفيض الوارد في شرح قصيدة مولانا خالد". • "الرسالة اللاهورية". • "الأجوبة العراقية". • "البرهان في اطاعة السلطان". • "الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب". • "شهى النغم في ترجمة شيخ الإسلام وولي النعم". • "النفحات القدسية". • "حاشية الحنفية على مير أبي فتح". • "الفوائد السنية". • "رسالة في الجهاد". • "المقامات الآلوسية". وغيرها كثير من الرسائل والمؤلفات المخطوطة والمطبوعة. وتوفي الألوسي في ذي القعدة في بغداد ودُفن فيها.
غزوة بدر بعد الاستعداد النفسي والتحرك بمجموعات صغيرة للصدام مع قريش من أجل كسر حاجز الرهبة من قريش، خلال سنة تقريبًا من جولات السرايا في محيط المدينة وقريبًا من مكة، بينما لم يكن لقريش ردة فعل تذكر، وبهذا الإعداد جاء دورُ التصدي الأكبر لتحطيم جبروت قريش وما اقترفته بحق المسلمين؛ فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم قافلة لقريش من الشام بقيادة أبي سفيان وهي محملة بالبضائع وفيها جل تجارة قريش، فندب المسلمين للخروج معه للاستيلاء على هذه القافلة، فقال: (( هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعل الله يُنفِّلكموها ))، فخرج معه جمع من المسلمين، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة في رمضان لثمان ليال خلون منه، واستعمل فترة غيابه أبا لبابة بن المنذر على المدينة وعبدالله بن أم مكتوم على الصلاة، وأعطى اللواء لمصعب بن عمير، وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، وكان عدد جيش النبي صلى الله عليه وسلم 317 رجلًا ومعهم سبعون جملًا، وكانوا يتعاقبون على الجمل الواحد، الاثنان والثلاثة والأربعة، يركب أحدهم ويسير بقية الرفقة إلى أن يأتي الدور للثاني، وهكذا، وكان معهما فرسان، إحداهما للمقداد بن عمرو، والثانية لمرثد الغنوي، وقيل: للزبير بن العوام. كان المقصد بدر؛ حيث المكان الذي تمر منه القافلة العائدة من الشام، حتى إذا كان قريبًا منها عند بئر الروحاء أرسل بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء، وهما من جهينة، ليتحسسا له خبر القافلة، ثم تقدم نحو وادي ذفران، وهناك أتاه الخبر بأن قريشًا جمعت له جيشًا لحربه واستنقاذ القافلة، ووصل بسبس وعدي بدرًا واستقيَا من بئرها، وهناك سمعا الخبر بوصول القافلة بعد يوم أو يومين من جاريتين كانتا تنتظران القافلة، فركِبا ناقتيهما وعادا ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان قائد القافلة أبو سفيان - وكان شديد الحذر - منذ أن دخل الحجاز يقدم رجالًا للاستطلاع وتنصُّت الأخبار، وكلما مر بمكان يسأل، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد ليتحسَّسا له خبرَ العير، فنزلا عند كشد الجهني وهو مقيم بالنخبار وراء ذي المروة على الساحل، فمكثا عنده في خباء حتى مرت القافلة ونظَرَا إليها من مكان مرتفع، وأرسل أبو سفيان إليه يسأله: يا كشد، هل رأيت أحدًا من عيون محمد؟ فأجابهم: وأنى عيون محمد بالنخبار - اسم هذا المكان - منكرًا أن يكون رأى أحدًا؛ لذلك لم يكن أبو سفيان غافلًا، فكان حدسه قويًّا، كأنما يتوقع مفاجأة أو داهية تصيبه، فما كان يتوقف بالقافلة إلا قليلًا ثم يواصل سيره متبعًا الليل بالنهار، وقبل أن يرد بدرًا تقدم يسأل، فقدم على مجدي بن عمرو في بدر يسأله، فقال: يا مجدي، هل أحسست أحدًا؟ تعلم والله ما بمكة من قرشي، ولا قرشي له نش - نصف أوقية فضة - فصاعدًا إلا وقد بعث به معنا، ولئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة، فقال مجدي: والله ما رأيت أحدًا أنكره، ولا بينك وبين يثرب من عدو، ولو كان بينك وبينها عدو لم يخف علينا، وما كنت لأخفيه عليك، إلا أني رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان فأناخا به ثم استقيا بأسقيتهما وانصرفا، فجاء أبو سفيان مكان الراحلتين فوجد بعرًا من أثرهما فقبضه وفركه فإذا فيه نوى تمر - وكان أهل المدينة يطعمون الإبل من نوى التمر - فقال: هذه والله علائف يثرب، هذه عيون محمد وأصحابه، ما أرى القوم إلا قريبًا، فضرب وجه بعيره وقاد القافلة باتجاه الساحل، وأخذ طريق العدوة القصوى، ومع ذلك أرسل ضمضم إلى مكة سريعًا ليستنفر أهلها لنجدته، وخرج ضمضم حتى وصل مكة وصرخ صرخات ثلاث وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، وكان قد جدع أنف بعيره، وحوَّل رحله، وشق قميصه؛ وذلك ليعلمهم هول الحدث. وبتدبير أبي سفيان واحترازه أفلت من الكمين، وخرج بالقافلة سالمًا، فلما اطمأن إلى أنه خرج من دائرة الخطر أرسل إلى قريش يخبرهم بذلك، ويطلب منهم العودة، غير أن أبا جهل المحب للانتقام والشر أصر على متابعة الطريق وقتال المسلمين، وقد واتته الفرصة باجتماع هذا الجيش الذي هب لنجدة أمواله وقد ملأه الغيظ من محمد وصحبه، فأراد أبو جهل أن يستغل هذه الحماسة ويضرب ضربته الانتقامية، فلم يستمع لنداء العودة والكف عن الحرب، ومضى قدمًا في شره، لكن بعض الناس رجعوا عنه؛ كبني زهرة وبني عدي. علِم النبي صلى الله عليه وسلم بحشد قريش وقدومها لحربه، فجمع أصحابه وأطلعهم على عزم قريش، وشاورهم في العودة إلى المدينة أو اللقاء والتصدي لقريش، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ومما قال: يا رسول الله، إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبدًا، ولتقاتلنك، فاتهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق، لو سِرْتَ بنا إلى برك الغماد - لعله اليوم منطقة القنفذة - لسرنا معك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا عليَّ أيها الناس، وهو يريد الأنصار؛ لأن كل الذين تكلموا كانوا من المهاجرين، وكان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا إذا هوجمت المدينة، فقام سعد بن معاذ: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا، قال: (( أجل ))، قال: إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حق، وأعطيناك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وصِل من شئت واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذتَ من أموالنا أحب إلينا مما تركت، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقَرُّ به عينك. بعد الحماسة التي ظهرت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتوقهم لجهاد العدو والرغبة الصادقة في الجهاد، والاستعداد النفسي للمواجهة، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( سِيروا على بركة الله؛ فإن الله وعدني إحدى الطائفتين - العير وسلبها، أو النصر على قريش - والله لكأني أنظر مصارع القوم ))، وقد أراهم المكان الذي سيصرع فيه كل واحد ممن سمَّاهم، وهنا أيقن الصحابة أن الحرب واقعة، وأن العير قد نجَتْ.
محيي الدين القضماني المربِّي الصالح، والعابد الزاهد [1] هو محيي الدين بن حسن، بن مصطفى، بن خالد، القضماني: معلِّم مربٍّ ومحاضر جامعي، من أهل العلم والدعوة والصلاح، ومن بقايا السلف؛ استقامةً وزهدًا وطاعة. ولادته ودراسته: وُلد الأستاذ محيي الدين في دمشق عام 1347هـ/ أيلول 1928م لأبوَين صالحين، ونشأ مع إخوته التسعة في بيت عربيٍّ وبيئة متديِّنة بحيِّ العَمارة العريق. حرَص والدُه الفاضل حسن القضماني (1890- 1953م) رحمه الله، وكان عطَّارًا في العَمارة قربَ جامع السَّادات، على أن يتلقَّى ولدُه العلوم الشرعيَّة، فأدخله الكلِّيةَ الشرعية بزُقاق النقيب في حيِّ العَمارة، وهو في العاشرة من عمره، فحصَّل فيها قِسطًا من علوم الشريعة المطهَّرة إلى جانب العلوم العصرية. وبعد حصوله على الثانوية العامَّة دخل عام 1951م قسم اللغة العربيَّة في كلِّية الآداب بالجامعة السُّورية التي سمِّيت بعد ذلك جامعة دمشق، وبعد أن نال إجازتها وشهادتها في عام 1954م تابع الدراسةَ في كلِّية التربية فحصلَ على دبلوم التربية (أهلية التعليم الثانوي) في عام 1955م. ومن مشاهير زملائه وأصدقائه في كلِّية الآداب : شيخُنا الجليل الفقيه المحدِّث الدكتور محمَّد بن لطفي الصبَّاغ (ت 1439هـ/ 2017م)، وأستاذنا الأديب المحقِّق الدكتور عبد القدُّوس أبو صالح رئيسُ رابطة الأدب الإسلاميِّ العالمية (ت 1443هـ/ 2022م)، والأستاذ الفاضل المترجِم سليم البَرادِعي (ت 1442هـ/ 2021م)، وشيخنا الجغرافيُّ المؤرِّخ محمود شاكر ( الحرستاني ) (ت 1436هـ/ 2014م). ومن أصدقائه المقرَّبين أيام دراسته الجامعية الأستاذ ياسين عيد الباري (ت 1439هـ/ 2017م) المتخصِّص بالرياضيات والفيزياء، وهو أخو الشيخ بشير عيد الباري مفتي دمشق، والخطَّاط المبدع الشهيد الأستاذ أحمد الباري (ت 1434هـ/ 2013م). وبقيَت صلتُه بزملائه وأصدقائه القُدامى وثيقةً متينةً إلى وفاته، وكم سمعتُ بعضَهم يُثني عليه خيرًا، ويذكر فضائله ومآثره، ولا سيَّما شيخِنا الجليل المربِّي عبد الرحمن الباني (ت 1432هـ/ 2011م)، وشيخيَّ الصبَّاغ وأبو صالح، رحمهم الله تعالى جميعًا. ومن طالبات دُفعتهم الأستاذة مديحة العَنبَري مديرة قُرى الأطفال ( SOS ) في سورية، زوجةُ أستاذنا الراحل د. شاكر الفحَّام (ت 1429هـ/ 2008م) رئيس مَجمَع اللغة العربية بدمشق، والأديبةُ الوزيرة الدكتورة نجاح العطَّار شقيقةُ الأديب والداعية الكبير عصام العطَّار، وكانت يومئذٍ من الصالحات الداعيات، هداها الله وردَّها سيرتها الأولى، وأحسن ختامنا وختامها. مشايخه وأساتذته: من مشايخه في الكلِّية الشرعية : الشيخُ المحدِّث محمود ياسين (ت 1367هـ/ 1948م) في مادَّة الحديث، والشيخ الفقيه الشافعي ياسين القُطب (ت 1367هـ/ 1948م) في مادَّة الفقه، والشيخ المقرئ الجامع عبد القادر قويدر العِربيلي الشهير بالشيخ عبدُه صمادية العِربيني (ت 1369هـ/ 1950م) في مادَّة القرآن، والشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني (ت 1398هـ/ 1978م) في مادَّة التفسير، والشيخ المربِّي لطفي الفيُّومي (ت 1411هـ/ 1990م) في مادَّة النحو، وشاعرُ دمشق وغِرِّيدها المِفَنُّ الأستاذ أنور العطَّار (ت 1392هـ/ 1972م) في مادَّة البلاغة، والدكتور جميل سلطان (ت 1399هـ/ 1979م) في مادَّة العَروض، ومن المشايخ الذين لقيهم فيها وأفادَ من صلاحه وسَمْته ولم يتَّلمذ له الشيخ المربِّي صالح الفُرفور (ت 1407هـ/ 1986م)، رحمهم الله أجمعين. ومن أساتذته في كلِّية الآداب : الأستاذ سعيد الأفغاني (ت 1417هـ/ 1997م) في النحو، والدكتور شُكري فيصل (ت 1405هـ/ 1985م) في الأدب، والشيخ محمَّد بهجة البَيطار (ت 1396هـ/ 1976م) في التفسير، والشيخ مصطفى الزَّرقا (ت 1420هـ/ 1999م) في الحديث، والأستاذ عزُّ الدين التَّنُوخي (ت 1386هـ/ 1966م) في البلاغة، والدكتور عمر فرُّوخ (ت 1408هـ/ 1987م) في التاريخ، عليهم رحماتُ الله جميعًا. أعماله وجهوده: عمل الشيخ في التدريس منذ عام 1956م في إعداديات دمشقَ وثانويَّاتها (منها ابنُ خَلدون، وجُول جَمَّال) وفي دار المعلِّمين الابتدائية، وفي المعهد العربيِّ الإسلامي. ودرَّس سنتين في دُومة من غُوطة دمشق، وفيها عرَفَ الشيخ أحمد الشامي (بُوبِس) المَيداني ثم الدُّومي مفتي الحنابلة (ت 1414هـ/ 1993م) رحمه الله، وابنَه فضيلة الشيخ المربِّي صالح الشامي حفظه الله. أدَّى خدمة العَلَم ( الخدمة العسكرية الإلزاميَّة ) من منتصف 1957م إلى منتصف 1959م، قضى منها تسعة شهور طالبًا في كلِّية ضُبَّاط الاحتياط بحلب، ثم عُيِّن ضابطًا في كتيبة الحرس الوطنيِّ المكلَّفة حراسةَ الشَّريط الحدوديِّ المُشرِف على الجَوْلان، ينظِّم الدوريَّات و( الكمائن ) على الحدود في القُنَيطِرة. أُعير إلى المملكة العربيَّة السعودية أربع سنوات من أواخر عام 1967 إلى أواخر 1971م، درَّس سنةً منها في كلِّية اللغة العربية بالرياض، ثم ثلاثَ سنين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة، موادَّ: النحو، والأدب والخَطابة، ومِن حاضِر العالم الإسلامي، وكان التحاقه بالجامعة الإسلامية في منتصف عام 1388هـ/ شهر أيلول من عام 1968م [2] ، والتحق معه بالتدريس يومئذٍ المشايخُ والأساتذة الكرام: العلَّامة تقيُّ الدين الهلالي (ت 1407هـ/ 1987م)، ومحمد محمد بحيري، وإبراهيم السَّلقيني (ت 1432هـ/ 2011م)، وأحمد مختار البزرة (ت 1413هـ/ 1992م)، وعبد العزيز رَباح (ت 1419هـ/ 1998م)، ومحمد أمين لطفي. ومن زملائه فيها أستاذنا محمد سعيد المولوي (ت 1440هـ/ 2019م) رحمهم الله جميعًا. وضربَ بسهم في نشاطات الجامعة وندَواتها العلمية والتربوية، من ذلك مشاركتُه في الندوة الخامسة من الندَوات التربوية، بكلمة عنوانها (التاريخ الإسلاميُّ وأثره في حياة المسلمين) في أواخر عام ١٣٨٩هـ [3] . ثم عاد إلى دمشقَ معلِّمًا فيها إلى أواخر عام 1979م، لقيَ فيها كثيرًا من المضايقات بسبب توجُّهه الديني، فاضطُرَّ إلى الخروج من سوريةَ إلى المدينة المنوَّرة من جديد، للتدريس في الجامعة الاسلاميَّة فيها من عام 1980 حتى عام 1990م، وقد درَّس مادَّة: مِن حاضِر العالم الإسلامي، في كلِّيَّتَي اللغة العربية، والحديث الشريف. وعندما انتهت خدمتُه في الجامعة حرَصَ على البقاء في خير جوارٍ وأكرمه، في مدينة المُصطفى عليه أزكى صلوات الله وسلامه، موظَّفًا في مؤسَّسة تجارية خاصَّة لبعض أقرباء زوجته، وبقيَ يعمل فيها إلى قريب وفاته. كتبه ومؤلَّفاته: كان الشيخ مُقِلًّا في التصنيف والتأليف، لعنايته أكثرَ بالتربية والتوجيه؛ فلم يَصدُر له سوى ثلاثة كتب، كلُّها من منشورات المكتب الإسلاميِّ بدمشق ثم بيروت، لصاحبه شيخنا المجاهد زهير الشَّاويش (ت 1434هـ/ 2013م) رحمه الله تعالى، وهي: ❶ كلماتٌ ومواقفُ، ط2، 1410هـ/ 1989م، في 248 صفحة. ❷ مُصطلحاتٌ إسلاميَّة، ط1، 1410هـ/ 1990م، في 120 صفحة. ❸ قضايا هامَّة في حاضِر العالم الإسلاميِّ، ط2، 1407هـ/ 1987م، في 208 صفحة. ونُشرت له مقالاتٌ وبحوث في بعض المجلَّات، منها: مقالةٌ في مجلَّة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة بعنوان: ( الغزوُ الفكريُّ وأثره في العالم الإسلامي ) [4] . ويظهر أثرُ تخصُّصه اللغويِّ والأدبيِّ فيما صنَّف وكتب؛ جمالًا في العبارة، وإحكامًا في الأسلوب، فضلًا عن سَداد المَقصِد، وسلامة المَنهَج؛ بالتزام الكتاب والسنَّة، والرجوع إلى أُمَّات المصادر. وأبان في مقدِّمة كتابه ( كلمات ومواقف ) أنه مختارات تخيَّرها من مَعين الكتاب والسنَّة والتاريخ الإسلامي، مبوَّبة في موضوعات ذاتِ مضمون تربوي توجيهي. وأن الغرضَ منها تعريفُ المسلمين بحقيقة دينهم، وتقوية صلتهم بربِّهم، وتنمية شعورهم بذاتهم وبأخوَّتهم ووَحدتهم، واعتزازهم بشريعة ربِّهم، وبتاريخهم وقِيَمهم. ثم قال: ولا بدَّ أن تكون التربيةُ المطلوبة مستمدَّةً من الكتاب والسنَّة، وموافقةً لمنهج السلف الصالح في فهمهما والأخذ منهما. وأوضح في مقدِّمة كتابه ( مصطلحات إسلامية ) أن الإسلام تخيَّر للقِيَم والمفاهيم التي يدعو إليها ألفاظًا عربية واضحةَ الدلالة عليها، تحملُ المعنى الجديدَ ولا تلتبسُ بالمعاني القديمة التي ألِفَها العربُ في جاهليَّتهم. وقد فهم المسلمون الأوَّلون معانيَ المصطلحات الجديدة على وجهها المُراد؛ لقربهم من العربية الأصيلة، وأخذهم عن الوحيين مباشرة. ولكن مع طول العهد وتراخي الزمان، وقعود الناس عن تعلُّم لغتهم، والإقبال على علوم الكتاب والسنَّة، ألحَّت الحاجةُ إلى بيان معاني كثير من المصطلحات التي انحرفَ معناها في أذهان الناس عن مُراد الشارع الحكيم، فكان هذا الكتابُ الذي تغَيَّا تحريرَ طائفة من المصطلحات الإسلامية، وتبرئتها ممَّا رانَ عليها من سقيم الفهم، وانحراف التأويل. واعترف في مقدِّمة كتابه ( قضايا هامَّة في حاضر العالم الإسلامي ) أن التعرُّضَ للكتابة في هذا الموضوع مَسلكٌ شائك لا يُؤمَنُ فيه العِثار؛ لِما يَجْبَهُ فيه المرءَ من تيَّارات متباينة وآراءٍ متضادَّة، مع شُحِّ المصادر الأصيلة الموثوقة إن لم يكن غيابها. بيدَ أنه لا مَندوحةَ من الخوض في هذا المَسلَك؛ لأن مَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، وكيف يكون الاهتمامُ بشؤونهم إن لم نكن على درايةٍ بواقعهم، وحقيقة حاضرهم؟! ثم قال: ولا بدَّ للأمَّة الجادَّة في إصلاح حالها من أن تواجهَ واقعَها برجولة وعزيمة صادقة، وتقفَ على أخطائها وأمراضها لتعالجَها، ولا تضيقَ بالتحدِّيات والعقبات؛ فبذلك تكون الصحوةُ واليقظة المباركة، ومن خلال الليل البَهِيم يبزُغ الفجر ويطلُع النهار. زواجه وأسرته: تزوَّج الشيخ عام 1960م السيِّدةَ الدمشقية الفاضلة غادة عربي كاتبي من حيِّ القنَوات بباب الجابية. وله منها ثلاثة أبناء، هم: محمد حسام : وُلد في دمشق عام 1380هـ/ 1961م، تخرَّج في كلِّية الهندسة الكهربائية بجامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، وعمل سنواتٍ فيها، ثم انتقل إلى الرياض ولا يزال يعمل في مكتب هندسي فيها. و محمد : وُلد في دمشق عام 1383هـ/ 1964م، تخرَّج في كلِّية الهندسة الميكانيكية بجامعة الملك عبد العزيز، وتوفِّي بدمشق عام 2009م ودُفن فيها. و بلال : وُلد في دمشق عام 1390هـ/ 1970م، تخرَّج في كلِّية علوم الحاسبات بجامعة الملك عبد العزيز، وإقامته وعمله في جُدَّة. وفاته ودفنه: أَرْخَتِ السِّنون الطويلةُ على الشيخ بظِلالها، وأكبَت زندَه وأوهَت ساعدَه، فبات أسيرَ بيتِه لا يكاد يخرج منه إلا لأمر ضروري. وفي مساء 26/ 5/ 2022م أُصيبَ بجُلطة في الرئة غيَّبته عن الوعي، وأُدخِلَ على إثرها العنايةَ الفائقة في مشفى الملك فهد، لكنَّه لم يلبث أن أفاقَ في اليوم التالي، ثم غادر المشفى بعد خمسة أيام، ليلزم فراشَ المرض في بيته بالمدينة المنوَّرة، حتى شاء الحقُّ سبحانه أن يقبِضَه إليه فجرَ يوم الخميس 17 ربيع الأوَّل 1444هـ يوافقه 13/ 10/ 2022م، عن 97 سنة. وصُلِّيَ عليه عقبَ صلاة المغرب في المسجد النبويِّ الشريف، ودُفنَ في مقبرة البَقِيع. رحمه الله تعالى وغفر لنا وله، وجزاه عمَّا كتب وألَّف وربَّى خيرَ الجزاء، لله ما أخذ ولله ما أعطى وكلُّ شيء عنده بأجل، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. شهادات عارفيه: ● رثاه الأستاذُ عمر عُبَيد حَسَنه قائلًا: رحمك الله يا أخي أبا حسام وأكرم مثواك. فلقد كنتَ أُنموذجًا متفرِّدًا في حيائك وتواضُعك وأدبك وعِفَّة لسانك، لم تذكُر أحدًا بسُوء، ولم يذكُرك أحدٌ بسُوء. كنتَ متميِّزًا في صدقك وصداقتك، في وقت كثُرَ فيه أصدقاء العافية. لم تفتِنكَ الدنيا وتستحوِذ عليكَ شهوةُ الزعامة وتفخيم الذات وحبِّ الظُّهور، الذي قصَمَ كثيرًا من الظُّهور، وأنتج زَعامات فاشلة استباحَت الدماء ودمَّرت البلاد وشتَّتَت العباد. عرفتُك زميلًا في التعليم في المعهد العربي الإسلامي بدمشق؛ مربِّيًا بسُلوكك وحُسن تعاملك. كما عرفتُك عن قُربٍ في بيتك، وفي كثيرٍ من المواقف الحرجة والمساومات والإغراءات والترهيب من سُلطات الطُّغيان والاستبداد، فلم يزِدكَ ذلك إلا ثباتًا على الحقِّ ودفاعًا عنه، مهما اشتدَّ الأذى وتعاظمَ الظُّلم. لقد كنتَ صادقًا فيما تؤمنُ به وتسعى جُهدَك لإيصاله إلى الناس بسُلوكك وأدبك الجمِّ. عِشتَ راضيًا مَرضيًّا، أنيسًا مُؤْنسًا، لا تفارقُك الابتسامة، في الشدَّة والرَّخاء، والصحَّة والعافية. فرحمِكَ الله، وتقبَّلك في عباده الصالحين، وعوَّض عنك أهلك وإخوانك وأمَّتك خيرًا. ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. والحمد لله على كلِّ حال، ونعوذ بالله من أحوال أهل النار. ● وكتب الأستاذ حسان الصَّفدي في تأبينه وبيان فضائله: طبيعيٌّ أن يلقى الإنسانُ في حياته أشخاصًا يملؤون عليه حسَّه ووِجدانه بشخصية آسِرة أو حضور طاغٍ أو قوة استثنائية، ويحصُل لغالب هؤلاء في النفس إعجابٌ أو رهبة، لكنَّها لا تستصحِبُ معها بالضَّرورة الحبَّ والوِداد. أمَّا أن يأسِرَكَ شخصٌ بلينه، ويشدَّك إليه بخَفض جناحه، ويعلِّمَك بصَمْته، ويَهْديَك بابتسامته، ويستخرجَ أحسنَ ما فيك بتشجيعه، ويعلِّمَك الحزمَ في غير غِلظة، والثباتَ من غير غُلوٍّ، والعملَ الدؤوب من غير تفاخر، والإيثارَ من غير مِنَّة، والكرمَ بغير سَرَف، فتلك والله هي العجيبة، و(الدَّانة) التي لا توجد إلا واحدةٌ فريدة بين ملايين اللآلئ بعد طول غَوصٍ وبحث وتنقيب في أعماق الأعماق. ذاك كان هو الرجلَ الذي افتقدناه بالأمس، الأستاذ المربِّي، والشيخ الفاضل، والعالم العامل، والمجاهد التقيَّ النقيَّ الغنيَّ الخفي. ذاك كان الرجلَ الذي كنتُ أجد عنده برودةَ اليقين حين تشتدُّ بي سَوْراتُ الحَمِيَّة، وحرارةَ الإيمان حين تبرُد مني الهمَّة، ونداوةَ الحديث حين تملأ مرارةُ الأحداث القاحلة حلوقَنا. أجلس إليه مريدًا بين يدَي شيخ لا كالشيوخ، فيُنسيني تواضعُه نفسي فأستطرد وهو مُنصِت، وأُرغي وأُزبِد وابتسامتُه تعيد إليَّ التوازنَ الذي كانت تربِّيه فينا أخلاقُه قبل كلماته، وسلوكُه قبل أقواله. ذاك كان أبا حسام، الأستاذَ المربِّيَ المجاهد " محيي الدين قضماني "، الذي انتقلَ إلى جوار ربٍّ كريم، هو أرحمُ به منَّا وأعلم. انتقل الذي حملَ أخلاقَ القرآن وهدايةَ النبوَّة واقعًا بشريًّا نابضًا بالحياة، لكنَّ ذكراه ستبقى حيَّةً في نفوس من أرشدَهم وعلَّمهم وأحبَّهم وأحبُّوه. لا أدري لماذا لم يخطُر ببالي يومًا خلال خمسين سنةً من التتلمذ على عطائه، كيف لم ألتفِت إلى تلك الإشارات معًا ولم أنتبه إليها، فهو رحمه الله ( محيي الدين ) وقد أحيا الدينَ في قلوب الكثيرين، واختار لولدَيه أن يكونا ( حُسامًا ) و( بلالًا ) فكأنه قد لخَّص سيرته في الاسمين: حسامًا للحقِّ لا يلين، وبلالًا يصدَح بمعاني الخير في أجمل خطاب وأندى عبارة. ولعلَّ هذه كانت وصيَّتَه إلى ذرِّيته من بعده ليحملوها؛ عساها تكون صدقةً جارية له رحمه الله. عظَّم الله أجرَ الأُمَّة وأجرَ أهله وأجرَنا جميعًا، ونتضرَّع إلى مولانا الكريم امتثالًا لهدي المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ( اللهمَّ أجُرنا في مُصابنا وأبدلنا خيرًا ). ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم. ● وخطَّ في نعيه أخونا الحبيب فضيلةُ الشيخ المحدِّث محمد مُجير الخطيب الحسَني هذه الكلمات: في يوم الخميس السابعَ عشرَ من شهر ربيع الأنور 1444هـ (13 / 10 / 2022م) انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء عالمٌ مجاهد مهاجر مجاور تقيٌّ خفي؛ الأستاذ محيي الدين بن حسن القضماني الدمشقي (مولده 1347هـ). عالم: تدرَّج في مراحل التعلُّم منذ نعومة أظفاره، ثم أدَّى أمانةَ التعليم، وكان من تلامذته كبارٌ ومشاهير. مجاهد: بلسانه وقلمه، وحُسن تربيته لأجيال في الظروف الحالكة. مهاجر: لقيَ في وطنه تضييقًا واضطهادًا وأذًى، فهاجر بدينه قبل 44 عامًا، وانتقل إلى ديار الحقِّ من دار الهجرة. مجاور: في خير البِقاع لسيِّد الخلق وحبيب الحقِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المدينة المنوَّرة، وكان حريصًا عند قوَّته على صلاة الفجر والعشاء في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. تقي: ذو ورعٍ، حييٌّ كريم، عفيفُ اللسان، نقيُّ الألفاظ، طاهر القلب، حسَن الظنِّ من غير غفلة. خفي: لا يحبُّ الشُّهرة ولا يسعى إليها، متواضعٌ لا تَغرُّه الدنيا، وقد كان من تلاميذه من ملؤوا الدنيا في بعض أوقاتهم. رحم الله الأستاذ أبا حسام وغفر له، وكتب له أجرَ صبره وهجرته، وعظَّم الله أجرَ أسرته وذويه، وعوَّض الأمَّة خيرًا، وجعله في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر. ♦♦♦♦♦ كتبها الشيخ محيي الدين القضماني في شبابه وشيخوخته الشيخ محيي الدين القضماني في داره بالمدينة المنوَّرة ومعه كاتب الترجمة، بتاريخ 28 من جُمادى الأولى 1434هـ إهداء بخطِّ الشيخ إلى كاتب الترجمة [1] كنت طلبتُ إلى شيخنا الفاضل عليه رحماتُ الله أن يتكرَّم بإفادتي بترجمته، فكان التواضعُ وإنكار الذات يحمِلانه على دوام الاعتذار، وبعد إلحاح منِّي تفضَّل مشكورًا بكتابة سيرة ذاتية موجَزة في صفحة واحدة، أفدتُّ منها في كتابة هذه الترجمة، مع مشافهته وسؤاله، ومشافهة ولده الحبيب الأخ الأستاذ محمد حسام القضماني، جزاه الله خيرًا وشكرَ له. [2] انظر خبرَ وصوله للتدريس في الجامعة، مع زملائه الأساتذة المذكورين، في العدد الثاني من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1388هـ، ص 318. [3] انظر خبرَها في العدد السابع من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1389هـ، ص 298. [4] نُشرت في العدد الثاني من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1388هـ، ص 187- 196.
إبراهيم عليه السلام (5) أشرتُ في مقالات سابقة إلى ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام من قوله: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾؛ الآية [البقرة: 260]، وبيَّنتُ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم))، وأوضحت أنَّ ما كان من إبراهيم عليه السلام ليس شكًّا، وأنَّ مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثناء على إبراهيم وبيان علوِّ منزلته، وأن هذا جاء على طريقة الأسلوب البلاغي المعروف بتأكيد المدح بما يشبه الذم على حد قول الشاعر: ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ وقد أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بإبراهيم عليه السلام وفي ذلك: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163]. وردَّ على اليهود والنصارى دعوى حبهم لإبراهيم، وأنه على ملتهم فقال: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68]، وقال: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130 - 132]. وقد وصف الله تعالى إبراهيمَ بأنه وفَّى؛ أي: أتمَّ كلَّ ما أمره الله عز وجل به، وفي ذلك يقول: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، ويقول: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123]. ولقد كان المشركون يدَّعون أنهم على ملَّة إبراهيم، وقد صوَّروا إبراهيم وإسماعيل وعلَّقوا صورتيهما بالكعبة وبأيديهما الأزلام يَستقسمان بها، فأقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما لم يستقسما بالأزلام قطُّ، وأمر بالصور فمُحيت. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصورَ في البيتِ لم يدخلْ حتى أمر بها فمُحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: ((قاتلهم اللهُ، والله إن استقسما بالأزلام قط))، وفي بعض ألفاظ البخاري لهذا الحديث قال: ((قاتلهم اللهُ، لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط)). ولم يتَّخذ الله تعالى مِن خلقه غيرَ خليلين إبراهيمَ ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم؛ فقد ثبت في الصحيحين من حديث جندب البجلي وعبدالله بن عمرو وابن مسعود رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أيها الناس، إن الله اتَّخذني خليلًا)). كما أخرج البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: ((أيها الناس، لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله)). كما روى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا رضي الله عنه لما قدم اليمن صلَّى بهم الصبح فقرأ: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، فقال رجلٌ من القوم: لقد قرَّت عين أم إبراهيم. وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال: ((أكرمهم أتقاهم))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العربِ تسألونني؟))، قالوا: نعم، قال: ((فخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)). وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم خليل الرحمن أول من يُكسى يوم القيامة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس عُراةً غُرلًا، فأول من يُكسى إبراهيم عليه السلام))، ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]، وقد جعل الله تعالى من مكافأة إبراهيم عليه السلام على بنائه الكعبة المشرفة بأن جعلَه يسندُ ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة؛ كما جاء في صحيح البخاري في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسراء حيث قال: ((فأتينا السماء السابعة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به ونِعم المجيء جاء، فأتيت على إبراهيم فسلَّمتُ عليه فقال: مرحبًا بك من ابن ونبي))، وفي لفظ: ((مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا هو - أي إبراهيم - مسندٌ ظهرَه إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه)). ومع هذه الكرامة وعلوِّ المنزلة لخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فإنه لم ينفع أباه لما مات على الشِّرك؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزَر قَترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصِني؟! فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنَّةَ على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)). وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة بنت محمد، اسأليني من مالي ما شئت فلن أغني عنك من الله شيئًا، ويا عباس عم النبي، اشترِ نفسَك لا أُغني عنك من الله شيئًا))، وكما قال عز وجل: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب: ((لأستغفرن لك ما لم أُنه عن ذلك))، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 113، 114]. وقد آثرت أن الله تبارك وتعالى جمعَ بين إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في صفاتهما الخِلقية والخُلقية؛ فكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم أشبهَ الناس بأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل له: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174]، كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعوِّذ الحسن والحسين ويقول: ((إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلماتِ الله التامةِ من كلِّ شيطان وهامَّةٍ، ومن كلِّ عينٍ لامة)). وقد حصر الله النبوَّةَ والكتاب بعد إبراهيم عليه السلام في ذريته حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [الحديد: 26]، وكما قال عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [العنكبوت: 27]. فكلُّ كتاب أنزله الله تعالى بعد إبراهيم عليه السلام على نبي من الأنبياء ففي ذريته؛ فقد ولد لإسحاق يعقوب وهو إسرائيل، وإليه ينتسب سائرُ أسباطهم، وكانت فيهم النبوَّة حتى ختموا بعيسى ابن مريم، وهو من بني إسرائيل لنسب أمِّه فيهم. أما الفرعُ الثاني من ذريَّة إبراهيم فهو إسماعيل عليه السلام، ومن ذريته خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وهو الجوهرة الباهرة والدرَّة الزاهرة، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود الذي يغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سأقوم مقامًا يرغب إليَّ الخلقُ كلُّهم حتى إبراهيم)). وإلى مقال قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سفراء النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن عبد العزيز الفهاد صدر حديثًا كتاب " سفراء النبي صلى الله عليه وسلم: دراسة حديثية موضوعية "، تأليف: "محمد بن عبدالعزيز الفهاد"، تقريظ: أ.د. "عبدالرحمن بن عبدالكريم الزيد"، نشر: "دار العقيدة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب رسالة جامعية تتضمن دراسة موضوعية لموضوع السفارة في الإسلام، وفيه حصر لسفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك من خلال استقصاء مسانيد السنة النبوية، وجلب الأحاديث التي ورد فيها ذكر السفارة والسفراء، حيث يورد نبذة عن السفير الذي ابتعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحد المهام الدبلوماسية، ثم يأتي بالحديث النبوي الذي فيه إثبات تلك السفارة، وتخريج الحديث، وطرقه، ثم خلاصة في بيان درجة الحديث التي اتفق عليها المحدثون، ثم يتلوها بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالحديث. والدراسة جيدة في موضوعها، جمعت بين علم الحديث والفقه، واتبع الباحث فيها المنهج الاستقصائي التحليلي، وفيها بيان لأسس الدبلوماسية في الإسلام، وإثبات أن رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت عامة للعالمين، ولجميع الملوك والشعوب على عهده صلى الله عليه وسلم، وهو النهج الذي سار عليه خلفاؤه الراشدون. وقد بين الكاتب في مقدمة دراسته تعريف عام بالسفارة والدبلوماسية، ومن هو مؤسس السفارة في الإسلام وأهميتها، ثم تحدث الكاتب عن قضايا السفارة كصفات سفراء النبي - صلى الله عليه وسلم-، وما هي الأسس التي كان يحرص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في اختياره للسفراء الذين يمثلون الدولة الإسلامية، وانتقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- سفراءه، وطرق اختياره إياهم، وإعدادهم قبل الخروج، وطرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في مراسلاته، وما الذي كان يهدف إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من مراسلة الملوك. ثم تناول الباحث عالمية دعوته -صلى الله عليه وسلم- وشبهات أثيرت حول تلك العالمية، والرد عليها. وبيان أدلة وصول سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتبه لأهدافها. ثم تلت المقدمة ثلاثة فصول تحتها عدة مباحث في سرد تاريخي حديثي لأهم هؤلاء السفراء، وأهداف سفاراتهم الدبلوماسية، وما آلت إليه على النحو التالي: الفصل الأول: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى البلدان المبحث الأول: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة: أولًا: أبو بكر وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بالبراءة إلى مكة. ثانيًا: عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - واليًا على مكة. المبحث الثاني: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة: مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى المدينة. المبحث الثالث: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن: المطلب الأول: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قاضيًا إلى اليمن. المطلب الثاني: معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري إلى اليمن. المطلب الثالث: جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - إلى اليمن. المطلب الرابع: زياد بن لبيد - رضي الله عنه - إلى الأقيال من حضرموت. المبحث الرابع: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران: أولًا: خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني الحارث بن كعب. ثانيًا: أبو عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه - إلى أهل نجران. الفصل الثاني: سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأشخاص: المبحث الأول: عبد الله بن حذافة - رضي الله عنه - إلى كسرى. المبحث الثاني: شجاع بن وهب - رضي الله عنه - إلى كسرى. المبحث الثالث: شجاع بن وهب - رضي الله عنه - إلى الحارث بن أبي شمر. شجاع بن وهب - رضي الله عنه - إلى جبلة بن الأيهم. المبحث الرابع: دحية الكلبي - رضي الله عنه - إلى هرقل. المبحث الخامس: هشام بن العاص - رضي الله عنه - إلى هرقل. عبيد الله بن عبد الخالق إلى هرقل. المبحث السادس: حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إلى المقوقس ملك الإسكندرية. المبحث السابع: خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى أكيدر صاحب دومة. المبحث الثامن: عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى جيفر وعباد ابني الجلندي. المبحث التاسع: العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - إلى المنذر بن ساوي. أبو هريرة - رضي الله عنه - ونفر معه إلى البحرين. المبحث العاشر: عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - إلى النجاشي. المبحث الحادي عشر: عمرو بن أمية الضمري والسائب بن العوام - رضي الله عنهما - إلى مسيلمة الكذاب. المبحث الثاني عشر: سليط بن عمرو - رضي الله عنه - إلى هوذة بن علي. المبحث الثالث عشر: عياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنه - إلى أبناء عبد كلال. المبحث الرابع عشر: الحارث بن عمير الأزدي - رضي الله عنه - إلى ملك بصرى. المبحث الخامس عشر: مالك بن مرارة - رضي الله عنه - إلى عمير ذي مرات. المبحث الساس عشر: عمرو بن الفغواء الخزاعي - رضي الله عنه - إلى أبي سفيان - رضي الله عنه -. المبحث السابع عشر: فرات بن حيان - رضي الله عنه - إلى ثمامة بن أثال - رضي الله عنه -. المبحث الثامن عشر: مسعود بن سعد إلى فروة الجذامي. المبحث التاسع عشر: رسولا باذات إلى باذان اليمن. المبحث العشرون: رسولا مسيلمة الكذاب إلى مسيلمة باليمامة. الفصل الثالث: سفراؤه إلى أقوامهم: المبحث الأول: عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى قريش. المبحث الثاني: أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - إلى غفار. المبحث الثالث: وائل بن حجر الحضرمي - رضي الله عنه - إلى أهل حضرموت. المبحث الرابع: أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - إلى باهلة. المبحث الخامس: عروة بن مسعود - رضي الله عنه - إلى ثقيف. المبحث السادس: عمرو بن مرة الجهني - رضي الله عنه - إلى جهينة. المبحث السابع: رفاعة بن زيد الجذامي - رضي الله عنه - إلى جذام. المبحث الثامن: أبو ضرار الخزاعي - رضي الله عنه - إلى خزاعة. وأجمل الكاتب في الخاتمة أهم النتائج والتوصيات التي خرجت بها الدراسة. وأمدَّ الباحث كتابه بالفهارس العلمية لخدمة الكتاب وسهولة الوصول إلى العَلَم المراد ترجمته، وبيان سفارته.
مواقف من إعارة الكتب كان القدماء من أهل العلم ومحبي المعرفة يقضون أوقاتًا ماتعة مع الكتب والأسفار، ويحرصون على ذلك؛ فكان بعض السلاطين والملوك يحملون الكتب عبر قوافل الجمال في سفرهم؛ لتُقرَأ عليهم أثناء الطريق، وقد نُقِل عن الجاحظ أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ليبيت مع الكتب، وورد عن المأمون أنه كان ينام والدفاتر حول فراشه، ينظر فيها ويسامرها متى انتبه من نومه. سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصلِ غَانِيَةٍ وطِيبِ عناقِ وكان اهتمامهم وعنايتهم بالكتاب وشؤونه يصل إلى درجة العشق والغرام؛ فلم يُغفِلوا جانبًا من جوانبه؛ بما فيه إعارة الكتب التي سأتطرق إلى مواقف منها في هذا المقال إن شاء الله تعالى. أشار بدر الدين ابن جماعة في كتابه ( تذكرة السامع والمتكلم ) إلى بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند إعارة الكتب؛ منها: الحفاظ على الكتاب، وعدم التحشية عليه في بياض فواتحه أو خواتمه، أو إعارته شخصًا آخر، أو إطالة مقامه عنده من غير حاجة. كما ذكر شروطًا ربما يبدو بعضها غريبًا في هذا العصر؛ كقوله: "ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه"، و"إذا نسخ من الكتاب أو طالعه، فلا يضعه على الأرض مفروشًا منشورًا، بل يجعله بين كتابين أو شيئين"، هذا في الوقت الذي كانت الكتب فيه تُنسَخ بخط اليد؛ فتتطلب وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا. يذكر الأديب الأريب علي الطنطاوي في كتابه (في سبيل الإصلاح ) معاناته مع مستعيري الكتب الذين تركوا في قلبه غصصًا، فيقول: إن بعضهم كان يتثاقل عن رد الكتاب، أو يرده مخلوع الجلد ممزق الأوصال، ومنهم من يعلق على هامش الكتاب بالحبر الصيني الذي لا يُمحى ولا يُكشط، ويُذيِّلها باسمه الكريم. وعلى الصعيد الشخصي استعار مني أحد الأكارم المجلد الأول من كتاب ( إعلام الموقعين ) زمن طلبي العلم، تلك الفترة الذهبية التي يعتبر الطالب فيها الكتاب رأس ماله للقراءة فيه، وفوجئت بسفره إلى بلده مع الكتاب، وآخر استعار مني كتابًا جميلًا، ولم يرجعه إلا بعد الإلحاح والمراجعات، وكانت المفاجأة أن وجدت الكتاب مليئًا بأسماء الأشخاص والشركات وأرقام الهواتف. أجود بجلِّ مالي لا أبالي وأبخل عند مسألة الكتابِ وذلك أنني أفنيتُ فيه عزيزَ العمر أيام الشبابِ ومن المواقف أنني وجدت المجلد الثاني من كتاب ( الأعلام ) للزركلي على وجه الصدفة في أحد أسواق الكتب، فاشتريته على أمل أن يلحق بإخوانه من المجلدات الأخرى، وفي يوم من الأيام وأنا أبحث في مكتبة الجامع الذي أصلي فيه؛ وإذا بي أجد كتاب الأعلام كاملًا ما عدا المجلد الثاني، والغريب في الأمر أن المجلدات كلها كانت مختومة بختم شخصي، وهو نفس الختم الموجود على المجلد الذي اشتريته، فأرجعت المجلد إلى مكتبة الجامع، وبذلك اكتمل عقده، ووصلت إلى نتيجة أن أحد الأشخاص استعاره ونسِيَهُ عنده حتى وصل إلى السوق. ومن أظرف ما يُحكى في الإعارة ما ورد في كتاب ( اختصار القدح المعلى، لابن سعيد ) أن أبا بكر عتيق بن أحمد بن ميسرة الفرغليطي استعار من أبي العباس بن بقي - مشرف إشبيلية - كتابًا، وجال في خاطره ليلة أن يذم الرجل، فسوَّد ذلك في ورقة، فكان من ذلك: "والعجب من هذا المشرف المسرف، الخائن الحائن، أنه يدَّعي الانتهاض في شغل السلطان والأمانة، ومرتبه في الشهر عشرون دينارًا، ولقد أعطاني ذات مرة ثلاثين دينارًا، فمن أين تلك العشرة؟ وما أنفق في ذلك الشهر؟" . ثم أخذ في ذمه، وذكر وخيم منشئه، وكيف تدرج إلى أن ولِيَ الأعمال، وداس رقاب الرجال. ثم نسي تلك الورقة بين ورق الكتاب المستعار، ورده إلى أبي العباس، فوجدها وقرأ ما فيها، وكاد يخرج من عقله من شدة الحنق، ثم استدعاه، وأوقفه عليها وأنبه. وقال له: "الأيمان تلزمني لا خرجت من الحبس حتى لا يبقى عليك مما أعطيتك درهم واحد، فما خرج من حبسه حتى قبض منه ثلاثين دينارًا". شمعة أخيرة: نقل الخطيب البغدادي بعض أقوال أهل العلم بشأن استعارة الكتب؛ منها: "ليس من أهل العلم من أضاع كتاب علم. الكتاب أمانة، وهو حقيق بالصيانة. أكرم الله من أكرمك، وردك كما تسلمك"؛ [تقييد العلم: 191-192].
رسالة في المطلق والمقيد للشيخ محمد حسنين مخلوف صدر حديثًا كتاب "رسالة في المطلق والمقيد"، تأليف: الشيخ العلامة "محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي" (ت 1355 هـ)، تحقيق: د. "حسن الطاهر الشيخ الطيب"، نشر "دار الإحسان للنشر والتوزيع". وهي رسالة في أصول الفقه، في مبحث مبحث المطلق والمقيد من فن الأصول، حرر فيها النزاع الواقع بين الجمهور والآمدي وابن الحاجب في مفهوم المطلق، وبيّن ما استند إليه كل منهما فيما ذهب إليه، فجاءت هذه الرسالة مشتملة على الآتي: 1- مفهوم المطلق عند الجمهور. 2- مفهوم المطلق عند الآمدي وابن الحاجب. 3- مستند مذهب الجمهور في مفهوم المطلق. 4- مستند مذهب الآمدي وابن الحاجب في مفهوم المطلق. 5- تحرير النزاع بين الجمهور والآمدي وابن الحاجب في مفهوم المطلق. قال محمد حسنين مخلوف في بدايتها: "فقد سألني بعض حذاق الدرس من إخواننا العلما، وحينما وصلت فى قراءة شرح "جمع الجوامع" بين المغرب والعشا إلى مبحث المطلق والمقيد..." ثم شرع في شرح مبحث المطلق والمقيد، ولوازمه. وللكتاب مخطوط بالمكتبة الأزهرية، تم مقابلة الكتاب عليه، رقم المخطوط: (3236 أصول فقه) 119048، الرسالة رقم: 2، وعدد أوراقه 637 ورقة. والمطلق في اللغة: الخالي من القيد، يقال: أطلق البعير من قيده إذا خلاّه بلا قيد. وفي الاصطلاح: الدال على الحقيقة من غير وصف زائد عليها. وعرفه بعضهم بأنه ما دل على فرد شائع في جنسه. ومثاله: النكرة في سياق الأمر، أي: المأمور بها، كما في قوله تعالى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾ [المجادلة3]، فالرقبة المأمور بها في الآية مطلقة لم توصف بقيد زائد على حقيقة جنس الرقبة. والمقيد: ما تناول معينًا أو موصوفًا بوصف زائد على حقيقة جنسه. فالمقيد إذًا نوعان: الأول: المعين، كالعَلَم والمشار إليه. الثاني: غير المعين الموصوف بوصف زائد على معنى حقيقته. وهذا النوع الأخير مقيد باعتبار، ومطلق باعتبار، ومثاله: قوله تعالى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ [النساء92]. فالرقبة المذكورة في الآية مقيدة بالإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، ومن حيث الكبر والصغر، فيكون اللفظ مطلقًا باعتبار ومقيدًا باعتبار، وهو يختلف عن المطلق الذي لا تقييد فيه. ونجد أن الدليل الشرعي المطلق إذا لم يرد ما يقيده يجب حمله على إطلاقه، كما أن العام إذا لم يرد ما يخصصه يجب حمله على عمومه. وإذا ورد ما يدل على تقييد المطلق وجب حمل المطلق على المقيد. والمراد بهذا المصطلح (حمل المطلق على المقيد) أن المجتهد إذا نظر في الدليل فوجده من حيث وضعه اللغوي مطلقًا، ولكنه وجد دليلًا آخر في اللفظ أو في لفظ آخر مستقل يقيد إطلاق ذلك المطلق، وجب عليه أن يفهم المطلق على ما يقتضيه دليل التقييد. فالحمل معناه: الفهم، وحمل المطلق على المقيد، معناه: فهم الدليل المطلق لفظًا على ما يقتضيه الدليل المقيد له فيكون المعنى الشرعي المقصود من المطلق هو المعنى المقصود من المقيد. أما عن اللفظ المطلق في موضع المقيد في موضع آخر فله عدة أحوال بينها الأصوليون في كتاباتهم. أما المؤلف فهو الشيخ العلامة "حسنين محمد مخلوف العدوي المالكي"، ولد في مصر عام 1307هـ / 1890م، وحفظ القرآن الكريم، ودرس مختلف العلوم في الأزهر على يد كبار الشيوخ، ثم نال شهادة العالمية من مدرسة القضاء الشرعي عام 1914م، وأصبح بعد ذلك مدرسًا في الأزهر، ثم قاضيًا في المحاكم الشرعية، وتدرج في وظائف القضاء حتى أصبح رئيسًا لمحكمة الأسكندرية، عام 1941م، ثم رئيسًا للتفتيش الشرعي، فنائبًا للمحكمة العليا الشرعية، فمفتيًا للديار المصرية عام 1945م. وقد سافر إلى العديد من البلدان، داعيًا إلى الله، ومساهمًا مع إخوانه العلماء في جهودهم لتحقيق الخير لعامة المسلمين، ولم تشغله أعماله الإدارية عن البحوث والإنتاج العلمي، فقد شارك في تأسيس اللبنات الأولى للهيئات الإٍسلامية القيادية، واختير عضوًا في هيئة كبار علماء الأزهر، وعضوًا لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ورئيسًا لجمعية النهوض بالدعوة الإسلامية. وقد لعب دورًا بارزًا في مجال التعليم الإسلامي ومحاربة البدع والخرافات، ونشر حوالي 15 عملًا علميًا في طليعتها "كلمات القرآن تفسير وبيان"، و"صفوة البيان"، و"الفتاوي الشرعية"، و"كتاب المواريث". وفي عام 1403هـ/1983م حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام (بالاشتراك). وتوفي رحمه الله عام 1410هـ/1990م.
خرافة النباتية لليير كيث صدر حديثًا كتاب "خرافة النباتية"، تأليف: "ليير كيث"،ترجمة: "عمر فايد"، نشر: "دار مؤسسة صفحة 7 للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب مثير للجدل، تتحدث فيه المؤلفة (ليير كيث) عن تجربتها النباتية لمدة 20 عامًا، والتي اكتشفت فيها لاحقًا أنها كانت على خطأ... وأنه للحصول على حالة صحية جيدة، لا داعي على الإطلاق لالتزام الطعام النباتي طيلة حياتك، يمكنك بكل بساطة تجنب منتجات السكر الأبيض والدهون المصنعة والكحول وتقليل اللحم قدر الإمكان وممارسة الرياضة! وقد أحدث هذا الكتاب جدلًا واسعًا منذ صدوره، وأربك الكثير من معتنقي النظام النباتي، ووصل الأمر إلى تهديد صاحبته بالقتل من بعض متطرفي النباتيين! حيث يكشف هذا الكتاب عن الخلفيات التي تدفع المرء إلى اعتناق النظام النباتي، والقطيعة مع الأنظمة الغذائية السائدة، كما يحملنا في رحلة صادمة إلى هذا الكوكب الذي نال من جماليته الإنسان، حيث ترى الكاتبة أن الأنظمة الغذائية الحديثة بتطرفها حطمت حياة الإنسان والحيوانات معًا، وتواجه أيدلوجية هذا الكتاب الخرافات المدمرة التي نعيش وفق قواعدها، وتتيح لنا طريق العودة إلى أجسادنا، وإلى الصراع من أجل إنقاذ هذا الكوكب. ويتكون الكتاب من خمسة فصول كتبت بأسلوب بسيط ومناسب لكافة أنواع القراء. الفصل الأول: لما هذا الكتاب؟ الفصل الثاني: النباتيون الأخلاقيون. الفصل الثالث : النباتيون السياسيون. الفصل الرابع: النباتيون الغذائيون. الفصل الخامس : حتى ننقذ العالم. ووضحت الكاتبة انسياقها وراء صيحات حميات إنقاص الوزم، والتزامها بنظام غذائي نباتي برؤية أيدلوجية صارمة، والتي بنت بينها وبين العالم قطيعة كبيرة، لتكتشف الكاتبة التدهور الذي حل بصحتها وسبب لها أضرارًا لا رجعة فيها. تقول الكاتبة: "النباتية ليست بالتغذية الكافية التي تصون وتصلح الجسد البشري. وكي أصف الأمر دون مواربة، سوف تدمرك. أعرف هذا. فبعد عامين من فترة حياتي النباتية التي عشتها، تدهورت صحتي، تدهورت بصورة كارثية. حدثت في جسدي مضاعفات تسببت في داء مفصلي انتكاسي سيلازمني لبقية حياتي. بعد مرور ٦ أسابيع تعرضت لأول تجربة نقص سكر، بعد ثلاثة أشهر توقفت الدورة الشهرية، بعد عامين تأثر عمودي الفقري". وبيت الكاتبة أن النباتيون في منهجهم الصارم يصارعون نواميس الكون، ويتجنون على قانون الله في الطبيعة... بل إن خرافة "النظام الغذائي النباتي" أكذوبة كبرى فكما تقول الكاتبة: "إننا حضريون نعيش على المنتجات الصناعية، ولا نعرف أصل طعامنا. وهذا يشمل النباتيين، على الرغم من ادعائهم امتلاك الحقيقة". وقعَّدت الكاتبة لخرافة النباتية في فصول كتابها؛ فالتفاصيل التي ألمت بها الكاتبة طوال رحلة بحثها عن الحقيقة المجردة هي تفاصيل مشوقة حرفيًا ومعلومات جديدة وصادمة.. دون قصد من الكاتبة أن تجعل طرحها مثيرًا أو غير مألوف، فكانت ثمرة بحثها هذه بعيدة عن صياح وحشد النباتيين، وعجرفة وتضليل الشركات الكبرى والتي جعلتها أشبه بمن مشي على الحبل في طريقه لاكتناز المعرفة، فسردتْ مع تجربتها هذه أروع التفاصيل والمعلومات والحقائق والتي كانت أكثر من ممتعة ومقنعة للقارئ، وقد انطلقت الكاتبة من فلسفة مجردة عن كيف بدأ أمر الطبيعة على الأرض وكيف تطورت وانمحت فصائل وأنواع كاملة بسبب الزراعة، ليتكشف لنا مفهومًا جديدًا لامس فطرتنا، إن الزراعة مع إنها ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ إلا إنها أمر طارئ فيه، وخُيل إلينا مع طول الأمد أنها الطبيعة والفطرة السليمة وأنها السبيل الوحيد للحياة، وما هي إلا إفناء لها. النباتات يتعين عليها أن تأكل أيضًا، إنها في حاجة إلى النيتروجين وفي حاجة إلى المعادن، عليك أن تستبدل ما تأخذه. والخيارات المتاحة أمامك هي إما الوقود الأحفوري أو منتجات الحيوانات. تقول الكاتبة: "إن العشب والحيوانات العاشبة في حاجة إلى بعضها بعض بقدر حاجة الحيوانات المفترسة إلى الفرائس، وليست هذه علاقة من طرف واحد.. ليست هيمنة وتبعية، إننا لا نستغل بعضنا بعض بالأكل لكننا نأخذ أدوارنا". وتقول أيضًا: "وهذا هو الجهل الذي تتوقف عنده خرافة النباتية. وجب على الحياة أن تقتُل، وأصبح وجودنا ممكنًا بفضل جثث بعضنا البعض ككائنات. ليس القتل هو الهيمنة: إنها الزراعة. إن الأطعمة التي يقول النباتيون أنها ستنقذنا هي نفسها الأطعمة التي تدمر العالم". وطرحت الكاتبة بديلًا عنها الزراعة المتعددة المستدامة التي يجدها المترجم الحل الأنسب لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد بيئيًا وصحيًا واجتماعيًا. ومع أن الكاتبة خالفت أفكار ووجهات نظر متأصلة عند القارئ العربي في مناحٍ أخرى تتعلق بالأديان والنسوية والتطور وزيادة السكان وربطت بينها وبين لب الموضوع، إلا أنها لم تخلّ باللوحة الكاملة والنسق العام للكتاب وخرجت أفكارها متسلسلة من ذهنٍ متقد، وما يخصنا فيها جوهر حديثها عن النباتية وأكذوبة ذلك النظام الغذائي.
كتاب مفاهيم قرآنية في البناء والتنمية... في خلاصة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فمن خلال مطالعتي لكتاب "مفاهيم قرآنية في البناء والتنمية"؛ للدكتور عبدالكريم بكار، ألفيته كتابًا مغايرًا ومتفردًا؛ كونه جاء بقالب جديد لفهم القرآن الكريم، وسبر أبعاده وملامسة دلالته العميقة؛ حيث تحدث مؤلفه عن أهمية قراءة النص القرآني بخلفية معرفية وثقافية، وصرح باهتمام القرآن الكريم بالجوانب الرئيسية للشخصية المسلمة، كالجوانب الإيمانية والعقدية والاجتماعية، بيد أنه تناول في هذا الكتاب مفاهيمَ في الجانب الفكري والتنمية الثقافية؛ حيث أنشأ طريقًا مغايرًا للنظر في النصوص القرآنية؛ باعتبار مسيس الحاجة إليها في هذه المرحلة من ناحية، وإشارة القرآن الكريم بأغواره ومراميه إلى ذلك من ناحية أخرى. وقد ركز المؤلف في ثنايا حديثه حول أفكار ومفاهيم محددة ومقنَّنة، ليس على سبيل البسط، بل على طريقة الإيجاز الماتع، بيراعه السيَّال؛ مساهمة منه في تشكيل نواة لانطلاق أكثر وعيًا نحو كتاب الله تعالى، وفهمه، وربطه بقضايا العصر. وكانت البداية في تسطير الحروف عن عظمة الخالق سبحانه وتعالى في تشكيل عقلية الإنسان، ومدى القدرات الهائلة التي أُعطِيَت لهذا الكائن البشري، وتفوقه في الإبداع والإنتاج؛ حيث تتبدى قوة الخالق وسر صنعه البديع الذي جعله يتحدى كل الخلائق؛ فقال الله تعالى: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [لقمان: 11]. وأظهر المؤلف دور الإنسان؛ باعتباره محور الكون في التغير والتطوير وفق ما أشار إليه القرآن الكريم؛ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ حيث يقول: "الإنسان في الرؤية الإسلامية هو مركز الكون، وبتغييره نحو الأحسن يتحسن كل شيء، وإذا تردَّى تردى كل شيء". وأرشد المؤلف الأمةَ أن تتعامل في هذا الكون وفق الممكن، وعدم الطمع فوق الطاقة؛ لأننا كما يقول: "كثيرًا ما نحرم أنفسنا من عمل المستطاع والمتيسر؛ لأننا نطمع لأشياء فوق طاقتنا... وتكون الفجوة كبيرةً بين ما هو ممكن وما هو مطلوب". ورفع من شأن التفاوض في تنمية الفكر، وجعله مطلبًا مُلِحًّا، وكون الحوار يشكل مرتبة عالية للوصول إلى الحقيقة؛ لأن كثيرًا من الأحيان كما يقول: "لا نلقي بالًا للمعلومات الناقصة والمشوهة، ونعتمدها في حواراتنا وفي فهمنا للأشياء". ثم تكون هذه المعلومات الناقصة عليها بناء المستقبل، وهذا يشكل خطرًا، فمن الخطأ أن يكون المستقبل مبنيًّا على أسس هشَّة، باعتبار المستقبل في الإسلام كما أشار المؤلف أنه: "لا فرق في الرؤية الإسلامية بين مستقبل ومستقبل، فحياة الإنسان المسلم في الآخرة هي امتداد لحياته في الدنيا"، التي توجب عليه أن يبني ذاته ومستقبله البناء الراسخ، وهنا تأتي أهمية التساؤل وبناء المعلومات الدقيقة، وعدم الركون إلى التلقي الذي لا يخدم البناء الفكري الصحيح، وهذا دور كبير يلقي بظلاله بدرجة أوسع على المعلم الناجح الذي تحتاجه الأمة؛ وهو كما ألمح إليه المؤلف: "الذي يشجع الطلاب على التساؤل والنقد والنقاش والتعليق والإضافة"، وهذا ما غرسه القرآن الكريم في مواضع عدة، يتجلى في حوار الأنبياء مع أقوامهم، وموسى مع الخضر. وهذا لا يكون حسب الكاتب: "إلا بالاعتراف بالحق والخضوع له، والسعي في طلب الحقيقة والتكيف معها، وتعد البداية الحقيقة لكل نهوض وتقدم، وهي أيضًا شروط للاستمرار في طريق الصحيح"، ويعتمد بشكل أساس على رأي بكار على المنهج التجريبي الذي يمثل الابتكار والإبداع والتجديد المستمر، إلا أنه من المؤسف كما يقول: "إن كثيرًا من المسلمين ابتدعوا في أمور الدين؛ حيث أُمِروا بالاتباع، وقلدوا في أمور الدنيا؛ حيث أرشدوا إلى الإبداع والابتكار"، وهذا ليس بالمنهج القويم الذي رسمه لنا القرآن الكريم، "الذي أبرز لنا نموذج المسلم المبادر والمثابر وصاحب اليد العليا"، حسب كلام المؤلف، فظهرت الأمة في حالة عجز في الجوانب الإبداعية، وعدم السباق، والمبادرة إلى الارتقاء بالإنسان وصلاحه، ونجاحه على الصعيدين الدنيوي والأخروي، والسبب في ذلك حسب رأي الدكتور هو: "أن الهدف حين يدرك بطريقة رتيبة أو مبتذلة، كما هو موجود عند معظم العامة، فإنه لا يستحثنا على العمل، والبذل، وإنما يصبح شيئًا يتردد في الأفواه وليس أكثر". كما أشار المؤلف في هذا الكتاب إلى دور استخدام اللغة في تنمية الملكة الفكرية والثقافية فقال: "إن قدرة الإنسان على التعبير عن أفكاره ومشاعره وحاجاته نعمة من أعظم النعم... حيث تشكل اللغة فارقًا من أهم الفوارق... فكلما ارتقى الإنسان ارتقت اللغة التي يستخدمها". وختم المؤلف كتابه بعوائق التنمية الفكرية في الأمة، وإعراضهم عن هديِ ربهم، وتأثير ذلك في زرع الإحباط في نفوس الجيل، مذكرًا بأن: "أفضل مناعة يمكن أن نكتسبها من أجل مقاومة الإحباط تتمثل في الشعور أننا نتقدم ونرتقي، ونتناغم مع معتقداتنا ومبادئنا... فالفجوة بين سلوكياتنا وموقفنا وبين ما نعده جوهريًّا في الحياة تشكل مصدرًا من مصادر الإحباط، كما أن الالتزام يشكل مصدرًا من مصادر الاستبشار والتأنق الروحي". ووصل المؤلف في نهاية المطاف في كتابه إلى أهمية الرجوع إلى "سير العظماء من أبناء هذه الأمة وأبناء الأمم الأخرى لِنجدَ أن كثيرين منهم انطلقوا مما يشبه الصفر"؛ وذلك لكونهم يمتلكون القدرة على رؤية الإمكانات الصغيرة، وتنمية الإيجابيات القليلة، مع الثقة بالله تعالى، واستلهام مبادئ دينهم الحنيف. ومما يجدر التنبيه له: أن هذا الكتاب مطبوع من القطع المتوسط، وهو من إصدارات مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي.
نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة (سقوط بغداد 656 هـ) نعيش مع نكبة أصابت الأمة، وكيف خرجت منها، ومن هو القائد الذي صحح المسار؛ فالأحداث التي تمرُّ بها أمُّتُنا في وقتنا هذا تكاد تكونمتطابقة مع الأحداث التي مرت بها في القرن السابع الهجري. ظهور قوة ثالثة في الأرض: ظهرت قوة التتار قوةً ثالثة في الأرض في أوائل القرن السابع الهجري سنة 603 ه/ 1206 م بعدما كان الصراع منحصرًا بين قوتَيِ المسلمين والصلبيين، وكان ظهورها الأول في (منغوليا) شمال الصين، وكان أول زعمائها هو جنكيزخان. بدأ جنكيزخان في التوسع تدريجيًّا في مملكته، وسرعان ما اتسعت حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا؛ أي: إنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، ثم بدأ يفكر جديًّا في غزو بلاد المسلمين، وإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد. ديانة التتار: سَنَّ جنكيزخان لقومه اليسق يتحاكمون إليه؛ وهو خليط من شرائع العبادات السابقة، وقال لهم: (أصنعه لكم شرعةً ومنهاجًا تتبعونه وتلتزمون بالعمل به أبدَ الدهر) [1] . ولا شك أن هذا يتبع ملة الكفر؛ كما جاء في فتوى ابن تيمية 702ه: "إذا رأيتموني من ذلك الجانب – يعني الذي فيه المغول – وعلى رأسي مصحف فاقتلوني" [2] ، لما كان يجزم به من كفرهم وظلمهم. الهجمة التترية الأولى: بدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين بالهجمة التترية الأولى على الدولة الخوارزمية دولة خوارزم شاه، التي كانت على حدود دولة التتر من جهة الغرب، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية مهمة؛ مثل: أوزبكستان، والتركمنستان، وكازاخستان، وطاجكستان، وباكستان، وأفغانستان، وتُعرَف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى (بلاد ما وراء النهر)، وبلاد السند، فتحها المسلمون العرب نهاية القرن الأول الهجري، جهز جنكيزخان جيشه وأسرع في اختراق إقليم كازاخستان، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في أوزبكستان الآن)، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة سنة 617 ه/ 1219 م، "ف قتلوا أكثر أهلها، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، ثم ألقَتِ التتار النارَ في دُورِ بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت حتى صارت خاوية على عروشها " [3] . وكتب ابن الأثير ينعى الإسلام والمسلمين : "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدمَ، إلى الآن، لم يُبتلوا بمثلها، لكان صادقًا، فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر (بتركستان الشرقية المحتلة حاليًّا)، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر في سنة 617 ه؛ مثل: سمرقند وبخارى، فيملكونها، ثم خراسان، فيَفْرَغون منها ملكًا، وتخريبًا، وقتلًا، ونهبًا، ثم إلى الري وهمذان ) مدن إيرانية)، ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينجُ إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يُسمَع بمثله) [4] . دبَّتِ الهزيمة النفسية الرهيبة في قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلًا، ويصور ابن الأثير هذه الهزيمة: "حينما مَلَكَ التتر مدينة مراغة من أذربيجان (في إيران ( 618هـ، سمعت من أهلها أن رجلًا من التتر دخل دربًا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه، ووُضِعَتِ الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلًا ولا كثيرًا، نعوذ بالله من الخِذلان، ووصل الخذلان أن يأمر التتريُّ المسلمَ: ضَعْ رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به" [5] . حال المسلمين قبل دخول التتار بغدادَ: رغم تحرر المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين في صفر 642ه بقيادة نجم الدين أيوب، وانتصار المسلمين على الصليبيين في معركة المنصورة 647ه ، لكن للأسف وضع الأمة الإسلامية كان يتسم بالضعف والفرقة والنزاع على السلطة . إنذار التتار للخليفة 655 ه: ويذكر المقريزي أن "هولاكو قصد بغداد، وبعث يطلب الضيافة من الخليفة، فكثر الارتجاف ببغداد، وخرج الناس منها إلى الأقطار، ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة، ومَلَكَ ظاهر بغداد، وقتل من الناس عالمًا كبيرًا" [6] ، ولم يعد الخليفة العُدَّة لحماية دار الخلافة من هجمات التتار. القتال بين الأيوبيين ومماليك مصر: حاول الأمراء الأيوبيون انتزاعَ ملك مصر من المماليك، وفي كل مرة ينكسرون منهزمين، الأمير سيف الدين قطز يهزم الملك المغيث عمر الأيوبي صاحب الكرك ، الذي خرج ومعه المماليك البحرية لأخذ مصر 655ه ، ويلتقي مع الملك الناصر يوسف الأيوبي الذي خرج من دمشق ومعه المماليك البحرية لأخذ مصر مطلع سنة 656ه بالعباسة، فولى الملك الناصر منهزمًا جهة الشام ، والتتار على أبواب بغداد. حال الخلافة الإسلامية: الخلافة العباسية ليست خلافة حقيقية فقد أصابها الوهن؛ فقد كانت مصر والشام والحجاز واليمن في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وبينهما قتال ونزاع على السلطة،وكانت الخلافة في بغداد في صراع مع الدولة الخوارزمية التي كانت تضم معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا، بقيادة جلال الدين بن خوارزم، الذي حاصر البصرة بعسكره سنة 622هـ لمدة شهرين، ووصل إلى بعقوبة على بعد خمسين كيلومترًا من بغداد. سقوط بغداد: تهيأ هولاكو لقصد العراق من سنة 654ه، وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند حتى بلغ عسكره مائة ألف، فلما ولِيَ المستعصم (640ه)، أشار عليه الوزير ابن العلقم (الخائن) بقطع أكثر الجند، وأن مصانعة التتر وحمل المال إليهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك وقلل من الجند، وكاتب الوزير ابن العلقم التترَ وسهَّل عليهم ملك العراق، وطلب منهم أن يكون نائبهم، فوعدوه بذلك" [7] ، ودخل هولاكو في مائتي ألف من التتار بغداد في أواخر المحرم 656ه، وقتل الخليفة المستعصم بالله وقتل ولديه، وقتل ببغداد من المسلمين ألف ألف وثمانمائة ألف، واستمر القتل والسبي نحو أربعين يومًا، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة. وضع الجيوش الإسلامية بعد سقوط بغداد 656ه: • خرج الملك المغيث عمر الأيوبي صاحب الكرك (الأردن حاليًّا) لأخذ مصر ومعه المماليك البحرية، ودماء المسلمين لم تجفَّ بعد في بغداد، فلقِيَهم قطز بالصالحية، وقاتلهم، فانهزم الملك المغيث، و التقى المماليك البحرية بعد هزيمتهم من المصريين مع عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق في غزة، وانهزم عسكر دمشق. • الاستعانة بالتتر لأخذ مصر؛ حيث أرسل الملك الناصر يوسف ولده العزيز محمدًا، وصحبته زين الدين الحافظي، بتحف إلى هولاكو، وسأله في نجدة ليأخذ مصر من المماليك [8] . • صمود ميافارقين (شرق تركيا) الشمعة المضيئة: رجب 656ه حاصر التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد، وكان صاحبها الملك الكامل محمد الأيوبي، وصبر أهلها مع أميرها على الجوع، واستمر الحصار لمدة عام ونصف حتى فنيت أزوادهم، وفنيَ أهلها بالوباء وبالقتل ، وأُسِر أميرها وقتله هولاكو في دمشق صفر 658هـ" [9] ، فأين ملوك المسلمين (الناصر والمغيث والأشرف والأمير المنصور) من هذا الحصار؟ وأين الشعوب الإسلامية؟ ولكن التاريخ يعيد نفسه. • القتال بين الأيوبيين وبعضهم في سنة 657هـ، حيث كان التتار يحاصرون ميافارقين، فخرج الملك المغيث من الكرك بعساكره يريد دمشق فخرج الملك الناصر من دمشق ولقِيَه بأريحا، وحاربه، فانهزم المغيث، وسار الناصر إلى زيراء فخيم على بركتها [10] ، وأقام مدة ستة أشهر محاصرًا للملك المغيث، إلى أن وقع الاتفاق بينهما على أن الناصر يتسلم الطائفة البحرية (التي هزمته في غزة) من المغيث" [11] ، وفي سنة 657ه قدم الملك العزيز بن الملك الناصر من عند هولاكو، وفي يده رسالة لأبيه لتسليم حلب ودمشق. الهزيمة النفسية تطول الجيوش الإسلامية: ضعُفت نفس الناصر وخارت وعظم خوف الأمراء والعساكر من هولاكو، فأخذ الأمير زين الدين الحافظي (الخائن) يعظِّم شأن هولاكو، ويشير بألَّا يقاتل وأن يداري بالدخول في طاعته، فصاح به الأمير بيبرس وضربه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين" [12] ، يقول ابن كثير سنة 657ه: "خرج الملك الناصر صاحب دمشق في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب وغيرهم (ما يناهز مائة ألف)، ولما علم ضعفهم عن مقاومة التتر ارفضَّ ذلك الجمع، فإنا لله وإنا إليه راجعون" [13] ، جيش مسلم بهذا العدد قُتل فيه روح الجهاد والمقاومة، وبُثَّ فيه اليأس والخذلان، وعملاء التتار من أمراء المسلمين لهم دور كبير في ذلك. وللمقال بقية بعنوان (عين جالوت 658هـ). [1] الوافي بالوفيات، ج11، ص153. [2] البداية والنهاية، ج14، ص28. [3] البداية والنهاية، ج13، ص99. [4] الكامل في التاريخ، ج10، ص333. [5] المرجع السابق ج10، ص 449. [6] السلوك لمعرفة دول الملوك ج1، ص496. [7] ذيل مرآة الزمان، ج1، ص87. [8] السلوك لمعرفة دول الملوك ج1، ص500. [9] المختصر في أخبار البشر ج3، ص196. [10] البركة في منطقة زيزيا جنوبي عمان الأردن. [11] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص505. [12] المرجع السابق ج1، ص509 . [13] البداية والنهاية ج13، ص250.
سالم بن عبد الله بن عمر رحمه الله وأثره في الجانب الاجتماعي والعلمي في المدينة المنورة المبحث الأول: ولادته ونشأته ووفاته. المطلب الأول: أسمه ونسبه وكنيته. سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وهو قرشي بن كنان بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان العدوي القرشي [1] ، وأمه أم ولد ولم يُذكَر اسمها في المصادر التاريخية - إلى حدِّ ما لقيته - ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد السابع؛ وهو كعب بن لؤي [2] . وقد ذُكِر أن سبب تسميته كان تيمُّنًا بسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما، عن سعيد بن المسيب، قال: قال لي عبدالله بن عمر: أتدري لمَ سميتُ ابني سالمًا؟ قال: قلت: لا، قال: باسم سالم مولى أبي حذيفة [3] [4] ، وهو ما يدل على مدى حب عبدالله بن عمر لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم أجمعين، وكان يكنى رحمه الله بأكثر من كنية أشهرها أبو عمر، وأبو عبدالله، وأبو عمير، وسالم رضي الله عنه ذو فضل عظيم؛ ورد عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا، وهو يتلو القرآن، فقال: ((الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله)) [5] . المطلب الثاني: نشأته ووفاته: وُلد سالم بن عبدالله في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وأقام في الحجاز ومكة والمدينة وبلاد الشام، وكان من عادة الصحابة أن ينشأ أبناؤهم في المدينة دار النبي وأصحابه، حتى وإن كانوا مستقرين خارج المدينة؛ حيث نشأ الإمام الحافظ الزاهد سالم بن عبدالله في المدينة المنورة؛ حيث الصحابة الذين حرصوا على تعلم العلم وتعليمه، بل كانوا يتناوبون في حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يفوتهم شيء من العلم [6] ، ولا سيما أن الصحابة جلسوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي للتعليم في نظام حلقات التي بدأت خطوة خطوة تأخذوا طابعًا منظمًا زمانًا ومكانًا [7] ، ففي هذه البيئة الحافلة بالعلم والعلماء نشأ سالم فأخذ العلم عن كبار الصحابة، وقد أخبر موسى بن عقبة عن أخذه للعلم، فقال: "أسند سالم ما لا يعد كثرة عن أبيه وعن جلة الصحابة" [8] . أما زوجاته وأولاده: تزوج سالم رحمه الله اثنتين؛ هما: أم الحكم بنت يزيد بن عبد قيس، وأم ولد، وأولاده: عمر وأمه أم الحكم، وأبو بكر وأمه أم الحكم، وعبدالله وعاصم وجعفر وعبدالله وحفصة وفاطمة وأمهم أم ولد [9] . وكانت وفاته في ذي الحجة سنة 106 ه، وصلى عليه الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، وكان في طريق عودته من الحج [10] بالمدينة، ودُفن بالبقيع [11] ، وقد ترك سالم من الولد عمر وأبا بكر، وأمهما أم الحكم بنت يزيد بن عبد قيس، وعبدالله وعاصمًا وجعفرًا وحفصة وفاطمة وعبدالعزيز وعبدة، وأمهاتهم أمهات ولد، وسُمِّي ذلك العام عام الأربعة آلاف، وذلك لما رأى هشام بن عبدالملك كثرة الناس بالبقيع، قال لإبراهيم بن هشام المخزومي ابن اخته وقد ولاه مكة المكرمة والمدينة: "اضرب على الناس بعث أربعة آلاف" [12] ، رحمه الله تعالى وأجزل له المنزلة. المبحث الثاني: تلقيه للعلم ومكانته العلمية: المطلب الأول: تلقيه العلم: كانت ولادة ونشأة سالم بن عبدالله في رحاب المدينة المنورة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار هجرته، وفي أجوائها العبقة بطيوب النبوة، المتألقة بسنا الوحي، درج وشب وفي كنف أبيه العَــبـَّاد الزَّهــَّـاد صوَّام الهواجر قوام الأسحار تربَّى، وبأخلاقه العمرية تخَـلَّق ... ولقد رأى فيه أبوه من مخايل التقى، وعلائم الهدى، وأبصر في سلوكه من شمائل الإسلام، وأخلاق القرآن فوق ما كان يراه في إخوته ... فأحبه حبًّا ملك عليه شَغاف قلبه، وخالط منه حباتِ فؤادِه، حتى لامه اللائمون في ذلك فقال: يلومونني في سالم وألومهم = وجِلْــدَة بينَ العين والأنفِ سالمُ، وأقبل عليه يبثه ما وعاه صدره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ويفقهه في دين الله، ويمليه من كتاب الله، ثم دفع به إلى الحرم الشريف [13] . المطلب الثاني: مكانته العلمية: تمثل المكانة العلمية لسالم مرتبة عالية، وتبرز مكانته العلمية من خلال المعطيات التالية؛ فقد كان أحد فقهاء المدينة؛ قال ابن المبارك: "كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وسالم، والقاسم، وعروة، وعبيدالله بن عبدالله، وخارجة بن زيد، وكانوا إذا جاءتهم مسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون، وكان لا يتوسع في التفسير"، قال الطبري عن ابن عبيدالله بن عمر، قال: "لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليغلظون القول للتفسير منهم سالم بن عبدالله" [14] ، ويدل أنهم لا يتكلمون في القرآن إلا بما هو معلوم عنده، وكان شخصية علمية تُستشار عند الولاة؛ حيث أشار الزهري على بني أمية مشاورة سالم في المدينة، فقال: "قلت لعبدالله الرحمن بن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالفَ فِعْلَهم، فالزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله" [15] . المطلب الثالث: شيوخه وطلابه: أولًا: شيوخه: ولذا اشتهر سالم بن عبدالله بن عمر بالعلم والوقار، وكان ذا شأن عظيم ومكانة كبيرة عند أهل زمانه؛ قال مالك: "لم يكن أحدٌ في زمان سالم بن عبدالله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه"، وقد أخذ العلم عن علماء أفذاذ تابعين كرام؛ وهم: سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي أبو محمد. أبو عبدالرحمن رومان الرومي. عبدالله بن أبي عتيق محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق التيمي. عبدالرحمن بن صخر الدوسي أبو هريرة. أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي. رافع بن خديج بن رافع الأنصاري الأوسي الحارثي أبو عبدالله المدني أبو خديج. عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين. رضي الله عنهم أجمعين. ثانيًا: طَلَبَتُه: شخصية علمية كبيرة مثل سالم بن عبدالله له من أصناف العلم نصيب، لا بد أن يكون له طلبة كثر حملوا علمه، وذكره؛ وهم كما يأتي: عبدالعزيز بن أبي رواد ميمون الأزدي المكي. محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري أبو بكر. أبو زبر عبدالله بن العلاء بن زبر الربعي. مالك بن دينار السامي أبو يحيى. المثنَّى بن دينار القطان أبو حاتم. جعفر بن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب. حوي بن أبي عمرو أبو عبيد القرشي. إبراهيم بن يزيد بن أشعث الخوزي. محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان القرشي. صالح بن كيسان أبو محمد الدوسي. عقبة بن أبي الصهباء الراسبي أبو خريم. قحذم بن النضر بن معبد البصري الجرمي. أبو بكر بن نافع العدوي. عبدالرحمن بن المجبر بن عبدالرحمن الأصغر. أبو بكر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب. عمر بن حمزة بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العمري. زياد بن أبي زياد الجصاص أبو محمد البصري. عمرو بن دينار أبو محمد القرشي الأثرم المكي الجمحي. محمد بن أبي حرملة. عبيدالله بن أبي زياد القداح أبو الحصين. جرير بن حازم بن زيد بن عبدالله بن شجاع البصري أبو النصر. يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي. محمد بن عبدالرحمن بن عبيد مولى آل طلحة. ربيعة بن كعب القصبر. يحيى بن الحارث بن عمرو بن يحيى الذماري الغساني. جرير بن زيد أبي سلمة الأزدي البصري. عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر القرشي العدوي. أبو بكر بن سالم بن عبدالله بن عمر المديني. عبيدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. حنظلة بن أبي سفيان الجمحي القرشي. موسى بن عقبة بن أبي عياش. عكرمة بن عمار العجلي اليمامي. أبو عثمان ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ القرشي التيمي. عقيل بن خالد بن عقيل الأيلي. فضيل بن غزوان بن جرير أبو محمد الضبي. أبو بكر أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني. داود بن صالح التمار. محمد بن طلحة بن يزيد القرشي المطلبي المكي المدني. ثالثًا: روايته للحديث: كان سالم بن عبدالله رضي الله عنهما إمامًا عاملًا زاهدًا، يلبس الثوب بدرهمين، وكان أبوه عبدالله يقبله ويقول: "شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخًا"، تلقى علمه في المدينة، وسمع من الصحابة، فروى عن أبيه وعن أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وروى عنه من التابعين عمرو بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وموسى بن عقبة، وحُميد الطويل، وصالح بن كيسان، وغيرهم، وروى عنه كثير من أتباع التابعين ولعلمه وجلالته عَدُّوهُ من الفقهاء السبعة، وكان ذا مكانة رفيعة حتى إن سليمان بن عبدالملك رحَّب به، وأقعده على سريره؛ قال محمد بن سعد: "كَانَ سَالِمٌ كَثِيرَ الحَدِيثِ عَالِيًا فِي الرِّجَالِ وَرِعًا"، وقال إسحاق بن راهويه: "أَصَحُّ الأَسَانِيدِ: الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ" [16] . رابعًا: علمه بالجرح والتعديل: برز التابعي سالم بن عبدالله بعلم الحديث، وكان صاحب مرتبة علمية في الجرح والتعديل، وهو أحد العلوم المهمة التي أضافت للحديث النبوي رونقه وموثوقيته؛ فقد اعتبر أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أن أصح أسانيد أحاديث عبدالله بن عمر، هو ما رواه الزُّهري عن سالم بن عبدالله عن أبيه [17] ، وقد قال عنه ابن سعد: "كان سالم ثقة، كثير الحديث، عاليًا من الرجال، وَرِعًا" [18] ، كما وثَّقه العجلي وروى له الجماعة [19] . المبحث الثالث: صفاته وأقوال العلماء فيه: امتاز سالم بن عبدالله بصفات جليلة كانت خليقة برجل مثله، فهو ابن الأكرمين، ومولود في المدينة، ونشأ فيها مجالسًا للصحابة والتابعين، وقد ذُكر من صفاته: المطلب الأول: صفاته: كان سالم بن عبدالله يمتاز بعدة صفات خلقية؛ منها أنه كان خشن المعيشة؛ حيث يُذكر أنَّه رضي الله عنه كان يرتدي الصوف الخشن، وكان أيضًا يُعالج أرضًا كانت له، وغيرها من الأعمال الأخرى، وكان له رضي الله عنه من الزهد والورع ذاك الشيء العظيم، ويُذكر أنَّه كان زاهدًا في الدنيا، ويبلغ من زهده أنَّه لم يكن يعمد إلى جمع شيء معين إلا ابتغاء الدار الآخرة، وفي ذات مرَّة دخل عليه ميمون بن مهران فعمد إلى تقويم بيته، ولم يجد أنَّه يُساوي سوى مائة درهم [20] . كما ذُكر عن زهده وورعه وابتعاده عن أموال السلطان؛ فقد ذُكر أنه كان يرفض العطاء من الولاة، والروايات الواردة عنه مع الخليفة هشام بن عبدالملك ما يثبت ذلك، فقد ذُكر أن هشام بن عبدالملك دخل وهذا إلى حجر الكعبة المشرَّفة، فإذا هو قد لقِيَ سالم بن عبدالله، فقال هشام لسالم رضي الله عنهما: "إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره"؛ أي: إنَّه يستحي من الله تعالى أن يدعو ويطلب شيئًا من أحد غيره سبحانه وتعالى، وعندما خرج سالم خرج هشام متعقبًا لأثره؛ أي: كان خلفه، فقال له حينها: "الآن قد خرجت من بيت الله فسَلني حاجة"، فردَّ عليه سالم وقال: "من حوائج الدُّنيا أم من حوائج الآخرة؟" فردَّ هشام بن عبدالملك قائلًا: "من حوائج الدنيا"، فقال سالم: "إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟" أي: إنَّه لم يطلب حاجته من الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، فهل يطلبها منه [21] . المطلب الثاني: أقوال الصحابة والتابعين فيه: تعددت أقوال المديح في سالم بن عبدالله صاحب الفضل والمنزلة العالية؛ ومما ذُكر من أقوال الصحابة والتابعين والعلماء به: أنه كان أشبه أولاد أبيه به، وكان أبوه يحبه حبًّا شديدًا، فإذا قيل له في ذلك أنشد: يلومنني في سالمٍ وألومهم وجلدة بين العين والأنفِ سالمُ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: "كَانَ سَالِمُ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ، عَالِيًا مِنَ الرِّجَالِ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: "كَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُشْبِهُ أَبَاهُ، وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ يُشْبِهُ أَبَاهُ". وَقَالَ أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: "وَلَمْ يَكُنْ أحدٌ فِي زَمَانِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ أَشْبَهَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الزُّهْدِ وَالْقَصْدِ وَالْعَيْشِ مِنْهُ، كَانَ يَلْبِسُ الثَّوْبَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَشْتَرِي الشِّمَالَ يَحْمِلُهَا". وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عبدالملك لسالم، ورآه حسن السَّحَنَةِ: "أَيُّ شيءٍ تَأْكُلُ؟ قَالَ: الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَإِذَا وَجَدْتُ اللَّحْمَ أَكَلْتُهُ"، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: "سَالِمٌ ثقةٌ وَرِعٌ كَثِيرُ الْحَدِيثِ" [22] ، وقال الإمام مالك: "لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى في الزهد والفضل والعيش منه"، توفي سنة ست ومائة [23] . رحم الله سالم بن عبدالله بن عمر، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فنعم العالم الحبر كان هو. [1] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 12/ 51. [2] ابن عساكر، المصدر نفسه، 12/ 53. [3] سالم بن عبيد بن ربيعة، وكان فارسي الأصل، أعتقه أبو حذيفة رضي الله عنه، وتبناه قبل الهجرة، وكان من المكثرين من القرآن، حسن القراءة، وكان عمر رضي الله عنه يكثر الثناء عليه، فكان يقول: "لو كان سالم حيًّا ما جعلتها شورى"؛ يقصد: الخلافة، وشهِد بدرًا وأحدًا وبقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُتل يوم اليمامة شهيدًا؛ [ينظر: محسن، نكتل يوسف، أوقات الصحابة الأخيرة، 17]. [4] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 12/ 51. [5] الهيثمي، مجمع الزوائد، 5/ 303، ورجاله رجال الصحيح. [6] ابن حجر، فتح الباري، 7/ 281. [7] الفراجي، عدنان، الحياة الفكرية في المدينة المنورة، 61. [8] أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، 194. [9] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 8/ 58. [10] المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 7 / 78. [11] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 8/ 55. [12] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 8/ 45. [13] الباشا، عبد الرحمن، صور من حياة الصحابة، 54. [14] الطبري، جامع البيان، 21/ 85. [15] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 5/ 14. [16] الخطيب، محمد عجاج، السنة قبل التدوين، 519. [17] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 5/ 132. [18] المزي، تهذيب الكمال، 7/ 133. [19] ابن سعد، الطبقات، 8/ 54. [20] الباشا، صور من حياة التابعين، 56. [21] ابن عساكر، تاريخ دمشق، 22/ 54. [22] ابن الجوزي، صفوة الصفوة، 2/ 352. [23] الاصفهاني، حلية الاولياء، 2/ 139.
قيام الليل لابن الجوزي طبعة دار طغراء صدر حديثًا كتاب: " قيام الليل " للإمام الحافظ ابن الجوزي جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 هـ)، اعتنى به: " محمد رجب الخولي "، و" حسن إبراهيم الصباغ "، و" خالد الشوربجي "، نشر: " دار طغراء للدراسات والنشر ". وهي رسالة مختصرة للحافظ ابن الجوزي في قيام الليل، وفضله، وآدابه، والحث على إحياء الليل بالعبادة والذكر، قسمها ابن الجوزي إلى سبعة وعشرين بابًا. وتحدث فيها أيضًا ابن الجوزي عن فضل ساعات الليل، وفضل قُوَّامه، وتفاوت درجاتهم، وذكر من كان يقوم ثلث الليل، أو نصفه، أو يقومه كله، وذم من لا يقوم من الليل شيئًا، وغير ذلك من الأبواب النافعة من أبواب الكتاب. وقد قام المحققون بتحقيقها لأول مرة على أصل خطي فريد مقابل بنسخة المصنف، مع التعليق بما يلزم على مواضع كلام ابن الجوزي من إيضاح مشكل، أو فكّ عبارة، أو فائدة مستفادة من كلام ابن الجوزي، مع التخريج لأحاديث الكتاب وآثاره، والترجمة لأعلام الرسالة، مع تشكيل كامل الكتاب لغويًا وإخراجه بأجود صورة فنيًا وطباعةً. وقد جاء الكتاب في جزئين، الجزء الأول في ثلاثة مباحث، اختصت بالتعريف بالمصنف وكتابه، مع بيان منهج التحقيق للكتاب، والجزء الثاني من الكتاب خُصص للنص المحقق، وذلك على النحو التالي: القسم الأول: في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ترجمة موجزة للمصنِّف، ضمت عددًا من المطالب: المطلب الأول: اسمه، ونسبه، ومولده، ونشأته. المطلب الثاني: شيوخه، وتلاميذه. المطلب الثالث: أقوال العلماء فيه. المطلب الرابع: مصنفاته. المطلب الخامس: شعره، ونثره. المطلب السادس: وفاته رحمه الله. المبحث الثاني: تعريف موجز بالكتاب، وذلك في خمسة مطالب: المطلب الأول: تحقيق اسم الكتاب، وتحقيق نسبته إلى ابن الجوزي. المطلب الثاني: موضوع الكتاب، وما أُلِّفَ قبله. المطلب الثالث: موارد المصنف في هذا الكتاب، وأسانيده إلى الكتب المصنفة. المطلب الرابع: منهج المصنف في الكتاب، وعقيدته. المطلب الخامس: وصف النسخة الخطية ونماذج منها. المبحث الثالث: عملنا في الكتاب. القسم الثاني: النص المحقق: خطبة المصنف. أبواب الكتاب: في سبع وعشرين بابًا: الباب الأول: في الأمر بقيام الليل. الباب الثاني: في فضل قيام الليل، ومدح قوامه، والمباهاة بهم، وذكر ثوابهم. الباب الثالث: في أن في الليل ساعة يجاب فيها الدعاء. الباب الرابع: في ذكر ما يصنع من أراد قيام الليل. الباب الخامس: في فضل أربع ركعات بعد العشاء. الباب السادس: في فضل تأخير العشاء. الباب السابع: في فضل أربع ركعات بعد العشاء. الباب الثامن: في فضل من صلى الفجر والعشاء في جماعة. الباب التاسع: فيما يقوله من انتبه من النوم: قبل صلاة الليل. الباب العاشر: في إيقاظ أهل الزوجين الآخر. الباب الحادي عشر: في ذكر من نبه في نومه لقيام الليل. الباب الثاني عشر: في ذكر من كان يقوم ثلث الليل. الباب الثالث عشر: في فضل نصف الليل، ومن كان يقومه. الباب الرابع عشر: في ذكر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل. الباب الخامس عشر: في ذكر النزول إلى السماء الدنيا. الباب السادس عشر: في ذكر فضل السحر، ومن كان يقومه. الباب السابع عشر: في ذكر من كان يقوم الليل كله. الباب الثامن عشر: في ذكر من قام الليل بآية. الباب التاسع عشر: في الثواب بمقدار القراءة بالليل. الباب العشرون: في ذكر من كان يقوم بقيامه عمار داره. الباب الحادي والعشرون: في ثواب من يدعو لإخوانه بالليل. الباب الثاني والعشرون: فيمن نوى قيام الليل فغلبته عيناه. الباب الثالث والعشرون: في أمر من غلبه النوم، وهو يصلي؛ أن ينام. الباب الرابع والعشرون: في ذكر من يصنع من فاته ورده من الليل. الباب الخامس والعشرون: في ذم من لا يقوم الليل. الباب السادس والعشرون: في نهي من كان يقوم الليل أن يترك ذلك. الباب السابع والعشرون: في ذكر ما يمنع من قيام الليل. وصاحب الرسالة هو ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (508 - 597 هـ، 1116 - 1201م؟). الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، المفسِّر، المحدث، المؤرخ، شيخ الإسلام عالم العراق. ولد ببغداد سنة 508، وقيل: سنة 510 هـ. واختلف في سبب تسميته بابن الجوزي: فقيل: إن جده جعفر نسب إلى فرضة من فرض البصرة، يقال لها: جوزة. وقيل: منسوب إلى محلة بالبصرة، تسمى محلة الجوز. وقيل: كانت بداره في واسط جوزة، لم يكن بواسط جوزة سواها. وقال ابن خلكان: "الجوزي؛ بفتح الجيم، وسكون الواو بعدها زاي، نسبته إلى فرضة الجوز، وهو موضع مشهور، ورأيت أن جده كان من مشرعة الجوز، إحدى محال بغداد بالجانب الغربي". كان والده رحمه الله يعمل الصّفر (صناعة النحاس) بنهر القلابين، وقد توفي وهو صغير لم يتجاوز الثالثة من عمره، فكفلته أمه وعمته. فلما ترعرع حملته عمته إلى مجلس أبي الفضل بن ناصر، فاعتنى به وأسمعه الحديث. وحفظ القرآن الكريم، وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وسمع الكتب الكبار؛ كالمسند وجامع الترمذي وصحيح البخاري وصحيح مسلم وتاريخ البغدادي وغيرها. وقرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أبي بكر الدينوري والقاضي أبي يعلى وأبي حكيم النهرواني. وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي، وتتبع مشايخ الحديث وحمل عنهم.. ولما توفي شيخه ابن الزاغوني سنة سبع وعشرين وخمسمائة كان قد احتلم؛ فطلب حلقة شيخه فلم يعطها لصغر سنه، وأخذها أبو علي الراذاني، فحضر ابن الجوزي بين يدي الوزير، وأورد فصلًا في المواعظ، فأذن له في الجلوس في جامع المنصور. قال ابن الجوزي: "فتكلمت فيه، فحضر مجلسي أول يوم جماعة من أصحابنا الكبار من الفقهاء، منهم عبد الواحد بن سيف، وأبو علي القاضي، وأبو بكر بن عيسى وابن قثامى، وغيرهم. ثم تكلمت: في مسجد معروف وفي باب البصرة وبنهر المعسلي، فاتصلت المجالس، وقوي الزحام، وقوي اشتغالي بفنون العلوم". ومن ذلك الوقت اشتهر أمر أبي الفرج ابن الجوزي، وأخذ في التصنيف والجمع. وبورك له في عمره وعلمه، فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من ستين سنة، وحدث بمصنفاته مرارًا، وكانت أكثر علومه يستفيدها من الكتب. قيل كان ذا حظٍ عظيم، وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسه الملوك، والوزراء وبعض الخلفاء، والأئمة والكبراء، وقيل إنه حضر في بعض مجالسه مائة ألف. وقال: "كتبت بأصبعي ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألفًا". ومن تصانيفه المهمة: "زاد المسير في التفسير"؛ و"جامع المسانيد"؛ و"المغني في علوم القرآن"؛ و"تذكرة الأريب في اللغة"؛ و"الموضوعات"؛ و"الواهيات"؛ و"الضعفاء"؛ و"المنتظم في التاريخ"؛ و"الناسخ والمنسوخ"؛ و"غريب الحديث"؛ و"الوفا في فضائل المصطفى". وغير ذلك. وتوفي ابن الجوزي في الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة من الهجرة.
عبدالرحمن وعمر وزيد أبناء عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي حياتهم وأثرهم في الحياة الاجتماعية والعلمية في المدينة المنورة إعداد الباحث: عمر باسم يونس إشراف الأستاذ: نكتل يوسف محسن المبحث الأول: عبدالرحمن بن عبدالله. المطلب الأول: اسمه ونسبه ولقبه. عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعُزَّى بن رياح بن عبدالله بن قرط، من قبيلة بني عدي، وكان يكنى بـ"أبا عبدالله"، وأمه أم علقمة بنت علقمة بن ناقش بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، ولديه من الإخوة والأخوات من غير أمه اثنا عشر أخًا وأربع بنات [1] . المطلب الثاني: نشأته وحياته الأسرية: وُلد في المدينة المنورة ونشأ فيها، وكان من صغار التابعين، ولا سيما أنه هو الابن الأكبر، وكان به يكنى أبوه، ويرجح أنه تعلم عن أبيه عبدالله بن عمر بن الخطاب كثيرًا من علوم الفقه والحديث وأمور القضاء، وكان ممن لا يعلو على الحق، وكان من رواة الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما عُرف بقلة الراوية، وهو الوحيد لأمه، ومات في المدينة المنورة، ولديه ثلاث من الأبناء: عمر بن عبدالرحمن، عبدالله بن عبدالرحمن، أبو بكر بن عبدالرحمن، كما ذكر عبدالله بن عبدالرحمن [2] ، ولم يُذْكَر عنه من المعلومات الوافية؛ لأن المؤرخين لم يكونوا مهتمين بمن كانت روايته للحديث قليلة [3] . أما حياته الأسرية، فقد ذُكر عنها الشيء القليل؛ فقد كان له من الأولاد أبو بكر بن عبدالرحمن، وعمر بن عبدالرحمن، من غير أن يذكروا أمهاتهم؛ مما يعكس حالة غموض متوقعة ومتوافقة مع كُتَّاب التراجِم الذين لا يسلطون الضوء إلا على المشاهير. المبحث الثاني: عمر بن عبدالله بن عمر: المطلب الأول: اسمه ونسبه ولقبه : عمر بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن رياح بن عبدالله بن قرط، وأمه صفية بنت أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن كسي، وهو من ثقيف، ولم يكن وحيدًا كان لديه إخوة من أبويه: أبو بكر، وأبو عبيدة، وواقد، وعبدالله، وأختان: سودة، وحفصة، ولم تذكر عنه المصادر أكثر من نسبه؛ لقله روايته للحديث [4] . المطلب الثاني: جهوده في الحياة العلمية: ذُكرت له جهود نسبية في رواية الحديث والتاريخ عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومن ذلك ما ورد عن عبدالرحمن بن شريك، حدثنا أبي عن هشام بن عروة عن عمر بن عروة بن عمر بن عبدالله بن عمر، عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((أنه تصدق فأبصر صاحبها يبيعه - أو يبيعها - بكسر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تَبِعْ صدقتك في أهل المدينة)) [5] ، كما ذكر له حديثًا في سنن ابن ماجه، عن جده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: إنه حمل على فرس فِي سبيل اللَّهِ، وعَنه هِشَام بْن عروة، وهو حديث مختلف في إسناده [6] . أما عن وفاته، فلم أجد أن المصادر تحدثت عنها من قريب أو من بعيد، على الرغم من ذكرها بعض التفاصيل عن حياته العلمية والاجتماعية والأسرية. المبحث الثالث: زيد بن عبدالله بن عمر: المطلب الأول: اسمه ونسبه وكنيته: زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن رياح بن عبدالله بن قرط [7] ، وأمه أم ولد، ويُقال [8] : إن أم زيد بن عبدالله سهلة بنت مالك بن الشحاج من بني زيد بن جشم بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، أما إخوته الذين من أبويه، فهم: حمزة، وسالم، وبلال، وواقد، وعبدالله [9] . المطلب الثاني: حياته الأسرية: تزوج زيد بن عبدالله زوجات عدة؛ هن: أم حكيم بنت عبيدالله بن عمر بن الخطاب، كما تزوج قرة العين بنت حوي بن شماس بن صفوان، فضلًا عن أمهات الأبناء؛ منهن جارية اسمها شعثاء [10] . ابنه محمد بن أزيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، وكان يكنى بـ"أبا عبدالرحمن"، وأمه أم حكيم بنت عبيدالله بن عمر بن الخطاب، وزوجته أم ولد كانت جارية، واسمها شعثاء، وأولاده: زيد، وواقد، وعمر، وأبو بكر، وعاصم، وأم حكيم، وفاطمة، وأمهم أم ولد وعبدالرحمن بن محمد الأكبر، وبلال، وعبدالرحمن الأصغر، وأمهم قرة العين بنت حوي بن شماس بن صفوان بن صباح بن طريف بن زيد بن عمرو بن ربيعة بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد بن ضبة، وكان ممن يروي الحديث، وروى الحديث عنه بنوه وكان أبناؤه من الثقات [11] . المطلب الثالث: جهوده في الناحية العلمية: يعتبر زيد بن عبدالله من الثقات في رواية الحديث النبوي، ويكفيه فخرًا وتوثيقًا أنْ كان من رواة البخاري ومسلم [12] ، غير أن صمت المصادر عن سيرته تعكس أنه كان تقي قليل الحديث، وهو ما عبر عنه البعض مما ترجموا له؛ وقد أخرج البخاري في الأشربة، وإسلام عمر بن الخطاب عن نافع وابن ابنه عمر بن محمد بن زيد عنه، عن أبيه عبدالله، وعن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه [13] ، كما ذكر المزي قائلًا: روى عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، وأبيه عبدالله بن عمر، روى عنه: ابن ابنه عمر بن محمد بن زيد، ونافع مولى ابن عمر؛ ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، روى له البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه [14] . [1] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 337. [2] البخاري، التاريخ الكبير، 5/ 136. [3] البخاري، التاريخ الكبير، 5/ 136. [4] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4/ 133. [5] البخاري، التاريخ الكبير، 6/ 168. [6] المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 21/ 417. [7] البخاري، التاريخ الكبير، 3/ 400. [8] ابن سعد، الطبقات، 369. [9] البخاري، التاريخ الكبير، 3/ 399. [10] ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، 7/ 256. [11] الكلاباذي، أحمد بن محمد بن الحسين، رجال صحيح البخاري = الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد، 1/ 254. [12] ابن منجويه، رجال صحيح مسلم، 1/ 218. [13] الباجي، التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح، 2/ 583. [14] تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 10/ 83.
شكرًا أيها المدير الناس أخلاق ومعادن، فيهم الطيب المرح البشوش، الذي يُرسل الرسائل الإيجابية، ويُعدِّد المواقف الرائعة التي تشهد له، ويكسب قلوب الكثيرين ممن حوله، فيفرح من يراه، ويأنس مَنْ يسمع صوته، ويسعد من يجالسه، وينشط من يحاوره؛ وذلك لأنه يسعى لكسب الجميع. وقد يترقَّى بعضُ الناس فيصبح مسؤولًا أو مديرًا فلا يُغيِّر المنصب فيه شيئًا إلا زيادة في الطيب والعطاء والخلق الجميل، وتبقى رسائله ومواقفه كما هي لا تُغيِّره الوجاهة، ولا تشغله المهام والواجبات، ولا تُثنيه المسؤوليات والالتزامات. تجده يتذكر أصحابه وزملاءه ويزورهم، ويتفقد أحوالهم ويتواصل معهم، فتزداد محبَّتُه، وترتفع مكانته، ويأنسون به أكثر؛ بل إنهم يعيشون لحظات أنس وسعادة عندما يُفرِّغ لهم بعض وقته في لقاء مُرتَّب أو زيارة عابرة. وهنا تحل الكثير من الإشكاليات، وتعالج بعض النفسيَّات، وتُصحَّح بعض التوجُّهات، وتنسى بعض الاختلافات، وحتى لو كان لدى هذا المدير بعض الإخفاقات أو الأخطاء- فهو ليس معصومًا- فإنها تكتم وتهضم وتنسى أمام تلك الجوانب المشرقة الجميلة من أخلاقه وتعامُلاته التي تأخذ الحيِّز الأكبر عند الآخرين فلا يبقى مكان لغير الشكر والثناء والدعاء له بالتوفيق والسداد. وتسير عجلة العمل والحياة لدى الجميع بودٍّ ووئام وسرور وابتهاج؛ مما يُحرِّك الإنجاز والتطوُّر والإبداع، ويظهر أثر ذلك على الفرد والمجتمع، وينعكس على البذل والعطاء. فشكرًا أيها المدير، أنك أعطيت صورةً حسنةً طيبةً للتعامل مع الآخرين، وأنك أنجزت الكثير من الأعمال دون تأخير، وأنك لم تظلم أحدًا من الموظفين، وأنك راقبت ربَّ العالمين، وأنك تتابع العاملين معك وتتفقَّدهم بين الحين والآخر، وأنك تعزي مصابهم، وتُشاركهم أفراحهم، وتزورهم في مكاتبهم، وتخاطبهم بأسلوبك الجميل وابتسامتك الرائعة. واعلم بأنك في عبادة تُقرِّبُك من المولى العظيم، وسوف تجد ذلك يوم الدين، وسوف يدعو لك المقربون والبعيدون، وسوف يُدوِّن التاريخ أمثالك من العاملين. شكرًا لك على صفحاتك المشرقة وإنجازاتك المتعددة التي سوف تبقى رصيدًا لك بعد ذهابك وانتقالك، يضرب بها المثل، ويقتدي بها راغبو الخير، ويزيد عليها المنافسون والمتسابقون في الخيرات.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العلمنة - النظام التربوي) كانت الوقفة السابقة عن إفلاس الحضارة الغربية صدًى لما يجري الآن في الاحتيال على جلب الأطفال إلى الدنيا، باستخدام الاكتشافات العلمية في مجالات (هندسة الجينات)، أو في مجالات أخرى قد لا تخضع للعلمية، بقدر ما هي في ميزاننا نحن، ميزان الفطرة، منافيةٌ للخلق، مثل استئجار امرأة تحمل لعائلة surregate mother لا تستطيع الزوجة فيها الحمل، أو ربما لا تهوى هي الحمل؛ لرغبتها في مواصلة طموحاتها العملية خارج المنزل، وبعيدًا عن هموم الحمل والولادة والرضاعة. ومثل إتيان الأب ابنته أو الولد أخته أو الابن أمه للشكوك في أن يكونوا كذلك في نسبتهم لبعضهم البعض، ومثل زواج المثليين،هي صورٌ وحالاتٌ كانت شاذةً، ولكنها - مع الأسف - شاعت بشكل يقشعر لها البدن، ولكنه واقع، ووقوعه ليس بحالات فردية؛ إذ الحالات الفردية قد تقع في أي مجتمع، حتى ذلك المجتمع الذي يَعُدُّ نفسه متحضرًا أخلاقيًّا، بفعل المنهج الرباني الذي يسير عليه، فإن مسببات زوال العقل مؤقتًا موجودة، مثل الخمور والمخدِّرات والانفصام، وبزوال العقل تمارس بعض الأفعال المنافية للفطرة والعقل السليم، وبالتالي فهي منافية للدين. والإفلاس الحضاري يأتي من تسيب النظام التربوي أولًا، ثم النظم الاجتماعية، بما فيها العقوبات والحدود ونحوها، فقد بلغت الحضارة الغربية مبلغًا في هذا التسيب، أدى إلى بروز هذه الظاهرات بشكل مخيف يدعو إلى إعادة النظر في كل أساليب الحياة، ومنها المناهج التربوية التي ظهرت لها صيحة تحت عنوان: أمة معرضة للخطر [1] ، كما ظهر كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بعنوان: قيمنا المعرضة للخطر [2] ، قيل فيها: إنه لو فرضت هذه المناهج على الولايات المتحدة الأمريكية من بلاد أخرى متسلطة عليها، لطلب من حكومة هذه البلاد التصرف عقابيًّا، وبسرعة، على هذه البلاد الفارضة، وبكل قسوة. والحرية الفردية المفرطة والحرية الفكرية المفرطة قد تكون من مسببات هذا الإفلاس الحضاري،ولا يعجب المرء أن يأخذ بعض الحوادث ليدلل بها على نتيجة يريد أن يصل إليها. ولا يريد المرء الإفلاس لأي أمة من البشر، ولكنه رد الفعل أحيانًا، لتنبيه بعض المتأثرين بحضارة الآخر، المنبهرين بما حققته وتحققه من إنجاز مادي نال الإعجاب من كل المنصفين،ورد الفعل هذا لا يسعى إلى أن ترفض الحضارة الغربية بحسناتها وسيئاتها، ولكنه يسعى لأن يؤخذ من هذه الحضارة الحسنات، وتترك السيئات،إلا أن الواقع أن هناك خلطًا بين الحسنات والسيئات، كما أن هناك ميلًا إلى تصدير السيئات، ومحاولة الإبقاء على الحسنات. ومنا من يعيش في الغرب أيامًا أو شهورًا أو سنواتٍ، ولكنه لا يتعمق في الحياة، ولا يعايش المجتمع، ولا يظهر له إلا ما هو منجز ماديًّا، وتخفاه العلاقات الأسرية والاجتماعية والزوجية، ولا يتعرض لها إلا بالقدر الذي ينشره الإعلام عنها، والإعلام الترفيهي لا يعكس الصورة الحقيقية عن المجتمع الغربي، فيأتي العائد من الغرب متغربًا طالبًا تطبيق ذلك النموذج على الحياة في محيطه الذي عاد ليخدم فيه ظانًّا أن هذا النمط هو الذي أوصل تلك الأمة إلى ما وصلت إليه، وأن عدم تطبيق هذا النمط هو الذي أوصل أمته إلى ما وصلت إليه من سوء. إنها بهذه السطحية وبهذه البساطة تتخلل حياتنا شيئًا فشيئًا؛ فالنموذج لا يطبق بين يوم وليلة، ولا توضع له خطة زمنية، ولكنها المؤثرات التي تدخل المجتمع خطوة خطوة، حتى يضيِّع المجتمع ما لديه من مُثُل ومبادئ، في الوقت الذي لن يوفق فيه في تبني مُثُل الآخر ومبادئه؛ لأنهم هم صدَّروها رغبة عنها لا رغبة في تحضير الآخرين بها،ومن هنا يأتي الموقف السلبي من الإفلاس الحضاري، بغض النظر عن الوجهة التي جاء منها. لا بد من التوكيد هنا على الابتعاد عن الشماتة، وضرورة العيش في مستوى المسؤولية التي يحملها المجتمع المسلم لكل المجتمعات الأخرى، بعد أن يبدأ هذا المجتمع بنفسه، ليملك حينئذٍ ما يستطيع تقديمه للآخر، وقد قيل من قبل: إن فاقد الشيء لا يعطيه. [1] انظر: مكتب التربية العربي لدول الخليج ، أمة معرضة للخطر - الرياض: المكتب، 1404هـ/ 1984م - ص 70. [2] انظر: جيمي كارتر ، قيمنا المعرضة للخطر: أزمة أمريكا الأخلاقية/ نقله إلى العربية محمد محمود التوبة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1422هـ/ 2007م - ص 224.
قواعد في أعمال القلوب لعقيل بن سالم الشمري صدر حديثًا كتاب " قواعد في أعمال القلوب "، تأليف: د. " عقيل بن سالم الشمري "، نشر " دار الحضارة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب من كتب الرقائق، وتنقية القلوب من أوشاب الذنوب والخطايا، وتميز هذا الكتاب بأنه مدعم بالشرح الصوتي لكل قاعدة باستخدام تقنية "الباركود"، حيث بوضعك كاميرا الهاتف الجوال على كل قاعدة، يتيح لك موقع "جوجل" الوصول سريعًا إلى شرح صوتي للمؤلف لهذه القاعدة لمن أحب الاستماع لها، والاستفادة منها. يقول الكاتب: "إن أعظم الفقه فقه القلوب وأحوالها، ولم يكن الصحابة يقدمون على فقه القلوب شيئًا، وقد جمع كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام معاقد هذا الفقه وأصوله وفروعه، ومن أراد الوصول لله فليصلح قلبه، فالله ينظر للقلوب، فإن وجده صالحًا وضع نوره فيه، وإن كان القلب ميتًا أعرض الله عنه، وهنا باض الشيطان فيه وفرخ، وإن كان القلب مريضًا فينشط مرة ويضعف أخرى، والعبرة بالخواتيم". ويضم هذا الكتاب مجموعة من القواعد القلبية قسمها الكاتب على أربعة أقسام: القسم الأول: قواعد عامة في فقه القلوب. القسم الثاني: قواعد في بعض أعمال القلوب. القسم الثالث: قواعد عامة في بعض أمراض القلوب. القسم الرابع: كلمات جامعة في علم القلوب. وبين الكاتب موارده التي استفاد منها وعلى رأسها كتاب السلوك لابن تيمية من مجموع الفتاوى، ومجموعة كتب ابن القيم في الرقائق من أمثلة: "مدارج السالكين"، و"الفوائد" و"الجواب الكافي"، و"إغاثة اللهفان"، وكذلك بين أنه استفاد من رسالة "أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم" لصاحبها د. "سهل بن رفاع العتيبي". وطريقة عمل المؤلف أن يأتي بالقاعدة، ويشرحها بطريقة مبسطة بالأدلة والأمثلة والبراهين، ثم يأتي في ختام كل قاعدة ويطلب من القارئ تلخيص ما فهمه من القاعدة وشرحها في أربعة أسطر، لتثبيت المعلومة، والتفاعل من جانب القارئ. والمؤلف هو د. "عقيل بن سالم الشمري" عضو هيئة التدريس بكلية الآداب، بجامعة حفر الباطن، له العديد من المشاركات في المنتديات والمواقع الدينية والعلمية، ومن مؤلفاته: • "البيان في مآثر الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الثنيان". • "تدبر سورة مريم". • "تدبر السور التي تقرأ يوم الجمعة". • "تدبر سورة الكهف". • "قواعد تدبر القرآن وتطبيقات على قصار المفصل".
صور مما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج قال عليه الصلاة والسلام: ( (لَمَّا فرَغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج، ولم أرَ شيئًا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي - جبريل - فيه، حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك ))، قال: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]. وفي صورة أخرى؛ قال عليه الصلاة والسلام: (( تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكًا مستبشرًا، يقول خيرًا ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، لم أرَ منه من البِشر مثل الذي رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل، من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أرَ منه من البِشر مثل الذي رأيت منهم؟ قال: فقال لي جبريل: أما إنه لو كان ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكًا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك خازن النار ))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقلت لجبريل - وهو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم: ﴿ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 21] -: ألا تأمره أن يريني النار، فقال: بلى، يا مالك، أرِ محمدًا النار، قال: فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى، قال: فقلت لجبريل: يا جبريل، مُرْه فليردها إلى مكانها، قال: فأمره، فقال لها: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلى وقوع الظل، حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها)). وفي صورة أخرى؛ رواية أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلًا جالسًا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرًا ويسر بها، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه: أفٍّ، ويعبس بوجهه ويقول: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث، قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم. وفي صورة أخرى؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ثم رأيت رجالًا لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار - الفهر الحجر الكبير - يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلمًا)). وفي صورة أخرى؛ ثم قال: ((ثم رأيت رجالًا لهم بطون لم أرَ مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة - التي عطشت - حين يعرضون على النار يطؤونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا)). وفي صورة أخرى؛ قال: ((ثم رأيت رجالًا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن)). وفي صورة أخرى؛ قال: ((ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم))، وفي الحديث: ((اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فأكل حرائبهم - أموالهم - واطلع على عَوْراتهم)). قال عليه الصلاة والسلام: ((ثم انحدرت أنا وجبريل إلى مضجعي، وكان كل ذلك في ليلة واحدة، فلما رجع إلى مكة علم أن الناس لا يصدقونه، فقعد في المسجد مغمومًا، فمر به أبو جهل، فقال كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئًا؟ قال: ((نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس))، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ فقال: ((نعم))، فخاف أن يخبر بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيجحده، فقال: أتخبر قومك بذلك؟ فقال: ((نعم))، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي، هلمُّوا فأقبلوا، فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن مصدق ومكذب ومصفق وواضع يده على رأسه، وارتد بعض الناس ممن كان آمن به وصدقه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر، قالوا: إن صاحبك يزعم كذا وكذا! فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فسمي أبو بكرٍ الصِّدِّيقَ مِن يومئذ. قالوا: فانعَتْ لنا المسجد الأقصى، قال: فذهبت أنعت حتى التبس عليَّ، قال: فجيء بالمسجد الأقصى وإني أنظر إليه، فجعلت أنعته، قالوا: فأخبرنا عن عيرنا، قال: قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيرًا لهم وهم في طلبه، فأخذت قدحًا من ماء فشربته، فسلوهم عن ذلك، ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان فرأيت راكبًا وقعودًا بذي مر، فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده، فسلوهما، قال: ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم من طلوع الشمس))، فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها جمل أورق كما قال، فلم يفلحوا، وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين. وفي رواية ابن إسحاق، أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، فصفه لي، فوصفه له، فكان كلما وصف منه شيئًا يقول: أشهد أنك رسول الله، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((أنت يا أبا بكر الصِّدِّيق)). وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه الأنبياء الذين التقاهم في السموات، فقال: ((أما إبراهيم فلم أرَ رجلًا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه، وأما موسى فرجل آدم طويل ضربٌ جعد أقنى، كأنه من رجال شنوءة، وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس - حمام - تخال رأسه يقطر ماء وليس به ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي)). كما ورَد في سيرة ابن إسحاق أن الإسراء كان رؤيا، والرواية عن عائشة تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه، ورواية عن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة، معتمدين في ذلك على الآية الكريمة: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، والصحيح أن الإسراء كان بشخصه وجسمه، ولو كان رؤيا لما جادلت قريش في ذلك، ولما قالت: صِفْه لنا، ولما استغربت؛ فالرؤى والأحلام تطرق كل إنسان، وتذهب به مذاهب شتى، فليس لها حدود تقف عندها، ولا يستغرب إنسان على إنسان لو قال له: اخترقت السموات السبع ونزلت إلى الأرضين السبع، وحملت الشمس بيدي اليمنى، والقمر بيدي اليسرى، ولكن الاستغراب جاء؛ لأنه حدثهم عن أمر وقع له باليقظة وبالبدن، وانطلق مسافرًا على البراق إلى بيت المقدس ذهابًا وإيابًا مع العروج إلى السماء ولقيا الأنبياء، فهنا تكمن المعجزة، وهنا يكمن التأييد من رب العالمين لحبيبه؛ ليخفف عنه من عناد قريش وموقفهم المعادي للدعوة، وأن الله القادر على كل شيء هو الحافظ للدعوة ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن قدرته لا تحدها حدود، هي مطلقة، ولو شاء لهداهم أجمعين، ولكن ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]، وأن هذه الرحلة هي لتقوية صمود النبي صلى الله عليه وسلم، وللترويح عما هو فيه من صد المشركين وإيذائهم لضعفاء المسلمين، وقد كان يأمل من قريش التصديق والإقبال على الإسلام؛ ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، لقد خلَّد الله - جلَّت قدرته - هذه الرحلة في سورة الإسراء، مع الإشارة الظاهرة إلى الربط بين بيت المقدس والمسجد الحرام ربطًا وشائجيًّا لا تنفك عُرَاه، من حيث رسالة التوحيد وقداسة المكان؛ قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، وتُبيِّن هذه الآية أن حادثة الإسراء كانت بالجسد والروح: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، وضوح ما بعده وضوح تكريمًا له وإظهارًا لآيات الله الخارقة، وأنه صلى الله عليه وسلم يعتمد في دعوته على قوي عزيز، ثم جاءت سورة النجم فأتمت ما حدث في تلك الليلة، وكانت تصعيدًا في الإعجاز، فإذا كان الإسراء سفرًا سريعًا على ظهر البراق، وله نظير في سفر سليمان بالريح وهذا لم يخرج عن دائرة الأرض فهو طيران سطحي، أما المعراج فهو الخروج من دائرة الأرض - وفي المفهوم الحديث من قوة جاذبيتها - والارتقاء إلى ما فوق السماء السابعة عند سدرة المنتهى، وهناك فرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس؛ لأهميتها وعلو ثوابها عما سواها من الفرائض؛ فهي مفروضة على كل المسلمين بلا إعفاء، على الغني والفقير، على المسافر والمقيم، على الصحيح والمريض - بخلاف الفرائض العملية الأخرى؛ فالزكاة فرض على من ملك النصاب فقط، والحج على من ملك الزاد والراحلة - نفقات الحج تقدر حسب الشخص وبُعد المكان - والصوم فرض على الصحيح السليم ويعفى منه المريض - ولنستعرض آيات المعراج من سورة النجم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18]. قسَم رباني بالنجم وهو يهوي متعقبًا الشياطين الذين يستَرِقون السمع، وفيه تمهيد إلى أن شيئًا قد يحدث في السماء، أو حدثًا مهمًّا ستشهده السماء وهو يحتاج إلى حراسة مشددة، تردع الشياطين من الجوبان في السماء، وتلزمهم أماكنهم من الجزر المهجورة البعيدة؛ بعيدًا عن الحدث المهم، وهو العروج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السموات السبع، وأن هذه الرحلة المباركة فيها تقوية لصمود النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع للروح المعنوية له، وأنه برعاية رب قادر، وحماية عزيز قوي، فلا يضره موقف قريش المعاند للدعوة؛ فهم أضعف من أن ينالوه بالأذى الذي يوقف دعوته، أو بالتصدي لضيائها الذي لا تحده حدود، وكان بعد القسم تزكية من الله له بأنه على هدى ورشد، وأن الله معه هاديه ومسدد خطواته، وتأتي التزكية الثانية الداعمة له دعمًا قويًّا يشد من صبره وثباته، بأنه لا ينطق عن هوى نفسه، وأن ما أتى به من القُرْآن هو وحي من الله، أظهره على لسانه يبشر به المتقين، وينذر به المعاندين الضالين المعارضين لانتشار هذا النور، إنه الناطق بالحق الموحى به إليه عن طريق الملك جبريل، فبلَّغ ما أمره الله به أن يبلغه للناس، فكان بلاغه الحق وعين الصدق، وقوة الدعوة تعتمد دائمًا على قوة مرسلها؛ فهي قوية لأنها دعوة الله، وهو الركن الشديد؛ لذلك كان أمره للأنبياء أن يأخذوا بها بقوة: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [البقرة: 63]، ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، ولموسى: ﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ [الأعراف: 145]، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعًا من الرسل؛ لذلك: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 5] وهو جبريلُ عن الله عز وجل، والمتعلم يكسب غالبًا أشياء من صفات المعلِّم: ﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾ [النجم: 6]، وهذا المعلم تام الخلق والتكوين والصحة والسلامة من الآفات، ومن تكن له هذه الصفات فهو بالطبع شديد قوي، فاستوى جبريل على هذه الهيئة القوية عندما انتصب في الأفق على صورته الملائكية، ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ [النجم: 8]؛ أي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليصحبه في رحلة المعراج، ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ [النجم: 9]، فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن بينه وبينه سوى مسافة قوس أو قوسين، والمثل: "قاب قوسين أو أدنى" تستعمله العرب لشدة قرب المسافة، ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10]، ويبقى الكلام عن جبريل عليه السلام، الذي يتلقى التبليغ من الله، ولم تذكر السورة تفاصيل الموحى به اختصارًا؛ لأن مجمل سردها سيظهر من خلال تتابع نزول الآيات حتى اكتمال الشريعة المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، لقد كانت ليلة المعراج حقيقة واقعة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم بجسمه وعقله وجوارحه، يذكرها كما رآها؛ فقد عقلها بقلبه وفؤاده، ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾ [النجم: 12]، فما حدث في ليلة الإسراء والمعراج كان حقًّا وصدقًا، فلا تجادلوه في صدق ما رأى، ولا تنكروا عليه ما روى، فإذا كان عقلكم لا يصدق ما حدث فلأنه قاصر لم يدرك حقيقة المعجزات التي تدعم الأنبياء وتؤيد صدق دعواهم؛ لأنها صادرة عن الخالق العظيم الذي لا يُعجزه شيء في السموات ولا في الأرض؛ فالمعجزة ينبغي أن تكون خارقة للعادة؛ لأنها تُظهر قوة الخالق العظيم، ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13]، ولمزيد من تأكيد الحدث فقد رآه مرة أخرى على صورته الملكية، وهذه المرة أعطى علامة الموضع الذي رآه فيه، وهو عند سدرة المنتهى، شجرة السدرة، وعندها ينتهي علم المخلوق من الملائكة، ولا يعلمون ما وراءها، ﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 15]؛ فالجنة أقامها الله تعالى عند هذا المستوى، وما وراء ذلك هو لله، وفي علم الله وحده، بمعنى أنه لا يكشف للمخلوقين كل شيء؛ فمستوى علمهم ووصولهم إلى جنة المأوى، وروي قراءة: ﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 15]؛ أي: أوى إليه وستره، والأول أقوى؛ لأنه مع السياق انسجامًا ومعنى، ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16] هي شجرة كما سبق، ولكن ما الذي يغشى هذه السدرة ويأوي إليها؟ لك أن تتصور من يغشاها؛ لأن الخالق العظيم جعل في قوله: ﴿ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16] إبهام من يغشى؛ لإعطاء الخيال حقه من التصور بما شاء أن يتصور، ولن يخرج عن الحقيقة في كل ما يتصور؛ لذلك أطلق المفسرون العنان لخيالهم، فقالوا: جراد من ذهب، أفواج من الملائكة، رفرف أخضر، رفرف من طيور، واستعمال الفعل المضارع دليل الاستمراية في هذا الغشيان، فليست واقعة حالٍ مضت، وإنما صورة مستمرة دائبة الغشيان، ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]، ولم تكن الرؤية خيالات أو تهيؤات تصورها عقله أو شطح بها خياله، وإنما كان البصر سليمًا حين رأى ما رأى دون مجاوزة أو مبالغة في الرؤية، أو انشغال بتنقيله هنا وهناك، وإنما كان مركزًا بصره إلى ما طلب منه أن يراه، ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 18] رأى العزة والقوة لله، ورأى عظيم ملك الله وقدرته العظيمة حين اطلع على بعض خلقه في السموات، وعلى سدرة المنتهى الشجرة العظيمة. وحول مَن قال: إن الإسراء كان بالروح، قال ابن كثير: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، وهذا توفيق بين الروايتين على مَن أخذ بقول عائشة: "أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فُقد، وإنما كان الإسراء برُوحه"، وقول معاوية: "كانت رؤيا من الله صادقة"، وعائشة رضي الله عنها لم تكن قد تزوجت منه، ومعاوية لم يكن قد أسلم؛ فالإسراء بالروح والجسد.
الإسلام والفن هل الإسلام ضد الفن؟ حقيقة هذا سؤال لا نستطيع الإجابة عنه بشكل قطعي؛ لأن كل شيء في الحياة له جانب سلبي وجانب إيجابي، حتى الفن لو وُظِّف في أعمال الخير، والدعوة إلى الفضيلة، وإصلاح المجتمع، وتقديم رسالة تخدم الإنسانية، فعند من يعتقد أنه ضرورة عصرية ولا سبيل إلى منعه فلا بأس به؛ ولكن هل الرقص والعري وإثارة الغرائز الجنسية، والكلام الفاحش، ودغدغة مشاعر وشهوات الشباب فن؟! وما الفائدة منه، وأي رسالة تكون في ذلك؟! الواقع يثبت أن للفن والتمثيل والرقص دورًا كبيرًا في إشاعة الفحشاء والرذيلة وفقدان الأمن المجتمعي، فالناس تكون غير آمنة؛ لأن بعض الشباب قد تحوَّل إلى قطيع من الذئاب يفتك بكل من تمرُّ من أمامه، والأمراض النفسية والجنسية وفقدان الثقة، والعلاقات العابرة، وعدم الرِّضا بما قدره الله تعالى لنا، وفقدان الهدوء الأسري، ومواكبة الموضة وأثرها الاقتصادي، والانحلال الخلقي، وفقدان الوازع الديني، وعدم تأنيب الضمير عند الوقوع في المعصية؛ لذلك قبل أن نحكم عليه دعونا نستعرض سلبيات هذا المسمى (فن) وللقارئ الكريم بعد ذلك أن يحكم بنفسه: أولًا : التمثيل أو الرقص والغناء يقوم بإثارة الغريزة الجنسية، والإسلام حرَّم كلَّ ما مِنْ شأنه أن يُثيرَ هذه الغرائز؛ لدورها القوي في إفساد المجتمع والخروج به عن الفضيلة والعفاف والستر المأمور به، يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 30، 31]. ثانيًا : جعل المشاعر المحرَّمة والمفاهيم المغلوطة تُقبَل رويدًا رويدًا في المجتمع، وتُزيح القِيمَ الأخلاقية الفاضلة لتحتل وتأخذ مكانتها، فالفن في الوقت الحاضر له أثر كبير وخطير في تمييع القيم والمفاهيم، واضمحلال الأخلاق والمبادئ الاجتماعية، فأصبحنا نعيش في عصر اختلطت فيه قلة الشرف والحياء والعفاف بالتطور والتقدم والثقافة، وقلة الاحتشام والعري والوقاحة بقوة الشخصية والبطولة والأناقة والموضة وغير ذلك. ثالثًا : تزيين المنكر، وتحلل المرأة من لباسها الشرعي وكشف جسدها، وهذا الأمر لم يعد مقتصرًا على الفنانة، فالفنان كذلك أصبح يعرض جسده سلعةً للحصول على المشاهدات الكثيرة، والكلام المحرم بين الرجل والمرأة والنظرات واللمسات والقُبَل، يقول تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]. ويقول تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]. ويقول تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]. رابعًا : عصيان أوامر الله سبحانه وتعالى، والتمرُّد والخروج عن طاعته، حتى لو لم يُرد الشخص ذلك فقد أصبح مدمنًا، ومن العسير عليه أن يتخلَّى عن هذا الإدمان؛ لأنه أصبح أسير هواه وتعلُّقه بهذا الفن وهذا النجم أو النجمة التلفزيونية: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، فمخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى تُورثُ الشقاء والحيرة والقلق والشك، ويا لها من أمراض فتَّاكة وقاتلة ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]. خامسًا : صنع وتسويق القدوة والنموذج السيئ: فقد أصبح هؤلاء الفنانون والفنانات قدوةً للشباب في السلوك والتصرُّفات والمشي واللبس وطريقة التعامل مع الآخرين. سادسًا : تزييف المشاعر: الفنانون يبيعون لنا الكلام اللطيف، والجمال، والحياة الخيالية؛ مما يجعل البعض يعيش في عالم غير واقعي ويسرح في الأحلام، ويبتعد عن الناس المحيطين به، ويُصدق ما يعرض عليه، ويحاول الحصول على هذه المتعة ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 224 - 227]. نعم المعصية جميلة؛ لأنها من عمل الشيطان الذي أقسم على إضلال بني آدم وهو من يُزيِّنها في أعيننا: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39]، إلا أن اتِّباع خطوات الشيطان يؤدي إلى الهلاك، قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ))؛ (صحيح مسلم: ح 2822). سابعًا : خراب البيوت: فالرجال والنساء في بحثٍ دائمٍ عن الحب، وعن الأناقة والجمال في الشريك، وهذا لا يتوفر في كثير من الأحيان بحكم ظروف الحياة؛ مما يؤدي بالبعض إلى الحصول على هذه الأشياء خارج إطار الحياة الزوجية، وربما يقع البعض في المحرمات، وتُصيبه الأمراض المخزية، ونحن نسمع في الآونة الأخيرة بظواهر غريبة طرأت على المجتمعات العربية المسلمة، وقد يكون سببها الإنتاج الكبير للأفلام والمسلسلات التي تُدغدغ مشاعر الشباب وتُزيِّن لهم المنكر، وتُسمِّي الأشياء والمشاعر المحرَّمة بغير مسمياتها، وهو من جهة غزو فكري، ومن جهة أخرى لتحقيق الأرباح وتحقيق نسب مشاهدة كبيرة يُستفاد منها العاملون في هذا المجال المربح تجاريًّا. ثامنًا : استسهال واستحسان بعض العلاقات المحرمة: كل الأديان السماوية حتى اليهودية والمسيحية ترفض الاختلاط والإباحية، وتدعو إلى المحافظة على المرأة وحمايتها من كل ما يسيء لها، وتدعو إلى حماية المجتمع من أضرار الاختلاط وتحذر من الرذيلة، وتحرم الزنا وتعاقب عليه، وتحذر م ن الوقوع فيه ومن نتائجه وآثاره على المجتمع وعلى الأشخاص أنفسهم ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ [الفرقان: 68] . تاسعًا : تضييع الوقت ولحظات الحياة الثمينة: يجلس أكثر الناس ساعاتٍ طويلةً في مشاه دة هذه الأفلام والمسلسلات وهي لا تنتهي.. حلقة تجر إلى حلقة أخرى، ومسلسل يجر إلى آخر والعمر يمضي بسرعة، ثم يُفاجئنا الموت ونحن لم نحقق أي هدف غير اكتساب الذنوب، والله تعالى يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11]. عاشرًا : جذب الشباب إلى اهتمامات منحطَّة وتافهة لإشغالهم عن المصائب والمخاطر التي تتربَّص بالإسلام وأهله. حادي عشر: والفن له أضرار على الفنانين والفنانات أنفسهم فيتعلَّق كثير من الفنانين والفنانات بعضهم ببعض بحكم قربهم وعملهم سويًّا فترات طويلة، وغالبًا هؤلاء يكونون مرتبطين مع شريك آخر إلا أنهم لا يستطيعون تخطي هذه المشاعر المؤقتة، فيقعون ضحيةً لها؛ لذلك نجد أغلب العاملين في هذا المجال لا يحظون بحياة عائلية مستقرة وسعيدة، ثم إن أغلب مَن تعمل في هذا المجال لا تحصل على فرصة للشهرة إلا إذا قدمت تنازلات، وما تقدُّمه لا رجعة عنه ولا عِوَض له، ونحن تربَّينا منذ الصغر على أن أي شيء مقابل الشرف قيمته صفر. وهناك البعض من الممثلات أو الفنانات لا ترُدَّ يد الفنان الذي يلمسها، وهذا مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ يُطعَن في رأسِ أحدِكم بمخيطٍ من حديدٍ خيرٌ له مَن أنْ يمسَّ امرأةً لا تحلُّ له))؛ (المعجم الكبير للطبراني: 20 / 211 ـ 212)، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقالت أم المؤمنين الطاهرة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن صحابة رسول الله جميعًا: ((لا والله، ما مسَّت يدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأةٍ قَطُّ غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكُنَّ كلامًا))؛ (البخاري، ح 5288، مسلم، ح 1866). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كُتِب على ابنِ آدَمَ نصيبُه من الزِّنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينانِ زناهما النَّظَر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدُ زناها البطش، والرجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنَّى ويُصدِّق ذلك الفرجُ ويُكذِّبه))؛ (صحيح مسلم، ح 2657). وبعد ذلك ماذا بقي من امرأة لا ترُدُّ يدَ لامسٍ وتفعل هذا أمام أنظار الناس بلا خجل ولا حياء، ليدخل هذا المشهد ملايين البيوت المليئة بشباب في سن حرجة، يصدقون ما يُعرَض عليهم، جاهلين ألاعيب الفن الذي يبيع هذه المشاهد مقابل المال الحرام، فتجارة الأفلام أصبحت تُدِرُّ ملايين الدولارات على أصحابها وهم يغتنون ويتملكون على حسابنا، إضافة إلى رواج تجارة مساحيق التجميل، ودور عرض الأزياء والمجوهرات، فما تلبسه الفنانة المفضلة ينفد من السوق بسرعة ويجد له الكثير من المعجبات اللاتي يردن الحصول عليه، حتى لو كان بأسعار خيالية، و(اللايكات) والاشتراكات والزيارات والمشاهدات لهذه المواقع التي تعود بالكثير على أصحابها.
قصص القرآن لفايز السريح صدر حديثًا كتاب " قصص القرآن " للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، إعداد: " فايز بن سيَّاف السريح "، من منشورات "دار مدار القبس للنشر والتوزيع". وتتلخص فكرة هذا الكتاب في جمع كلام الشيخ " عبد الرحمن بن ناصر السعدي " عن القصص القرآني من كتبه؛ وخاصة كتابيه " التفسير " و" التيسير ". يقول الكاتب: "فإن أردت صادق الخبر، وصدق العبارة، وجمال المعتبر، فاجعل القرآن نافذتك على أطلال الديار، لتنظر في حضارات بائدة، وأمم وقرون هامدة، خلَّدَ القرآن أفعالها، وسطر على مر الزمان ما جرى لها، فكان ذكر القرآن لها عبرة ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]" وقد قام الكاتب - في هذا السفر اللطيف - بإحصاء بعضًا مما وقف عليه من قصص القرآن؛ وولف بين كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في "تيسير اللطيف المنان" و"تيسير الكريم الرحمن"، وغيره من المفسرين، من تعليقاتهم على قصص القرآن، بأسلوبه الأدبي المتأنق. وقام بالتقدمة للكتاب بمقدمة في علم القصص، وفائدتها في إيصال الموعظة للمتلقي، استفادها مما ذكره العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - في كتابه "أصول في التفسير" حيث ذكر مبحثًا خاصًا متعلقًا بالقصص القرآني، فجعلها الكاتب كالمقدمة لما جمعه في هذا الكتاب، حيث جمع الكاتب بين الشيخ وتلميذه، بين ابن سعدي وابن عثيمين رحمهما الله. كما قام الأستاذ "فايز السريح" باستنباط الفوائد المتعلقة بكل قصص قرآني، وترتيبها من أجل إيصال المعلومة للقارئ. وقد قسَّمَ المؤلف الكتاب على النحو التالي: • قصة آدم أبي البشر - عليه الصلاة والسلام. • قصة ابني آدم. • قصة نوح - عليه السلام. • قصة هود - عليه السلام. • قصة صالح - عليه السلام. • قصة إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام. • قصة لوط - عليه السلام. • قصة يوسف - عليه السلام. • قصة شعيب - عليه السلام. • قصة أيوب - عليه السلام. • قصة موسى - عليه السلام. • قصة موسى والخضر. • قصة داود وسليمان - عليهما السلام. • قصة إلياس - عليه السلام. • قصة يونس - عليه السلام. • قصة عيسى وأمه، وزكريا ويحيى - عليهم السلام. • قصة خاتم النبيين وإمام المرسلين - صلى الله عليه وسلم. • قصة ذي القرنين. • قصة لقمان. • قصة طالوت وجالوت. • قصة أصحاب الكهف. • قصة مؤمن آل فرعون. • قصة قارون. • قصة أصحاب السبت. • قصة أصحاب القرية. • قصة سبأ. • قصة أصحاب الأخدود. • قصة صاحب الجنتين. • قصة أصحاب الفيل. • قصة مسجد الضرار. • قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
تذكرة الحَصِيف بمعجم شيوخ الإمام النَّووي في الحديث النَّبوي الشَّريف الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فهذا ما وقفتُ عليه من أسماء شيوخ الإمام شيخ الإسلام أبي زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي (631 هـ - 676 هـ) –رحمه الله تعالى رحمة واسعة- في الحديث النَّبوي الشَّريف وعلومه، جمعتُها من: مَعينِ مصنَّفاته النَّافعات المباركات، وطباقِ السَّماع الفريدة المحفوظة بين طيَّات المخطوطات، وكتابِ (تحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) من فصل: شيوخه الذين سمع منهم (ص 62-63) لتلميذه العلاء ابن العطَّار (654 هـ-724 هـ) الذي هو عُمدة ترجمته في كُتب التَّراجم والطَّبقات، ونصوصِ مَن تَرجم له من الأئمَّة الأعلام الثِّقات، ورتَّبتُها على حروف المعجم الهجائيَّة، وذكرتُ مسموعاته عليهم مع أسانيدهم المتَّصلة إلى الدَّواوين الحديثيَّة، وأُحيلُ مَن يرغب في معرفة المراجع على البحث المتواضع للعبد الفقير إلى رحمة ربِّه اللَّطيف الخبير، المسمَّى بـ: (الإفصاح عمَّا سمعه الإمام النَّوويُّ من الأجزاء والمسانيد والسُّنن والصِّحاح). وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة . معجم شيوخ الإمام النَّووي في الحديث النَّبوي الشَّريف وعلومه 1-الشَّيخ أبو العباس زين الدِّين أحمد بن عبد الدَّائم بن نعمة المقدسي (575 هـ - 668 هـ) [1] . 2-الشَّيخ أبو إسحاق كمال الدِّين إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس التَّميمي السَّعدي (596 هـ - 676 هـ): سمع عليه: (الجزء الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن سمعون الواعظ) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، عن أبي طالب محمَّد بن علي بن الفتح الحربي العُشاري، عن المصنِّف، وذلك في مجلسَين آخرهما يوم الثُّلاثاء 20 من شهر الله المحرَّم سنة 666 هـ بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. 3-الشَّيخ أبو إسحاق تقي الدِّين إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي (602هـ- 692هـ) [1] . 4-الشَّيخ أبو إسحاق رضي الدِّين إبراهيم بن عمر بن مُضر بن محمَّد الواسطي (593هـ-664 هـ): سمع عليه: (1) (موطَّأ الإمام مالك بن أنس رواية أبي مصعب الزُّهري) بروايته له عن أبي الحسن المؤيَّد بن محمَّد بن علي الطُّوسي، عن أبي محمَّد هبة الله بن سهل بن عُمر السَّيِّدي، عن أبي عثمان سعيد بن محمَّد بن أحمد البَحِيري، عن أبي علي زاهر بن أحمد بن محمَّد السَّرْخَسِي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الصَّمد بن موسى الهاشمي، عن أبي مصعب أحمد بن القاسم بن الحارث الزُّهري، عن المصنِّف. (2) و(صحيح الإمام مسلم) بروايته له عن أبي القاسم أبي بكر أبي الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفَـُرَاوي، عن أبي جدِّي أبي عبد الله محمَّد بن الفضل بن أحمد الفَـُرَاوي، عن أبي الحسين عبد الغافر بن محمَّد بن عبد الغافر الفارسي، عن أبي أحمد محمَّد بن عيسى بن عَمْرَوَيه الجُلُودي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن سفيان الفقيه، عن المصنِّف، وذلك في جامع دمشق . 5-الشَّيخ أبو إسحاق ضياء الدِّين إبراهيم بن عيسى بن يوسف المرادي (المتوفَّى 667هـ): أخذ عنه فقه الحديث، وشَرَحَ عليه: (صحيح الإمام مسلم)، ومعظم (صحيح الإمام البخاري)، وجملة مستكثرة من (الجمع بين الصَّحيحَين) للإمام الحُميدي. وقرأ عليه: (1) (فوائد الإمام أبي طالب يحيى بن علي بن الطَّيِّب الدَّسْكَرِي عن شيوخه) بروايته له عن أبي الحسن علي بن هبة الله الجُمَّيْزِي، عن أبي طاهر السِّلَفي، عن أبي بكر أحمد بن محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن زَنْجُويه الزَّنْجُوي، عن المصنِّف. وسمع عليه: (2) (جواب المتعنِّت على البخاري للإمام ابن القيسراني) بروايته له عن أبي محمَّد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، عن أبي نِزار ربيعة بن الحسن اليماني، عن أبي موسى الأصبهاني، عن المصنِّف مكاتبةً. 6-الشَّيخ أبو محمَّد كمال الدِّين إسحاق بن خليل بن فارس الشَّيباني الدِّمشقي الشَّافعي (588 هـ - 655 هـ): سمع عليه: (معالم السُّنن للإمام الخطَّابي) بروايته له عن فخر الدِّين أبي منصور عبد الرَّحمن بن محمَّد بن الحسن بن هبة الله الشَّافعي، عن عمِّه أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله ابن عساكر، عن أبي بكر محمَّد بن أحمد بن حبيب العامري، عن أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد الرُّوياني، عن أبي نصر محمَّد بن أحمد البَلْخِي، عن المصنِّف. 7-الشَّيخ أبو محمَّد تقي الدِّين إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليُسر شاكر بن عبد الله التَّنُوخِي الدِّمشقي الشَّافعي (589 هـ - 672 هـ): سمع عليه: (1) (جزءًا فيه من حديث الإمام وكيع بن الجرَّاح الرُّوَاسي) بروايته له عن أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر القرشي الخُشُوعي، عن أبي محمَّد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السُّلَمِي، عن أبي الحسن طاهر بن أحمد بن علي بن محمود المحمودي، عن أبي الفضل منصور بن نصر بن عبد الرَّحيم الكاغدي السّمرقندي، عن أبي عمرو الحسن بن علي بن الحسن العطَّار، عن إبراهيم بن عبد الله بن عمر العَبسي، عن وكيع بن الجرَّاح الرُّوَاسي، وذلك في 27 من شهر ربيع الأوَّل سنة 664 هـ بدمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. (2) (سنن الإمام أبي داود السِّجِسْتاني) بروايته له عن أبي طاهر الخُشُوعي، عن أبي محمَّد الحدَّاد، عن أبي بكر الخطيب، عن أبي عمر الهاشمي، عن أبي علي اللُّؤلؤي، عن المصنِّف. وقرأ عليه: (3) (سنن الإمام النَّسائي) بروايته له عن أبي القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين التَّغلبي الدَّوْلعي الكبير، عن أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسين ابن مَحْمُويه اليَزْدي، عن أبي محمَّد عبد الرَّحمن بن حَمْد بن الحسن الدُّوْني، عن أبي نصر أحمد بن الحسين بن محمَّد الكسَّار الدِّيْنَوَري، عن أبي بكر أحمد بن محمَّد بن إسحاق السُّنِّي الدِّيْنَوَري، عن المصنِّف. وسمع عليه: (4) و(الجزء الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن سمعون الواعظ) بروايته له على أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، عن أبي طالب محمَّد بن علي بن الفتح الحربي العُشاري، عن المصنِّف، وذلك في مجلسَين آخرهما يوم الثُّلاثاء 20 من شهر الله المحرَّم سنة 666 هـ بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. (5/ 6) و(الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع)، و(اقتضاء العلم العمل) بروايته لهما عن أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن بركات الخُشُوعي، عن أبي محمَّد هبة الله بن أحمد الأَكْفَاني، عن مصنِّفهما الخطيب البغدادي. (7) و(المستقصى في فضل المسجد الأقصى للإمام القاسم بن علي ابن عساكر الدِّمشقي) بروايته له عن المصنِّف، وذلك سنة 666 هـ بجامع دمشق. 8-الشَّيخ أبو البقاء زين الدِّين خالد بن يوسف بن سعد المقدسي النَّابُلُسِي الدِّمشقي (585 هـ - 663 هـ): سمع عليه: (1) (جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي بكر محمَّد بن عبد الباقي ‌الأنصاري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البَرْمَكِي، عن أبي محمَّد عبد الله بن إبراهيم ابن ماسِي، عن أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله الكَجِّي، عن محمَّد بن عبد الله ‌الأنصاري. وقرأ عليه: (2) (المحدِّث الفاصل بين الرَّاوي والواعي للإمام الرَّامَهُرْمُزِي) بروايته له عن أبي محمَّد عبد الغني المقدسي، عن أبي طاهر السِّلَفي، عن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصَّيرفي، عن أبي الحَسن علي بن أحمد بن علي الفالي، عن أبي بكر أحمد بن إسحاق بن خَرْبان، عن المصنِّف. وسمع عليه: (3) (عمل اليوم واللَّيلة للإمام ابن السُّنِّي) بروايته له عن أبي اليمن زيد بن الحسن بن زيد بن الكِنْدي، عن أبي الحسن سعد الخير بن محمَّد بن سهل الأنصاري، عن أبي محمَّد عبد الرَّحمن بن حَمْد بن الحسن الدُّوني، عن أبي نصر أحمد بن الحسين بن محمَّد بن الكَسَّار الدِّيْنَوَري، عن المصنِّف. (4) و(فضائل شهر رمضان وما فيه الأحكام والعلم وفضل صُوَّامه والتَّغليظ على من أفطر فيه متعمِّدًا من غير عذر للإمام ابن شاهين) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي محمَّد عبد الله بن علي بن أحمد المقرئ، وأخيه أبي عبد الله الحسين، عن أبي الحسين أحمد بن محمَّد بن أحمد بن النَّقُّور، عن أبي القاسم عُبيد الله بن عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن شاهين، عن أبيه المصنِّف، وذلك في 5 من شهر رمضان سنة 662 هـ في مجلس واحد بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. (5) و(الأربعين للإمام الحاكم النيسابوري). (6) و(الزُّهد والرَّقائق للإمام الخطيب البغدادي) بروايته له عن أبي محمَّد عبد العزيز بن معالي، عن أبي بكر محمَّد بن عبد الباقي الأنصاري، عن المصنِّف. وروى عنه إجازةً: (7) (تاريخ بغداد للإمام الخطيب البغدادي) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي منصور القزاز، عن المصنِّف. (8) و(تاريخ دمشق للإمام ابن عساكر) بروايته له عن أبي طالب عبد الله، وأبي منصور يُونس، وأبي القاسم الحسين بن هبة الله بن صَصرى، وأبي يَعلى حمزة، وأبي الطاهر إسماعيل، عن المصنِّف. وقرأ عليه: (9) (الكمال في أسماء الرِّجال للإمام عبد الغني المقدسي) بروايته له عن المصنِّف إجازةً. وسمع عليه: (10) و(الأربعين البلدانيَّة المتباينة الأسانيد والرُّباعيَّات للإمام عبد القادر الرُّهاوي) بروايته له عن المصنِّف. (11) و(مشيخة الإمام أبي اليُمن الكِنْدي تخريج الإمام القاسم بن علي ابن عساكر الدِّمشقي) بروايته له عن المصنِّف. 9-الشَّيخ أبو محمَّد جمال الدِّين عبد الرَّحمن بن سالم بن يحيى الأَنْبَاري الدِّمشقي الحنبلي (المتوفَّى 661 هـ): سمع عليه: (1) (كتاب الحجَّة على تارك المحجَّة للإمام نصر المقدسي) بروايته له عن أبي القاسم عبد الصَّمد بن محمَّد بن أبي الفضل الأنصاري، عن أبي الفتح نصر الله بن محمَّد بن عبد القوي المِصِّيصي، عن المصنِّف. (2) و(الأربعين البلدانيَّة المتباينة الأسانيد للإمام عبد القادر الرُّهاوي) بروايته له عن المصنِّف. 10-الشَّيخ أبو محمَّد وأبو الفرج شمس الدِّين عبد الرَّحمن بن أبي عُمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي الصَّالحي الحنبلي (597 هـ - 682 هـ)، وهو أجلُّ شيوخه: سمع عليه: (1) (صحيح الإمام البخاري) بروايته له عن أبي العبَّاس أحمد بن عبد الله بن عبد الصَّمد السُّلَمِي البغدادي، وأبي عبد الله الحسين بن المبارك بن محمَّد الزَّبِيدي، عن أبي الوقت عبد الأوَّل بن عيسى بن شعيب السِّجْزِي الصُّوفي، عن أبي الحسن عبد الرَّحمن بن محمَّد بن المظفَّر الدَّاوُودي، عن أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن حَمُّويه الحَمُّويي السَّرْخَسِي، عن أبي عبد الله محمَّد بن يوسف بن مطر الفِـَرَبرِي، عن المصنِّف، وذلك مدَّة أوَّلها يوم الاثنين 22 من شهر ذي القعدة سنة 660 هـ، وآخرها يوم الاثنين 16 من شهر ربيع الآخر سنة 661 هـ بجامع دمشق. (2) و(سنن الإمام أبي داود السِّجِسْتاني) بروايته له عن أبي حفص عُمر بن محمَّد بن مُعمَّر بن طَبَرْزَذ المؤدّب، عن أبي البدر إبراهيم بن محمَّد بن منصور الكَرْخِي، وأبي الفتح مُفلح بن أحمد بن محمَّد الدُّومي، عن أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، عن أبي عُمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، عن أبي علي محمَّد بن أحمد بن عمرو اللُّؤلؤي، عن المصنِّف. (3) و(سنن الإمام التّرمذي) بروايته له عن أبي حفص عُمر بن محمَّد بن مُعمَّر بن طَبَرْزَذ المؤدّب ، عن أبي الفتح عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل الكَرُوخي الهروي، عن أبي عامر محمود بن القاسم بن محمَّد الأَزدي، وأبي بكر أحمد بن عبد الصَّمد الغُورَجي، وأبي نصر عبد العزيز بن محمَّد التِّرياقي، وأبي المظفَّر عبيد الله بن علي بن ياسين الدَّهَّان، عن أبي محمَّد عبد الجبَّار بن محمَّد بن عبد الله الجَرَّاحي المَرْوَزي المَرْزُباني، عن أبي العبَّاس محمَّد بن أحمد بن محبوب التَّاجر المَرْوَزي المحبوبي، عن المصنِّف. (4) و(سنن الإمام ابن ماجه) بروايته له عن أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي، عن أبي زرعة طاهر بن محمَّد بن طاهر المقدسي، عن أبي منصور محمَّد بن الحسين بن أحمد المُقَوِّمي، إجازةً إن لم يكن سماعًا، عن أبي طلحة القاسم بن أحمد بن محمَّد القَزْوِيني الخطيب، عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطَّان، عن المصنِّف، وذلك مجالس آخرها يوم الاثنين 14 من شهر جمادى الآخرة سنة 662 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. (5) و(مسند الإمام الدَّارِمي) بروايته له عن أبي المُنَجَّا عبد الله بن عمر بن علي ابن اللَّتِّي، عن أبي الوقت عبد الأوَّل بن عيسى بن شعيب السِّجْزِي، عن أبي الحسن عبد الرَّحمن بن محمَّد بن المظفَّر الدَّاوُودي، عن أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن حَمُّويه الحَمُّويي السَّرْخَسِي، عن أبي عمران عيسى بن عمر بن العبَّاس السَّمَرْقَنْدِي، عن المصنِّف. (6) و(مسند الإمام أبي عوانة الإِسْفَرَايِيني) بسماعه له على أبي بكر القاسم بن أبي سعد عبد الله بن عمر الصَّفَّار، عن أبي الأسعد هبة الرَّحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم القُشَيري، عن أبي محمَّد عبد الحميد بن عبد الرَّحمن البَحِيري، عن أبي نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمَّد الإِسْفَرَايِيني، عن خال أبيه المصنِّف، وذلك سنة 665-666 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. (7) و(شرح السُّنَّة للإمام البَغَوي) بروايته له عن أبي المجد القَزويني، عن أبي منصور العُطَارِدي الطُّوسي، عن المصنِّف. (8) و(ذم الوسواس وأهله للإمام الموفَّق ابن قدامة) بروايته له عن المصنِّف. 11-الشَّيخ أبو محمَّد شرف الدِّين عبد العزيز بن محمَّد بن عبد المحسن بن محمَّد الأنصاري الدِّمشقي الحموي الشَّافعي (586 هـ - 662 هـ): سمع عليه: (1) (جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي بكر محمَّد بن عبد الباقي ‌الأنصاري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البَرْمَكِي، عن أبي محمَّد عبد الله بن إبراهيم ابن ماسِي، عن أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله الكَجِّي، عن محمَّد بن عبد الله ‌الأنصاري. (2) و(مسند الإمام أحمد بن حنبل) بروايته له عن أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربي، عن أبي القاسم هبة الله بن محمَّد بن عبد الواحد بن الحصين، عن أبي علي الحسن بن علي ابن محمَّد التَّميمي الواعظ، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القَطِيْعِي، عن عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن حنبل، عن أبيه المصنِّف، وذلك سنة 658 هـ بدمشق. 12-الشَّيخ أبو الفضل عماد الدِّين عبد الكريم بن عبد الصَّمد بن محمَّد الحَرَسْتَاني الأنصاري الدِّمشقي (577 هـ-662 هـ): سمع عليه: (جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري) بروايته له عن أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي بكر محمَّد بن عبد الباقي ‌الأنصاري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البَرْمَكِي، عن أبي محمَّد عبد الله بن إبراهيم ابن ماسِي، عن أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله الكَجِّي، عن محمَّد بن عبد الله ‌الأنصاري. 13-الشَّيخ أبو حفص بدر الدِّين عمر بن محمَّد بن أبي سعد الكِرْمَاني (570 هـ - 668 هـ): سمع عليه: (مسند الإمام أبي عوانة الإِسْفَرَايِيني) بروايته له إجازةً عن أبي بكر القاسم بن أبي سعد عبد الله بن عمر الصَّفَّار، وأبي المظفَّر عبد الرحيم بن عبد الكريم السَّمعاني، قال الصَّفَّار: أخبرنا أبو الأسعد هبة الرَّحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم القُشَيري، عن أبي محمَّد عبد الحميد بن عبد الرَّحمن البَحِيري، وقال السَّمعاني: أخبرنا أبو البركات عبد الله بن محمَّد بن الفضل الفَـُرَاوي ، عن أمِّ البنين فاطمة بنت أبي علي الحسن بن علي الدَّقَّاق، قالا: أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمَّد الإِسْفَرَايِيني، عن خال أبيه المصنِّف، وذلك سنة 665-666 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. 14-الشَّيخ أبو حفص فخر الدِّين عمر بن يحيى بن عمر الكَرجي الشَّافعي (595 هـ أو 599 هـ - 690هـ): قرأ عليه: (معرفة أنواع علوم الحديث للإمام ابن الصَّلاح) بروايته له عن المصنِّف. 15-الشَّيخ أبو عبد الله مجد الدِّين محمَّد بن إسماعيل بن عثمان ابن عساكر الدمشقي (587 هـ - 669 هـ): سمع عليه: (الجزء الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن سمعون الواعظ) بروايته له على أبي اليُمن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدي، عن أبي القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، عن أبي طالب محمَّد بن علي بن الفتح الحربي العُشاري، عن المصنِّف، وذلك في مجلسَين آخرهما يوم الثُّلاثاء 20 من شهر الله المحرَّم سنة 666 هـ بجامع دمشق بقراءة أبي العبَّاس شرف الدِّين أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري. 16-الشَّيخ أبو الفضل شرف الدِّين محمَّد بن محمَّد بن محمَّد التَّيمي البَكري (590هـ-665 هـ): قرأ عليه: (شروط النَّصارى) للإمام ابن زَبْر الرَّبَعي (المتوفَّى 329 هـ) وبذيله (أحاديث عبد الوهَّاب بن أحمد الكِلَابي) (المتوفَّى 396 هـ) بروايته له عن أبي حفص عُمر بن محمَّد بن معمر بن طَبَرْزَد، عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عُمر السَّمَرْقَنْدِي، عن عبد الدَّائم بن الحسن الهلالي، عن عبد الوهَّاب بن الحسن الكِلَابي، عن المصنِّف وغيره، وذلك بكلَّاسة جامع دمشق. 17-الشَّيخ أبو زكريَّا جمال الدِّين يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح الصَّيْرفي الحرَّاني (583 هـ - 678 هـ) [1] . 18-الشَّيخ أبو الفضل ضياء الدِّين يوسف بن تمَّام بن إسماعيل بن تمَّام الدِّمشقي الحنفي (601 هـ - 678 هـ) [2] . فهذا ما تيسَّر، ولا ريب أنَّ الإمام النَّووي رَوَى عن طائفةٍ سواهم [3] ، و(لو سمع أوَّلَ قُدومه دمشق لَلَحِقَ: الرَّشيد بن مَسلمة، ومكِّي بن علَّان، والكِبار، ولكنَّه بقي مُدَّة لا يَسمعُ الحديث)، ثمَّ أَقبلَ على أكابر الأئمَّة الحُفَّاظ في زمانه، (وأَكثرَ مِن رواية الدَّواوين الكِبار) [4] والأجزاء عنهم، كما تقدَّم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. [1] ذكره ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 62-63) في فصل شيوخه الذين سمع منهم. [2] ذكره ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 62) ضمن شيوخه الذين سمع منهم، وقال عبد القادر بن أبي الوفاء القرشي (المتوفَّى 775 هـ) في (الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفيَّة) (4/ 412): (ابن تمَّام، إمام كبير، محدِّث، لازمه النَّواوي لسماع الحديث منه وما يتعلَّق بعلم الحديث، وعليه تخرَّج، وبه انتفع) ا.هـ، ونقله عنه السخاوي في (المنهل العذب الروي) (ص 67). [3] صرَّح غير واحد من أهل العلم أنَّ ‌‌الشَّيخ أبا محمَّد وأبا القاسم شهاب الدِّين عبد الرَّحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المعروف بأبي شامة المقدسي الشَّافعي (599 هـ - 665 هـ) من شيوخه، فأوَّل من ذَكَرَ ذلك: التَّقي السُّبكي (683 هـ - 756 هـ) قال في (معنى قول الإمام المطّلبي إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) (ص 101): (أبو شامة -رحمه الله-: تلميذ ابن الصَّلاح، وشيخ النَّووي) ا.هـ، والشَّمس العثماني (717 هـ - 800 هـ) قال في (طبقات الفقهاء الكبرى) (2/ 697) أثناء ترجمة أبي شامة: (وهو من مشايخ الإمام النَّووي) ا.هـ، والبدر الفيُّومي (804 هـ - 870 هـ) قال في (فتح القريب المجيب على التَّرغيب والتَّرهيب) (4/ 135): (أبو ‌شامة ‌المقدسي: وهو أحد مشايخ ‌النَّووي) ا.هـ، ونَسَبَ ذلك إلى شيخه الشِّهاب ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 هـ) فقال (6/ 202): (ذَكَرَهُ أبو ‌شامة ‌المقدسي في كتابه في البدع المحدثة، وهو أحد شيوخ الشَّيخ محيي الدِّين ‌النَّووي، هكذا قاله قاضي القضاة العسقلاني الشَّهير بابن حجر، تغمَّده الله بالرَّحمة والرِّضوان) ا.هـ، والشَّمس الصَّالحي (المتوفَّى 942 هـ) قال في (سبل الهدى والرَّشاد) (1/ 363): (الحافظ أبو ‌شامة ‌شيخ ‌النَّووي) ا.هـ، والشِّهاب ابن حجر الهيتمي (909 هـ- 974 هـ) قال في (الفتاوى الفقهيَّة الكبرى) (2/ 213): (واعتمده القاضي كمال الدِّين عصريّ أبي شامة شيخ النَّووي) ا.هـ، وقال في (الزَّواجر عن اقتراف الكبائر) (1/ 201): (أبو ‌شامة: ‌شيخ ‌النَّووي، وتلميذ ابن الصَّلاح) ا.هـ، وقال في (الفتح المبين بشرح الأربعين) (ص 224): (الإِمام أبو شامة شيخُ المصنِّف) ا.هـ، وغيرهم، وتتلمذه عليه في الحديث الشَّريف وغيره ليس ببعيد -كما قال الشَّمس السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 66) بل جوَّز أنَّه تلقَّى عنه القراءات السَّبع-، ولعلَّ من أهمِّ ما رأوه مستندًا في ذلك هو تفويضُ مشيخة دار الحديث الأشرفيَّة بمدينة دمشق إلى الإمام النَّووي في شهر رمضان سنة 665 هـ مباشرة بعد وفاة الشَّيخ أبي شامة، وبالرّغم ممَّا تقدَّم فإنَّ التَّجاسر على الجزم به متعذّر مع إغفال ابن العطَّار لمثله، بل حتَّى الإمام النَّووي مع ثنائه البالغ عليه وعلى مصنَّفاته وإحالته عليها واختصاره لبعضها لم يُشر إلى ذلك على خلاف عادته مع شيوخه، والأقربُ أنَّه رأيٌ تفرَّد به التَّقي السُّبكي وتبعه عليه آخرون ويعوزه الدَّليل، والله أعلم بالصَّواب. [4] قاله الذَّهبي في (سير أعلام النُّبلاء - الجزء المفقود) (ص 341)، وانظر: (المنهل العذب الرَّوي) (ص 70).
تعقبات الحافظ ابن حجر في اللسان على الإمام الذهبي في الميزان لعمر حسن الصميدعي صدر حديثًا كتاب "تعقبات الحافظ ابن حجر في اللسان على الإمام الذهبي في الميزان"، تأليف: د. "عمر حسن الصميدعي"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في الحديث الشريف من كلية الدراسات العليا، قسم أصول الدين بجامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن، تحت إشراف أ.د. "محمد عيد الصاحب" وذلك عام 2015 م. وهذا الكتاب يتناول تعقبات الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852 هـ" في كتاب "لسان الميزان" على الإمام الذهبي "ت 748 هـ" في كتاب "ميزان الاعتدال". ونجد أن "الحافظ ابن حجر العسقلاني" قد تميز في تعقبه لغيره من العلماء الذين صنفوا في فن علم الحديث قبله، حيث له العديد من المصنفات المختلفة والمتنوعة في علوم الحديث، منها: كتب في الشروح، والرجال، وغيرها، ومن العلماء الذين تعقبهم الحافظ ابن حجر، "الإمام الذهبي" في كتابه "ميزان الاعتدال"، والتعقب فن سار عليه كثير من العلماء، وليس تقليلًا أو انتقادًا من شأن المتعقًّب عليه، بل الخروج بما هو أفضل في التصنيف في علم رجال الحديث، ولتصحيح ما وقع فيه علماء الحديث من السهو، والهفو. وتظهر في هذه التعقبات مدى أهمية المراجعة والتعقبات وأثرها في بناء الشخصية العلمية المستقلة، والملكة النقدية لدى علماء الحديث، إلى جانب الوصول إلى خلاصة القول في المسائل التي يتعقب فيها الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي ووجه الصواب فيها. وتظهر هذه الدراسة إظهار وبيان دقة الحافظ ابن حجر، وعمق علمه في بيان تلك التعقبات. إلى جانب إبراز مناهج وآداب العلماء في تحاورهم العلمي الموضوعي بعيدًا عن الأهواء. حُكِي عن شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر أنه قال: "شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ" انتهى من "ذيل طبقات الحفاظ" (ص 231). وكتاب "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام الذهبي، هو كتاب في الجرح والتعديل، وهو كتاب جامع لنقد رواة الآثار حاو لتراجم أئمة الأخبار، ألفه الذهبي بعد تأليفه "المغني في الضعفاء" الذي اعتمد فيه على كثير من المراجع، وقد زاد في "الميزان" رجالًا لم يكن ذكرهم في "المغني"، وقد ذكر المؤلف في الكتاب الرواة: الكذابين، والمتروكين، والضعفاء، وعلى الحفاظ الذين في دينهم رقة، وعلى من يقبل في الشواهد، وعلى الصادقين أو المستورين الذين فيهم لين، والمجهولين، والثقات الذين تكلم فيهم من لا يلتفت إليه. قال "الذهبي": "قد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذابين والوضاعين، ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين، ثم على خلق كثير من المجهولين". وبلغ عدد تراجمه (11053) ترجمة. أما "لسان الميزان" فهو كتاب من كتب الحديث يختص بعلم الجرح والتعديل، ألفه الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ-852 هـ)، يختص الكتاب بالمجروحين من رواة الحديث، وأصل هذا الكتاب هو كتاب "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للحافظ الذهبي، وقد قام ابن حجر بتهذيبه والزيادة عليه، وهو مرتب ترتيبًا ألفبائيًا، يترجم فيه المجروحين ذاكرًا أسمائهم وأنسابهم وأقوال العلماء فيهم، وتعرض كذلك للقراء والمفسرين والفقهاء والأصوليين والشعراء واللغويين والمتصوفة والمؤرخين إضافة للأصل الذي هو رواة الحديث، يقع الكتاب في سبعة أجزاء. وقد أشار "ابن حجر العسقلاني" إلى سبب تأليف الكتاب في المقدمة فقال: "ومن أجمع ما وقفتُ عليه في ذلك كتاب "الميزان" الذي ألَّفه الحافظ أبو عبدالله الذهبي، وقد كنتُ أردتُ نسخه على وجهه فطالَ عليّ، فرأيتُ أن أحذفَ منه أسماءَ من أخرج له الأئمة الستة في كتبهم أو بعضهم، فلما ظهر لي ذلك استخرتُ الله تعالى وكتبتُ منه ما ليس في "تهذيب الكمال"، وكان لي من ذلك فائدتان: إحداهما: الاختصار والاقتصار، فإنَّ الزمان قصير والعمر يسير، والأخرى: أنَّ رجال "التهذيب" إما أئمة موثوقون، وإما ثقات مقبولون، وإما قومٌ ساء حفظهم ولم يطرحوا، وإما قومٌ تُرِكوا وجُرحوا؛ فإن كان القصد بذكرهم أنه يعلم أنه تكلم فيهم في الجملة فتراجمهم مستوفاة في "التهذيب".. وسميته "لسان الميزان" ثم أختمها بفوائد وضوابط نافعة إن شاء الله تعالى". فكان قصد ابن حجر من تأليف الكتاب الاستدراك والتعقيب والتهذيب لكتاب "ميزان الاعتدال" للإمام الذهبي. وقد ذكر ابن حجر جميع التراجم التي في "الميزان" سوى من كان مترجمًا في "تهذيب الكمال"، وزاد زيادات ليست في "الميزان"، قال "الحافظ السخاوي" وهو يتحدث عن "اللسان": "يشتمل على تراجم من ليس في "تهذيب الكمال" من "الميزان"، مع زيادات كثيرة جدًا في أحوالهم من جرح وتعديل، وبيان وهم، وعلى خلق كثير لم يذكرهم في الميزان أصلًا". وقد بلغت تعقبات الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي (302) تعقبًا، ترجح للباحث بعد الدراسة أن الحافظ أصاب في (201) تعقبًا، أي بنسبة (66 %) تقريبًا. وبلغت التعقبات الظنية وغير الجازمة (150 تعقبًا) والتي ذكرت في الفصل الخامس على شكل إحصائية، حيث بين الباحث نوع التعقب فيها، وهي موزعة في خمسة مباحث مع التمثيل: وجاءت تعقبات الحافظ ابن حجو على النحو التالي: • كثير من التعقبات جاء الحق فيها مع الحافظ ابن حجر، فكان إذا نشط في البحث عن المسألة أغلق الباب ولم يترك لأحد بعده مجالًا للتعقيب والإضافة، وهذا من سعة علمه ودقة فهمه. • التعقبات التي لم يكن الحق فيها للحافظ ابن حجر ( ١٠١)، فيما ظهر للباحث ويرجع ذلك إلى عدة أسباب: أ- تغاير النسخ وتباينها، فقد ينقل ابن حجر شيئًا ويتعقبه وهو في نسخة أخوى على الصواب. ب- الجزم بالقول دون التقصي والتحقيق، فقد يجزم بقوله ولا يتحقق منه، وذلك أنه قد ينشط أحيانًا ويضعف عن البحث في حين آخر. ت- نقل الكلام من المصدر مجتزئًا ويكون المنقول عنه قد بين الصواب فيما بعد، أو أن يكون له قولان فينقل واحدًا وينتقده. • ظهر للباحث أن الذهبي كثير النظر والنقل من "كتاب الضعفاء" لابن الجوزي، وفي بعض الأحيان ينقل كلام أبي حاتم منه دون الرجوع إلى كتاب أبي حاتم. • حصل للحافظ ابن حجر وهم وتناقض في بعض تعقباته في كتبه، فقد يحكم بصحبة راو في "اللسان" وينفيها عنه في "الإصابة". • لم يستطع الباحث الجزم بترجيح على آخر في بعض التعقبات، فكان التوقف فيها هو الأسلم، والتوقف عند عدم القدرة على الترجيح هو منهج علمائنا منذ القدم. • رأى الباحث في دراسة هذه التعقبات والتي بلغت أكثر من (300) تعقبًا أن الحافظ ابن حجر امتاز بروح الموضوعية وعدم التعصب فكان الحق غايته، ومعرفة الصواب هدفه . • هناك بعض الكتب التي رجع إليها الحافظ ابن حجر إما مفقودة وغير موجودة في مكتبتنا، وإما طبع منها أجزاء يسيرة، فمن الكتب التي رجع إليها الحافظ في اللسان وهي مفقودة كتاب (الضعفاء) للأزدي، وكتب ابن أبي الفوارس كـ(الوفيات) وغيرها، و(الصحابة) للديلمي، و(الحافل) للنباتي، و(ذيل الميزان) للحسيني، وبعض الكتب طبع منها أجزاء يسيرة كـ(معرفة الصحابة) لابن منده، و(غرائب مالك) للدارقطني، و(الرواة عن مالك) للخطيب. ونجد أن دراسة التعقبات تسهم في فتح باب النقاش والحوار والنظر في أقوال الآخرين وعرضها على ميزان النقد لمعرفة الحق في كثير من الخلافات بين العلماء. كما تبين لنا من الدراسة أن القيمة العلمية لتعقبات الحافظ ابن حجر واضحة من خلال استدراكاته وإضافاته وتحريراته الكثيرة على الإمام الذهبي، لكن الحافظ ابن حجر يحاكم الامام الذهبي في عدد غير قليل من هذه التعقبات وفق منهجه هو، كما في قضية إثبات الصحبة فهو يرى أن الصحبة تثبت بمجرد الرواية صحت أم لم تصح، وهذا ما لا يراه الإمام الذهبي، وبالتالي سيكون الاختلاف في قوليهما أمرًا طبيعيًا، وكذلك تعقب الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي لإيراده لبعض الأئمة في كتابه "الميزان" لا مبرر له، وقد بين الإمام الذهبي أن ذكره لهم ليس تضعيفًا، وإنما للذب عنهم. • أخل الامام الذهبي بشرطه لبعض الرواة حسب تعقبات الحافظ ابن حجر، وقد نص على ذلك الحافظ في مواضع كثيرة، منها ما كان الحق فيها مع الحافظ، ومنها ما كان مع الإمام الذهبي، وقد التزم الإمام الذهبي في الغالب بشرطه في "ميزان الاعتدال"، لكن ببعض التعقبات حوكم الإمام الذهبي على منهج الحافظ ابن حجر. • تبين لنا من خلال البحث أن الحافظ ابن حجر عالم موسوعي، وذلك من خلال تعقباته في كتابه "لسان الميزان"، على الإمام الذهبي في كتابه "ميزان الاعتدال"، والتي تنوعت في جوانب حديثية كثيرة. ونجد أن دراسة التعقبات تثمر عن بيان جهود العلماء الحديثية الحثيثة، ومعرفة مكانتهم العلمية، وتزويد المكتبة الإسلامية بكثير من الكتب المفيدة التي لا يسع طالب العلم جهلها؛ لما فيها من تحقيق لكثير من المسائل المهمة التي قد يترتب عليها العمل ببعض الأحاديث، أو ترك العمل بها، وكذلك بالنسبة للرواة قبولًا وردًا، ونحو ذلك من المسائل الحديثية. وصاحب "الميزان" هو الإمام الحافظ المؤرخ الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي. ولد رحمه الله سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة من الهجرة. كان والده شهاب الدين أحمد بن عثمان يمتهن صناعة الذهب المدقوق، وقد برع بها وتميز، فعُرف بالذهبي. قال الصفدي في ترجمة والده: "برع في صناعة الذهب، وكان في يده مثل اللهب". وكان الذهبي رحمه الله تعالى واسع العلم جدًا، غزير المعرفة بالعلوم الشرعية، من عقيدة، وفقه، وحديث، وقراءات، وأصول، وغيرها، مع فهمها على منهج السلف الصالح. وكان رحمه الله رأسًا في معرفة الحلال والحرام، إمامًا في الحديث وعلومه، ناقدًا بصيرًا، إمامًا في علم التراجم والتاريخ، قويًا في السنة، شديدًا على أهل البدعة، قائمًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. قال التاج السبكي رحمه الله: "أَجَازَ لَهُ أَبُو زَكَرِيَّا بن الصَّيْرَفِي، وَابْن أبي الْخَيْر، والقطب ابْن أبي عصرون، وَالقَاسِم بن الإربلي. وَطلب الحَدِيث وَله ثَمَانِي عشرَة سنة، فَسمع بِدِمَشْق من عمر بن القواس، وَأحمد بن هبة الله بن عَسَاكِر، ويوسف بن أَحْمد الغسولي، وَغَيرهم. وببعلبك من عبد الْخَالِق بن علوان، وَزَيْنَب بنت عمر بن كندي، وَغَيرهمَا. وبمصر من الأبرقوهي، وَعِيسَى بن عبد الْمُنعم بن شهَاب، وَشَيخ الْإِسْلَام ابْن دَقِيق العيد، والحافظين أبي مُحَمَّد الدمياطي، وَأبي الْعَبَّاس بن الظَّاهِرِيّ وَغَيرهم... وَسمع بالإسكندرية من أبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد الغرافي، وَأبي الْحسن يحيى بن أَحْمد بن الصَّواف، وَغَيرهمَا. وبمكة من التوزري وَغَيره. وبحلب من سنقر الزيني وَغَيره. وبنابلس من الْعِمَاد بن بدران. وَفِي شُيُوخه كَثْرَة. ومن أشهر مشايخه الذي أخذ عنهم، وتأثر بهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وعن تلاميذه قال السبكي: "سمع مِنْهُ الْجمع الْكثير" انتهى من "طبقات الشافعية" (9/ 103). ومن أعلامهم: • الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، صاحب التفسير. • الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن الحسن بن محمد السلامي. • صلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي. • شمس الدين أبو المحاسن، محمد بن علي بن الحسن الحسيني، الدمشقي. • تاج الدين أبو نصر، عبد الوهاب بن علي السبكي. وقد أثنى عليه وعلى علمه ودينه أهل العلم: فقال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله في ترجمته: "الشَّيْخ الامام الْحَافِظ الْهمام، مُفِيد الشَّام، ومؤرخ الإسلام ناقد الْمُحدثين وَإِمَام المعدلين والمجرحين: شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بْن عُثْمَان التركماني الفارقي الأَصْل، الدِّمَشْقِي، ابْن الذَّهَبِيّ، الشَّافِعِي، ومشيخته بِالسَّمَاعِ والإجازة نَحْو ألف شيخ وثلاثمائة شيخ، وَكَانَ آيَة فِي نقد الرِّجَال، عُمْدَة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، عَالما بالتفريع والتأصيل، إِمَامًا فِي الْقرَاءَات، فَقِيها فِي النظريات، لَهُ دراية بمذاهب الْأَئِمَّة وأرباب المقالات، قَائِما بَين الْخلف بنشر السّنة وَمذهب السّلف " انتهى من "الرد الوافر" (صـ 31). وقال ابن كثير رحمه الله: "الشَّيْخُ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ، وَشَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، خُتِمَ بِهِ شُيُوخُ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ" انتهى من "البداية والنهاية" (18/ 500). وقال الصفدي رحمه الله: "حَافظ لَا يجارى، وَلَافظ لَا يبارى، أتقن الحَدِيث وَرِجَاله، وَنظر علله وأحواله، وَعرف تراجم النَّاس، وأزال الإبهام فِي تواريخهم والإلباس، من ذهن يتوقد ذكاؤه، وَيصِح إِلَى الذَّهَب نسبته وانتماؤه، جمع الْكثير، ونفع الجم الْغَفِير، وَأكْثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مُؤنَة التَّطْوِيل فِي التَّأْلِيف" انتهى من "الوافي بالوفيات" (2/ 114). وقال تاج الدين السبكي رحمه الله: "وَأما أستاذنا أَبُو عبد الله: فَبَصر لَا نَظِير لَهُ، وكنز هُوَ الملجأ إِذا نزلت المعضلة، إِمَام الوُجُود حفظًا، وَذهب الْعَصْر معنىً ولفظًا، وَشَيخ الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَرجل الرِّجَال فِي كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صَعِيد وَاحِد فنظرها، ثمَّ أَخذ يخبر عَنْهَا إِخْبَار من حضرها. وَهُوَ الَّذِي خرّجنَا فِي هَذِه الصِّنَاعَة، وأدخلنا فِي عداد الْجَمَاعَة، جزاه الله عَنَّا أفضل الْجَزَاء، وَجعل حَظه من غرفات الْجنان موفر الْأَجْزَاء" انتهى من "طبقات الشافعية" (9/ 101). وقال الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله: "طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وعني بهذا الشأن، وتعب فيه، وخدمه، إلى أن رسخت فيه قدمه، وتلا بالسبع، وأذعن له الناس". وقال عنه الشوكاني رحمه الله: "الْحَافِظ الْكَبِير المؤرخ... مهر فِي فن الحَدِيث، وَجمع فِيهِ المجاميع المفيدة الْكَثِيرَة". قَالَ الْبَدْر النابلسي فِي مشيخته: "كَانَ عَلامَة زَمَانه فِي الرِّجَال وأحوالهم، جيد الْفَهم، ثاقب الذِّهْن، وشهرته تغني عَن الإطناب فِيهِ" انتهى من "البدر الطالع" (2/ 110). له مصنفات كثيرة متنوعة، منها: • "ميزان الاعتدال". • "سير أعلام النبلاء". • "تاريخ الإسلام". • "الكاشف". • "المغني". • "مختصر سنَن الْبَيْهَقِيّ". • "طبقات الْحفاظ". • "طبقات الْقُرَّاء". • "التجريد فِي أَسمَاء الصَّحَابَة". • "تلخيص المستدرك". • "مختصر تهذيب الكمال". • "مختصر تَارِيخ نيسابور" للْحَاكِم. • "مختصر ذيل ابْن الدبيثي". • "مختصر الْمحلي" لِابْنِ حزم. • "مختصر الزهد" للبيهقي. • "مختصر الضعفاء" لابن الجوزي. • "كتاب العلو". • "كتاب العرش". • "كتاب الأربعين في صفات رب العالمين". • "رسالة التمسك بالسنن والتحذير من البدع وغيرها". وغيرها من الكتب النافعة. وتُوفِّي - رَحمَه الله تَعَالَى - لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ثَالِث ذِي الْقعدَة، سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، وَدفن من الْغَد بمقبرة الْبَاب الصَّغِير من دمشق. أما صاحب "اللسان" ابن حَجَر العَسْقلاني (773 - 852 هـ = 1372 - 1449 م) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حَجَر . • من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. • ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ. • وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاويّ: (انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر). • وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. • وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. • وله عدد كبير من المصنفات من أهمها: • (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة). • (ذيل الدرر الكامنة). • (الإصابة في تمييز أسماء الصحابة) • (لسان الميزان)، تراجم. • (الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام). • (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف). • (ألقاب الرواة). • (تقريب التهذيب) في أسماء رجال الحديث. • (تهذيب التهذيب) في رجال الحديث. • (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة). • (تعريف أهل التقديس) ويعرف بطبقات المدلّسين. • (بلوغ المرام من أدلة الأحكام). • (المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس)، أسانيد وكتب. • (تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث). • (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) في اصطلاح الحديث. • (المجالس). • (القول المسدَّد في الذب عن مسند الإمام أحمد). . • (تسديد القوس في مختصر الفردوس للديلي). • (تبصير المنتبه في تحرير المشتبه). • (رفع الإصر عن قضاة مصر) • (إنباء الغمر بأنباء العمر). • (إتحاف المَهرة بأطراف العشرة) حديث. • (الإعلام في من ولي مصر في الإسلام). • (نزهة الألباب في الألقاب). • (الديباجة) في الحديث. • (فتح الباري في شرح صحيح البخاري). • (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير). • (تغليق التعليق) في الحديث.
معاوية بن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في كتابه الماتع «الدولة الأموية» يسرد لنا د. يوسف العش طرفًا من سيرة الصحابي الجليل سيدنا معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُجليًا جوانبَ من شخصيته الفذَّة، ومُنْصِفًا في عرض سيرته العطرة التي تركَتْ بَصْمتَها في التاريخ الناصع لأُمَّتِنا الإسلامية الغرَّاء، فرحِمَ اللهُ سلفَنا الصالح الذين نتقرَّب إلى الله تعالى بحبِّهم وموالاتهم والترحُّم والترضي عليهم في كل آنٍ وحين. • إن طبع معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصفاته النفسية وعقليتَه كانت في المستوى الذي يُوفي مسائل تلك الساعة حقَّها، فهو رجل ذلك العصر، كان كفؤًا بالإدارة؛ إذ عاناها عشرين عامًا قبل أن يُصبِح خليفةً، فأحسنَها وعرفَها وعجَنَها، ثم كان كفؤًا بالحرب، فقد حارب الروم فغلبهم في مواقع كثيرة، وقد حارب عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكسب في المرحلة الأخيرة من حربه معه. ثم إنه عارف بالرجال، يفهم نفسيَّتَهم وأطوارَهم، ويمتزج بتلك النفسية والأطوار فيُسيِّرها نحو هدفه، ويُحسِن التصرُّف بها كل الحسن، يسوس الناس بما ينبغي أن يُساسُوا به، فينقلبون عليه متودِّدين طائعين مُقدِّرين ظروفه. وهو بعيد النظر كل البُعْد، فهو لا يدرس مسائل الساعة وحدها؛ بل يرى من خلالها خطوطًا للمستقبل عليه رَسْمها ووَضْعها موضِعَ التنفيذ. هذا البُعْد في النظر والعُمْق في درس الأشياء يُرافقه صبرٌ شديدٌ، وتحمُّلٌ للمشاقِّ دون تضجُّر وتأفُّف، ويُرافقه أيضًا حِلْمٌ شديدٌ وتواضُعٌ كبيرٌ يصل به إلى أن يفتح صدره لجليسه، ويرفعه إلى أكثر مما ينبغي، وهذا يُرضي الجليس ويُرضي العربي خاصة. • ومعاوية بعد ذلك كله يُعمِل فكره وسياسته في كل أمرٍ، فيدرك بالسياسة ما لا يُدرك بالسيف، والسياسة عنده طويلة الباع، بعيدة الأغوار، تتناول كل تفصيل، وتنظر إلى كل خبر، فكأنه يودُّ أن يطَّلِعَ على كل شيء. • ونُضيف إلى ما تقدَّم كرمه، فقد كان كريمًا لا يُدانى في كرمه، فالأموال تُغدَق من بين يديه دون حساب، وهو لا يعدها حين يُعطيها؛ لكنه يُحسِن التصرُّف فيها، فلا يُعطيها إلا إذا عادَتْ عليه بفائدةٍ، ولا يتصرَّف فيها إلا في محلِّها، فهي خادمة له تؤدي أوامره وتُعطيه غاياته، وكان معاوية سيدًا عربيًّا يتحلَّى بكلِّ المزايا التي يجب أن يتحلَّى بها السيد العربي، مع سُؤْددٍ وعظمةٍ، وهيبةٍ وفصاحةِ لسانٍ، وتجوال في المعاني والأفكار، فلا يَدَع إنسانًا يسبقه في بلاغته إلا متغاضيًا عنه أو متواضعًا أو متساهلًا، وسياسته عملية، فهو يعرف من أين تُؤكَل الكتف، وكل شيء عنده يلبس لباس السياسة، على أنه لباس زاهٍ جميل. • أما الإسلام فمعاوية يرى أن يخدمه في الفتوح، وهو في الفتوح قائد كبير له فيه يد كبيرة، فقد كان من سياسته، وهو والٍ على الشام، أن يُسيِّر الفُتُوحَ وينشر الإسلام، ويُوسِّع رُقْعَته، واستمر على ذلك بعد أن أصبح خليفة. وهناك ثلاث جبهات: أ- الغربية: فالعرب كانوا قد وصلوا إلى جهات تونس اليوم، وأخذوا يتقدَّمون نحو الغرب؛ لكن القبائل البربرية كانت تقاومهم بشدة وتُندِّد بهم، وأقام معاوية رجلًا عظيمًا قائدًا لتلك الجبهة وهو «عقبة بن نافع»، فسار في الفتوح، وأخضع عددًا كبيرًا من القبائل البربرية، فدخلوا في الإسلام، وخير ما فعل هو حماية العرب من الهجمات الغادرة؛ إذ أسَّس لهم القيروان، ومنها كانت تسير الفُتُوح ثم تعود البعوث إليها. ب- وأما في الشرق فالبطل هو المُهلَّب بن أبي صُفْرة، يحارب الترك، ويسير في بلادهم، ويعود منها منتصرًا، وله انتصارات مُهِمَّة فيها. ج- والجبهة التي كان يهتم بها معاوية خاصة هي جبهة الرُّوم، فقد نظَّمَ أمره فيها تنظيمًا جيدًا، فأحدث الشواتي والصوائف، وهي بُعُوث تسير إحداها للحرب في الصيف والأخرى في الشتاء. ثم أولى الخليفة الأسطول لفتح القسطنطينية من البَرِّ والبحر اهتمامًا خاصًّا، فأنشأ أسطولًا حربيًّا عظيمًا، عدد سفنه ألف وسبعمائة سفينة، وهو أسطول ضخم، واستطاع به فتح بعض الجزر، وامتدَّ الأسطول أيضًا إلى القسطنطينية بعد أن استطاع أن ينتصر في معركة «ذات الصواري»، فقد انتصر فيها على الرُّوم نصرًا مؤزَّرًا، على أن الصعوبة كانت في تلك النار التي يقذف بها الروم على السفن فتحرقها، وتُعرَف بالنار الإغريقية. وحدث أن معاوية عام 48 هـ جهَّز جيشًا عظيمًا لفتحها، وكان فيه عدد كبير من الصحابة، منهم: أبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، وابن الزبير وابنه يزيد، وسار الجيش حتى بلغ أبوابَها، وأبلى بلاءً حسنًا فيها، وكان من أفراده مَن يطلب الموت لأجل الشهادة، على أن الجيش لم يستطِعْ اقتحام المدينة من البَرِّ، وهي مُحصَّنة خيرَ تحصينٍ، فاستشهد عدد كبير، وقد حفظ الأتراك قبور الشهداء، وبصفة خاصة قبر أبي أيوب الأنصاري، وكانت ملوكهم تتوَّج بالخلافة في ضريح أبي أيوب، وفشلت الحملة خاصة؛ لأن النار الإغريقية أحرقت السفن؛ لكن فشلها لم يُثْنِ معاوية عن متابعة شواتيه وصوائفه دون جدوى كبيرة. • أوجد معاوية نظام الوراثة في الخلافة، واعتقد أن هذا النظام يحل المشاكل التي يمكن أن تقع في الصراع بين التيارات المختلفة، ولعلَّه تخيَّل أنه لو ترك الأمر لحين وفاته دون وليٍّ للعهد لظهر الخصام حالًا، ولتنافر المسلمون وتقاتلوا، فيجب عليه إذن أن يعهد بولاية العهد لشخصٍ معين، واندفعت عاطفة معاوية نحو ابنه يزيد ليتَّخذ له البيعة، على أنه كان بصيرًا في ترتيب تلك البيعة، فلم يقُمْ بها دون رويَّةٍ بل أعَدَّ لها عُدَّتَها، وأوَّل ذلك أنه أرسل إلى زياد [وهو أخو معاوية وكان واليًا على العراق] يستشيره في شأنها، وكأنه يطلب بذلك موافقته عليها، وكان جواب زياد بعد أن استشار مستشاريه أن يتريَّث معاوية، ولعلَّه يُشير بذلك إلى أنه يجب أن يبدو يزيد بأحسن مظهر من مظاهره، فيتخلَّى عن صِفَتَيه المعيبتين [الكسل والاستهتار] ويُقبِل على الجِدِّ، ويهتمُّ بشئون المملكة أكثر من ذي قبل، وقَبِل معاويةُ بتلك النصيحة.
عن الشورى وقوة الرأي الشورى هي طلب الرأي من الآخر أو الآخرين في أمر لا يستطيع فيه الفرد اتخاذ القرار جملة واحدة، ولا يبلغ درجة الاطمئنان والسكينة فيه إلا بمشاركة الآخرين، وهي بهذا الاعتبار قيمة أساسية من جملة القيم التي على أساسها يتم التحكم في الصراع بدرجة عالية، وتوجُّه القوة فيه توجيهًا سليمًا؛ والله تعالى يقول: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. ذكر ابن عبدالبر في (اختصار المغازي والسير): "نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار عليه الحبَّاب بن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك، وقال لرسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء؛ فنشرب ولا يشربون، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه" [1] . وذكر ابن كثير القصة في كتاب (البداية والنهاية) قال: "قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامضِ بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي" [2] . إن المنزل الذي حدده الصحابي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، الذي هو أدنى وأقرب ماء من معسكر المشركين يمثل رأيًا فرديًّا يصب - تبعًا لتقديره - في مصلحة الجماعة، وقد تأكد صحة هذا التقدير والرأي بعد أن رضِيَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاحقًا بعد انقضاء الحرب. هذا الرأي لم يكتمه الصحابي الحباب بن المنذر رضي الله عنه؛ لأن مصلحة الفرد هي عين مصلحة الجماعة، ومصلحة الجماعة هي ذاتها مصلحة الفرد، وأهداف الفرد هي أهداف الجماعة، وأهداف الجماعة هي ذاتها أهداف الفرد، إنه تمازج الكل في الواحد، والواحد في الكل، وتفكير وتخطيط الواحد، هو تفكير وتخطيط الكل، إنها إرادة واحدة وثابتة، لا متعددة ومتباينة. والرأي الذي أشار به الحباب بن المنذر، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم به، يوضح أهمية الشورى، وكان هذا الرأي عاملًا مهمًّا في انتصار المسلمين، وهي قوة سخرها الله للصحابي الحباب بن المنذر. ولنا في هذه القصة جملة من الفوائد أو بالأحرى الدروس والمبادئ، التي يقرها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: 1- أن الصحابي الحباب بن المنذر أشار بالرأي باعتباره فردًا من الأمة والجيش الإسلامي المجاهد، ويهمه ما يهمه؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم)) [3] . 2- لم تكن اعتبارات صغر سن الصحابي الحباب بن المنذر لِتمنعَه من إبداء الرأي. 3- أنه لم يكتم رأيًا يتوقع فيه أن يكون سببًا في النصر، وإلحاق الهزيمة بالعدو. 4- الإحساس الكبير بالمسؤولية، والانتماء للدين والدعوة. 5- لم تكن أخلاق وسلوك جيش الإسلام فوضوية، كأن تتم المشاورات ووضع الخطط دون الرجوع إلى قائد الجيش، بل على العكس من ذلك تمامًا، فإن إبداء الصحابي لرأيه يمثل قمة الانضباط والربط. 6- يمثل رأي الصحابي الحباب بن المنذر قوة سخَّرها الله له. 7- قبول النبي محمد صلى الله عليه وسلم لرأي الحباب بن المنذر يعني إشراكه صلى الله عليه وسلم لكافة أفراد الجيش في صنع القرار. 8- يمثل قبول قائد الجيش لرأي أحد من أفراد جنده دفعة معنوية عالية لذلك الفرد، بل لكل أفراد الجيش. 9- قبول قائد الجيش مبدأ الشورى والأخذ به هي أبلغ دلالة على وجود المبادئ الإسلامية السامية؛ مثل: مبدأ المساواة والعدل، والإنصاف والتكامل، والتكافل بين الجميع. 10- يمثل قبول قائد الجيش محمد صلى الله عليه وسلم لرأي الصحابي الحباب بن المنذر إشراكَ كافة أفراد الصف الإسلامي في القرار، وتحمل المسؤولية. 11- يمثل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الصحابي الحباب بن المنذر محصلة بينة للتفكير الجماعي، والمشاركة والوصول للقرار السليم. 12 - الاتحاد والوحدة في جسد الأمة الواحد. 13 - يمثل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الصحابي الحباب بن المنذر تقديرًا من القائد الأعلى للجيش لكافة أفراد الصف الإسلامي، ومساواتهم في الحقوق والواجبات. 14 - يمثل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الصحابي الحباب بن المنذر تطبيقًا فعليًّا لقيمة الشورى في الميدان. 15 - الرأي يُؤخذ من الصغير مثلما يُقبل من الكبير، سواء بسواء. 16- توفيق الله سبحانه وتعالى وهدايته الصحابي الحباب بن المنذر للرأي السليم. 17 - قوة الرأي هي من الأدوات المكملة والمتممة لجاهزية الجيش الإسلامي. 18 - محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؛ قال الله جل وعز: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. 19 - تعديل خطط الحرب وفق ما تقتضيه الضرورة، هو من صفات القادة العظماء، وأفضل وأعظم قائد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. 20 - أدب وخشية الصحابي الحباب بن المنذر في خطابه: (أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟). [1] ابن عبدالبر، تحقيق شوقي ضيف، الدرر في اختصار المغازي والسير، القاهرة: مؤسسة دار التحرير للطباعة والنشر، ط.1، 1966، ص113. [2] أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثالث، بيروت: مكتبة المعارف، ط.1، 1991، ص267. [3] محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، الجزء السابع، بيروت: المكتب الإسلامي، ط.1، 9791، ص562.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العلمنة - الإفلاس) في ضوء الحديث عن العلمنة محدِّدًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب وكون العلمنة نبتت في الغرب، وجرت محاولات تصديرها إلى الشرق والعالم على أنها من معطيات الحضارة الغربية، هناك من يتحدث عن قرب إفلاس الحضارة الغربية، ويرى أنها مسألة متحققة، من دون أن تكون هناك قدرةٌ على التوقيت، فوقت الإفلاس ليست مسألة قابلة للتخمين، رغم أن هناك من يعطي عقدًا من الزمان يتحقق فيه ذلك. سبب التأكد من تحقق الإفلاس أن هذه الحضارة قامت على المادة على حساب المُثل، والإنسان مُثُل ومبادئُ قبل أن يكون مادة،وأن الإنسان يتحقق بالمثل والمبادئ أولًا ثم تتحقق الماديات، فليس هناك إغفال للماديات، ولكن المؤسف أن المادة هي التي طغت، مما يؤذِن بالإفلاس،وفي تضاؤل المثل والمبادئ في المجتمع الغربي وفي أي مجتمع تهون النفس، ويهون الشرف، ويهون العِرض، وتختلط الأنساب، وتفشو الأمراض، وتتصدع الأسر، وتخرب البيوت، ويضيع المجتمع؛ فيضيع الناس؛ فيفسد الكون. هو ضياع غير معلن وغير معترف به مباشرة، وإنما هو مسوغٌ بالحرية الفردية، بما في ذلك الحرية في التحايل على الحصول على الذرية، واحتدامها مع القوانين الموضوعة، رغم أن هناك صرخاتٍ مدويةً من المربين والمفكرين، ولكنها صرخاتٌ غير مسموعة إلا من قلة قليلة من الناس ضئيلة التأثير؛ ذلك أن صرخاتهم تخاطب العقل، بينما الشهوة تخاطب القلب والعاطفة،وعلينا أن ندرك أن الفطرة مولودة مع الإنسان، وأنه ميالٌ إليها، باحث عنها، مستعد للتخلص مما ينافيها ويناقضها. في سبيل ذلك تقع المسؤولية على الذين يدركون هذه الفطرة ويسيرون عليها ويوجهونها التوجيه الصحيح،فليس من المصلحة التفرج على هذا الإفلاس في الحضارة الغربية من دون تقديم البديل المناسب، الذي نعتقد أنه يمكن أن يحقق التناسب بين المثل والمبادئ والماديات، ويوازن بين طلبات العقول وطلبات القلوب، فلا يهمل بعضها على حساب بعض، ولا يسلط بعضها على بعض. يتحقق ذلك في الإسلام الذي يحتاج من أهله إلى التطبيق الصحيح عقيدة وعملًا وممارسات أولًا، ومن ثم يقدم للآخر بالحكمة عن طريق القدوة أولًا، ثم عن طريق وسائل التقديم الأخرى،ومن دون إبراز مفهوم الحكمة والقدوة لا يمكن تقديمه للآخر؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. من وسائل القدوة أن تنتشر الدعوة ومراكز الفكر ومؤسسات العناية بمصادر التشريع الإسلامي المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والمصادر الأخرى المعروفة لدى ذوي الشأن ومدارسها في طول البلاد الإسلامية وغير الإسلامية وعرضها، وتقوم هيئات القطاع الثالث المعنية بهذا الشأن، ويشرف عليها هيئة علمية عالية عرفت بخدمتها للإسلام وعلومه واستمرارها في الرغبة في رعاية هذه المؤسسات والهيئات؛ إذ كان الجامع الأزهر وجامعته بمصر وجامعة الزيتونة بتونس وجامعة القرويين بالمغرب والجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية وغيرها من الجامعات في الهند وباكستان ومدارس ومراكز إسلامية في الشرق والغرب، تقوم بهذه المسؤولية على خير وجه، وترعاها الدولة ويتابعها مديروها والمسؤولون فيها. من وسائل الحكمة والقدوة أن يقيض في الأمة من يتابع أبناءها ويشجعهم على الإسهام في ترسيخ مفهوم الذكر المحفوظ؛ فقد أراد الله تعالى له أن يحفظ نصًّا وروحًا خاليًا من التحريف والعبث الذي أراده الله تعالى للكتب السماوية السابقة عليه. ليس أجمل من أن تتآزر المؤسسات العلمية الأكاديمية شرق المعمورة وغربها وشَمالها وجنوبها مع المؤسسة التي أنيطت بها العناية بالشؤون الإسلامية في هذه الدنيا؛ تتآزر على العناية بشؤون الإسلام بالطاقات العملية، وبالقرار الإداري، وبالدعم المستمر من القيادات السياسية، ومن الموسِرين،ويتطلَّب هذا قدرًا من الإرادة والاقتناع.
سلبيات الانغماس في الواقع الافتراضي لا شكَّ أن الشبكة العنكبوتية، وهواتف الاتصال الذكية، مكَّنَت الناس من التواصل المباشر فيما بينهم بشكل سهل وسريع، ولا ريب أن تلك المزايا تُحسَب كإيجابياتٍ نافعةٍ لتكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية في هذا العصر، إلا أنها تظل في ذات الوقت وسائلَ ذات تأثير اجتماعي سلبي، بما أفرزته من ظاهرة العزلة بين الناس، والانغماس الشديد في الواقع الافتراضي، كبديل وهمي للواقع الحقيقي، بعد أن اعتاد المستخدمون اللجوء إلى فضائه المفتوح في كل الاتجاهات؛ هربًا من صخب تداعيات عصرنة الحياة، لا سيما وأنهم باتوا يجدون فيه ضالتهم في التصفُّح، والتواصل مع الآخرين، على مزاجهم، الأمر الذي جعلهم يفقدون دفء العاطفة الاجتماعية الحية تدريجيًّا، بعد أن تم تهميش تواصلهم الوجاهي المباشر بعزلة موحشة، نتيجة انغماسهم التام في هذا الفضاء الافتراضي الوهمي. ولعل انتشار أجهزة التواصل الرقمي الذكية، على نطاق واسع بين مختلف شرائح المجتمع، ساعد على إتاحة استخدامها بين الجمهور على نطاق واسع وبسهولة، بما تتضمنه تطبيقاتها من سرعة، وسهولة إمكانية الدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي المرغوبة منها، وغير المرغوبة منها، لا سيما وأن التعامل معها بات ثقافة عصر لا مناص من التكيُّف والتعايش معها، على نحو واعٍ ورشيد. وإذا ما كان يتعذَّر التخلي عن استخدام الشبكة العنكبوتية، وبالتالي استحالة الحد من التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي فيها من الناحية الفعلية على ما يبدو، تحت وطأة قلق المستخدمين من أن يفوتهم شيء ما من معروضاتها، وتهافتهم على أن يكونوا على اتصال دائم بالإنترنت استجابة لهذا الدافع، وهروبًا من واقعهم الحقيقي المزعج، فإنه ليس هناك من خيار في هذه الحالة، سوى العمل على التعايش بوعي مع الحال، وتوعية المستخدمين لترشيد الاستخدام، لغرض الحد من ظاهرة الانغماس التام في الفضاء الرقمي، وتجنب الدخول إلى المواقع ذات المحتوى الهابط المسيء للقيم والأخلاق الحميدة، وتفادي حالة الإدمان على الوجود الدائم في واقعه الافتراضي الزائف، الذي يستهلك الوقت، ويهدر الإمكانات، ويستنزف الطاقات، ويشغل المؤمن عن العبادة، وذكر الله تعالى.
قصة الأشاعرة لعمار خنفر صدر حديثًا كتاب "قصة الأشاعرة" ، تأليف: د. "عمار خنفر" ، نشر "مكتبة دار الحجاز للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب مسرد تاريخي لنشأة هذه الفرقة، وما هي أصول مذهبها؟، وما مدى موافقة منهجها للقرآن والسنة؟ ونجد أن فرقة الأشاعرة من الفرق الإسلامية التي دار حولها لغط كبير في سلامة منهجها، ومدى توافقه مع الشرع الحنيف، فبينما يذهب أهل الحديث إلى كونها من الفرق المبتدعة، خالف البعض ذلك واعتبرها من الفرق التي طرحت المذهب الوسط الجامع بين العقل والشرع، وأسهمت في تطوير الفكر الإسلامي، لذا يعرض د. "عمار خنفر" في هذا السفر الماتع - طوال قرابة تسعمائة صفحة - دراسة تاريخية موثقة بالأدلة والنقول عن حقيقة هذه الفرقة، حيث يفتح ملف فرقة الأشاعرة منذ ظهور شيخهم الأكبر "أبي الحسن الأشعري" وحتى وقتنا هذا؛ حيث ذكر أصول عقيدتهم وأصولهم الغريبة عن الإسلام، وكافة حججهم وشبهاتهم فيها، والأسباب والدوافع الحقيقية التي أدت إلى تمسكهم بهذه الأصول، كما يتولى المؤلف الرد عليها حجةً حجةً، ويفندها، ويبين فسادها وبعدها عن روح الإسلام. وقد قسَّمَ كتابه إلى عدة مباحث بدأ فيها بمقدمة تاريخية عن حقيقة المذهب الأشعري، وظهوره، وأهم أصول عقيدتهم، ثم تلاها ببيان ضلالات الأشعرية، وسرد بأهم النزاعات المذهبية للأشاعرة، وأهم افتراءات علماء الأشاعرة على علماء السنة كابن تيمية وغيره، حيث أسهب في هذا المبحث في أهم تعقبات ابن تيمية لأصول مذهب الأشاعرة، في إطار ردوده الواسعة على كثير من الفرق الضالة عن الإسلام في كتبه ومناظراته، كما تناول المؤلف أحوال الأشاعرة الجدد، وفيه رصد لزمن آخر تجديد للمذهب الأشعري، والسمات العامة لمنهج الأشاعرة الجدد وما يميزهم عن أسلافهم، وترجمَ لأهم أعلامهم المعاصرين، ودخولهم في إطار الفرق الضالة الأخرى المباينة لمذهبهم كالصوفية والمرجئة وما يطلق عليهم العصرانيون الجدد. والكتاب ثري دسم كما يتضح من أغلب الموضوعات التي ضمها فهرسه، ويطرح قضية هامة من القضايا المذهبية الدخيلة على عالمنا الإسلامي والتي تواصلت عبر قرون عديدة حتى وقتنا الحالي. وجاء الكتاب في ستة أبواب على النحو التالي: الباب الأول: حقيقة المذهب الأشعري، في أحد عشر فصلًا: الفصل الأول: ظروف تأسيس المذهب. الفصل الثاني: مسألة تجدد الخلق. الفصل الثالث: مسألة إنكار السببية. الفصل الرابع: مسألة العلة والغرض. الفصل الخامس: مسألة الحسن والقبيح. الفصل السادس: مسألة الكسب. الفصل السابع: مسألة التكليف بما لا يطاق. الفصل الثامن: مسألة كلام الله. الفصل التاسع: مسألة خبر الواحد. الفصل العاشر: مسألة وجوب النظر. الفصل الحادي عشر: مسألة التوحيد. الباب الثاني: جذور المذهب الأشعري، في فصلين: الفصل الأول: الجذور القريبة: المعتزلة والكلابية. الفصل الثاني: الجذور البعيدة: الفلاسفة والنصارى. الباب الثالث: مثالب الأشاعرة، في خمسة فصول: الفصل الأول: من شنائع الأشاعرة. الفصل الثاني: عن أبي الحسن الأشعري. الفصل الثالث: من ضلالات الأشاعرة. الفصل الرابع: فتنة علم الكلام وعاقبة المشتغلين به. الفصل الخامس: الأشاعرة والصوفية. الباب الرابع: تاريخ الأشاعرة، في ثلاثة فصول: الفصل الأول: المرحلة الأولى: ولادة المذهب. الفصل الثاني: المرحلة الثانية: شيوع المذهب. الفصل الثالث: المرحلة الثالثة: سطوة المذهب. الباب الخامس: النزاعات المذهبية للأشاعرة، في أربعة فصول: الفصل الأول: بين الأشاعرة والحنابلة. الفصل الثاني: حقيقة محنة الشيخ ابن تيمية. الفصل الثالث: افتراءات الأشاعرة على ابن تيمية. الفصل الرابع: مناقشة دعوى أن الأشاعرة أكثر الأمة. الباب السادس: الأشاعرة الجدد، في ستة قصول: الفصل الأول: أحوال الأشاعرة الجدد. الفصل الثاني: زاهد الكوثري. الفصل الثالث: سلامة القضاعي العزامي. الفصل الرابع: أبو حامد بن مرزوق. الفصل الخامس: محمد سعيد رمضان البوطي. الفصل السادس: محمد صالح الغرسي.
تأملات (١٧): الحُبُك (النسيج الكوني) لقد أمرنا الله بتلاوة آياته وتدبرها؛ الآيات القرآنية؛ فقال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]. والمقصود بالتدبُّر كما قال الطاهر بن عاشور عند تفسيره لهذه الآية: "تحدَّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحداهم بألفاظه" [1] . فتدبر القرآن يكون في مقاصده، وفي دلالة آياته ومعانيها، فالتحدي قائم في نَظْمِهِ وترابطه، وما تحمله تلك الألفاظ من معانٍ؛ ولهذا قال أبو سليمان الخطابي المتوفى سنة ٣٨٨: "وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأمور؛ منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية، وبأوضاعها التي هي ظروف المعاني، والحوامل لها". ثم علَّل ذلك مبينًا أن الكلام لا يقوم إلا بأمور ثلاثة؛ فقال: "لفظ حامل، ومعنًى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدتَ هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه" [2] . والقصد من كلامه بيانُ أن ألفاظ القرآن تحمل معانيَ كثيرة، ومعانيها لا تتناقض ولا تنتهي؛ فهي متجددة، وهناك ترابط بين اللفظ والمعنى؛ بحيث إذا أخذت أحد الألفاظ من مكانه، فلا تجد لفظًا يقوم مقامه، ويصلح ليحل محله، كما عبَّر عن ذلك بعض البلاغيين. مثل: الثوب المحبوك (المنسوج) ، خيوطه مترابطة ومحكمة، ومتقنة النسج غير مختلة؛ وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى وهو يصف كتابه فقال: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]. قال الطاهر بن عاشور عليه رحمة الله: "والإحكام: إتقان الصنع، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف؛ وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرِض لنوعها؛ أي جُعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع، ومن أخلال المعنى واللفظ" [3] . وهنا نقف عند الآية السابعة من سورة الذاريات؛ وهي قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ [الذاريات: 7]، لنتأمل هذا اللفظ فيما يحمله من معانٍ دقيقة، وتصوير بليغ. فما هو الحبك؟! قال الطاهر بن عاشور عند تفسيرها: "والحُبُك: بضمتين جمع حِباك؛ ككِتاب وكُتُب، ومِثال ومُثُل، أو جمع حبيكة؛ مثل طريقة وطُرُق، وهي مشتقة من الحَبْك بفتح فسكون؛ وهو إجادة النسج، وإتقان الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحُبُك السماء نجومها؛ لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. ورُوي عن الحسن وسعيد بن جبير، وقيل الحبك: طرائق المجرة التي تبدو ليلًا في قبة الجو. وقيل: طرائق السحاب، وفُسِّر الحبك بإتقان الخَلْقِ؛ رُوي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة [4] . وخلاصة ما ذكره أن لها معانيَ؛ منها: النسيج المتقن والمحكم، أو الطرائق. وهذان المعنيان هما اللذان حُمل معنى لفظة (حبك) عليهما. وقد استوعب القرطبي عليه رحمة الله في تفسيره الأقوال فيها، وذكر قولًا عن الضحاك، ونسبه أيضًا للفرَّاء، فيه زيادة معنى، قال: "الرابع: قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حُبُك، ونحوه قول الفراء، قال: الحُبُك تكسر كل شيء؛ كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وفي حديث الدجال: ((أن شعره حُبُك) )؛ قال زهير: مكلَّل بأصول النجم تنسجُهُ ريح خريق لضاحي مائه حُبُكُ ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها" [5] . وسوف أضع صورًا لتكسُّر الرمل والماء لتوضِّح هذا المعنى، وما فيهما من تشابه مع الصور التي نراها لشكل المجرات. ولفظة (الحبك) تستعمل في كثير من الكلام بنفس المعنى السابق؛ كما في القاموس: "حبك الحبل: فتله فتلًا شديدًا، حبك الشيء: شدَّه وأحكمه، عمل محبوك: متقَن، حبك المؤامرة: أحكم خطتها، حبك الشيء: أحكمه، حبك الثوب: أجاد نسجه، حبك القصة: أجاد صياغتها، حبك العقدة: قوى عقدها ووثَّقها، حبك الأمر: أحسن تدبيره" [6] . وكلها لا تخرج عن معنى الإتقان والإحكام والجودة والتقوية. ولتقريب المعنى للقارئ الكريم سأضع صورًا لبعض الأدوات والأشياء التي تُحبك؛ ليشاهد بعينه الإتقان والإبداع في (الحبك) بصورة مصغرة، لينتقل القارئ، ويرفع رأسه باتجاه السماء، وينظر إليها بعينه التي في رأسه، ومن خلال التلسكوبات الحديثة، ليرى الإتقان والإحكام، والجودة والنسج، والترابط والمسافات المضبوطة، مع كثرة النجوم والكواكب والمجرات، والحركة المستمرة والدوران، ولكن كل يعرف طريقه ومهمته، وليس هناك اختلال في هذا النسيج ولا فساد ولا بطلان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27]. وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]. وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8]. فخَلْقُ السماوات والأرض لم يكن عبثًا، ولا باطلًا، بل فيهما الحكمة والعِبرة البالغة. دعونا ننتقل إلى ما توصل إليه العلماء بعد استكشافهم لهذا الخلق العظيم فيما يتعلق بالسماء من نجوم، ومجرات، واتساع، ودوران، ودخان، وأبراج ... وغيرها. توصلوا إلى أن الكون كالنسيج وسموه "بالنسيج الكوني"، وسبحان الله كيف دلهم على التسمية التي في القرآن ونطقوا بها! ذات الحبك: ذات النسج المتقن المحكم. فما هو تعريف "النسيج الكوني" عند علماء الفضاء؟ النسيج الكوني هو: تلك الشبكة غير المرئية أو الهيكل غير المرئي الذي يربط مكونات الفضاء والكون بعضها ببعض من نجوم، ومجرات، وغازات كونية؛ بحيث لا يكون توزعها عشوائيًّا في الكون، ويتكون من أنسجة أو خيوط كونية متداخلة من التجمعات النجمية والغازات الممتدة عبر الكون يفصل بعضها عن بعض فراغات عملاقة، بتجانُسٍ مذهل، وعظمة مطلقة [7] . ومما وجدت في هذا الموضوع من الأبحاث القيِّمة والرصينة والمؤصلة بحثُ الدكتور عبدالدائم الكحيل، فقد ذكر فيه سبب التسمية بهذا الاسم، ومعناها، وأكبر عملية حاسوبية قاموا بها في هذا الشأن؛ قائلًا: أضخم عملية حاسوبية على الإطلاق. لقد قام بعض العلماء من بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة قريبة بأضخم عملية حاسوبية لرسم صورة مصغرة للكون، وتم إدخال عشرة آلاف مليون معلومة في السوبر كمبيوتر، حول عدد ضخم من المجرات يزيد على 20 مليون مجرة، وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز، فإنه بقي يعمل في معالجة هذه البيانات مدة 28 يومًا حتى تمكَّن من رسم صورة مصغرة للكون. لقد تم إدخال معلومات عن توسُّع الكون، وعن سلوك النجوم والتجمعات المجرية، وعن المادة المظلمة في الكون، وكذلك تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الكوني؛ بهدف تقليد الكون في توسعه، وتحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم، وقد قال البروفسور Carlos Frenk من جامعة درهام ببريطانيا، ومدير هذا البرنامج: "إنه أعظم شيء قمنا به حتى الآن، ربما يكون الأكبر على الإطلاق في الفيزياء الحاسوبية، إننا وللمرة الأولى نملك نسخة طبق الأصل عن الكون، والتي تبدو تمامًا كالكون الحقيقي، ولذلك يمكننا وللمرة الأولى أن نبدأ التجارب على الكون". وهذا تصريح من عالم ومكتشف كبير بأنها المرة الأولى في التاريخ التي يستطيع فيها العلماء رؤية حقائق يقينية عن شكل الكون، وتوزع المجرات فيه، وقد كانت الصورة التي رسمها الكمبيوتر للكون تشبه إلى حد كبير نسيج العنكبوت، ولذلك فقد أطلق عليها العلماء مصطلح "النسيج الكوني" [8] . الذي يهمنا في هذا هو قولهم: "النسيج الكوني" التي لا تختلف عن "الحبك"، وسواء قلت: نسيج العنكبوت، أو نسيج الثوب، أو نسيج الكون، فكلها تدل على الحباكة والحبك. فهل أدركت - أخي القارئ - ما الذي نقصده عندما نقول: على وكالات الفضاء العالمية أن تسترشد بالقرآن الكريم في اختيارات التسميات لِما يكتشفوه؛ فالقرآن قد سبقهم، وسمَّى الأشياء بمسمياتها، وليس هناك تسمية أحسن من تسمية الشيء من قِبل موجِدِه وخالقه؟ أليست الشركات هي التي تسمي منتجاتها بالأسماء التي تريدها؟! فهذا الكون الفسيح له خالق ونحن وأنتم وكل من حولنا خلق من خلقه، ومن خلال آياته المقروءة والمشاهَدة يدلنا على ذاته العلية، ويسمي لنا آياته الكونية. فنقول للذين يبحثون عن الحقائق العلمية: إن القرآن هو أصل الحقيقة. وجه الإعجاز في الآية: تطابق التسمية العلمية (النسيج الكوني) للوصف القرآني (الحبك) فيما دل عليه، وكأن الله تعالى أجرى ذلك على ألسنتهم؛ ليعلموا صدق ما أخبر به القرآن، مع العلم أن هذه التسميات لا تصدر إلا عن مؤسسة مختصة بذلك، وبضوابط محددة، ولم تصدر عفوية ومن غير دراسة، والله أعلم. [1] التحرير والتنوير، سورة النساء آية: 82، ص137، المكتبة الشاملة. [2] كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ص15، فصل في أن نبوة النبي معجزتها القرآن، المكتبة الشاملة. [3] التحرير والتنوير، ص314، سورة هود آية 1، المكتبة الشاملة الحديثة. [4] التحرير والتنوير، ص341، سورة الذاريات، المكتبة الشاملة الحديثة. [5] تفسير القرطبي، ص31، سورة الذاريات، المكتبة الشاملة الحديثة. [6] انظر: تعريف ومعنى حبك في معجم المعاني الجامع، معجم عربي. [7] ^ أ ب Matt Davis (18/6/2019), "?What is the cosmic web", Big Think, Retrieved 30/1/2022. Edited [8] N Katherine Hayles, Cosmic Web, Cornell University Press, 1984.
الصفات الاقتصادية للمؤمن لا شك أن الإنسان كائن اقتصادي؛ أعني به: أنه يحتاج في طول حياته إلى كسب مال ليقضي حاجاته، وحيث إنه كائن أسري ربما يحتاج في نفس الوقت إلى كسب المال؛ لإدارة أفراد أسرته ممن تعتمد عليه نفقاتهم، وأرادتْ مشيئةُ الله تعالى لنا أن نُولد ونتربَّى ونحيا ونموت على وجه هذه الأرض التي هي دار الأسباب والوسائل، فنحن نحتاج بطبيعتنا وبطبيعة هذه الأرض إلى أشياء كثيرة، نحن نتعرض في هذه الحياة الدنيا للجوع والعطش على سبيل المثال، وكذلك نتعرض للحرارة والبرودة، يقول الله تعالى في القرآن المجيد: ﴿ فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119]. فبطبيعة هذه الدنيا حياتنا عرضة للتعب والسعي والاجتهاد، عكس ما تكون حال الحياة في العالم الأخروي، وجعل الله سبحانه وتعالى المال وسيلةً كبيرةً للإنسان للحصول على أغراضه وحاجاته. ولأجل هذا نرى أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام يشتغلون بأعمال وحِرَف متنوعة، ويكتسبون من خلالها حاجاتهم الدنيوية، جاء في القرآن الكريم عن رسولنا الكريم: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 7]، هذا مما يقضي منه أهل مكة العجب؛ أن الرسول المرسل إليهم يأكل الطعام، وأنه يمشي في الأسواق! فالإنسان مكلف بحكم بشريته وبحكم طبيعته، وطبيعة هذه الحياة الدنيوية أنه يحتاج أن يحصل على مال، ومن قديم الزمان اعتادت البشرية أن يكسب المال من خلال الأنشطة الاقتصادية؛ مما جعلت الإنسان كائنًا اقتصاديًّا كما بدأنا به هذا المقال. فالحاجة الاقتصادية للبشر هي حاجة طبيعية، وديننا الإسلامي جعل كسب الأموال فريضةً بعد فرائض أخرى، وشرَط للكسب والإنفاق شروطًا، ومن هنا تتحدَّد صفات المؤمن الاقتصادية، فهو مأمور بكسب الأموال لكن بشروط، وهي: أولًا: أن يكون هذا الكسب من حلال، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فيكون مصدر كسبه حلالًا سواء كانت التجارة أو الوظيفة أو الزراعة، فالإنسان حُرٌّ في اختيار شغله بشرط أن يكون ذلك بابًا حلالًا من أبواب الكسب. ثانيًا: أنه مأمور أن ينفق ماله في قضاء حاجاته وحاجات أفراد أسرته إن كان وليًّا لها، يقول الله تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، ويقول أيضًا: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]. ثالثًا: أنه مأمور بإنفاق المال على مَن حوله إن كان له فضل مال، يقول الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وأيضًا: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. رابعًا: أنه منهي عن الإسراف والتبذير في الإنفاق بل عليه أن يعتدل فيهما، يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، ويقول أيضًا: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]. خامسًا: جعل الإسلام المال المكسوب للإنسان وسيلةً من الوسائل للحصول على الدرجات العُلى عند الله الكريم، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث كما رواه الصحابي الجليل أبو هريرة: ((يقولُ العبدُ: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكلَ فأفنى، أو لبِسَ فأبْلى، أو أعطى فاقْتَنى، وما سِوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُهُ للناسِ))؛ (رواه مسلم). فهذه هي بعض الصفات الاقتصادية للمؤمن، فهو يعيش في هذه الدنيا ويحتاج إلى كسب المال؛ ليقضي حاجاته البشرية، وفي نفس الوقت فهو يريد من خلال أنشطته الاقتصادية المتنوعة أن ينال بها رضوان الله تعالى وثوابه العظيم في الآخرة على حسب ما تقتضيه آية القرآن الكريم: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
زَيْنَبَاتُ العِلْم والفضْل سيرة عطِرة وحضارة عبِقة بالرجوع إلى المعجم مادة (ز ن ب) نجد أن ((الزَّيْنَبَ: شجر حسن المنظر، طيِّب الرائحة، وبه سُميت المرأة))، فلا يستغرب إذًا وَصْف سيرتهن بالعَطِرة وكونُهن أسْهَمْنَ في بناء حضارة عبِقة! إنه لا غرابة البتة تعتري هذا التأصيل؛ فمن زوجات الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه الطاهرات أمُّهات المؤمنين زينبانِ: أم المساكين زينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش، ويكفي أن الرسول هو من سمَّاها زينب، فقد كان اسمها بَرَّة، ومن بناته العقيلات الشريفات زينب بنت سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جمعاوات، وزينب بنت علي بن أبي طالب، وكانت رفيعة القدر، وزينب بنت العوَّام أخت الزبير، وهي شاعرة، رضي الله عنهم أجمعين. وإذا طالعنا أعلام الزِّركلي وجدنا ما يروق ويُسعد ويَسر ويُبهج؛ فزينب (المعروفة ببنت الطَّثرِيَّة، والطَّثرِيَّة أمُّها) شاعرةٌ لها في ديوان الحماسة قصيدةٌ من عيون الشعر، في رثاء أخيها يزيد بن الطَّثرِيَّة، وزينب بنت سليمان أميرةٌ عباسية من ذوات الرأي والفصاحة، وزينب بنت زياد، شاعرة أديبة أندلسية صاحبة صيانة مشهورة ونزاهة مرموقة، وزينب الرِّفاعية الفاضلة الصالحة الفقيهة، وزينب بنت الكمال المحدِّثة الجليلة، وزَيْنَب الغَزِّيَّة شاعرة فاضلة، وزَيْنَب الشُّهَارِيَّة شاعرة نابغة وعالمة بارعة، وزينب الحرَّانية فقيهة ازدحم عليها الطلبةُ يأخذون عنها علوم الدين. أما زينب بنت إسحاق النِّفْزاوية المغربيَّة، فيكفيك أن تعرف أنها زوجة يوسف بن تاشفين، وأنها وصفت بأنها كانت: عنوانَ سَعْده، والقائمةَ بملكه، والمدبرةَ لأمره، والفاتحةَ عليه -بحسن سياستها- لأكثر بلاد المغرب! بل يَعرف تاريخُنا رجالًا أفاضل أجلَّاء يقال لهم: ابن زينب، كعبدالله بن محمد بن إبراهيم الهاشمي العباسي، أبو محمد، المعروف بابن زينب: أمير، من بني العباس، وعيسى بن عبدالله بن إسماعيل، المعروف بعيسى بن زينب: من شعراء الحماسة الصغرى ( الوحشيات ) كان من موالي بني أمية. ولم يخلُ العصر الحديث من زينبات كريمات لهنَّ في الأمة بصمات وإنجازات؛ فهناك الأديبة المؤرخة زينب بنت فَوَّاز مؤلفة "الدُّر المنثور في طبقات ربَّات الخدور"، والعالمة الفقيهة زينب بنت عبدالسلام أبي الفضل. ولا يزال العطر يسري، وستبقى الرائحة الطيبة تمضي ما تعاقبَ الليل والنهار. تحية عطرة وسلام عبق لأمةٍ مَجْدُها وعِزُّها في تراث عريق يهدي لحاضر واعد ومستقبل مشرق، بفضل الله تعالى وعونه.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العلمنة - الجذور الدينية) يرجع جورج قرم في كتابه "الشرخ الأسطوري" ما هو قائم الآن بين الشرق والغرب من فجوة إلى جذور دينية، مهما ادعت الدول الغربية علمانيتها، التي يرى أنها زعمٌ أكثر من كونها حقيقة،أدت هذه الجذور إلى بذر طفل الأنبوب في نقطة الالتقاء بين آسيا وإفريقيا قلب العالم الإسلامي والعربي. ويكرر جورج قرم هذا الأمر في مجمل كتابه، فكلما ذهب في نقاشه حول العلاقة بين الشرق والغرب عاد مرةً أخرى إلى الأسلوب الذي أُوجِدت فيه دولةٌ لليهود وطنًا قوميًّا لهم في فلسطين المحتلة. ويؤكد في ذلك جورج قرم على أن "العلمانية" في البلدان البروتستانتية نسبية، ولا تقوم على الفصل بين الدنيوي الاجتماعي والديني الذي طورته البلدان الكاثوليكية، بل أعطت الحرية في إنشاء الكنائس ودور العبادة، التي طالبت بها البروتستانتية في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية الأحادية النمط" [1] ،ويذكر أن الغربيين، لا سيما البروتستانتيين، "يحبذون دومًا إدخال الدين ضمن رؤية العالم، وتنظيم الحياة الاجتماعية، لا بل أكثر من ذلك، يستطيع سكان الولايات المتحدة تأكيد أصولهم العرقية أو تميزهم الديني من دون أن يكون ذلك مزعجًا أو محرجًا لإدارتهم" [2] . ويضيف جورج قرم القول: "وليست العلمانية في الولايات المتحدة قيمةً سياسيةً أساسًا، بل تقوم فقط على حرية الممارسة الدينية، وليس على فصل الأمور الدينية عن الأمور الزمنية" [3] . وبهذا يؤكد بعض النافذين أن المجتمع الأمريكي يبذل "قصارى جهده لكي تسير الحرية والإيمان جنبًا إلى جنب، ولكي يعلي كل منهما من شأن الآخر" [4] ،ويؤكدون كذلك في وثيقة في مطلع عام 2002م (1422هـ) أن "نظامنا علماني - رؤساؤنا ليسوا رجال دين - لكن مجتمعنا هو الأكثر تدينًا في العالم الغربي" [5] . ولذلك ولتمسُّك الغرب بوجود إسرائيل في قلب العالم العربي والإسلامي تفقد العلمانية أي مصداقية في الخطاب الغربي، مما يزيد من عمق هذا الشرخ في العلاقة بين الشرق والغرب "ولا سيما أن قيم العدالة والإنصاف التي يدَّعي الغرب تبنِّيَها تسقط كلما تعلق الأمر بدولة إسرائيل، وتفقد العلمانية أية مصداقية في الخطاب الغربي" [6] . ورغم التضييق على التعبير بحرية عن هذه الوجهة في المجتمع الغربي وترجمة هذا التعبير إلى تعاطف مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين، فإننا نجد أصواتًا، وإن كانت خافتة، قادمة من الغرب وكأنها تتحدث في خطابها بلغة الشرق، حتى لقد داست الدبابة الإسرائيلية على فتاة جاءت من الغرب إلى أرض الميعاد مناصرة الشرق، فكان مصيرها الموت الذي تبعه قدر من الصمت المطبق حتى على المستوى القانوني، ناهيكم عن المستوى السياسي،يوحي هذا بأن هناك نقمة على هذه الشرذمة،هذه النقمة لم تعد ناتجةً عن الشرق فقط، ولكنها لا تفتأ تنبت في المجتمع الغربي، ولكن هل هناك من يجرؤ على الخطاب؟! [7] . إن من يتحدث اليوم عن تعميق هذا الشرخ هو الذي يلقى رواجًا في الأوساط السياسية والإعلامية، وليس بالضرورة في الأوساط الثقافية والفكرية؛فالضجة التي أحدثها السموءل (صموئيل) هنتجنتون (ت 2008م)، في العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري/ العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي [8] ، لم تكن في نظر مفكري الغرب سوى عمل هزيل؛ حيث يصف المؤلِّفُ المقرَّبُ من أوساط الحكم وبطريقة سطحية "سيناريو لا يمت إلى الواقع بصلة عن مواجهة دينية بين الإسلام (الذي يصوره متحالفًا مع البوذية)(!) والغرب المسيحي" [9] . يقول جورج قرم عن الكتاب الهزيل صدام الحضارات: "لا يسعنا أن نفهم الذي حصده هذا الكتاب المعبر عن فوضى فكرية عارمة، وتشيع فيه ضحالة في التحليل قل نظيرها، إلا إذا أدركنا أنه يستغل إلى أقصى الحدود وجود الشرخ المتخيل بين الشرق والغرب، الذي هو صنيع الظروف الجيوسياسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي" [10] . الذي يظهر أن العرب قد أعطوا الكاتب السموءل هنتنجتون والكتاب صدام الحضارات قيمة علمية وإستراتيجية أكثر مما يستحقها، لا سيما إذا لوحظ أن أصل الكتاب تقرير مقدم إلى جهات سياسية استخبارية، فتطور التقرير إلى مقالة صدرت عام 1414هـ/ 1993م في مجلة الشؤون الخارجية Foregin Afiatrs، ثم طورت المقالة إلى كتاب، فسارع الناشرون العرب، لا سيما المتكسِّبون ماديًّا إلى ترجمته ترجمة مطولةً، وتباروا في ذلك،ولعل ما كتب عنه لدى العرب أكثر مما كتب عنه لدى غير العرب. والذي يظهر أيضًا أن المهللين للكتاب لدى الساحة الإعلامية العربية أكثر من القادحين لأفكاره في الأوساط العلمية الفكرية العربية وغير العربية،على أننا لسنا في هذا الوقت وفي غيره بحاجة إلى تعميق الهوة وتوسيع الفجوة بين الشرق والغرب لأي سبب وبأي ظرف، بل إن الوقت الآن يؤكد على الحاجة الملحة إلى تجسير الفجوة، وإغفال هذا الشرخ المصطنع؛ ذلك لأن مصلحة العالم، وليس العرب والمسلمين فقط، تؤيد، وبشدة، انتشار روح السماحة، وتقبُّل الآخر، وتوسيع هامش الحوار الإيجابي [11] . [1] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 119. [2] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق ، ص 119. [3] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق - ص 119. [4] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق - ص 119 . [5] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق - ص 121 ، وانظر كذلك: يوسف الحسن ، البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - مرجع سابق - ص 222. [6] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 152 . [7] انظر: بول فندلي ، من يجرؤ على الكلام: الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي - مرجع سابق - ص 622 . [8] انظر: صامويل هنتجنتون ، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي/ ترجمة طلعت الشايب، تقدم صلاح قانصوه - ط 2 ، القاهرة: سطور، 1999م - 225 + الهوامش ، وانظر إلى طبعة أخرى في: صموئيل هتنجنتون ، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي/ ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف - مصراتة (ليبيا): الدار الجماهيرية، 1999م - ص 390. [9] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 118. [10] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - المرجع السابق - ص 118. [11] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، صناعة الكراهية بين الثقافات وأثر الاستشراق في افتعالها - دمشق: دار الفكر، 1429هـ/ 2009م - ص 171 - (سلسلة نقد العقل المعاصر).
عبد الستار الدهلوي المكي: حياته وآثاره صدر حديثًا كتاب "عبد الستار الدهلوي المكي: حياته وآثاره (1286 - 1355هـ)"، تأليف: "عبد الله بن علي الرقيب الثبيتي"، نشر: "دار جداول للنشر والتوزيع". ويترجم هذا الكتاب لسيرة حياة "عبد الستار الدهلوي المكي" وهو محدث ومؤرخ، مِنْ أجلّ من وثَّقَ تاريخ مكة المكرمة، حيث اهتم المؤرخ "عبدالستار الكتبي الدهلوي" بالتاريخ المكي اهتمامًا بالغًا، سواء بمؤلفاته التي تركها في هذا المجال، أو بنسخه مؤلفات السابقين له من المؤرخين المكيين، أو بتذييله وتعليقه على كتابات من سبقه منهم. وقد اهتم المؤرخون منذ العصور الإسلامية الأولى بتاريخ مكة المكرمة؛ لما لها من مكانة عظيمة، كونها مهبط الرسالة، وقد تنوعت التصانيف المؤلَّفة عن مكة المكرمة، فمنها ما كُتِبَ عن تاريخها سواءً السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، ومنها ما كتب عن فضائلها وأحكامها، ومن تلك المصنفات ما عُني بتراجم أعلام مكة المكرمة. ومن هنا، أتى هذا الكتاب الذي تتبّع سيرة أحد الأعلام المتأخرين في مكة المكرمة، وهو الشيخ عبد الستّار بن عبد الوهاب الدهلوي، متتبعًا أخباره، ومنقبًا عما كتبه وقام بنسخه. ولقد اعتمد البحث واستمدّ معلوماته من مصادر أصلية، وقد شكّلت مكتبة الشيخ عبد الستّار الدهلوي الخطيّة المحفوظة بمكتبة الحرم المكي الشريف، المصدر الرئيس لهذا البحث من الناحيتين الشخصية والعلمية. ومن الكتب التي قام الشيخ عبد الستار الدهلوي بنسخها وما زالت محفوظة بخطه في مكتبة الحرم المكي، كتاب "تنزيل الرحمات على من مات" لأحمد القطان المكي، و"منائح الكرم" للسنجاري، و"الجامع اللطيف" لابن ظهيرة، و"العقد الثمين"، و"شفاء الغرام" للفاسي، و"خبايا الزوايا" للعجيمي، و"هامش الإتمام" لحسن بن عبدالقادر الشيبي، و"إتحاف فضلاء الزمن" للطبري، وغيرها من الكتب المكية. والمطالع لمنسوخات الدهلوي لا يجد نفسه أمام كتاب منسوخ وحسب، بل إنه يضيف في هوامشه من علمه ما يزيل اللبس ويكمل المعلومة، كما كان كثيرًا ما يستدرك ويصحح في الهوامش؛ ليقف القاري أمام منسوخ محقق نسبيًا، علاوةً على وضوح الخط ومراعاة العناوين الجانبية والمواضع المهمة وذلك بكتابتها في الهامش، وكتابتها في المتن بمداد مغاير غالبًا ما يكون بالأحمر للتنبيه. كما ترك عددًا من المؤلفات في التاريخ المكي والتاريخ العام، وبعض التراجم، والتي يمكن اعتبارها من أهم المصادر في تاريخ مكة المكرمة، بل نستطيع القول إنه لا يمكن لأي باحث في التاريخ المكي خصوصًا في العصر العثماني الثاني، عدم الرجوع إلى مؤلفات الشيخ عبدالستار الدهلوي، ومن ذلك: "فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي"، و"مائدة الفضل والكرم الجامعة لتراجم أهل الحرم"، و"نثر المآثر فيمن أدركت من الأكابر"، و"أزهار البستان الطيبة النشر في ذكريات أعيان كل عصر"، و"نزهة الأنظار والفكر فيما مضى من الحوادث والعبر من هبوط آدم أبي البشر"، و"أزهار البستان الطيبة النشر في ذكريات أعيان كل عصر"، و " نور الأمة بتخريج كشف الغمة" المسمى أيضًا "السلسال الرحيق الأصفى" في ستة مجلدات، و"سرد النقول في تراجم الفحول" في مجلدين، وكذلك رسالة في أنواع التوسل، ورسالة في أفعال العباد، وغيرها من المؤلفات التي تجاوزت 20 مؤلفًا. وقد أوقف الدهلوي مكتبته الضخمة عام 1313هـ، وجعل نظارتها بعد وفاته لابنه عبدالغني، ثم رجع عن ذلك وجعل نظارتها لتلميذه المؤرخ "عبدالله الغازي" صاحب كتاب "إفادة الأنام"، وما زالت مجموعة الشيخ عبدالستار من أهم المجموعات الوقفية التي تضمها مكتبة الحرم المكي. ويُمثِّل هذا البحث للأستاذ "عبد الله بن علي الرقيب الثبيتي " الدراسة الأولى الشاملة لسيرة الشيخ عبد الستّار الدهلوي بجانبيها الشخصي والعلمي، ولعلّه يكون خير مُعين لدارسي تُراث الشيخ عبد الستّار الدهلوي لاحقًا.
تكاملية المنهج لحتميَّة النتائج خلق الله عز وجل الأرض ووضع فيها القوانين التي تُسيِّرها على الهيئة المناسبة لتأدية وظائفها تبعًا للسُّنَن الكونيَّة الحاكمة لحياة البشر، وتلك القوانين هي المنهج القويم، قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، قال مجاهد الشِّرْعة: هي السُّنة، والمنهاج: هو الطريق. وقال المُبرِّد: الشِّرْعة: ابتداء الطريق، والمنهاج: الطَّريق المستمر، أما ابن الأنباري فقال: إنَّ الشِّرْعة الطَّريق الذي ربما كان واضحًا، أو ربما كان غير واضح، أما المنهاج: الطَّريق الذي لايكون إلا واضحًا، والمنهج في الاصطلاح: هو الطَّريق المؤدِّي إلى التَّعريف على الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة، والتي تهيمن على سير العقل، وتحدِّد عملياته حتَّى يصل إلى نتيجة معلومة. والمنهج بمعناه الشُّمولي العام هو مجموعة الرَّكائز والأسس والخطوات المهمة التي تُوضِّح مسلك الفرد أو المجتمع أو الأمة لتحقيق الآثار التي يصبو إليها كل منهم، فما أهمية هذا المنهج في حياة البشر؟! أهمية المنهج في حياة البشر: إن اتِّباع المنهج السليم والصحيح له فوائد كثيرة، يستطيع الإنسان استنباطها من قصص السابقين التي ذكرَتْها نصوصُ القرآن الكريم، منها السَّيْر العلمي بخطوات سليمة مُتَّسِمة بالوضوح والبيان، واختصار الطريق للوصول إلى الغاية المنشودة بأسرع وقت وأقل جهد، وضمان عدم التَّعثُّر والتَّخبُّط والسَّيْر بهوًى دون هدى، ونيل رضا الله عز وجل، وهو أسمى الغايات وأنبل الأهداف. سيدنا سليمان مع ركائز المنهج: يُذكر أنَّ سيدنا سليمان كان مولعًا بحُبِّ الخيل، وكان حُبُّه هذا ناشئًا عن ارتباط وظيفة الخيل أساسًا بالجهاد في سبيل الله؛ لذلك عزم على جعلِ تسعين من أولاده في سبيل الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأةً، تلد كلُّ امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان))، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنَثْ، وكان ذلك دَرَكًا لحاجتِه))، وفي رواية: ((لو قالها لجاهدوا في سبيل الله)). فبالرغم من أنَّ نيَّة نبي الله سليمان عليه السلام كانت خالصةً وصادقةً في تسخير كل ولده للجهاد في سبيل الله؛ إلا أنه لم يؤتَ سُؤْله؛ لغياب حلقة من حلقات المنهج؛ ألا وهي التوكُّل على الله بذكر المشيئة، وبالرغم من أنها قد تكون أسهل الخطوات من ناحية التطبيق العملي؛ إلا أنها حلقة بالغة الأهميَّة في سلسلة خطوات المنهج. إنَّ الإعداد النفسي والرُّوحي والجسدي والمادي والمعنوي واستجماع كل الأسباب هي الركائز الأُوَل في خطوات المنهج، والتوكُّل على الله والتَّنَصُّل من الحَوْل والقوة، والالتجاء بكامل الانكسار، والخضوع لحول الله وقوَّتِه هي الركيزة الثانية والتي تعدل في الأهمية سابقاتها؛ بل وقد تفوقها جميعًا! وإن الخلل ولو كان بسيطًا وغير مقصود؛ يحول دون الوصول للنتائج المرجوَّة، فالسُّنن الكونية التي وضعها الله أساسًا في هذه الأرض لا بد من استقرائها وفَهْمها على مرادها واتِّباعها بدقة وجعلها في مكانها وزمانها المناسبين، فهذه السُّنن الكونية التي هي المنهج السليم المُتَّبع لتحقيق النتائج المُتوقَّعَة لا تُحابي أحدًا، ولو حابَتْ أحدًا لكان الأنبياء أوْلَى الناس بهذه المحاباة على فضلهم ومكانتهم السامية وقربهم وحظْوتهم عند خالقهم الجليل. سيدنا موسى مع ركائز المنهج: أما سيدنا موسى فلم ينسَ تعليق أمره بالمشيئة عندما عاهد الخضر على أن يسير معه في رحلته ليتعلم منه العلم النافع، قال تعالى: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69] ؛ أي: صابرًا على ما أراه منك، ولا أخالف لك أمرًا تأمرني به، وهنا بالرغم من أنه علَّق أمره على المشيئة؛ بل وقدَّمها على ذكر الخبر تأدُّبًا مع ربِّه؛ إلا أنه لم يَصل للنتيجة التي كان يرجوها؛ لغلبة جِبِلَّته البشرية في طلب تفسير منطقي لأفعال الخضر، فاختل ركن من أركان المنهج؛ وهو عدم الوفاء بالشرط المُتَّفق عليه بينهما وهو الصبر؛ وذلك لهول ما وقع عليه عندما رأى الشر الظاهر في أفعال الرجل الصالح. أصحاب البقرة وتعليقهم طلب الهداية بالمشيئة: في مشهد مقابل تستعرض لنا سورة البقرة نموذجًا آخر يقابل النموذج الأول؛ وهو نموذج أصحاب البقرة الذين طلبوا من نبيِّهم أن يُبيِّن لهم مواصفات البقرة التي يجب أن يذبحوها معلِّقين اهتداءهم للبقرة على مشيئة الله، قال تعالى: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لو لم يستثنوا لمَا بُيِّنَتْ لهم إلى آخر الأبد))، وفي رواية: ((لولا أنَّ بني إسرائيل قالوا: ﴿ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70] لما أُعطوا؛ ولكن استثنوا))، وقَسَمُ الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ، وهو الصادق الأمين؛ بأنهم لو لم يستثنوا لما أعطوا؛ فأعطوا لاستثنائهم، بالرغم من أنهم لا يسامقون الأنبياء في مكانتهم المُشرفة والعليَّة عند رب العالمين، فنرى أن تكامل خطوات المنهج أدَّى إلى نيل الثمرة المرجوَّة، فأولًا الإعداد والأخذ بالأسباب واستيفاء كل الشروط، ثم التوكُّل، فحصد الثمرة، ولو قلنا: إن التَّوكُّل يجب أن يصاحب كل تلك المراحل، لكان الأولى ولما أبعدنا. السُّنن الكونية قوانين استهدائية: السُّنَن الكونية لا تحابي أحدًا، حتى وإن كان هذا الأحد نبيًّا مقربًا في مقامات العُلا والرِّضا، وحتى مع صدق النوايا وحُسن الطوايا، فلا بد من تكامل المنهج، باتِّباع القواعد والقوانين والضوابط التي تحقق النتائج المطلوبة للوصول. وعلى صعيد واقعنا المعاصر وما نراه من صراع ما بين الحق والباطل، كثيرًا ما نجد أهل الحق يستبطئون النصر متعجِّبين من تأخُّره، ضائقين ذرعًا باستقواء أهل الباطل وتماديهم، وقد يكون أحد أسباب هذا التأخُّر هو فقد حلقة من سلسلة الخطوات المنهجية المتبعة لتحقيق النصر، فالمراجعات مهمة، ولن نصل للنصر الذي نريد ويريده الله لنا؛ إلا باستقراء حقيقي ودقيق وفاحص لنصوص القرآن وتفعيلها في حياتنا العملية، سواء الاجتماعية أو السياسية أو التربوية أو الاقتصادية، فمن أراد أن يصِلَ فعليه اتِّباع هذه القوانين والمنهج الرباني، فالله عز وجل جعل لكل شيء قدرًا، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]؛ أي: إنا خلقنا كل شيء في هذا الكون بتقدير حكيم، وبعلم شامل، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، وقال: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، والمناهج والطرائق هي أحد هذه التقديرات الإلهية، على الإنسان استتباعها واستقراؤها واستخراجها من نصوص القرآن بالتَّدبُّر ثم إسقاطها بشكل صحيح ضمن السياق الذي تحتمله، فنصل بذلك للنتائج المرجوَّة من التمكين والاستخلاف في الأرض، قال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]، وقال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26]، فتتبُّع تلك القصص واستنباط السنن والقواعد والمناهج من قصص الأولين يقينا الوقوع في محاذير كثيرة، فضلًا عن أنه يُعجِّل استجلاب النصر واستقواء الحق بإذن الله تعالى.
الخطر المؤدلج ببث سموم المدبلج إن الحديث عن هذه المستنقعات التي تسمى مسلسَلات، وهي في الواقع مسلسِلات؛ حيث سلسلت وكبَّلت أيدي كثير من المسلمين، فما استطاعوا أن ينفضوا عن أنفسهم غبار السخف والطيش، والمسلسلات عمومًا - سواء كانت مدبلجة أو غير مدبلجة - لا تخلو من المنكرات كتبرُّج النساء والاختلاط المحرم والموسيقا، وكلمات الغرام والفحش بين العشيق وعشيقته، ومن قصص غرامية ملتهبة، وقبلات فاضحة، وخيانة للأزواج والزوجات، مع ما في حلقاتها من طول قد تصل في بعض الأحيان إلى (٣٠٠) حلقة، إلا أنك قد تجد المفتونين بها من الذكور والإناث يحرصون على متابعتها، ويعرفون أوقات عرضها وإعادتها التي تؤز النفوس إلى الشهوة المحرمة وتحرِّك الكامن فيها، وقد عددت شخصيًّا عددَ المسلسلات المدبلجة التي تعرض بأكثر من سبعين مسلسل تركي وهندي ومكسيكي وكوري وغيرها، تعرض في موسم واحد على مختلف القنوات، فهي مسلسلات مليئة بالخيانة، والتعري والخمور والاغتصاب والعنف، والعلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع حتى بين المحارم كالأخ وأخته وزوجات الأصدقاء، وهي تؤكد أنه لا يمكن للمرأة أن تعيش بدون عشيق وصديق، وتعرض على الشاشات العربية على أنها عواطف ومشاعر وحب وإعجاب، وعلاقات ورغبات، حتى تثور براكين العواطف، وتتفجر الغرائز وتتصادم مع القيم والآداب الإسلامية والعربية، ومن الطبيعي جدًّا لأي شخصية في المسلسل أن يقبل أن يكون لأمه أو لأخته أو لابنته عشيق، ويحرم عليه أن يحاسب في ذلك، فالموضوع المعروض (حرية شخصية)، ومما يعرض أن يستقبل أمر حمل أخته غير الشرعي بكل رحابة صدر، وكأن الزنا ليس محرمًا وكأن الدياثة انفتاحٌ وتطورٌ، ومما يعرض تبسيط العلاقات المحرمة بطريقة نجسة، يجعلون من الزاني والزانية أبطالًا ومثالًا يُحتذى به في النُّبل وكريم الأخلاق. وبعض المسلسلات العربية تفوق تلك المدبلجة بالفساد والسوء، ومشاهدة المسلسلات والأفلام الأجنبية فيها خطورة شديدة على العقيدة والأخلاق؛ لأنها لا تخضع للرقابة، والذين يقومون بإعدادها لا يتقيدون بأحكام الإسلام، وأن بعض القنوات انفكَّ تشفيرها، فصارت قضية الزنا علانية ومجانية. والشباب يُقبلون على المسلسلات المدبلجة هربًا من مشاكلهم اليومية، خاصة البطالة والفراغ العاطفي؛ إذ يجدون في تلك المسلسلات متنفسًا عن مكبوتاتهم، وتدفعهم المشاهدة المستمرة لهذه المسلسلات التي تصور في مجملها حياة البذخ والترف إلى احتقار مستواهم المعيشي، وبالتالي البحث عن وسائل للغنى وكسب المال حتى عن طريق سبل غير مشروعة. إخوتي الأحبة، إن من أخطر الأمور التي ترسِّخها تلك المسلسلات في نفوس الجيل عامة، هي تلك المعتقدات النصرانية والبوذية والأفكار اليهودية التي تبث داخل تلك المسلسلات، فكم من بطلٍ في تلك المسلسلات لم يستطع تحقيق الأهداف إلا بالمثول أمام بوذا أو الصليب، والتقرب إلى تلك الأوثان، ويظهر المسلسل أن لتلك الأوثان القدرة الخارقة في نصرة البطل من أحداث رعد وبرق، وأحداث كونية. وبالتالي تَضعُف عقيدة الولاء والبراء لدى المسلم، ومن الوسائل التي تغري مشاهد الأفلام بتعاطي المخدرات، فقد يُعرض فيلم عن كيفية صناعة هذه المخدرات وكيفية تهريبها، فمن باب الفضول وحب الاستطلاع، وحب المغامرة التي توجد عند بعض الشباب، قد يجرب الشاب نفسه في هذا الميدان، فيقع ضحية المخدرات، وضحية الأفلام قبل ذلك. لقد تنبَّه أعداء الإسلام لخطر هذه الأدوات، لذا فإن الإعلام الفاسد سلاح من أعظم الأسلحة المدمرة لبيوت المسلمين، وأداة من أخطر الأدوات على شريعة رب العالمين، سلاح تستعمر به العقول قبل الحقول. إننا نعيش غزوًا جديدًا، لا تشارك فيه الطائرات ولا الدبابات، غزوًا ليس له في صفوف الأعداء خسائر تذكر، فخسائره في صفوفنا نحن المسلمين، إنه غزو الشهوات، غزو الكأس والمخدرات، غزو الأفلام والمسلسلات، والأغاني والرقصات. وها هم أُولاء خبثاء صهيون في اجتماعاتهم المنعقدة عام ١٨٩٨ جعلت أهم ما يسيطرون به على المسلمين وغيرهم هو الإعلام، وخاصة عالم السينما، وأصدروا قرارًا بمنع أي يهودي من دخول السينما، ومن عرف عنه أنه يرتادها كان حكمه الإعدام، فقاموا بالاستيلاء على معظم الشركات العالمية للسينما، فرؤساؤها ومؤسسوها كلهم يهود كـمترو جولد ماير، كولومبيا، ووارنر بروس، وبارامونت، ويونيفرسال، وتوانتي فوكس، وغيرها، وقد اجتمع (8194 ‏منصرًا) وعقدوا اجتماعًا عالميًّا في هولندا مثله أكثر من خمسين دولة، وكلِّف 21 ‏مليون دولار، وكان هدفه دراسة كيفية الإفادة من البث الفضائي للتنصير والتأثير ‏على المسلمين. أيها العاكف على صنم المرئيات والفضائيات باحثًا عن المتعة الشهوانية، واللذة البهيمية، والسعادة الزائفة، أليست هذه غفلةً عن الله وذكره وعبادته؟ وعن الموت وسكرته؟ وعن القبر وظلمته؟ وعن الحساب وشدته؟ فوسائل الإعلام الخبيثة أتت لتقتل دعوة الأنبياء والمرسلين، وذلك بنشر الشبهات والشهوات، الشبهات التي تُفسد على الناس عقائدهم وإيمانهم، والشهوات التي تفسد على الناس عبادتهم، ومعاملتهم وأخلاقهم. وسد الشرع الحكيم جانب الشبهات، فقد روى الإمام أحمد والدارمي عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أن عُمَرَ بْنَ الخَطابِ رضي الله عنه أتى النبِي صلى الله عليه وسلم بِكِتابٍ أصابَهُ مِن بَعْضِ أهْلِ الكُتُبِ، وفي رواية - بنسخة من التوراة - فَقَرَأهُ على النبِي صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ، فَقالَ: «أمُتَهَوكُونَ فِيها يا بْنَ الخَطابِ؟ والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِها بَيْضاءَ نَقِيةً، لا تَسْألُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَق فَتُكَذبُوا بِهِ، أوْ بِباطِلٍ فَتُصَدقُوا بِهِ، والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أن مُوسى كانَ حَيًّا ما وسِعَهُ إلا أنْ يَتبِعَنِي». هذا حكم من نظر في التوراة التي جاء بها موسى، ويُعد الإيمان بها من أركان الإيمان، والناظر فيها مَن؟ إنه عمر الفاروق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان لَيَفْرَق منك يا عمر» ، (صحيح الجامع الصغير)، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن يكن في هذه الأمة محدثون فعمر» ؛ (متفق عليه)، ومع ذلك يَلْقَى اللوم والعتاب من النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق علماء الإسلام على تحريم النظر في كتب الفلسفة وعلم الكلام، ورأوا أن ذلك زندقة، وأن أصحابه من أهل البدع، قال الإمام الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام، وأما في جانب الشهوات، فانظر كيف حرَّم الله تعالى إشاعة الفاحشة، فحرم اتهام الناس في أعراضهم بالزنا، وضيق الباب فجعل الشهادة لا تتقبل إلا بنصاب، أربعة شهداء من العدول الأنجاب، ولو أقسم ثلاثة أنهم رأوا جريمة الزنا، لنالهم من الله العقاب، فقال الله تعالى بعد أن ذكر حد القذف وهو ثمانون جلدة: ﴿ إن الذِينَ يُحِبونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ فِي الدنْيا والآخِرَةِ واللهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور:١٩]. أفِق أيها الرجل قبل أن تقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، ثم يأتيك جواب الواحد الأحد: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، أين أنت من قوله تعالى: ﴿ قُل للمُؤمِنِينَ يَغُضوا مِن أبصَرِهِم ويَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذلِكَ أزكى لَهُم إن اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصنَعُونَ ﴾ [النور:٣٠]، أين أنت من قوله تعالى: ﴿ يَعلَمُ خائِنَةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصدُورُ ﴾ [غافر:١٩]، أين أنت من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6]، أين أنت من قوله تعالى: ﴿ إن السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُل أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسؤُولًا ﴾ [الإسراء:٣٦]، أين أنت من قوله تعالى: ﴿ والذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إلا عَلى أزوجِهِم أو ما مَلَكَت أيمَانُهُم فَإنهُم غَيرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابتَغى وراء ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ ﴾ [المؤمنون: 5 - 6]. وعلى المسلم أن يحفَظ وقته فيما يفيده وينفعه في دنياه وآخرته؛ لأنه مسؤول عن هذا الوقت الذي يقضيه بماذا استغله، قال تعالى: ﴿ أوَلَمْ نُعَمرْكُم ما يَتَذَكرُ فِيهِ مَن تَذَكرَ ﴾ (فاطر: ٣٧)، وفي الحديث: أن المرء (يسأل عن عُمُره: فيم أفناه؟)؛ (حسنه الترمذي). أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم: «.. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»؛ [رواه مسلم]. أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء» ؛ [متفق عليه]. أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان وزناهما النظر»؛ [متفق عليه]. ولنُصغي لكلام من لا ينطق عن الهوى، وهو يخاطب أُمته صلى الله عليه وسلم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَتَتَّبُعنَّ سَنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لاتَّبعتموهم)، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ قد حَرمَ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عليهم الجنةَ: مُدْمِنُ الخمر، والعاق، والديوثُ الذي يُقِر في أَهْلِهِ الخُبْثَ"؛ رواه أحمد. والحجر على صاحب الإعلام الخبيث، لئلا يثير الشبهات على عقول المؤمنين إجراءٌ رادع بحقه، فعلى الآباء والأمهات أن يقوا أنفسهم نار الله تعالى، وأن يتقوا الله تعالى فيما جعله الله تعالى أمانة في أعناقهم، وليحذروا من تمكين الفساد في بيوتهم سماعًا ومشاهدةً، وقد يسَّر الله تعالى بدائل كثيرة مباحة في تلك القنوات التي تبث الخير، وتنشر الفضيلة، وتقوي الإيمان، وتزرع الحياء، وتغرس العفاف، مع ما فيها من برامج ترفيهية للأطفال مباحة، وأخرى تثقيفية للكبار. وإذا النساءُ نشأنَ في أُميَّةٍ رضع الرجالُ جهالةً وخُمولَا وإذا المعلِّم ُ لم يكن عدلًا مشى روحُ العدالة في الشباب ضئيلَا وإذا أُصيبَ القوم في أخلاقهمْ فأَقِمْ عليهم مأتمًا وعويلَا ليس اليتيمُ من انْتهى أبواه مِن هَمِّ الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيمَ هو الذي تلقى لهُ أمًّا تخلَّتْ أو أبًا مشغولَا
التلقيح لفهم قارئ الصحيح لسبط ابن العجمي نشر دار عطاءات العلم صدر حديثًا كتاب "التلقيح لفهم قارئ الصحيح"، لسبط ابن العجمي (841 هـ)، وبحاشيته زوائد للمؤلف على صحيح البخاري، تحقيق: "محمد زياد شعبان"، نشر: "دار عطاءات العلم للنشر والتوزيع"، و"دار المنهاج القويم للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب أحد إصدارات "موسوعة صحيح البخاري" بمراجعة اللجنة العلمية بدار الكمال المتحدة. ونجد تواصل اهتمام العلماء عبر التاريخ الإسلامي بصحيح الإمام البخاري شرحًا واختصارًا وتعليقًا وتنقيحًا، ومن هؤلاء العلامة الحافظ "برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي" المعروف بسبط ابن العجمي، المتوفى سنة ٨٤١ هـ، الذي كتب على صحيح الإمام البخاري سنة ٧٩٣ هـ تعليقًا باسم (التلويح)، فزاده فيما بعد تراجم وفوائد وإعرابًا لأبناء زمانه، وسماه (التلقيح لفهم قارئ الصحيح)، الذي يقع بخطه في مجلدين ضخمين، وبخط غيره في أربع مجلدات وهو شرح مفيد فيه فوائد حسنة، كما ذكر ذلك الإمام السخاوي في كتابه (الضوء اللامع)، ولقد اختصره إمام الكاملية محمد بن محمد الشافعي المتوفى سنة ٨٧٤ هـ. وقد دعى المصنف للتأليف انتشار سماع وإسماع الصحيح ممن ليس أهلًا لذلك، مما دفع المصنف رحمه الله إلى تصنيف هذا الشرح المتوسط الذي يجنح فيه المصنف إلى المنهج التدريسي الذي يجمع فيه المصنف أشتات الفكرة في موضع واحد يسوق فيه أجزائها بترتيب سردي لا يخلو من نفس وعظي إرشادي. وأما الرواية التي اعتمد عليها في شرحه فهي رواية أبي ذر، وأما مراجع المؤلف في التصنيف فهي متنوعة جدًا أهمها في الشروح شرح شيخه ابن الملقن: "التوضيح"، وهو المقصود بقوله: (قال شيخنا الشَّارح) ثم كتاب ابن المنير: "المتواري"، و"حواشي" الدمياطي، و"تنقيح" الزركشي، رحمهم الله جميعًا، ولم يقصد رحمه الله الاستقصاء والجمع، بل البيان والشرح. يقول الكاتب في مقدمة شرحه: "ولم أضعْه للحَبْرِ الكامل، ولا للعالِم الفاضل؛ وذلك لأنَّ كُتُبَ هذا العِلْم ببلدتنا قليلة، وأنفُسَ أهله عنِ التطويل كَلِيلة، ولا يُعانونَ الفَتْشَ عن مكان الوقفِ والإرسال، ولا عدمَ اللُّقِيِّ وذلك عندَهم في "البخاريِّ" و"مسلمٍ" كالمُحال، ولا يعرفونَ زياداتِ الثقات، وقد يظنُّونَ أنَّ زيادَتَها أو تركَها كالهفوات...". ولما كان هذا الشرح للمتوسط الناقل، أو لمن لزمه العى كباقل، كما ذكر مؤلفه عنه، فإنه لا يطيل في نقل الأقوال إلا ما دعت الحاجة إليه، مع ذكر طرف الخلاف والإحالة على المطولات، ومع ذلك يذكر رأيه في المسألة الخلافية، ويورد الدليل أو الأدلة على اختياره الذي ذهب إليه. وقد اعتنى الإمام برهان الدين سبط ابن العجمي بضبط الأعلام الواردة في متن الحديث، وذلك من خلال بيان المبهمات في متن الأحاديث مع بيان الراجح عند الاختلاف. والمصنف هو إبراهيم بن محمد بن خليل البرهان أبو الوفاء الطرابلسي الأصل - طرابلس الشام - الحلبي المولد والدار، الشافعي، سبط ابن العجمي، لكون أمه ابنة عمر بن محمد بن الموفق أحمد بن هاشم بن أبي حامد عبد الله بن العجمي الحلبي ويعرف بالبرهان. ولد في ثاني عشري رجب سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بالجلوم - بفتح الجيم وتشديد اللام المضمومة - حارة في حلب. مات أبوه وهو صغير جدًا فكفلته أمه، وانتقلت به إلى دمشق فحفظ به بعض القرآن، ثم رجعت به إلى حلب فنشأ بها وأدخلته مكتب الأيتام لناصر الدين الطواشي، فأكمل به حفظه وصلى به على العادة التراويح في رمضان بخانقاه جده لأمه الشمس أبي بكر أحمد بن العجمي والد والدة الموفق أحمد، وتلا به عدة ختمات. أخذ القرآن على الحسن السايس المصري والشهاب ابن أبي الرضى وعبد الأحد بن محمد بن عبد الأحد الحراني والماجدي. وأخذ في الفقه عن الكمال عمر بن إبراهيم بن العجمي، والعلاء علي بن حسن بن خميس البابي، والنور محمود بن علي الحراني والأذرعي، وأحمد بن محمد بن جمعة بن الحنبلي، والشرف الأنصاري، والسراجين البلقيني وابن الملقن. وأخذ النحو عن أبي عبد الله بن جابر الأندلسي، ورفيقه أبي جعفر، والكمال إبراهيم بن عمر الخابوري، والزين عمر بن أحمد بن عبد الله بن مهاجر، وأخيه الشمس محمد، والعز محمد بن خليل الحاضري، والكمال ابن العجمي، والزين أبي بكر بن عبد الله بن مقبل التاجر. وأخذ اللغة عن المجد الفيروزآبادي صاحب "القاموس"، وطرفًا من البديع عن الأستاذ أبي عبد الله الأندلسي. وأخذ الصرف عن الجمال يوسف الملطي الحنفي. وجوَّد الكتابة على جماعة أكتبهم البدر حسن البغدادي الناسخ. وأخذ الحديث عن الصدر الياسوفي والزين العراقي وبه انتفع وتخرج. والبلقيني وابن الملقن وكتب عنه شرحه على البخاري في مجلدين بخطه الدقيق كما أخذ علم الحديث عن الكمال بن العجمي والشرف الحسين بن حبيب. وكان طلبه للحديث بنفسه بعد كبره، وارتحل إلى الديار المصرية مرتين الأولى في سنة ثمانين والثانية في سنة ست وثمانين فسمع بالقاهرة ومصر والاسكندرية ودمياط وتنيس وبيت المقدس والخليل وغزة والرملة ونابلس وحماة وحمص وطرابلس وبعلبك ودمشق وأدرك بها الصلاح بن أبي عمر خاتمة أصحاب الفخر. قال الحافظ السخاوي: قرأت بخطه: مشايخي في الحديث نحو المائتين، ومن رويت عنه شيئًا من الشعر دون الحديث بضع وثلاثون، وفي العلوم غير الحديث نحو الثلاثين، وقد جمع الكل من شيوخ الإجازة أيضًا صاحبنا النجم ابن فهد الهاشمي في مجلد ضخم بيَّن فيه أسانيده وتراجم شيوخه. واجتهد السبط في علم الحديث اجتهادًا كبيرًا، وكتب بخطه الحسن الكثير، قال السخاوي: قرأ البخاري أكثر من ستين مرة ومسلمًا نحو العشرين سوى قراءته لهما في الطلب أو قراءتهما من غيره عليه. ومن مصنفاته: 1- التلقيح وهو كتابنا هذا. 2- شرح على ابن ماجه. 3- المقتفى في ضبط ألفاظ الشفا في مجلد بيض فيه كثيرًا. 4- نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس في مجلدين. 5- حاشية على صحيح مسلم. 6- حاشية على السنن لأبي داود. 7- حواش على التجريد والكاشف وتلخيص المستدرك والميزان والمراسيل للعلائي واليسير على ألفية العراقي وشرحها بل وزاد في المتن أبياتا غير مستغنى عنها. 8- ونهاية السول في رواة الستة الأصول. 9- والكشف الحثيث عمن رمى بوضع الحديث. 10- والتبيين لأسماء المدلسين. 11- وتذكرة الطالب المعلم فيمن يقال أنه مخضرم. 12- والاغتباط بمن رمى بالاختلاط. 13- تلخيص المبهمات لابن بشكوال. وغير ذلك. وله ثبت كثير الفوائد فيه إلمام بتراجم شيوخه. قال السخاوي في مدحه: "وكان إمامًا علامةً حافظًا خيرًا دينًا ورعًا متواضعًا وافر العقل حسن الأخلاق متخلقًا بجميل الصفات جميل العشرة محبًا للحديث وأهله كثير النصح والمحبة لأصحابه ساكنًا منجمعًا عن الناس متعففًا عن التردد لبني الدنيا، قانعًا باليسير، طارحًا للتكلف رأسًا في العبادة والزهد والورع مديم الصيام والقيام سهلًا في التحدث كثير الإنصاف والبشر لمن يقصده للأخذ عنه خصوصًا الغرباء... وقد حدث بالكثير وأخذ عنه الأئمة طبقة بعد طبقة والحق الأصاغر بالأكابر وصار شيخ الحديث بالبلاد الحلبية بلا مدافع". ومات في سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين وثمانمائة. وقد قام المحقق بنسخ الكتاب على أصله الذي بخط المؤلف، وقام بمقابلته على القطعتين اللتين تحصل عليهما من الكتاب. وهذه النسخة الكاملة منسوخة سنة 824 هـ، في (485) لوحة برقم (435) محفوظة في مكتبة فيض الله أفندي بإسطنبول - تركيا، أما القطع الأخرى للكتاب فهي نسخة أيا صوفيا برقم (689)، ونسخة متحف طوبقبوسراي وصورتها موجودة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم (7033)، وهناك مصورة محفوظة بجامعة أم القرى برقم (1511). ووضع المحقق بالحاشية كتاب "العقد الغالي في حلِّ إشكال صحيح البخاري" لسبط ابن العجمي، وهو أمالٍ علمية أملاها المصنف أثناء إقرائه لصحيح البخاري، لشرح غريب أو بيان مبهم أو حل إشكال، وجمعها أحد تلاميذه.
كتاب "طرائق ومهارات تدريس القرآن الكريم" لعلي بن إبراهيم الزهراني صدر حديثًا كتاب " طرائق ومهارات تدريس القرآن الكريم "، تأليف: أ.د. " علي بن إبراهيم الزهراني "، نشر " مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي للقرآن وعلومه ". وهذا الكتاب يعالج طرائق ومهارات تدريس القرآن الكريم، وقد اشتمل على ثمانية فصول؛ من التخطيط إلى التقويم؛ مرورًا بالمفهوم والطرق والأساليب والوسائل والمهارات والأنشطة، وانطلاقًا من وثيقة معايير الاعتماد الأكاديمي لمحتوى برنامج طرق تدريس القرآن الكريم في مؤسسات التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية. وهو كتاب منهجي يصلح للتدريس في الكليات والمعاهد لتأهيل معلمي القرآن وحفاظه. ونجد أن هذا الإصدار يلبي حاجة التدريس في الحلقات والمدارس القرآنية في هذا العصر؛ الذي أصبح فيه تأهيل المعلم وتحقيقه للأهداف التربوية مرتبطًا بإكسابه المعرفة والخبرة والتدريب. وقد انقسم الكتاب إلى مقدمة وتعريف عام بمقرر طرائق ومهارات تدريس القرآن الكريم ، ثم تلته فصول الكتاب على النحو التالي: الفصل الأول: المدخل إلى تدريس القرآن الكريم. الفصل الثاني: مفهوم التخطيط لتدريس القرآن الكريم وأهدافه. الفصل الثالث: تنفيذ تدريس القرآن الكريم. الفصل الرابع: طرق وأساليب تدريس القرآن الكريم. الفصل الخامس: الوسائل التعليمية وتطبيقاتها في تدريس القرآن الكريم. الفصل السادس: مهارات وأساليب تقويم تدريس القرآن الكريم. الفصل السابع: الأنشطة التعليمية المصاحبة لتدريس القرآن الكريم وطرق تنفيذها. الفصل الثامن: المهارات التربوية لتدريس القرآن الكريم. وهذه المهارات التي فصلها الكاتب ويحتاجها مدرس التحفيظ هي: أولًا: مهارة التدرج. ثانيًا: مهارة مراعاة خصائص النمو. ثالثًا: مهارة الاتصال الفعال. رابعًا: مهارة التعزيز التربوي وإثارة الدافعية. خامسًا: مهارة مراعاة الفروق الفردية. سادسًا: مهارة إدارة الحلقات والمدارس القرآنية. وقد اشتمل الكتاب على رسوم بيانية توضح تقسيماته، وخلاصات لفصوله، وأسئلة تعين الطالب على قياس مدى تحقيقه لأهداف الكتاب. أ.د. "علي بن إبراهيم الزهراني" الأستاذ بقسم أصول التربية في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، من مؤلفاته: • "التربية الإيمانية الصحيحة: وأثرها في تحصين الشباب ضد الغزو الفكري". • "مهارات التدريس في الحلقات القرآنية".
من كُتَّاب الوحي أُبَيُّ بن كعب الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لأُبَيٍّ: ((إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأَ عَلَيْكَ، قالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قالَ: اللَّهُ سَمَّاكَ لِي، قالَ: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي)). وفي روايةٍ عنه رضي الله عنه قال: قال رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: ((إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [البينة: 1]، قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبَكَى)). الشرح: أُبَيُّ بن كعب الأنصاري: الخَزْرَجي أبو المنذر المَدَني سيد القراء، أحد كُتَّاب الوحي، وأحد الذين جمعوا القران الكريم في عهد رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ، توفي سنة 20 أو 22، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه. إن الله أمرني أن أقرأ عليك: المراد بالقراءة النبوية عليه قراءة التعليم لكيفية الأداء ومواضع الوقوف، لا قراءة الاستذكار والحفظ. قال أُبيٌّ رضي الله عنه يريد التثبت والاسْتِيْقَان [1] : آلله سمَّاك لي؟ بهمزة الاستفهام الداخلة على همزة (أل) في لفظ الجلالة، فأصلها "أألله سمَّاك لي؟" فأُبدلت همزة الوصل في (أل) ألفًا، كما هي القاعدة، فصارت "آلله"، وإنما أراد التثبت والاسْتِيْقَان رضي الله عنه؛ لأنه استعظم الأمر، واسْتَقْصَر مقامه أن يصل إلى تلك المكانة الرفيعة، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ﴿ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم: أي: سمَّاك الله لي، وعند الطبراني: نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى. فجعل أُبيٌّ يبكي: أي: شرع يبكي، وبكاؤه هذا ناشئ عن الخشية لعدم القيام بشكر تلك النعمة العظيمة، أو لما أفعم [2] قلبه وملأه من الفرح بنعمة الله والسرور بها، وكثيرًا ما يغلب الفرح والسرور على الإنسان حتى يبكي؛ على حد قول القائل: هجم السرور عليَّ حتى إنه من عِظَمِ ما قد سرَّني أبكاني وقد بَيَّن الشارح الحكمة في قراءة النبي صلى الله وسلم على أُبيٍّ هذه السورة بعينها، ومن الحكم في اختيارها أن فيها طرفًا من قصة الذين كفروا من أهل الكتاب؛ وهم اليهود، وأُبيٌّ رضي الله عنه أنصاري خَزْرَجي، وكان قد خالط اليهود وعلم علمهم، فأراد الله تعالى أن يزيده علمًا بهم وبمكرهم وكفرهم وعنادهم، علاوة على ما أشارت إليه السورة الكريمة من قواعد الدين وأصوله وفروعه ومهماته، إلى آخر ما ذكره الشارح رضي الله عنه، وفي هداية الباري لَخص المراد تلخيصًا حسنًا، فقال: الخطاب لأُبيِّ بن كعب، والمراد بالقراءة قراءة التعليم لكيفية الأداء ومواضع الوقوف، لا قراءة استذكار، وخص هذه السورة بالذكر؛ لِما احتوت عليه مع وجازتها من التوحيد والرسالة، والإخلاص والكتب المُنَزَّلة، وذكر الصلاة والزكاة، والمعاد وبيان أهل الجنة والنار. بعض المراجع والفهارس: 1 - البخاري ص 246، رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أُبيِّ بن كعب. 2 - وفي التفسير: سورة لم يكن...؛ قسطلاني، ص7، ص 429. 3- هداية الباري ص 98. 4 - زاد المسلم. 5- فتح الباري. 6 - ورواه مسلم أيضًا في فضائل أُبيِّ بن كعب وجماعة من الأنصار، ح 16، ص 20، وزاد في الشرح قليلًا، فيحسن الرجوع إليه. [1] طلب اليقين والتأكيد. [2] ملأه.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العلمنة - الانبهار) من جميل ما يتابع المتابع: هذا الحوار القائم الآن بين الشرق والغرب، الذي أخذ أشكالًا متعددة من أساليب الحوار، فهناك الحوار العلمي من خلال البعثات العلمية التي انتقلت من الشرق إلى الغرب، فتعلمت هناك العلم، فعادت إلى بلادها وهي تحمل معه بعض المثل التي لا تتفق كلها بالضرورة مع المثل التي يتمثلها الشرقيون. هناك الحوار الثقافي الذي كان من نتائج الحوار العلمي، ولم يكن فقط نتيجة له؛ لأن هناك من تأثر بالشرق من الغربيين، فتوجه إليه بالرحلة والقراءة والكتابة والرأي. كما أن هناك من انبهر بالغرب من الشرقيين ثقافيًّا؛ فحفظ أقوال الغربيين الكثر، من علماء النفس والاجتماع والفلسفة وغيرها، فأضحينا نسمع عن هؤلاء مقولات تنسب إلى ديكارت وكانت وماكس فيبر وجوته ونتشة وكارل ماركس وهيغل وجان بول سارتر وجان جاك روسو وفولتير ودوركايم ورينان وتوجي وبرنارد شو، والقائمة طويلة،ومعظم هذه الأسماء قد رسخت هذه الفجوة بين الشرق والغرب، وأنهما لا يلتقيان، لا سيما أفكار هيغل التي تصدى لها، أو لمعظمها، كارل بوبر في كتابه المجتمع المنتفخ وأعداؤه، حيث أصبحت فلسفة هيغل جديرةً بالاهتمام والتحليل، بسبب نتائجها المشؤومة - حسب قول بوبر - التي شخصت العالم بثنائية توحي بأنها متناقصة، بل متناحرة من منطلق "نظام البديهات" التي ركز عليها هيغل في كتاباته. إذا كان الغرب غربًا واحدًا فإنه "لم يعد هناك وجود للغرب بالمعنى الجغرافي والأنثروبولوجي للكلمة؛ لأن الثقافة الغربية " فرنجت " العالم، ومن ضمنه المجتمعات الشرقية، حيث المعارضة للهيمنة الغربية هي الأكثر احتدامًا"، كما يقول جورج قرم في كتابه شرق وغرب: الشرخ الأسطوري [1] . كذا الشرق بالنسبة للغرب لم يعد شرقًا واحدًا؛ فهناك الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى،والشرق الأوسط هو الذي تعرض لألوان من الحوار، كان منها الحوار الحربي، حينما وصلت الفتوح الإسلامية مشارفَ فرنسا غربًا، ثم مشارف فينَّا عن طريق الشرق، بل وصلت إلى جبال الألب [2] ، وتخللتها الحروب الصليبية التي كانت موجهة إلى منطقة الشرق الأوسط، ثم زُرِعَت دولة قومية أو وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلة، ليستمر هذا النوع من الحوار العنيف بين الشرق والغرب. ثم في الشرق الأقصى برزت فكرة " الخطر الأصفر "، حين أعلن الغرب هذا الشرق عالمًا غريبًا،ويتجلى هذا مثلًا في الصورة الساخرة والمهينة التي رسمها الأدب الغربي الشعبي لليابانيين والصينيين "قصيري القامة"، ذوي الوجوه الصفراء، والأسنان البارزة، والقامات المنحنية، والنفوس التي يكتنفها الخداع والغموض"،ولم يسكت "الشرق أقصويون" عن هذا، فبادلوا الغربيين باحتقار مماثل؛ إذ إن الصينيين واليابانيين "يرون في الإنسان الغربي الأبيض نموذجًا للبربري المبتذل والغضوب وغير القادر على التحكم بمشاعره، والذي يريد بأي ثمن فرض دينه وتجارته"،كما ينقل جورج قرم في الشرخ الأسطوري [3] . إلا أن الخطر الأصفر قد بدأ في الزوال منذ أكثر من خمسين سنة مضت بعد أن حقق الشرق الأقصى إنجازات باهرة في المجال الاقتصادي، لا سيما اليابان، والآن ماليزيا والصين وكوريا [4] . يمضي جورج قرم في تحليل هذا المفهوم الذي فرض حائطًا كبيرًا وطويلًا بين الشرق والغرب، بما في ذلك تقسيم العالم إلى آريين وساميين، على طريقة إرنست رينان وجورج دوميزيل وميرسيا إلياد، مع إعطاء كل جنس خصائصه،ومن المتوقع أن يصدر هذا التصنيف العرقي عن إرنست رينان المتقدم زمنيًّا، وكذلك يصدر من نظرة جون كافن في تصنيفهما للساميين، وكونه ليس إيجابيًّا، بينما يتمتع الآريون بسمات القدرة على العيش والتحضر والتفكير ونحوها من مقومات الحياة [5] . هذا الشرخ الأسطوري نما وترعرع في ضوء هذا الحوار العنيف، وتكرر طرحه حتى صدقه الناس إلى حد كبير، لكنه لم يكن صحيحًا، ولن يكون صحيحًا مهما قيل عنه ذلك؛ إذ إن الشواهد الحضارية ومشاركة الأجناس الشرقية والإفريقية في بناء هذه الحضارة الحديثة لدليلٌ " أنثروبولجي " قويٌّ على دحض هذا التوجه، على ما يقوم به علماء وفلاسفة غربيون، ناهيكم عن الشرقيين، أمثال إدوارد سعيد وجاك ج.شاهين وريجيس دوبريه ويورغن هابرماس وإربك هوسباوم ونعوم تشومسكي [6] ، وغيرهم كثير. ليس من المصلحة في هذه المنطقة، وهي تتبنى دينًا عظيمًا، أن يُعمَّق مثل هذا الحوار العنيف الذي يزيد من هذا الشرخ، ويضخم الفجوة؛ فإن الحوار مع الآخر ينبني على أن الناس مخلوقون من ذكر وأنثى، وأنهم جُعلِوا من الله تعالى شعوبًا وقبائل لتتعارف، وتبقى الأفضلية بينهم مرهونة بالتقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. [1] انظر: جورج قرم ، شرق غرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 43. [2] انظر: محمد السماك ، عندما احتل المسلمون جبال الألب - التسامح - ع 13 (شتاء 1426هـ/ 2006م) - ص 254 - 280. [3] انظر: جورج قرم ، شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 43. [4] انظر: مهاتير محمد وشنتارو إيشيهارا ، صوت آسيا: زعيمان آسيويان يناقشان أمور القرن المقبل - بيروت: دار الساقي، 1998م - ص 125 ، وانظر كذلك: مهاتير محمد ، خطة جديدة لآسيا - ترجمة فاروق لقمان - دار الإحسان: بيلاندوك للنشر، د . ت - ص 230 . [5] انظر: حسن الباش ، صدام الحضارات: حتمية قدرية أم لوثة بشرية؟ - دمشق: دار قتيبة، 1423هـ/ 2002م - ص 25 - 28. [6] انظر: نعوم تشومسكي ، الدول المارقة: حكم القوة في الشؤون الدولية/ ترجمة محمود علي عيسى - دمشق: نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2003م - ص 274.
شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل لشهاب الدين الخفاجي صدر حديثًا كتاب "شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل"، تأليف: "شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي" (ت 1.69 هـ)، تحقيق: "عليوة عبد النبي محمد وهد"، نشر "دار ابن كثير للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يصدر في ثلاثة مجلدات، وهو قاموس للكلمات والعبارات الاصطلاحية وأسماء الأعلام التي أخذتها اللغة العربية من لغات أخرى، حيث جمع فيه صاحبه الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية، والتي استخدمها العرب في كلامهم دون أن يكون لها جذر في مواد العربية الأصلية. وتناول أيضًا المعاني الدخيلة، التي تتعلق بألفاظ هي عربية في الأصل، لكنها استخدمت لمعان غير معانيها الأصلية، وبين أن هذه الألفاظ والمعاني بعد تعريبها أصبحت عربية، وورد بعضها في القرآن الكريم والسنة النبوية. ويُعد كتاب "شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل" تاريخًا معجميًا رائعًا للغة العربية الفصحى والعامية. والكتاب ثري بالقضايا اللغوية لطبيعة موضوعه ولثقافة الخفاجي الموسوعية وتأخره، فقد استوعب كثيرًا من آراء من سبقه من اللغويين. ونجد أن من أهم موارد المؤلف في كتابه كتاب "المعرب" للجواليقي، فقد استفرغ المؤلف كتاب الجواليقي في كتابه: مختصرًا ومعلقًا ومناقشًا. غير أنه أضاف على ما جاء في كتاب "المعرب" الكثير في كتابه؛ فمادة كتابه (1465) مادةً، وبذلك زادت مادة كتابه عن ضعفي كتاب (المعرب) للجواليقي. كما أنه أضاف إلى كتابه: ما أطلق عليه: المعرب المولد، ثم المولد بأنواعه، ثم كثيرًا من الكلمات التي أصابها اللحن على أيدي العوام. وقد جمع الخفاجي مادته اللغوية من بطون عدد كبير من الكتب اللغوية والأدبية وغيرها، في شتى العصور، بدءًا من العصر الجاهلي، وانتهاءً بعصره، فجاءت مادته وافرة في بابها، مقارنة بما سبقه من المؤلفات في مجال الدخيل. كما تعرض الخفاجي لقضايا لغوية مهمة، كالظواهر الصوتية: التغيير الصوتي، والإبدال للتعريب، وقضايا الدلالة في المفردات والتراكيب، كما تعرض لبعض الظواهر الصرفية كالاشتقاق والقياس والسماع. وقد اعتمد المحقق في إعادة طباعة الكتاب على عدة نسخ خطية، مقارنًا بينها وبين الطبعات السابقة للكتاب، كما قام بترقيم مواد الكتاب، وذكر المصادر التي وردت فيها من كتب اللغة، ومن معاجم المعرب والدخيل. والمؤلف شهاب الدين أحمد الخفاجي (1571 أو 1572-1659)، وُلِد في مصر وتلقَّى تعليمه المبكر على يد والده، وهو فَقِيه بارز. واصل الخفاجي دراسته في العديد من المجالات وحصل على إجازة بتدريس فقه كل من الشافعية والحنفية. ويعد أحد شعراء العصر العثماني وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، وقاضي سلانيك، ثم قاضي مصر في عهد السلطان مراد العثماني، وهو المنصب الذي استقال منه لاحقًا من أجل السفر إلى إسطنبول ودمشق وحلب. ثم عاد إلى القاهرة، حيث يُفترض أنه أمضى بقية حياته مدرسًا، ومعلمًا لكثير من طلبة العلم. من مؤلفاته: • (ريحانة الألبا) ترجم به معاصريه على نسق "اليتيمة". • (شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل). • (شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري). • (طراز المجالس). • (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض) أربع مجلدات. • (خبايا الزوايا بما في الرجال من البقايا) مجلد في التراجم. • (ريحانة الندمان). • (عناية القاضي وكفاية الراضي) حاشية على تفسير البيضاوي، ثماني مجلدات. • (ديوان الأدب في ذكر شعراء العرب). • (السوانح) في الأدب. • (قلائد النحور من جواهر البحور) في العروض، ومعه رسالتان له أيضًا، هما (جنة الولدان) و(الكنس الجواري). • وله شعر رقيق جمع في (ديوان).
من فتوح الباري على فتية الكهف ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]. ١- الخوف على النفس من ضياع الدين، وفوات الرشد من الأمر وقت اشتداد الفتن، يستوجب الإيواء الإيماني في طلب الرحمة من الله تعالى، وتفويضه سبحانه في إرشادهم. ٢- كما يستوجب الإيواء المكاني والزمني، وفيه تضمين للصبر والمصابرة؛ ولذلك استغاثوا فقالوا: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾. ٣- الدعاء والاستغاثة بالله تعالى هو سلاح المؤمن الذي لا يستغني عنه في كل أحواله وأوضاعه، في قوَّتِه وضعفه، وفقره وغِناه، وأمْنِه وخوفه. ٤- طلبُ الرحمة والرشد من الله يُعبِّرُ عن رشدهم وقوة إيمانهم ورحمة الله بهم أن وفَّقهم لتبرئة أنفسهم وافتقارهم لله وحده، وهذا من تمام وكمال التوحيد الذي كانوا عليه. ٥- طلبُ الرحمةِ والرشد في الأمور بداية الدعاء وبداية الأعمال المشروعة مُستحب، ولعلَّها من موجبات استجابة الدعاء. ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ [الكهف: 11]، جاءت الإجابة فوريَّة ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ﴾؛ أي: أنمناهم سنين عديدة، ﴿ عَلَى آذَانِهِمْ ﴾؛ لأنها أداةُ السَّمْع، فجعلهم نيامًا لا تعمل أسماعهم؛ ليخلُدُوا في نومهم الطويل فلا يُوقِظُهُمْ شيء، وهُنَا الدَّرسُ أن الله تعالى سريعُ الإجابة لمن آوى إليه ودعاه وفوَّضَ أمْرَهُ وحالَهُ لربِّه ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾. ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾ [الكهف: 12]، بعد سنين من النوم الطويل بعثَهم الله سبحانه؛ أي: أيقظهم من نومهم، وجاءت لفظة البعث؛ لطول فترة نومهم وتشبُّهِهم بالموتى حال نومتهم. وحتىٰ يُظهر الله ضعف البشر وعجزهم أيقظَ الفتيةَ ليعلمَ المتنازعون في الله كم لبثوا نيامًا وهل يُقَدِّرُونَ تحديدًا كم لبثوا؟! ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]، ومع ما نالهم من الكرامات الربانية يشهد الله لهم بالإيمان، ويفيضُ عليهم هُداهُ لهم زيادة، لك ولأمتك قصَصْنا عليكم نبأ هؤلاء الفتية المؤمنة الذين تجردوا لله ربهم عن كل شيء؛ حفاظًا على دينهم وتوحيد ربهم. ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [الكهف: 14] ربط الثقةِ به وربط الطُّمَأْنينة وربط الثباتِ، والشُّعُور بواجبِ القيامِ ببلاغِ التوحيدِ، وإفراد الله بالعبوديةِ ونَبذ الشرك، وغيرُ ذلكَ إنَّما هو عبثٌ وباطلٌ وظُلْم. ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15]، ومن البلاغ التصريحُ والتبرؤ من شركِ قومهم، وتقديمُ البراهينِ التي تدحض افتراءهم على اللهِ بالشركِ، وأنَّهُ ظلمٌ وكذب. ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16]، إنه البُعْد ومُجافاة قومهم والتنحي عنهم لمَّا عبدوا غير الله تعالى وأرادوا فتنتهم عن عقيدتهم وتوحيدهم، وفضلوا الارتحال عنهم، ليتخذوا من الكهف مأوًى لهم؛ فكافأهم الله في نشر رحمته بهم ولهم ما داموا قيامًا على توحيدهم لربهم، وتُوحي لفظة النشر بالبسط والتوسعة والبركة والنماء، ومع نشر رحمته بهم وعدهم أن يجعل حياتهم ومعيشتهم وأمرهم مهيَّأةً ميسورةً يتجلَّى رِفْقُ اللهِ بهم ولهم كما تُوحي لفظة ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ ﴾ ولفظة ﴿ مِرْفَقًا ﴾ إلى الوُدِّ والرأفة، واللطف واليُسْر واللين. هكذا يكونُ شأن المؤمن الفتي فيما يتعلقُ بعقيدته ودينه، وهكذا يُجازي اللهُ بالإكرام والفَضْل والتفضيل من استوجب ذلك، فللهِ دَرُّهُم من فتيةٍ آمنوا بربِّهم، وزادهم ربُّهم هُدًى. ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف: 17]، بعد أن ضرب الله على آذانهم فناموا تكفَّل الله تعالى برعايتهم حتى من حرارة الشمس، فكأنك تراهم وهم نيام تميلُ عنهم الشمس حال طلوعها؛ لِئلا تُؤذيهم بِحَرِّها وتُجاوزهم حال غروبها، وجاء التعبير ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾؛ لأن طلوع الشمس وهو سطوعها تُلفتُ الرائي والمُشاهد حال ازْوِرارِها عن الكهف إلى رعاية الله وعنايته وقُدرته المُطلقة، وجاء التعبير وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ}؛ لأن الغروب للشمس يعني ذهابها وانقطاع ضوئها ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْه ﴾؛ أي: داخل الكهف، وذات اليمين وذات الشمال وطلوع الشمس وازورارها مع انقراضها حال غروبها آيات الله الظاهرة الجلِيَّة التي يهتدي بها وبمثلها من أراد الله له الهداية والرعاية، ومن هداهُ الله فلا مُضِلَّ له، ومن أضَلَّهُ الله فلا هاديَ له، ولن تجدَ لهُ مُناصرًا ولا واعظًا أو مُناصِحًا. هذه الخُلاصة الهامة لمسيرة الفتية المؤمنة المهتدية بهداية الله المسترشدة بوحدانية الله التي آوت واعتزلت مجتمع الشرك إلى كهف تجاوزوا فيه دنياهم وشهواتهم ورغباتهم وأهواءهم، فاكتنفتهم رحمات الله وهيَّأ لهم من أمرهم رشدًا ومرفقًا.
المنهجية المتكاملة في إدارة المشاريع المعاصرة لأحمد يوسف دودين صدر حديثًا كتاب "المنهجية المتكاملة في إدارة المشاريع المعاصرة"، تأليف: د. "أحمد يوسف دودين"، نشر: "دار المسيرة للنشر والتوزيع". تعد مشروعات دراسة جدوى المشاريع، والتخطيط لها من أهم مقومات نجاح أي مشروع في وقتنا الحالي، ويقصد بمصطلح إدارة المشروع: "تطبيق من المعارف، والمهارات، والأدوات، والتقنيات؛ لتحقيق مُتطلَّبات، وأهداف أيّ مشروع"، وبالتالي فهي تشمل عمليّات التخطيط، والتوجيه، والتنظيم، والرقابة على الموارد المُتنوِّعة؛ بهدف الوصول إلى تحقيق أهداف مُعيَنة، خلال فترة زمنيّة مُحدَدة. وقد تبلورت فكرة ومفهوم إدارة المشروع في الوقت الحاضر كنتاج مما أحرزته بيئة الأعمال الحديثة والصناعات المختلفة التي تتسم بالتغيير والحاجة الدائمة لتطوير أسواق ومنتجات جديدة. وتستخدم إدارة المشاريع في حياتنا المعاصرة لتحقيق مشاريع ونواتج فريدة، بموارد محدودة وتحت قيود الوقت الحرجة. وهذا الكتاب الإداري الحديث يهدف إلى تنمية وبناء المفاهيم الحديثة لإدارة المشروعات. وسيلمس الطالب والدارس لهذا الكتاب شمولية الموضوعات الخاصة بإدارة المشاريع، وسلاسة العرض مع حالات وأمثلة محلولة للجانب الكمي لإدارة المشاريع. فهذا الكتاب يتناول إدارة المشاريع من الجانب النظري والكمي، كما يتعامل مع مشاكل اختيار المشروعات، وبدئها، وتشغيلها، وتخطيطها، وتنظيمها، وجدولتها، ومتابعتها، ومراقبتها وإنهائها أيضًا. كما ويناقش هذا الكتاب كيفية اختيار مدير المشروع وطبيعة تداخل مدير المشروع مع الوظائف الأخرى في المنظمة الأم. وهو كتاب دراسي جامعي لتعليم إدارة المشاريع لمستوى البكالوريوس والماجستير، كما أنه كتاب موجه أيضًا إلى مديري المشاريع أيًا كانت المشاريع التي يديرونها، سواء أكانت مشاريع تشييد أو أبحاثًا، أو تطوير أو نظم معلومات أو مشاريع خدمية أو إنتاجية وأيًا كان حجمها. وتنقسم هذه الدراسة إلى أربعة عشر فصلًا على النحو التالي: الفصل الأول: يتعلق بالمفاهيم الأساسية في إدارة المشاريع. الفصل الثاني: يناقش كل ما يتعلق بكيفية اختيار المشروع. الفصل الثالث: اختيار مدير المشروع. الفصل الرابع: تخطيط المشروع. الفصل الخامس: يتناول تنظيم المشروع. الفصل السادس: إدارة الصراع في المشاريع. الفصل السابع: جدولة المشاريع وكيفية بناء وتصميم شبكات الأعمال للمشاريع. الفصل الثامن: يشرح أسلوب المسار الحرج ( CPM ). الفصل التاسع: يتعلق بطرق تخفيض وقت إتمام المشروع. الفصل العاشر: شرح أسلوب تقييم ومراجعة البرنامج ( PERT ). الفصل الحادي عشر: يتعلق بشرح ضبط التكاليف في ظل أسلوب ( PERT ). الفصل الثاني عشر: متابعة تنفيذ المشروع، والسيطرة على المشروع، وموازنة المشروع. الفصل الثالث عشر: مراقبة المشروع. الفصل الرابع عشر: يتناول كيفية إنهاء المشروع والتقرير النهائي المتعلق بذلك. ونجد أنه لنجاح إدارة المشاريع، لا بُدّ من توفُّر عدّة عوامل، من أهمّها: • وجود أهداف مُحدَدة مُسبقًا. • إدراك أنّ المشروع ليس عملًا روتينيًّا. • تحديد التكاليف الكُلّية للمشروع. • إدراك وجود خطورة في كلّ مرحلة من مراحل المشروع، حيث لا بُدّ من الاهتمام بالإدارة الناجحة للمخاطر، ممّا يعني تحقيق الأهداف المنشودة من المشروع. • توفُّر فريق عمل تقنيّ مُتخصِّص. • وضع موعد مُحدَد؛ لإنهاء المشروع. • التركيز على توقُّعات مالك المشروع، ومُتطلَّباته التي يرجو تحقيقها من المشروع. • الحرص على أن يكون المشروع فريدًا، بحيث لا يمكن تكراره. ود. "أحمد يوسف دودين" عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعموم الإدارية- جامعة الزرقاء بالأردن، مختص بمجال إدارة الأعمال وتنميتها، له العديد من الأبحاث والدراسات في هذا الموضوع منها: • "أساسيات التنمية الإدارية والاقتصادية في الوطن العربي". • "إدارة الأعمال الحديثة (وظائف المنظمة)". • "إدارة التغيير والتطوير التنظيمي". • "إدارة المشاريع". • "إدارة الإنتاج والعمليات". • "إدارة الجودة الشاملة". • "إدارة التسويق المعاصر". • "بطاقة الأداء المتوازنة". • "إدارة الأزمات الدولية المالية والاقتصادية".
نوح عليه السلام (6) أشرتُ في المقال السابق إلى الموقف المعجز الذي وقفه نوح عليه السلام من قومه عندما قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، وقد وقف مثل هذا المقام النبيون بعد نوح عليه السلام؛ كما ذكر الله تبارك وتعالى عن هود أنه قال لقومه وقد تحزَّبوا عليه وتجمَّعوا وأصرُّوا على الكفر والعناد: يا قوم ﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 54 - 56]، وسأنبِّه إن شاء الله تعالى على مثل هذه المقامات في مواقعها من قصص الأنبياء. وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في سورة نوح طُرق دعوته التي ينبغي لكل داعٍ إلى الله عز وجل أن يتأسَّى به فيها، وأن يحرص على سلوكها، ولو أن الدعاة من المسلمين سلكوا الطرق التي سلكها نوح عليه السلام في الدعوة إلى الله لامتلأت الأرضُ بالإسلام، ولم يبقَ في الأرض إلا دين الله الذي بعث به حبيبَه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر الله تبارك وتعالى عن نوح عليه السلام أنه كان يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهرًا حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 5 - 14]، فنوح عليه السلام كان يقضي سحابةَ نهاره وسحابة ليله في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي قوله: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ بيانٌ جَلِيٌّ لأهداف دعوة الأنبياء والمرسلين، فهي دعوة العباد لمغفرة الله عز وجل ولرضوان الله عليهم، وفي هذا النص الكريم بيان لأساليب الدعوة من أبٍ يَكبُر الأنبياء، وأول أولي العزم من المرسلين نوح عليه السلام، وقد شرح نوح عليه السلام في هذا المقام آثارَ الاستغفار، وبيَّن أن الاستغفار يجلب للمستغفرين خيرَ الدنيا والآخرة؛ فهو من أعظم أسباب نزول الأمطار الصالحة للعباد والبلاد، وهو من أعظم أسباب رغد العيش ووفرة الأموال والأولاد، وزينة الحياة الدنيا وتيسير وجود المزارع والجنات وجريان الأنهار والمتاع الحسن ومنح العباد صحة ونشاطًا. وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن هودًا ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبَّها إلى هذه الآثار للاستغفار في قوله تعالى في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 1 - 3]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52] وفي قوله تعالى في هذا المقام من سورة نوح: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14]، أي: ما لكم لا تخافون عظمة الله ولا تأملون ما عند الله؟! ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾، أي: خلقًا من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاثٍ؛ إذ كنتم أولًا نطفة، ثم صرتم علقة، ثم مضغة، ثم خلق المضغة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأكم خلقًا آخر ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]. وقد فسَّر بعض الجاهلين الغاوين في عصرنا الأطوار التي ذكرها نوح عليه السلام في قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14]، بأنها دليل على صحَّة نظرية داروين في التطور والارتقاء، وأن الإنسان كان في أول وجوده حيوانًا بحريًّا كالسمك، ثم حيوانًا بريًّا كالقرود والحمير، ثم تطوَّر وارتقى حتى صار على هذه الحال المشاهدة؛ وفي ذلك يقول بعض هؤلاء الغواة الضالين: "لقد فضح الجنين القصَّة، يعني: قصة التطور والارتقاء وأطوار خلق الإنسان؛ فإنَّ الجنين عندما يبدأ تكوينه في بطن أمه يكون كالسمكة تمامًا له زعانف وخياشيم، ثم يغطَّى جسمه بالشعر كالقرود تمامًا، ثم ينحسر الشعر عن مواضع من جسمه كالإنسان تمامًا، لقد فضح الجنين القصة كما فضح مبضع الجراح القصة، فإن مبضع الجراح وهو يعمل خلف الأذن البشرية اكتشف عضلات ميتة هي التي كانت تحرك آذان أجدادنا الحمير". وهذا الذي قاله هؤلاء الدهريون محض اختلاق في جملته وتفصيله، وقد ذكرت في قصة خلق آدم أسباب فساد مقالة هؤلاء. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المسائل المتفق عليها بين النحويين لدخيل بن غنيم العواد صدر حديثًا كتاب "المسائل المتفق عليها بين النحويين"، تأليف: د. "دخيل بن غنيم العواد"، نشر: "مكتبة الرشد للنشر والتوزيع". وأصل هذا البحث أطروحة علمية تقدم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في قسم النحو والصرف من كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى بعنوان "المسائل المتفق عليها بين النحويين جمعًا وتصنيفًا ودراسة" وذلك تحت إشراف أ.د. "عبدالرحمن محمد إسماعيل" عام 1423 هـ. وهذا الكتاب هو الجزء الثاني من دراسة وافية تتناول الإجماع من جهة أصول النحو، من بيان حجيته، والأدلة عليها، وشرعية الإجماع النحوي، ومستنده، وأنواعه، ومن يعتد بقوله من النحويين، والعقبات التي قد تقف في طريقه، وتتبع نشأته وتطوره عبر العصور، إلى غير ذلك من المباحث المتعلقة بهذا الأصل، كما يتضمن دراسة تطبيقية لهذه المسائل التي أجمع النحويون عليها البصريون والكوفيون وغيرهم. ولم يقف عمل الباحث في دراسته على مجرد جمع مسائل النحو المجمع عليها من بطون مصنفات التراث النحوي وترتيبها، بل تعدى ذلك إلى دراستها واستخلاص ما فيها بعد تمحيص ووزن الآراء ونقدها، وبيان المرجوح من الراجح. تأتي قيمة هذا الموضوع من العناية التي أولاها النحويون للإجماع النحوي، ونجد أن الباحثين أكثروا قديمًا وحديثًا من دراسة الخلاف في النحو كـ"الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري، و"التبيين عن مذاهب النحويين" للعكبري، و"ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة" للزبيدي، ودراسات المتأخرين في الخلاف النحوي أكثر من أن تحصر، ولا شك أن ما وقع عليه إجماع النحويين أولى بالدّراسة والعناية مما وقع فيه الخلاف بينهم، فالذي يدرس الخلاف ويتلمس أسبابه إنما يدرس عوائق الإجماع، لأن عدم الاختلاف هو الإجماع. ولا شك أن في جمع هذه المسائل، وتقرير إجماع النحويين عليها حمايةً للنحو ومسائله ممن يدعون التجديد والتيسير بالحذف تارة والمسخ والتغيير تارة أخرى، لتنقطع الصلة بين الأجيال اللاحقة وتراث أسلافهم. وتمثل عمل الباحث في هذه الدراسة على النحو التالي: • جمع المسائل التي نص النحويون على الإجماع عليها، وذلك بقول النحوي: يجوز كذا إجماعًا، أو اتفاقًا، أو بلا خلاف، أو لا أعلم خلافًا على كذا، ونحو هذه العبارات الدّالة على نفي الخلاف في المسألة. • تصنيف هذه المسائل، وترتيبها ترتيبًا يسهل الوصول إلى المراد منها. • دراسة هذه المسائل وعرضها على أقوال النحويين. • عرض جميع المسائل المتفق عليها أو التي حكي فيها الإجماع على أسلوب القرآن الكريم، إذ هو في المكان الأسمى من الفصاحة، وعلى ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصًا ما اتفق العلماء على الاحتجاج به منه كألفاظ الأدعية والأذكار وغير ذلك، ثم على أشعار العرب في الدّواوين المختلفة. • الاستدلال على القواعد النحوية التي لم يجد لها شواهدَ في كتب النحو بأسلوب القرآن الكريم، والصحيح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عرض تلك القواعد على بعض الدّواوين الشّعرية فتحصل له بذلك جملة طيبة من الشّواهد التي لم تذكر في كتب النحو. • تخريج القراءات وعزو الآيات، والشّواهد من الحديث، والشّعر وكلام العرب، مع ضبطها بالشّكل ضبطًا تامًّا. وقد راعى الكاتب في ترتيب مادته العلمية من ترتيب مسائلها النحوية المجمع عليها بتقسيم وتبويب يراعي خطة علماء النحو في المسائل النحوية، وهو موافق لتقسيم كلام العرب، وذلك على النحو التالي: الباب الأول: في المفردات، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: المقدمات. الفصل الثاني: المعربات، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الإعراب الأصلي. المبحث الثاني: الإعراب الفرعي. الفصل الثالث: المبنيات، وفيه مبحثان: المبحث الأول: المبنيات من الأفعال والحروف. المبحث الثاني: المبنيات من الأسماء. الباب الثاني: المبهمات، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: المضمرات. الفصل الثاني: الموصولات. الفصل الثالث: اسم الإشارة. الباب الثالث: الجملة الاسمية، وفيها ثلاثة فصول: الفصل الأول: المبتدأ والخبر. الفصل الثاني: الأفعال الناسخة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: كان وأخواتها. المبحث الثاني: الحروف المشبهة بـ"ليس". المبحث الثالث: أفعال المقاربة. الفصل الثالث: الحروف الناسخة. الباب الرابع: الجملة الفعلية، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: مبنى الفعل ومعناه. الفصل الثاني: إعراب الفعل المضارع. الفصل الثالث: تنازع العوامل واشتغالها. وقد تضمنت هذه الدراسة كثيرًا من القواعد الكلية والجزئية والظواهر النحوية النفيسة التي توصل إليها الكاتب في هذه الدراسة، وجمعها في هذا المصنف الجامع. ونجد أن هذه الدراسة تمثل أعلى لغات العرب التي تكاد تكون القاسم المشترك في لسانهم نثرًا وشعرًا، كما أنها تمثل المذهب المحكم الذي لا يقبل التأويل عند أهل العربية حيث لا ينال منه اختلاف مختلف أو خروج خارج على الإجماع. والباحث د. "دخيل بن غنيم العواد" أستاذ مساعد | عضو هيئة التدريس بقسم اللغة العربية بكلية الآداب- جامعة الملك سعود، حاصل على درجة الماجستير عام 1415هـ وكان عنوان رسالته: "الإجماع في النحو - دراسة في أصول النحو"، وحاصل على درجة الدكتوراه عام 1423 هـ وكان عنوان رسالته: "المسائل المتفق عليها بين النحويين جمعًا وتصنيفًا ودراسة".
الزبير بن العوام الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. الزبير بن العوَّام، هو أحد العشرة الذين بشَّرَهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ لذلك أحببت أن أُذَكِّرَ طلاب العلم الكِرام بشيء من سيرته المباركة، وتاريخه المجيد، لعلنا نسير على ضوئه، فنسعد في الدنيا ويوم القيامة، فأقول وبالله تعالى التوفيق: التعريف بنسب الزبير: هو الزبير بن العوَّام بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الأسدي. كنيته : أبو عبدالله، أُمُّه صفية بنت عبدالمطلب، عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمة رسول الله، وابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ2، صـ 102). قال عروة بن الزبير: كان الزبير طويلًا تخط رجلاه الأرض إذا ركب الدابَّة، وكانت أُمُّه صفية تضربه ضربًا شديدًا وهو يتيم، فقيل لها: قَتَلْتِه، أَهْلَكْتِه، فقالت: إنما أضْرِبُه لكي يَدِبَّ ويـَجُـرَّ الجيشَ ذا الجَلَب؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ45). إسلام الزبير بن العوام: أسلم الزبير بن العوَّام وهو ابن ست عشرة سنة، كان عَمُّ الزبير يُعلِّق الزبير ويدخن عليه النار، وهو يقول له: ارجع إلى دين الآباء والأجداد، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 75) (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 89). زوجات الزبير وأولاده: تزوَّج الزبير ست نسوة، ورزقه الله تعالى من الأولاد عشرين: من الذكور: أحد عشر، ومِن الإناث: تسع، وهم: عبدالله وعروة والمنذر وعاصم والمهاجر وخديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة وأمُّهم أسماء بنت أبي بكر الصديق، وخالد وعمرو وحبيبة وسَوْدة وهند وأمُّهم أم خالد وهي: أمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، ومصعب وحمزة ورملة وأمهم الرباب بنت أنيف بن عبيد بن مصاد بن كعب بن عليم بن جناب من كلب وعبيدة وجعفر، وأمهما زينب، وهي أم جعفر بنت مرثد بن عمرو بن عبد عمرو بن بشر بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة وزينب، وأمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وخديجة الصغرى، وأمها الحلال بنت قيس بن نوفل بن جابر بن شجنة بن أسامة بن مالك بن نصر بن قعين من بني أسد؛ (الطبقات الكبرى، لابن سعد، جـ3، صـ 74). قال عروة بن الزبير: قال الزبير بن العوام: إن طلحة بن عبيدالله التيمي يُسمِّي بنيه بأسماء الأنبياء وقد علم أن لا نبي بعد محمد، وإنِّي أُسمِّي بَنِيَّ بأسماء الشهداء لعلمهم أن يستشهدوا، فسمَّى عبدالله بعبدالله بن جحش، والمنذر بالمنذر بن عمرو، وعروة بعروة بن مسعود، وحمزة بحمزة بن عبدالمطلب، وجعفرًا بجعفر بن أبي طالب، ومصعبًا بمصعب بن عمير، وعبيدة بعبيدة بن الحارث، وخالدًا بخالد بن سعيد، وعمرًا بعمرو بن سعيد بن العاص قتل يوم اليرموك؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 74). علم الزبير بن العوَّام: روى الزبير ثمانية وثلاثين حديثًا، منها في الصحيحين حديثان، وانفرد البخاري بسبعة أحاديث؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 67). قال عبدالله بن الزبير: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدِّث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه، أسلمت؛ ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ كذب عليَّ فليتبوَّأ مقعده من النار))؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ 3، صـ 79). مناقب الزبير بن العوَّام: (1) روى البخاريُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: ((مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟)) فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟))، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟))، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ))؛ (البخاري، حديث: 4113). • الحواريُّ: المؤيد، الناصر، المخلص في كل شيء. (2) روى ابنُ سعدٍ عن هشام بن عروة أن غلامًا مَرَّ بعبدالله بن عمر فسُئل: مَن هو؟ فقال: ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا، قال: فسُئِلَ: هل كان أحدٌ يُقالُ له حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الزبير؟ قال: لا أعلمه؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 78). (3) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى حِرَاءٍ (اسم جبل) هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَتَحَرَّكَتْ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ))؛ (مسلم، حديث: 2418). (4) روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172] قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا بْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ؛ (البخاري، حديث: 4077). (5) روى الشيخانِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: ((أَسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ))، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؛ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِس الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ))، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]؛ (البخاري حديث: 2359/مسلم، حديث: 2357). • شِرَاجِ الْحَرَّةِ: مسايل الماء. • الْحَرَّةِ: الأرض الملسة، فيها حجارة سوداء. • أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؛ أي: فعلت ذلك؛ لكونه ابنَ عمَّتك. • تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أي: تغيَّر من الغضب؛ لانتهاك حُرُمات النبوَّة وقبح كلام هذا الرجل. (6) روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2946). (7) روى أبو نعيم عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن جدتها أسماء ابنة أبي بكر قالت: مَرَّ الزبير بن العوَّام بمجلس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحسان بن ثابت ينشدهم، فمدح حسان بن ثابت الزبير فقال في مديحه للزبير: فكم كُربة ذَبَّ الزبير بسيفه عن المصطفى واللهُ يعطي ويجزل فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يذبل ثناؤك خير من فِعال معاشر وفعلك يابن الهاشمية أفضل (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 90). (8) كان الزبير بن العوَّام أحد الستة، أصحاب الشورى، الذين تُوفي عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، قال عمر بن الخطاب: والله لوددت أني خرجت منها كفافًا، لا عليَّ ولا لي، وأن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت لي، ولو أنَّ لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من هَوْل المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد؛ (تاريخ الخلفاء للسيوطي، صـ 126). رغبة عثمان بن عفان في استخلاف الزبير: روى البخاريُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: أَصَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رُعَافٌ شَدِيدٌ سَنَةَ الرُّعَافِ حَتَّى حَبَسَهُ عَنْ الْحَجِّ، وَأَوْصَى فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: اسْتَخْلِفْ قَالَ وَقَالُوهُ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ؟ فَسَكَتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ أَحْسِبُهُ الْحَارِثَ فَقَالَ: اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ عُثْمَانُ وَقَالُوا فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ، قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا الزُّبَيْرَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَخَيْرُهُمْ، مَا عَلِمْتُ وَإِنْ كَانَ لَأَحَبَّهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ (البخاري، حديث: 3717). بِرُّ الزبير بن العوَّام بأبناء الصحابة: قال هشام بن عروة: أوصى إلى الزبير سبعةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عثمان، وعبدالرحمن بن عوف، والمقداد، وابن مسعود، وغيرهم، وكان يحفظ على أولادهم مالهم وينفق عليهم من ماله؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ2، صـ 105). زهد الزبير بن العوَّام: (1) قال سعيد بن عبدالعزيز: كان للزبير بن العوَّام ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فكان يقسمه كل ليلة، ثم يقوم إلى منزله وليس معه منه شيء؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 90). (2) باع الزبير دارًا له بستمائة ألف، فقيل له: يا أبا عبدالله غبنت (خسرت) قال: كلا، والله لتعلمن أني لم أغبن (أخسر) هي في سبيل الله؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 344:343). جهاد الزبير بن العوَّام: هاجر الزبير بن العوَّام إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، ثم إلى المدينة، ولم يتخلَّف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عروة بن الزبير: كانت على الزبير عمامة صفراء معتجرًا بها يوم بَدْر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الملائكة نزلت على سيماء (علامة) الزبير))؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 76). (1) روى الشيخانِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قَالَ: أَوَ هَلْ رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ يَأْتِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟))، فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ فَقَالَ: ((فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي))؛ (البخاري، حديث: 3730/ مسلم، حديث: 2416). (2) روى البخاريُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلَا تَشُدُّ (تهجم على العدوِّ) فَنَشُدَّ مَعَكَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ (على جيش الروم) فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ عُرْوَةُ: فَكُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ؛ (البخاري، حديث: 3721). (3) روى البخاريُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ (مُغطًّى بالسلاح) لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ وَهُوَ يُكْنَى أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ (وَهِيَ الْحَرْبَةُ) فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ، فَمَاتَ، قَالَ هِشَامٌ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّأْتُ، فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا وَقَدْ انْثَنَى طَرَفَاهَا، قَالَ عُرْوَةُ فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ فَطَلَبَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ؛ (البخاري، حديث: 3998). قال سعيد بن المسيب: أول مَن سَلَّ سيفًا في سبيل الله الزبير بن العوَّام (وكان عمره اثنتي عشرة سنة)، بينما هو بمكة إذ سمع صوتًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فخرج وفي يده السيف صلتًا فتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((ما لك يا زبير؟))، قال: سمعت أنك قد قُتِلت، قال: فما كنت صانعًا؟ قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة، قال: فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 346). قال عمرو بن مصعب بن الزبير: قاتل الزبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فكان يحمل على القوم؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 346). موقف الزبير في حروب الفتنة: قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: انصرف الزبير يوم الجمل عن عليٍّ بن أبي طالب، فلقيه ابنه عبدالله، فقال: جُبْنًا جبنًا، قال: يا بني، قد علم الناس أني لست بجبان؛ ولكن ذكَّرني عليٌّ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت ألَّا أقاتله، فقال: دونك غلامك فلانًا، فقد أعطيت به عشرين ألفًا كفَّارة عن يمينك، قال: فولى الزبير وهو يقول: تَرْكُ الأمورِ التي أخشى عَواقِبَها في الله أحْسَنُ في الدنيا وفي الدِّين (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 91). استشهاد الزبير بن العوَّام: روى ابنُ سعدٍ عن عِكرمة عن ابن عباس أنه أتى الزبير فقال: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب؟ قال: فرجع الزبير فلقيه عمرو بن جرموز فقتله، واجتزَّ رأسه، وذهب به إلى علي بن أبي طالب، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده، فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بشِّر قاتل ابن صفية بالنار))، وأخذ عليُّ بنُ أبي طالب سيف الزبير وقال: سيفٌ والله طالما جلا به عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب، وقال عليُّ بنُ أبي طالب: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله في حقِّهم: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]. قال موسى بن طلحة: كان علي، والزبير، وطلحة، وسعد، عذار عام واحد (يعني ولدوا في سنة واحدة)؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ44). دُفنَ الزبير رحمه الله بوادي السباع، وجلس عليُّ بنُ أبي طالب يبكي عليه هو وأصحابه، تُوفِّي الزبير سنة ست وثلاثين من الهجرة، وكان عمره سبعة وستون عامًا؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ 3، صـ: 84:81). قضاء دين الزبير بعد وفاته: روى البخاريُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي بَنِي عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ، قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِاللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَنْ مَوْلَاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ، فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ، وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنْ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ، فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ، مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي، قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُاللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَا، قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَا، قَالَ: قَالَ فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ، فَأَوْفَاهُ وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتْ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ؛ (البخاري، حديث: 3129). رَحِمَ اللهُ الزبير بن العوَّام رحمةً واسعةً، وجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، بحبنا له، وإن لم نعمل بمثل عمله. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إ ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89] كما أسألهُ سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
المختصر في القواعد الأصولية وتطبيقاتها لعبدالله بن صالح منكابو صدر حديثًا كتاب " المختصر في القواعد الأصولية وتطبيقاتها "، تأليف وإعداد: " د. عبدالله بن صالح منكابو "، نشر: " دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب مذكرة نافعة تحتوي على ( ٦٠ ) قاعدة مهمة وأكثر من ( ٣٠٠ ) تطبيق مهاري على آيات وأحاديث الأحكام. وهذه القواعد الأصولية تحتوي على جملة من أهم قواعد التفسير وقواعد الأصول، والرابط بين هذه القواعد أنها قواعد تكثر الحاجة إليها في الاستنباط والاستدلال، فالمشتغل بعلم التفسير والأصول يحتاج إليها في بناء ملكة التطبيق الأصولي، ويهتم الكاتب بكثرة التطبيقات على القاعدة الأصولية حتى تترسخ القاعدة ويطبقها تلقائيًا على النص دونما عناء. فنجد أن القارئ لهذا الإصدار بدراسته وتحصيله، سيركز حين سماعه للآيات القرآنية أو الأحكام الأصولية على قواعدها وتطبيقاتها التي تتداخل معها من أمثال: الألفاظ العامة والخاصة، والمنطوق والمفهوم، والمطلق والمقيد، وينتبه إلى دلالات السياق.. ونحو هذا من تلك التطبيقات. وقام الشارح ببيان تلك القواعد وتطبيقاتها بشكل موجز، دون الخلاف الأصولي فيها وأقوال أهل العلم، وإنما التركيز على معنى القاعدة على وجه الإجمال، ثم إيراد الأمثلة والتمارين على تطبيق القاعدة. والمؤلف هو " د. عبدالله بن صالح منكابو " محاضر بقسم الشريعة في كلية الشريعة- بجامعة أم القرى. عضو مؤسس لمركز راسخ العلمي، بمدينة جدة، وعضو الجمعية الفقهية السعودية. من مؤلفاته: • "حاشية الشيخين علي بن عيسى وإبراهيم بن عيسى على الروض المربع - قسم العبادات -" رسالة دكتوراه تحت الطبع. • "فقه آيات الأحكام على مذهب الحنابلة من كتاب المبدع لابن مفلح". • "المختصر في القواعد الأصولية وتطبيقاتها" (كتاب تعليمي). • "شرح المختصر في القواعد الأصولية وتطبيقاتها، وشواهده من كتب المفسرين والفقهاء" تحت الطبع. • "ملحة الفقيه" تحت الطبع.
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بادئ الأمر في دار أبي أيوب حيث بركت الناقة عند بابه، ويذكر أبو أيوب الأيام التي سعد فيها بضيافة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهَر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: ((يا أبا أيوب، إن أرفقَ بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت))، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، ثم يقول أبو أيوب: فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب ننشف الماء بقطيفة ما لنا لحاف غيرها؛ تخوفًا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه، وقال: كنا نصنع له العشاء، ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضلة تيمَّمت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه، نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعَشائه وقد جعلنا فيه بصلًا - أو ثومًا - فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرَ ليده فيه أثرًا، قال: فجئته فزعًا، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك ولم أرَ فيه موضع يدك؟ فقال: ((إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجَى، فأما أنتم فكلوه))، قال: فأكلناه ولم نضع له تلك الشجرة بعد، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبادلة أبي أيوب، فانتقل إلى أعلى البيت ونزل أبو أيوب إلى أسفله، فلما صنع له طعامًا فيه الثوم ولم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فزِع أبو أيوب وصعد إليه، فقال: أحرام؟ فقال: ((لا، ولكني أكرهه))، قال أبو أيوب: فإني أكره ما تكره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الملَك، وهذه رواية مسلم، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها، قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: ((بارك الله فيك))، ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد ولحم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد ممن يحملون الطعام يتناوبون كلٌّ يقدم ما عنده، وكان مقامه في دار أبي أيوب سبعة أشهر إلى أن أنهى بناء مسجده ومساكنه، وقد بعث - وهو في دار أبي أيوب - مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمائة درهم لكي يجيئا بفاطمة وأم كلثوم وزوجه سودة وأسامة بن زيد، فقدما بهم، وجاء أيضًا معهما أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وعيال أبي بكر وفيهم عائشة، وقد نال أبو أيوب شرف مقام النبي صلى الله عليه وسلم في داره التي اختارها الله لنبيه مع كونها صغيرة، وأن كثيرًا من أصحاب الدور الكبيرة - كما مر - عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم النزول في العدد والعدة والمنعة، وقد ورد في الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبدالأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير))، فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا، فقيل: قد فضلكم على كثير، وفي رواية مسلم: أن سعد بن عبادة أدرك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خيَّرت دور الأنصار فجعلتنا آخرًا؟ قال: ((أوَليس بحَسْبكم أن تكونوا من الأخيار؟!))، وقد ثبت لجميع مَن أسلم من الأنصار الشرف والرفعة والخيرية بقوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
أبو عبيدة بن الجراح الحمد لله الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، الذي هدانا للإيمان، وفضل ديننا على سائر الأديان، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فأبو عبيدة عامر بن الجراح هو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، فأحببت أن أذكِّر نفسي وإخواني الكرام بشيء من سيرته العطرة، وتاريخه المشرق المجيد، لعلنا نسير على ضوئه فنسعد في الدنيا ويوم القيامة؛ فأقول وبالله تعالى التوفيق: الاسم: هو: عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال بن فهر. كنيته: أبو عبيدة. أم أبي عبيدة بن الجراح هي: أميمة بنت غنم بن جابر بن عميرة؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 312]. صفة أبي عبيدة الجسمية: كان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه رجلًا نحيفًا، معروق الوجه، خفيف اللحية، طوالًا، أجْنَأ، منحني الظهر، أثرم الثنِيَّتَيْنِ، سقطت ثنيَّتاه من أصلهما وكان يصبغ رأسه ولحيته بالحِنَّاء والكَتَم؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 312]. إسلام أبي عبيدة: قال يزيد بن رومان: "انطلق عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح، حتى أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهم الإسلام، وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 313، سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 8:7]. هجرة أبي عبيدة: هاجر أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ؛ [الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 2، ص: 244]. علم أبي عبيدة: روى أبو عبيدة خمسة عشر حديثًا، وله في صحيح مسلم حديث واحد، وله كذلك حديث واحد في سنن الترمذي. حدَّث عنه العرباض بن سارية، وجابر بن عبدالله، وأبو أمامة الباهلي، وسمرة بن جندب، وأسْلَمُ مولى عمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن غنم، وآخرون؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 6]. جهاد أبي عبيدة بن الجراح: شهد أبو عبيدة رضي الله عنه بدرًا وأُحُدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أبو عبيدة أحد الأمراء المسيَّرين إلى الشام، والذين فتحوا دمشق، ولما ولِيَ عمر بن الخطاب الخلافة، عزل خالد بن الوليد، واستعمل أبا عبيدة؛ فقال خالد: ولِيَ عليكم أمين هذه الأمة، وقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خالدًا لَسيف من سيوف الله))؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 3، ص: 23، صفة الصفوة لابن الجوزي، ج: 1، ص: 365]. أبو عبيدة بن الجراح في غزوة بدر: كان أبو أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يتصدى لابنه أبي عبيدة يوم بدر، فكان أبو عبيدة يبتعد عنه، فلما أكْثَرَ، قصده أبو عبيدة فقتله؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية حين قتل أباه: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، ج: 1، ص: 101]. أبو عبيدة في غزوة أحد: روى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أُحُد ورُميَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في أجنتيه حلقتان من المِغفر - ما يلبسه المقاتل على رأسه - فأقبلتُ أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من قِبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بدرني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنية إحدى حلقتي المغفر فنزعها، وسقط على ظهره، وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثرمَ أهتمَ، وكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتمًا"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 313]. حسن أخلاق أبي عبيدة: قال موسى بن عقبة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وهي من مشارف بداية الشام، فخشِيَ عمرو، فبعث يستمد فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس من المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مددًا لعمرو بن العاص، فلما قدموا عليه، قال: أنا أميركم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال: إنما أنتم مددي، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان حسن الخلق متبعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، فقال: تعلم يا عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني أطعتك؛ [الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 2، ص: 244]. أبو عبيدة أمير غزوة الخبط: قال جابر بن عبدالله: بَعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة بن الجراح ونحن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وزوَّدنا جرابًا من تمر فأعطانا منه قبضة قبضة، فلما أنجزناه أعطانا تمرةً تمرةً، فلما فقدناها، وجَدْنا فقدَها ثم كنا نخبِط الخَبَطَ بقسيِّنا ونَسَفُّه ونشرب عليه من الماء حتى سُمِّينا جيش الخَبَطِ، ثم أخذنا على الساحل، فإذا دابة ميتة مثل الكثيب يُقال لها: العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة لا تأكلوا، ثم قال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، ونحن مضطرون، فأكلنا منه عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، قال: ولقد جلس ثلاثة عشر رجلًا منا في موضع عينه، وأقام أبو عبيدة ضلعًا من أضلاعه، فوضعه على أجسم بعير، فلما قدمنا على رسول الله قال: ما حبسكم؟ قال: كنا نبتغي إبل قريش، فذكرنا له شأن الدابة، فقال: إنما هو رزق رزقكموه الله، أمعكم منه شيء؟ قلنا: نعم؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 314]. • الخبط: ضرب الشجرة بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط؛ [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ج: 2، ص: 11]. أبو عبيدة يحث المسلمين على الجهاد: قال أسْلَمُ مولى عمر بن الخطاب: "بلغ عمر أن أبا عبيدة حُصِرَ بالشام، ونال منه العدو، فكتب إليه عمر: أما بعد؛ فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة، إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لا يغلب عسرٌ يُسْرَين، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، قال: فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد؛ فإن الله يقول: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، قال: فخرج عمر بكتابه، فقرأه على المنبر، فقال: يا أهل المدينة، إنما يُعرِّض بكم أبو عبيدة، أو بي، ارغبوا في الجهاد؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 16:15]. خوف أبي عبيدة بن الجراح: قال قتادة: قال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش فذبحني أهلي، فأكلوا لحمي، وحسوا - شربوا - مَرَقِي؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 315]. زهد أبي عبيدة: أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع، قال: فقسمها أبو عبيدة، قال: ثم أرسل إلى معاذ بمثلها، وقال للرسول مثلما قال، فقسمها معاذ إلا شيئًا، قالت امرأته: نحتاج إليه، فلما أخبر الرسولُ عمرَ، قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 316:315]. مناقب أبي عبيدة بن الجراح: 1- روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 2946]. 2- روى الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه، قال: ((جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلًا أمينًا، فقال: لأبعثنَّ إليكم رجلًا أمينًا حق أمين، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح))؛ [البخاري حديث:4381، مسلم حديث: 2420]. 3- روى الشيخان عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح))؛ [البخاري حديث: 4382، مسلم حديث: 2419]. 4- روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 2984]. 5- روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها سُئلت: ((من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى هذا))؛ [مسلم حديث: 2385]. 6- روى الترمذي عن عبدالله بن شقيق قال: ((قلت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم أبو عبيدة بن الجراح، قلت: ثم من؟ فسكتت))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2892]. 7- قال الذهبي: "كان أبو عبيدة معدودًا فيمن جمع حفظ القرآن العظيم"؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 16:15]. منزلة أبي عبيدة عند أبي بكر الصديق: روى أحمد عن ابن عباس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للمهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة: "قد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح"؛ [حديث صحيح، مسند أحمد، ج: 1، ص: 453]. تولى أبو عبيدة بيت مال المسلمين في خلافة أبي بكر الصديق؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 15]. منزلة أبي عبيدة عند عمر بن الخطاب: 1- روى أحمد عن شريح بن عبيد وراشد بن سعد وغيرهما قالوا: ((لما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سَرْغَ، حُدِّث أن بالشام وباءً شديدًا، قال: بلغني أن شدة الوباء في الشام، فقلت: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حيٌّ استخلفته، فإن سألني الله: لم استخلفته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلت: إني سمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل نبي أمينًا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح، فأنكر القوم ذلك، وقالوا: ما بال عُليا قريش؛ يعنون: بني فهر، ثم قال: فإن أدركني أجلي وقد تُوفِّي أبو عبيدة، استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي عز وجل: لم استخلفته؟ قلت: سمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول: إنه يُحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذةً))؛ [حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات، مسند أحمد، ج: 1، ص: 263، حديث: 108]. 2- روى أبو نعيم عن أسلم، مولى عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأصحابه: "تمنوا فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، ثم قال: تمنوا، فقال رجل أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا، أنفقه في سبيل الله، وأتصدق، ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، ج: 1، ص: 102]. 3- قال عروة بن الزبير رضي الله عنه: "لما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقَّاه الناس وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: الآن يأتيك، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته، فلم يَرَ في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟ أثاثًا جديدًا، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المقيل"؛ [حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، ج: 1، ص: 102]. وفاة أبي عبيدة بن الجراح: مات أبو عبيدة بن الجراح في طاعون عمواس بالأردن، سنة ثماني عشرة هجرية في خلافة عمر بن الخطاب، وكان عمر أبي عبيدة ثمانيَ وخمسين سنة؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 317]. لما مات أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، خطب معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "أيها الناس: إنكم فُجِعتم برجل، والله ما رأيت من عباد الله قط أقلَّ حقدًا، ولا أبرَّ صدرًا، ولا أبعدَ غائلة، ولا أشد حياءً للعاقبة، ولا أنصح للعامة – منه؛ فترحموا عليه"؛ [الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 2، ص: 245]. رحم الله تعالى أبا عبيدة بن الجراح رحمةً واسعةً، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء. ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة. أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكـــــرام، وآخــر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
نوح عليه السلام (5) استمرَّ نوحٌ صلوات الله وسلامه عليه في ردِّ شبهات قومه، ونبَّه إلى أمر خطير؛ وهو أن الفقراء لا ينبغي أن يُهانوا، ولا ينبغي أن يذلوا بسبب فقرهم، وأن من يتعرَّض للفقراء بالإهانة والإذلال يعرِّض نفسه لعقوبة الله العاجلة والآجلة؛ ولذلك يقول نوح عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 29 - 31]، وهنا انقطعت حجَّةُ القوم، وبان باطلهم وبطلت شبههم، فلم يجدوا إلَّا المكابرة واستعجال العذاب، فقالوا: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [هود: 32]، فأجابهم نوح عليه السلام بأنه ليس بيده تعجيل عقوبتهم أو تأجيلها، إنما تعجيل العقوبة أو تأجيلها بيد الله وحده، وفي ذلك يقول: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ أي: إذا أراد الله إنزالَ العقوبة بكم لا تستطيعون الفرارَ منها، ولا تتمكَّنون من دفعها عنكم، ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 34]، فنَواصيكم بيده، يحكم فيها بما يشاء، لا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه، وأنا لا أملك لكم نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عليَّ البلاغ، وفي هذا التنبيه إشارة كريمة جميلة إلى وجوب إخلاص التوحيد لله عز وجل؛ لأن قلوب العباد بيد الله يهدي من يشاء فضلًا، ويضلُّ من يشاء عدلًا، فمن علم في نفسه خيرًا وفَّقه وسدده وأيَّده واستعمله في طاعته، ومن علم في نفسه شرًّا خذله، ووكله إلى نفسه، ومن كتب الله له الهدايةَ لا يشقيه أحد، ومن كتب شقوته لا يهديه أحد. ولذلك كانت زوجة نوح من الكافرين؛ بل جعلها الله قدوة سيئة لكل كافر إلى يوم القيامة، كما جعل امرأةَ فرعون مثلًا صالحًا وقدوة حسنة لكلِّ مؤمن إلى يوم القيامة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 10 - 12]. الأسلوب نفسه الذي سلكه كفَّار قوم نوح مع نوح عليه الصلاة والسلام قد سلكه الكفَّارُ مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسلكته سائرُ الأمم الكافرة مع أنبيائها ورسلها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة (ص) حيث يقول: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 12 - 16]؛ أي قالوا: ربنا عجِّل لنا نصيبنا مِن العقوبة قبل يوم القيامة؛ استهزاء برسل الله، وكفرًا بالبعث بعد الموت؛ إذ يقولون لأنبيائهم: نحن لا نصبر على تأجيل العذاب إلى يوم القيام، فإن كان عندكم عذابٌ لنا فعجِّلوا به، يحسبون أن نظام الكون يخضع لشهواتهم وتمنِّياتهم واقتراحاتهم ويجهلون أن كلَّ شيء عند الله بمقدار؛ لأنه ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]؛ ولذلك قال لهم نوح عليه السلام لما استعجلوا العذاب: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ لأن الأمور كلها ترجع إليه، وترد جميع قضايا الكون له وحده لا شريك له؛ ولذلك ينبغي للعاقل أن يضرع إلى الله أن يثبت قلبه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يكثر من قول: "يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك طرفة عين، إنك إن وكلتني إلى غيرك وكلتني إلى عجز وضعف وفاقة". وبعد بيان موقف نوح عليه السلام هذا لفت الله تبارك وتعالى انتباهَ الناس إلى إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما يخبر به، وهو النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه القرآن، فأخبر بما كان بين نوح وقومه ولم يكن شاهدًا ولا دارسًا حيث يقول عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [هود: 35]، وبهذا يثبت فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم، ويبرز العبرة من سياق قصة نوح عليه السلام، وكما أشار إلى نحو ذلك في سياق قصة موسى عليه السلام حيث يقول: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 - 46]، وقد أخبر الله تبارك وتعالى نوحًا عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه بعد ذلك أحدٌ حيث يقول: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]. وهنا يتجلَّى موقف من المواقف الكبار لأنبياء الله ورسله، وكثيرًا ما يقفونها، وهو أن نوحًا عليه السلام لما استَيْئَس من قومه وعلم أنه لن يؤمن من قومه إلا مَن قد آمن بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وقف خطيبًا بينهم وقال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، يقول لهم: هاتوا جميع معبوداتكم من دون الله وحزِّبوا أحزابكم وأصنامكم ضدي، وكونوا يدًا واحدة عليَّ وحاربوني إن قدرتم وكيدوا لي ما استطعتم ولا تمهلوني وانظروا أينا يؤيِّده الله ويسعده ويعزه ويعليه في الدنيا والآخرة. وهذا مقام تتقاصر دونه مقامات كبار الرجال وصناديدهم من غير الأنبياء والمرسلين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السيدة عائشة أم المؤمنين وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) سُئل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا: (من أحب الناس إليك)، فكان أول ما أجاب أن قال: (عائشة)، نعم بهذه الطريقة عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن حبه لزوجته الطاهرة عائشة بنت صاحبه الوفي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لم تكن عائشة زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت سيدة عظيمة اصطفاها الله لتكون مصدرَ إسعادٍ دائمٍ لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم، ولتحفظ للمسلمين أمرَ دينهم، فيأخذوا عنها شطره كما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كانت عائشة أم المؤمنين هي تلك المرأة التي جمعت بين سَعة العلم ووفور العقل والحزم مع الرفق، وأهم من ذلك محبة المصطفى لها، فاستحقَّت ما وصفها به الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال: (لو كانت المرأة تصبح خليفة لكانت عائشة خليفة)، وحسبُك بشهادة أبي الحسن فلا تحتاج بعدها إلى شهادة. حظِيت عائشة رضي الله عنها بعناية ربانية كيف لا وقد بشَّر بها جبريل الأمين محمدًا صلى الله عليه وسلم في منامه، وستأتي القصة. لقد كانت عائشة مدرسة متكاملة جمعت علوم الشريعة، فلم يفُتْها شيءٌ، وكانت مرشدة للمسلمين تدلُّهم على ما فيه خيرهم وصلاحُهم وفلاحهم ورشادُهم. ولأن الله أحب عائشة، ولأن الابتلاء دليلٌ على محبة الله للعبد، ابتليت السيدة عائشة بلاءً شديدًا، فاتَّهمها المنافقون مطايا إبليس في عرضها وهي الحَصان الرَّزان الطاهرة الشريفة العفيفة، فبرَّأها الله العليم الحكيم من فوق سبع سماوات في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فتكون شهادة لأم المؤمنين على مكانتها الرفيعة عند رب الأرض والسماوات الذي برَّأها بوحي يوحى وآيات تتلى، وعندما اتُّهمت مريم وهي السيدة الطاهرة برَّأها الله بلسان ابنها السيد المسيح، وعندما اتُّهم يوسف وهو النبي ابن النبي، برأه الله بإنطاق طفل في المهد. ولكن الله لم يرض أن يبرئ عائشة الصديقة بنت الصديق إلا بوحي مقدس وشيءٍ خالد إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. ومرَّت عائشة بمراحل كثيرة في حياتها بقيت خلالها كلها منارة هدى ونور، وشعاع علمٍ وفقه وإيمان، واجتهدت في مواقفَ كانت تستدعي الاجتهاد بعد استشهاد عثمان، وما كان اجتهادها إلا في سبيل الإصلاح وإرادة الخير، واجتهد علي وهو خليفة المسلمين، والله يعلم أنه أيضًا ما أراد إلا الخير والرشاد، وكلهم صحابة مرضيون وسادة مهديون رضي الله عنهم وأرضاهم. وفي هذه السلسلة من المقالات أدوِّن سيرة هذه السيدة الطاهرة والأم العظيمة التي هي أم لخير أُمةٍ أُخرجت للناس، سائلًا الله التوفيق والسداد والإعانة والرشاد. اسمها ونسبها: هي السيدة الجليلة العظيمة والعالمة العابدة الزاهدة أم المؤمنين، وقدوة نساء المؤمنين، أم عبدالله عائشة الصديقة بنت الإمام الأكبر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق بن أبي قحافة بن عامر التيمية القرشية رضي الله عنها وعن أبيها. أسرتها: وُلدت عائشة في أسرة إيمان وتقوى وهداية وعفاف، فوالدها هو الصديق الأكبر أبو بكر، وكفى بالاسم شرفًا، وأمها أم رومان من السابقات إلى الإسلام، كما يدل عليه كلام السيدة عائشة: (لم أعقِل إلا وأبواي يدينان بهذا الدين). وأختها أسماء من سيدات الإسلام اللواتي صرنَ بإخلاصهن قدوة لكل مسلمة، وأختها أم كلثوم صغرى بنات الصديق، وحسبُها من الفخر أنها زوجة الصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله المبشر بجنات النعيم، وإخوتها عبدالرحمن وعبدالله ومحمد إخوة خير وإسلام وتقوى وإيمان، ففي هذه العائلة العظيمة المؤمنة وُلدت عائشة ونشأت، فكان لتربيتها الصالحة ومنبتها الطيب أعظم الأثر في حياتها وسلوكها، حتى صارت قدوة للنساء المؤمنات وعَلَمًا للسيدات الصالحات. والدها: هو الصديق الأكبر والإمام الأعظم والصحابي الأجل السيد العظيم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبه وخليله أبو بكر عبدالله بن أبي قحافة رضي الله عنه وأرضاه. يغني ذكر اسمه عن سرد مناقبه أو عَدِّ فضائله، ويكفيه شرفًا أنه أبو بكر، وحسبُك بها شرفًا. ولقد أجمع أهل الحق والهدى أن أبا بكر الصديق هو خير خلق الله قاطبةً بعد الأنبياء، وهو سيد الصحابة وأفضلهم، وإمام الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وهو الخليفة الأول والإمام الأعظم، ومَن مِن المسلمين لا يعرف فصائل الصديق أو مناقبه، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذًا خليلًا لاتَّخذت أبا بكر خليلًا). ولو أردت استقصاء سيرة أبي بكر الصديق وفضائله لطال المقام، والمراد هنا هو بيان سيرة عائشة رضي الله عنها، ولعل الله أن ييسِّر لي نشر ترجمة مفصَّلة للصديق رضي الله عنه في الفترة المقبلة. والدتها: وأما والدتها فهي السيدة أم رومان بنت عامر من بني فراس بن غنم، أسلمت قديمًا وهاجرت بعد استقرار زوجها في المدينة. واختلف في تاريخ وفاتها، فذهب بعضهم إلى أنها توفيت في السنة السادسة من الهجرة، وذهب بعضهم إلى أنها توفيت في خلافة عثمان رضي الله عنه، وأيَّد هذا الرأي الإمام البخاري، ورجَّحه ابن حجر كما في الفتح. وحتى لا أُطيل في هذه المقالة الأولى التي هي بمنزلة المقدمة لهذه السلسلة التعريفية بالسيدة عائشة الصديقة، أكتفي بهذا القدر، ولنا عودة إلى سيرة الصديقة في مقالة قادمة، سائلًا الله أن يمن علينا بفتح من عنده، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبَّله منا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
المختصر في الانكحة والأطعمة والأيمان والنذور لخالد المشيقح صدر حديثًا كتاب: "المختصر في الانكحة والأطعمة والأيمان والنذور"، تأليف: أ.د. "خالد بن علي المشيقح"، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع". وهو الجزء الثالث من مختصرات الفقه للكاتب، وهو المختصر في الأنكحة والأطعمة والأيمان والنذور، وقد راعى فيه مؤلفه بسطه بعبارة سهلة ومعنى واضح، وبينه على ما دل عليه الدليل، وما ترجح من أقوال محققي أهل العلم مع الاستدلال لمسائله؛ ليسهل قراءته والانتفاع به لعموم المسلمين. وطريقة عمل المؤلف في هذا المختصر بيان معاني عنوان الباب لغويًا واصطلاحيًا، ثم التأصيل لأركان كل باب، والبدء في كل فرع من فروع الباب بقوله: مسألة، ثم يبين فيها أصل المسألة مدللًا عليها بالأدلة من الكتاب والسنة، عارضًا فيها الأمثلة والتطبيقات على المسألة، مع إيراد الحكم واضحًا جليًا في نهاية كل مسألة أو بدايتها، مع وضع تلك الفروع في صورة نقاط يسهل حفظها واستذكارها لطالب العلم. وحرص الكاتب على إيراد الأدلة من الأحاديث الصحيحة، مراعيًا تخريجها عقب كل حديث، وبيان درجته، وراعى الإيجاز وعدم التطرق إلى الخلافيات في كل مسألة، وإنما يورد في كتابه ما اتفق عليه الجمهور، مراعيًا القول الأرجح في كل مسألة، وهو وإن كان معتمده على المذهب الحنبلي، إلا أنه لم يغفل إيراد آراء المذاهب الفقهية الأخرى إذا ترجح دليلها عنده. وداخل كل مسألة تطرق الكاتب لخصوصياتها وجزئياتها وذلك بالعنونة لكل جزئية داخل المسألة بعنوان: فرع، ثم يورد فيها فائدة أو تعقيبًا أو استنباطًا لا يتعدى دلائل المسألة الفقهية التي يتناولها. وخطة هذا الجزء أن يأتي بعنوان الكتاب، ثم يفصل تحته أبوابه ومسائله حتى ينتهي من كل كتاب بالترجيح والدليل كما هي خطته العامة في هذه الموسوعة المختصرة، وذلك على النحو التالي: كتاب النكاح. فصل وأركان النكاح. فصل في ذكر شروط النكاح. باب المحرمات في النكاح. باب الشروط في النكاح. فصل في العيوب في النكاح. باب نكاح الكفار من أهل الكتاب وغيرهم. باب الصداق. فصل في أحكام المفوِّضة. باب وليمة العُرْسِ، وآداب الأكل والشرب. مسائل: في جمل من آداب الأكل والشرب. باب عِشرة النساء، والقَسْمِ، وما يتعلق بذلك. فصل في أحكام المبيت والجماع ولزوم المنزل وغير ذلك. فصل في القسم بين الزوجات. فصل في النشوز. باب الخلع. كتاب الطلاق. فصل في طلاق السنة والبدعة. فصل في تعليق الطلاق. باب الرجعة. باب الإيلاء. باب الظهار. فصل في صيغ الظهار. فصل في كفارة الظهار. خصال الكفارة: المرتبة الأولى: التكفير بالعتق. المرتبة الثانية: التكفير بالصيام. المرتبة الثالثة: التكفير بالإطعام. كتاب اللِّعان. باب العِدَد. فصل أقسام المعتدَّات. فصل: في الإحداد. باب الرضاع. باب النفقات. باب في أحكام الحضانة. كتاب الأيمان. كتاب النَّذر. كتاب الأطعمة. كتاب اللباس. كتاب الذَّكاة. كتاب الصيد. والكتاب جيد لطالب العلم المبتدئ الذي يريد الدخول في دراسة أبواب الفقه ومسائله بصورة موجزة سهلة، يتيسر فهمها واستيعابها، ويمكِّن مهارة الحفظ لديه باستذكار تقسيمات تلك الكتب الفقهية، وقد راعى فيه مؤلفه تبسيط المسائل وترقيقها لسهولة معرفة الدليل والشاهد في كل مسألة. والمؤلف مدرس في قسم الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم من مواليد مدينة بريدة في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية. بدأ تعليمه بالمدرسة الفيصلية في بريدة حيث درس فيها المرحلة الابتدائية وبعد أن تخرج منها التحق بالمعهد العلمي في مدينة بريدة التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود فدرس فيه المرحلتين المتوسطة والثانوية وتخرج منه بتقدير امتياز. ثم بعد ذلك التحق بكلية الشريعة بالقصيم وتخرج منها أيضا بتقدير امتياز فعين معيداً في نفس الكلية. ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض قسم الدراسات العليا فنال درجة الماجستير من الكلية نفسها بتقدير امتياز. ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فنال منه درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى. ثم بعد ذلك واصل فيما يتعلق بالدرجات العلمية: • فحصل على درجة أستاذ مشارك من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. • وحصل على درجة أستاذ كرسي من جامعة الملك سعود. وأما بالنسبة للمؤلفات فنتاجه العلمي كثير فمن ذلك: 1- فقه الاعتكاف. 2- أحكام الظهار. 3- أحكام اليمين. 4- أحكام الصيام. 5- أحكام الزكاة. 6- تحقيق كتاب شرح العمدة. 7- مختصر فقه العبادات. 8- كتابة حاشية الروض المربع وقد طبع منه إلى الآن ما يقرب من سبع مجلدات. وهناك كثير من الكتب التي شرحها الشيخ تحت الطبع مثل: • شرح منظومة الشيخ محمد بن عثيمين. • شرح نواقض الإسلام. • شرح زاد المستقنع. • شرح منار السبيل. • شرح الورقات. وغير ذلك.
رسالة في الشاي والقهوة والدخان لعلامة الشام جمال الدين القاسمي صدر حديثًا كتاب " رسالة في الشاي والقهوة والدخان "، لعلامة الشام " جمال الدين القاسمي " - رحمه الله - (ت 1332 هـ)، تحقيق: " محمد خير رمضان يوسف "، نشر: " دار المازري للنشر والتوزيع ". وهي رسالة فقهية أدبية ثقافية تعد من نقل العلم، وموضوع القهوة والدخان، وقد كانا من النوازل المعاصرة التي شغلت بال العلماء بداية القرن، وانتشرت فيهما الرسائل العلمية ما بين محرم ومبيح، الأمر الذي خلّف تراثًا أدبيًا وفقهيًا يستحق الدراسة . والقارئ يلتمسُ من كتب الشاي والقهوةِ أدبًا وتسلية، تناسبُ مجالسَ الأُنس والانبساط، ولكنَّ هذا الكتابَ ليس على تلك الصفة، فليس كلُّ ما فيه مُلَح وأشعار، بل هي لا تزيد على ثلث حجمه، فهو بحث عام فيما يخصُّ ثلاثة موضوعات: الشاي، والقهوة، والدخان، من جانب تعريفها، وتاريخها، وبيان أوصافها، وشؤونها العلمية وطبِّها، وزراعتها، وتصنيعها أو طبخها، والتجارة بها، وإمكان الاستفادة منها، وما قيل في منفعتها وضررها، وآدابها، وأحكامها الشرعية، وما قيل فيها من شعر ونثر. وقال "القاسمي" في مقدمتها: "أما بعد: فهذه رسالة في الشاي والقهوة والدخان، جمعت مما قيل في شأنها ما وصلت إليه يد الإمكان، ولم يكن الباعث على جمعها الولوع بها، فإن شرب الدخان أكرهه في كل آن، والشاي والقهوة ليس لي فيهما صبوة". وللرسالة طبعات قديمة غير محققة: منها طبعة عام 1322 هـ - 1905م، بدون ناشر. وقد جاءت مباحث الرسالة على النحو التالي: • خطبة الكتاب. الباب الأول: في الشاي، وفيه عشرة فصول: الفصل الأول: في اسمه ومادته. الفصل الثاني: في ذكر انتشاره بين الناس ومبدئه. الفصل الثالث: في صفته النباتية. الفصل الرابع: في اجتناه. الفصل الخامس: في تهيئته للاستعمال والتجارة. الفصل السادس: في صفة الجيد منه. الفصل السابع: في أصنافه. الفصل الثامن: في كيفية طبخه. الفصل التاسع: في خواصه. الفصل العاشر: فيما نظم في مدحه. الباب الثاني: في القهوة، وفيه ستة فصول: تمهيد في معنى القهوة لغةً، وأبيات العملي في التحذير من دخول القهوات. الفصل الأول: في مادتها الذي هو البن، ومنشئه. الفصل الثاني: في صفتها النباتية. الفصل الثالث: في صفاتها الطبيعية. الفصل الرابع: في خواصها. الفصل الخامس: في القطع بحل شربها. • فتوى ابن حجر والخليلي في حلها نثرًا. • فتوى النجم الغزي نظمًا. • فتوى ابن عراق نظمًا. • فتوى أبي الفتح المالكي نظمًا والرد على من يحرمها لمجرد إدارتها. الفصل السادس: في قصائد الفضلاء ومقاطيع الأدباء في مدحها. الباب الثالث: في الدخان، وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: في اسمه واشتهاره ومنشئه. الفصل الثاني: في تاريخ ظهوره. الفصل الثالث: في أدوات استعماله. الفصل الرابع: في مضرات التدخين. • بيان تأثيره. • تأثيره على الجسم. • تأثيره على الفم والمعدة - تأثيره على الدم - تأثيره على الإفرازات. • تأثيره على المجموع العصبي والعضلي - نصيحة للفتيات. • نصائح الأطباء الغربيين للمدخنين. • مقالة في تأثيرات النارجيلة. • لطيفة تتضمن جوابين عن سؤالين. • فكاهة. الفصل الخامس: في خطر تسعطه ومضغه. الفصل السادس: في لطائف ما نظم فيه. الفصل السابع: في حكم التدخين. • تحقيق صاحب العمدة أن الدخان نوعان - وفيه فيصل الخلاف. • قاعدة القرافي المالكي في الفرق بين المسكرات والمرقدات والمفسدات. • خاتمة بالاعتناء في جيد الهواء - وفيها فوائد مهمة. وصاحب الرسالة هو أبو الفرج محمد جمال الدين القاسمي الكيلاني الحسني الدمشقي، وهو من أحفاد الشيخ عبد القادر الجيلاني من سلالة الحسن السبط، كان إمام الشام في عصره، نشأ مقلدًا وصوفيًا لكنه تحول لمنهج السلف، فأصبح داعيًا للعلم والاجتهاد ومحاربة الجهل والتعصب، وقف حياته على العلم والتعليم، وكان هينًا لينًا في دعوته، وبرغم ما ألحقه به أعداؤه من الجهلة والمتعصبة من أذى إلا أنه لم ينشغل بهم. كان من رجالات الإصلاح في نهاية عصر الدولة العثمانية وله صلات ومراسلات بعلماء عصره المصلحين في العديد من البلدان، فقد زار لبنان ومصر وفلسطين والأردن والمدينة المنورة، ورغم قصر عمره (49 سنة) ألا أنه ألف ما يزيد عن 100 مؤلف. ولد جمال الدين القاسمي في دمشق سنة 1282هـ / 1866م، في بيت علم وتقوى، فقد كان جده عالمًا فاضلًا، وكذلك كان أبوه، درس القاسمي بدايةً على والده الشيخ محمد سعيد القاسمي، ثم درس في مكتب بالمدرسة الظاهرية، وحضر دروس الشيخ سليم العطار والشيخ بكرى العطار شيخ الشام، والشيخ محمد الخاني الذي علمه أوراد الطريقة النقشبندية والتي تركها لاحقًا. ولتميزه في طلب العلم وعدم اكتفائه بمكانة أبيه طلب بعض الطلبة منه أن يشرح لهم بعض مقدمات العلوم وعمره 14 سنة، فكان يدرسهم بعد المغرب قبل موعد درس أبيه. أصبح مدرسًا في مدرسة عبد الله باشا العظيم والتي كانت إحدى حصون الدعوة إلى الإصلاح في العاصمة الأموية بحسب وصف العلامة محب الدين الخطيب إذ كان من المستفيدين منها، وكان من المدرسين فيها: العلامتان طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي ولكل واحد منهما غرفة يستقبل فيها تلاميذه. وبسبب تميزه في التعليم والإصلاح تم اختياره - فيما يبدو - من قبل الوالي ضمن عدد من الفضلاء سنة 1309هـ لإلقاء دروس عامة في شهر رمضان في بعض النواحي من سوريا، فذهب إلى وادي العجم وسجل يوميات تلك الرحلة في كتاب بعنوان "بذل الهمم في موعظة أهل وادي العجم"، وفي السنة التالية اختار أن يذهب إلى قضاء النبك وألف فيها "حُسن السبك في الرحلة إلى قضاء النبك"، وطلب أيضًا في السنة التي تليها فذهب إلى بعلبك، وكرر الذهاب إليها في السنة التي تليها، ويبدو أن هذه الرحلات فتحت عيون القاسمي لأحوال البلد ومقدار الجهل والخرافة والظلم الذي يحيق بالناس. وفي سنة 1317هـ توفي والده فحزن عليه كثيرًا، وقد قام العلامة عبدالرزاق البيطار والعلامة طاهر الجزائري بزيارة والي الشام برفقة القاسمي لتنصيبه مقام والده في إمامة وخطابة وتدريس مسجد السنانية وهو المسجد الذي كان يؤمه والده وجده من قبله، فتولى الإمامة والتدريس فيه للطلبة والعامة وألف فيه كثيرًا من كتبه وأهمها تفسيره (محاسن التأويل) بين عامي 1317-1329هـ. ونجد أنه بعد تحوله للمذهب السلفي في سنة 1313 اتهم وبعض أصدقائه الذين وصفهم بالسلفيين بالاجتهاد، ولأنه كان أصغرهم سنًا فقد أوقف ليلة من دونهم، ويجب أن نلاحظ أن التهمة الأولى للقاسمي ورفاقه وعلى رأسهم الشيخ عبدالرزاق البيطار كانت هي تهمة الاجتهاد ومحاولة قراءة كتب تفسير القرآن والحديث وكتب أصول الفقه، ولم توجه لهم تهمة الوهابية إلا بعد سنوات، كما أنهم في الجلسات التي اتهموا فيها بالاجتهاد كانوا أيضًا يدرسون كتاب "كشف الغمة" للشعراني الصوفي، وهذا يؤكد تطورهم التدريجي للسلفية بترك التعصب والجمود الفقهي بدايةً. أما ما تعرض له القاسمي ورفاقه من تنكيل من قبل الحكومة في عهد السلطان عبد الحميد وحكومة الاتحاد والترقي فقد كان شديدًا، ففي عام 1327 يتهم القاسمي والبيطار بالتحريض على تأسيس جمعية النهضة السورية المناهضة لحكم الاتحاديين والمطالبة بالاستقلال الإداري وقيام حكومة عربية، وأنهم على صلة بأمراء من نجد، فأنكر هذه التهم وبين عدم صلته بجمعية النهضة، والتي كان رئيسها محب الدين الخطيب وسكرتيرها صلاح القاسمي شقيقه الأصغر! برغم حياة القاسمي القصيرة حيت عاش 49 سنة فقط وكانت مليئة بالحوادث والمحن، إلا أنه عُدّ علامة الشام، فقد وفقه الله عز وجل مبكرًا لطلب العلم والاطلاع الواسع ومنحه الذكاء الحاد، ويسر له معرفة منهج السلف والحق مبكرًا وهو شاب. أما كتب القاسمي نفسه فقد زادت عن مئة كتاب، وغالبها مما يحتاجه الناس ويسد ثغرة عندهم ويقدم بديلًا عن الباطل الذي اعتادوه، ومن أمثلة ذلك: • كتاباه "منتخب التوسلات" و"الأوراد المأثورة": فحين وجد أن الناس تتمسك بأوراد للقطب الفلاني والولي العلاني، رغب بأن يستبدل لهم ذلك بأدعية من القرآن وأدعية الفرج بعد الشدة، وسماها "منتخب التوسلات" وذلك في سنة 1315. ثم جمع أوراد الصباح والمساء وما يقال في السَّحر مما صحح وثبت، وسماها "الأوراد المأثورة" في سنة 1319، وكتب القاسمي عن ذلك: "وحبذا اليوم الذي نرى فيه لا ينتشر إلا المأثور، ولا يعتقد إلا الحق، وما ذلك على الله بعزيز"، والحمد لله اليوم غالب الفضائيات والإذاعات تنشر ما ورد في السنة الصحيحة مما تقر به عين القاسمي ولعلها تكون في ميزان حسناته إن شاء الله. • كتابه دلائل التوحيد: وقد كتبه سنة 1326 ردًا على مقال في صحيفة المؤيد تتضمن إنكار وجود الله وبعض الشبه عن الإسلام، وذلك حين رفض أحد كبار علماء الشام الرد بمقال على المقال الذى انتشر في آلاف النسخ من الجريدة، واكتفى بالرد عليه في درسه بالمسجد الأموي!! وهذا المنطق الأعوج لا يزال لليوم هناك من يسير عليه! أما القاسمي فقد انتصب للدفاع والرد بكتاب يطبع بالآلاف ويكون بين يدى الناس الذين يحتاجونه وهم المثقفون الذين يقرؤون الجرائد التي تنتشر فيها هذه التفاهات. • كتابه قواعد التحديث: وقد صنفه عام 1320 وراجعه مع الجزائري سنة 1324 وطبع سنة 1352، أي بعد وفاته بعشرين سنة. والكتاب يقوم على جمع كلام العلماء السابقين، وهو ما عابه محمد كرد علي على القاسمي، لكن حجة القاسمي أنه أراد أن يجابه المتعصبة الجامدين الحشويين الرافضين للبحث في الأحاديث وتمييز الصحيح من السقيم بأقوال علمائهم المتبوعين والمشهورين. • شذرة من السيرة النبوية: رسالة صغيرة ألفها وطبعها في مطبعة المنار أثناء زيارته للقاهرة سنة 1321، وكان الغرض منها أن يكون بديلًا لما يقرأ في الموالد من كتب بدعية تحتوي على الكثير من الخرافات والأكاذيب. وهي من فصلين: إعجاز القرآن، وغرر من الوصايا النبوية، وختمها بأربع فوائد: أصل قصة المولد، التحذير من البدع في تلاوة قصة المولد، حكم القيام عند ذكر الولادة، من أحدث المولد. • إصلاح المساجد من البدع والعوائد: وذكر القاسمي أن سبب تأليف هذا الكتاب هو كثرة البدع في المساجد، مما جعل إزالتها أولوية لدى المصلحين. • موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: كان القاسمي لما زار مصر سنة 1321 برفقة الشيخ عبد الرزاق البيطار التقى بالشيخ محمد عبده، وحضر بعض دروسه وزاره في بيته وأصبح بينهما صلة قوية على غرار صلة البيطار بعبده الوثيقة من قبل، ومن الأشياء التي سأل عنها القاسمي عبده: هل هناك كتاب تنصح أن ندرسه للعامة؟ فكان جواب محمد عبده: إن أحسن ما ينفع العامة كتب الغزالي بشرط تجريدها من الواهيات. ويبدو أن هذا صادف قبولًا وقناعة سابقة للقاسمي تجاه كتب الغزالي، ولذلك فبعد عودته بسنتين شرع في اختصار كتاب إحياء علوم الدين وأخرج لنا كتابه المتميز "موعظة المؤمنين". • قاموس الصناعات الشامية: من حرص القاسمي على التأليف ونفع المسلمين ومن بره بأبيه أنه اقترح عليه تأليف كتاب في نهاية حياته حول الصناعات والحرف في الشام، فسأله أبوه كيف أفعل؟ فأجابه: تستأجر دابة وتذهب لمحل الحرفيين وتسجل أسماء الصناعات والحرف ثم تدرسها. وقد فعل والده ذلك، لكنه مات وقد وصل لحرف السين، فأتمه جمال وزوج شقيقته خليل العظم. وقد أصبح هذا الكتاب فريدًا في بابه ولم يعرف له مثيل، وهذا يدل على سعة أفق القاسمي واهتمامه بالحياة والصناعة ونهضتها وعلم التاريخ والاجتماع، وقد قامت دراسات تحليلية كثيرة حول الكتاب عربية وغربية. • إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق: ألفه سنة 1329 لبيان جواز الاعتماد على الوسائل الحديثة للاتصالات في نقل خبر ثبوت شهر رمضان والعيد. وهو مما يدل على معاصرته للقضايا المستجدة ومواكبته للمخترعات الحديثة، وكان طاهر الجزائري قد حثه على تأليفه. • الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس: وذلك لبيان حقيقة الطلاق بالثلاثة وأنه لا يقع، وإلا لأصبح غالب الناس أولاد زنا، بسبب قلة دينهم. • محاسن التأويل: وهو تفسير قيم كتبه في أربع عشرة سنة، ولم يطبع إلا بعد وفاته بأكثر من أربعين سنة، وقد كانت عائلة القاسمي تعتبره كنزًا، فلما تعرض حيهم للقصف الفرنسي سنة 1925، لم يحمل أولاد القاسمي من بيتهم إلا تفسير والدهم والذي كان في 12 مجلدًا بخط القاسمي نفسه، ولم يكن له نسخة أخرى! والتزم القاسمي أن يضمن تفسيره كل ما يقع عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مما يتعلق بتفسير القرآن في موضعه. كُتب القاسمي كثيرة ولكن هذه بعضًا منها تدل على سعة أفقه ومعايشته لأحوال أمته، وحرصه على نهضتها ورفعتها من خلال التأليف كوسيلة إصلاحية، لا فائدة دنيوية من ورائها كحالنا اليوم حيث التأليف عند كثيرين وسيلة لمنصب أو ترقية أو مال، يقول القاسمي عن أحد الكتب في رسالة لمحمد نصيف: "ويعلم الحق أني لو أوتيت ما يمكنني القيام بطبعه على نفقتي لما تأخرت في طبع كل ما جمعت، ولكن يكفي (كما يقول الأستاذ طاهر الجزائري) الفقير: أن يجمع ويؤلف..". توفي رحمه الله تعالي في 23 جمادى الأولى 1332هـ الموافق 18/ 4/ 1914م، وكان عمره 49 عامًا، وذلك بعد مرض استمر معه عدة أشهر، ودفن في مقبرة الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة جدًا، ونعاه أهل العلم في دمشق وبيروت ومصر والعراق.
من سير أعلام مسند الإمام [10] أبو الدرداء رضي الله عنه حكيم الأمة وسيد القراء، وجامع القرآن، وفارس من طراز خاص إنه الصحابي الجليل عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه؛ قال البخاري رحمه الله: "سألت رجلًا من ولد أبي الدرداء، فقال: اسمه عامر بن مالك، ولقبه عويمر". لأبي الدرداء رضي الله عنه المكانة العالية، والمنزلة المرموقة بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: ((نعم الفارس عويمر»، وقال عنه أيضًا: ((هو حكيم أمتي». من آخر الأنصار إسلامًا، وكان يعبد صنمًا، فدخل ابن رواحة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما، بيته فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك، هلا امتنعت، ألا دفعت عن نفسك، فقالت أم الدرداء رضي الله عنها: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دَفَع عن نفسه ونفعها، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أعدِّي لي ماء في المغتسل، فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه ابن رواحة رضي الله عنه مقبلًا، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما جاء ليُسْلِمَ، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم». وقد أسلم رضي الله عنه يوم بدر، ثم شهد أحدًا وأبلى فيه بلاء حسنًا، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه صلى الله عليه وسلم بقية المشاهد. وكان من الصحابة الذين جمعوا القرآن كله، وكان من كتَّاب الوحي رضي الله عنه. روى البخاري من حديث أنس رضي الله عنه، قال: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد». وقد اشتهر بالعبادة؛ فكان يصوم النهار ويقوم الليل؛ حتى قال سلمان الفارسي رضي الله عنه كما عند البخاري: ((إن لجسدك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، صُم وأفطر، وصلِّ، وائت أهلك، وأعطِ كل ذي حق حقه». مناقبه رضي الله عنه عديدة، فهو رجل حكيم له فراسة المؤمن التقي الزاهد رضي الله عنه، وكان أول قاضٍ لدمشق: "وعندما فُتحت قبرص مرَّ بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقيل له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة، إذ عصَوا الله فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه!". ومن أقواله رضي الله عنه التي أصبحت منارًا للباحثين، وطريقًا للسالكين: "ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا؛ فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر". وقال رضي الله عنه: "اعبُدِ الله كأنك تراه، وعُدَّ نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلًا يغنيك خير من كثير يلهيك، وأن البر لا يبلى، وأن الإثم لا يُنسى". وقال أيضًا رضي الله عنه: "أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث؛ أضحكني مُؤمِّل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فِيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه؟! وأبكاني فراق الأحبة محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وحزبه، رضوان الله عليهم، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله، ولا أدري إلى الجنة أم إلى النار؟". ويُروى له مائة وتسعة وسبعون حديثًا، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثمانية. رحل في عهد عمر إلى الشام يعلِّم الناس القرآن، ويُذكر أنه أول من سنَّ حلقات تحفيظ القرآن، وقد تُوفِّيَ رضي الله عنه سنة 32 هـ، رحمه الله، ورضيَ عنه وعن الصحابة أجمعين. المراجع: • سير أعلام النبلاء. • أسد الغابة. • التاريخ الكبير. • صحيح البخاري. • مسند الإمام أحمد.
المجموعة العلمية من رسائل ابن رجب الحنبلي جمع سامي محمد جاد الله محمود ثروت أبوالفضل صدر حديثًا كتاب " المجموعة العلمية من رسائل ابن رجب الحنبلي "، تأليف: الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي ثم الدمشقي (ت 795 هـ)، تحقيق وجمع: " سامي بن محمد بن جاد الله "، و" عبدالعزيز بن ناصر الخباني "، نشر: " دار المحدث للنشر والتوزيع " و" دار الأوراق للنشر والتوزيع ". ونجد أن الحافظ ابن رجب الحنبلي قد أولى موضوع "طلب العلم" عناية فائقة، وتناوله في كثير من تآليفه ورسائله، وقد أفرد له عدة رسائل عدة تناول فيها: • حقيقة العلم وأهميته وفضائله. • المنهج الصحيح في تلقيه. • صفات أهله وحامليه. • نماذج من أحوال ورثته. • كما أبان الفارق بين العلم النافع وغير النافع بيانًا قل أن تجده عند غيره. • ولم يبطل الدليل، وذم التقليد في طلب العلم، وفتح باب الاجتهاد به مع التقيد بهدي الصحابة والأئمة الأعلام. ولما كانت حاجة أهل العلم وطلبته ماسة لجمع شتات هذه الرسائل في مؤلف واحد، نشأت فكرة هذا المجموع، حتى يسهل على الراغب قراءتها وإقراءها والإفادة منها، و ضم هذا المجموع المبارك خمسة رسائل من رسائل ابن رجب الحنبلي: • مقدمة مشيخة الحافظ ابن رجب: وهو كتاب ذكر فيه ابن رجب الحنبلي مشايخه الذين أخذ عنهم العلم متنقلًا بين بغداد والشام والقاهرة والحجاز، مترجمًا لكل منهم، وحث في مقدمته على طلب العلم، وأهميته وفضله. • بيان فضل علم السلف على علم الخلف: وهي كلمات مختصرة في معنى العلم وانقسامه إلى علم نافع. وعلم غير نافع. والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف. • تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ : وهي رسالة ماتعة كتبها ابن رجب في تفسير الآية الكريمة، مع بيان دلالة الآية عَلَى أن من خشي الله وأطاعه، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، فهو عالم؛ لأنّه لا يخشاه إلا عالم. وعلى نفي الخشية عن غير العُلَمَاء، ونفي العِلْم عن غير أُولي الخشية أيضًا، وأن من لم يخش الله فليس بعالم، وبذلك فسرها السَّلف، وجاء فيها بنكت وفرائد تفسيرية ولغوية. • شرح حديث أبي الدرداء في فضل العلم والعلماء: وهو في شرح حديث رسُول اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم يقُولُ: "منْ سلك طرِيقًا يبْتغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ، وإِنّ الملائِكة تضعُ أجْنِحَتَهَا رِضًى لِطالِبِ العِلْمِ، وإِنّ العالِم ليسْتغْفِرُ لهُ منْ فِي السّمواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتّى الحِيتانُ فِي الماءِ، وفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفضْلِ القمرِ على سائِرِ الكواكِبِ، وإِنّ العُلماء ورثةُ الأنْبِياءِ، وإِنّ الأنْبِياء لمْ يُورِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهمًا إِنّما ورّثُوا العِلْم؛ فمنْ أخذ بِهِ أخذ بِحظٍّ وافِرٍ". وفيه فوائد حول ماهية العلم النافع وغير النافع والمراد بعلم الظاهر وعلم الباطن، وأقسام العلماء، وبيان أن أكمل العلماء وأفضلهم: العلماء بالله وبأمره الذين جمعوا بين العلمين وتلقوهما معًا من الوحيين - أي: الكتاب والسنة - وعرضوا كلام الناس في العلمين معًا على ما جاء في الكتاب والسنة، فما وافق قبلوه، وما خالف ردوه. وهؤلاء خلاصة الخلق، وهم أفضل الناس بعد الرسل، وهم خلفاء الرسل حقًّا، وهؤلاء كثير في الصحابة، كالخلفاء الأربعة، ومعاذ، وأبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وغيرهم. • رسالة "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة": في بيان أنّ الله كما حفظ الحديث بالمحدّثين، حفظ الفقه بالفقهاء وبالأئِمة الأربعة، وأنه لا يبطل الاجتهاد، غير أن اتباع الأئمة الأربعة واجب، ويدعو للتمسك بمذهب أحمد بن حنبل في تحيز واضح لمذهبه الفقهي، يقول في مقدمتها: "فقد بلغني إنكارُ بعض الناس عَلَى إنكاري عَلَى بعض من ينتسبُ إِلَى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان: الخروج عن مذاهبهم في مسائل، وزعم أنَّ ذلك لا يُنكر عَلَى مَنْ فعله، وأنَّ من فعله قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحق الَّذِي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهد آخر. فلا يُنكر ذلك عليه". والحافظ ابن رجب الحنبلي هو زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السلامي البغدادي ثم الدمشقي موطنًا. الشهير بابن رجب الحنبلي. ولد على الراجح في سنة 736 هـ ببغداد. وكان أبوه من أبو العباس شهاب الدين أحمد أهل العلم والقراءات حيث قرأ القرآن بالروايات، واشتغل بإقرائها، ولهذا لقب بالمقرئ. واجتمعت عوامل كثيرة في تكوين شخصية ابن رجب العلمية فمنها نشأته بين كنف جده ووالده وما اشتهرا به من العلم والطلب، إلى جانب الاستعداد الفطري لدى ابن رجب نفسه لطلب العلم، والذي نماه احتكاكه بمشايخ عصره. فقد بدأ في الطلب وهو في سن الخامسة تقريبًا، فقد ذكر أنّه حضر لشيخه عبد الرحيم بن عبد الله الزريرتي (ت 741 هـ) قال: "وحضرت درسه وأنا إذ ذاك صغير لا أحقه جيدًا"، وقد تلقى إجازات كبار العلماء وهو في سن مبكرة: يقول ابن رجب: وذكر شيخنا بالإجازة الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق القطيعي البغدادي (ت 739 هـ). كما ذكر بعض علماء الشام الذين أجازوه، كالقاسم بن محمد البرزالي (ت 739 هـ)، ومحمد بن أحمد بن حسان التلي الدمشقي (ت 741 هـ). وفي دمشق سمع ابن رجب مع والده كبار المسندين والمحدثين مثل شمس الدين محمد بن أبي بكر بن النقيب (ت 745 هـ) والإمام علاء الدين أحمد بن عبد المؤمن السبكي وغيرهما. وفي نابلس ودمشق سمع من أصحاب عبد الحافظ بن بدران، كما ذكر في ذيله على الطبقات، قال: حدثنا عنه جماعة من أصحابه بدمشق ونابلس، وقرأت "سنن ابن ماجه" بدمشق على الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد الله بن محمد النابلسي الفقيه الفرضي بسماعه منه. وفي بغداد قرأ على الشيخ أبي المعالي محمد بن عبد الرزاق الشيباني سنة 749 هـ. وقد لزم في دمشق شيخه ابن قيم الجوزية إلى أنْ مات ابن القيم سنة 751 هـ. وقد أكثر عن شيخه أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي بمصر، كما لقي بالقاهرة محمد بن إسماعيل الصوفي المعروف بابن الملوك (4) (ت 756 هـ). وسمع أيضًا أبا الحرم القلانسي (ت 765 هـ). ويذكر ابن رجب اجتماعه بالشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد السقا وبين قاضي قضاة مصر الموفق ابن جماعة بمنى يوم القَرِّ عام 763 هـ. ومن شيوخه: الإمام ابن القيم، ابن عبد الهادي، ابن العطار، ومنهم أيضًا أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد القلانسي، ومحمد بن إسماعيل الخباز، وأبو الفتح محمد بن إبراهيم الميدومي. وأثنى عليه الكثير من علماء عصره وما تلاه، قال عنه الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر": "رافق شيخنا زين الدين العراقي في السماع كثيرًا، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالًا وعللًا وطرقًا واطلاعًا على معانيه" ونقل عن ابن حجي قوله: "أتقن الفن وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق". وقال ابن قاضي شهبة: "كتب وقرأ وأتقن الفن، واشتغل في المذهب حتى أتقنه وأكب على الاشتغال بمعرفة متون الحديث وعلله ومعانيه". وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: "وأكثر من المسموع، وأكثر الاشتغال بالعلم حتى مهر وأكثر عن الشيوخ، وخرج لنفسه مشيخة مفيدة". وقال عنه ابن فهد: "الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد والأئمة العباد، مفيد المحدثين واعظ المسلمين". وقال ابن العماد في الشذرات: "الإمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي المذهب". ومن مصنفاته: • جامع العلوم والحكم. • تفسير سورة الإخلاص. • تفسير سورة النصر. • شرح علل الترمذي. • أهوال القبور. • شرح صحيح البخاري المسمى بفتح الباري. • فضل علم السلف علي علم الخلف. • لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. • الفرق بين النصيحة والتعيير. • ذم المال والجاه. • نزهة الأسماع في مسألة السماع. • التخويف من النار. • استخراج الجدال من القرآن الكريم. • ذيل طبقات الحنابلة. • اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى. • القواعد الفقهية. • كشف الكربة في وصف أهل الغربة. • الحكم الجديرة بالإذاعة. • مجموع رسائل ابن رجب.
المجالس المدنية في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل حافظ السنة النبوية صدر حديثًا كتاب "المجالس المدنية في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل حافظ السنة النبوية"، للإمام "الشريف أبي علي محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي الكتاني الحسيني" (1332 - 1419 هـ)، أشرف على التحقيق: د. "عبد الفتاح الزينيفي"، دراسة ومراجعة: د. "حمزة علي الكتاني"، في ثلاثة عشر مجلدًا، نشر "دار المنهاج"، ودار "طوق النجاة". يُعدُّ هذا الكتاب أول شرح علمي لمسند الإمام أحمد ابن حنبل الذي قيل فيه: (لم يُؤلَّف مثلُه في الإسلام)، والذي استقى منه جُلُّ المحدِّثين الذين جاؤوا بعد الإمام أحمد، بمن فيهم أصحاب الكتب الستة..‏. و"مسند الإمام أحمد" لم يُشرح من قبلُ شرحًا وافيًا متكاملًا، فأغلب الأعمال عليه إما حواشٍ، أو فك عبارة، أو تخريجات مطولة، كما هي أعمال السندي، والساعاتي، والبنا، وشاكر.‏ وقد امتاز الكتاب باستيعاب التخريج الحديثي، وذكر طرق الأحاديث ورواياتها ومراتبها، مع تطرقه إلى شرط جده محمد بن جعفر الكتاني والجلال السيوطي في الأحاديث المتواترة مستدركًا عليهما أحاديث كثيرة جاءت متواترة على شرطهما ولم يذكرها أحد قبله في المصنفات المختصة بالأحاديث المتواترة.‏ كما ترجم لرجال المسند مع الحكم عليهم جرحًا أو تعديلًا. وكذلك استيعاب لغة الحديث وغريبه، ثم التوسع في فقه الحديث، وذكر الفقه المقارن والخلاف العالي، والترجيح بين مذاهب المجتهدين المتبوعة والمنقرضة، وذكر الراجح فيها...‏ والمؤلف أيضًا يتطرق للقضايا المعاصرة من نوازل، ومعاملات، وسياسة شرعية، وغير ذلك من المسائل؛ بحيث يتطرق لجُلِّ أبواب الفقه...‏ وأصل الكتاب مجموعة أطروحات جامعية للدكاترة: د. "جمال الدين امحمدي". د. "محمد أمزيل". د. "محمد القسطالي". د. "محمد أيت الفقير". د. "إيمان حيلمي". د. "يونس المرابط". د. "خدوج كمال". د. "فوزية فرحات". بإشراف: أ.د. "عبد الفتاح الزينيفي". ومراجعة حفيد المؤلف: د. "حمزة بن علي بن محمد المنتصر الكتاني‏". ‏وهذه الأطروحات في إطار بحوث الدكتوراه بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء بالمغرب. وقد أشرف على الكتاب وقدم له فضيلة الأستاذ الدكتور هاشم محمد علي مهدي وبمساهمة مباركة من اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي. ومؤلِّف الكتاب العلامة محمد المنتصر الكتاني من كبار علماء العالم الإسلامي، درَّس في جامعات المغرب، وسورية، والمملكة العربية السعودية. وكان كذلك مدرِّسًا للحديث والتفسير بالحرمين الشريفين. وهذا الشرح أملاه أثناء تدريسه للمسند في الروضة الشريفة بالحرم النبوي بالمدينة المنورة. ويعد العلامة "محمد المنتصر بالله الكتاني" - رحمه الله - هو واحد من أوائل شروح هذا المسند العظيم، وقد نهج فيه المؤلف منهج الشروح الحديثية، مع سهولة عباراته ووضوحها، وابتعاده عن الحشو والإطناب، دون إخلال ولا إملال. حيث ترجم المصنف للرجال، وخرج الطرق، وبيَّن الشواهد، وأدلى بدلوه من حيث الصنعة الحديثية، ثم تكلم عن فقه الحديث وآراء الأئمة، وقد حوى هذا السفر النفائس والدرر، والفرائد الغرر، في اللغة والفقه والأثر. وقام الدكتور حمزة الكتاني، بكتابة دراسة حول هذه الموسوعة، تتضمن التعريف بالمؤلف وبالكتاب، في أكثر من ثلاثمائة صفحة، جعلها ترجمة وثائقية، ودراسة شاملة حول الكتاب، يقول: "استغرق العمل منا في هذه الموسوعة القيمة نحو عشر سنوات، منذ عام 2010م، إلى 2020م، وأخذ منا جهدًا عظيمًا، جعله الله تعالى من العمل المقبول، وفي المستوى اللائق بالكتاب ومؤلفه رحمه الله تعالى..". أما عن مسند الإمام أحمد بن حنبل فقد شرع الإمامُ أحمد بتصنيف " المسنَد " مُنصَرَفه من عند عبدِ الرزاق، أي نحو سنة (200 هـ)، وهو في السَّادسة والثلاثين من عمره، انتقاه من أكثر مِن سبع مئة ألف حديث، سَمِعَها في رحلاته، فَضَمَّ نحو ثلاثين ألف حديث يرويها عن مئتين وثلاثة وثمانين شيخًا من شيوخه، وكان قد كَتَبَه في أوراقٍ مفردة، وفَرَّقه في أجزاءٍ منفردةٍ على نحو ما تكونُ المسوَّدَة، ورواه لولده عبد الله نسخًا وأجزاءً، وكان يأمُرُه: أن ضعْ هذا في مسند فلان، وهذا في مسند فلان، وظلَّ يَنْظُرُ فيه إلى آخر حياته. وكان رحمه الله شديدَ الحرص على إيراد ألفاظِ التحمُّل كما سمعها، مثل: "حدثنا"، "أخبرنا"، "سمعت"، "عن"، لا سيما إذا روى الحديث عن أكثر من شيخ، فإنه يذكر لفظ كل واحد منهم كما هو بَيِّن في الأصول الصحيحة المسموعة المعتمدة في طبعتنا هذه. ولم يكن مَرْمى الإمام أحمد أن يرتِّبَ كتابه على أبواب الفقه، وإنما غايتُهُ هو جمعُ ما اشْتَهر من الحديث على امتداد الرُّقعةِ الإسلامية بسندٍ متصلٍ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسبَ رواته من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي طريقة غايتُها الاستيعابُ، وهو ما أراده الإمامُ أحمد بقوله لابنه عبد الله: احتَفِظْ بهذا "المسند"، فإنه سيكونُ للناس إمامًا. وذُكر أنه قال فيه: عملتُ هذا الكتابَ إمامًا، إذا اختلف الناسُ في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعُوا إليه. ولهذا أصبح أصلًا من أصولِ الأمة كما قال الإمام السبكي.
على أبواب المدينة قال في السيرة: وفي اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبقَ ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أولَ مَن رأى - ركبه - رجلٌ من اليهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك. قال أنس بن مالك: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلًا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيهًا به، يقول أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أرَ يومين شبيهًا بهما. وفي الصحيحين عن أبي بكر قال: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد - يرددون هاتين العبارتين - فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر. ورُوي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جعل النساء والصبيان يقولون: طلع البدر علينا مِن ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم خرج يوم الجمعة، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، وقد ذكر الرواة عدد الأيام ما بين أربع عشرة ليلة إلى ثماني عشرة إلى اثنتين وعشرين، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي - وادي رانوناء - فكان أول جمعة صلاها بالمدينة، وذكر أنه قال فيها: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقُرب من الأجل...)). وقد مدح الله تعالى مسجد قباء، المسجد الذي أُسس على التقوى: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]، ورُوي في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصار في مسجد قباء فقال: ((إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟))، قالوا: والله يا رسول الله، ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا، وفي رواية أخرى، قالوا: كنا نُتبع الحجارة بالماء، فقال: ((هو ذاك، فعليكموه))، وقد ورد أن "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" في الأجر، وورد أن الذي حدد اتجاه قبلته جبريل عليه السلام، فلما خرج من قباء تجاه المدينة، أتاه رجال من بني سالم فقالوا: أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، فقال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة)) يعني ناقته - فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه بنو بياضة، وقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا في العدد والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار - وهم أخواله - اعترضه رجال من بني النجار، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت في مربد لغلامين يتيمين - وهو مكان باب المسجد النبوي فيما بعد - من بني مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكان في حجر معاذ بن عفراء، ورُوي أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة. وكانت الأنصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة؛ محبة لمَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل يريد أن يقودها، فكان يقول: ((دعوها؛ فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله)). قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يَثْنِيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب خالد بن يزيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن المربد: لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله والمسلمون من المهاجرين والأنصار. عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلنا جاء الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: ((دعوا الناقة؛ فإنها مأمورة))، فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت جوارٍ من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن: نحن جوارٍ من بني النجار يا حبذا محمدٌ مِن جار فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتحبونني؟))، فقالوا: إي والله يا رسول الله، فقال: ((وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم))؛ حديث خرجه الحاكم في مستدركه، وفي رواية أخرى عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار وإذا جوارٍ يضربن بالدفوف يقلن، وذكر البيت السابق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعلم الله أن قلبي يحبكم))؛ رواه ابن ماجه، وفي صحيح البخاري عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين - حسبت قال: مِن عُرس - فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أنتم مِن أحب الناس إليَّ)) قالها ثلاثًا. وهكذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرًا سالمًا، وقد استُقبل فيها بالحب والحفاوة والتكريم، كل يريده، وكل يدعوه للإقامة عنده في العز والمنعة، يبذلون دونه الأرواح والدماء، لقد آمن هؤلاء الأنصار إيمانًا راسخًا قويًّا كرسوخ الجبال أو أشد، في فترة زمنية قليلة، فأين هؤلاء من كفار مكة بلدِ النبي صلى الله عليه وسلم ومسقط رأسه الذين جفَوه وآذَوه وآذَوا أصحابه ثم تآمروا عليه وبيَّتوا قتله؟ مكث بينهم ثلاث عشرة سنة يعظهم ويقرأ عليهم القُرْآن وينبئهم بالمغيبات عن طريق الوحي، وبرغم هذا فهم معاندون مجادلون مقاطعون، لقد نزل معظم القُرْآن بمكة وسمعوا أغلبه، فأخذ عليهم - بما فيه من سر البلاغة والفصاحة - لبَّهم، ولكن قلوبهم ظلت كالصخر الأصم لا ينفع معه نصح ولا تذكير ولا تخويف، لقد نزل بمكة ست وثمانون سورة من أصل مائة وأربع عشرة سورة هي سور القُرْآن الكريم، فيها التوحيد والوعد والوعيد، والبِشارة والنِّذارة والتخويف، وذكر غابر الأمم وما مر بهم، وما لاقى أهل الجحود والصدود، والمتكبرون؛ أمثال فرعون ونمرود وقوم نوح وقوم عاد وصالح، فغلف الران قلوبهم، إلا نخبة منهم عرَفوا الحق فاتبعوه، وتحملوا أذى قومهم، فهاجروا إلى الحبشة اتقاء شرهم، ثم تركوا الديار خائفين وجِلين في هجرة إلى إخوانهم الأنصار بالمدينة، فجعل الله لهم بهم سندًا وناصرًا، فأبدلهم الله دار هجرة فيها الخير والاطمئنان إلى أداء العبادة ريثما يفتح الله بينهم وبين قومهم بالحق، والله خير الفاتحين.
نوح عليه السلام (4) ذكرتُ في ختام المقال السابق أن كون أتباع الأنبياء من الفقراء قد ذكره هرقل عظيم الروم لأبي سفيان رضي الله عنه؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عباس، أنَّ أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في رَكْب من قريش وكانوا تجَّارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه منِّي وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، قال: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبتُ عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسَب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم"، وساق الحديث إلى أن قال: "فقال للترجمان: قل له: سألتُك عن نسَبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسَّى بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل..."؛ الحديث، وفيه: "فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على مَن اتبع الهدى؛ أما بعد، فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تَسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت فإن عليك إثم الأريسيين، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. هذا، وقد بيَّن اللهُ تبارك وتعالى في آخر سورة (ص) أنَّ المشركين من قريش الذين ماتوا على الكفر يتحزَّنون يومَ القيامة عندما يدخلون جهنم ولا يرون فيها الفقراء من أمثال صهيب وعمَّار وبلال وجعيل بن سراقة وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴾ [ص: 62، 63]، فقد رفع الله تبارك وتعالى الفقراءَ لَمَّا آمنوا وأدخلهم الجنَّةَ، وأدخل الكبراءَ والرؤساء في النار لما ماتوا على الكفر، ولما قالت قريش: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، أي: على غنيٍّ من أغنياء مكة أو من أغنياء الطائف، قال تعالى موبخًا ومبينًا فساد رأيهم حيث يقول: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 32 - 35]، والفقر أو الغِنى ليس معيارًا لمقادير الرجال ومقاييسهم؛ فالمرء لا يقاس بغناه أو بفقره، وقد يكون الرجل غنيًّا وهو لا يساوي في عين الله شيئًا، ولا عند الناس، وقد يكون فقيرًا وهو عند الله عظيم. وقد مرَّ رجل مِن الأغنياء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسألهم عنه فقالوا: حَرِيٌّ به إن خطبَ أن يُنكح، وإن قال أن يُستمع، وإن شفَع أن يُشفَّع، ثم مرَّ به رجل من فقراء المسلمين وهو جعيل بن سراقة، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ به إن خطب ألَّا يُنكح، وإن قال ألا يُستمع، وإن شفع ألا يشفَّع، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الفقير أنه يساوي ملء الأرض من هذا الغني؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا - يعني الفقير - خير من ملء الأرض مثل هذا - يعني الغني))، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفقيرَ الصالح خيرًا من ملء الأرض من أغنياء غير صالحين، علمًا أنَّ الغنى الحقيقي ليس عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس))، على أنَّ الغنى والفقر أعراض تتبدَّل وتتغيَّر؛ فالمال ظِلٌّ زائل وعارية مستردَّة، ولله درُّ الشاعر حيث يقول: لا تهين الفقير علَّك أن تركع يومًا والدَّهر قد رفعَه وقد نبَّه الله تبارك وتعالى إلى سوء فهم مَن يظن أنَّ الغنى يرفع قيمة الرجل في الحقيقة، حيث يقول: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]؛ ولذلك كان الميزان العدل يوم القيامة أن يرفع الصالحين، ولو كانوا في الدنيا فقراء مستضعفين في أعين الناس، وأن يخفض غير الصالحين ولو كانوا كبراء أغنياء، وفي ذلك يقول عز وجل: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾ [الواقعة: 1 - 3]، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية عند الله يوم القيامة، ويا رُب عارية في الدنيا كاسية عند الله يوم القيامة. وهذه الشُّبهة التي أثارها المستكبرون من قوم نوح قد أثارها المستكبرون مِن قريش، حتى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعد الفقراء عن مجلسه ليجيئوا إليه، وأنهم لا يرضون أن يجالسوا هؤلاء الفقراء، فقال الله تعالى لرسوله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 52، 53]، فالمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، لا يقاس بماله ولا جماله ولا طوله ولا عرضه؛ وبهذا يتَّضح أن الشبهة الثانية التي أثارها قوم نوح هي شبهة داحضة عاطلة باطلة فاسدة كاسدة. أما الشبهة الثالثة من هذه الشبه فهي أن نوحًا والمؤمنين به لا مزية لهم في الخَلْق على غيرهم، وقد حكى الله تبارك وتعالى هذه الشبهة عنهم في قوله: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾ [هود: 27] علمًا بأن قولهم هذا يرد شبهتهم بدعواهم أنهم أَفْهَمُ مِن الفقراء الذين وصفوهم بأنهم أراذل بادي الرأي؛ لأنهم لم يتميزوا في شيء من خلقتهم على الفقراء، فتركيب أجسام الجميع سواء، وهذه الشبهة بعينها أثارها الكفَّار ضد جميع المرسلين، وهي تنبئ عن عقلية فاسِدة ونظرية مادية ملحدة؛ فهم يريدون أن يتحكَّموا في رحمة الله، وأن يحجروا على فضل الله. وقد بدأ نوح عليه السلام في ردِّ هذه الشبهة وصدر بها الأجوبة الشافية الكافية؛ حيث قال لهم فيما حكى الله عز وجل عنه: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، فهو يجيبهم بأنَّ النبوَّة رحمة من الله، وهدى من فضله، ولا يملك أحدٌ من خلقه التحكم فيها فيمنحها من يشاء ويمنعها عمَّن يشاء، وخزائن رحمة الله بيده هو لا شريك له؛ ولذلك ردَّ الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء على مَن أنكر أن يكون الرسول بشرًا بدعوى أنه لا مزية لبشر على بشر فقال: ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإٍسراء: 100]، وقال تعالى في سورة (ص) مثيرًا لشبهتهم مبطلًا لها حيث يقول: ﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ [ص: 8، 9]، وكأن نوحًا عليه السلام يرد شبهة قومه فيقول لهم: "ماذا أفعل لقلوبكم إذا كانت متحجرة، لا تؤمن بالله ولا تصدق المرسلين، ولا تبحث عن أسباب سعادتها؟ وليست خزائن الله بيدي أتصرف فيها كما أشاء، بل خزائن الله بيده هو جل وعلا، يمنح من يشاء ويمنع من يشاء، فله وحده خزائن السماوات والأرض، كما أنَّ قلوب العباد بيد الله يصرفها كيف يشاء، ولا سلطان لي على قلوبكم ولا سيطرة لي عليها، ثمَّ يبرز نوح عليه السلام حجَّةً قوية في الدلالة على رسالته وصدقه فيما يخبر به فيقول لهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]؛ أي: أنا لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، مع أنِّي أدعوكم إلى أسباب سعادتكم في الدنيا والآخرة؛ إذ هو يدعوهم لأقوم المناهج وأحسن أساليب الحياة الطيِّبة؛ مما يجلب لهم عزَّ الدنيا ورضوان الله في الآخرة لو ساروا على المنهج الذي جاء به نوح عليه السلام. ولا شك أنَّ مَن ينتصب للدعوة لإقامة هذا المنهج الراشد الذي يحفظ لهم أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم دون أن يطلب منهم أجرًا في مقابلة عمله هذا الذي يعود عليهم بكل خير، ويحفظهم من كل شر مع تعرُّضه لتكذيب المكذِّبين، وعناد المعاندين وافتراء المفترين، وأذى السُّفهاء الجاحدين - لا بد من أن يكون صادقًا، ولا شك في أنَّ دعوة جميع الأنبياء والمرسلين تدور في فلك الكليات الخمس، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض والنسب، وحفظ العقل، وحفظ المال؛ وهي الأساس المتين للمجتمع المثالي السعيد. وقد دلَّتْ تجاربُ الإنسانية في تاريخها الطويل على أنَّه ما استمسكت أمة بمنهج نبيها إلا عزَّت وسعدت، ولا انحرفت أمَّة عن منهج الأنبياء والمرسلين إلا ذلَّت وهانت، ولو أن جماعة من الجماعات أو أمة من الأمم أرادت أن تضع لنفسها منهجًا يحفظ عليها مصالحها لأنفقت أموالًا جزيلة على ( اللجان والهيئات ) التي تقوم بوضع المنهج الذي تطلبه والذي قد تقضي في إعداده الأشهر والسنين، ومع ذلك لا بد من أن يكون أبتر قاصرًا، قد يحتاج إلى تعديل وتبديل، وتعديل التعديل، وتبديل التبديل مرات ومرات؛ كما هي الحال في جميع الأنظمة الوضعيَّة التي تتقاصر جملة وتفصيلًا عن منهج الأنبياء والمرسلين؛ لأنَّ المناهج الإلهية يضعها العليمُ الخبير؛ لذلك تتَّسِم بالكَمال والشُّمول لمصالح الدنيا والآخرة والغيب والشهادة ممَّا لا مجال فيه البتة للنَّظريات الوضعية والمناهج الأرضية التي لا بقاء لها ولا شمول. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حول كتاب "مصابيح السُّنَّة للبغوي" البَغَويُّ: هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفَرَّاء (كان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، وهي جمع فَرْو الجلود تُدبغ وتُخاط وتُلبَس)، البَغَوَيُّ (نسبة على غير قياس إلى بلدة يُقال لها (بَغْشُوْر)، ويُقال نسبة إلى (بَغْ أو باغ) قرية من بلاد خراسان بين مَرْو (قرب ماري الحالية تركمانستان) وهِرات (أفغانستان الحالية). لَقَبُه محيي السُّنَّة وركن الدين، فقيه شافعيٌّ ومُفسِّر وحُجَّة في الحديث ومن أصحاب المُصَنَّفات، قال السيوطي في طبقات الحُفَّاظ: (وبُورك له في تَصَانِيفه، لقَصْده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيِّين، ذا تعبُّدٍ ونُسُكٍ، وقناعة باليسير)، وسمَّاه كذلك الحسين بن محمد بن مسعود. وُلِد البَغَوَيُّ في جُمادى الأولى سنة 433 هـ، أمَّا الزركلي [1] فأشار في الأعلام إلى أنه وُلِد سنة 436 هـ، وقد انتقل من موطن رأسه (بغ) إلى (مَرْو الروذ)، حيث كان عمره سبعة وعشرين عامًا، فأقام بها واتخذها وطنًا ثانيًا له، وتَفَقَّه فيها على شيخ الشافعية القاضي أبي علي الحسين بن محمد المَرْوَرُّوْذِيِّ، صاحب " التعليقة "، وغيره، ولم يغادر هذه المدينة حتى تُوفي بها بعد أن نَيَّف [2] على الثمانين في شوال 516 هـ / ديسمبر 1122 م [3] ، وهو المرجح، وتقول روايات أخرى [4] : إن وفاته كانت في شوال عام 510 هـ / فبراير 1117م. من مصنفاته: التهذيب في فقه الشافعية، وشرح السُّنَّة في الحديث، ومعالم التنزيل في التفسير، ومصابيح السُّنَّة، والجمع بين الصحيحين و(الأنوار في شمائل النبي المختار). وللبغوي مجموعة من الفتاوى لم تصِل إلينا، ضمنها فتوى شيخه. وقد كتب أيضًا موجزًا في الفقه سمَّاه ( التهذيب في الفروع )؛ يمكن مراجعة فهرس الكتبخانة المصرية (وتُعرَف حاليًّا باسم دار الكتب والوثائق القومية)، ج3 ص 212. وطُبِع تفسيره المُسمَّى ( معالم التنزيل ) على الحجر [5] بفارس في 4 مجلدات ولم يُذكَر مكان الطبع أو تاريخه، وطُبِع أيضًا في بومباي في مجلدين عام 1309 هـ /1891 م [6] ، وكان نصيبه الرَّوَاج والانتشار؛ لما يتميَّز بأنه تفسير متوسط، وهو بسيط ليس بالطويل المملِّ، ولا بالمختصر المخل الذي لا تفهَم بعد قراءته شيئًا. وجمع البغوي الأحاديث النبوية كلها في كتابه ( شرح السُّنَّة). وترجع شهرة البَغَويِّ في العالم الإسلامي إلى مُصَنفه في الحديث المعروف بـ ( مصابيح السُّنَّة )؛ وقد جمعه من كتب السُّنَّة السبعة الصحيحة، محذوفة الأسانيد معتمدًا على نقل الأئمة، وبَوَّبَه على أبواب، وقَسَّم أحاديث الكتاب في كل باب إلى قسمين : صِحَاح وحِسان ، ثم قال في الحِسان : "وأكثرُها صِحَاح بنقل العدل من العدل، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في عُلُوِّ الدرجة من صحة الإسناد؛ إذ أكثر الأحكام بثبوتها بطريق حسن، وما كان فيها ضعيفًا أو غريبًا أشرت إليه" ، ويُفْهَم من هذا أنه لم يجعل قِسْمًا خاصًّا للغريب والضعيف؛ بل هو داخل قِسم الحِسان عنده ، وأن الغَرَابة والضعف لَيْسَا إلى الدرجة التي تمنع الأَخْذ بما ذكره في الحِسان. وهذا التقسيم للبغوي اصطلاح خاص به، ليس موافقًا لمصطلح أهل الحديث؛ بل هو اصطلاح غير صواب؛ لأنه يخلط الأمر على القارئ فإنه أخذ كثيرًا من الحِسان من كتب السنة الثلاث؛ وهي: أبو داود والترمذي والنسائي أحاديث صحيحة جدًّا لا تَقِلُّ في الصِّحة عن درجة ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وقد انتقد كثير من المتقدمين صنيع البغوي هذا وأبانوا [7] عن خطئه، وإن كان اصطلاحًا خاصًّا به، وطُبِع هذا المُصَنَّف بالقاهرة عام 1294 هـ / 1877 م في مجلدين، ثم طُبِع عام 1318 هـ / 1900 م [8] . وجاء محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي ورتَّب مُصَنَّف (مصابيح السُّنَّة) ترتيبًا جديدًا، وذكر اسم الصحابي الراوي للحديث، وقَسَّم الحديث في كل باب إلى ثلاث طبقات: صحيحة أخذها من البخاري ومسلم، و حسنة أخذها من السُّنَن، وغريبة وضعيفة ؛ وسَمَّاه ( مشكاة المصابيح )، وأَتَمَّه عام 737 هـ / 1336 م، وهو الآن كثير الذيوع لشُموله وسهولة ترتيبه؛ إذ إنه يَمُدُّ المسلم قليل الحظ من العلم بمجاميع الحديث القويمة [9] مُتَحَاشِيًا الإسناد الكثير المٌتْعِب مع توخِّي الإرشاد وتجنُّب التعالم [10] ، وطُبِع هذا الكتاب على الحجر عدة مرات في دلهي وبومباي، وطُبِع في بطرسبرج (في روسيا حاليًّا)عام 1898 م في مجلدين، وفي قازان (روسيا) عام 1909 م، وتُرْجِم إلى الإِنجليزية في كلكتة بالهند عام 1809م [11] . ونذكر من شروح هذا الكتاب شرح ابن حجر الهيتمي المُتوفى عام ٩٧٤ هـ / 1566م - وسَمَّاه ( فتح الإله في شرح المشكاة )، في مجلد واحد، وهو محفوظ بدار الكتب المصرية (برقم 345 حديث)، ولم يُطبَع قط هذا الكتاب فيما نعلم لا بمصر ولا في غيرها. وقد ذكر المستشرق الألماني كارل بروكلمان ( Carl Brockelmann ) أن كتاب شرح ابن حجر الهيتمي مطبوع بالقاهرة عام 1309 هـ / 1891 م في خمسة مجلدات، وهذا خطأ؛ فالمطبوع هو كتاب ( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ) تأليف العلامة ملا علي القاري (علي بن سلطان محمد، القارئ الهروي) المكي المُتوفى بمكة عام ١٠١٤ هـ / 1606 م، وهو شرح نفيس معروف، وقد أدرك بروكلمان هذا الخطأ فأصلحه في الملحق الأخير لكتابه (في تاريخ الأدب العربي)، وقد أطلعني عليه بعض الإخوان العارفين باللغة الألمانية. وشرحه بالفارسية عبدالحق الدهلوي المُتوفى عام 1052 هـ / 1642 م، وسمَّاه (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)، وطُبِع في كلكتة وشسورة عام 1251 هـ / 1835 م، وعام 1259 هـ / 1843 م. وألَّف التبريزي ( كتاب أسماء رجال المشكاة ) وهو تراجم للرجال المذكورين في المشكاة، وأتمَّه في العشرين من شهر رجب سنة 740 هـ / 1340 م. المصادر: 1- ابن خَلِّكان: وفيات الأعيان، طبعة بولاق، طبعة وستنفلد 1299 هـ / 1881 م. 2- السبكي: طبقات الشافعية، طبعة القاهرة عام 1324 هـ / 1906م -ج 4، ص 214. 3- السيوطي: طبقات المفسرين، طبعة Moursinge ، ص 12، رقم 35. 4- يوسف إليان سركيس: معجم المطبوعات العربية والمعربة. [1] الأعلام للزركلي، ج 2، ص 33. [2] نَيَّف: زائدٌ على العَقْد من واحدٍ إلى ثلاثة، وما كان من ثلاثة إلى تسعة فهو بِضعٌ. [3] تهذيب ابن عساكر، جـ 4، ص 345, ودائرة المعارف ج 4، ص 27، وفهرس الكتبخانة ج1، ص 357. [4] ومنها وفيات الأعلام، ج 1، ص 142. [5] الطباعة على الحجر: هي طباعة أولية مفادها أن تُرسَم الصورة أو الكلمات على الحجر بحبر دُهني أولًا ثم كبسها على الورق بحجر أملس مستَوٍ ويرطب الحجر بالماء، فإذا مرت عليه الأسطوانة المدهونة حبرًا استمدت الكتابة من الحجر. [6] ذكر يوسف إليان سركيس الدمشقي في كتابه (معجم المطبوعات العربية والمعربة) ص 573 أنه طُبِع على الحجر ببومباي عام 1296 هـ / 1878 م. [7] أبان الأمر: بان، ظهر واتَّضَح. [8] معجم المطبوعات العربية والمعربة، ص 573. [9] تقوَّم العودُ: اعتدل وزال عوجُه. [10] التعالم: هو ادِّعاء الشخص أنه عالم وهو في الحقيقة ليس بعالم. [11] معجم المطبوعات العربية والمعربة، ص 627.
المباحث العقدية المتعلقة بمكة المكرمة لمحمد عمر الكاميروني صدر حديثًا كتاب "المباحث العقدية المتعلِّقة بمكة المكرَّمة"، تأليف: د. "محمد عمر الكاميروني"، نشر: "دار الميراث النبوي للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدم بها الكاتب لنيل درجة الماجستير في العقيدة من كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك تحت إشراف أ.د. "صالح بن محمد العقيل"، وذلك عام 1434 هـ - 1435هـ. وقد حوت هذه الرسالة المباحث العقدية المتعلقة بمكة المكرمة؛ لعظم هذا المكان، وعلو قدره عند الله ورسله وعند المسلمين جميعًا. فالله سبحانه وتعالى فضل بعض الناس على بعض، وجعلهم على درجات متفاوتة على حسب قربهم إلى الله وتقواهم، واختار منهم الأنبياء، ومن الأنبياء الرسل، ومن الرسل أولي العزم، ومن أولي العزم نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وإبراهيم - عليه السلام - وخصهما بالخلة دون باقي الأنبياء والرسل. وخص إبراهيم - عليه السلام - من بينهم بإعمار مكة، وتحريمها، ورفع قواعد البيت المبارك فيها، وتعليم الناس المناسك، كما خص محمد - صلى الله عليه وسلم - بخصائص كثيرة منها أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته شاملة عامة لكل زمان ومكان، فتحَ مكة وأزالَ ما فيها من الأصنام التي تُعبَد من دون الله، وطهرها من أدناس الشرك، فخطب الناس، وأخبرهم عن حكمها قبل دخوله، وحكمها وقت دخوله، وحكمها بعد ذلك، ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين لأمته الخصائص التي خص الله بها مكة إلى أن مات صلى الله عيه وسلم. لذا جمع الكاتب ما يخص عقديًا كل ما يتعلق بمكة المكرمة والكعبة الشريفة، حيث لم يجد موضوعًا أفرد بهذا المبحث الهام، حيث بدأت الرسالة ببيان فضائلها والأماكن التي يقصدها الناس للعبادة مثل المساجد والمشاعر المقدسة، ونحوها، وكذلك اشتملت على المباحث المتعلقة بالكعبة، والحجر الأسود، والملتزم ومقام إبراهيم، والصفا والمروة، وماء زمزم، وكذلك المباحث المتعلقة باليوم الآخر التي لها صلة بمكة، واستخلص منها الفوائد المتعلقة بهذه المباحث. وقد انقسمت الرسالة إلى مقدمة وتمهيد وثمانية فصول وخاتمة: المقدمة: تشتمل على: 1- أهمية الموضوع وأسباب اختياره. 2- الدراسات السابقة. 3- خطة البحث. 4- منهج البحث. 5- شكر وتقدير. التمهيد: نبذة عن تاريخ مكة ومكانتها في الجاهلية والإسلام. وفيه مبحثان: المبحث الأول: تاريخ مكة ومكانتها في الجاهلية، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: نبذة من تاريخ مكة من عهد إبراهيم - عليه السلام - إلى عهد خزاعة. المطلب الثاني: نبذة من تاريخ مكة من عهد خزاعة إلى البعثة. المطلب الثالث: أسباب عبادة الأصنام بمكة وتغيير ملة إبراهيم. المطلب الرابع: مكانة مكة في الجاهلية. المبحث الثاني: نبذة عن تاريخ مكة ومكانتها في الإسلام، وفيه مطلبان: المطلب الأول: تاريخ مكة في الإسلام. المطلب الثاني: مكانتها في الإسلام. الفصل الأول: المباحث العقدية المتعلقة بفضائل مكة: وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: المباحث المتعلقة بأسماء مكة، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: ما ورد من أسماء مكة. المطلب الثاني: ما أضيف إلى الله من أسماء مكة. المطلب الثالث: دلالة أسماء مكة. المطلب الرابع: البدع المتعلقة بأسمائها. المبحث الثاني: المباحث المتعلقة بمحبتها، وفيه مطلبان: المطلب الأول: محبة الله ورسوله لها. المطلب الثاني: ما يستفاد من محبة الله لها. المبحث الثالث: المباحث المتعلقة بحرمها، وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: بيان معنى الحرم لغة وشرعًا، والأدلة على حرمة مكة. المطلب الثاني: ما ورد أن أمن الحرم لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة. المطلب الثالث: تعظيم الحرم. المطلب الرابع: الغلو في تعظيم الحرم. المطلب الخامس: حكم استحلالها. المبحث الرابع: المسجد الحرام: تعريفه وفضله، وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: فضله. المبحث الخامس: مضاعفة الحسنات والسيئات بمكة، وفيه مطلبان: المطلب الأول: مضاعفة الحسنات بمكة. المطلب الثاني: مضاعفة السيئات بها. المبحث السادس: المباحث المتعلقة ببركتها، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: معنى البركة. المطلب الثاني: البركة كلها من الله سبحانه وتعالى يخص بها من يشاء من خلقه. المطلب الثالث: الأدلة على ثبوت البركة في مكة. المطلب الرابع: مشروعية طلب البركة الموجودة فيها. المبحث السابع: قصد مكة بالهدي، وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالقصد. المطلب الثاني: الأدلة على مشروعية قصد مكة بالهدي. المطلب الثالث: الهدي من شعائر الله. المطلب الرابع: ما يحصل به تعظيم الهدي. المطلب الخامس: الحكمة من سوق الهدي إلى مكة. المطلب السادس: وجوب الإخلاص فيما يهدى إلى مكة من الهدي. المبحث الثامن: قسم الله سبحانه وتعالى بها. الفصل الثاني: المباحث العقدية المتعلقة بما يقصد بمكة من الأماكن: وفيه تمهيد، ومبحثان: التمهيد: مساجد مكة وآثارها وما يقصد بالتعبد فيها سوى المسجد الحرام، وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: المساجد والمشاعر. المطلب الثاني: الدور والمغارات. المطلب الثالث: الجبال والمغارات. المطلب الرابع: المقابر. المطلب الخامس: القباب. المبحث الأول: تتبع آثار مكة وقصدها بالعبادة وشد الرحال إليها، وفيه: المطلب الأول: تتبع الآثار المعظمة شرعًا والعبادة عندها. المطلب الثاني: تتبع الآثار التي ليس لها خصيصة وحرمة قد جاء النهي عن قصدها أو العبادة عندها. المطلب الثالث: تتبع الآثار التي ليس لها خصيصة ولا فضيلة في الشرع. المطلب الرابع: شد الرحال إليها. المبحث الثاني: ما ذكر أن بعض الأنبياء مدفون في بعض مساجدها، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: المدفونون في المسجد الحرام. المطلب الثاني: المدفونون في مسجد الخيف. المطلب الثالث: أثر وجود القبر في المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة. الفصل الثالث: المباحث العقدية المتعلقة بالكعبة: وفيه تمهيد، وثمانية مباحث: التمهيد: أسماء الكعبة، وبناؤها، وفيه مطلبان: المطلب الأول: أسماء الكعبة. المطلب الثاني: بناء الكعبة. المبحث الأول: العلاقة بين الكعبة والبيت المعمور، وفيه مطلبان: المطلب الأول: التعريف بالبيت المعمور، والأدلة على ثبوته. المطلب الثاني: وجه العلاقة بين الكعبة والبيت المعمور. المبحث الثاني: تعظيم الكعبة واحترامها، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الأدلة على مشروعية تعظيم الكعبة. المطلب الثاني: التعظيم المشروع. المطلب الثالث: التعظيم الممنوع. المبحث الثالث: قصد الكعبة بالطواف، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: فضل الطواف بالبيت. المطلب الثاني: أجر قاصد البيت. المطلب الثالث: قصد الكعبة. المطلب الرابع: الطواف بالبيت. المبحث الرابع: ما ورد في ثواب النظر إليها، وفيه. المبحث الخامس: ما ورد في فعل الملائكة عند الكعبة. المبحث السادس: شد الرحال إليها. المبحث السابع: حكم الحلف بالكعبة. المبحث الثامن: حج الأنبياء إلى الكعبة، وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: حج آدم عليه السلام. المطلب الثاني: حج نوح عليه السلام. المطلب الثالث: حج هود وصالح وشعيب عليهم السلام. المطلب الرابع: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. المطلب الخامس: حج موسى بن عمران عليه السلام. المطلب السادس: حج يونس بن متى عليه السلام. الفصل الرابع: المباحث العقدية المتعلقة بالحجر الأسود، والملتزم، ومقام إبراهيم: وفيه تمهيد وسبعة مباحث: التمهيد: ما ورد في فضل الحجر الأسود. المبحث الأول: كون الحجر يمين الله في الأرض، وفيه مطلبان: المطلب الأول: دراسة الحديث. المطلب الثاني: أقوال العلماء في معنى هذا الحديث. المبحث الثاني: ما ورد في نزول الملائكة بالحجر من الجنة. المبحث الثالث: شهادة الحجر الأسود لمن استلمه. المبحث الرابع: السجود على الحجر الأسود. المبحث الخامس: تكفير الخطايا لمن استلم الحجر الأسود، أو مسحه. المبحث السادس: ما ورد في الملتزم، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: مشروعية قصد الملتزم. المطلب الثالث: مقاصد الناس عند الملتزم. المبحث السابع: ما ورد في مقام إبراهيم، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: بيان المراد بمقام إبراهيم ووجه تسميته به. المطلب الثاني: فضل مقام إبراهيم. المطلب الثالث: تعظيم مقام إبراهيم. المطلب الرابع: غلو الناس في مقام إبراهيم. الفصل الخامس: المباحث العقدية المتعلقة بمقام زمزم: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: فضل ماء زمزم. المبحث الثاني: التبرك به، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الأدلة على ثبوت البركة في ماء زمزم. المطلب الثاني: مشروعية التبرك بماء زمزم. المطلب الثالث: أنواع التبرك. المبحث الثالث: غسل صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء زمزم، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: ثبوت شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغسله بماء زمزم ووجوب الإيمان به. المطلب الثاني: الحكمة من غسل قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء زمزم. المطلب الثالث: إنكار حادثة شق الصدر. الفصل السادس: المباحث العقدية المتعلقة بالصفا والمروة وما يقع عندها من البدع: وفيه مبحثان: المبحث الأول: المباحث المتعلقة بالصفا والمروة، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالصفا والمروة. المطلب الثاني: الصفا والمروة من شعائر الله. المطلب الثالث: التفاضل بين الصفا والمروة. المطلب الرابع: الحكمة من السعي بين الصفا والمروة. المبحث الثاني: البدع والمنكرات عند الصفا والمروة. الفصل السابع: المباحث العقدية المتعلقة بالمشاعر والبدع المتعلقة بها: وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: تعريف المشاعر وفضلها، وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف المشاعر. المطلب الثاني: فضلها. المبحث الثاني: التقرب إلى الله عند المشاعر، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: التقرب إلى الله بالأدعية والأذكار في المشاعر. المطلب الثاني: التقرب إلى الله بنهر الهدي. المطلب الثالث: التقرب إلى الله برمي الجمار. المطلب الرابع: التقرب إلى الله بحلق الرأس. المبحث الثالث: مخالفة المشركين في المناسك الواقعة في المشاعر، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الأدلة على مشروعية مخالفة المشركين. المطلب الثاني: ما يكون به مخالفة المشركين في النسك الواقعة في المشاعر. المبحث الرابع: دنو الله تعالى عشية عرفة، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الدنو. المطلب الثاني: الأدلة على دنو الله سبحانه وتعالى إلى عباده عشية عرفة. المطلب الثالث: معتقد أهل السنة في إثبات دنو الله سبحانه. المبحث الخامس: البدع والمنكرات عند المشاعر، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: خطورة البدع. المطلب الثاني: أسباب هذه البدع. المطلب الثالث: نموذج من تلك البدع الواقعة في المشاعر. الفصل الثامن: المباحث العقدية المتعلقة باليوم الآخر التي لها صلة بمكة. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أشراط الساعة التي لها علاقة بمكة، وفيه أحد عشر مطلبًا: المطلب الأول: بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. المطلب الثاني: انحياز الدين إلى مكة. المطلب الثالث: خروج الدابة. المطلب الرابع: مبايعة المهدي. المطلب الخامس: منع الدجال من دخول مكة. المطلب السادس: الخسف بمن يغزو الكعبة. المطلب السابع: هدم الكعبة. المطلب الثامن: ما ورد في عمارة مكة والخروج منها. المطلب التاسع: حج عيسى بن مريم البيت أو اعتماره. المطلب العاشر: ما ورد في رفع الكعبة. المطلب الحادي عشر: خروج المرأة من الحيرة إلى مكة من غير خفير. المبحث الثاني: أحوال اليوم الآخر التي لها علاقة بمكة. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: ما ورد في شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة. المطلب الثاني: ما ورد في حساب أهل مكة. المطلب الثالث: ما ورد في بعث وحشر أهل مكة. الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصل إليها الباحث، وأهم التوصيات. ومن أهم نتائج الدراسة: 1- أن لمكة مكانة عالية ومنزلة رفيعة في قلوب العباد في الجاهلية والإسلام، ولاتزال هذه المكانة إلى آخر الزمان. 2- وأن مكة المكرمة مؤسسة على التوحيد والإيمان، وما حصل فيها من الفترات السابقة من الشرك فهو طارئ. 3- أن بركة مكة بركة شاملة لبركة الدين والدنيا، ولا تحصل تلك البركة إلا بالعمل، وماعدا ذلك فهو من البدع المنكرات. 4- محبة مكة وتعظيمها لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله، ولا يكون بالبدع والشرك. 5- غلو الناس في مكة، وما فيها من الشعائر الدينية. 6- إن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، وجعلها موضعًا تضاعف فيها الحسنات والسيئات، تارة كيفًا، وتارة أخرى كمًا. 7- وأنها بلدة يجب على المستطيع القدوم إليها لأجل المناسك، ويكون ذلك تكفيرًا لهم لذنوبهم ورفعًا لدرجاتهم، وأن ثوابهم في ذلك الجنة. 8- أن الله لم يشرع قصد مكان للعبادة فيها غير المساجد والمشاعر. 9- أن الحجر الأسود والمقام من الجنة. 10- أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تقبيل أي حجر غير الحجر الأسود، وأنه سيشهد لمن استلمه بحق بالتوحيد والإخلاص، وعلى من استلمه بغير ذلك. 11- أن العلاقة بين الكعبة والبيت المعمور هي علاقة تعبدية. 12- أن قصد مكة بالهدي، والكعبة بالطواف من أعظم القربات، وقصد غير مكة بالهدي والكعبة بالطواف من أعظم البدع والمنكرات. 13- وجوب مخالفة المشركين فيما شرعه الله من المناسك. 14- لا يوجد في مساجد مكة - المسجد الحرام، ومسجد الخيف - قبر نبي ولا غيره، والآثار الواردة في ذلك غير صحيحة. 15- أن مكة محروسة من الدجال، وباقية محجوجة مكرمة إلى قيام الساعة. 16- أن الحج لا يتوقف إلا بعد هدم الكعبة، وإذا هدمت لا تعمر. 17- مشروعية شد الرحال إليه ابتداء في أي مكان في العالم، وإن لم يقصد النسك. 18- إن الحلف بالكعبة والتعبد له شرك، ووسيلة من وسائل الشرك. 19- أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة حجة على باقي القرى، وعلامة من علامات الساعة. 20- أن سبب تغيير ملة إبراهيم في مكة دعية الشرك عمرو بن لحي. 21- أن مكة لم يقصدها أحد بشر إلا أهلكه الله كما أهلك أصحاب الفيل. 22- أن الدابة تخرج من مكة، وكذا يبايع المهدي فيها.
اللمحة في شرح الملحة لمحمد بن الحسن الصائغ تحقيق محمود أمين السيد صدر حديثًا كتاب "اللمحة في شرح الملحة"، شرح "ملحة الإعراب" للحريري، تأليف: "شمس الدين محمد بن الحسن الصائغ" (ت 720 هـ)، تحقيق: "محمود أمين السيد"، نشر: "دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع" بيروت، لبنان. وهذا الكتاب شرح لمنظومة (ملحة الإعراب) للحريري؛ التي تعد من أوائل المنظومات النحوية التي وصلت إلينا كاملة؛ ولقد طبقت شهرتها الآفاق، إذ تناولها جمعٌ من العلماء شرحًا واختصارًا وإعرابًا. وقد تميز هذا الشرح لمحمد بن الحسن الصائغ بكثرة عرضه للمسائل النحوية، وأقوال العلماء، ومناقشتها، وكثرة شواهده، وتنوعها. وكتاب "ملحة الإعراب" للحريري أرجوزة في النحو، تقع في 377 بيتًا؛ التزم فيها أن يأتي في آخر كل باب بمثال يوضحه ليمكن تفهمه بعد إيراد الأحكام والشروط المستوفاة، ومطلعها: أَقُولُ مِنْ بَعْدِ افْتِتَاحِ القَول بحمد ذي الطول شديد الحول وقد شرحها "الحريري" نفسه بشرح ميسر، غلب عليه السهولة والوضوح في عرض مادة الكتاب وكذلك الإيجاز والتركيز دون ذكر أوجه الخلاف بين النحاة، واعتمد الاستشهاد بالآيات القرآنية والحديث النبوي والشعر. وقد تميز شرح "الصائغ" لمنظومة "الحريري" عن غيره من الشروح بميزات: 1- التوسع في الشرح قياسًا على نظائره من شروح (ملحة الإعراب)؛ فبالرغم من أن (ملحة الإعراب) منظومة مختصرة ألفها الحريري للمبتدئين، إلا أن شرح الصائغ لها جعل منها عملًا علميًا حافلًا؛ وخير دليل على هذا: كثرة شواهده، فلقد استشهد بقدر كبير من جميع الشواهد. 2- ومما يدل على توسع الصائغ أيضًا: كثرة إيراده المسائل الخلافية، ومناقشته لكثير من القضايا النحوية؛ فلقد تردد في هذا الكتاب أسماء أشهر النحاة منذ بدء النحو إلى عصر المؤلف. 3- ويضاف إلى ذلك أيضًا: إيراده بعض لغات القبائل العربية. 4- الدقة في نسبته الأقوال إلى أصحابها غالبًا، وببعض الشواهد قليلة الذكر في كتب النحو المتداولة. 5- ومما يؤخذ عليه اعتماده في شرحه على (شرح ملحة الإعراب) للحريري، و(شرح الألفية) لابن الناظم اعتمادًا كبيرًا، وكان الأولى أن يصرح بما نقله منهما، وبخاصة أنه ينقل أحيانا نصوصًا كاملة دون تصرف فيها، ومع ذلك لا يشير إلى المنقول منه. وقد قام المحقق الأستاذ " محمود أمين السيد" بتحقيق نص المنظومة والشرح، وتخريج الشواهد والأعلام، والتعليق بما يلزم، كما قدم للكتاب بنبذ وافيات حول المنظومات النحوية، وأسماء العلماء الذين صنفوا في النظم النحوي، ومنهج العمل في الكتاب، وترجمتين للناظم والشارح: "الحريري" و"الصائغ". والمؤلف هو الإمام، العلامة، النحوي، اللغوي؛ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الحسن بن سباع بن أبي بكر المصري الأصل، الدمشقي المولد والوفاة؛ المعروف بـ (الصائغ)؛ - بالياء - وهو غير ابن الصائغ المشهور - كما نص على ذلك السيوطي في "البغية". ولد الصائغ في دمشق في شهر صفر، سنة خمس وأربعين وستمائة. وبالرجوع إلى المصادر التي تناولت حياة الصائغ لم نجد كثير ذكر عن نشأته في طفولته، وشبابه وحياته العلمية، إلا ما ذكر من أنه كان له حانوت بالصاغة يقرئ الطلبة فيه العربية والعروض والأدب؛ وقد أقرأ (ديوان المتنبي) و(الحماسة)، وغير ذلك. وكان يسكن بين درب الحبالين والفراش عند بستان القط. وكان حسن الأخلاق، متواضعًا، ذا فضائل. وكان فيه ود، لطيف المحاورة والمحاضرة. وكانت حياته حافلة بالتنقل؛ فقد نشأ في دمشق، ثم انتقل إلى مصر، ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق. لم تذكر لنا المصادر من شيوخه إلا ابن أبي اليسر؛ وهو: أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن أبي المجد، مسند الشام، تقي الدين، شرف الفضلاء، التنوخي، المعري الأصل، الدمشقي. ولد سنة 589هـ، وتوفي سنة 672هـ. ترك الصائغ مصنفات كثيرة؛ منها: 1- ديوان شعر. في مجلدين كبيرين. 2- شرح قصيدة ابن الحاجب في العروض. 3- شرح مقصورة ابن دريد. في مجلدين كبيرين. 4- القصيدة التائية في نحو ألفي بيت؛ ذكر فيها العلوم والصنائع. 5- مختصر صحاح الجوهري. اختصر فيه (الصحاح) بتجريده من الشواهد، والإيجاز في الشروح. 6- المقامة الشهابية، وشرحها. وتوفي الصائغ في داره بدمشق، يوم الاثنين ثالث شعبان، سنة 720هـ، ودفن بباب الصغير، عن خمس وسبعين سنة رحمه الله. وقيل: إنه توفي سنة 722هـ. وذكر ابن القاضي أنه توفي سنة 721 هـ. وذكر السيوطي أنه توفي سنة 725 هـ، ووافقه صاحب (كشف الظنون)؛ لكنه ذكر في مواضع أخرى التأريخين الأولين.
صدور كتاب أساسيات فقه المعاملات المالية : تعريف بالكتاب صدر في جامعة البحرين حديثًا كتاب " أساسيات فقه المعاملات المالية " للأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية الآداب الدكتور باسم أحمد عامر. وطُبِع الكتاب بمطبعة جامعة البحرين، بعد اجتيازه عملية التحكيم الخارجي، وتوصية مجلس الدراسات العليا والبحث العلمي الذي أجاز طباعته. ويتضمن الكِتاب أبرز موضوعات فقه المعاملات المالية التي يحتاج إليها طلبة الدراسات الإسلامية، خصوصًا في تخصص الفقه والشريعة الإسلامية. وقال د. عامر: "إن الكتاب - الذي جاء بلغة عصرية ميسَّرة - يُعَدُّ تأسيسًا لطلبة الصيرفة الإسلامية، والمهتمين بالصناعة المالية الإسلامية عمومًا"، مشيرًا إلى أن من بين الموضوعات التي تضمنها: موضوع المال، والملكية، وأقسام كل منهما، وكيفية تكوين العقود المالية وأركانها، والخيارات وأنواعها، كما تضمَّن الكتاب دراسةً لأبرز العقود المالية في الفقه الإسلامي، وتطبيقاتها المعاصرة. ومما يجدر ذكره أنَّ د. عامر هو أستاذ مشارك في الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات، وكان قد حصل على الدكتوراه في قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية بكلية الشريعة في جامعة اليرموك بالأردن (2009)، والماجستير من قسم الفقه وأصوله من كلية الشريعة في الجامعة الأردنية (2004). ومن الاهتمامات البحثية للدكتور عامر، الذي انضمَّ إلى الجامعة في العام 2004، فقه المعاملات المالية، والاقتصاد الإسلامي، والصيرفة الإسلامية. وكانت قد صدرت له عدة كتب، من بينها: "نظرية الإنفاق في ضوء القرآن الكريم"، و"الجوائز: أحكامها الفقهية وصورها المعاصرة".
لا ملحدين في الخنادق هذه عبارة اشتُهرت إبَّان الحرب العالمية الثانية، ينسبها البعض لكولونيل وآخرون لصحفي، وهناك مؤلف ينسبها إلى راهب. ودلالة هذه العبارة واضحة، فكثير من الملحدين يؤمنون بالله في قرارة أنفسهم، وأعماق قلوبهم، ويظهر هذا الإيمان جليًّا في المحن والأزمات والحروب والمواقف الحرجة. ‏ذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه " رحلتي الفكرية " أن من أطرف القصص التي رواها له أحد الشيوعيين الفلسطينيين أنهم كانوا في تدريب عسكري، فانهال عليهم الرصاص من كل جانب، فاختبؤوا، وأخذ كل واحد منهم يتلو أدعية دينية، ويطلب العون من الإله [1] . أوقات الشدة تُعلِم الإنسان بحقيقة ضعفه، فينطرح بين يدي مولاه، يشكو له همه، ويبثه ما يعتلج في حنايا صدره؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]. قيل لجعفر بن محمد: ما الدليل على وجود الله، ولا تذكر لي العالم والعَرَض والجوهر؟ فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: وهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال: هل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال: نعم، قال: هل تيقنت في نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال: نعم، قال: فذاك هو الله؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 67]. يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "من الممكن أن نجد مدنًا بلا أسوار، وبلا ملوك، وبلا ثروة، وبلا آداب، وبلا مسارح، ولكن لم نجد قط مدينة بلا معبد، يمارس فيه الإنسان العبادة". لذلك فطرة الإنسان السوية التي لم تتدنس بشيء من المؤثرات تدله على وجود الله عز وجل، وإذا تُركت فِطَرُ الناس على حالها، لآمن من في الأرض كلهم؛ ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]. كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)) [2] . ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ففي القلب شعثٌ لا يلُمُّه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطِيَ الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقة أبدًا" [3] . ومن أغرب القصص التي مرت عليَّ في عودة الإنسان لفطرته التي خلقه الله عليها، قصة عودة الطبيب لورانس بروان إلى الفطرة؛ يقول بروان: "رُزقت بطفلة تعاني من مشكلة كبيرة في القلب، وهي تضيق برزخ الأبهر (Coarctation of Aorta)، والطفل المصاب بهذا المرض يحتاج إلى عملية جراحية في القلب، ثم بعد عدة سنوات يفتح القلب من جديد، وتُجرى له عملية أخرى وهكذا. يقول بروان: حين عرفت حالتها شعرت - وللمرة الأولى في حياتي - أنني عاجز عن فعل أي شيء، أخذت الطفلة مباشرة للعناية المركزة، ولون جسمها من الصدر فما دون أزرق؛ لأن جسمها لا يصله الأكسجين، وهذا يعني أنها ربما تموت، عندما رأيت هذا المنظر شعرت أنني - وللمرة الأولى في حياتي - بحاجة إلى القوة العظمى، فقد كنت ملحدًا قبل ذلك، كان عليَّ أن أغادر غرفة العناية المركزة ... وتركت ابنتي مع فريق من الأطباء المتخصصين في مستشفى جامعة جورج واشنطن، توجهت ولأول مرة في حياتي لغرفة العبادة المجاورة، ثم صليت صلاة أهل الإلحاد وقلت فيها: يا رب، إذا كنت موجودًا فأنا أريد مساعدتك، وأعطيت عهدًا لخالقي في ذلك اليوم، وكان ذلك العهد إذا أنقذ حياة ابنتي وهداني للديانة التي يرتضيها، فسأتبع هذا الدين، كل هذا استغرق مني 15 أو 20 دقيقة، وعندما عدت إلى غرفة العناية المركزة رفع الأطباء وجوههم إليَّ، رأيت في وجوههم أن شيئًا ما قد تغير، كانوا لا يدركون ما الذي حدث، كأنهم مصدومون. وحين أقبلت عليهم قالوا لي: سوف يكون وضعها جيدًا، ولن تموت، وسوف تصبح طفلة طبيعية جدًّا، ولن تحتاج إلى عملية ولا إلى دواء! قال أحدهم: في البداية أظهر إيكو القلب عندها المشكلة العظيمة التي أخبرناك عنها، أما الآن فهي طبيعية جدًّا. حاول الأطباء أن يشرحوا لي كيف حدث هذا؟! فقلت لهم: هذه الشروحات قد تنفعكم أنتم، ولكنها لا تنفعني أنا، لأنني صليت صلاتي، وأعتقد أن يد خالقي قد تدخلت، تيقنت أن خالقي حقق وعده، وعليَّ أن أُحقق وعدي، وهذا ما جعلني أبحث في الديانات، بدأت باليهودية والنصرانية، وبذلت كل جهدي لسنوات، ولكنني لم أجد الحق في تلك الديانات لوجود التناقضات فيها، واستمررت في بحثي حتى وصلت إلى الإسلام، فوجدت أجوبة لكل أسئلتي، ودخلت الطمأنينة من يومها قلبي، كان ذلك في عام 1994 [4] . فكن مع الله يكُنْ الله معك، واعلم أن الخير في قربه، وكل من تظاهر بالسعادة وهو بعيد عن خالقه، فهو تظاهُرٌ مزعوم ولا حقيقة له؛ لأن النفوس لا ترتاح إلا باتباع منهج خالقها ومدبر أمرها ومالكها. [1] عبدالوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، ص140. [2] رواه مسلم، رقم (2865). [3] ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، (3/ 156). [4] https://www.youtube.com/watch?v=90tozR1Duho&ab
اللسانيات واللغة العربية: نماذج تركيبية ودلالية لعبد القادر الفاسي الفهري صدر حديثًا كتاب "اللسانيات واللغة العربية: نماذج تركيبية ودلالية"، تأليف: أ.د. "عبد القادر الفاسي الفهري"، نشر: "دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع". يبحث هذا الكتاب في علاقة اللغة العربية بعلم اللسانيات، من حيث معالجة أسس ومنهجيات اللغة العربية تطبيقًا وتنظيرًا، حيث أن دور اللساني أن يبحث في خصائص اللغات وطرق اكتساب الطفل لها، حتى يصفها ويفسر سمات التماثل بينها، والتباين عن بعضها البعض، محددًا بذلك ما يندرج ضمن الكليات اللغوية التي تكون "العضو الذهبي" البشري الذي يتيح اللغو، وما يندرج ضمن المقاييس التي قد نختلف اللغات في تثبيت قيمها، ودور اللساني كذلك أن يوفر الأدوات التي تساعد مستعمل اللغة على الانتقال من معرفة غير واعية للغة إلى معرفة واعية، ويعمل على تجديدها حتى تظل كافية وصفيًا وفنيًا ومنهجيًا. وما يلفت النظر في وضع اللغة العربية أن الأدوات الأساسية لتعلمها ويسير استعمالها والتفقه فيها لم تحظ بالتجديد الذي حظيت به مثيلاتها من اللغات الأخرى، بل ما زال القاموس هو قاموس القرن الثاني الهجري (أو الرابع في أحسن الأحوال) تصورًا وتأليفًا ومادة، وما زالت قواعد اللغة هي قواعد نحاة القرن الثاني. فليس هم اللساني العربي فقط أن يعيد النظر في تصور طبيعة اللغة العربية وخصائصها والمناهج الكفيلة بمعالجتها، بل هو مطالب، استعجالًا كذلك، برسم الأدوات اللائقة بتنمية طاقة المستعمل، علاوة على أنه مطالب بالبحث في وسائل تطويع اللغة لجعلها لغة وظيفية، ومن شأن هذا البحث أن يلقي بعض الضوء على اللغة العربية في واقعها النظري والعلمي، في جوانب تخص تركيبَها ومعجمها، وأساليب تنميتها. وتناول الكاتب علاقة اللسانيات بعلوم اللغة العربية من خلال أربعة أقسام، بدأَ في القسم الأول من هذا العمل بمقدمات ضمنها جزءًا يعرف ببعض ملامح الخطاب اللساني عامة، والخطاب اللساني العربي على وجه الخصوص، إذ يلاحظ الكتاب عدم اتجاه الخطاب العربي تجاه الخطاب العلمي، وفي جزء ثان من هذا القسم تناول مميزات الموقف المعجمي في اللسانيات التوليدية. في القسم الثاني، قدم الكاتب تحليلًا لبعض القواعد المُرَكَّبِيَّة التي تعالج البنية الداخلية للمركب الاسمي، ويتعرض لبعض القواعد التحويلية التي تغير الرتبة الأصلية المفترضة، والتي يمكن ترجمتها في نموذج غير تحويلي بواسطة قواعد تأويلية من النوع المحلل في القسم الموالي. في القسم الثالث الذي يأخذ الجزء الأكبر من هذا البحث؛ نظرًا لأهميته، من جهة، ولمجاله في النحو التوليدي من الجهة الأخرى، يتناول الكاتب البنية الوظيفية لكثير من التراكيب العربية، وتأويل هذه التحاليل على مستوى نظري عام. في القسم الرابع والأخير يعالج قضيتين من قضايا المعجم، بمعناه الواسع: وضع المصطلح الأحادي وما يضبطه من مبادئ، ووضع المصطلح المتعدد، وهذا القسم يعتبر تطبيقًا لعلوم الاصطلاح في اللغة العربية. ويردف هذه الأقسام بمعجم للمصطلحات الوليدية المستعملة، ثلاثي اللغة. والمؤلف د. "عبد القادر الفاسي الفهري" (مواليد 20 أبريل 1947، بفاس) عالم لسانيات وخبير لساني دولي مغربي، وأستاذ باحث في اللسانيات العربية المقارنة، ورئيس جمعية اللسانيات بالمغرب. حائز على جائزة الاستحقاق الكبرى للثقافة والعلوم ووسام العرش من درجة فارس، تسلمها من الملك الحسن الثاني. هو دكتور بجامعة باريس السوربون، في اللسانيات العامة والعربية وفقه اللغة. وأستاذ باحث ومدير دراسات السلك العالي والدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط. وشغل منصب رئيس مؤسس لجمعية اللسانيات بالمغرب، ومدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بين سنوات 1994 - 2005. وعضو اللجنة الملكية الخاصة لإصلاح نظام التربية والتكوين بالمغرب بين 1999-2003. ومدير مؤسس مجلة أبحاث لسانية ونشرة التعريب بين 1994-2005. ومحاضر مدعو إلى عدد من المؤتمرات والجامعات الدولية، ضمنها ستانفرد، وإم أي تي، وهارفرد، وباريس الثالثة والسابعة، وليدن، وشتوتغارت، وباحث مشارك في عدد من مشاريع البحث العلمي دوليًا. وعضو عامل بالمَجْمَع العربي الليبي. وهو عضو بمجلس أمناء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية بالرياض، وهو المشرف العلمي على "مجلة اللسانيات العربية"، التي تصدر من الرياض. كما يشغل عضوًا بالمجلس العلمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية. من بين مؤلفاته: • "السياسة اللغوية في البلاد العربية: بحثًا عن بيئة طبيعية، عادلة، ديموقراطية، وناجعة"، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2013. • "ذرات اللغة العربية وهندستها، دراسة استكشافية أدنوية"، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010. • "معجم المصطلحات اللسانية، إنكليزي- فرنسي- عربي" (بمشاركة د. نادية العمري) بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009. • "اللغة والبيئة: أسئلة متراكمة"، الرباط: منشورات زاوية، 2007. • "أزمة اللغة العربية في المغرب، بين اختلالات التعددية وتعثرات "الترجمة"، الرباط: منشورات زاوية، وبيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010. • "المعجمة والتوسيط"، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997. • "البناء الموازي"، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1990. • "المعجم العربي"، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1986.
نوح عليه السلام (3) ذكرتُ في المقال السابق أن المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ هم الذين سارعوا إلى معارضة دعوة نوح عليه السلام، وقد جرت العادةُ بأن الكبراءَ هم الذين يَبدؤون بمحاربة الأنبياء والمرسلين ودعاة التوحيد لله عز وجل؛ لاعتقادهم بأنهم إذا ردوا هذا الحقَّ استبقوا مناصبهم ورياستهم؛ ولذلك قال هنا: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]، والملأ هم وجوهُ القوم ورؤساؤهم وأعيانهم، وهذا أمرٌ عجيب وفساد في الرأي ظاهر؛ إذ هم ينكرون نبوَّته؛ لأنه بشر، وهذه الشبهة بعينها وُجِّهَتْ من أعداء المرسلين لرسلهم، فكلما جاء أمةً رسولٌ ردوا دعوتَه بدعوى أنه بشر، وقالوا: كيف تكون رسولًا وأنت من البشر؟ وجهلوا أن إرسال الرسول من البشر هو مِن أعظم منن الله على خلقه؛ لأنَّه هو الذي يتكلَّم بلسانهم، ويتمكَّنون من مجالسته والاستفادة منه، ولو أرسل لهم ملكًا لأرسله في صورة البشَر، وقد وصف الله سائرَ المكذِّبين للرسل بأنهم ردوا دعوةَ الحق التي جاء بها المرسلون بدعوى أن الرسل بشر؛ حيث يقول تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [إبراهيم: 10، 11]، وهذه الشبهة في غاية الضَّعف، وقد ردَّها الله تبارك وتعالى في مقامات من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95]، وبيَّن أنه لو أرسل رسولًا غير بشر وجعله من الملائكة ما أطاقه الناس ولا يتمكَّنون من معايشته؛ ولذلك يقول عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 9]، فالذي يفرُّون منه لا بد من أن يقعوا فيه، ولا طاقة للبشر على مصاحبة الملائكة في دار الدنيا، فإنَّ جبريل عليه السلام عندما تبدَّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المهيأ صلى الله عليه وسلم لاستقبال الوحي، ورأى جبريل جالسًا على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح يملأ الأفق، خاف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورعب منه ورجع إلى أهله وقال: ((زمِّلُوني))؛ وذلك من شدَّة الخوف، فلو أن جبريل عليه السلام جاء للبشر غير المهيئين للرِّسالة والوحي ما تمكَّنوا مِن الاستفادة منه؛ ولذلك يتوعَّد الله عز وجل المكذِّبين المعاندين الذين يردون رسالةَ الرسل بدعوى أنهم بشر، وأنهم لا يؤمنون إلَّا إذا جاءهم رسول ملكي، حيث يقول عز وجل في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 21، 22]، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا في صورة رجل كدحية بن خليفة الكلبي، وأحيانًا يأتيه في صورة رجل مِن الأعراب، ولا يعرف الناس أنه جبريل حتى يخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك بعد انقضاء الوحي وذهاب جبريل عليه السلام؛ فقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منَّا أحد، حتى جلس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزَّكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا))، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))، قال: صدقتَ، فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: ((أن تلد الأَمة ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثمَّ انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلِّمكم دينكم))، فالرسل هم الذين يتهيَّؤون للملائكة بما أعدهم الله تبارك وتعالى لذلك. وعامَّة الناس إنما يتهيَّؤون للملائكة في الجنة إذا ماتوا على الإيمان، كما يجعل الله الموكلين بعذاب الكفار في النار ملائكة غلاظًا شِدادًا لا يَعصون اللهَ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ تفصَّد جبينه عرقًا في اليوم الشديد البرد، قالت عائشة رضي الله عنها كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا"، ومعنى "يتفصد عرقًا"، أي: يسيل العرق من جبينه، كما ذكر أن عنقه كان يسيل منه مثل الجمان، أي: قِطَع الفضَّة أو اللؤلؤ من العرَق عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعِدَّ لذلك وهُيِّئَ له على حد قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]. أمَّا الشبهة الثانية من شبه الملأ الذين كفروا مِن قوم نوح فهي أنَّ الذين اتَّبعوا نوحًا من الفقراء؛ ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ [هود: 27]، وهذا كذلك أمر عجيب؛ إذ إنَّ هذه الشبهة مبنية على أن الغِنَى دليل العقل الثاقب والرأي السديد، وأنَّ الإنسان إذا كان عنده مال صار عاقلًا حكيمًا، مع أنه لا رابطة بين العقل والغنى على حد قول الشاعر: كم عاقلٍ عاقل أَعْيَتْ مذاهبُه وجاهلٍ جاهل تلقاه مَرزوقا وكما قال الشاعر: ولو كانتِ الأرزاقُ تَجري على الحِجا هلكْنَ إذًا مِن جهلهنَّ البهائمُ والغنى والعلم والعقل والصحَّة وغيرها أرزاق يَمنحها الله لمن يشاء مِن خلقه؛ ولذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا))، فالله تبارك وتعالى قد يعطي إنسانًا مالًا ولا يعطيه علمًا، وقد يعطيه علمًا ولا يعطيه مالًا، وقد يعطيه مالًا وعلمًا، وأمَّا كون أتباع الأنبياء من الفقراء فقد ذكره هرقل عظيم الروم لأبي سفيان كما جاء في صحيح البخاري. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعريف بكتاب مظلةٌ في معترك العواصف - كيف نتعامل مع موجة الشبهات المعاصرة؟ المعلومات الأولية للكتاب: اسم الكتاب: مظلة في معترك العواصف - كيف نتعامل مع موجة الشبهات المعاصرة؟ المؤلفان: إبراهيم بن محمد صديق، عمار بن محمد أعظم. دار الطباعة: مركز سلف للبحوث والدراسات - مكة المكرمة. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الثانية، عام 1444هـ - 2023م. حجم الكتاب: غلاف يقع في (406) صفحة، الحجم: 15 * 21 سم. تمهيد: لا تخطئ عين البصير اليوم ما يمر به المسلمون من عواصف شبهاتية تشكيكية جارفة حول أصول دينهم وفروعه، من أعداء دينيين ولا دينيين، بل ومذاهب وفرق وطوائف مبتدعة، كلها تصوب السهام نحوه، ولا يكاد يسلم من نبالهم أصلٌ من أصول الدين الإسلامي، ولا معتقد من معتقدات أهل السنة. وزاد الطين بلة أنها أصبحت تصل إلى الأذهان طوعًا أو كرهًا وهم متكئون على أرائكهم، فضلًا عن المتطلعين بأعناقهم إلى الشاشات المتطفلين على موائد الشبهات، بدافع الفضول تارة، وحب الاطلاع والتعلم تارات. وأمام هذا الطوفان الهائل افترق الناس في التعامل مع هذه الشبهات، وطفا في الساحة تساؤل مهم؛ وهو: كيف كان منهج السلف وأئمة الدين في التعامل مع الشبهات؟ وكيف واجهوها؟ وما هو المنهج الأمثل في الوقاية من أدرانها ونفثاتها؟ هل نُقدِم عليها ونُعرِّي ما فيها من فساد، أو نُحْجِم عنها لِما في ولوجها من إفساد؟ هدف الكتاب: تأصيل قواعد وأسس التعامل مع موجة الشبهات المعاصرة مع نماذج تطبيقية. الخيوط الناظمة للكتاب: المقدمة: وفيها بيان هدف الكتاب، وأسباب تأليفه، وخطته العامة. القسم الأول: تأصيل قواعد التعامل مع الشبهات؛ وفيه: أولًا: آليات التعامل مع الشبهات والرد عليها؛ وفيه: ( ۱) تأصيل الحق ومعرفته بدليله مطلب مُقدَّم على كل مطلب. (٢) أهمية البدء بنشر الحق، والدعوة إلى التوحيد، وغرس العقيدة في النفوس. ( ۳) الأصل عدم التعرض للشبهات والبعد عنها؛ خشية الافتتان بها. (٤) الإيمان بأصول الإسلام ليس متوقفًا على ردِّ كل ما يُثار حولها من شبهات. (٥) لا يحملَنَّ أحدكم حسن الظن بنفسه على المخاطرة بدينه. (٦) إذا شاعت الشبهات وانتشرت، فلا مفر من مناقشتها ونقدها. (7) الاشتغال بالدفاع عن أصول الإسلام ورد الشبهات، حين ذيوعها؛ من أجل القُرُبات. ( ۸) إنكار السلف على من أمر بالسكوت زمن قوة انتشار الشبهة. ( ۹) النهج القرآني في معالجة الشبهات عدمُ تتبعها، وإنما الرد على ما انتشر واحتيج إليه. (١٠) ألَّا يذكر الشبهة إلا معقَّبة بكشف عوارها. ( ۱۱) صفات المنتصب للرد على الشبهات. ثانيًا: الجمود الفكري لدى مثيري الشبهات، إطلالة على تكرار الشبهات وقدم أصولها وإن حُدثت أساليبها. 1- جمود مثيري الشبهات في الوحي. 2- نماذج من الشبهات القديمة المتكررة. الشبهة الأولى: فمن خلق الله؟ الشبهة الثانية: إنكار المبادئ الضرورية. الشبهة الثالثة: الطعن في القرآن بأنه قول بشر غير مُعجِز. الشبهة الرابعة: الطعن في السنة والازدراء بالمحدِّثين، ودعوى تأخر كتابته عن العهد النبوي. الشبهة الخامسة: انشغال العلماء بالتوافِهِ وقضايا الحيض والنفاس. ثالثا: التشكيك سنة باطنية، إطلالة على تاريخ التشكيك وإثارة الشبهات في القرن الثالث. • لا يقوون على إثارة الشبهات في الأصول الْمُحْكَمَات. • الباطنية من أوائل الفرق المتربِّصة للتشكيك في أصول الإسلام. • قصة حمدان قرمط ومكر الباطنية به بالشبهات. • أغطية أرباب التشكيك وإثارة الشبهات. حيل الباطنية في الطعن في الإسلام وزعزعة عقائد المسلم: الحيلة الأولى: التفرس. الحيلة الثانية: التأنيس. الحيلة الثالثة: التشكيك، وهو محل حديثنا. الحيلة الرابعة: التعليق. الحيلة الخامسة: الربط. الحيلة السادسة: التدليس. الحيلة السابعة: التأسيس. الحيلة الثامنة: الخلع. الحيلة التاسعة: المسخ أو السلخ. رابعًا: فطنة السلف للمغالطات المنطقية؟ • ما هي المغالطات المنطقية؟ • نماذج من تعامل السلف مع المغالطات المنطقية. ( ۱) مغالطة الشخصنة. ( ۲) مغالطة تسميم البئر. ( ۳) مغالطة التعميم الخاطئ. (٤) مغالطة الإحراج الزائفة. (٥) مغالطة ليس إسكتلنديًا حقيقيًّا. (٦) مغالطة رجل القش. ( ۷) مغالطة الرنجة الحمراء. ( ۸) مغالطة انحياز التأييد. ( ۹) مغالطة الاحتكام إلى الجهل. ( ۱۰) مغالطة المنطق الدائري. ( ۱۱) مغالطة الاحتكام إلى السلطة. ( ۱۲) مغالطة التضارب. ( ۱۳) مغالطة الاحتكام إلى الشعبية. (١٤) مغالطة المغالطة. (15) الأسئلة المغلوطة، مغالطة السؤال المشحون أو السؤال المخادع: • ما الأسئلة المغلوطة؟ • أمثلة للأسئلة المغلوطة. • طريقة التعامل مع الأسئلة المغلوطة. • أمثلة للأسئلة المغلوطة في المسائل العلمية. أولًا: السؤال الإبليسي المغالطي. ثانيًا: سؤال المريسي للإمام الكناني. ثالثًا: سؤال الجهمي للإمام أحمد. رابعًا: سؤال بعض ملاحدة الهند. خامسًا: الفطرة العاصم الأهم من الشبهات: • حقيقة الفطرة. • سمات الفطرة. ( ۱) أنها كامنة في النفس لا تحتاج إلى شيء من خارجه. (٢) أنه لا حاجة إلى تعلمها والتدرب عليها. ( ۳) أنه يُستدَل بها ولا يُستدَل عليها. (٤) أن أحكامها عامة غالبة في البشرية وهي الأصل. (٥) أنها مريحة للوجدان. (٦) أنها متسقة مع الأذهان. ( ۷) أنها سهلة يسيرة الفهم مناسبة لكل المستويات. ( ۸) أنها قريبة المأخذ. ( ۹) أنها موصِّلة إلى المطلوب. (١٠) أنها منتهى العلوم وغاياتها. • قضايا فطرية من الكتاب والسنة. سادسًا: قاعدة التسوية بين المتماثلات وعدم التفريق بينها. توظيفات ابن تيمية لهذه القاعدة. ( ۱) وجوب تصديق كل نبي في كل ما يخبر به ما دام ثبت أنه نبي. ( ۲) حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم والرد على منكريها. ( ۳) تواتر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. (٤) إثبات الصفات. (٥) الإيمان بنبوة عيسى تستلزم الإيمان بنبوة محمد. (٦) عموم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لكل البشرية. ( ۷) التشابه بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم في ظروف النبوة. ( ۸) نقض دعوى اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعرب؛ لأنه أُرسل بلسان عربي. ( ۹) شبهة إقرار القرآن بإنجيل عيسى ونبوته والثناء عليه. ( ۱۰) عدم بشارة من قبِل النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنبوته. سابعًا: من أصول الضلال اتباع المتشابه وترك المحكم. • الإحكام والتشابه في القرآن الكريم. • توظيف السلف لهذا الأصل في كشف زيف المخالفين. • بیان ابن تيمية لأصل ضلال الضالين باتباع المتشابه وترك المحكـم. القسم الثاني: نماذج من الشبهات مع الرد عليها؛ ومنها: • الوجه الحقيقي للإلحاد. • تأليه الآلة؛ هل يمكن للعلم التجريبي أن يحل محل الإله؟! • أفيون الشعوب ... ليس هو الإسلام. • إذا كان الله غنيًّا عنا؛ فلِمَ يأمرنا بعبادته؟ • هل خلق الله الكفار ليعذبهم؟! • لماذا خلق الله النار؟ • إن رحمتي سبقت غضبي. • أشنع الجرائم تستدعي أكبر العقوبات. • الجزية ... الميزة المفترى عليها. • صراع السلفية والتجديد بين الحقيقة والادعاء. • السلفية المعاصرة وإخفاء الخلاف بين الحقيقة والتزييف. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
بسم الله الرحمن الرحيم العلامة الدكتور محمَّد أحمد الدَّالي فارس تحقيق التراث (1372- 1443هـ/ 1953- 2021م) من حقِّ أبناء هذا الجيل علينا، أن نُبرزَ لهم سِيَر سلَفِهم من أعلام أُمَّتنا وعُلمائها، ومن رجالاتها الأخيار ونُبَلائها؛ ليكونوا لهم في سِيَرهم العلميَّة والعمليَّة، مناراتٍ هادية، وصُوًى مُرشِدة. وقد غبرَ زمانٌ تلمَّس فيه الباحثون سُبلَ تحقيق تراثنا العربي؛ الأدبي منه والعلمي، بالرجوع إلى ما خلَّفه لنا الأجدادُ من أصول علمية بيِّنة؛ في الرواية والتلقِّي، والتحقُّق والتثبُّت. حتى استقام فنُّ التحقيق على سُوقِه، ونَضِجَت طرائقُه، ورسَخَت قواعدُه، وبانت سَبيلُه. فمضَى عليها أفذاذُ المحقِّقين، ونزلوا بها من مَيدان التنظير إلى مَيدان التطبيق، بأمانة وحَزم، فزادت الجادَّةُ لُحوبًا، والطريقُ وضوحًا. ومن أعلام العربيَّة في عصرنا، وفرسان التحقيق في زماننا، أستاذُنا العلَّامةُ اللغويُّ النحويُّ الثَّبْتُ النِّقابُ [1] الدكتور أبو أحمد محمَّد أحمد الدَّالي رحمه الله تعالى، الذي تخرَّج بشيخ العربيَّة في الشام العلَّامة أبي عبد الله أحمد راتب النفَّاخ، وتقيَّل مناهجَ الأكابر من شيوخ التحقيق في دهرنا؛ عبد العزيز المَيمَني الرَّاجَكُوتي، وأحمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر، وعبد السلام هارون، والسيِّد أحمد صقر، وحمل الرايةَ عنهم كابِرًا عن كابِر. سيرة العلَّامة الدَّالي [2] من العَسير حقًّا الإحاطةُ بترجمة الأستاذ الجليل في صفَحات قليلة، وبيانُ منزلتِه الرفيعة في علوم العربيَّة، وعلوِّ كَعْبِه في الإحاطة بالمكتبة العربيَّة والإسلاميَّة، وبلوغِه الغايةَ في تحقيق التراث؛ اللغوي والأدبي والنحوي، وفي علوم القرآن؛ تفسيره وغريبه ومعانيه وإعرابه. ولكن كما قيل: إن القَطْرةَ لا تُغني غَناء اليَنبُوع، لكنَّها تدلُّ عليه! 1) ولادته ونشأته: وُلد الأستاذُ في بلدة مِصْيافَ، وهي مركزٌ زراعيٌّ وتجاريٌّ من أعمال محافظة حَماةَ السُّورية، في العِشرين من ذي القَعدة 1372هـ = 1/ 8/ 1953م، لأبٍ مثقَّف امتهنَ التجارة، لكنَّها لم تَصرِفهُ عن شَغَفِه بالقراءة وجمع الكتب في فنونٍ شتَّى؛ من علوم العربيَّة وآدابها والتاريخ والشريعة والفلسفة والتصوُّف. وكان حريصًا على تعليم ولدِه وتثقيفه، فدفعَ به إلى من يُلقِّنه أفصحَ بيان، كتابَ الله العظيمِ القرآن، فحَفِظَ جُلَّه في نعومة أظفاره، ولا تسَل عن أثر ذلك في كَلَفِه بالعربيَّة، واستقامة جَنانِه، قبلَ لسانِه وبَنانِه. 2) دراسته وتفوُّقه: في هذه البيئةِ الثقافية الصالحة نشأ الطفلُ محمد الدَّالي، فتجلَّت في مَخايلِه أَماراتُ النَّجابة والتميُّز، فكان الأوّلَ في المرحلة الابتدائية على طلَّاب بلدَتِه في (مدرسة سيف الدَّولة الحَمْداني)، و(مدرسة المأمون)، التي نال شهادتَها عام 1966م. ثم مَضَى في جميع مراحل الدراسة متفوِّقًا سابقًا؛ فدرسَ المرحلة الإعدادية في (مدرسة مِصيافَ الرسميَّة)، ونال شهادتَها عام 1969م. ودرسَ المرحلة الثانوية في (مدرسة زكي الأَرسُوزي) ببلدته، ونال شهادتَها (الفرع العلمي) عام 1972م. وفي تلك المراحل كلِّها كانت مادَّةُ اللغة العربيَّة أحبَّ الموادِّ إليه، وكان فيها مُبرِّزًا مُجلِّيًا؛ حتى إن أستاذَه في الثانوية سليمان سليمان تنبَّأ له بالتخصُّص في العربيَّة، والانقطاع للنحو واللغة. ورغِبَ الشابُّ الطُّلَعةُ في أن يحقِّقَ نبوءةَ أستاذه وينتسبَ إلى قسم اللغة العربيَّة، بَيدَ أن شُروطَ الانتساب إلى الجامعة في تلك السَّنة، لم تسمَح لطلَّاب الثانوية العلميَّة بدراسة العربيَّة! فاضطُرَّ إلى الانتساب إلى كلِّية العلوم (فرع العلوم الطبيعية) بجامعة دمشق، على كُرهٍ منه، فلم يُتمَّ دراستَه، وأعادَ اختبارَ الثانوية العامَّة في العام التالي، فنالَ شهادتَها (الفرع الأدبي) في دراسة حرَّة، عام 1973م. 3) تحصيله وشهاداته: تحقَّقت أُمنيَّتُه؛ فالتحقَ بكلِّية الآداب في جامعة دمشق، قسم اللغة العربيَّة وآدابها عام 1974م، فشمَّر عن ساعد الجِدِّ، وانكبَّ على أصول العربيَّة تعلُّمًا وتحصيلًا، وكان الأوَّلَ على طلَّاب دُفعته في جميع سِني دراسته، حتى تخرَّج ونالَ الإجازة (ليسانس) في الآداب بتقدير ممتاز، ومجموع عامٍّ قدرُه 81.81%، عام 1978م. ثم التحقَ بدبلوم الدراسات العُليا اللغوية، لينالَ شهادتها من جامعة دمشق، بتقدير جيِّد جدًّا، عام 1980م. ثم أغَذَّ السَّيرَ لإكمال دراسته العُليا، فشَمِلَه أستاذُه العلَّامة الجليلُ الدكتور شاكر الفحَّام برعايته وتوجيهه، وغمَره بفضله ونُبله، حين أشرفَ على رسالته العلميَّة لنيل شهادة العالِميَّة (الماجستير) من جامعة دمشق، وعنوانُها: (سِفْرُ السَّعادة وسَفيرُ الإفادة، لعَلَم الدِّين السَّخاوي- تحقيقٌ ودراسة)، وناقشه فيها كلٌّ من: الأستاذ الدكتور عبد الحفيظ السَّطلي، والأستاذ الدكتور محمد علي سُلطاني، وحصلَ على الشهادة بتقدير ممتاز ودرجة 86 من مئة، عام 1982م. ثم نالَ شهادة العالِميَّة العُليا (الدكتوراه) من جامعة دمشق، بتقدير شرف ودرجة 95 من مئة، عام 1988م، عن رسالته الموسومة بـ (الكشف، لجامع العلوم عليِّ بن الحسَين الأصبَهاني- تحقيقٌ ودراسة)، بإشراف أستاذه العلَّامة الفاضل الدكتور عبد الحفيظ السَّطلي، وناقشه كلٌّ من الأساتذة الكبار: د. شاكر الفحَّام، ود. مازن المبارك، ود. عمر موسى باشا، ود. محمد رضوان الدَّاية. أمَّا أبعدُ الأساتذة فيه أثرًا فهم: العلَّامة أبو عبد الله أحمد راتب النفَّاخ، ود. شاكر الفحَّام، وأبو يحيى د. عبد الحفيظ السَّطلي، وأبو صفوان الأستاذ محمد علي حمد الله، رحمهم الله جميعًا. 4) في ذَرا العلَّامة النفَّاخ [3] : وجدَ الدَّالي في العلَّامة النفَّاخ جبلَ العِلم الذي يُؤوى إليه، والعَودَ الذي يُزاحَمُ به [4] ، فلازمَه مُلازمةَ العين لأُختِها في الجامعة وخارجَها على مدار سبعةَ عشرَ عامًا؛ ليُشبعَ من علوم العربيَّة نَهمتَه، ويُروِّي من مسائلها عطَشَه. فكان النفَّاخُ أخصَّ شيوخه، وأقربَ أساتذته إلى نفسه؛ به تخرَّج، وعلى يديه تدرَّب، ومن مَعين علمه غَرَف، ومن بصيرته بالعربيَّة استحصَد، ومن سَداد منهجه في تحقيق التُّراث نهضَ واستحكَم. وكان من تمام نِعَم الله عليه أن درَّسه النفَّاخُ في جميع سنوات الدراسة؛ ففي السنة الأولى درَّسهم: مادَّتي علم العَروض والمكتبة العربيَّة والأدب القديم. وفي السنة الثانية درَّسهم: نصوصًا من كتاب (الكامل) للمُبَرِّد. وفي السنة الثالثة: مادَّةَ علوم اللغة العربيَّة في كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لابن هشام الأنصاري. وفي سنة الدبلوم: مادَّةَ الموضوع اللغوي، بشرح أبوابٍ من (الخصائص) لابن جنِّي، وأملى عليهم فوائدَ مما انتهى إليه في القراءات القرآنية. وكانت تلك الموادُّ كلُّها وسيلةً إلى بيان أُصول النظر في كلام المتقدِّمين، وأُمَّات مصادر التُّراث العربي الإسلامي، والقراءة الناقدة البصيرة المتأنِّية فيها. ولم يكتفِ بما تلقَّاه عنه في الجامعة، فاختَلَفَ إليه في بيته في سَفْح قاسيون (حيِّ الشيخ محيي الدين)؛ ليحملَ عنه من علومه وخُلقه الأصيل وأمانته ودقَّته، ما تجلَّى في أعماله بعدُ. وقد حظيَ لدى الشيخ فخَصَّه بما لم يخُصَّ به أترابَه؛ من كريم الرعاية والحدَب، وصادق النُّصح والتوجيه. وقد عبَّر الدَّالي عن إجلاله لأستاذه في كثير مما كتب، وأكتفي بذكر كلماتٍ خطَّها في رسالة خاصَّة منه إليَّ، يوم غادرَنا إلى قطرَ مدرِّسًا مُعارًا إلى جامعتها، قال عنه برَّد الله مَضجعَهما [5] : "كان شيخُنا وأستاذنا العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ - رحمه الله وطيَّب ثَراه وأجزلَ مثوبته - مَفخَرةَ الشَّام وعينَ علمائها، بذلَ علمَه لطلَّابه أيَّ بذل، وكان العلَّامةَ العارفَ الثقة الإمام. فمَن تلقَّى عنه وقد رَغِبَ في العلم، اختصرَ له الأستاذُ عِلمَ نصف قرن، فإن جَدَّ ودرسَ وحصَّل أمَّهات المصادر، كان أهلًا لأن يكونَ من تلامذة الأستاذ الإمام. وأوَّلُ ما تتعلَّمُه منه أخلاقُ العلماء، ويدلُّك على مفاتيح العلوم. وأنَّى لك بمثله؟ ولا يُذكَر أكثرُ من تعرِفُ ومَن لا تعرِفُ معه!". 5) وظائفه وتعليمه: غِبَّ حصوله على (الماجستير) عُيِّن معيدًا في قسم اللغة العربيَّة من كلِّية الآداب بجامعة دمشق، عام 1984م، ومضَى في عمله الوظيفيِّ بجَدارة وإتقان، يبذُل لطلَّابه كلَّ بذل، ويحرِصُ على مَن يَشِيمُ فيهم نجابةً وإقبالًا، آخذًا بأيديهم في دروب العلم والفهم، غيرَ ضَنينٍ عليهم بإرشاد ونُصح، مع حُنوٍّ ظاهرٍ ولينِ جانب، كيف لا، وهو الرجلُ السَّمحُ الهيِّنُ المُوطَّأُ الأكناف؟! ثم لم يلبَث في عُقْبِ حصوله على (الدكتوراه) أن عُيِّنَ مدرِّسًا للنحو والصرف في القسم نفسِه عام 1989م. ثم تدرَّج في السُّلَّم الوظيفيِّ الرسميِّ؛ فرُقِّيَ إلى مرتبة أستاذ مساعد عام 1994م، ثم إلى مرتبة أستاذ (بروفيسور) عام 2000م. ولم يقتصِر عطاؤه ونفعُه على طلَّاب العربية في الشام، فقد أُعيرَ إلى جامعة قطر من عام 1992 إلى 1997م. ثم عاد كرَّةً أُخرى إلى دول الخليج ليتولَّى العملَ أستاذًا في قسم اللغة العربيَّة بجامعة الكويت عام 2001م. ولم يزل ناهضًا لتعليم العربية فيها حتى آثرَ الاستقالةَ بعد زُهاء عِقدَين [6] ؛ رغبةً في العُكوف على ما أخذ به نفسَه من مشاريعَ علميَّةٍ في تحقيق تُراث الأسلاف، وإخراج ما تحتَ يده من بحوث ودراسات، وكانت الاستقالةُ في صيف عام 2020م. 6) في مَجْمَع الخالدِين: إن المكانة العلميَّة التي تبوَّأَها العلَّامة الدَّالي أهَّلته لأن يُسلَكَ في سِلك الخالدِينَ من سَدَنة العربيَّة وحُماتها، فانتُخِبَ عضوًا عاملًا في مَجمَع اللغة العربيَّة بدمشقَ بتاريخ 27 من رمضان 1418هـ (25/ 1/ 1998م)، خلَفًا لأستاذه عبد الهادي هاشم رحمه الله. وصدرَ المرسومُ الجمهوريُّ بذلك في عاشر جُمادى الأولى 1421هـ (10/ 8/ 2000م)، وأُقيمَ حفلُ استقباله في قاعة المجمَع مساء الأربعاء 17 ربيع الآخِر 1422هـ (5/ 9/ 2001م)، وألقى فيه كلمةً بليغة بعنوان (عضوية المجمع أمانةٌ ورسالة)، عبَّر فيها عن اعتزازه بثقة أساتذته في المجمع به، وعرَّف بسَلفه الأستاذ هاشم، وممَّا قاله في ختامها: "وبعدُ، فقد قُدِّرَ لي أن أحُلَّ في هذا الصَّرح الشَّامخ من صُروح الأُمَّة مَحَلَّه، وأسُدَّ فيه مَسَدَّه. ولئن كنتُ أقلَّ من أن أسُدَّ جانبًا من جوانب مكانه فيه = إني لأُحاولُ أن أُخلِصَ في عملي إخلاصَه، وأسيرَ في الطريق الذي سارَ فيه. وعسى أن يوفِّقَني الله فيما أُحاولُ مع أساتذتي الأجِلَّاء أعضاء المَجمَع، والمرءُ قليلٌ بنفسِه كثيرٌ بإخوانه". والدَّالي ابنُ المجمع الوفيُّ، شارك في أعماله وندَواته، ونشرَ له المجمعُ رسالتَيه للماجستير والدكتوراه، فضلًا عن غيرِ قليلٍ من النصوص والبحوث من عيون العربية ومسائلها في مجلَّته. غيرَ أن ظروفَ اغترابه في الكويت، وبُعْدَ الشُّقَّة، وانشغالَهُ بالتدريس الجامعي ثَمَّة= أجاءَتهُ إلى تقديم استقالته من عُضوية المَجمَع في 4/ 8/ 2008م؛ لأن من شُروط العُضوية العاملة فيه حضورَ جلَساته الدَّورية، وصدرَ مرسومُ قَبول استقالته في 5/ 11/ 2008م. 7) اعتلاله ووفاته: ألمعتُ آنفًا أن الأستاذ آثرَ التفرُّغَ لمشاريعه العلمية، فاستقالَ وغادر الكويت؛ ليُلقيَ عصا الغُربة الطويلة في بلدته الأثيرة مِصياف، وذلك في 15/ 10/ 2020م. وقد كان مُبتهجًا بقراره الذي اتخذه، راضيًا كلَّ الرضا عن انقطاعه التامِّ للعلم، وعُكوفه على دواوين العربية؛ تحقيقًا ودراسةً وشرحًا. ولكنَّ إرادة الحكيم الخبير قضَت بمشيئته سبحانه ألا يَتِمَّ له حَولٌ حتى يُصابَ بداء العصر العَياء كورونا (كوفيد 19)، على أخذه بأسباب الوقاية وشدَّة احتياطه، ولكن كما قيل: لا يُغني حذَرٌ من قدَر! وألمَّ الوباءُ برئتَيه ففتَكَ بهما وبرَّحَه، وما أسرعَ أن خَطِفَته يدُ المنون! ليَلقَى وجهَ ربِّه الرحيم صباحَ يوم الأحد سادسَ عشرَ ربيع الآخِر 1443هـ (21/ 11/ 2021م). تغمَّده الباري بعفوه ورحمته، وأخلفَ على الأمَّة من أمثاله، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. 8) شهادات عارفيه: حَسبي أن أُورِدَ ثلاثَ شهادات تُغني عمَّا سِواها، لثلاثةٍ من فحول أهل العربيَّة من أساتيذه؛ فإن شهاداتِ الأُستاذينَ أصدقُ وأبلغُ، وأبعدُ عن شُبهة المجاملة والمصانعة، وهؤلاءِ الأعلامُ هم: د. شاكر الفحَّام، والأستاذ محمد علي حمد الله، ود. مازن المبارك. أمَّا الفحَّام فوصفَ تلميذَه الدَّالي يوم قدَّم لواحدٍ من بواكير أعماله، وهو كتابُ الإمام الجليل علَم الدين السَّخاوي (سِفر السَّعادة وسَفير الإفادة)، بقوله: "لقد انتُدبَ الشابُّ محمَّد الدَّالي، وهو المكتَهِلُ في شَبيبته جِدًّا ورصانة، وانصِرافًا إلى العلم، وحبًّا لآثار السَّلف، لتحقيق هذا الأثر الغالي من آثار السَّخاوي، فشمَّر عن ساعد الجِدِّ، وأخذ نفسَه أخذًا غيرَ رفيقٍ بقواعد تحقيق المخطوطات، غيرَ مُتناسٍ الأصولَ التي خلَّفها لنا الأجدادُ في الضَّبط والإتقان والأمانة في نقل النصوص؛ خشيةَ أن يعبثَ بها عابث. وهيَّأ لعمله كلَّ الأسباب التي تدنو به إلى النجاح، وسهِرَ ونَصِبَ لتذليل العقَبات... وطافَ وحوَّمَ ليَرِدَ الماء صَفْوًا لا كدَرَ فيه" [7] . وأمَّا حمد الله فقد كنتُ حضَرت معه يومًا مناقشةَ رسالة دكتوراه في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وكان الدَّالي عضوًا في لَجنتها، فجَلا في ملحوظاته عن سَعة اطِّلاع، وبصيرة وحِذقٍ، وبراعة في التعقُّب والاستقصاء، مع عنايةٍ بالأصول العلميَّة المنهجيَّة في البحث. ولمَّا فرَغ سألتُ أستاذنا حمد الله عن رأيه بملحوظات الدَّالي، فالتفت إليَّ قائلًا: "محمد الدَّالي شيخُ النحاة في سُورِيةَ اليوم". وأمَّا المبارك فكتبَ بحروف يعتصرُها الألم عَقِيبَ رحيل الدَّالي قائلًا: "رحمكَ الله يا أبا أحمد، فما حَزِنتُ لفَقدِ أحدٍ في هذه الأيام حُزني لفَقدِك؛ فقد فقَدَتِ العربيَّةُ بفَقدِك فارسَها المجلِّي، وجوهرتَها النادرة، وخسِرَت الأمَّةُ العِلمَ الذي انطَوى، والعَلَمَ الذي هَوَى، وخسِرَت الخُلقَ والنُّبلَ والوفاء، وكلَّ ما عُرِفتَ به من شمائل العُلماء، وصفاتِ الفُضَلاء... وأينَ ذلك كلُّه مجتمعًا في أحدٍ من علماء هذه الأيام؟! لقد فقَدنا عالمًا لم يُطغِه الغُرور، ولم يخدَعهُ حبُّ الظُّهور، ولم تُغرِه المناصب، ولم تستعبِدهُ الدُّنيا. وأينَ مَن يجمعُ اليومَ الخُلقَ القويمَ إلى العِلم وسَعَته، وعُمقه ودقَّته، وصِدقه وأمانتِه؟!" [8] . 9) أسرته وأولاده: تزوَّج الدَّالي عام 1983م السيدةَ الفاضلة سامرة بنت محمد وحيد بازو (من مِصياف)، وله منها ابنانِ وابنتان؛ هم: د. أحمد الدَّالي، طبيبٌ مَخبَري يعمل في ألمانيا، من مواليد سنة 1990م. والمهندس إياد الدَّالي، مهندسُ حواسيبَ يعمل في الكويت، من مواليد سنة 1995م. وسارة الدَّالي، حاصلةٌ على إجازة في اللغة العربيَّة من جامعة الكويت، من مواليد سنة 1984م، متزوِّجة. وهدى الدَّالي، حاصلةٌ على إجازة في اللغة الإنكليزية من قسم اللغويات بجامعة الكويت، وماجستير في الترجمة من جامعة بورتسموث ببريطانيا، تعمل مدرِّسةً في الكويت، من مواليد سنة 1986م. ۞۞ ۞ ۞۞ منهج العلَّامة الدالي في التحقيق قدَّم العلَّامةُ الدَّالي للمكتبة العربيَّة أعلاقًا نفيسةً وكنوزًا ثمينةً من أصول العربيَّة واللغة والأدب، وما كان لها أن تخرجَ بالصورة التي خرجَت به من الإتقان والإحكام، لولا ما بذلَ في تحقيقها من جُهد مُضنٍ ظاهرٍ للعارفين وذوي البصائر في صَنعة التحقيق! وإن آفاقَ الكلام على منهج الأستاذ في التحقيق رحبةٌ واسعة، وجديرٌ بها أن تُخصَّ بمقالة مُفردة، تتناول بالتفصيل ما كان يتحرَّاه من أمانة ودقَّة في اختيار النُّسَخ الخطِّية، وفي دراستها وتقديم ما ينبغي أن يكونَ أصلًا منها، وفي طريقته في النَّسْخ والمعارضة، ثم تخريج المسائل وتفسير الغريب، وبيان كلِّ ما ينبغي بيانُه، والتعليق والتعقُّب والاستدراك على المصنِّفين، ثم فهرسة الكتاب فهرسةً شاملةً دقيقة، لا تدَعُ شيئًا من موضوعاته الكلِّية والجزئيَّة إلا أحاطت به. لقد مضَى الأستاذُ في التحقيق على جادَّة قويمة هي امتدادٌ لمنهج الأكابر من المحقِّقين؛ على ما ألمعتُ في صَدر المقالة. ولو سبَرتَ صنيعَه ورُزتَ حواشيَه وأنعَمتَ النظرَ في مقدِّماته، لأدركتَ أني لم أُغادرِ الحقيقة؛ فهو ينسِجُ على مِنوالٍ من التثبُّت التامِّ في كلِّ ما يخطُّ بَنانُه، حتى إنه عارضَ كلَّ كتابٍ من مصنَّفاتِ جامع العلوم التي أخرجها حرفًا حرفًا بغيرها من مؤلَّفاته، وبمواردها من كتب أبي عليٍّ وابن جنِّي ومن قبلهم إمام النحاة سيبويه، وغيرهم من أئمَّة الصَّنعة وجِلَّة شيوخ العربيَّة. بل إن صنيعه يتجاوزُ التحقيقَ المتقنَ العاليَ؛ ليكونَ شرحًا وتبيينًا لمراد المصنِّف، فهو لا يمرُّ على مسألةٍ مُعضِلة، أو عبارةٍ غامضة مُشكِلة، دون أن يُشبعَ التعليقَ عليها إبانةً وكشفًا، وجَلاء وإيضاحًا، مع التوسُّع في الإحالة على كلام أهل العلم، وكأن المكتبةَ العربيَّة كلَّها بين عينيه! وأدَّاه طولُ تأمُّله في كتب العربيَّة وعميقُ نظره في أسفار الأئمَّة، إلى أن يُدليَ بدَلوه؛ تقويمًا وتسديدًا، وتصويبًا واستدراكًا، ولهذا ما تراه يُثبت على أغلفة كثير من كتبه عبارة: (حقَّقه وخرَّج ما فيه وشرحَه وناقشَه وكتبَ حواشيَه وصنَع فهارسَه) وهي ألفاظٌ نازلة في حاقِّ موضعها غيرَ شكٍّ [9] . ثم تراهُ بعد ذلك كلِّه على سجيَّته من التواضُع والتطامُن، والنأي عن التباهي والانتِباج، ليَنُصَّ على أن عملَه لا يعدو أن يكونَ استدراكًا على علمِهم بعلمِهم، واعتراضًا على أقوالهم بأقوالهم؛ يقول رحمه الله [10] : "وما عمَلي... إلا آثارٌ ونتائجُ عن محاولتي فهمَ كلامهم، ومعارضةَ أقوالهم في تصانيفِهم، ومعرفةَ أخذِ بعضِهم عن بعض، واختيارِ بعضِهم قولًا على قول. فمِن كلامهم علَّقتُ... ومن كلامهم استدركتُ عليهم، ومن كلامهم اختَرتُ ما اختَرت، وممَّا بسَطُوه من أصول العربيَّة خالفتُهم فيما خالفُوه منها في بعض أقوالهم، ورأيتُ غيرَ ما رأَوا". ورائدُه في هذا قولُ الإمام ابن جنِّي [11] : "وإذا صحَّ لإنسانٍ قولٌ يقتَضيه مَحضُ القياس فليسَ ينبغي أن يُحجِمَ عن القول به؛ لأنه لم يقُله مَن قبلَه من الشيوخ. ولو كان هذا مذهبًا صحيحًا لما كان للثَّاني أن يزيدَ على الأوَّل، ولا أن يأتيَ بما لم يأتِ به، ولكانَ هذا مدعاةً إلى العِيِّ والحَصَر". ولا يفوتُني أن أذكرَ أخيرًا أن الطالبة ضياء جخير كاظم اللامي قدَّمت أطروحةً للماجستير بعنوان (جهودُ الدكتور محمَّد أحمد الدَّالي في اللغة والنحو وتحقيق التُّراث اللغوي) في قسم اللغة العربيَّة من كلِّية التربية والعلوم الإنسانيَّة بجامعة البَصرة في العراق، بإشراف الأستاذ الدكتور سامي علي جبار المنصوري. ۞۞ ۞ ۞۞ آثار العلَّامة الدَّالي سأقتصِرُ منها على الكتب المحقَّقة دونَ سِواها من البحوث والدراسات والمقالات المنشورة في المجلَّات والدَّوريات المحكَّمة والعلميَّة المتخصِّصة، وهي كثير؛ فإنها جميعًا صدرَت بين دَفَّتَي كتابه (الحصائل) على ما سيأتي. 1) في التحقيق: • (المُجتَنى) لابن دُرَيد الأَزْدي (ت 321هـ)، دار الفكر بدمشق، ط1، 1400هـ/ 1979م، ط2، 1402هـ/ 1982م، لم يُثبَت اسمُه على غلافها، وذكره الناشرُ في مقدِّمته. دار الجفَّان والجابي بدمشق وقبرص، ط1، 1418هـ/ 1997م، نصَّ على أنها الطبعةُ الأولى المحقَّقة والمنقَّحة، وأنها تجُبُّ ما قبلها، وأنه غيرُ راضٍ عن صَنيعه في تلك الطبعة. • (أدب الكاتب) لابن قُتَيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ)، مؤسسة الرسالة ببيروت، ط1، 1402هـ/ 1981م، ط3، 1416هـ/ 1996م، في مجلَّد كبير. • (سِفر السعادة وسَفير الإفادة) لعَلَم الدين السَّخاوي (ت 642هـ)، ط1، مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، 1403هـ/ 1983م، ط2، دار صادر ببيروت، 1415هـ/ 1995م، في ثلاثة مجلَّدات. • (الكامل في اللغة والأدب) لأبي العبَّاس المُبَرِّد (ت 286هـ)، مؤسسة الرسالة ببيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م، ط4، 1425هـ/ 2004م، في أربعة مجلَّدات. • (مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن العبَّاس) رواية أبي بكر الخُتَّلي (ت 365هـ) وأبي طاهر ابن العلَّاف (ت 442هـ)، دار الجفَّان والجابي بدمشق وقبرص، ط1، 1413ه/ 1993م. • (أخبار في النحو) رواية أبي طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم (ت 349هـ) عن شيوخه، دار الجفَّان والجابي بدمشق وقبرص، ط1، 1413هـ/ 1993م. • (كشف المُشكِلات وإيضاح المُعضِلات) لجامع العلوم الأصبهاني الباقولي (ت 542هـ)، ط1، مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، 1415هـ/ 1995م، ط2، دار القلم بدمشق، 1444هـ/ 2022م، في أربعة مجلَّدات. • (جواب المسائل العشر) لابن بَرِّي (ت 582هـ)، دار البشائر بدمشق، ط1، 1418هـ/ 1997م. • (الإقناع لما حَوى تحت القِناع) لبُرهان الدين المُطَرِّزي (ت 610هـ)، حقَّقه بالاشتراك مع د. سلَّامة عبد الله السُّويدي، مركز الدراسات والوثائق الإنسانية بجامعة قطر، ط1، 1419هـ/ 1999م. • (شمس العُلوم ودواء كلام العرب من الكُلوم) من (أ - ح)، لنَشْوان بن سعيد الحِمْيَري (ت 573هـ)، دار الفكر بدمشق، ط1، 1421هـ/ 2000م، وعلَّق بخطِّ يده عند تاريخ الطبعة بقوله: "فُرغ من طبعه في أوائل أيلول 2001م" قلت: ويوافقه جُمادى الآخِرة 1422هـ، في مجلَّد كبير. • (تفسير غريب ما في كتاب سِيبَوَيه من الأبنية) لأبي حاتِم السِّجِسْتاني (ت 255هـ)، دار البشائر بدمشق، ط1، 1422هـ/ 2001م. • (الاستدراك على أبي عليٍّ الفارسيِّ في الحُجَّة) لجامع العلوم الأصبهاني (ت 542هـ)، مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي في الكويت، ط1، 1428هـ/ 2007م، في مجلَّد كبير. • (الإبانة في تفصيل ماءات القرآن، وتخريجِها على الوجوه التي ذكرَها أربابُ الصِّناعة) لجامع العلوم الأصبهاني (ت 542هـ)، ط1، وِزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، 1430هـ/ 2009م، ط2، دار البشائر بدمشق، 1435هـ/ 2014م، في مجلَّد كبير. • (جواهر القرآن ونتائج الصَّنعة) لجامع العلوم الأصبهاني (ت 542هـ)، دار القلم بدمشق، ط1، 1440هـ/ 2019م، في أربعة مجلَّدات. 2) في التأليف: لم يُعنَ الأستاذُ بالتأليف ابتداءً، غيرَ أن ما نشره في مجلَّات علميَّة مرموقة؛ من دراسات وبحوث ومقالات علميَّة، ورسائلَ محقَّقة ونصوص مجموعة، وعلى رأسها مجلَّةُ مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، بلغت مبلغًا كبيرًا، فجمعَها كلَّها في كتابه ( الحصائل في علوم العربيَّة وتراثها )، الذي صدَر عن دار النوادر بدمشق وبيروت والكويت، ط1، 1432هـ/ 2011م، في ثلاثة مجلَّدات. 3) آثار مخطوطة: خلَّف الأستاذُ رحمه الله عددًا من الكتب؛ منها ما هو مجهَّزٌ للنشر، ومنها ما قطعَ شوطًا بعيدًا في تحقيقه، ومنها ما مهَّد للعمل فيه. أ- ممَّا أعاد تحقيقَه، بالاعتماد على أصول خطِّية لم يكن وقفَ عليها من قبلُ، وهو مجهَّزٌ للنشر: • (المُجتَنى) لابن دُرَيد الأَزْدي (ت 321هـ). • (مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن العبَّاس). • (الإقناع لما حَوى تحت القِناع) لبُرهان الدين المُطَرِّزي (ت 610هـ). وستَصدُر ثلاثتُها عن دار القلم بدمشق، إن شاء الله تعالى. ب- وممَّا قطع شوطًا بعيدًا في تحقيقه والتعليق عليه: • (ديوان الفَرَزْدَق) صَنعةُ أبي سعيد السُّكَّري (ت 290هـ)، برواية المُفضَّل الضَّبِّي (ت 178هـ)، وأبي عُبيدة مَعمَر بن المثنَّى (ت 208هـ)، وأبي عَمرو الشَّيباني (ت 205هـ) حقَّقه وكشفَ غوامضَه، وعلَّق عليه، ووصَلَه وذيَّل عليه. قدَّرَ له أن يكونَ في أربعة مجلَّدات. • (الملخَّص في الوقف والابتداء) لجامع العلوم الأصبهاني (ت 542هـ)، قدَّرَ له أن يكونَ في 1200 صفحة. ت- وممَّا عزمَ على تحقيقه، وجمعَ نسخَه الخطِّية، وهيَّأ أسبابَ العمل فيه: • (المخصَّص) لابن سِيدَه (ت 458هـ). • (الكامل في اللغة والأدب) للمُبَرِّد (ت 286هـ)، نشرة جديدة ناسخة للقديمة. • (أدب الكاتب) لابن قُتَيبة (ت 276هـ)، نشرة جديدة ناسخة للقديمة. • (الاقتضاب في شرح أدب الكُتَّاب) لابن السِّيد البَطَلْيَوسي (ت 521هـ). ۞۞ ۞ ۞۞ ♦ نُشِرت في مجلَّة (المخطوط العربي) الصادرة عن وِزارة الثقافة السورية، الهيئة العامَّة السورية للكتاب، العدد (3)، سنة 2022م، ص61- 72. العلَّامة الدالي في شبابه العلَّامة الدالي في شيخوخته غلاف العدد الثالث من مجلة المخطوط العربي الذي نشرت فيه المقالة [1] قال ابنُ منظور: النِّقابُ، والمِنْقَبُ: الرَّجُلُ العالمُ بالأشياء، الكثيرُ البحثِ عنها، والتَّنقِيبِ عليها. قال أبو عُبَيد: النِّقابُ هو الرَّجُلُ العلَّامة. وقال غيرُه: هو الرَّجُلُ العالمُ بالأشياء، المُبَحِّثُ عنها، الفَطِنُ الشَّديدُ الدُّخُولِ فيها. انظر اللسان (ن ق ب). [2] أفدتُّ فيها من صلتي الطويلة بالأستاذ، ومعرفتي بكتبه وآثاره، ومن سيرته الذاتية بخطِّ يده، ومن كتاب أستاذنا مروان البوَّاب (أعلام مجمع اللغة العربيَّة بدمشق في مئة عام) ص293- 296، ومن التواصُل مع ولده الأخ الطبيب د. أحمد الدَّالي، شكر الله له. [3] انظر (فقيد العِلم العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ) للدكتور محمد أحمد الدَّالي، مجلَّة مجمع اللغة العربيَّة بدمشق، المجلَّد السابع والستون، الجزء الثالث، المحرَّم 1413هـ/ تمُّوز (يوليو) 1992م، ص548- 554. [4] من أمثال العرب: (زاحِم بعَوْدٍ أو فدَع) والعَودُ: الجمَلُ المسِنُّ. ويُضرَبُ هذا المثَلُ: للحثِّ على الاستعانة في الأمور بذَوي السنِّ والتجرِبة والخبرة. وفي هذا المعنى تقول العامَّة: مَن ليس له كبير ليس له تدبير! [5] من الرسالة المذكورة بتاريخ: 14 رمضان 1413هـ/ 7 آذار 1993م. [6] رجَّحَ أستاذُنا الكبير د. مكِّي الحسَني الأمينُ العامُّ لمجمَع اللغة العربيَّة بدمشق، ضبطَ العِقد العدديِّ بالكسر، انظر كتابه (نحو إتقان الكتابة العلمية باللغة العربية) ص170- 171. [7] انظر تقديمَه لكتاب (سِفر السَّعادة وسَفير الإفادة) ص9- 10. [8] من كلمته (مات الغالي العالم الدالي)، المنشورة في شبكة الألوكة الإلكترونية. [9] انظر مقالتي (محمد الدَّالي وجامع العلوم) المنشورة في مجلَّة المخطوطات الثقافية، الصادرة عن معهد المخطوطات العربيَّة بالقاهرة، العدد (2)، شعبان 1440هـ/ مايو 2019م. [10] في مقدِّمة تحقيقه (الإبانة في تفصيل ماءات القرآن) ص9. [11] المنصف 3/ 133، نقلًا عن مقدِّمة (الإبانة) ص10.