text
stringlengths
0
254k
من سير أعلام مسند الإمام (الصحابي الذي ذكره الله تعالى في الملأ الأعلى) إنه الصحابي الجليل، كاتب الوحي، وسيد القُرَّاء، البدري، من أصحاب الشجرة؛ أبو المنذر أبيُّ بن كعب الأنصاري رضي الله عنه. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيٍّ: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [البينة: 1]، قال رضي الله عنه: وسماني؟! قال صلى الله عليه وسلم: نعم، فبكى رضي الله عنه)). • كان رضي الله عنه ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري عن قتادة قال: ((سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد))، رضي الله عنهم جميعًا، وكان رضي الله عنه أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وهو أول من كتب في آخر الكتاب قوله: وكتب فلان. • له كنيتان رضي الله عنه: أبو المنذر، كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو الطفيل كناه بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أُبيٌّ سيد المسلمين". قال أبو نضرة العبدي: "قال رجل منا يُقال له جابر أو جويبر: طلبت حاجة إلى عمر رضي الله عنه وإلى جنبه رجل أبيض الثياب والشعر، فقال: إن الدنيا فيها بلاغنا وزادنا إلى الآخرة، وفيها أعمالنا التي نُجزَى بها في الآخرة، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا؟ فقال: هذا سيد المسلمين، أبي بن كعب". • تلقَّى القرآن من رسول الله، وهو رطب؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "قال أبي لعمرَ رضي الله عنهما: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل وهو رطب"، فكان هو معلمه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى عنه جمع من الصحابة رضوان الله عليهم. ومن مناقبه الجلية كان من أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، ولعل من أهم عوامل معرفته بمعاني كتاب الله أنه كان من أحبار اليهود العارفين بالكتب القديمة وما ورد فيها، كما أنه كان من كُتَّاب الوحي؛ مما يجعله عالمًا بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، كما أنه عُدَّ من المكثرين في التفسير الذين يُعوَّل على تفسيرهم، رواية ودراية، ويتضح ذلك مما رُوي عنه في التفسير؛ فعن الطفيل عن أبيه؛ يعني أُبي بن كعب، قال: ((سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ [الفتح: 26]، قال: شهادة أن لا إله إلا الله)). وعن أبي العالية، عن أبيٍّ في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال: "هن أربع، كلهن عذاب، وكلهن واقع لا محالة، فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فأُلبسوا شيعًا، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقِيَ ثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم". وفاته: اختُلف في تاريخ وفاته رضي الله عنه: فقيل إنه توفي سنة 22 من خلافة عمر، وقيل: إنه توفي سنة 30 من خلافة عثمان. نسأل الله أن يجمعنا معه وبصحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنات عدن، آمين. أهم المصادر: • "سير أعلام النبلاء"، للذهبي. • "الاستيعاب"، لأبي عمر ابن عبد البر. • "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، لابن الأثير. • "الإصابة في تمييز الصحابة"، لابن حجر العسقلاني.
التحفة المرضية في الرد على من فخم الواو المدية لعمرو عبد الله الحلواني صدر حديثًا كتاب "التحفة المرضية في الرد على من فخَّمَ الواو المدية"، تأليف: "عمرو عبد الله الحلواني"، نشر: "دار خير زاد للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب في علوم القراءات، وهي رسالة في حكم تفخيم الواو والياء المديتين بعد الحرف المفخم، استعمل ذلك بعض أفاضل المقرئين في العصر المتأخر، وعملوا به، وانتشر عنهم، وأخذوا به على طلابهم، وأشكل أمره على كثير من القراء والمقرئين، حتى اعتبروه وجهًا صحيحًا يجوز القراءة به، والأخذ به على الطالب، حتى إن بعضهم قدمه في الأداء على الترقيق، وبعضهم عدَّه الوجه الصحيح الذي لا تصح القراءة ولا الإقراء بخلافه. وقد جاءت الرسالة في إثبات رد صحة هذا الوجه وأبطله جماعة القراء والمقرئين، ولم يروه وجهًا صحيحًا تسوغ القراءة به، منهم علامة الشام الشيخ الإمام المحقق "أيمن سويد" حفظه الله ونفع بعلومه، كما نقله عنه بعض الأفاضل، ونُقِل نَوه عن غيره من أئمة هذا الشأن. وقد لمس الكاتب من بعضهم الميل إلى تصحيح القراءة به، وأنه وجه منقول عن بعض من تقدم، فاستخار الله في تتبع هذا الرأي، ليعرف منشأه وأول القائلين به وعمن أخذوه أو نقلوه، وعن حجتهم في ذلك، لأن هذا الوجه لم يقرأ به على شيوخنا، ولا أخبرونا به، وما اطلع عليه الكاتب من نصوص أئمة التجويد ترده وتبطل صحته. ونجد أن أوّل من قال بتفخيم الواو هو الإمام المرعشيّ الملقب بساجقلي زاده، في القرن 12 هـ، حيث قال عليه رحمة الله تعالى عند تحدّثه عن حكم الألف تفخيمًا وترقيقًا: "ولعلّ الحقّ أنّ الواو المدّيّة تفخّم بعد الحرف المفخّم والله أعلم". (جهد المقل صـ154 تحقيق سالم الحمد). ونجد أن استعماله لفظ (لعلّ) حرف ترجّ أي أنّه يرجو أن يكون جواز إطلاق لفظ التفخيم على الواو المدّيّة هو الحقّ. وهي عبارة يغلب عليها طابع الاحتمال والظنّ. فهو اجتهادٌ خاصٌّ من المرعشيِّ لا يستند إلى أصلٍ، لكن أدرجه الشيخ "محمد مكي نصر" في كتابه: "نهاية القول المفيد"، ونسبه إلى المرعشي، وهو من المكثرين في النقل عنه. وربما الحديث عن تفخيم الواو بعد المفخم جاء من حيث صعوبة ترقيقها عند بعض النَّاس. وقد حسم ابن الجزري هذه المسألة في عصره بأن بيَّن الحروف المفخمة من المرققة أو التي لها حكمان، وجعل الواو والياء المديَّتين في دائرة المرققات مطلقًا بخلاف الألف وحدها التي تتبع ما قبلها. قال الإمام ابن الجزري رحمه الله: "فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُسْتَفِلَةَ كُلَّهَا مُرَقَّقَةٌ لَا يَجُوزُ تَفْخِيمُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا اللَّامَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فَتْحَةٍ، أَوْ ضَمَّةٍ إِجْمَاعًا، أَوْ بَعْضَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَإِلَّا الرَّاءَ الْمَضْمُومَةَ، أَوِ الْمَفْتُوحَةَ مُطْلَقًا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَالسَّاكِنَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْحُرُوفُ الْمُسْتَعْلِيَةُ كُلُّهَا مُفَخَّمَةٌ لَا يُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِنْهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَأَمَّا الْأَلِفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُوصَفُ بِتَرْقِيقٍ وَلَا تَفْخِيمٍ، بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَقَدَّمُهَا فَإِنَّهَا تَتْبَعُهُ تَرْقِيقًا وَتَفْخِيمًا" اهـ. فلو كان حول الواو والياء حديثٌ لذكرهما مع الألف. أما لماذا تفخّم الألف المديّة دون الواو، ودخولها في هذا الإشكال، فالجواب: أن التفخيم هو سمن يدخل على جسم الحرف فيمتلئ الفم بصداه (قاله ابن الطحان ت 561 هـ)، والذي يفسّر ذلك أنّ الصوت يعلو بالألف المفخّمة فيصطدم بالحنك الأعلى فيعود صداه إلى جميع أنحاء الفم فيمتلئ ويبقى أقصى اللسان مرتفعًا لأجل ارتفاع الصوت. فارتفاع الصوت منوط بارتفاع اللسان، وما سمّيت الحروف المستعلية بذلك إلاّ لأنّ اللسان يعلو ويرتفع ويعلو معه الصوت ويرتفع، والتفخيم لازم لها، وإذا لم يرتفع الصوت فلا يمتلئ الفم بصداه. أمّا في الواو المدّية فلا يمتلئ الفم بصدى الحرف لأنّ اللسان ينخفص بمجرّد انفصاله عن الحنك قبل أن تمتدّ الواو في الجوف فينتقل الصوت من المخرج المحقق إلى المخرج المقدّر. فلو نطقنا مثلًا ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التحريم: 6] فإنّنا ننطق أوّلًا بالقاف المضمومة المفخّمة وذلك بإلصاق أقصى اللسان بالحنك، ثمّ بمجرّد الانتقال إلى الواو المدّية يحصل انفكاك لأقصى اللسان عن الحنك فينخفض الصوت بانخفاض اللسان وبعدها تمتدّ الواو في جوف إلى جهة الشفتين والفرق بين الألف والواو: أنّ في الألف المفخّمة يرتفع الصوت إلى الحنك ويبقى الصوت مرتفعًا وأقصى اللسان أثناء المدّ في نحو طآئر، فيستمرّ انصدام الصوت بالحنك الأعلى فيعود الصدى إلى جميع أنحاء الفم باستمرار حتّى ينتهي المدّ، خلافًا للواو المدّيّة فإنّ اللسان ينخفض بعد انفصاله من الحنك فينتقل الصوت إلى الجوف فيمتدّ الصوت إلى جهة الشفتين ولا يرتفع إلى جهة الحنك كما في الألف المفخّمة، ولا يمكن أن يحصل التفخيم بذلك. لذا فإنّ ما جنح إليه المرعشيّ عليه رحمة الله تعالى غير مستقيم، ولله الحمد فإنّ هذا القول لم يُتلقّى بالقبول عند المعاصرين وإلاّ لأثّر ذلك في الأداء. وقد جاءت هذه الدراسة في بيان مختلف تلك الآراء مع مناقشتها بالدليل والبينة، ذاكرًا حكم تلك المسألة ومناطها في خاتمة دراسته.
تعريف بكتاب " جلاد الإلحاد " حصانة عقدية من الموجة الإلحادية المعلومات الأولية للكتاب: اسم الكتاب: جلاد الإلحاد - حصانة عقدية من الموجة الإلحادية اسم المؤلف: عمار محمد أعظم. دار الطباعة: مركز سلف للبحوث والدراسات - مكة المكرمة. رقم الطبعة وتاريخها: الطَّبعة الثانية، عام 1444هـ-2023م. حجم الكتاب: غلاف يقع في (216) صفحة، الحجم 15 * 21 سم. تمهيد: الحمد لله الذي جعل معرفته فطريَّة ضروريَّة؛ فهو أعرفُ ما في الحُقُول المعرفيَّة، وأصلُ كلِّ العلومِ الدنيويَّة والأخرويَّة، وأظهرُ الحقَائق المطلَقَةِ الوُجُوديَّة، والإيمانُ به أعمقُ الغرائزِ الفطريَّة، سبحانه أعلَى المُرادات ومُنتهَى الغَائيَّة، وصلى الله وسلم على خير البشريَّة؛ أرشدنا إلى ربِّنا بأنه الخالقُ المبدعُ للبريَّة، وأنه المحكمُ صنعَه المحبُّ للإتقانِ في كل قضيَّة، وعلى آله وصحبه وكل تابعٍ أحسَن اتِّباعَه وأخلَصَ النيَّة، جمعنا الله بهم في فِردَوسه وأكرمنا بنَعيم التَّحيَّة، أما بعد: فإن معرفة الله فطريَّة بديهيَّةٌ ضروريَّةٌ ، لا تحتاج إلى نظر ولا استدلال، فهي في غاية الوضوح والبيان، ساطعة البرهان، ثابتة الأركان، لا نقول ذلك انطلاقًا من العاطفة الإيمانية؛ وإنما تصريحًا بالحقيقة اليقينية البرهانية؛ فهي مقولة مستندة إلى الحجج والدلائل فطرةً وعقلًا وواقعًا وبديهةً. بيد أن حول هذه البدهيَّة الفطريَّة تدور رحى الإلحاد والملحدين، من غير حجة ولا سلطان مبين، ولا تفسير واضح مقنع للشعور الفطري الذي يُلحُّ في داخل كل إنسان. فالإلحاد ليس أصلًا في البشرية، ولا يمكن أبدًا أن يكون أصلًا ؛ لذلك لا يعرف التأريخ أُمَّةً من الأُمَمِ مسلمةً كانت أو غير مسلمة مَضَت على الإلحاد؛ وإنما يسقط في هذه الهُوَّة أفراد يقلون أو يكثرون في كل عصر من العصور، أقول هذا تنزُّلًا وجدلًا، وإلا فإن الإلحاد لا يمكن أن يحيَا عليه إنسانٌ لو صدقَ في تبنِّيه واعتقاده فكريًّا وسلوكيًّا؛ بحيث يُطبِّق عمليًّا ما يمليه عليه إلحاده من العدميَّة الوجوديَّة والوحشيَّة الأخلاقيَّة ! بل الواقع أنه "لو تصوَّر الملاحدة حقيقة إلحادهم كما هي دون تعسُّف أو بتر أو تجميل لما بقي على الإلحاد إلَّا قليلًا منهم، إن بقي منهم أحد! فالملحد الوفي لدهريته الصادق في طرحه وعبارته الواضح في معلوماته يُقدِّم أعظم خدمة للدفاع عن عقيدة الإيمان بالله! فحسنُ بيان حقيقة الإلحاد كما هو كافٍ لتقدم للملحد مدخلًا عقليًّا ونفسيًّا لإقامة قراءة نقدية لمعتقده؛ ولكن يبقى الإشكال كل الإشكال في قدرة الملحدين على فهم إلحادهم؛ فإن عامتهم في عجزٍ عن معرفة مذهبهم" . ولما ظهر في عصرنا الحاضر صوتٌ للملحدين -ممَّن يتظاهرون بتبنِّيه فكريًّا ولا يلتزمون بلوازمه عمليًّا- وانتشرت أفكارهم وأطروحاتهم احتيج إلى مجالدتهم بالتوضيح والبيان ومساجلتهم وكبْتهم بالحجة والبرهان، فكان هذا الكتاب سعيًا في هذا المضمار؛ تحصينًا لبيضة الإيمان بإيقاظ الحجج الفطريَّة والعقلية المخاطبة للجنان . هدف الكتاب: تحصين المؤمن بتذكيره بأدلة وجود الله سبحانه الكامنة في نفسه، وإيقاظ الفطرة المودعة من خالقه سبحانه وتعالى بأسلوب سهل يجمع بين القوة في الطرح والسهولة في العرض مع الإعراض عن الاستطراد وعدم الإكثار من الشُّبَه والإيراد. منهج الكتاب: منهج العرض والتأصيل المتضمن للبرهنة والاستدلال في الأصل، وقد ينحو نحو النقد والردِّ والتحليل متى احتيج إلى ذلك. الخيوط الناظمة للكتاب: مقدمة، وفيها هدف الكتاب ومنهجه وخطته. تمهيد، وفيه: أزمة مفهوم الإلحاد. المبحث الأول: فطريَّة معرفة الله. المبحث الثاني: أنواع أدلة وجود الله، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الأدلة الفطريَّة، ونذكر منها أربعة أدلة: الدليل الأول: المقدِّمات الأوَّليَّة الضَّروريَّة. الدليل الثاني: الغرائز الفطريَّة. الدليل الثالث: الغائية، وفيه مناقشة لشبهة: استغناء العلم التجريبي. الدليل الرابع: حرية الإرادة. المطلب الثاني: الأدلة العقلية، ونذكر منها دليلين: الدليل الأول: الإبداع والاختراع، وفيه مناقشة لشبهة: مَن خلق الله؟ الدليل الثاني: الإتقان والإحكام، وفيه مناقشة لشبهة: هل يتناسب حجم الكون مع حجم الإنسان لتسخير الأول للثاني؟ الخاتمة، وفيها بيان الحاجة إلى الأنبياء وميراثهم، ثم ذكر أهم التوصيات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
القراءات البلاغية وتعدد الدلالة لإبراهيم سعيد السيد صدر حديثًا كتاب "القراءات البلاغية وتعدد الدلالة" ، تأليف: د. "إبراهيم سعيد السيد" ، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع" . ينطلق هذا الكتاب من فرضية تقول أن فهم الأسس التي تبنى عليها العلوم هي الفيصل في تحديد المدى الإجرائي الذي عمل فيه كل علم، وأن وظائف المباحث البلاغية وقيمتها تختلف باختلاف القراءة ومنهجية التحليل. وبذلك فإن تنوع القراءة البلاغية يؤدي إلى تنوع أوجه التأويل وبناء الدلالة، وبخاصة مع كثرة المناهج التي ركزت على المباحث البلاغية في تحليلها للخطاب، تلك المناهج التي ربما تتقاطع في الأدوات، لكنها تختلف في طبيعة الخلفيات المعرفية. ونجد أن اللغة غايتها التواصل ولا يتحقق إلا بها، وتعدد الدلالات واحتمال المعاني المختلفة في النص الواحد قد يؤدي إلى اللبس والإشكال فلا يدري القارئ أي معنى مراد وأي دلالة مقصودة، غير أن الإيجاز والتكثيف الدلالي سمة اللغة العالية وغاية المتكلم البليغ فقد قيل إن البلاغة لمحة دالة، وإصابة المعنى وحسن الإيجاز؛ لذا فقد يلتمس المتكلم طريقًا وسطى تحقق وظيفة اللغة وسمة اللغة العالية أي يحقق الإبانة والإيجاز، فيعبر عن المعاني الكثيرة بأقل الألفاظ متجنبًا اللبس والغموض وذلك باستخدام طاقات اللغة وإمكاناتها، وهذه الظاهرة تسمى التوسع الدلالي. وقد جاء هذا الكتاب لمعالجة تلك القضايا البلاغية في ثلاثة فصول: يطرح الفصل الأول منها دعوة إلى البحث عن منهج أكثر عمقًا في قراءة مضامين الخطاب، ثم يحاول قراءة نمط شعري من وجهة نظر مغايرة لما درس منه. ويعالج الفصل الثاني الوظائف البلاغية التي تتعدد بحسب تحولات المقاربة، ثم يطبق على آلية بلاغية يمكن تأويلها في النص الشعري بأكثر من قراءة. بينما يتساءل الفصل الثالث من الدراسة عن طبيعة النسق الذهني بين قراءتين مختلفتين مع السعي إلى مساءلة ترجمات متعددة لمعاني النص القرآني، من جهة أن ترجمة المعاني البلاغية عملية ذهنية معقدة. والكاتب هو د. "إبراهيم سعيد عبده السيد" أستاذ مساعد بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، حصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي من قسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة عام 2005م. وكان موضوع بحثه: (توظيف الشخصية التراثية في الرواية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين: دراسة نقدية) . وحصل على درجة الدكتوراه في البلاغة العربية بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن - كلية دار العلوم - جامعة القاهرة عام 2010م (بمرتبة الشرف الأولى) . وكان موضوع بحثه بعنوان: (السياق وتنوع التعبير عن الإدراك الحسي في القرآن الكريم (دراسة بلاغية) . من دراساته ومؤلفاته: • البنية الحسية في التعبير القرآني، طبعة / دار النابغة، مصر 2014. • النقد الثقافي وإشكاليات العلاقة مع الاتجاه الإسلامي في الأدب، مجلة المنارة - جامعة آل البيت- الأردن 2014. • قراءة مضمون الخطاب بين التراث العربي واللسانيات الحديثة، مجلة كلية دار العلوم، جامعة الفيوم، العدد 35- شتاء 2013- 2014م. • القراءت البلاغية وتعدد الدلالة، مجلة كلية الآداب جامعة السويس، العدد الأول، مايو 2015م. • النسق الذهني بين البلاغة العربية والبلاغة المعرفية... دراسة تحليلية مقارنة، ضمن أعمال المؤتمر الدولي: "الموروث اللغوي والأدبي في عيون المحدثين" بجامعة الزرقاء - المملكة الأردنية الهاشمية، محرم 1437هـ، نوفمبر 2015م. • "تحليل السرد في القصة السعودية وبناء التأويل.. دراسة في المقاربات النقدية" ، وهو من أعمال ملتقى النقد الأدبي بالرياض- الدورة السادسة جمادى الآخرة 1437هـ- أبريل 2016م. • "إشكاليات ترجمة معنى المعنى في النص القرآني دراسة تطبيقية" ، بحث مشارك في ملتقى الترجمة الأول بعنوان: "نحو ترجمة نموذجية" ، بجامعة جازان 1437هـ- 2016م. • تعيين الوظائف البلاغية بين المعيارية وتحولات المقاربة.. دراسة في تحليل الخطاب البلاغي، بحث مقبول للنشر بمجلة جامعة نزوى- سلطنة عمان 2016م. • الدلالة النسقية في شعر الخوارج، بحث مقبول للنشر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة قناة السويس 2016م. • الفانتازيا في القصة السعودية وسياقها الثقافي.. دراسة نقدية، بحث منشور بمؤتمر (التجريب في الأدب والنقد) كلية دار العلوم جامعة القاهرة، مايو 2017. • "الإشكاليات البلاغية لترجمة معنى المعنى في النص القرآني دراسة تطبيقية" ، بحث مقبول للنشر بمجلة البحوث والدراسات القرآنية- مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاغتراب) من محددات العلاقة بين المسلمين والغرب وجود جاليات إسلامية مغتربة في المجتمعات الغربية، والمعلوم أن هجرات المسلمين للغرب قديمة جدًّا، إلى درجة أن الدكتورة إيفون حداد أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة مساشيوستس بالولايات المتحدة الأمريكية ترجع وجود المسلمين في أمريكا إلى ما قبل اكتشافها على يدي كريستوفر كولمبس [1] . تورد هذا الرأي في معرض حديثها عن الوجود الإسلامي في أمريكا، ومهما يكن من أمر فالوجود الإسلامي في أوروبا وأمريكا قديم، بدأ بالبعثات الدبلوماسية وبالهجرات التي أرادت اكتشاف الآخر، والدعوة إلى الإسلام، أو سعت إلى تحسين وضعها الاقتصادي، أو هربت من ظروف سياسية لم تكن تسمح لها بالاستمرار في مواطنها [2] ، وكونت هناك مجتمعات صغيرة جدًّا، حاولت من خلالها الحفاظ على هويتها الإسلامية، لا سيما عندما كبر الأولاد بنين وبنات، فأقامت منتديات سمتها مساجد، وإن لم تكن بالضرورة مساجد، بل هي مصليات يذكر فيها اسم الله، وتقام فيها الصلاة والدروس الدينية واللغوية والمحاضرات واللقاءات والمناسبات الاجتماعية [3] . ثم توالى الوجود الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، بهجرات جديدة من شوام ومصريين وهنود، بالإضافة إلى وجود المسلمين الأفارقة الذين جلبوا إلى أوربا وأمريكا عبيدًا ليعملوا في المزارع والحقول، وغيرت أسماؤهم، ومن ثم هوياتهم، وجرى تنصيرهم، وبالتالي سُعِي إلى صهرهم بالثقافة الغربية القائمة على الخلفية النصرانية ولا شك، ثم سعوا إلى العودة إلى جذورهم، كما جسدتها رواية أليكس هيلي: الجذور [4] . ثم توالت الهجرات أيضًا في القرن العشرين الميلادي، الرابع عشر الهجري، وانصهر كثير من المسلمين في المجتمع الغربي، ولكنه الانصهار الذي لم يصل إلى إنكار الهوية الإسلامية، فزادت المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية، وأقيمت الجمعيات المهنية الإسلامية، ووصلت إلى قيام تنظيمات ثقافية واجتماعية وسياسة واقتصادية وإعلامية، وأضحى للمسلمين بعض صوت في أوربا وأمريكا، وأضحى لهم شأن، ودخلوا في اللعبة السياسية. تنبه أهل البلاد هناك لوجودهم وحسبوا لهم حسابًا، رغم أن الإعلام لم يوفق في إعطاء صورة صادقة للإسلام والمسلمين المحليين وغيرهم من مسلمي العالم، وأضحى الإعلام يشير بأصابع الاتهام للمسلمين عند أي عمل تخريبي إرهابي في العالم [5] ، على ما سيأتي الحديث عنه في وقفة لاحقة. لكن وجود المغتربين المسلمين في المجتمع الغربي لا يخلو من تأثير مهما ضعف، إلا أنه يُعَدُّ شكلًا مهمًّا من أشكال الحوار بين المسلمين والغرب، ومحددًا حيويًّا وفاعلًا من محددات العلاقة بين المسلمين والغرب؛ ذلك أن المسلمين الموجودين في الغرب رسموا صورة أوضح من الصورة التي قدمها الاستشراق والإعلام؛ لأنهم عملوا هناك، وكانت لهم علاقات اجتماعية، كما أنهم استخدموا في الوقت نفسه أسلوب الدعوة بالحكمة، ومنها القدوة في تطبيق الإسلام بالقدر الذي استطاعوا معه قانونيًّا التطبيق، بعد أن أدركوا أنهم ليسوا في مجتمع مسلم يطبق فيه الإسلام على جميع مناحي الحياة. ليس المراد هنا إعطاء صورة غير واضحة للجالية المسلمة في الغرب تنحو منحى الإيجابية في العرض؛ إذ إن عليها ما عليها من ملحوظات تطرق لها الإعلام الإسلامي في وقفات مختلفة [6] ، وناقشتها ندوات عن الأقليات والجاليات المسلمة، وكتب حولها ما كتب ويكتب [7] ، ويمكن أن يعد الوجود الدائم لهذه الجاليات في مجتمعات غربية مؤشرًا من مؤشرات التلاقي بين المسلمين والغرب. كلما تمسك المسلمون المغتربون هناك بإسلامهم قوي هذا المؤشر؛ لأنهم بهذا يُعَدُّون دعاة بالقدوة، والعكس صحيح؛ أي: كلما تخلى المسلمون في الغرب عن هويتهم الإسلامية وسعوا إلى الانغماس التام في الثقافة الغربية فقدوا قدرتهم على التأثير، وبالتالي فقدوا عنصرًا من عناصر وجودهم؛ لأن الغربيين لا يتوقعون منهم أن يتبنوا ثقافة مشكوكًا في صمودها، على حساب ثقافة صمدت مئات السنين، وما تزال كذلك، وستظل مهما تخلى بعض أبنائها عنها وهجروها إلى غيرها. مع تنامي وجود الجاليات المسلمة في الغرب يتنامى الاعتراف بهم في هذه المجتمعات، على أنهم جزء فاعلٌ منها، لهم إسهاماتهم في مسيرة الحياة والتنمية هناك، ويمكن لهم أن يمثلوا الجانب المشرق في النظرة إلى الأشياء في مجتمعات أضحت تتعطش إلى الفضيلة، بعد أن ملت الغَواية، وأدركت أن الحرية مهما تشبثت بها الأمم إلا أنها هي ذاتها تحتاج إلى تقييد بالمثل والمبادئ التي تكفل الاستمتاع بها على مستوى الأفراد والجماعات [8] . [1] انظر: إيفون يزبك حداد/ محررة ، المسلمون في أمريكا - القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1415هـ/ 1994م ، ص 303. [2] انظر: المؤثر الثالث: الوجود الإسلامي - ص 75 - 95 - في: علي بن إبراهيم النملة ، مجالات التأثير والتأثر بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب - مرجع سابق - ص 179. [3] انظر: في الوجود الإسلامي في أمريكا: محمد عبده يماني ، المسلمون السود في أمريكا: القصة كاملة - جدة: المؤلف، 1427هـ - ص414، وانظر أيضًا: عبدالرزاق بن حمود الزهراني ، المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية: دراسة ميدانية - الدمام: دار الذخائر، 1421هـ / 2000م - ص 232 ، وانظر كذلك: أحمد يونس ، المسلمون الأمريكيون: أقسم أن أقول الحق/ ترجمة نشأت جعفر - القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1424هـ/ 2003م - ص 64 ، وانظر كذلك: التقرير الذي نشرته نشرة أصفار بعنوان: أوسع دراسة عن الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية: صيرورة المستقبل من "أمة الإسلام إلى مرحلة الإخوان المسلمين" إلى عصر المؤسسات والجامعات" - أصفار - مرجع سابق - ص 1 - 8. [4] انظر: أليكس هالي ، الجذور: كونتا كينتي/ أعدها بتصرف عن القصة الكاملة خليل حنا تدرس - القاهرة: مطبعة مصر، 1991م - ص 176 ، والنسخة الأصلية باللغة الإنجليزية أكثر وضوحًا. [5] انظر: فواز جرجس ، أمريكا والإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 362. [6] انظر: أحمد موصللي ، حقيقة الصراع: الغرب والولايات المتحدة والإسلام السياسي - (بيروت): عالم ألف ليلة وليلة، 2003م - ص 213 . [7] انظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الأقليات المسلمة في العالم: ظروفها المعاصرة - آلامها - آمالها، (أبحاث ووقائع المؤتمر العالمي السادس للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في الرياض في الفترة من 12 - 17 جمادى الأولى 1406هـ الموافق 22 - 23 يناير 1986م) - 3 مج - الرياض: الندوة، 1408هـ/ 1987م - ص 1431. [8] انظر: في جانب من جوانب الفضيلة، وهو ما يتعلق بشأن المرأة: بكر بن عبدالله أبو زيد ، حراسة الفضيلة - ط 4 - الرياض: دار العاصمة، 1421هـ/ 2000م - ص 200.
تفسير أبي سعيد الحنفي بين الاندثار والازدهار الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، جعل كتابه هدايةً للناس أجمعين، تفضل على خلقه بأسرار آياته؛ لينير لهم سبيلهم إلى جنات رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد: فإنه لا يخفى على كلِّ لبيب أن خير ما أنفق الإنسان فيه نفيس أوقاته، وهجر لأجله الأولاد والأخلاء والأصحاب، هو اكتساب العلم والاشتغال به؛ إذ هو السبب لإنارة الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رضاه الذي به سعادة الإنسان في الدارين، من أجل هذا شَمَّر إخواني طلبة العلم من كلية الإمام الأعظم رحمه الله الجامعة عن سواعد الجد، وعزموا على الإسهام في البحث والتحقيق لتراث علمائنا، فوقع بين أيديهم تفسير لم يَشتهر من قبلُ، ولم تسبق إليه جهودُ المحققين، ولم ير النور بعدُ، ألا وهو تفسير أبي سعيد الحنفي رحمه الله. والمفسر الإمام أبو سعيد الحنفي هو محمد بن محمد بن مصطفى بن عثمان الخادمي، المولود في قرية خادم من توابع قونيا في تركيا، في سنة: 1113 هـ، وأصله من بخارى، طلب العلم منذ صباه، وترعرع ونشأ في بيت علم وتقوى، فتفقه على أبيه وجده وغيرهما من علماء زمانه، وله تلاميذ من أشهرهم: الأيديني الرومي الحنفي، وتوفي: 1176هـ. ويتميز هذا السفر العظيم الموسوم بـ (تفسير أبي سعيد الحنفي) بكلامه عن السورة من جوانب شتی، فيذكر فضائلها، وعدد آياتها، وبيان حروفها، ويوضح سبب نزولها، ويعطي المعنى العام لآياتها، وما يتعلق بها... ونحو ذلك). وقد اختار الله إخوة فضلاء وطلبة علم نجباء لتحقيق هذا السفر العظيم؛ منهم: المحقق ثائر عايد خلف المشهداني، والمحقق حامد حسين مطر الجميلي، والمحقق عامر مراد ملا علي الفلاحي، وقد أكرَمهم الله بثلاث نسخ خطية، وقد اقتضت طبيعة العمل تقسيمه إلى قسمين: القسم الأول: الدراسة. اشتَمل هذا القسم على مبحثين: المبحث الأول: تضمن حياة المصنف أبي سعيد وآثاره، واشتمل على تمهيد وأربعة مطالب: التمهيد: التعريف بالمؤلف أبي سعيد، وتفسيرهِ. المطلب الأول: الإمام أبي سعيد: اسمه ونسبه ولقبه. المطلب الثاني: شيوخه وتلاميذه. المطلب الثالث: آثاره ومكانته العلمية. المطلب الرابع: وفاته. المبحث الثاني: خصَّصت هذا المبحث للحديث عن الكتاب، وما يتعلَّقُ به: مصادر الكتاب، ومنهج أبي سعيد فيه - بشيء من الإيجاز - ثم منهجي في التحقيق ووصف المخطوط، وجعلته مقسَّمًا إلى خمسة مطالب: المطلب الأول: اسم الكتاب، ونسبته. المطلب الثاني: منهج أبي سعيد، وموارد الكتاب. المطلب الثالث: منهجي في التحقيق ووصف المخطوط. المطلب الرابع: نماذج من صور المخطوط. أما القسم الثاني: فجعلته للنص المحقق. وفي الختام أقول: هذا واحد من كتب التراث المغمورة لعلمائنا الأجلاء، استعمل الله تعالى إخواني من طلبة العلم ليجد طريقه إلى النور، وقد بذلوا غاية الجهد في إخراجه بصورة علميَّة، واللهَ تعالى أسألُ أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجزيهم به أعظم الجزاء، إنه هو الكريم الجواد.
يجتاحنا القرآنيون تعتبر سياسة "فرقْ تسُد" " divide et impera " إحدى أهم السياسات التي انتهجها الغرب لتشتيت وتفكيك وَحدة المسلمين، وقد عمِل عليها منذ بداية استعماره للبلاد الإسلامية، من خلال دعمه للطوائف المارقة الهادمة للإسلام، فعمِلت بريطانيا إبان استعمارها للهند على دعم فرقة حديثة النشأة لَمَّا تبرُز بعدُ جذورها الأولى آنذاك، وهي فرقة "القرآنيون" التي حذَّر منها - قبل ما يزيد على أربعة عشر قرنًا - نبيُّنا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في حديث المقدام بن معدي كرب الذي عند أبي داوُد وغيره: (ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتُم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه ). ففي القرن التاسع عشر ظهر في الهند رجلان اشتهرا بإنكار السنة هما: سيد أحمد خان، وغلام أحمد القادياني، وسَرعان ما تسربت آراؤهم إلى قلوب الناس، فتبنَّاها البعض مثل: محب الحق آبادي وعبد اجكرَلاوي، إلا أن الأول اقتصر على القرآن دون الطعن في السنة، ومثل برويز الذي لقي احتفاءً وتمكينًا من طرف السلطة آنذاك، لتنتشر هذه الفرقة فيما بعد حتى ظهرت في بعض الدول العربية ومن أهم أفكارها: إنكار عذاب القبر، إنكار أسباب النزول، إنكار نزول عيسى عليه السلام، إنكار الشفاعة ( شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم )، إنكار عصمة الأنبياء. صحيح أن الظاهرة الإنسانية بطبيعتها متعددة الأسباب، إلا أن أغلب الباحثين يكادون يجمعون على أن البريد والبوابة الأولى للإلحاد، هي إنكار السنة والشواهد على ذلك كثيرة، والناظر يدرك أن الملحد قبل إعلان إلحاده يمر بمراحل: الطعن في التراث، الطعن في ناقلي الحديث ( البخاري، مسلم.... )، الطعن في المكثرين من رواية الحديث من الصحابة ( أبو هريرة مثلًا )، ثم تأتي مرحلة الاقتصار على القرآن دون السنة وجحد - ضمنيًّا - بعض الآيات التي تتحدث عن منزلة السنة: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ [الحشر: 7]، ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]. ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وغيرها من الآيات التي تدل على حجية السنة، ثم مع الوقت ينكر القرآن وينسلخ من الدين، وهذا طبيعي لأن الدافع الأول لإنكاره للسنة مخالفتها لهواه، فالهوى رأس ماله والدين من حيث هو يتناقض مع الهوى فيصبح الدين متهمًا يحاكم إلى سلطة الهوى البهيمية، ويصبح إنكار السنة الطريقة الأنجع والأسهل للمروق من الدين والدخول في عتمات الإلحاد. ولم يعد المجتمع الموريتاني المحافظ الذي عُرف بالعلم ونشره بمعزلٍ عن هذا الفكر السام، ففي السنوات الأخيرة بدأ ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي شبابٌ تأثروا به، فتبنوه وأصبحوا يدافعون عنه بزعم غربلة وتنقيح التراث، ممن تأثر بمصطلحات براقة دفعت بكثيرٍ من الشباب المسلم نحو مزالق الإلحاد والزندقة، وإنكار المعلوم من الدين ضرورة كمصطلح: القراءة المعاصرة للقرآن وغيرها من الشعارات الرنانة التي ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.
خالد بن الوليد رضي الله عنه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. خالد بن الوليد رضي الله عنه شخصية غير عادية في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ فهو قبل الإسلام ابن الوليد بن المغيرة، الذي صرف الناس عن الإيمان بالله تعالى وبكتابه، حين قال بعد تفكير طويل وتعمُّق فيما يصف القرآن به بعدما حيَّرهم شأن القرآن، من أين يأتي؟ وكيف أن تأثيره لا ينكر على من سمعه؟ وكان الوليد رجلًا مسموع الكلمة في قريش، وله رأي مقبول، فكانت كلمته التي سجلها القرآن عليه: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [المدثر: 24]، ثم يأتيه الجواب اللائق بمثله: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر: 26]. ومَثَلُ هذا الرجل كمثل الكاتب الأجير الذي عرف شيئًا من أحكام الشريعة، ويُؤتَى به ليزين لأهل الباطل باطلهم، أو ليبثَّ الشُّبُهات التي تشكك في دين الله وفي أحكامه. ومن بيت هذا الرجل الذي حارب نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، يخرج رجلان يحاربان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ويدافعان عنه، وعن دينه وكتابه المبين. أما الأول، فصار اسمه مقرونًا بالضعفاء، ونصرة الضعفاء، والقنوت للضعفاء: ((اللهم أنجِ المستضعفين، اللهم أنجِ الوليد بن الوليد))؛ هكذا كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته في صلاة الفجر. وهذا من عجائب حياة الرسل؛ فالأب عدوٌّ من الأعداء، مذموم في القرآن والسنة، والابن صاحب من الأصحاب، محمود في الكتاب والسنة. أما الابن الثاني، فهو العَلَمُ الكبير، ورغم أن إسلامه تأخر عن إسلام أخيه الوليد، إلا أن شأنه أعجب، وتضحيته أعظم. لأنك إذا عرفت من هو خالد بن الوليد قبل أن يُسْلِمَ، عرفت التضحية العظيمة التي قدمها من أجل أن يدخل في هذا الدين. فهو ابن رجل يذمه القرآن صباحَ مساء، يُتلَى في المساجد ويحفظه المسلمون، وسيحفظه هو، وسيسمعه في صلواتهم وتلاوتهم، ولا يستطيع أن يعترض أو أن يغير شيئًا. وهذا أمر في غاية الصعوبة أن تسمع ذمَّ أبيك، أو أن تقرأ ذمه وتحفظه، وتحفِّظه لأولادك، بل وتؤجر على ذلك، وتزداد حسناتك، كلما أكثرت من ذلك. هذا أمر شاق على النفس، لا يتجاوزه إلا ذو روح عظيمة، وقد تجاوزه خالد رضي الله عنه. الأمر الثاني في معرفة قيمة التضحية التي قدمها خالد ليصبح من المسلمين. فخالد هو قائد خيل قريش وصاحب قُبَّتِها، وفارسها الأول، ومقدمها في الحرب والقتال، فهو يعيش المجد من كل أطرافه، وهو في نفس الوقت يعتبر ظاهريًّا القائد المقابل للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يقود المسلمين في سلمهم وحربهم. ثم يتنازل عن كل هذا ليكون جنديًّا في الجيش الذي كان يقود الحرب ضده، ويصبح يتلقى الأوامر بعد أن كان يلقيها، وينفذ الخطط بعد أن كان هو من يرسمها. هذا شأن عجيب آخر من أعاجيب شأن خالد بن الوليد. وهذا يدل على صدق نيته، وحقيقة رغبته في الدخول في هذا الدين، وهذا أمر متكرر في صحابة رسول الله، لا بد أن تجد أن أحدهم قد ضحى بشيء، أو تنازل عن شيء يملكه؛ لكي يدخل في هذا الدين، ويثبت عليه. خالد بعد وفاة رسول الله لم يمكث في المدينة إلا قليلًا، بل إنه من حين ما خرج لحروب الردة لم يَعُدْ إليها، فهو – أولًا - كان في بعث جيش أسامة بن زيد، ثم بعد ذلك بدأت المرحلة الأهم في حياته، فصار رجل المرحلة في وقتها، وصار رجلُ أبي بكر الصديق يبعث به من مكان إلى مكان أخطرَ منه، ومن قوم أشداء إلى من هم أشد منهم، فبدأ بطليحة الأسدي، ومالك بن نويرة، ثم أهل اليمامة، ثم بعد ذلك إلى العراق رفقة المثنى بن حارثة، ثم الرحلة المدهشة في الانتقال من العراق إلى الشام في خمسة أيام، ثم القيادة الكبرى لمعركة اليرموك، وتوحيد القيادات المتفرقة تحت قيادته، وتحقيق الفتح على يديه، وكان استفتاح كتاب أبي بكر إليه من أبلغ الاستفتاحات في الكتب: "فإذا أتاك كتابي هذا فانهض إلى اليمامة"، "فإذا أتاك كتابي هذا فانهض إلى العراق"، "فإذا أتاك كتابي هذا فانهض إلى الشام". وفي نهاية المطاف يقول: "ما من ليلة تهدى إليَّ عروس أنا لها راغب بأحب لي من ليلة مطيرة شديدة البرد في سَرِيَّة من المهاجرين أصبح فيها العدو". أمام هذه الكلمة تتهاوى كل أحزان الحياة، وتتضاءل حتى لا تكون شيئًا أمام هذه الهمة، التي لم تفكر في شيء من أماني الحياة الأخرى، التي يراها البعض غاية المُنى، وفلك الحياة، وركن السعادة والراحة. كم هي صغيرة أمانينا الدنيوية أمام أمنية سيف الله وسيف رسوله! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وإثم وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الهادي الأمين، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره إلى يوم الدين؛ أما بعد: فخالد بن الوليد رضي الله عنه الذي قال عن جسده: "أنه لا يوجد فيه موضع شبر إلا وفيه رمية بسهم، أو ضربة بسهم، أو طعنة برمح". جسدٌ كله إصابات وعلامات تدل على جسد عاش كثيرًا في المعارك، وكان قلب المعارك محله فيها، فهناك تجد خالد بن الوليد يصول ويجول ويقود الصفوف، لا في الأطراف منها حتى يمتلك النظر الثاقب، وهذا أحد سببين يرفعان معنويات المقاتلين معه أن يَرَوا قائدهم في أول الصفوف، يطاعن الفرسان، ويجندل الشجعان، والسبب الثاني في رفع معنويات المقاتلين معه أن تكون جنديًّا في جيش يقوده خالد بن الوليد، هذه وحدها تطرد الخوف، وتطمئن للقيادة، وهذه الثانية تَبَعٌ للأولى، فلو لم يشاهدوه يتقدمهم لَما جاءت الثانية. لقد قاتل يوم مؤتة بتسعة أسياف، ولم تصمد في يده إلا صفيحة يمانية، فقد كان مستمرًّا في القتال لا يتوقف، تتكسر السيوف ولا ينكسر هو. وشرب السُّمَّ توكلًا على الله تعالى، ويقينًا أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى أمام حشد من الكافرين، لا يؤمن إلا بالماديات فقط، فجاءهم رجال يؤمنون بالرب الذي خلق الماديات وأوجدها، ولو كان الأمر بالماديات، لَما خرجوا من جزيرة العرب، فكل الحسابات تقول: إن الخسارة من نصيبهم. ثم ماذا بعد كل هذا؟ هنا مربِط الفرس وغاية الحديث. الغاية من هذا أن صاحب هذه البطولات وهذا المجد لم يفتخر يومًا بما فعل، ولم يُنقَل أنه أثنى على نفسه بقتاله ضد المرتدين، أو ضد الفرس، أو ضد الروم في اليرموك، المعركة التي غيَّرت وجه التاريخ إلى الأبد. أمضى حياته جنديًّا من جنود الإسلام، يأتمر بأمر أميرهم، لا عصيان ولا تشغيب، ولا بحث عن منصب أو إمارة، كما وقع لقادة جاؤوا من بعده. لزم جماعة المسلمين، وبقيَ في صفوفهم حتى وافاه الأجل على فراشه، لم تُكسَرْ له راية، ولم ينهزم له جيش، وكان النصر حليفه أينما كان، مع أنه سعى إلى الشهادة سعيًا حثيثًا، ولكن سيف الله لا يُغلب ولا يُقتل، فسيف الله غالبٌ لا مغلوب، وقاتلٌ لا مقتول. وهو رمز من رموز الإسلام والجهاد، فلا يفخر أحد علينا بقتل خالد بن الوليد. وهذا الرمز الذي لم تنكسر له راية، لم يفخر على أحد بذلك، ولم يُصِبْهُ الغرور من ذلك، فلا يرى نفسه فوق الناس، أو يبطل عمله بكثرة الحديث عنه، وهذا شأن المخلصين في عبادتهم، يريدون الله وما عند الله. أخيرًا يوم مات خالد بن الوليد، لم تبقَ امرأة من بني مخزوم إلا وقصَّت من شعر رأسها ووضعته على قبر خالد بن الوليد؛ فخرًا به، واعتزازًا بنسبه. ألَا على مثل سيرة خالد فلتنشأ الأجيال، وتكون هي القدوات، ونبراس المؤمنين، لا ما أُصيب به أبناء المسلمين من تفاهات يَرَونها كل يوم، فتضيع منهم أبناؤهم وبناتهم. رحم الله أبا سليمان؛ خالد بن الوليد، ورضيَ عنه إلى يوم الدين. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغِنى، اللهم إنا نسألك حبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم احفظنا بحفظك، ووفقنا إلى طاعتك، وارحمنا برحمتك، وارزقنا من رزقك الواسع، وتفضل علينا من فضلك العظيم، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أصلح إمامنا ولي أمرنا، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وفجور الفاجرين، واعتداء المعتدين. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
الجُذورُ التَّارِيخِيَّة لِلقُرآنِيِّين إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: إنَّ ما يُطلق عليهم - في وقتنا المعاصر - اسم "جماعة القرآنيين" إنما هم يُمثِّلون حلقةً في سلسلة طويلة من فِرَق وطوائف شتَّى حاربت السُّنة النبوية المُشرَّفة بكلِّ ما أُوتيت من قوة على ما مرَّ بنا، فهي حتى الآن تُمثِّل نهاية هذه السلسلة الطويلة التي حاربت السُّنة، ولا ندري هل فيما يأتي يتولَّد عنها تيارات أُخرى أم لا؟ وتجدر الإشارة إلى أنَّ القرآنيين ليسوا إلاَّ تيَّارًا فكريًّا يُمكن أن يُطلق عليه اسم "مدرسة فكرية"، فهم لا يُشكِّلون فِرْقةً كالفِرَق المعروفة تاريخيًّا أو حتى في عصرنا الحديث، كما أننا نُجازف إذا أطلقنا عليهم اسم "جماعة" إلاَّ إذا اعتبرناها جماعةً في طور النشأة، إذ أن أصحاب هذا التيار لا يوجد بينهم رابط إلاَّ الاتفاق على بعض المبادئ العامة التي يلوكونها في كتاباتهم دون اتصالٍ مُسْبَق أو تنسيقٍ مُتَّفَقٍ عليه، شأنهم شأن الفِرَق والجماعات الأخرى. وهذا التيار الفكري الناشئ في عصرنا الحالي، الذي بدأ يعلو صوتُه كما هو ملاحظ؛ له أصوله التاريخية، والقائمة على أساس نقض السنة النبوية وتقويضها وذلك كما يلي: البذور الأُولى للقرآنيين: إنكار السنة النبوية قرين إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَمِثْلَما أنه لم يخل زمان من إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكذلك لم يخل زمان من إنكار سنته صلى الله عليه وسلم، وهذا مثار العجب من منكري السنة النبوية؛ إذ كيف يزعمون أنهم مسلمون مؤمنون برسالته صلى الله عليه وسلم ثم يُنكِرون سُنَّتَه، ويرفضون اتِّباعه، ويُصَرُّون على عدمِ الأخذِ عنه، والاحتكامِ إليه، والتَّسليمِ له، ويُصِرُّون على مخالفته صلى الله عليه وسلم في كلِّ أقواله وأفعاله وتقريراته! حالات فردية نادرة في إنكار السنة: بدأت مسيرة إنكار السنة والشغب عليها - في صدر الإسلام - على هيئةٍ فردية في حالاتٍ نادرةٍ لا اعتبار بها، فقد وجد أشخاص متفرِّقون اعترضوا على أحاديث بلغتهم، واعترضوا عليها بعقولهم القاصرة، ومن هذه النماذج: 1- عَنْ مُعَاذَةَ؛ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَتَقْضِي إِحْدَانَا الصَّلاَةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنه ا: (أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لاَ تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ) [1] . 2- عن أبي نضرة؛ أنَّ رجلًا جاء إلى عِمران بن حُصين رضي الله عنه فسأله عن شيء، فحدَّثه، فقال الرجل : حدِّثوا عن كتاب الله، ولا تُحدِّثوا عن غيره ! فقال عمران رضي الله عنه: ( إنك امرؤٌ أحمق، أتَجِدُ في كتاب الله - تعالى - صلاة الظهر أربعًا لا يُجهر فيها ؟ ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاةَ ونحو هذا، ثم قال : أتجدُ هذا في كتاب الله مُفسَّرًا ؟ ! إنَّ كتابَ الله قد أبهمَ هذا، وإنَّ السُّنة تُفَسِّر ذلك) [2] . 3- عن أيوب؛ أنَّ رجلًا قال لِمُطَرِّف بن عبد الله بن الشخير: لا تُحِّدثونا إلاَّ بالقرآن! فقال له مُطَرِّف: (واللهِ ما نُرِيدُ بالقرآنِ بَدَلًا، ولكن نُرِيدُ مَنْ هو أعلم بالقرآنِ مِنَّا) [3] . لكن هذه حالات شاذة ولا تُذكر في معرض التاريخ لمنكري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِشُذوذِها ونُدرَتِها، ثم لعودة أصحابها إلى الحق سريعًا وانقضاء أثرها. التسلسل التاريخي لإنكار السنة: أما إنكار السُّنة على هيئة ممنهجة ومؤثرة، فقد ظهر متسلسلًا حسب وقائع التاريخ، وعلى أيدي فِرَقٍ قديمةٍ ضالَّة أنكرت السنة النبوية، ومن أهمها: أ- الخوارج وإنكار السنة: بدأ إنكار السُّنة على أيدي "الخوارج" الذين طعنوا في عدالة الصحابة رضي الله عنه م بعد حادثة التحكيم الشهيرة، فمن الخوارج مَنْ فَسَّقهم، وهم قلة لا تُذكر، والأكثرون من طوائف الخوارج كفَّروا الصحابة؛ بل منهم من جعلهم كالمشركين في الحرب والسَّبي وعدم قبول الجزية، وأدى بهم انحرافهم ذلك إلى مخالفة جماعة المسلمين، والمسارعة في تكفير الأمة بأنواعٍ من الكفر؛ فجمهرتهم يرون أنَّ دار مخالفيهم دار حرب، يُقتل فيها النساء والأطفال، وأن جميع المسلمين كُفَّار؛ مثل كُفَّار العرب، لا يُقبل منهم إلاَّ الإسلام أو القتل. وأمَّا في الأحكام : فقد أنكروا الرَّجمَ في الزاني المُحْصَن؛ لأنه ليس في القرآن، وأقاموا حَدَّ السَّرقة؛ ولم يلتزموا ما ورد في السُّنة وإجماع الأمة بالحِرْزِ في السَّرقة ونصابِها، وكذلك قطع اليد من الرُّسغ، كما استحلوا كُفْرَ الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها، وزعموا أنَّ المسلمين مُشرِكون يَحِلُّ أكل أماناتهم، وأجاز فريق منهم - الميمونية - نكاح بنت البنت، وبنت الابن؛ لأنَّ القرآن لم يَذْكُرُهُنَّ ضمن المُحَرَّمات، وأوجبوا على الحائض الصلاةَ والصيامَ في حيضها... [4] إلى غير ذلك من أنواع الضَّلال والزَّيغ الذي وقعوا فيه في أصول الدِّين، وفي أحكام الشريعة؛ بسبب أنهم رفضوا السُّنة النبوية المطهرة، وزعموا أنهم يأخذون أحكامهم وقضايا دينهم عن القرآن، وما علموا أنهم نابذوا القرآنَ ونَبَذوه يوم نبذوا السُّنة واتَّخذوها ظهريًا. ب- الرافضة وإنكار السنة: لم تقبل "الرافضة" من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ القليل الذي نُقل إليهم عن طريق مَنْ يدين بعقيدتهم في الإمامة ويُشايع آلَ البيت - بزعمهم - وهم بضعة عشر صحابيًا فقط الذين رَضِيَ عنهم الرافضة وأخذوا عنهم، ثم أنكروا قدرًا كبيرًا من السنة النبوية؛ لأنها أتت عن جمهرة الصحابة الذين لا يرضى عنهم الرافضة، ومن هنا طعنوا في عدالة الصحابة رضي الله عنه م؛ لأنهم بايعوا أبا بكر رضي الله عنه خليفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُبايعوا عَلِيًّا رضي الله عنه الذي كان هو الخليفة كما يزعمون، ولم تكتف الرافضة بإنكار السنة النبوية؛ بل أضافوا جريمةً أخرى؛ وهي أنهم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا أحاديث نسبوها - زورًا وبهتانًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألَّفوا كلامًا على هيئة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم أئِمَّتهم، وتأكيد نِحلتهم، وتأصيلِ معتقدهم، وأيضًا في ذمِّ مخالفيهم وعقائدهم، وقد كان لهذه الأحاديث المكذوبة الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم دور أصيل في حُجيَّة التَّشريع وأصولِ الدِّين عندهم. ج- المعتزلة وإنكار السنة: لمَّا كان "المعتزلة" لا يؤمنون إلاَّ بما يتَّفق مع عقولهم وأصولهم الخمسة، وكان هناك من الأحاديث النبوية ما يهدم مذهبهم ويناقض أدلتهم، كان موقفهم من السنة موقف العداء لها؛ فقد ذمُّوا مَنْ تعلَّم الحديث، وقلَّلوا من فائدته والاستدلال به، ونصُّوا على أنه لا حاجة إليه، فالعقول تُغني عنه. وعلى إثر ذلك؛ بدأت عداوتهم للصحابة رضي الله عنه م واتِّهامهم في دينهم، وأما آيات القرآن الكريم فقد أَوَّلوها بما يُوافق أصولهم وأهواءهم، وما تعارض من الأحاديث الصحيحة مع أصول المعتزلة؛ إمَّا يؤوِّلونه تأويلًا يُشبِه الرد، وإمَّا يُصرِّحون بالرد بِحُجَّة أنَّ الخبر آحاد، والآحادُ لا يحتج بها في العقائد، وهم في كلِّ ذلك يتطاولون على رواة السُّنة ويطعنون فيهم؛ سواء من الصحابة رضي الله عنه م أو من التابعين لهم بإحسان، فمَنْ بعدهم من أئمة المسلمين. وبلغ بالمعتزلة عداؤهم للسنة النبوية أنْ ردُّوا نصوصًا كثيرة ، ومن ذلك [5] : أ- نفيهم لصفات الله تعالى. ب- قولهم بأنَّ القرآن مخلوق. ج- نفيهم للقدر. د- إنكارهم لرؤية الله تعالى يوم القيامة. هـ- إنكارهم لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. و- إنكارهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء بين أصابعه؛ ليتوصَّلوا بذلك إلى إنكار نبوَّته صلى الله عليه وسلم. ز- إنكارهم للحدود التي تثبت بالسُّنة؛ كحد شارب الخمر، وحد السرقة. ح- إنكارهم لحجية الإجماع والقياس. ط- تخليدهم صاحب الكبيرة في النار. ي- إنكارهم لعذاب القبر. ولا نبالغ إذا قلنا : إن "منهج المعتزلة" بوابة كبرى وَلَجَ منها أعداء الإسلام والسُّنة؛ لمهاجمة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حولها؛ إذْ صوَّروا الإسلام في صورة الخرافات والأساطير. [1] رواه البخاري، (1/ 67)، (رقم 322)؛ ومسلم، واللفظ له، (1/ 148)، (رقم 787). [2] رواه ابن المبارك في (مسنده)، (ص 143)، (رقم 233)؛ والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه)، (1/ 116)، (رقم 233)؛ وابن عبد البر في (جامع بيان العلم)، (2/ 368)، (رقم 1232). [3] رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم)، (2/ 368)، (رقم 1233). [4] انظر: الفَرق بين الفِرق، (ص 314). [5] انظر: موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، (ص 113) وما بعدها.
الشيخ الفقيه السيدُ سابق وكتابه "فقه السنة" من منَّا لا يعرف كتابَ "فقه السُّنة" الذي انتشر في الآفاق، ولاقى إقبـالَ طلبةِ العلم؛ ليُسْرِهِ وسهولةِ فَهمه، وبُعدِهِ عن الحشو والتعقيد، واشتماله على الأدلة باختصار. فلا يُعرَف كتابٌ نال شهرةً في تاريخنا الفقهيِّ المعاصر كهذا الكتاب. فمن هو السيد السابق؟ وما منزلة كتابه فقه السنة؟ وُلد رحمه الله تعالى في يناير عام 1915م بقرية "إسطنها"، من مركز (الباجور) بمحافظة المنوفية، وأتم حفظ القرآن، ولم يتجاوز تسع سنوات. التحق على إِثْرِهِ بالأزهر في القاهرة، وظل يتلقى العلم ويترقى حتى حصل على العالمية في الشريعة عام 1947م، ثم حصل بعدها على الإجازة من الأزهر؛ وهي درجة علمية أعلى. - عمِلَ بالتدريس بعد تخرُّجِهِ في المعاهد الأزهرية، ثم بالوعظ في الأزهر، ثم انتقل إلى وزارةِ الأوقاف في نهاية الخمسينيات، متقلدًا إدارة المساجد، ثم الثقافة، فالدعوة، فالتدريب إلى أن ضُيِّق عليه؛ فانتقل إلى مكة المكرمة للعمل أستاذًا بجامعة الملك عبدالعزيز، ثم جامعةِ أمِّ القُرى، وأُسند إليه فيها رئاسةُ قسم القضاء بكلية الشريعة، ثم رئاسة قسم الدراسات العليا، ثم عمِل أستاذًا غيرَ متفرِّغ، وقد حاضر خلال هذه الفترة، ودرَّس الفقه وأصوله، وأشْرَفَ على أكثر من مائة رسالة علمية، وتخرَّج على يديه كوكبةٌ من الأساتذة والعلماء، وفي سنة 1413 ه حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل في الفقه الإسلامي، وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة قبل وفاته عاد إلى القاهرة، واستقر بها حتى وافاه الأجل. وانتقل إلى جِوارِ ربِّه مساء يوم الأحد 23 من ذي القعدة 1420ه، الموافق 27/2/2000م، عن عمر يناهز 85 سنة. مكانة الشيخ في علم الفقه: أصبح الشيخ سيد سابق منذ مرحلة مبكرة محلَّ ثقة العلماء الكبار؛ من أمثال: الشيخ محمود شلتوت، والشيخ الباقوري، والشيخ عبدالجليل عيسى، والشيخ محمد أبو زهرة، وكان قوله فصلًا بين المختلفين في المسائل الشرعية، وتخرج على يديه كثيرٌ من الشخصيات العلمية، التي أصبحت ذات صيت وسُمعة كبيرة؛ مثل: الدكتور صالح بن حميد. منزلة كتاب فقه السنة: سأذكر لكم مشهدًا واحدًا: أُوفد رسميًّا إلى الاتحاد السوفييتي في الستينيات في أحد المؤتمرات للحديث عن الإسلام، وما إن خرج من المطار في صحبة المسؤول الرسمي الذي جاء لاستقباله، حتى فوجِئَ بحشد ضخم قد جاء لاستقباله في موسكو؛ بين مقبِّلٍ ليديه أو رأسه، وبين هاتف باسمه، فتعجب الشيخ متسائلًا: كيف عَرَفْتموني؟ فكان الردُّ: من كتابك، وإذا بالجماهير تلوِّح بالكتاب المترجَم، وتهتِفُ باسمه. يقول: فلم أتمالك نفسي من البكاء؛ إذ لم أكن أتصور أن فضل الله عليَّ سيبلُغ بي إلى هذا الحد. ولعله حين ألَّفه استحضر مقولةَ الإمام مالك رحمه الله: "ستعلمون أيَّها أُريد بها وجهُ الله غدًا". قال الشيخ الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية السابق: "جزى الله الشيخ سيد سابق عن أبناء الأزهر الشريف، وشباب هذه الأمة خيرَ الجزاء، فهو بحقٍّ فقيه الأمة الذي أكَّد وسطية هذا الدين، وفكَّ طَلاسِمَ الفقه التي كان يصعُب على العوام أن يفهموها، فقد قرأنا ونحن في شبابنا كتابه العظيم (فقه السُّنَّة) الذي أثرى المكتبة الإسلامية، ويسَّر الفقهَ لأبناء الأمة الإسلامية في مصرَ والعالم العربي والإسلامي، وتُرجِمَ إلى عدد كبير من اللغات التي ينطق بها المسلمون في العالم الإسلامي، فجزاه الله عن الجميع خيرَ الجزاء، ورَزَقَ أبناءه وذويه الصبرَ والسُّلوان، وأسكنه فسيح جناته". وسأذكر لك فتوى للشيخ عبدالرزاق عفيفي حول كتاب فقه السنة؛ قـال الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي المصري رحمه الله: "سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشـاد الموقر: السـلام عليكم ورحمة الله وبركـاته وبعد: فَـبناءً على رغبة سماحتك في إبداء رأيي في كتاب (فقه السنة) لفضيلة الشيخ سيد سابق كتبتُ ما يلي: أولًا: الكتاب المذكُـور سهل العبارة، يتحرَّى مؤلفه فيه الحق، ويقيم الدلـيلَ عليه من الكتاب والسنة أو من أحدهما، واختياره في المـسائل الخلافية يكـون في الغـالب حسنًا وجيهًا. ثانيًا: الكتاب مؤلَّف في الفروع الفقهية، وخالٍ من البدع والخرافات - فيما أعلم - وقد اسْتَقَـى مؤلفه مادتَه فيه من زادِ المعاد للإمام ابن القيم، وشرح الشوكـاني لمنتقى الأخبار، وكتاب الدين الخالص للشيخ محمود خطـاب مؤسس الجمعية الشرعية للعمل بالكتاب والسنة المحمدية، رحمهم الله تعالى. ثـالثًا: مؤلف الكتاب من عُـلمَاء الأزهَـر، وهو محب للسنة، وطريقته في التوحـيد طريقة الشيخ محمود خطاب مؤسس الجمعية الشرعية، وهم يلتزمون مذهب الأشعرية في توحيد الأسمـاء والصفات، فيُؤولونها أو يفوضون فيها، ولكن كتاب (فقه السنة) في الفروع الفقهية. رابعًا: على هذا الكتاب إقبـالٌ من الشبان ليُسْرِهِ وسهولة فهمه وبُعده عن الحشو والتعقيد واشتماله على الأدلة باختصار. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم". نائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء؛ عبدالرزاق عـفيـفي. وكان الشيخ الغزالي إذا سُئل عن مسألة فقهية يُحيلها إلى الشيخ سيد سابق، وقال الشيخ الألباني: "... فإن كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق من أحسن الكتب التي وقفتُ عليها مما أُلِّف في موضوعه؛ في حسن تبويب، وسلاسة أسلوب، مع البعد عن العبارات المعقدة التي قلما يخلو منها كتاب من كتب الفقه...". والكتاب لا يخلو من مؤاخَذَاتٍ. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
إستراتيجيات القراءة المنهجية (Methodology) فيما يخص الشأن الفكري والثقافي: ضرورة أم ترف؟ تمهيد : ما من شكٍّ في أن الإنسان يُفضِّل أن يكون مُحدِّثُه على درايةٍ بما يتحدَّث به بدلًا من أن يلف ويدور حول الموضوع ولا يصل إلى شيء ذي قيمة، ومما لا شكَّ فيه أيضًا أن الوضوحَ والدقة والموضوعية ( objectivity ) في سَبْر غور المواضيع هدفُ كلِّ باحث/كاتب، ولكن "وَما نَيْلُ المَطالِبِ بالتمَنِّي = ولكِنْ تُؤخَذ الدُّنْيا غِلابا". أزعم أن الوضوح والدقة والموضوعية (قدر المستطاع) في البحث/ الخطاب سِماتٌ يمكن امتلاك ناصيتها إذا توفَّرت لدى الباحث/الكاتب الرغبةُ وبذلُ الجهد في سبيل اكتسابها؛ أما إذا تساهَل في ذلك وفضَّل الفضفضة عن مكنون نفسه فيما يطرحه، فلن يمتلك ناصية هذه السمات ولو قضى في الكتابة دهرًا من عمره. في الأبحاث الأكاديمية، يتم الحديث عن هذه السمات تحت مسمَّى المنهجية التي بغيابها أو تغييبها تُهدَر كثيرٌ من الجهود، و تضيع على الأمة استراتيجيات تفكير تراكمية كثيرةٌ يمكنها أن تشحذ وتُطوِّر مهارات التفكير العليا والرؤية عند عموم الأمة؛ لتصبح ثقافةً في كل شؤون الحياة، بل بغياب المنهجية ، يَتِيه كثيرٌ من شباب الأمة وباحثيها، وينجذبون إلى منهجيات متناقضة مع عقيدة الأمة بحُجَّة البحث العلمي. عادة ما يُذكَر مصطلح المنهجية مصاحبًا لكلمة المرجعية (أو الإطار النظري ( Theoretical Framework ؛ وأيضًا تُذكَر الكلمتان: المرجعية والمنهجية معًا بشكل متلازم في الأبحاث الأكاديمية إلا أن موضوع المرجعية والمنهجية لا يخصُّ فقط البحث الأكاديمي (أي: الشأن الفكري والفلسفي عمومًا) وإنما يتعدَّى ذلك للشأن الثقافي العام للأمة، وما أكثر المشتغلين على هذا الجانب الأخير بشكل يومي! بالرغم من عدم التصريح بالمرجعية عند الحديث في الشأن الثقافي العام في كثير من المواضيع، إلا أنه شيء مُبرر ضمن سياق الرؤية العربية الإسلامية؛ لأن بيئتنا أصلًا عربية إسلامية، ويتم أخذها كشيء مُسلَّم به، بالإضافة إلى أننا نحتاج إلى التصريح بالمرجعية وإضاءتها فقط عند التعامل مع مواضيع تتداخل مع رُؤى فكرية مختلفة (أو أفكار قَدِمَتْ من خارج رؤيتنا العربية الإسلامية) [1] ، إلا أن غياب تحديد استراتيجيات البحث/القراءة في منهجية الخطاب في كثير مما يقال - وأغلب الظن دون وعي وبسبب عدم وضوحها في أذهان كثير من الباحثين/الكتَّاب حتى ممن يفترض أنه تدرَّب على الكتابة الأكاديمية - يُسبِّب هدر وضياع استراتيجيات تفكير/قراءة أزعم إن تمَّتْ إضاءتُها أن تنتشل الأُمَّة من كثيرٍ من مشاكلها؛ لأنها ستصبح ثقافة تفكير وسلوك عملي تراكمي على جميع الأصعدة مع مرور الزمن. فيما يلي تعريف للمنهجية كما يركز عليها مقالنا هذا مع إعطاء أمثلة من دراساتي الأكاديمية، وأيضًا من مجالات أخرى لإيضاح الفكرة، وأرجو أن يعمل المقال على تسليط الضوء على بعض الاستراتيجيات المنهجية في البحث/التفكير/القراءة لتضيء الطريق بدورها لاستخراج واكتشاف ما هو موجود منها في أدبياتنا المتنوعة وتراثنا الثري، وربما أيضًا لإبداع المزيد منها لترفِد في المحصلة النهائية طريقة وثقافة تفكير شباب أُمَّتِنا العربية الإسلامية في مختلف المجالات. المنهجية : المنهجية هي العملية المنظمة الواضحة والدقيقة والموضوعية والشاملة لسير البحث أو الكتابة الأكاديمية، لكن ما يهم مقالنا هذا منها هو الأدوات البحثية أو المفاهيم (أو الطريقة) التحليلية التي يستخدمها الباحث وطريقة عملها لفك مغاليق الموضوع الذي يتناوله ؛ أقول "مغاليق الموضوع"؛ لأن المواضيع الجادة تُطْرَحُ فيها أفكار ورؤى تحتاج إلى تبيان وتجرُّد كبير (أي: موضوعية عالية ونظامية في الطرح) من خلال استراتيجيات بحث/تفكير/قراءة منهجية لسَبْر غورها، ولتصب كنتيجة في منفعة الأمة ورقي فكرها وإنارة بصيرتها وإلا - إن كانت غير ذلك - فالأمرُ عبارة عن دردشة أو لتحقيق أغراض شخصية وجَدَتْ لها مُتنفَّسًا أو لتمرير أفكار ممولة ذات هوى نفس كيفما اتفق [2] . المنهجية التي يركز عليها هذا المقال، بعبارة أخرى، هي تحديدًا استراتيجية الباحث في التعامل مع موضوع بحثه قراءة وتحليلًا ، وهذا يعني أن المقال لن يتطرق للأدوات المنهجية التي تُستخدَم في تجميع البيانات وضبطها؛ مثل: الاستبانة، والمقابلة، والملاحظة، والاختبار، والمراجع... إلخ؛ لأن التعامل معها يختلف عما يركز عليه هذا المقال، وأيضًا لن يتطرق المقال لما يسمى المنهجيات العامة؛ مثل: العقل، والحس، والاستنتاج، والاستنباط... إلخ، فهذه أيضًا لها تعامل آخر غير هدف المقال. أمثلة لإستراتيجيات البحث/التفكير/القراءة من بعض مجالات المعرفة : في رسالتي للماجستير [3] ، وكانت عن تحليل البنية الفكرية لمسرحية أمريكية ، استخدمتُ فيها إستراتيجية قراءة أزعم أنها كانت مبتكرة، بحسب معرفتي في حينها وحتى الآن، وهي فصل الأحداث: أحداث الماضي عن أحداث الحاضر، لرؤية تأثير بعضها البعض على بنية العمل الأدبي الفكرية، فقرأت المسرحية ثلاث مرات: مرة قرأت فيها أحداث الماضي وحدها، والأخرى أحداث الحاضر وحدها، والثالثة أعدت الأحداث كُلًّا في مكانه لرؤية ما يظهر من تقنيات مستخدمة في بنية المسرحية نتيجة للفصل بين الأحداث، ونتيجة لتلك القراءة الإستراتيجية اتَّضح أولًا أن المسرحية تنتهج تقسيم وتتابع منتظم مذهل للأحداث في بنيتها الفكرية العميقة غير الملاحظة إلا تحت التحليل بالإستراتيجية القرائية المتبعة: المسرحية مكونة من فصلين (وكان هذا واضحًا في البنية الخارجية للمسرحية منذ صدورها)، إلا أنه لم تكن توجد قراءة سابقة قبل قراءتي للمسرحية تُظهر أن كل فصل مكونٌ من خمسة مشاهد وبنفس الترتيب المنتظم لكل فصل كالتالي: حاضر، ثم ماضٍ، ثم تداخل بين الماضي والحاضر، ثم ماضٍ ثم حاضر (ودعمتُ ذلك بتحديد أرقام صفحات كل مشهد على حدة)، وثانيًا: ظهر أن الكاتب يستخدم تقنيات الضوء والموسيقى في أحداث المسرحية الماضية والحاضرة (وكان هذا أيضًا واضحًا في بنية المسرحية الخارجية)؛ إلا أن هذا الاستخدام لتقنيات الضوء والموسيقى لم يتم تسليط الضوء على وظيفته كأداة ربط بين فصلي ومشاهد المسرحية (وهي تقنيات برع فيها الكاتب أيما براعة)، وكان لا بد من التأسيس لهذه الفكرة في ذهن القارئ، فكان النظر لتلك التقنيات من قِبَلِي على أنها أدوات ربط مثلها مثل استخدام أدوات الربط اللغوية "و and" و"لكن But"... إلخ، لتحقيق ميزتي التماسك ( cohesiveness ) والانسجام ( coherence ) بين أحداث المسرحية، ليتتوج كل ذلك في بنية فكرية مذهلة الإعداد والإخراج والتماسُك والتناسق والتعقيد السَّلِس في آن، ولا عجب بعد ذلك أن يرى القارئ المطَّلع أن هذه المسرحية حصدت جوائز عدة، وأشهرت صاحبها شهرةً كبيرةً. كان هذا إيجازًا للمنهجية المتبعة في الدراسة والتي من دونها ربما كان صعبًا اكتشافُ بناء البنية الفكرية للمسرحية وإضاءتها، أما الدراسة ونتائجها ففيها تفاصيل كثيرة ليست محلَّ تركيزٍ هنا في هذا المقال. وفي رسالتي للدكتوراة [4] ، وكانت عن سياق اللغة الإسلامية في ثلاثية روائية مترجمة للغة الإنجليزية ، استخدمتُ فيها أربعة مفاهيم كأدوات بحثية تحليلية منهجية هي "سياق Context "، و"أساسي Basic "، و"ارتباطي Relational "، و"مجال Field " لتحليل استخدام اللغة الإسلامية [5] (أي: كلمات أساسية؛ مثل: صلاة، مسجد، حج، أو عبارات؛ مثل: إن شاء الله، أو أحاديث نبوية أو آيات قرآنية... إلخ) في كلٍّ من الأحداث والشخصيات : أحداث الروايات تحت الدراسة و أيضًا نماذج رئيسية ممثلة لشخصياتها. في الأساس تم استخدام هذه المفاهيم لدراسة معاني المفردات الأساسية في القرآن الكريم وفي بعض السياقات المرتبطة بالدين الإسلامي من قِبَل البرفسور الماليزي سيد محمد نقيب العطاس [6] ومن قبله أستاذه البرفسور الياباني أيزوتسو توشيهيكو [7] . عملية تَبَنِّي هذه المفاهيم كأدوات بحثية منهجية تحليلية لقراءة موضوع معين في رواية أو مجموعة روايات كانت تحتاج إلى تخيُّل عمل هذه الأدوات البحثية في بيئة غير البيئة التي تم استخدامها فيها أول مرة، كان مجال عمل البرفسورين العطاس وتوشيهيكو مرتكزًا على المعاني ( معاني المفردات الأساسية في القرآن الكريم ) في سياق أسلمة المعرفة ، ودراستي كانت مرتكزة على الاستخدام (استخدام اللغة الإسلامية، بعد التأصيل لها، في الروايات تحت الدراسة) في سياق لا أسلمة اللغة الإسلامية في العمل الأدبي تحت الدراسة. المشترك في الأعمال السابقة لدراستي وفي دراستي هو استخدام هذه الأدوات البحثية لرؤية ومتابعة عمل تأثير السياق فيما يحتويه من عنصر أو عناصر تحت الدراسة، في دراسة البروفسورين العطاس وتوشيهيكو، وفيما يتعلق بالمفرادات الأساسية في القرآن الكريم، كان هناك سياقان: السياق الجاهلي، والسياق الإسلامي (وفي جانب آخر، السياق المالاوي والسياق الإسلامي )، كانت مجالات عمل تلك الأدوات البحثية المنهجية في هذه الدراسات هي المجالات الدلالية Semantic fields : كيفية تأثير السياق الإسلامي على معاني المفردات الأساسية مثل لفظ: إله، نبي، رسول، ملك، عبد، محمد... إلخ، بعد نقلها من السياق الجاهلي إلى السياق الإسلامي (أو عندما تم توظيف وجودها- لفظًا كما هي- وهي في السياق المالاوي لتعمل ضمن تأثير السياق الإسلامي) . بالمقابل، في دراستي، وفيما يتعلق باللغة الإسلامية كان هناك سياقان: سياق اللغة الإسلامية الأساسي (وهو القرآن الكريم والسنة النبوية) وسياق ارتباطي (وهو سياق العمل الأدبي الذي تم توظيف اللغة الإسلامية فيه)، وكان السؤال عن مدى تأثير السياق الارتباطي الروائي على استخدام اللغة الإسلامية؟ ولمعرفة ذلك، كان لا بد من توسيع عمل مفهوم الـ " مجال field " توسيعًا أفقيًّا، والتأصيل لذلك؛ ليشمل مساحة أوسع من عمل مفردة أساسية وكلمات حولها (كما في دراسة البرفسورين العطاس وتوشيهيكو) إلى حدثٍ روائي متكامل يشمل المساحة التي توجد فيها الكلمة أو العبارة أو الآية القرآنية أو الحديث النبوي (أي: اللغة الإسلامية) في الرواية فيما يتعلق بالأحداث الروائية، وأيضًا توسيعه عمقًا ، والتأصيل لذلك أيضًا، ليحتوي الشخصية الروائية (أيُّ شخصية روائية تحت الدراسة) كمجال في حد ذاتها للغة الإسلامية ؛ أي: إن الشخصية نفسها تشكل مجالًا " field " يتكون من أفكار وصفات وسلوك تلك الشخصية التي تستخدم اللغة الإسلامية في كلامها، وبهذه الإستراتيجية المنهجية تم حصر وتحديد جميع المجالات Event fields التي تخص الأحداث الروائية ، وأيضًا تحديد الشخصيات الرئيسية التي ستتم دراستها كمجالات نموذجية للغة الإسلامية Character fields في العمل الأدبي، وبعد هذا طبعًا، تسهل رؤية وتتبُّع عمل السياق الروائي العام (الارتباطي) الذي يتكون من جميع مجالات اللغة الإسلامية سواء فيما يتعلق بالأحداث أو الشخصيات في العمل الأدبي تحت الدراسة ومقارنته بوضع اللغة الإسلامية في سياقها الإسلامي العام (الأساسي). وقبل الاستطراد في إعطاء مزيد من الأمثلة من مجالات أخرى، تجدر الإشارة إلى أن استعارة استراتيجيات بحث/قراءة من مرجعية أو مرجعيات مختلفة عن رؤيتنا الإسلامية ليست مقبولة دائمًا عند بعض المفكرين بسبب التباس، وأحيانًا التصاق أو امتزاج الأدوات المنهجية بمرجعياتها التي قد تناقض الرؤية الإسلامية [8] [9] ؛ وشخصيًّا لا أُسَلِّمُ بسهولة لمن لا يلقي بالًا لاختلاف المرجعيات في استراتيجيات تفكيره؛ لأنه قد لا يكترث لاتساق قراءاته مع ثوابت الأمة العقدية، فالغاية لا تُبرِّر الوسيلة؛ حيث لا بد من سلامة كُلٍّ من الغاية والوسيلة في آنٍ معًا. لتسليط مزيد من الضوء على استراتيجيات التفكير/القراءة المنهجية الفعَّالة والمميزة، هناك مقال بعنوان قراءة سيكوثقافية في مقولة: (( وَيَكْفُرْنَ العَشِير )) [10] يستخدم - كما يلاحظ من العنوان - مفاهيم علم النفس الحديث في قراءة تلك الجزئية من الحديث الشريف برغم تشكُّكي من أدوات علم النفس الغربي كمرجعية ، إلا أن الكاتب أجاد انتقاء مفاهيمه المنهجية كإستراتيجية لقراءة جزء الحديث النبوي ((ويَكْفُرن العَشِير)) ليلفت انتباهنا كقُرَّاء إلى أن هذه المقولة النبويَّة ليست كما قد يُفهَم منها من أنها تَصِمُ نوع النساء بعلة دائمة فيهن، ولا مناص لهن من التخلُّص منها؛ وإنما هي كنصٍّ نبوي للفت الانتباه لأثر ثقافة البيئة في سلوك أفراده، المقال يستحق القراءة والتفكير حتى وإن كنا لا نتفق معه في سحبه من علم النفس لبعض المفاهيم، فكاتبه واعٍ تمامًا إلى أن دور الفرد ومسؤوليته عن سلوكه لا يقل عن تأثير ثقافة المجتمع على سلوك الفرد، وما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على مفاهيم الكاتب البحثية المنهجية ومِن ثَمَّ إستراتيجية بحثه/قراءته : فقد حدد الكاتب أدواته البحثية في ثلاثة مفاهيم منهجية هي الثقافة والإدراك والسلوك ، أجاد الكاتب رسم حدود تعريفات هذه المفاهيم كما يعرفها علم النفس الحديث، وبها ومن خلالها يتتبع أثر الثقافة في تشكيل الإدراك ومن ثَمَّ السلوك الذي يسلكه كلٌّ من الفرد والمجتمع، ويخلص الكاتب إلى أن سلوك (( ويَكْفُرن العَشِير )) "منتج ثقافي" ومِن ثَمَّ يهدم بحسب تعبيره "كل الادعاءات القائلة بأن الطبيعة (البيولوجيا) التكوينية للأنثى جِبِلَّة تمَّت صياغتها على كُفران العَشير، وكُفران العَشير خُلُقٌ مذمومٌ وقبيحٌ، وفطرة الله التي فطرَ الناسَ عليها كلها خير، فلا يصح أن تكون طبيعة الأنثى شريرة"، وكون الكاتب مسلمًا، فقد استدرك في نهاية مقاله أن "الفرد تام المسؤولية عن صياغة ذاته بجانب ثقافته، هذه المسؤولية هي أحد الواجبات الدينية التي أشار لها الحديث"، وبرغم حُسْن هذا الاستدراك إلا أنه يظل استدراكًا وليس نتيجة قراءة منهجية كما كانت قراءته لدور الثقافة في تشكيل إدراك وسلوك الفرد والمجتمع، إلا أن هذا أيضًا لا يبخس المقال حقَّه في حُسْن اختيار أدواته البحثية المتمثلة في المفاهيم المنهجية السالفة الذكر. مثال آخر لاستراتيجيات البحث/التفكير/القراءة المنهجية نجده في مقال باللغة الإنجليزية بعنوان "ابن تيمية وفتغنشتاين حول اللغة" [11] ، حيث يستخدم الباحث المفهومين الناتجين عن رؤية الفلسفة الأرسطية لماهية المعنى اللغوي : المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، كمفهومين بحثيين منهجيين لمعرفة مدى قبول أو رفض ابن تيمية [12] وفتغنشتاين [13] لهما، بعبارة أخرى، موضوع المقال يتركز حول كيفية تعامل الفيلسوفين العربي والألماني مع رؤية الفلسفة الأرسطية لماهية المعنى اللغوي التي أنتجت المفهومين. يخلص البحث إلى تشابه الفيلسوفين في رفضهما للآراء قبلهما حول اللغة من أن للكلمة اللغوية معنًى حقيقيًّا ومجازيًّا، واعتبارهما (أي الفيلسوفين)، بدلًا من ذلك، أن هناك معنًى حقيقيًّا فقط وهو ما يتقرر استعمالًا ضمن سياق معين؛ أي: إن الفيلسوفين رفضا المعنى المجازي، كُلٌّ لأسبابه الخاصة: ابن تيمية رفضه؛ لأنه لا يتسق مع أوامر وتشريعات القرآن الكريم، حيث لا يمكن اعتبارها مجازية بأي حال؛ وفتغنشتاين رفضه؛ لأنه يرفض أن يكون معنى الشيء معتمدًا على تعريف مجازي له، وإنما يتشكل المعنى عنده بناء على استعمال الكلمة. خاتمة : إن إضاءة استراتيجيات البحث/القراءة المنهجية ضرورة فكرية وثقافية؛ لأنها تلُمُّ وتُظهر العمق المعرفي والفكري الموضوعي الدقيق للأمة؛ سواء في تعاملها مع المواضيع أو القضايا داخل الحدود المعرفية لها أو تلك التي تَفِدُ إليها من خارج منظموتها الفكرية والعقدية. مع تقدم وسائل التواصل التقنية، أصبح العالم كله يموج في بعضه، وأصبح تمييزُ سلوكنا فكرًا وعقيدةً ضرورةً إسلامية؛ لذلك، برأيي، هذه الإضاءة تساعد على رؤية تراكم خبرة الأمة التطبيقية، والاستفادة منها بدلًا من إسراع كثير من باحثي وكُتَّاب الأمة العربية الإسلامية لتبني استراتيجيات بحث/قراءة منهجية قد تكون غير قابلة للانفصال عن مرجعياتها المختلفة عن، بل والمتناقضة مع، مرجعية أمتهم الفكرية والعقدية بحجة وضوحها أو التعوُّد عليها أو تم التدريب عليها أكاديميًّا أو جاهزيتها للتطبيق، ويمكن اعتبار هذا المقال دعوةً للباحثين والمفكِّرين لإعطاء موضوع إضاءة استراتيجيات البحث/التفكير/القراءة المنهجية الأهميةَ التي يستحقُّها في إضاءة الطريق لشباب الأمة في الأمور الفكرية والثقافية بدلًا من تركهم فريسةً سهلةً لمرجعيات ومنهجيات تسلبهم فرادتهم وهويتهم بل ربما عقيدتهم، والله المستعان. [1] ناقشت مصطلح الإطار النظري أو المرجعية في مقال هنا على شبكة الألوكة بعنوان الإطار النظري: رحلة شخصية أكاديمية في تطويع المصطلح . [2] ناقشت هذا الموضوع في مقال هنا على شبكة الألوكة بعنوان: البحث العلمي والأوراق البحثية: قراءة ذاتية . [3] بالإمكان الاطِّلاع على الرسالة من خلال الرابط: https://bit.ly/3Mq4yel [4] رسالتي للدكتوراة مكتوبة باللغة الإنجليزية (ناقشتها في عام 2014م)، وموجودة في الجامعة الوطنية الماليزية، لم تترجم للعربية ولم تُنشر خارج الجامعة حتى الآن، إلا أني كتبت تلخيصًا موجزًا لها في مقال باللغة العربية نُشر في مجلة الأدب الإسلامي (متاح على النت)، العدد (93) للعام 2017م، لمن يريد أن يأخذ فكرة عنها . [5] مصطلح اللغة الإسلامية هو لفظ استعرته من إحدى كتب الفيلسوف العطاس، وكان يقصد به المفردات الإسلامية الأساسية الموجودة في اللغات الإسلامية؛ كالعربية والأوردية والماليزية والتركية... إلخ، ولم يضرب له مثلًا بل ورد مطلقًا كما ذكرت للتوِّ؛ فوسعته دلاليًّا لأول مرة في رسالتي للدكتوراة ليشمل أي كلمة إسلامية أساسية؛ مثل: صلاة، صيام، حج... إلخ، أو عبارات مثل: "إن شاء الله"، "السلام عليكم"، أو أحاديث نبوية أو آيات قرآنية تستخدم في الأعمال الأدبية. كتاب العطاس الذي استعرت منه مصطلح اللغة الإسلامية هو التالي: al-Attas, Syed M. N. 1985. Islam, Secularism and the Philosophy of the Future . London: Mansell Publishing. [6] al-Attas, Syed M. N. 1970. The Mysticism of Hamzah Fansuri . Kuala Lumpur: University of Malaya Press [7] Izutsu, Toshihiko. 1964. God and Man in the Qur’an: Semantics of the Qur’anic Weltanschauung . Trans. 2002. Kuala Lumpur: Islamic Book Trust. [8] بالنسبة لموضوع تداخل الأدوات المنهجية بالمرجعيات، يمكن الاطلاع على مبحث بعنوان أثر المنهج التفكيكي في النص القرآني في كتاب بعنوان ما مدى إفادة المناهج النقدية واللسانية الحديثة في دراسة النص القرآني لمجموعة من الباحثين. (الكتاب متوفر على النت). [9] أيضًا بالنسبة لموضوع تداخل الأدوات المنهجية بالمرجعيات يمكن الرجوع لمقال باللغة الإنجليزية بعنوان: Mustafa, Abdul Rahman. 2018. Ibn Taymiyyah & Wittgenstein on Language. Hartford Seminary. [10] قراءة سيكوثقافية في مقولة: ((وَيَكْفُرْنَ العَشِير))، عدنان معتوق؛ (المقال متوفر على النت). [11] Mustafa, Abdul Rahman. 2018. Ibn Taymiyyah & Wittgenstein on Language. Hartford Seminary. [12] أحد علماء أهل السنة والجماعة في القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلادي والملقب بشيخ الإسلام، وهو أيضًا فيلسوف لغوي. [13] أحد الفلاسفة الألمان في القرن العشرين الميلادي.
رحلة كارستن نيبور إلى الجزيرة العربية صدر حديثًا كتاب: "رحلة نيبور إلى الجزيرة العربية"، تأليف: "كارستن نيبور"، ترجمة: أ.د. "منير عريش"، نشر: "مكتبة الملك عبد العزيز العامة". و تتناول هذه الدراسة رحلة المستكشف الألماني "كارستن نيبور" مع ستة من رفاقه في رحلة استكشافية بأمر من الملك فرديرك الخامس، ملك الدنمارك، لاستكشاف بلاد شبه الجزيرة العربية والمشرق الإسلامي حيث أبحر "نيبور" من كوبنهاغن في يناير 1761م إلى إسطنبول، فإلى مصر، ومنها إلى اليمن، ثم بومباي في الهند، ومنها إلى الخليج العربي. ونجد أن الطابع العام لتلك الرحلة كان طابعًا استكشافيًا بغرض الحصول على أية معلومات حيوية عن تلك المنطقة البكر، ويدلل على ذلك طبيعة الفريق الاستكشافي متعدد المهام والتخصصات، يقول "كارسيتن نيبور" في كتابه: "أمر الملك فرديرك الخامس، ملك الدنمارك، باختيار الأشخاص المناسبين لهذه المهمة وأسعدني الحظ فكنت من المختارين، وقد تم اختيار خمسة أشخاص للقيام بهذه الرحلة، البروفيسور فردريك كرتيان فون هافن الذي درس اللغات الشرقية، والبروفيسور بيار فورسكال عالم التاريخ الطبيعي، والطبيب كرتيان شارل كرامر، وكان على جورج بورنفند رسم المناظر والمنتجات الطبيعية والملابس، وأنا كان اهتمامي بالجغرافيا". وقد كانت أهداف الرحلة الإجابة على أسئلة طرحتها أكاديمية العلوم بباريس حول هذه البقعة المجهولة من العالم وقتذاك. ونجد أن "نيبور" كتب عن كل المناطق التي زارها، ورسم خرائطًا لها، وتحدث عن السكان والقبائل والمذاهب والأديان، ورغم أن جميع أفراد بعثته الاستكشافية ماتوا خلالها، فإنه حاول الاستفادة من مشاهداته في تسجيل كل ما رأته عيناه، وكانت ملاحظاته ثاقبة ذكية تتميز بالشفافية العالية والصدق في بيان أحوال تلك البلاد وأوضاعها في تلك الفترة. ونجد أنه في تلك المذكرات يتحسر على عدم مكوثه أكثر في هذه البلدان كما كان مقررًا فيقول: "كان علينا أن نمكث فيها سنتين أو ثلاث ونعود بعدها عبر البصرة وحلب، وذلك لم يحصل. فلو بقينا فيها كل هذه المدة لتسنى للعلماء الحصول على معلومات وافية ومهمة تتعلق بشبه الجزيرة العربية". ونجد أن خسارة تلك البعثة كانت فادحة علميًا، فإن فريق هذه الرحلة العلماء لم يتمكنوا من مواصلة رحلتهم واستكمال البحث الذي بدأوا فيه على أهميته الكبرى، وتساقطوا تباعًا، فقد توفي "فرديرك كرتيان" في مدينة المخا في اليمن 1763 ثم "فورسكال" بعده بقليل في مدينة يريم اليمنية، فقرر "نيبور" و"بورنفند" و"كرامر" الرحلة إلى الهند. فمات رفيقهم "بورنفند" قرب جزيرة سقطرة. واستمر الناجيان الوحيدان في رحلتهما إلى الهند، ثم توفي "كرامر" في بومباي عام 1764 م، ولم يعد إلى الدنمارك سوى "نيبور" الذي وصل إلى "كوبنهاجن" يوم 20 نوفمبر 1767. وهنا وجد أن الملك فريدريك الخامس قد تُوفي والبعثة نسيت. فليس له سوى وسائله الشخصية لإبلاغ أوروبا بالاكتشافات العلمية للبعثة التي كان الناجي الوحيد منها؛ فنشر كتابه "وصف الجزيرة العربية" ومذكرات "بيتر فورسكال" و"بورنفند"، واضطر لبيع المزرعة العائلية من أجل تغطية تكاليف النشر، كما وضع تحت تكليف المكتبة الملكية بكوبنهاجن 116 مخطوطة عربية وعبرية اشتراها "فون هافن" في اليمن، وهي ما زالت إلى اليوم محفوظة هناك. وقد رسم كارستن نيبور في الكتاب أول خرائط تفصيلية لجزيرة العرب، وعدد من المناطق، والمدن التي زارها في كل من: اليمن، والعراق، والخليج العربي، وسوريا، وفلسطين، ووصفَ عادات أهلها، وأحوالهم المعيشية، والاجتماعية، وبعض الخرائط يُستفاد منها إلى يومنا هذا. كما نشر المؤلف نتائج رحلته في عدة كتب، ومقالات، كان أهمها هذا الكتاب، وهو يُعد أول وصف علمي يقوم به رحالة أوروبي للجزيرة العربية، ومناطقها، ومدنها، حيث كان المؤلف قوي الملاحظة، وكانت أبحاثه حول الشرق، والجزيرة العربية بشكل خاص الأولى من نوعها؛ وعدَّه المستشرقون الأوروبيون "المؤسس الأول" للبحوث العلمية، والجغرافية عن بلاد العرب. يقول "كارستن نيبور" في كتابه: "بالرغم من أنّ الموت قضى على رحلتنا لم نتوانَ عن زيارة شبه الجزيرة العربية وكان عدد أعضاء البعثة مرتفعًا فلم نتكيف على طريقة عيش أهل البلاد، وأكثر أكلنا اللحوم، وهو طعام غير صحي في البلاد الحارة. كذلك كنا نبقى طويلًا في الخارج نستمتع ببرودة الليل، ولم ننتبه إلى الفرق الشاسع بين حرارة الجبال والسهول". ويقول في ملاحظة اجتماعية بالغة الدقة في كتابه: "ومنذ رحيلي من السويس، وبصعوبةٍ رأيت وجه مسلمة مكشوفًا". وقد فتحت رحلة المؤلف آفاقًا واسعة للبحث العلمي حول تاريخ شعوب هذه المنطقة وحضاراتها، حيث تتالت البعثات من بعده للتعمق بالموضوعات التي طرحها نيبور في وصف رحلته، وخصوصًا العادات، والتقاليد، والديانة، وشعائر الحج، ووصف بعض المدن العربية، وعماراتها، وأسواقها، وجوامعها؛ مما دفعت الأكاديميات الأوروبية إلى تشجيع تعلّم اللغة العربية، وفتح اختصاصات: تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها، وأنثربولوجيتها، ووفدت العديد من البعثات العلمية الأوروبية باختصاصاتها المتنوعة إلى جزيرة العرب لاكتشاف حضاراتها، وسبر أسرارها.
حوار مع الناقد الشاب محمد حماني، بعنوان: "تنمية النقد البناء لدى الشباب وأثره في تحصيلهم المعرفي" أجرى الحوار: محمد خليل بطاقة تعريفية: محمد حماني: • أستاذ مادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي. • طالب ماستر: التواصل البيداغوجي وديداكتيك اللغة العربية، بمدينة خريبكة. • له مؤلفان منشوران: 1) عبد السلام الهراس إنسانًا ومفكرًا وأديبًا، تقديم: د. الحسان شهيد، دار البشير للثقافة العلوم، مصر، 2019. 2) النقد والإبداع: مداخل عامة معضودة بالحب والمنهج، تقديم: د. محمد بودويك، دار حكاوي، مصر. 2021. كما له مقالات منشورة بمجلات، وجرائد، ومواقع إلكترونية. 1) س: بدايةً ما تعريفكم للنقد البناء؟ وما الفرق بينه وبين النقد الهدام؟ ج: النقد البنَّاء هو رأي، أو حكم مؤسَّس بضوابطَ يهدف إلى تعديل الخطاب، أو السلوك من أجل الإنماء والارتقاء، فهو يبني الشخصية معرفيًّا، وقيميًّا، ومهاريًّا، وهو يسهم في تعزيز الروابط الإنسانية، ولا يفسد ود الأطراف، فالنقد البناء هو الذي يصنع المناعة الفكرية، فالنقد البناء – إذًا - ممارسة تحليلية تقويمية، وسُمِّي النقد البنَّاء بنَّاءً؛ لأنه يبني الخطاب والشخصية، وسُمِّيَ النقد الهدَّام هدَّامًا؛ لأنه يهدم كل شيء، والانتقال من النقد البناء إلى النقد الهدام كأننا ننتقل من (النقد) إلى (الفقد)؛ لأن المنتقَد قد يفقد ما عنده من ثقة في النفس، والرغبة في التواصل مع الآخر، كما أن هذا النقد "الهدام" يصنع العداء والضغينة، وغالبًا ما يكون وراء هذا النقد مواقفُ عدائية ونزوعٌ انتقامي، وفي بعض الأحيان يهدف إلى تشويه الحقائق، إن للنقد الهدام آثارًا سيكولوجيةً وخيمةً، كما أنه نقد يسعى إلى إحباط الطرف الآخر وإضعافه، وهذا النوع من النقد موجود في حياتنا اليومية. 2) إلى أي مدى يحتاج شبابنا اليوم إلى الحس النقدي في ظل انتشار التكنولوجيا الرقمية والسرعة في تناقل المعلومات، والانفتاح على الدول والثقافات والأشخاص؟ ج: كلما كانت المعرفة مطروحةً في غوغل، زادت الحاجة إلى الحس النقدي، والحاجة إلى التمحيص والتحقيق، والتبين، والضبط؛ لأن "غوغل" حاطبُ ليلٍ، ولا يمكن لشبابنا أن يستهلكوا كل ما يعثرون عليه من أفكار ومعلومات؛ لأن في الشبكة العنكبوتية الغثَّ والسمين، وتمييز هذا من ذاك لا بد من التسلح بالحس النقدي، ومواجهة العالم الافتراضي غير الآمن، ويحتاج شبابنا الحس النقدي من أجل التصدي للأفكار التي لا تتناسب وعقيدتنا وديننا، وفحص الأخبار الزائفة والتحقق من الإشاعات، كما أن الحس النقدي يجنب الشباب السذاجة وسرعة التصديق، والشباب الذين لا يمتلكون الحس النقدي يسهل استقطابهم، واستدراجهم إلى مواقع معينة، ولنسج حوار نقدي افتراضي فعَّال مع الآخر لا بد من التفكير النقدي الحجاجي، وأشير، هنا، بأن طلاب الشعب الأدبية أكثر جرأة في مواجهة الأفكار ونقدها، بينما طلاب الشعب العلمية تقل جرأتهم النقدية. 3) ما رأيكم فيمن ينتقد ابتغاء السخرية والتقليل من قيمة الآخرين وشأنهم؟ ج: ينبغي أن نفرق بين سخريتين، فالنقد الساخر عند الفلاسفة والنقاد والشعراء موجود في كثير من المصنفات ، فالنقد الساخر عند الجاحظ (ت: 255 هـ)، مثلًا هدفُهُ الترويح عن النفوس أثناء قراءة كتبه المطولة، ودفع السآمة عن القارئ، وكانت السخرية عند أبي العلاء المعري (ت: 449 هـ) سلاحًا لروحه التي قهرت متاعب الحياة، غير أن السخرية الأدبية النقدية تحتاج إلى ذكاء حادٍّ كذكاء الجاحظ، وبديهة حاضرة كبديهة أبي العلاء، والنقد الساخر يستفيد منه الأدب، أما النقد الساخر عند العوام فهو يقطع الروابط الإنسانية، ويولد الرغبة في الانتقام، والتمرد، وبعض الشباب لا يحب هذا النوع من النقد، وقد يؤدي إلى شكل من أشكال العنف، فالسخرية مقدمة من مقدمات العنف، أما السخرية من أجل السخرية، والانتقاص من الآخرين، وتحقيرهم، فهذا لن يُقبَل لا شرعًا ولا قانونًا ولا عقلًا، والآية الكريمة واضحة صريحة صارمة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]. 4) كيف ينبغي أن نتعامل مع من ينتقدنا انتقادًا حقيقيًّا داخل الأسرة وخارجها؟ ج: ينبغي أن نشكره على ذلك، وينبغي أن ننظر هل الآخر مستعد للنقد؟ ولكن ماذا نقصد بالنقد الحقيقي؟ وما ضوابطه؟ وهل كل ما يصلنا يدخل في باب النقد المسمى حقيقيًّا؟ فما أراه نقدًا حقيقيًّا قد لا تراه أنت كذلك، فالنقد قبل كل شيء هو فلسفة، والتعامل يكون بحسب طبيعة النقد الموجه، ولا شك بأننا ينبغي أن نواجه النقد بالنقد، والذي لا يتقبل النقد الحقيقي فهو ساذج، والشخص الذي يرفض النقد لن يستطيع الترقيَ والسعيَ نحو العلا، ومن يخفْ من النقد الحقيقي، ويعجِز عن الرد، يسعَ إلى إسكاته بأي طريقة، بيد أن النقد يُبنَى على التوسط والاعتدال، والنقد الحقيقي لا بد أن يتصف بالإخلاص في النية النقدية (القصد النقدي)، وأن يكون النقد المقدم صحيحًا مبنيًّا على معايير دقيقة وموضوعية، وقبل هذا وذاك أن تكون الطريقة النقدية سليمةً (الأسلوب النقدي)، ويمكن أن نضيف: متى ننتقد أحوال النفس؛ الفرح، الحزن؟ مع مراعاة المقام النقدي (السياق النقدي)؛ فأسلوب النقد يختلف من مؤسسة إلى أخرى (المؤسسة التربوية، الاجتماعية، الإعلامية ...). 5) كيف يمكن توظيف الحس النقدي واستثماره في حياتنا اليومية؟ ج: حياتنا اليومية مليئة بالنقود، وهذا السؤال هو ما يؤدي بنا إلى التفكير في المهارات الحياتية؛ لأن ما يتلقاه المتعلم والطالب في المدرسة أو الثانوية لا يوظفه في حياته اليومية، والواقع أنه يوظفه بشكل مباشر أو غير مباشر، ويمكن للشاب أن يوظف الحس النقدي في الاستجوابات الصحفية بمختلف وسائل الإعلام، وفي المجالس السياسية، والمباحثات العلمية، علاوة عن المناقشات بين الأفراد في الأوساط العائلية، والمجادلات بين الأقران، كما ينفع الحس النقدي في مساءلة القيم والعادات الاجتماعية، وحل المشاكل والصعوبات التي تعترض الشاب في حياته، ومن يمتلك الحس النقدي تكُنْ له قدرة على المواجهة، وحس القيادة، وكثير من الشباب يوظفون الحس النقدي في التفاوض على أمور معينة في العمل، وإبداع المشاريع وتقويمها، وتجويدها باستمرار، واجتياز المقابلات المهنية، وتدبير الأزمات. 6) كل المختصين يؤكدون أن التفكير النقدي يجب أن يتعلم منذ الصغر، فما دور الأسرة والمؤسسة التعليمية في هذه العملية؟ ج: إذا تحدثنا بداية عن التفكير النقدي داخل الأسرة، فالحوار له النصيب الأكبر في تفعيل وقدح شرارة التفكير النقدي؛ لأن الأصل في الكلام هو الحوار، والأصل في الحوار هو الاختلاف، فحيثما وُجِدَ التعدد في الطريقة، فثمة حاجة إلى قيام حوار، كما أن الحوار يسهم في توسيع العقل وتعميق مداركه، بما لا يوسعه ولا يعمقه النظر الذي لا حوار معه، وينبغي أن نتعلم داخل الأسرة بأن الاختلاف في الرأي لا يُسوَّى بالعنف وإنما يسوى بالحوار، وإذا أغلقنا باب الحوار الفعال نكون قد قتلنا روح التفكير العقلاني، دون أن ننسى أهمية مكتبة المنزل في تنمية الحس النقدي عند الطفل؛ حيث ينبغي أن تضم المكتبة كتبًا متنوعة، وألَّا تكون هذه الكتب في اتجاه واحد؛ لأن الاتجاه الواحد لا يعلم التفكير، بل لا بد من قراءة النصوص المضادة، فالقراءة المضادة هي التي تولد القدرة على التفكير والنقد، إضافة إلى النصوص القوية بلغتها ومنهجها، فالنصوص المهلهلة لا تبني التفكير والمواقف، أما إذا انتقلنا إلى المدرسة فينبغي الابتعاد عن الإملاء، وفتح المجال أمام المتعلم، كي يعبر عن آرائه ومواقفه، ويسهم في بناء الدرس؛ لأن الإملاء يقتل الحس النقدي والإبداعي لدى المتعلم، كما أن هناك حاجة إلى التدريب على استراتيجيات القراءة الناقدة، والعمل بالمجموعات، داخل الفصول الدراسية، لِما له من أثر فعال على تنمية الحس النقدي، وإذكاء روح الاختلاف، وهناك زمرة من المهارات الإنشائية المقررة التي تساعد المتعلم على تنمية التفكير النقدي، وننبه هنا بأن الطريقة التقليدية في التدريس لا تعزز آليات التفكير النقدي، فالأستاذ بسلطته المعرفية لا يترك مجالًا للنقاش والحوار، ومن هنا فالمتعلم لا يناقش ما يقوله الأستاذ، بل يتلقف المعرفة ولا يخضعها للحجاج، أما الطريقة الجديدة، أو ما يسمى بالتدريس الفعال، فيسود الحجاج باعتباره طريقةً في التفكير، وكل المعارف تخضع للنقاش والمحاورة، ومن يقرأ نصًّا فلسفيًّا واحدًا، فسيدفع به درجات إلى بناء أسس التفكير النقدي، فنوعية النصوص التي نقرأ هي ما يبني ذواتنا ومناعتنا الفكرية والنقدية، والسؤال الفلسفي يطرح مفارقات، ويُولِّد الدهشة، والدهشة تدفع إلى البحث، كم يكتسب المتعلم التفكير النقدي من النوادي التربوية، ومن مشروعه الشخصي! كلمة أخيرة: ج: يمكن أن أقول: إن التفكير النقدي منهج حياةٍ، ينبغي أن نتربى عليه، ونربي عليه النشء، فنحن أمام كوجيطو جديد: "أنا أنتقد، إذًا أنا موجود"، والشاب الذي يمتلك هذا المنهج الحياتي يبني شخصيته المعرفية، ويستطيع الارتقاء بها بشكل كبير، ويمتلك سرعة الاندماج في المجتمع، ليكون مواطنًا صالحًا.
الإمام البخاري ومكانته في المجتمع الإسلامي محاضرة أُلقِيت بجامعة أم درمان الإسلامية يوم الخميس 7 من ذي القعدة 1394 الموافق 21 من نوفمبر 1974 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه، وأتباعه وحزبه، أولئك حزب الله ﴿ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22] ، أما بعد: فهذه كلمة عابرة في ذكرى الإمام البخاري رحمه الله، إذ كانت ولادته بعد صلاة الجمعة ثلاث عشرة ليلةً خَلَتْ من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، كما كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين. أقول إنها كلمة عابرة؛ لأنها لا تعدو ثماني لمحاتٍ [1] بعِدة أبواب الجنة، في حياة هذا الإمام العظيم ومكانته، أرجو أن تكون مفاتيحَ لهذه الحياة الطيبة المباركة بإذن الله ومعونته، كما أرجو أن تكونَ مفاتيحَ لأبواب الجنة بفضل الله ورحمته. لمحة في نسبه ونشأته، وأخرى في نبوغه منذ طفولته، وثالثة في ارتحاله طالبًا للعلم، ورابعة في شيوخه وتلاميذه، وخامسة في حفظه وثناء الأئمة عليه، وسادسة في مؤلفاته، وسابعة في صفاته وشمائله، والثامنة وهي الخاتمة. 1 - نسب الإمام ونشأته: هو أبوعبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه [2] ، أسلم جده المغيرة على يد اليمامة الجُعفي وَالي بُخَارى وقتئذٍ، فنُسِب إليه نسبةَ ولاءٍ، عملًا بمذهب مَن يرى أنه من أسلم على يد إنسان فولاؤه له، كما في الجامع الصغير للسيوطي: "مَن أسلم على يَدي رجلٍ فلَه وَلَاؤه"؛ رواه الطبراني وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه، جـ2، ص 164. وبُخارى من أعظم مُدُن ما وراء النهر؛ نهر جيحون، بينها وبين سمرقند ثمانية أيام، وهي تحت نفوذ الاتحاد السوفيتي الآن بولاية أزبكستان. قال الحافظ في مقدمة الفتح: "وأما والده إبراهيم بن المغيرة (يعني جَد الإمام الأول) فلم نقف على شيء من أخباره، ثم ذكر عن إسماعيل والد الإمام أن له ترجمةً في كتاب الثِّقَات لابن حِبَّان، وذَكره ولده في التاريخ الكبير، فقال: "إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سَمِع مِن مالك وحماد بن زيد، وصَحِب ابن المبارك". وقد جمع والده إلى العلم الوَرَعَ والتقوى، فيُروى عنه أنه قال عند وفاته: "لا أعلم في مالي درهمًا من حرام ولا من شُبْهة"؛ فالإمام البخاري إذًا من بيت علم ودين ووَرَع فلا عجبَ أنه وَرِث الخلال الكريمة فيما وَرِث من بيت نبيل كريم. مات أبوه العالم النبيل وهو صغير، فكفلته العَقِيلة النَّبيلة أمُّه وأحسنَتْ تربيتَه، وقد كان له من مال أبيه الحلال الطيب الذي تركه ما أعانها على أن تُنشِّئه تَنْشِئةً كريمةً صالحةً، وقد حفَّت العناية الربانية هذا اليتيم النبيل وأمَّه منذ صغره؛ فقد رُوي أنه ذهبَتْ عيناه وهو صغير، فحزنَتْ أمُّه من أجله حزنًا شديدًا، ولجأت إلى ربها بالدعاء، فرأت في منامها الخليل إبراهيم عليه السلام يقول لها: "يا هذه قد ردَّ الله على ابنك بصَرَه بكثرة دُعائك له"، فأصبح وقد ردَّ الله عليه نورَ عينيه، فتبدَّل حزنها سرورًا، لا ريب أن ذلك بعض إكرام الله لأوليائه. ( 2 ) نبوغ الإمام منذ طفولته: ظهر نبوغ البخاري وهو طفل في الكُتَّاب، وألهمه الله حفظ الحديث، فرزقه منه حظًّا وَافِرًا قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده، فيأخُذ عنهم الحديث والعلم، ويراجعهم في بعض ما يسمع منهم، وربما ردَّ بعضهم إلى الصواب في أدبٍ ورفقٍ وهو ابن إحدى عشرة سنة. وما إن بلغ السادسة عشرة من عمره المبارك حتى حفظ كُتُب عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح، وعرف كل أصحاب الرأي وأصولهم ومذهبهم، وفي هذا العام نفسه - وهو العام العاشر بعد المائتين - خرج إلى بيت الله الحرام حاجًّا هو وأمُّه وأخوه أحمد وكان أَسنَّ منه، وبعد الحج رجع أخوه مع أمِّه إلى بُخارى، أما هو فآثَرَ المقام بمكة المكرمة يطلب الحديث والعلم، وكانت مكة من أهم المراكز العلمية في الحجاز، وقد وجد فيها طَلِبَته، وكان يذهب إلى المدينة المنورة بين الحين والحين، وفي الحرمين الشريفين ألَّفَ بعضَ كتبه، ووضع أساس الجامع الصحيح وتراجمه. وقد ألَّفَ التاريخ الكبير عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان يكتبه في الليالي المُقْمِرة، وتَوارِيخه الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير، تَنُمُّ عن مقدرته الفائقة في معرفة الرجال؛ حتى كان يقول: "وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلا ولَهُ عندي قصة"، ويقول: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ يطالبني أني اغتبْتُه"، ورجاؤه هذا مُحقَّق بإذن الله وفضله، فما عُرِف عنه أنه اغتاب أحدًا قَطُّ، ولما ذُكر له التاريخ وما فيه من الجرح والتعديل وما إليها، أجاب على الفور: "ليس هذا من هذا"، و"إنما رَوينا ذلك رواية ولم نقُله من عند أنفسنا" [3] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ائْذَنُوا له، بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ)) ، وليس ذِكر مساوئ الرواة (فيما يتعلق بالرواية) من الغِيبة في قليل ولا كثير، بل إن ذلك من النصيحة الواجبة المحتومة، ومع هذا كان البخاري نزيهًا عفيفًا مُتحَرِّيًا للحق في نقد الرواة وبيان أحوالهم، وستأتي الإشارة إلى ذلك. ( 3 ) ارتحال الإمام طالبًا للعلم: الرحلةُ في طلب العلم والفقه في الدين شعبةٌ من شُعَب الجهاد في سبيل الله، لا تقِلُّ شأنًا عن قتال العدو لإعلاء كلمة الله، وربما كانَتْ مع صِدْق النية، وحُسْن الطويَّة، والعمل بالعلم، والدعوة إلى الخير- أجلَّ شأنًا وأرفع مكانًا . وقد ضرب إمامُنا في رحلاته بسهم عظيم، وقلَّ قُطْرُ من أقطار الإسلام إلا وله إليه رحلة: دخل الشام ومصر مرتين، والبصرة أربع مرات، وأقام بالحجاز ستة أعوام، ولا تُحصى رحلاته إلى الكوفة وبغداد مع المحدِّثين، وكانت بغداد بلد الخلافة وموئل [4] العلم والعلماء، وفي بغداد التقى بالإمام أحمد مرارًا، وكان يحثُّه على الإقامة بها، ويلومه على الإقامة بخراسان! وكان في هذة الرحلات المتتابعة دائبًا على جَمْع الأحاديث وتقييدها بالكتابة ليله ونهاره، بهِمَّةٍ لا تكِلُّ وعزيمةٍ لا تَمَلُّ. ( 4 ) شيوخ الإمام وتلاميذه: وقد أتاحت له رحلاته لقاء المحدِّثين من الشيوخ الأمناء الثِّقات الذين بلغوا من الكثرة حَدًّا لم يتهيَّأ إلا لمثله، رُوي عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين رجلًا ليس فيهم إلا صاحب حديث، ولم أكتب إلا عَمَّنْ قال: الإيمان قول وعمل [5] . ومن أعيان شيوخه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين، وإسحاق بن راهويه، أما عدد مشايخه الذين خَرَّج عنهم في الجامع الصحيح، فيبلغون ثلاثمائة إلا قليلًا. فأمَّا تلاميذه والرواة عنه، فهم لا يُحصَون كثرةً، حتى قيل: إنه سمِع الصحيح منه تسعون ألفًا، من أعيانهم: الفِرَبْريُّ، والنَّسَفِيُّ، والنسويُّ، والبَزْدَويُّ، وهؤلاء الأربعة هم أشهر رواة الجامع الصحيح عنه. وعن تلاميذه أخذَ تلاميذُهم وهكذا إلى وقتنا هذا، ويدخل في تلاميذه كلُّ مَن قرأ مؤلفاته أو شيئًا منها ودرسها، ولا سيَّما الأبناء البَرَرة الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحْسَنَه، وتلك بعض آثاره رضي الله عنه. ( 5 ) حفظ الإمام وثناء الأئمة: كان الإمام البخاري في حفظه وذكائه، وعلمه بالرجال، وبصَره بعِلَل الحديث آيةً من آيات الله في أرضه، وحُجةً من حجج الله على عباده، فلا عجب أن أثنى عليه شيوخُه وأقرانُه وتلاميذه، ومَن جاء بعده. وحسبنا من هذا الإجماع العجيب، ما رواه الحاكم بسنده أن مسلمًا جاء إلى البخاري فقَبَّله بين عينيه، وقال: "دعني أُقَبِّل رِجْليك يا أستاذ الأُسْتَاذِين وسيد المُحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِه". فأما ثناء مَنْ جاء بعده، فيكفي فيه قول الحافظ في مقدمة الفتح: "ولو فَتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخَّر عن عصره، لفَنِي القِرْطاس، ونفِدَت الأنفاس؛ فذاك بحرٌ لا ساحل له". ولعل الله جَلَّت آلاؤه أنعم على البخاري بهذه النعمة العظيمة: نعمة الحفظ العجيب النادر؛ ليحفظ على الأمة سُنَّةَ نبيِّها بتأليف الجامع الصحيح، الذي هو أوَّلُ كتاب أُلِّف في الأحاديث الصحيحة وحدها، فأمَّا الأئمة قبله فكانوا يجمعون بين الصحيح والحَسَن والضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين والدارسين ومقدرتهم على التفرقة بين المقبول منها والمردود. ومن الأدلة التي لا تُحصى على حفظ البخاري وتَوقُّد ذِهْنِه ما حدث له حينما قدم بغداد؛ إذ اجتمع عليه علماؤها وأرادوا امتحانه، فعَمَدُوا إلى مائة حديث، فقَلَبُوا مُتُونها وأسانيدها، ثم أعطَوا كلَّ واحدٍ منهم عشرةَ أحاديث منها، فقرأ عليه أولهم العشرة التي معه، وكان كلما ذكر حديثًا قال له البخاري: لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرةُ من سَرْد ما عندهم، فصار الجُهَّال من الحاضرين يحكمون على البخاري في أنفسهم بالعجز والتقصير! وأما العلماء منهم فيقولون: فَهِم الرجل! ثم التفت البخاري إلى الأول فقال له: أما حديثك الأول فصِحَّتُه كذا، وأما حديثك الثاني فصِحَّتُه كذا حتى انتهى من ذكر أحاديثه العشرة، ثم التفت إلى الثاني والثالث وهكذا إلى تمام العشرة، يَذْكر الحديث المقلوب ثم يذكر صِحَّته فلم يجد علماء بغداد بُدًّا من الاعتراف له بالحفظ والتَبرِيز [6] والإمامة. قال صاحب الفتح في مقدمته: "وهنا يُخضَع للبخاري! فما العَجَب في رَدِّه الخطأ إلى الصواب؛ فإنه كان حافظًا، بل العَجَب من حِفْظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرَّةٍ واحدةٍ!" قال أخونا أو ابنُنا الدكتور الحسيني في كتابه (البخاري مُحدِّثًا وفقيهًا): "وإذا علمنا أن الامتحان كان من علماء بغداد في عصرها الذهبي الزاهر بعلماء الإسلام، ازداد تقديرنا لمواهب الإمام البخاري العلمية، ومن هذا الامتحان الذي اجتازه البخاري يَتَبين لنا بوضوح أنه كان موسوعةً علميةً بمعرفة جميع الأحاديث بإسنادها ومُتُونها، وبهذة المقدرة العلمية حاز ثقةَ العلماء فَالتَفَّ حول مجلسه عشرات الآلاف ينهلون من فَيضه"؛ ص 54-55. وإذا قال الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله: إن موطأ مالك أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى؛ فإنما قال ذلك لأنه لم يُدرك صحيح البخاري، فقد تُوفي رحمه الله والبخاري طفلٌ في الكُتَّاب. نعم، إن درجة الموطأ في صِحَّته تُقارب درجة الجامع الصحيح أو تُساويها، ولكنَّ مالكًا كان فَقيهًا أكثر منه مُحدِّثًا، والبخاري كان مُحدِّثًا أكثر منه فَقيهًا ، فقد كان الإمام البخاري رحمه الله فَقيهًا مجتهدًا مستقلًّا لا مُقلِّدًا ، كما يظنُّ بعض الفقهاء والمُحدِّثين، مُستَدلِّين بموافقته لبعض أئمة الفقه في بعض ما استنبط من الكتاب والسُّنَّة، وليست الموافقة دليلًا على التقليد ، فكم من مسائل لا تُحصى اتفق الأئمةُ على استنباطها اتفاقًا تامًّا أو قريبًا، على أن منهج البخاري في تدوين ما استنبط يختلف عن منهج أئمة المذاهب، ويتَجَلَّى منهجه هذا في تراجمه للجامع الصحيح؛ ولذلك قال جَمْعٌ من الفُضلاء: "فِقْهُ البخاري في تراجمه"، وبهما وبأمثالهما رضي الله عنهما، تحيا الأُمَم، وتُبعَث الهِمَم، ويُباهي سيِّد العرب والعَجَم. ( 6 ) مؤلفات الإمام البخاري: قِيل في شأن المؤلفات الجديرة بالذكر ما نصُّه: "إنه لن يُوضع تأليف في ميزان النجاح والفلاح، إلا إذا كان سليمًا قَوِيمًا أمينًا مقصودًا به النفع والخير، وعلى حَسَب نية صاحبه ونَصْفَته [7] وأمانته وكفايته، يُؤتي أُكُله"، ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58] . ومؤلفات البخاري كلها تشهد بإخلاصه لله عز وجل، ورغبته في الخير والنفع لعباده، لا يَبْتغي منهم أجرًا، ولا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا. وتربو مؤلفاته على العشرين، منها التواريخ الثلاثة التي أشرنا إليها، والتفسير الكبير، والجامع الكبير، والأدب المفرد، والمسند الكبير. وأعظم مؤلفاته الجامع الصحيح؛ وقد وضع أساسه في المسجد الحرام، وبَيَّض تراجمه في الروضة الشريفة، ومكث في تأليفه ست عشرة سنة يجمع ويُدقِّق ويختار وينتقي على شرطه الذي عُرِف من بعده حتى جاء كتابه على ما أَحَبَّ ورَضِيَ، وقد قال فيه: "ما أدخلتُ فيه حديثًا إلا استخرْتُ اللهَ تعالى وصلَّيْتُ ركعتينِ وتَبَيَّنْتُ صِحَّته". وما أعظم إنصاف الإمام النووي وهو يُوازن بين الصحيحين ويعطى كلًّا منهما حقه! [8] ؛ فيذكر اتفاق العلماء على أنَّ أصَحَّ الكتب بعد كتاب الله العزيز هما الصحيحان اللذان تَلَقَّتْهما الأُمَّةُ بالقَبول، وأن كتاب البخاري أَصَحُّهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، كما يذكر أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث. ثم يُنصِف مسلمًا فيُفضِّله على البخاري بفضيلة حسنة، وهي كونه أسهل ترتيبًا وتناولًا؛ إذ جعل لكل حديث مَوْضعًا واحدًا يليق به، جَمع فيه طُرُقَه وأسانيدَه، بخلاف البخاري فإنه يذكر الطُّرُق المختلفة متباعدةً متفرِّقةً، وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أَوْلى به، وذلك لدقيقة يَفْهَمُها البخاري، ألا ما أعظم هذه الدقيقة التي يذكرها الإمام النووي في موازنته، وما أدَّلها على غزارة فِقْه البخاري وبديع استنباطه لِمَعانٍ وفوائد إن خَفيت على الناشئين، فقد هزَّت جهابذة المُحدِّثين إعجابًا وإِكبارًا! وقد أوضحَها صاحبُ الفتح في مقدمته، ولخَّصَها أخونا العلامة أبو شهبة في كتاب ( أعلام المحدِّثين ). (7) من صفات الإمام وشمائله: كان الإمام البخاري نحيفَ الجسم بينَ الطويل والقصير، مَيَّالًا إلى السُّمْرة، وكان مُتَقلِّلًا من المآكل جدًّا، غاية في الحياء والكرم والزهد والرغبة فيما عند الله عز وجل، وكانت له ثروة من الحلال الطيب، ينفق منها سرًّا وجهرًا على طلب العلم وعلى تلاميذه، وكان يجزل لهم العطاء، رُوي عنه أنه قال: "كنت أستغل كل شهر خمسمائة درهم، أنفقها في الطلب، وما عند الله خير وأبقى". وقد تعلَّم الرمي وحَذَقه، حتى قيل: إنه ما أخطأ في حياته إلا مرتين، وكان علماء السلف يُعِدُّون أنفسهم للجهاد في سبيل الله، حتى إذا ما دعا داعي الجهاد كانوا أسرع الناس إلى استجابة النداء ولقاء الأعداء. وكان رضي الله عنه شريفَ النفس موفورَ الكرامة، شديدَ الاعتزاز بالعلم، يصونه عن الابتذال والسعي به إلى بيوت الأمراء والسلاطين، ولو أدَّى ذلك إلى جفوتهم له أو غضبهم عليه. وكان رحمه الله يقول: "الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والقرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ، عَلى هذا حَيِيتُ، وعليه أُبْعَث إن شاء الله". وكانت له في حياته كرامات حدَّث بها ورواها الأثبات الثِّقات، فأمَّا كراماته بعد وفاته فما يزال يراها رأي العين من اقتدى به، وتأدَّب بأدَبه . ومن شعره الذي يُعَدُّ من الحكم ما ذكره الحاكم في تاريخه عنه: اغْتَنِمْ في الفراغِ فَضْلَ رُكوعٍ فعسى أن يكونَ موتُكَ بَغْتهْ كم صَحيحٍ رأيْتَ مِن غَيْر سُقْمٍ ذهبَتْ نفسُه الصحيحةُ فَلْتَهْ وكأنه رضي الله عنه كان يعني بهذين البيتين نفسَه! فقد كتب إليه أهل سمرقند يلتمسون منه الخروج إليهم، فتهيَّأ للرحيل، وفي أثناء طريقه شعر بضعف، فتضرَّع إلى ربِّه بدعوات يُناجيه بها، وأحبَّ لقاءَ الله فأحَبَّ اللهُ لقاءه! وقد كانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا في بلدة خَرْتَنْك، وقد فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك دامَتْ أيامًا! ودُفن بعد ظهر العيد، تاركًا حياةً حافلةً بجلائل الأعمال وعظيم الآثار في مشارق الأرض ومغاربها، فرضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا به في عباده الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ذلك ولم نجد في مرجع من مراجع تاريخه وحياته الحافلة وتراجمه الكثيرة أنه تزوَّج، بل تدل الدلائل الواضحة - وإن لم تكن قاطعة - على أنه لم يتزوج، ولعله كان يرى -كما يرى بعض الأئمة - أن الانقطاع للعلم والجهاد فيه مع الأمن والطُّمَأْنينة أفضلُ من الزواج، ومن هؤلاء العلماء الأئمة: الإمام النووي رضي الله عنه. على أن رحلاته الدائبة، وأسفاره الموصولة، وتَلقِّيه للعلم وبذله له، لم تدع له وقتًا للتفكير في الزواج ولو رغب فيه، فضلًا عن تحقيقه، والله يجزيه على نيَّته خيرَ الجزاء، (( فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )). ( 8 ) اللمحة الثامنة والخاتمة: الإمام أبو عبدالله البخاري في الميزان: لم يظفر أحد من أئمة الحديث روايةً ودرايةً وفِقْهًا بمثل ما ظفر به الإمام البخاري، وكان رحمه الله إمامًا يُقتدى به في تحرِّي الحق ونَقْد الرجال مع شدة التحوُّط في الأخذ عنهم في نزاهة وعِفَّة منقطعة النظير، وقد يقول في الرجل الذي يعرف كذبه: فيه نظر، أو يقول: تركوه، أو يقول: سكتوا عنه، وأصرح ما قاله في رجل: منكر الحديث، وقلما يقول: كذَّاب أو وضَّاع، ومع عِفَّته البالغة ونزاهته كان يترك أحاديث الرجل لمجرد الشك فيه، فقد رُوي أنه ترك عشرة آلاف حديث لرجلٍ فيه نظر. وهذا هو المثل الأعلى للنقد البنَّاء بلغة العصر الحديث، ولن يبلغه أحد أو يُقاربه إلا إذا تلقَّى أصوله ودرس منهجه في مدارس هذا الإمام الجليل التي أسَّسَها ثم شيَّدها تلاميذه، وتلاميذ تلاميذه شرقًا وغربًا، ثم عرفها وتأثَّر بها المنهج الأوربي الحديث كما يقول الدكتور الحسيني في كتابه ( البخاري مُحدِّثًا وفَقِيهًا ) نَقْلًا عن الدكتور قاسم في كتابه (المنطق الحديث ومناهج البحث العلمي). ومع هذه العظمة الحديثية البالغة، لم يسلم الإمام من النقد: انتقده بعض الحُفَّاظ في جملة من الأحاديث، أخرجها في الجامع الصحيح على غير شرطه ومنهجه، وأجاب عنها صاحب الفتح في مقدمته حديثًا حديثًا، ثم قال: "وليست كلها فادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسُّف، كما شرحته مجملًا في أول الفصل وأوضحته مُبينًا إثر كل حديث منها" ... قال الحافظ: "فإذا تأمَّل المُنصِف ما حررته من ذلك عَظُم مقدارُ هذا المصَنَّف في نفسه وجَلَّ تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقَبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم؛ ا هـ. قال أخونا العلامة أبو شهبة في كتابه ( أعلام المحدثين ) تعقيبًا على كلام الحافظ بن حجر: "وهذا كلام إمام ناقد منصف لا يختلف اثنان في أنه جمع بين الحفظ والبصر بالنقد، وبين الفقه والحذق للأصولَيْن: أصول الدين وأصول الفقه". ونحن لا ندعي العصمة للإمام البخاري مع سموِّ مكانته ورفيع قدره؛ ولكن حسبه أنه بلغ في تحرِّي الحق، وسداد القصد، وبلوغ الغاية في علوم الحديث أقصى ما يمكن أن يبلغه إمام حافظ مجتهد. فأما العصمة والكمال الإنساني كلاهما فَللنَبِيِّين والمرسلين، وأما الكمال المطلق فللَّهِ رَبِّ السموات وربِّ الأرض، وربِّ العرش العظيم. [1] جمع اللَّمْحة، وهي النظرة العاجلة، لسان العرب، جـ 2، ص 584. [2] معنى بَرْدِزْبَه في لغة فارس: الزَّرَّاع، كذا يقوله أهل بُخَارى، مقدمة الفتح، جـ 2، ص 193. [3] لعل مراده: أن ما قاله قد وَافَقه عليه مَن سبقه، وليس المراد أنه كان مُقلدًا في كل ما قال، وكيف وهو من أهل الاجتهاد في الجرح والتعديل؟! هامش (أعلام المحدثين) لأخينا العلامة الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو شهبة، ص 108. [4] مستقر. [5] أعلام المحدثين، ص 112. [6] بَرَّز على أقرانِه: فاقَهُمْ فضلًا أو معرفة. [7] من الإنصاف. [8] صحيح مسلم بشرح النووي، جـ 1، ص 14- 15.
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (7) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب التاسع: الاستشهاد بالضعيف والموضوع: من أساليب أهل الحداثة في التعامل مع السنة النبوية والاستخفاف بنصوصها الاستشهاد بالأخبار والروايات الغريبة والشاذة والضعيفة والمنكرة والموضوعة؛ لتعزيز منهجهم الحداثي وتسويغ أقوالهم والتدليل لمذهبهم وأفكارهم المنحرفة، واعتبار أنَّ ذلك هو القول المشهور الذي عليه عامة علماء الإسلام؛ سواء كان ذلك في التفسير أو الحديث أو السيرة والتاريخ.. فهؤلاء الحداثيون العرب يبحثون ويُنقِّبون عن (الأخبار والآراء التي ذَكَرَها قدماء المفسِّرين على أساس أنها أفكار شاذَّة لا تُتْبَع، أو شبهاتٌ زائفة لا يُوقف عندها، أو زلاَّت عابرة لا يُتَعَلَّق بها، فجعلوا منها حقائقَ جوهريةً حكَّموها في الأقوال المشهورة والأصول المقرَّرة، وبنوا عليها أحكاماً جَمَعَتْ إلى الفسادِ في الاستنتاج الإغرابَ في المضمون) [1] . نماذج من استدلال الحداثيين بالشاذ والموضوع: لا تكاد تقف على كتاب من كتب دعاة الحداثة إلاَّ ويهولك الأمر من مضمون الكتاب، وما فيه من النماذج المتكاثرة على الاستدلال بالشاذ والضعيف والموضوع؛ بل الاحتجاج بأقوال المستشرقين، ومن قبلهم الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، والذين بَعُدوا عن زمانهم آلاف السنين، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، وهذا من العجب العُجاب، ومن نماذج استدلالهم ما يلي [2] : 1- استدلالهم بأحاديث العقل الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها: حديث "العقل القامع" الذي يُبجِّل العقل ويجعله دعامةً للمعرفة في الإسلام، وهو مُقَدَّم على الشريعة، وهو حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ دعامة البيت أساسه، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، ودعامة المعرفة اليقين والعقل القامع. قلت: بأبي أنت وأمي: ما العقل القامع؟ قال: الكف عن المعاصي، والحرص على طاعة الله) [3] . وسبقت الإشارة إلى أنَّ ابن القيم رحمه الله قال: (أحاديث العقل كلها كذب) [4] . 2- استدلالهم بالروايات التي يُذكر فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن تناقل الحديث وروايته ، دون الأحاديث الآمرة بالكتابة. 3- استدلالهم بالروايات التي يُذكر فيها وقوع التحريف في القرآن الكريم ، أو التشكيك في جمعه، وأنه لم يُجمع كاملاً. 4- استدلالهم بالروايات الداعية إلى عرض السُّنة على القرآن. 5- استدلالهم بقصة "الغرانيق"؛ للتدليل على أنَّ الشيطان ينفذ إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وإلى نفسه، وله مدخل في التنزيل والوحي، مما يُبطل صلاحية الحديث النبوي للتشريع، ويُبطل صحة القرآن، ويُثبت احتمال خطأ النبي في تبليغ التنزيل. فقد ادَّعى أحد الحداثيين قائلاً: (لقد حَدَثَ أنْ تمنَّى محمدٌ البَشَر أن ينهي الحربَ مع قومه الكفرةِ من المكيين؛ ذلك لأنه كان حريصاً على صلاح قومه محِبًّا مُقاربتهم.. كما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تولِّي قومِه عنه.. تمنَّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يُقارب بينه وبين قومه، وكان يَسُرُّه مع حبِّه قومَه وحرصه عليهم أنْ يلين له بعضُ ما قد غَلُظَ عليه من أمره حتى حدَّث بذلك نفسَه وتمنَّاه وأحبَّه، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1] فلمَّا انتهى إلى قوله: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ﴾ [النجم: 19، 20] ألقى الشيطانُ على لسانه لِمَا كان يُحدِّث به نفسَه ويتمنَّى أنْ يأتيه به قومُه: "تلك الغرانيق العُلا وإنَّ شفاعتهم لتُرتجى" فلمَّا سمعت ذلك قريشٌ فرحوا... إنَّ محمداً لم يتمكَّن من الكشف عن ذلك الهدف الخبيث، فظلَّ إبليس الشيطان في عمله الشرير... وقد استطاع أن ينفذ إلى شخصية نبي الأنبياء وحبيب الله، إنَّ ذلك... يُكوِّن إطاراً لتلك العملية من التَّقاطب بين الإلهي والشيطاني) [5] ، وغير مستغرب على هؤلاء الحداثيين إيراد مثل هذه الأغاليط والتراهات، وسلفهم في ذلك جمع من المستشرقين الذين ادَّعوا صحة قصة الغرانيق؛ كالمستشرق "واط" وغيره [6] . وقد أنكر "قصة الغرانيق" عدد كبير من علماء المسلمين ؛ كابن خزيمة والبيهقي وعياض وابن العربي والقرطبي والعيني والآلوسي والشوكاني، وقد جمع طرق "قصة الغرانيق" الألباني رحمه الله من كتب "التفسير" و"الحديث" وبيَّن عِلَلَها مَتْناً وسنداً [7] ، وقال – في هذا الحديث المكذوب: (لا يصح، بل هو باطل موضوع) [8] . 6- ادِّعاؤهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها في مرحلة الشباب، وعمرها ثمان وعشرون سنة؛ لأنه كان يعشق النساء ، فوجد ضالَّته في خديجة التي جمعت بين المال والجمال [9] . وفي الوقت ذاته يُسارعون إلى رفض الروايات التي يُذكر فيها سبقُ خديجة رضي الله عنها في الإسلام ودورها في التضحية في سبيل الله؛ بحجة أننا (لا نجد أية إشارة إلى ذلك في القرآن، وكلُّه في أخبار السيرة، وقد يصح قسم منها أو قد يكون كلها من عمل الأسطورة، وهذا مشروع جدًّا في تكوين الخيال الديني) [10] ، وكأنَّ زواجَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها، وهي ابنة ثمانٍ وعشرين مذكورٌ في القرآن! إنَّ لجوء الحداثيين العرب إلى الأحاديث الشاذة والضعيفة والموضوعة والاعتماد عليها ؛ لأنها توافق أهواءهم ومذاهبهم، وترك ما يُخالفهم؛ وإنْ كان صحيحاً ثابتاً، يُعتبر مسلكاً خطيراً في التعامل مع النصوص ، والكيل بمكيالين؛ مكيال الرفض من أجل الرفض، ومكيال القبول من أجل الرغبة في الدليل، وهذا الاتجاه بلغ من خطورته أنْ يَرُدَّ أحاديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، ويقبل منها الموضوع المُتَّفق على وضعه. بل نجدهم يحتجُّون بأقوال الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، الذين بَعُدوا عن زمانهم آلاف السنين ، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، وأمَّا إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهنا، وهنا فقط نجد العلمية عندهم تحرَّكت؛ لِتَرُدَّ ما هو ثابت بالعقل، وليس لديهم حُجَّةٌ سوى مخالفته العقلَ – في زعمهم! وإذا كان الحداثيون العرب يتَّهمون علماءَ الإسلام بعدم المنهجية في تدوين الحديث وجمعِه، فنحن نرد عليهم: بأنَّ علماء الإسلام بسبب انضباطهم واستعمالهم منهجاً مضطرداً، فقد وجدنا في كتبهم من الأحاديث التي جرَّتْ عليهم معاركَ ضاريةً لما فيها من شبهاتٍ وإشكالات، ولولا انضباطهم بمنهجهم العلمي لحذفوا من الأحاديث – لو كانوا انتقائيين مثل هؤلاء الحداثيين – ولكن هيهات فهم أكثر الناس انضباطاً وأكثرهم التزاماً بالمنهج العلمي الصحيح. [1] روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، (ص 191). [2] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 398). [3] مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، جورج طرابيشي (ص 93). [4] المنار المنيف في الصحيح والضعيف، (ص 66). [5] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 265، 266). [6] انظر: موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية، (ص 44-45). [7] انظر: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، محمد ناصر الدين الألباني. [8] المرجع نفسه، (ص 4). [9] انظر: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 148). [10] تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 150).
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (6) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب الثامن: إنشاء ضوابط "غَرِيبة وشاذَّة" في نقد السُّنة: أنشأ الحداثيون العرب ضوابطَ غَرِيبةً وشاذَّة في نقد السُّنة، ورفضِ وقَبولِ الأحاديث، وادَّعوا أنهم يُعيدون نقد السُّنة بأدوات جديدة تعتمد في مُجملها على إفساح مجالٍ واسعٍ لشخص الناقد؛ ليمارس نَقْدَه للسُّنة وقراءته الشخصية للروايات والأشياء، ويعتمد على ضوابطَ فضفاضةٍ وغريبةٍ وشاذة، والهدف المعلن هو تنقية السنة مما علق بها من شوائب، وإزالة الموضوع عنها وإبقاء الصحيح الصالح للعصر فيها، ومن ذلك أنَّ (التناقض قد يكون في مضمون الحديث نفسِه، وفي معناه، أو تناقله، أو أسلوبه، أو في تناقض مدلوله ومفهومه مع الذِّكر الحكيم، أو مع معطيات العلم، أو المنطق الصوري، أو القوانين والأعراف الاجتماعية السائدة، أو الذوق العام، أو غير ذلك من الأمور) [1] . وكلُّ واحدةٍ من هذه الأمور "الغريبة والشاذَّة" تُعدُّ "ضابطًا" و"مقياسًا" تُعرَض عليه الروايات الحديثية، فإذا تعَارَض الحديثُ مع أيِّ شيء منها رُدَّ. وبناءً عليه؛ كان الأساس - من وجهة نظر الحداثيين - هو العلم الطبيعي، أو العقل، أو واقع الناس، أو مألوف عاداتهم، أو الذوق العام، أو غير ذلك، وربما يأتي لاحِقٌ يبتكر ضابطًا أو أصلًا جديدًا يَعرِضُ عليه الروايات في زمانه ووَفْقَ ظروفه، وهذه المعايير الضابطة للسُّنة - من وجهة نظرهم - قد تُصحِّح أحاديثَ رفضها أهلُ الحديث وردُّوها، وفي الوقت ذاته تُرفَض أحاديثُ صحَّحها أهل الحديث وقَبِلوها، وهذا هو الأعم الأغلب والهدف المُبتغى لحداثيي العرب، ومن هنا فلا تعجب أن يستند حداثيٌّ منهم إلى روايةٍ أو حديثٍ حَكَمَ عليه أهل الدِّراية من المحدِّثين بالوضع، أو الانتحال، أو عدم صلاحيته للاحتجاج [2] . وسوف نتناول بعض هذه الضوابط التي استخدمها هؤلاء ونَعْرِضها كما يلي: الضابط الأوَّل: نقد السُّنة بعرضها على (الذوق العام): دعا الحداثيون العرب إلى نقد السُّنة النبوية بعرضها على الذوق العام ومعطيات الواقع المعاش وعلى الحياة الاجتماعية؛ فما كان منها موافقًا لهذه المعطيات كان مقبولًا، وما لم يوافقه كان مرفوضًا. 1- فمنهم مَنْ يدعو إلى ضرورة نقد السُّنة بمفاهيم عصرية ، ويدَّعي بأنَّه (من الطبيعي - بل والضروري - أنْ يُعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية والاجتماعية الأصلية، وإحلال المفاهيم المعاصرة، والأكثر إنسانيةً وتقدُّمًا، مع ثبات مضمون النَّص) [3] ؛ لأنَّ (الحديث نصٌّ متحرِّك قابل للتَّجدُّد عن طريق استمرار عملية الفرز قبولًا ورفضًا بناءً على معايير اجتهادية إنسانية، أي طبقًا لفكرٍ إنسانيٍّ مُتطوِّرٍ بطبيعته ومرتبطٍ بظروف الزمان والمكان والواقع الذي يُنشِئه.. فهو نصٌّ ما زال يتكَوَّن من خلال آليات العقل الإنساني منذ اللحظات الأُولى للنُّطق به، والمسافة التي تفصله عن المُقَدَّس مسافةٌ شاسعةٌ يكاد معها يكون نصًّا إنسانيًّا) [4] . وهذا يعني تلقِّي النص تلقِّيًا نقديًّا حداثيًا بعيدًا عن صاحبه، وهذه النظرية لها مخاطِرُها، فهي ابتداءً تنفي العلاقة بين صاحب النص وبين النص نفسه، وبعد أنْ تنفي العلاقة الوطيدة بين النص وصاحبه، تُعطي الحقَّ للمتلقِّي أنْ يُفسِّره ويؤوِّله كما يشاء وِفق ثقافته ورؤيته ومشاعره، ثم تُطلق على هذا التلقِّي بهذه الصورة اسم: الإبداع المُوازي، وكأنَّ المُتلقِّي أبدعَ من النَّص الأوَّل الأصلي "إبداعًا جديدًا". وعلى هذا؛ فإنَّ هؤلاء الحداثيين يَفْصِلون بين النَّص الحدِيثي وبين قائله وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في محاولةٍ لِعَزلِه عن قُدْسيَّته، ثم تفريغه عن مضمونه وتعطيل محتواه بدعوى مخالفته لواقع الناس وحياتهم ومعايشهم، وهذا يترتَّب عليه تأويلات عدَّة وتفسيرات ربَّما مُتضاربة أو مُتعارضة في النَّص الواحد، وهذا يُنتج لنا في النهاية ربما عدَّة أديان لا دِينًا واحدًا؛ يختلف باختلاف المكان والزمان والواقع والذَّوق العام وغير ذلك بما ابتدعوه من معايير ضالَّة. 2- ومنهم مَنْ يرفض قبول بعض الأحاديث؛ بدعوى مخالفتها للذوق العام ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا) [5] . فقد زعم الحداثيون العرب أنَّ هذا الحديث يُنافي الذوق السَّليم والذوق العام: (وهي ظاهرة تُنافي الذوق السليم وتُجانب الطِّب الوقائي.. وإذا كان بعض السادة العلماء الأفاضل يرى في ذلك الحديث مظهرَ شكرٍ وتقديرٍ لنعمة الله، فإنني أرى مع كثيرين غيري مظهرَ تخلُّفٍ وقرفٍ واشمئزازٍ فيه، وما أجمل الإنسان الذي يغسل يديه بعد الطعام بصابونٍ معطَّرٍ نقوم بعدها بحمد الله عز وجل على نعمه، على تطوُّر العلوم.. وتُرضِي أصحاب الذوق السليم.. والمُخالف للصحابة) [6] . فهو اتِّهام للصحابة رضي الله عنهم بأنَّ ذوقهم ليس سليمًا! ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً) [7] . فقد ادَّعى دعاة الحداثة بأن مثل هذه الأحاديث يرفضها الذوق العام وهي تُنافي الحضارة [8] . وهنا يلحظ القارئ الكريم بأن هؤلاء الحداثيين لا يهتمون ابتداءً بثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم ثبوته، وإنما ينصب اهتمامهم فقط على ملاءمة الأحاديث للواقع، والحياة الاجتماعية المعاصرة، وذوق الناقد، فهذه المقاييس أصل والنص تابع لها، والحقيقة أنهم يُنَصِّبون أهواءهم حَكَمًا على قبول الروايات أو ردِّها. الضابط الثاني: نقد السنة بعرضها على (قيم المجتمع): يبحث الحداثيون عن أي شيء يُسَوِّغ لهم إعمال العقل والهوى في النصوص قبولًا ورفضًا وتأويلًا بعيدًا عن الضوابط الشرعية، ومن هنا دعا بعض الحداثيين إلى إعادة نقد السُّنة وَفق معايير خاصة وضعوها باسم "القيمة العليا" للمجتمع ثم يُحاكِمون النصوص إلى هذه "القيم العليا" المزعومة، فإذا وافقت الأحاديث هذه "القيم العليا" قبلوها، وإذا خالفتها رفضوها. ومن هذه القيم المزعومة "العدل" ويقصدون به العدل الذي يُوافق أهواءهم وتوجهاتهم، وليس "العدل" الذي دعت إليه الشريعة وأمرت به، فقد زعم بعضهم أنه لا بد من (إعادة النظر في كلِّ نصوص الشريعة الخاصة بالدنيويات في ضوء تحقيقها للعدل؛ لأنَّ التطورات قد تنفي العلة التي من أجلها سُنَّت بعض الأحكام.. وهو العدل) [9] . ويُعتبر "العدل" عند الحداثيين "قيمةً عليا" وذلك للهجوم على حقوق الزوج وحقوق الأب والحقوق الأسرية؛ وذلك لسلب القوامة والولاية من الرجل، وسلب حق الطلاق ونحوها من الواجبات الشرعية التي كلَّف الله تعالى بها الرجال، وادَّعى بعض الحداثيين بأن تطبيق "العدل" على العلاقة بين الرجل والمرأة سيجعل (كل أبحاث الطلاق وأحكامه التي تتضمَّنها كتب الفقه تُعدُّ لاغيةً ولا قيمة لها .. فالزواج عقد إيجاب وقبول وعلانية وشهود، فإذا أُريد فسح هذا العقد فلا يجوز هذا إلاَّ بالشروط التي انعقد بها، بمعنى أنَّ كلَّ ما ينطق به الرجال من أيمان الطلاق لا يُعتد بها .. ولا خلاص إلاَّ باستلهام العدل وإقامة كل العلاقات والأحكام على أساسه) [10] . ومنهم مَن اتَّخذ "الرحمة" قيمةً عليا لرفض كثيرٍ من النصوص الشرعية ؛ فزعم بعضهم أنه (لابد من إعادة قراءة القرآن على نحوٍ يحتفظ فيه بالثقة في أنه رحمةٌ للعالمين.. وهذا من شأنه أن يتطلَّب وجود موقف نبوي متطابق معه، وقد قرئ الحديث هكذا ضمن ذلك المطلب). ومنهم مَنْ رَفَضَ حديث "عُكْل" عندما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحدَّ عليهم؛ لقتلهم الراعي من المسلمين بعد أن شفوا من مرضهم بشربهم ألبان الإبل وأبوالها، زاعمًا بأن ذلك يُنافي "الرحمة" التي هي أساس الإسلام ومحوره، فقال: (جاء في "صحيح البخاري" أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بتطبيق حدود الله على العباد من المسلمين، بل تعدَّاها زيادةً لا نقصانًا أو رحمةً) [11] . مُتناسيًا هذا الحداثي بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تعامل - ابتداءً - مع هؤلاء النفر من "عُكْل" بالرحمة والشفقة، فوصف لهم علاجًا لأسقامهم، فقابلوا الإحسانَ بالإساءة فكفروا بعد إسلامهم، ثم أظهروا للمسلمين العداءَ بقتلهم للراعي المسلم، فالذي صدر منهم خيانةً كبرى؛ فعاملهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمقتضى العدل والحكمة بإقامة الحد عليهم. جاء ذلك في حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: (إنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ؛ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ. وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ [12] ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ) [13] . إن هذه "القيم العليا" التي يريد الحداثيون لها أنْ تكون حاكمةً على النص الحديثي هي مراد الدِّين الإسلامي، فقيم العدل والرحمة والحق والخير، وغيرها إنما هي مقاصد الشريعة الإسلامية الغرَّاء. ولكن أين هذا العدل من ذلك الذي ساوى بين الإيمان بالله تعالى؛ الذي خلَقَه ورزَقَه وربَّاه وآواه وكفاه وهداه إلى الإسلام، وبين الكفر به سبحانه فارتدَّ عن دينه؟! وأين هذه الرحمة من هؤلاء الذين يُناصبون الدِّين وأهلَه العداء؛ فيحاربون أهله ويقتلون الأبرياء منهم، ثم إذا تمكَّن منهم المسلمون طالبوهم بالرحمة. إنَّ هذه القيم هي قيم الإسلام الحنيف ولا مزايدة عليه فيها، فالرحمة خُلُقُه والعدل أساسه. إنَّ هؤلاء يُحاولون تفكيك الدِّين وهدمه، بدعوى تحقيق القيم العليا، أوليست قيم الحب والخير والجمال كانت هي الحاكمة للثورة الفرنسية؟! فانظروا ماذا فعلوا بعدها، احتلُّوا أراضٍ من الوطن العربي الإسلامي وقتلوا مَنْ قتلوا وشرَّدوا مَنْ شرَّدوا، فأين هذه القيم من تلك الممارسات. إننا نقول لهؤلاء الحداثيين : إنَّ الدِّين الإسلامي إنما جاء ليحقِّق هذه القيم العليا والمُثُل السامية، ليس لأتباعه فحسب، وإنما للناس كافة؛ لذا لم يُحابِ المسلمَ لمجرَّد إسلامِه إذا أجرَمَ أو اعتدى على غير المسلمين. الضابط الثالث: نقد السنة بعرضها على (العلم الطبيعي): مع افتتان الحداثيين العرب بالحضارة الغربية، ولا سيما فيما أنتجته من تقنيةٍ وعلومٍ طبيعية، فقد دعا فريقٌ من حداثي العرب إلى إعادة نقد السنة النبوية بعرضها على العلوم الطبيعية؛ حيث إنها أكثر المراحل تطوُّرًا في تاريخ البشرية وَفق (نظرية كومت "قانون الحالات الثلاث" العقل الإنساني في تصويره الوجود مَرَّ بحالات ثلاث: الأُولى: الحال "الثيولوجية" أو "اللاهوتية"، والثانية: هي الحال "التجريدية"، والحال الثالثة: هي الحال "العلمية" التي تُبْحَثُ عن طريق الملاحظة والمقارنة والاستقراء عن سنن الكون وقوانينه الثابتة) [14] . وقد رأى فريق من دعاة الحداثة أنَّ العلم الطبيعي معيارٌ ضابطٌ يجب عرض النصوص الشرعية عليه، فتُعرض السُّنة على العلم فتُقبل أو تُرفض، أمَّا نصوص القرآن فيتعامل معها من مُنطلق أنَّ (كلَّ التعابير القرآنية قابلة للتأويل بحقٍّ، وبدون أدنى تكلُّفٍ أو افتراضِ تَوَافُقٍ بين الدِّين والعلم. القرآنُ كمصحفٍ يُتَصَفَّح كمجموع حروفٍ وكلماتٍ وعباراتٍ وثيقةٍ مادية كباقي الوثائق، لا اعتراضَ على إخضاعها لجميع أنواع النقد المعاصر.. ولا مانع كذلك من أنْ نُخضِع للنقد نفسِه كلَّ ما تولَّد عن القرآن في التاريخ أعمالًا وأقوالًا وأحكامًا.. لا ننسى أنَّ الأمر بطاعة الله ورسوله هو أمرٌ باتِّباع العقل والعدل) [15] . وبذلك (يُصبِح العلم هو أساس الإثبات أو النفي وليس الرواية) [16] ، ومقصود الحداثيين العرب من إعادة نقد السنة هو رفضها وردُّها لأدنى شبهةٍ أو هوىً في أنفسهم. ومن أوضح الأمثلة على رفض دعاة الحداثة لبعض الأحاديث الثابتة - بدعوى عرضها على العلم الطبيعي - ومنها: حديث الذبابة : عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً) [17] . وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فِي أَحَدِ جَنَاحَيِ الذُّبَابِ سُمٌّ، وَفِي الآخَرِ شِفَاءٌ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ [18] فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ، وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ) [19] . فقد ادَّعى الحداثيون العرب بأنَّ حديث الذبابة يُعارض العلم، وترفضه الأذواق العامة، ويُنافي الحضارة، وزعموا أنَّ العلم الحديث أثبت أنَّ الذباب من أهم انتشار الأمراض والأوبئة بين الناس، فكيف يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بغمسه في الشراب قبل إخراجه [20] ؟! وهذه المدرسة التشكيكية في الأحاديث النبوية قديمة قِدَمَ الحقِّ والباطل؛ فقد ذكر الخطابي رحمه الله أنه (قد تكلَّم في هذا الحديثِ بعضُ مَنْ لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذباب؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تُقدِّم جناح الداء، وتُؤخِّر جناح الشفاء، وما إرْبُها [21] إلى ذلك؟ قلت : وهذا سؤالُ جاهلٍ، أو متجاهل، فإنَّ الذي يجد نفسَه ونفوسَ عامة الحيوان قد جُمِعَ فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أنَّ الله سبحانه قد ألَّف بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قُوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها؛ لجدير أن لا يُنكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوانٍ واحد، وأنَّ الذي ألهَمَ النَّحلةَ أنْ تتَّخِذ البيت العجيب الصِّنعة، وأنْ تُعَسِّلَ فيه، وألهم الذَّرةَ أنْ تكتسب قُوتَها، وتدَّخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذُّبابة، وجعل لها الهداية إلى أنْ تُقدِّمَ جناحًا، وتؤخِّر جناحًا، لِمَا أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التَّعبد والامتحان الذي هو مضمار التَّكليف، وفي كلِّ شيءٍ عبرةٌ وحِكمة. وما يذَّكَّر إلاَّ أولوا الألباب) [22] . وقال ابن القيم رحمه الله أنه: (واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّيَّةً يدلُّ عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهي بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتَّقاه بسلاحه، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادةَ السُّمية المادةُ النافعة، فيزول ضررُها. وهذا طِبٌّ لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لِمَنْ جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق، وأنه مُؤَيَّد بوحي إلهي خارج عن القُوَى البَشَرية) [23] . التجارب العِلمية الحديثة تُكذِّب ادِّعاء الحداثيين: أثبت العلم الحديث - من الناحيتين العلمية والتطبيقية - خلاف ما يدَّعيه الحداثيون، والواقع العملي أيضًا يُكذِّب ما يدَّعيه هؤلاء: أ- فمن الناحية العلمية : ثبت أنَّ الذباب يحمل الجراثيم والبكتيريا والفيروسات وغيرها من أنواع الميكروبات؛ لأنه يتغذَّى على النُّفايات وما بها من مواد عضوية متعفِّنة مليئة ببلايين البكتيريا وأضدادها، والفيروسات وأضدادها، وغير ذلك من الجراثيم وأضدادها؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد أعطى هذه الحشرة الضئيلة القُدرة على أنْ تحمل الجرثومة على جناح، وأضدادها على الجناح الآخَر، وإلاَّ لفنيت مجموعة حشرات الذباب فناءً تامًّا، وهي ممثلة اليوم بسبعةٍ وثمانين ألف نوعٍ (87000)، وفي بقائها بهذه الأنواع الممثَّلة ببلايين الأفراد خير دليلٍ على ذلك [24] . ب- ومن الناحية التطبيقية : ذكر ابن حجر رحمه الله أنه - في شرحه للحديث - بأنَّ بعض العلماء تأمَّل الذُّباب فوجده يتَّقي بجناحه الأيسر، فعرف أنَّ الأيمن هو الذي فيه الشفاء [25] . وقد (قامت مجموعاتٌ من الباحثين المسلمين في كلٍّ من مصر والمملكة العربية السعودية بإجراء عدد من التجارب على مجموعة من الآنية مكشوفة للذباب؛ كي يقع عليها، وفي بعضها غمس الذباب، وفي مثيلاتها لم يُغمس. وعند الفحص المجهري اتَّضح أنَّ الشراب الذي لم يُغمس فيه الذباب قد أصبح مليئًا بالجراثيم والميكروبات، والذي غُمس فيه الذباب خالٍ تقريبًا من ذلك. وجاء في كتاب "الإصابة في صحة حديث الذبابة" لمؤلِّفه "د. خليل إبراهيم ملا خاطر" أنَّ مجموعةً من علماء الأحياء بجامعتي "الملك عبد العزيز والقاهرة" قد قاموا بدراسات مختبرية لتحقيق الفرق بين تأثير السقوط والغمس للذبابة المنزلية على تلوث الماء والحليب والأغذية بالميكروبات والجراثيم، وقد ثبت بالتجارب التي كُرِّرت لعشرات المرَّات أنَّ غمس الذباب في السوائل؛ من مثل الماء والحليب والعصائر وفي غيرها من المطعومات قد أدَّى إلى انخفاضٍ واضح في كَمِّ الميكروبات عنه في مثيلاتها التي تُرك الذباب يسقط عليها ثم يُغادرها، أو انتُزِع منها دون أنْ يُغمس فيها؛ مما يوحي بأنَّ غمس الذباب في السوائل المدروسة قد أدَّى إلى إبراز عوامل مضادَّة للميكروبات) [26] . ج- ومن الناحية الواقعية والعملية : لم يأت الأمر بشرب الماء أو الشراب الذي وقع فيه الذباب، ولكن يُوجَّه المسلم الذي وقع الذباب في إنائه ورغب بشرب ما فيه، ولا سيما إذا كان ذلك في حالات الضرورة القصوى؛ كأنْ يكون في وسط الصحراء ولا يملك غير هذا الماء، وأوشك على الهلاك إذا فقده، فدرءًا للخطرين: خطر الهلاك من الجوع والعطش أو خطر الهلاك مِمَّا أدخل الذباب في شرابه من جراثيم وبكتيريا وفيروسات، فإنَّ الحديث يُشير إلى غمس الذبابة في الشراب حتى يُتَّقى بمقومات الشفاء في أحد جناحي الذبابة ما في جناحها الآخَر من داء، والذي لا تقبل نفسُه ذلك فلا يوجد ما يضطره إليه أو يُجبره عليه، ولا يجوز له أو لغيره أن ينطلق إلى التشكيك في صحة الحديث لمجرَّد أنَّ نفسَه عافت شرابًا غُمِسَ فيه الذباب، وهو معروف بقذارته وحمله للكثير من مسبِّبات الأمراض [27] . • ومن الأمثلة على رفض دعاة الحداثة لبعض الأحاديث الثابتة - بدعوى عرضها على العلم الطبيعي - رفض بعضهم لقصة النَّفر الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار في جبل، فأغلق بابه بصخرة، ثم فُتح الباب بدعاء كلٍّ واحدٍ منهم بعمل صالح أخلص فيه لله تعالى، ففرَّج الله عنهم فخرجوا، بحجَّة أن الحديث يحتاج إلى إثباتٍ من علماء الآثار لقبوله. والشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ) [28] . وفي رواية: (انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا؛ لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ) [29] . فقد ادَّعى بعض الحداثيين، قائلًا: (أمَّا قصة فتح الباب في حَجَرٍ صلدٍ في جنب الغار فهي طويلة الصياغة، القصد منها الإيحاء بالتَّعجيز، فالحَجَر صلدًا وليس رخوًا، والباب المفتوح في جنب الغار وليس في واجهته.. أمَّا كون الباب موجودًا من قبل فهذا ما يحتاج إلى علماء الآثار، وليس إلى مُجرَّد رواية الراوي، والدليل العقلي المروي بأنه لو كان موجودًا يومئذٍ لما أمكن الاختفاء فيه؛ يكشف عن الرغبة في الإقناع العقلي مُتجاوزًا البحث الأثري) [30] . إذًا؛ الرواية مرفوضة عند الحداثيين حتى يتم تحديد هذه المنطقة التي فيها هذا الغار، ثم يقوم علماء الآثار بتفحُّص الموقع وإجراء البحوث الأثرية عليه، حتى يتأكَّدوا من وجوده، ومن ثم يُقبل الحديث أو يُرفض بعد هذه النتيجة. ودعاة الحداثة حينما ينتقدون هذه الأحاديث ويردونها ليس لكونها تُخالف الحقائق العلمية ابتداءً؛ وإنما لكونها تُخالِفُ منهجًا فكريًا تبنَّوه؛ يقتضي رفض الدُّعاء، ورفض التعلُّق بالغيبيات، وإنما العمل عندهم على الماديات المُتمثِّلة في أفعال البشر، وهؤلاء الحداثيون دائمًا ما يُوجِّهون الاتهامات الباطلة لأهل الحديث خاصة والمتمسِّكين بالمنهج الإسلامي عامة بأنهم سُذَّج، سريعو الاعتقاد بالحقائق، والإيمان بالمغيَّبات، ليسوا بعقلانيين ولا واقعيين، ويتَّهمون مَنهجَهم المُسْتَقَى من منهج السلف الصالح بأنه (يعتنق بشكلٍ عفوي أو بدون أيِّ تساؤلٍ العقائدَ الإيمانية الواردة في النصوص الدينية) [31] ، منهج يقع خارج الواقع والتاريخ، ويقف على الماضي، لا يعيش الواقع، ولا يُقدِّم شيئًا؛ بل (تداعى واهترأ وأصبح عاجزًا عن تلبية ومواجهة المُتغَيَّرات المحلية والعالمية) [32] ، و(ألقى مرساته في مستنقع التخلُّف بعد أنْ كان طرد خارج أسواره الفلسفةَ أولًا ثم عِلْمَ الكلام) [33] . والخلاصة : أنَّ مقصود دعاة الحداثة من عرض الأحاديث النبوية على العلم الطبيعي هو تحكيم (العقول البشرية القاصرة) في (الوحي الرباني)؛ كي ينتفي عنها صفة القداسة من النفوس، ومن ثم يتم إقصاؤها عن حياة الناس وواقعهم، ولا ريب أنَّ الأحاديث الصحيحة الثابتة لا تتعارض البتة مع مُعطيات العلم الحديث، ثم إنَّ العلم الطبيعي الظني لا يرتقي أن يكون حَكَمًا على السنة النبوية، بل العكس هو الصحيح [34] . وهذه القضية مرتبطة بقضيةٍ أسمى وأعلى، وهي قضية الإيمان، فالإيمان هنا هو الأساس للتَّصديق. فإذا كان النَّص ثابتًا بما لا مجال معه للشَّك في ثبوته، فقد وجب على المُسلِم قبولُه والإيمانُ به وإنْ خالف العقلَ أو الواقعَ ظاهريًّا، إذ أنه لا يُمكن على الإطلاق أن يُخالف نصٌّ حديثيٌّ العقلَ أو العلمَ أو الواقعَ، فما دام ثبت فلابد أنْ يُوافِق ويُطابِق. وغاية ما هنالك : إمَّا أنَّ العلم لم يصل إلى هذا الاكتشاف وربما تُثبِت السُّنون صدقه بالعلم نفسِه الذي يُحاولون نفيَه به، وإمَّا أنَّ العقل لم يستوعب ما في الحديث ولم يُدرك معناه وحقيقته، وذلك كأحاديث الغيبيَّات كلِّها، فما ثبت منها لابد أن يُصدَّق؛ لأنَّ الذي نطق به وقاله هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعدم استيعاب العقل لها ليس دليلًا على ردِّها. فهل كان العقل من مائة عامٍ مضت أو يزيد يستوعب أنْ يطير الناس في السماء أو يصعدون في الفضاء أو يُشاهَدون عبر التلفاز في أيِّ مكان في العالم. إنَّ العقل له حدوده ومجالاته، وعليه ألاَّ يدخل فيما لا مجال له فيه، وإلاَّ لَخَسِرَ العقلُ وخسر صاحبُه، حكمة الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ صنعه. يُتبع. [1] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 135). [2] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 274). [3] نقد الخطاب الديني، (ص 110). [4] المصدر نفسه، (ص 102). [5] رواه البخاري، (3/ 1139)، (ح 5512)؛ ومسلم، (2/ 886)، (ح 5414). [6] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 147). [7] رواه البخاري، (2/ 646)، (ح 3355). [8] انظر: فجر الإسلام، (ص 340)؛ التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، (4/ 89). [9] تفنيد دعوى حد الردة ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، (ص 129). [10] نحو فقه جديد، (ص 3/ 267). [11] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 78). [12] (اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ): أي: استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانَهم، من قولهم: أرضٌ وخيمةٌ إذا لم توافق ساكِنَها، فإنهم لَمَّا استوخموا طلبوا الخروج؛ لأنَّ المدينة لم تلائمهم، فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج. انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، (26/ 38). [13] رواه البخاري، (2/ 835)، (ح 4241). [14] الإيمان والمعرفة والفلسفة، د. محمد حسين هيكل (ص 23). [15] السنة والإصلاح، (ص 125). [16] التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، (4/ 148). [17] رواه البخاري، (2/ 646)، (ح 3355). [18] (فامْقُلُوهُ): أي: اغْمِسُوه؛ ليُخْرِجَ الدَّواءَ، كما أَخْرَجَ الداءَ. يقال: مَقَلْتُ الشيءَ أَمْقُلُه مَقْلًا إذا غَمَسْتَه في الماء ونحوِه. ويقال للرَّجلين: هما يَتمَاقلان؛ إذا تغاطَّا في الماء. انظر: غريب الحديث، لابن الجوزي (2/ 368)؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، (4/ 768)؛ زاد المعاد، (4/ 112). [19] رواه ابن ماجه، (1/ 508)، (ح 3633). وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه)، (2/ 264)، (ح 2823). [20] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 199). [21] أي: ما حاجتها لذلك. [22] معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود للمنذري، وتهذيب ابن القيم (5/ 341). [23] زاد المعاد، (4/ 112). [24] انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية، أ. د. زغلول النجار (ص 412). [25] انظر: فتح الباري، (10/ 251). [26] الإعجاز العلمي في السنة النبوية، (ص 413-414). [27] انظر: المصدر نفسه، (ص 411). [28] رواه البخاري، (1/ 420)، (ح 2316). [29] رواه البخاري، (1/ 435)، (ح 2375). [30] التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، (4/ 159). [31] نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، محمد أركون، ترجمة: هشام صالح (ص 349). [32] التراث وقضايا العصر، (ص 12). [33] مصائر الفلسفة بين المسحية والإسلام، جورج طرابيشي (ص 122). [34] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 298).
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (التغريب) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب مما يُعَدُّ امتدادًا لمحدد سابق حول الحقوق سَعيُ الغرب إلى تغريب المسلمين وغير المسلمين،وهناك وقفات مهمة حول توكيد الغرب على تبني الآخرين أفكاره ونظراته إلى الحياة والإنسان، فليس من المناسب أن ينصب اللوم كله على الغرب في دعوته هذه؛ لأنه يعبر عن موقف يقوم على أنه يرى مصلحته في أن يقود العالم ويهيمن عليه، ولن يقود هذا العالم إن لم يتمكن من صهر مفهومات العالم في بوتقة غربية؛ ذلك أن في المفهومات الأخرى من الرغبة في الاستقلالية والتميز والخصوصية الثقافية ما يحول دون تحقيق هذه الرغبة [1] . لا تزال كثير من الأمم الشرقية، كالصينية واليابانية والإسلامية، تتوجس من التبعية الثقافية للغرب، رغم أن أعدادًا من أبنائها نهلوا من المعرفة الغربية وعادوا إلى بلادهم يسهمون في بنائها، مع الحذر الشديد من التأثر بالأفكار التي قد يجلبونها معهم،وقد سبق القول: إن موريس بوكاي في كتابه المشهور "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" قد حذر من الوقوع في هذا التأثير، وركز على أولئك الطلبة الذين لا يدرسون العلوم فحسب، بل يدرسون الثقافة، ويعايشون مجتمعًا قام على النفرة بين العلم والدين [2] . تؤكد آمال قرامي في معرض حديثها عن أسباب ارتداد بعض الطلبة المسلمين الذين يتعرضون للتنصير وللأفكار التي فصلت بين العلم والدين بقولها: "ولا مناص من القول: إن البعثات الدراسية إلى الخارج يسرت عملية اندماج المسلم في المدنية الغربية، ومكنته من الاطلاع على ديانات مختلفة وحضارات متعددة، وأكسبته شيئًا من أساليب الحياة الغربية، ومن الاتجاه الغربي في التفكير والعلم والسلوك وما إلى ذلك،ومن ثمة صار "الارتداد" ممكنًا، خاصة إذا علمنا أن المبشرين كانوا حريصين على تتبع أحوال هؤلاء الطلبة، واستغلال حالة الوحدة والعَوَز التي يعاني منها أكثرهم، لفائدة تحقيق أغراض التبشير" [3] . أدى هذا الجو التغريبي إلى زعم الغرب أنه لم يتطور ويصل إلى ما وصل إليه إلا عندما تخلى عن الدين، بالتالي لم يتأخر المسلمون ويصلوا إلى ما وصلوا إليه من التخلف والتراجع الحضاري إلا بإصرارهم على التمسك بالإسلام [4] . هذا المنطق العلماني الغربي يتنافى مع المنطق التنصيري الذي يتفق معه في الجزء الثاني من هذا الادعاء، وهو أن المسلمين يتقهقرون بسبب تمسكهم بدينهم، بينما يتقدم الغرب عند المنصرين بسبب تمسكه بنصرانيته،إلا أن هذه الجدلية التنصيرية واهية لدى المسلمين؛ لِما يرونه من واقع عزل الدين عن الحياة. تكمن الخطورة في جدلية العلمانية الغربية التي تصر على إبعاد الدين، وأنه سبب مباشر في الحد من التقدم والحضارة والنهضة والتنمية والتطور، وغيرها من المصطلحات التي تسعى إليها كل الأمم، بل وتدعيها بعض الأمم [5] . وهذا شكلٌ من أشكال التغريب الفكري الذي يُعَدُّ أخطرَ بكثير من التغريب الظاهري في الملبس والمأكل، وإن كان هذا في النهاية يجر إلى ذاك وأيِّ سلوك يأتي على حساب السلوك الأصيل، ويكون مستعارًا من ثقافة أخرى ينتج عنه في النهاية تجاهل الأصالة، واللجوء إلى الوقوع في السلوك والأفكار. يقول مالك بن نبي في شروط النهضة: "لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبنِّي منتجات حضارة ما؛ فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية من قِبل كافة دول العالم لم يجعلها تكسب حضارة أو قيمًا، فالحضارة ليست تكديس منتجات، بل هي فكرٌ ومُثُلٌ وقِيمٌ، لا بد من كسبها أو إنتاجها" [6] ،ويعلق نعمان السامرائي على هذا بقوله: "وهذه قضية غائبة عن "المتغربة"؛ فمن يشتري منتجات حضارة أخرى، يتحضَّر شكلًا لا حقيقة، وهو لا يزيد عن كونه مستهلِكَ حضارةٍ، لا منتج حضارة" [7] . وإذا كنا في مسألة التغريب لا نحمِّل الغرب كل اللوم، فإننا نحن نتحمل كثيرًا من اللوم، عندما نرى بعض بني قومنا وبعض مؤسساتنا تتبنى أفكارًا غريبة في نظرتها للحياة،قد يعني هذا أن المسلمين أنفسهم لم يوفقوا في تقديم الإسلام تقديمًا حضاريًّا لا يتنافى مع معطيات الحضارة،ألا ترون أن لدينا بعضًا من "المجتهدين" الذي يتوقفون عند كل منجز حضاري، وربما رفضوه في البداية ثم عادوا فقبلوه وصاروا هم السباقين إلى الإقبال عليه؟ وذلك من منطلق أصولي خاطئ يقوم على فكرة أن الأصل في الأشياء المنع! وألا ترون أننا نشهد وقفات طويلة حول بعض الممارسات الحضارية التي لم نعهدها من قبل، فنختلف عندها من مبيحٍ ومن محرم لها؛ لما يترتب عليها من مفاسد، مع أن الأصل عندنا في الأشياء - لا سيما المعاملات - الإباحة؟ لعل هذا المنحى، وأمثلة كثيرة مثله، سببٌ من أسباب عزوف بعض أبنائنا ثم مؤسساتنا عن الأصالة والتأصيل، والجنوح إلى الغرب في النظر إلى معطيات الحضارة، وبالتالي الوقوع في شَرَك التغريب والحداثة بمفهومها الفكري الذي يمتد من المرء نفسه إلى المجتمع من خلال وقوف هذا الشخص أو ذاك في وجه التأصيل، والنظر إلى أصحابه على أنهم متخلفون، حتى أضحى مصطلح الرجعية من تلك المصطلحات التي يقصد بها الرجوع إلى الأصالة والتأصيل، ولكن من منظور سلبي يطلب الحذر منه وتجاوزه [8] . حملات التغريب ليست عفوية، بل هي مقصودة،وهناك شواهد من أقوال وممارسات تؤيد رغبة الغرب في تغريب العالم، هذا لأن الثقافة الغربية ليست بالضرورة مقبولة لدى أصحاب الثقافات الأخر [9] لأنها تتصادم مع الأعراق والأعراف والتقاليد والعادات والمكتسبات الثقافية الأخرى، بغض النظر عن مصدر هذه الثقافات. مع هذا فقد وُجد في المجتمعات غير الغربية، ومنها المجتمعات الإسلامية، ممن اصطلحنا على تسميتهم بالتغريبيين، تلك الفئة التي أسهمت في التأثير على العلاقة بين الشرق والغرب بتبنِّيها الأفكار الغربية، ودعوتها إليها،هؤلاء الذين أضحوا مجال استغراب من الغربيين أنفسهم؛ إذ لم يتوقعوا منهم أن يكونوا بهذه الحدة والقوة والاندفاعية في الدعوة إلى تبني الأفكار الغربية، بحيث أضحوا غربيين أكثر من الغربيين أنفسهم. يمكن أن تكون فكرة الدعوة إلى التغريب فكرة مقبولة، لو لم يقصد من ورائها أن تحل محل المبادئ والقيم والمُثل المستمدة من الثقافة القائمة على الشرع؛ فإنَّ رَفْضَ التغريب موقف مبرر، له ما يسوغه عندما تكرر الدعوة للرجوع إلى الأصل والدعوة إليه وإلى استفادة الآخرين منه. هناك نماذج متعددة لأشكال التغريب تعود في جذورها إلى نهايات الخلافة العثماني [10] ، وتعرج على عصر النهضة العربية التي انطلقت من كل من مصر والشام، لا سيما لبنان بشكل أوضح بالنسبة للشام، وربطها بالنهضة المصرية،وهناك أسماء معروفة لها جهودها في هذا المسار، وكانت لها إسهاماتها الفكرية في مجالات الفكر والسياسة والثقافة والأدب،ولا يسمح المجال في هذه الوقفة للتعرض لبعض الأسماء اللامعة في الدعوة إلى التغريب، ومن تبعهم مما يدخل في مفهوم التلمذة عليهم، وقد يبز التلميذ أستاذه،مع العلم أن المجال هنا هو طرح الأفكار من دون الغوص في التفصيلات، إلا إذا دعا المقام لذلك. تقف الدعوة إلى التغريب حائلًا من عوائق قيام علاقة قوية بين الشرق والغرب،ويمكن أن يخف هذا الحائل إذا ما خفَّت الدعوة إلى التغريب من بعض الشرقيين أنفسهم،ويمكن أن يتم ذلك إذا ما تولد الاقتناع التام القوي بالمنبع الذي يملأ الفراغ الفكري عند بعض الشرقيين؛ولهذا الهدف خطوات طويلة المدى، ولكنها دائمًا تبدأ بالخطوة الأولى التي يظهر أنها قد بدأت. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1427هـ/ 2006م - ص 312. [2] انظر: موريس بوكاي ، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ، بالإنجليزية - مرجع سابق - ص 253. [3] انظر: آمال قرامي ، قضية الردة في الفكر الإسلامي الحديث - تونس: دار الجنوب للنشر، 1996م - ص 49. [4] انظر: رضوان السيد ، مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين في الأزمنة الحديثة - أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003م - ص 9 ، (سلسلة: دراسات إستراتيجية: 89). [5] انظر في مسألة الإسلام والعلمانية الفصل الحادي عشر من: عادل ظاهر ، الأسس الفلسفية للعلمانية - ط 2 - بيروت: دار الساقي، 1998م - ص 327 - 359. [6] انظر: مالك بن نبي ، شروط النهضة - دمشق: دار الفكر، 1979م - ص 42. [7] انظر: نعمان عبدالرزاق السامرائي ، نحن والصديق اللدود: دراسة تحليلية للفكر الغربي وموقفه من الإسلام - مرجع سابق - ص 98 - 99. [8] انظر: محمد سليم قلالة ، التغريب في الفكر والسياسة والاقتصاد - دمشق: دار الفكر، 1408هـ/ 1988م - ص 240. [9] انظر: أحمد عبدالوهاب ، التغريب: طوفان من الغرب - القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1411هـ/ 1990م - ص 48. [10] انظر: التغريب - ص 166 - 171 - في: نعمان عبدالرزاق السامرائي ، نحن والصديق اللدود: دراسة تحليلية للفكر الغربي وموقفه من الإسلام - مرجع سابق - ص 185.
رأس المال الثقافي استرتيجيات النجاح في الحياة تبدأ من الجامعة لعبد الرحمن الشقير صدر حديثًا كتاب " رأس المال الثقافي، استرتيجيات النجاح في الحياة تبدأ من الجامعة "، تأليف د. " عبد الرحمن بن عبد الله الشقير "، نشر: " دار ابن النديم للنشر والتوزيع "، و" دار الروافد الثقافية- ناشرون ". ويهدف هذا الكتاب لتأصيل أهمية تطوير الإنسان لذاته سلوكيًا من مجموع نظريات ومفاهيم "بيير بورديو" أحد أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين، والتي سعى من خلالها إلى تفكيك الحياة اليومية، وتحليل سلوك الناس العاديين، بمفاهيم جديدة مثل: رأس المال الرمزي، و"الهايبتوس"، وإعادة الإنتاج والحس العملي. ونجد أن ثقافة الانسان قد أصبحت بمفهومها الواسع في حياته اليومية هي رأس مال قابل للاستثمار والادخار ومراكمة الأرباح، وهي بوابة النجاح أو الفشل. وذلك من أمثلة: الالتزام بقواعد السلوك وآدابه، وأسلوب التحدث واللبس والتعامل مع الآخرين ومع ظروف الحياة، لذا كانت تنمية هذه الثقافة والاستفادة من مقوماتها هي المعيار الرئيسي لأي قراءة اجتماعية لمصادر الوعي المحلي في الحياة اليومية. وقد ركز الكاتب في دراسته لهذه النظريات المعاصرة التربوية على تطبيقها على الشباب السعودي في ثلاث جامعات سعودية هي: جامعة الملك سعود، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة الأمير سلطان، حيث توصل إلى أن الاستهلاك الثقافي هو البديل الحقيقي عن الاستهلاك المظهري وثقافة الترف. والمؤلف هو د. "عبد الرحمن الشقير" مدير مركز البحوث الأمنية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وعضو مجلس جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ومستشار رئيس الجامعة، وأستاذ علم الاجتماع المساعد في كلية علم الجريمة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية. حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع (علم اجتماع المعرفة) من جامعة الملك سعود. وعنوان البحث "تمثلات رأس المال الثقافي وممارساته في الحياة اليومية الجامعية". حاصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع من جامعة الملك سعود. وعنوان بحثه للماجستير "موقف الشباب السعودي من قيم التحديث". من مؤلفاته: • (بنو زيد القبيلة القضاعية في حاضرة نجد). • تحقيق كتاب (الخبر العيان في تاريخ نجد) تأليف: خالد الفرج. • (سليمان بن عبد الله بن جبرين حياته وإمارته). • (ورق اللعب: تاريخه ورموزه وحكمه). • تحقيق كتاب (قلائد النحرين في تاريخ البحرين) تأليف: ناصر بن جوهر بن مبارك الخيري. • (طباعة الكتب ووقفها عند الملك عبد العزيز: دراسة تحليلية وقائمة ببليوجرافية). صدر عن دارة الملك عبد العزيز عام 2003م. • (صالح بن عبد العزيز الراجحي: إدارة الأعمال بالفطرة) [بالاشتراك مع محمد بن صالح الراجحي]. • (النخب النسائية الإسلامية في السعودية 1744 - 2017). صدر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث عام 2017م. • تحقيق كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر). صدر عن دار جداول عام 2019م. • (الذاكرة الشعبية) قراءة اجتماعية لمصادر الوعي التاريخي المحلي والمنتج الثقافي في الحياة اليومية للمجتمع السعودي. • (رأس المال الثقافي: استراتيجيات النجاح في الحياة تبدأ من الجامعة).
عمرو بن العاص .. الأمير المجاهد في سِفْرِهِ النفيس "عمرو بن العاص الأمير المجاهد"، يعيش الكاتب د. منير الغضبان في أجواء صادقة يصف خلالها سيرة هذا الطود الشامخ من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ويتصدر الكتاب بتلك المقولة الواقعية التي تلخص حجم المؤامرة التاريخية على هذا الأمير المجاهد؛ حيث يقول: ما إن تذكر عمرًا حتى يتبادر إلى الناس ذلك الخادع المحتال الذي خدع أبا موسى الأشعريَّ، ونقض اتفاقه معه، وأبقى بمعاوية وخلع عليًّا، وبذلك ينصرف عامة الناس عن ذكر عمرو بن العاص. فهل يجوز لمثل هذه الشخصية العظيمة أن تبقى غفلًا في التاريخ، لا يُعرَف عنها إلا المكر والخديعة؟! • قال عمر بن الخطاب عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا". وما قال هذا إلا لأن عمرًا من الوسامة والجمال والجسم الممتلئ والقامة المتسقة مثل أبيه العاص بن وائل؛ قال ذاخر المعافري: "قام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلًا ربعة قصير القامة، وافر الهامة، أدعج (أسود العينين)، أبلج (مضيء مشرق)، عليه ثياب موشية كأن بها العقيان (الذهب الخالص)، تأتلق عليه، وعليه حلة وعمامة وجُبَّة". • قال عثمان بن عفان: "إن عمرًا لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة". • قال الليث بن سعد: "قال عمرو بن العاص: ما كنت بشيء أتجر مني بالحرب". • وقال عمرو يصف موقعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في أمرٍ حَزَبَهُ منذ أسلمنا، وقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، لقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالدٍ كالعاتب". • ويقول الصديق لعمر رضي الله عنهما: "دَعْهُ؛ فإنما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا؛ لعلمه بالحرب". • قال ابن حجر في الإصابة عن يحيى بن بكير عن الليث: "تُوفِّي وهو ابن تسعين سنة، قلت: قد عاش بعد عمر عشرين سنة، وقال العجلي: عاش تسعًا وتسعين سنة، وكان عُمْرُ عمرَ ثلاثًا وستين، وقد ذكروا أنه كان يقول: أذكر ليلة وُلد عمر بن الخطاب؛ أخرجه البيهقي بسند منقطع، فكأن عمره لما وُلد عمر سبعَ سنين". • أبوه العاص بن وائل السهمي زعيم من زعماء قريش في الجاهلية، وقاد بني سهم في حرب الفِجار، وكان عمر عمرٍو عشرَ سنين، أما أمه فكانت من سبايا العرب. • وذكر أنه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة تلقب النابغة من بني عنزة، أصابتها رماح العرب، فبِيعت بعُكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت، فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخُذْهُ. • إسلامه كان سنة ثمانٍ للهجرة مع عثمان بن طلحة (هو حاجب الكعبة)، ولما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَمَتْكُم مكة بأفلاذ أكبادها)). • قيل لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ فقال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّمٌ وسِنٌّ توازي حُلُومهم الجبال، ما سلكوا فجًّا فتبعناهم إلا وجدناه سهلًا، فلما أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم، أنكرنا معهم، ولم نفكر في أمرنا وقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا، نظرنا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتدبرنا، فإذا الأمر بيِّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك في إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم على أمرهم، فبعثوا إليَّ فتًى منهم، فقال: أبا عبدالله، إن قومك قد ظنوا بك الميل إلى محمد، فقلت له: يا ابن أخي، إن كنت تحب أن تعلم ما عندي، فموعدك الظل من حراء، فالتقينا هناك، فقلت: إني أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: اللهم بل نحن، فقلت: أفنحن أوسع معاشًا وأعظم ملكًا أم فارس والروم؟ قال: بل فارس والروم، قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا، وهم فيها أكثر منا أمرًا، قد وقع في نفسي أن ما يقول محمدٌ من البعث بعد الموت حقٌّ ليُجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي، ولا خير في التمادي في الباطل. لقد كان هذا الأمر بالتأكيد بعد الخندق، وبعد التخلف عن الحديبية، وبعد الاعتزال في أرضه ومزرعته بالوهط، التي بذل جُلَّ ماله في اقتنائها وتحسينها. • وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن أسلم قال: قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: لقد عجبت لك في ذهنك وعقلك، كيف لم تكن من المهاجرين الأولين؟ فقال له عمرو: وما أعجبك يا عمر من رجل قلبه بيد غيره لا يستقيم - أو قال: لا يستطيع - التخلص منه إلا إلى ما أراد الذي بيده، فقال عمر: صدقت. • قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو ... يكنى أبا عبدالله، أمه النابغة من بني عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كان يخضب بالسواد، خرج إلى الحبشة إلى النجاشي بعد الأحزاب فأسلم عنده بالحبشة، فأخذه أصحابه بالحبشة فغموه، فأفلت منهم مجردًا ليس عليه قشرة، فأظهر للنجاشي إسلامه، فاسترجع من أصحابه جميع ماله ورده عليه، فقدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة مهاجرين المدينةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد فبايع، ثم تقدم هو فبايعه، على أن يغفر له ما كان قبله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الهجرة والإسلام يجُبُّ ما قبله)). • أخرج أحمد وغيره من حديث عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فرأيت سالمًا احتبى سيفه فجلس في المسجد، فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني وسالمًا وأتى الناس، فقال: ((أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟))، وهذا إسناد صحيح، وهذه مرة يشهد له صلى الله عليه وسلم بالإيمان. • روى أحمد من حديث علقمة بن رمثة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص إلى البحرين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وخرجنا معه، فنعَس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يرحم الله عمرًا، قال: فتذاكرنا كل من اسمه عمرو، قال: فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يرحم الله عمرًا، قال: ثم نعس الثالثة، فاستيقظ، فقال: يرحم الله عمرًا، فقلنا: يا رسول الله، من عمرو هذا؟ قال: عمرو بن العاص، قلنا: وما شأنه؟ قال: كنت إذا ندبت الناس إلى الصدقة، جاء فأجزل منها، فأقول: يا عمرو، أنى لك هذا؟ قال: من عند الله، وصدق عمرو، إن له عند الله خيرًا كثيرًا)). • روى أحمد عن ابن أبي مليكة، قال طلحة بن عبيدالله: ((لا أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أني سمعته يقول: إن عمرو بن العاص رضي الله عنه من صالحي قريش))، قال وزاد عبدالجبار بن ورد عن ابن أبي مليكة عن طلحة قال: ((نعم أهل البيت عبدالله، وأبو عبدالله، وأم عبدالله)). • وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابنا العاص مؤمنان: عمرو، وهشام))، وهذه مرة ثانية يشهد له صلى الله عليه وسلم بالإيمان. وهشام كان قد سبق عمرًا بالإسلام، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد باليرموك، لكن عمرًا رضي الله عنه لنفاسة معدِنِه لحِق بأخيه، وإن كان دائمًا يفضِّل أخاه عليه؛ فعن محمد بن الأسود بن خلف قال: "كنا جلوسًا في الحِجْرِ في أناس من قريش إذ قيل: قدم الليلة عمرو بن العاص، قال: فما أكثرنا أن دخل علينا فمددنا إليه أبصارنا، فطاف ثم صلى في الحجر ركعتين، وقال: أقرصتموني؟ قلنا: ما ذكرناك إلا بخير، ذكرناك وهشام بن العاص فقلنا: أيهما أفضل؟ قال بعضهم: هذا، وقال بعضنا: هشام، قال: أنا أخبركم عن ذلك، أسلمنا وأحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصحناه، ثم ذكر يوم اليرموك، فقال: أخذت بعمود الفسطاط ثم اغتسلت وتحنطت، ثم تكفنت، فعرضنا أنفسنا على الله عز وجل، فقبِله؛ فهو خير مني؛ يقولها ثلاثًا". وفي رواية أخرى يتحدث عمرو عن فضائل أخيه فيقول: "أسلم قبلي، وأمة بنت هاشم بن المغيرة وأمي سبية، وكان أحب إلى أبيه مني، وتعرفون فِراسة الوالد". • وروى أحمد عن عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص)). • قال عنه الذهبي: "عمرو بن العاص بن وائل، الإمام أبو عبدالله، ويقال أبو محمد السهمي، داهية قريش، ورجل العالم، ومن يُضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم". • روى مجالد عن الشعبي أنه قال: "دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير". • عن شعيب بن يعقوب قال: "اجتمع معاوية وعمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: من الناس؟ قال: أنا وأنت ومغيرة وزياد، قال: وكيف ذاك؟ قال: أما أنت فللتأنِّي، وأما أنا فللبديهة، وأما مغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير، قال له معاوية: أما ذانك فقد غابا، فهاتِ قولك أنا للبديهة، وأما أنا فللأناة فهات بديهتك، قال: وتريد ذاك؟ قال: نعم، قال: فأخرج مَن عندك، فأمرهم فخرجوا حتى لم يبقَ في البيت غيرهما، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أُسارُّك، قال: فأدنى رأسه منه، قال: هذا من ذاك ومن معنا في البيت حتى أسارك. • ويتجاوز عمرو رضي الله عنه بيئته وقومه العرب لينازل دهاة العالم؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم وجَّهه لفتح فلسطين، وكان فيها داهيتها الرهيب "الأرطبون"، وكان الأرطبون أدهى الروم، وأبعدها غورًا، وأنكاها فعلًا، وقد كان وضع في الرملة جندًا عظيمًا، وبإيلياء جندًا عظيمًا، وكتب عمرو إلى عمرَ بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فنظروا عما تنفرج. ونفذ عمرو خدعته بالأرطبون؛ حيث تنكر باسم أحد جنوده رسولًا إليه، وأدرك الأرطبون بدهائه أن الذي بين يديه عمرو، أو من يثق به عمرو، فبيَّت قتله، وتمكَّن عمرو من النجاة من الأرطبون بحيلته العجيبة حين أوهمه أنه سيأتي بعشر رجال مثله، وعندما بلغت الحيلة الأرطبون، قال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق، فبلغت عمرَ، فقال: غلبه عمرو، لله دَرُّ عمرو. • ورُوي أن عمرو بن العاص دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو على مائدته جاثيًا على ركبتيه، وأصحابه كلهم على تلك الحال، وليس في الجفنة فضل لأحد يجلس، فسلم عمرو على عمرَ، فردَّ عليه السلام، قال: عمرو بن العاص؟ قال: نعم، فأدخل عمر يده في الثريد فملأها ثريدًا، ثم ناولها عمرو بن العاص، فقال: خذ هذا، فجلس عمرو، وجعل الثريد في يده اليسرى، ويأكل باليمنى، ووفد أهل مصر ينظرون إليه، فلما خرجوا، قال الوفد لعمرو: أي شيء صنعت؟! فقال عمرو: إنه والله لقد علِم أني بما قدمت به من مصر لغنيٌّ عن الثريد الذي ناولني، ولكن أراد أن يختبرني، فلو لم أقبلها للقيت شرًّا. • قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي هذه السنة – أي: السنة العاشرة - أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بعد رجوعه من الحج لأيام بقين من ذي الحجة إلى جيفر وعبد ابني الجلندي بعمان يدعوهما إلى الإسلام. وكتب معه كتابًا إليهما وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدَّم بالسر والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك، فمكثت أيامًا ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففض خاتمه وقرأه، حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه، إلا أني رأيت أخاه أرق منه. فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلًا ما في يدي، قلت: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، ولم أزَلْ مقيمًا بينهم حتى بلغنا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. • عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة؛ رجل من قومه كان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس، قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه. قال: فطُعِنَ فمات، رحمه الله، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبًا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذًا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه، قال: فطُعِنَ ابنه عبدالرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه فطُعِن في راحته، رحمه الله، ولقد رأيته ينظر إليها، ثم يقبِّل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي فيك شيئًا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار فتجبَّلوا منه في الجبال، قال: فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شرٌّ من حماري هذا. قال: والله ما أرد عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه ثم خرج، وخرج الناس، فتفرقوا عنه ودفعه الله عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، من رأى عمرًا، فوالله ما كرهه. لقد كان عمرو رضي الله عنه يتحدث عن جانب غير الجانب الذي يتحدث عنه الأميران العظيمان: أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وكان يؤرقه الوقوف استسلامًا أمام امتداد الطاعون ونهشه في الأمة، وكان رأيُ عمرَ أمير المؤمنين مواجهة هذا الاستسلام؛ حيث أشار على أبي عبيدة بقوله: "سلام عليك؛ أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضًا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة"، ولكن إصابة أبي عبيدة رضي الله عنه حالت دون ذلك، وجاء عمرو رضي الله عنه لينطلق منطلقات أمير المؤمنين نفسها في دعوة الأمة إلى الصعود إلى الجبال هربًا من الطاعون، غير أن أبا وائل رضي الله عنه رأى قول عمرو يختلف عن سابقيه، فأغلظ القول لأميره، ولم يغضب الأمير الحليم العظيم، وقال لأخيه الجندي المتطاول: "والله ما أرد عليك ما تقول"؛ تعظيمًا للصحبة النبوية عنده، ولكن هذا لم يُثْنِهِ عن توجيه أوامره للأمة لصعود الجبال، وصرف الله البلاء عن الأمة بذلك. من أقوال عمرو رضي الله عنه: • قال عمرو بن العاص رضي الله عنه- لابنه: "يا بني، احفظ عني ما أوصيك به، إمامُ عدلٍ خيرٌ من مطرٍ وابل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (المنهاج): "ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطِّئون، ولا يكفِّرون، وسبب ذلك: أن أحدهم قد يظن أن ما ليس بكفر كفرًا. • "لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل". فالإمام العادل رأس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهو الذي تقوم به الدول وتحيا به الأمم. • قال عمرو بن العاص لمعاوية: "يا أمير المؤمنين، لا تكونن لشيءٍ من أمور رعيتك أشد تفقدًا منك لخصاصة الشريف حتى تعمل في سدها، ولطغيان اللئيم حتى تعمل في قمعه، واستوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان؛ فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع". • "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين". فالحكيم المجرب والقائد المحنك والإداري العبقري هو الذي تهجم عليه جموع الشر من كل جانب، فيعرف أيها يستقبل، وأيها يبعد، يعرف الأولويات الحقيقية للموقف فيقدم الأهم على المهم. • قيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: ما العقل؟ قال: "الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان". فلا عقل لمن لا يعتبر بما مضى، ويفقه التصرف المناسب الجديد على ما سبق، ومن لم تسقه فِراسته في الرجال والأشياء إلى أن تكون أقرب إلى الحقيقة، فليس من العقلاء الكبار بين قومه. • "موت ألف من العِلْيَةِ، أقل ضررًا من ارتفاع واحد من السفلة". فالخسارة بموت العظماء والفضلاء، أقل ضررًا من ارتفاع السفلة أهل اللؤم والخسة؛ لأنه يمرغ كرامة والأمة وشرفها بالوحل؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 204 - 207]. • قال عمرو بن العاص: "الرجال ثلاثة: فرجل تام، ونصف رجل، ولا شيء؛ فأما الرجل التام فالذي يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يمضِه حتى يستشير أهل الرأي والألباب، فإذا وافقوه حمِد الله وأمضى رأيه، فلا يزال ذلك مضيًّا موفقًا. والنصف رجل الذي يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يستشر فيه أحدًا، وقال: أي الناس كنت أطيعه أو أترك رأيي لرأيه، فيصيب ويخطئ. والذي لا شيء الذي لا دين ولا عقل، ولا يستشير فلا يزال ذلك مخطئًا مدبرًا". قال عمرو: "والله إني لأستشير في الأمر الذي أردته حتى لأستشير خدمي وما عليَّ بعرض عقولهم وأسمع". • عن علي بن عبدالله بن سفيان قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما السرور يا أبا عبدالله؟ قال: الغمرات ثم تنجلي. وقال عمرو بن العاص لجلسائه - وتذاكروا شيئًا من أمر الدنيا - أي شيء رأيتم أحسن؟ فذكروا النساء المرأة الحسنة، والدابة، فقال عمرو: وما شيء أحسن من غمرات ثم تنجلي. فالسرور عند أقزام الرجال وأنصافهم وأشباههم شيء، وعند عظماء الرجال وصانعي الأمم شيء آخر، فصانعو الأمم هم الذين يخوضون الأهوال ويتحدون الصعاب، ويتنقلون من معركة إلى معركة، ومن هَول إلى هولٍ، حتى يثبتوا وجود أمتهم تحت الشمس، وتكون لها دور الريادة في البشرية. إن السرور عند عمرو رضي الله عنه "غمرات ثم تنجلي"؛ لأن سرور العظماء بتحقيق أمجاد لأمتهم، لا بالتسكع على أبواب اللذات البهيمية. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدُالله اضطرارًا". • عن سفيان، قال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما ألذ الأشياء؟ قال: يا أمير المؤمنين مر أحداث قريش فليقوموا، فلما قاموا قال: إسقاط المروءة. يريد أن الرجل إذا لم يهمه مروءته، تلذَّذ وعمل ما يشتهي، ولم يلتفت إلى لوم لائم. • سأله معاوية: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم، وخبر صالح يأتيني من ضيعتي. • قال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ قال: من اقتصر على الإيجاز، وسلب الفضول. قال: فمن أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رادًّا لهواه. قال: فمن أسخى الناس؟ قال: من بذل دنياه في صلاح دينه. قال: فمن أشجع الناس؟ قال: من ردَّ جهله بحلمه. ومن أقواله أيضًا رضي الله عنه: • استراح من لا عقلَ له. • يا بني، زَلَّةُ الرجل عظم يُجبر، وزلة اللسان لا تُبقي ولا تذر، وفي رواية: زلة الرجل عظم يجبر وزلة النساء لا تبقي ولا تذر. • يا بني، مزاحمة الأحمق خير من مصافحته. • ليس الحليم من يحلم عمن يحلم عنه، ويجاهل من جاهله، إنما الحليم من يحلم على من يجور عليه، ومن يحلم عمن جاهله. • أربعة لا أمَلُّهم: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملتني، وامرأتي ما أحسنت عشرتي، وفي رواية: وإن الملال من سيئ الأخلاق. • قال عمرو لمعاوية رضي الله عنهما: "ما بطِنَ قوم إلا فقدوا عقولهم، ما قضيت عزيمة رجل مات بطينًا". • عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: "لا وجع إلا العين، ولا حزن إلا الدين". • عن علي بن رباح اللخمي، قال عمرو بن العاص: "انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذاة فيعيبها ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون في دابته الصَّعَر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها". • عن حيان بن أبي حيلة قال: قيل لعمرو بن العاص: ما المروءة؟ فقال: "يصلح الرجل ماله، ويحسن إلى إخوانه". • عن موسى بن علي قال: سمعت أبي قال: كنت مع عمرو بن العاص بالإسكندرية فانكسف القمر، فأصبحنا مع عمرو، فقال له رجل من القوم: لقد حدثنا شيطان هذه المدينة أن القمر سيًكسف من الليلة، فقال رجل ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: كذب عدو الله هذا، هم علموا ما في الأرض، فما علمهم ما في السماء؟ قال: فلم يرد عمرو عليه بذلك كثيرًا، ثم قال عمرو: إنما الغيب خمسة، فما سوى ذلك يعلمه قوم، ويجهله آخرون؛ ثم إنه قرأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]. • ثلاثة لا أناة فيهم: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وتزويج الكفء. • وكان رضي الله عنه خارجًا عن سلطان بطنه، فهو يرى الطعام وسيلة للعيش وليست لذة تُقصَد، فعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص كان يسرد الصوم، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل أكثر ما كان يصيب من السَّحَرِ، قال: وسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن فصلًا بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر)). • عن ربيعة بن لقيط قال: سمعت عمرو بن العاص وهو يصلي من الليل وهو يبكي ويقول: "اللهم إنك آتيت عمرًا مالًا، فإن كان أحب إليك أن تسلب عمرًا ماله ولا تعذبه بالنار، فاسلبه ماله، وإنك آتيت عمرًا ولدًا، فإن كان أحب إليك أن تُثكِلَ عمرًا ولده ولا تعذبه بالنار، فأثكله ولده، وإنك آتيت عمرًا سلطانًا، فإن كان أحب إليك أن تنزع منه سلطانه ولا تعذبه بالنار، فانزع منه سلطانه". ولهذا قال وهب بن منبه رحمه الله: قيام الليل يشرف به الوضيع ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمنين راحة دون دخول الجنة. • عن قبيصة بن جابر قال: قد صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلًا أبين، أو أنصع رأيًا، ولا أكرم جليسًا منه، ولا أشبه سريرةً بعلانية منه. • قال محمد بن سلام الجمحي: "كان عمرُ إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه، قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد"؛ فمعنى ذلك أنه في قمة الأمة فصاحة وبلاغة، لم يكن عمرُ رضي الله عنه يجد مثلًا يضربه للفصاحة غيره. • وقد أخطأ مرة في حق أخيه مسلمة بن مخلد عندما صرعه خصمه الرومي/ فقال لمسلمة: ما بال الرجل المسنة الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال؟ ثم هدأ غضبه ورأى كيف أنقذه مسلمة من الموت، فاستحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، فقال عمرو عند ذلك: استغفر لي ما كنت قلت لك، فاستغفر له، وقال عمرو: ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار: مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندِمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك، ووالله إني لأرجو ألَّا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (5) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب السادس: نقد متون الأحاديث: من أساس دعوة الحداثيين العرب إعادة نقد السنة وَفق أساليب النقد الداخلي (نقد المتن) دون النظر إلى الإسناد، ويدَّعون (نقد الأحاديث بميزان جديد يقوم على أساس سلامة ومعقولية المتن ذاته، لا على أساس سلامة الرواة) [1] ، ويظنون أو يُروِّجون إلى أنَّ صنيعهم هذا يحل إشكالات كثيرة، (معيار الصحة هو المتن وليس السند؛ لأنَّ هذا سيجعل المعنى هو الفَصْل، وبهذا يكون حديث آحاد مثل "الأعمال بالنيات" أو "لا ضرر ولا ضرار" أفضل وأثبت من كلِّ الأحاديث المتواترة من شقِّ الصدر أو حنين الجذع أو المهدي وهذا ما يُخلِّصُنا من إشكال أحاديث الآحاد) [2] ، ومن أساليب أهل الحداثة في نقد متون الأحاديث ما يلي [3] : 1- الزعم بأنَّ النقد الخارجي (الإسناد) يقوم على السمع؛ بينما يعتمد النقد الداخلي (المتن) على العقل، وهو مقدَّم على السمع، ومنهم مَنْ يزعم أنَّ عقل الإنسان قادر على تحدِّي النبوة ؛ لأنَّ العقل – عند الحداثيين – أساس المعارف، وها هو أحدهم يدَّعي بأنه: (يستحيل أنْ يكون السمع أساس العقل؛ لأنَّ الأدلة والبراهين عقليةٌ خالصةٌ لا سمع فيها، كما أنَّ معرفة الحُسْن والقُبْح واردة قبل السمع، وقد أمكن إدراك التوحيد والعدل بالعقل، وهما البابان الرئيسان في العقليات وهي الإلهيات.. بل إنَّ الإنسان بعقله قادر على تحدِّي النبوة مثل قدرة الشيطان الذي طلب الاستمهال فاستُمهِل، ولمَّا كانت النبوة ترتكز على العقل فلا خوف من تحدِّي العقل للنبوة) [4] ، وهذه الدَّعوى إنما هي تَكرار لمزاعم المعتزلة، الذين قدَّموا العقلَ على النَّقل، ونرد عليهم بما يلي: أ‌- هل تستطيعون بالعقل وحده الوصول إلى اللهِ الحقِّ؟! وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا أرسل اللهُ سبحانه الرُّسل؟! وما الحكمةُ المُتحقِّقة إذن من إرسالهم؟! ب‌- هل تستطيعون بالعقل وحده معرفةَ فرائض الإسلام ومعرفةَ حدوده وأركانه؟! ممَّا لا شك فيه أنَّ مثل هذه الأمور لابد فيها من السَّماع ولابد فيها من الواسطة، وهي النبوة، ودور العقل يأتي بعد ذلك، فالسَّماع سابق على العقل لا محالة. وعندما استخدم الشيطانُ عقلَه – الذي تستدلون بموقفه - شطَّ وضلَّ وخرج عن المطلوب منه، فاستحقَّ عقابَ الله تعالى له بالخلود في النار. فانظروا كيف فعل العقلُ المُجرَّدُ بصاحبه، أرْداه وأهلَكَه. 2- ومنهم مَنْ يزعم أن الأسانيد لا يُعول عليها، ولا تُثبِتُ علمًا؛ لأنها وهمية وَضَعها إمام المُحدِّثين الزهري ، (فقد طغت على الزهري صفة المُحدِّث، بل لعله هو صانع الحديث جملةً من المدينة؛ أي واضعه لا أكثر ولا أقل، فالأسانيد وهمية... ولا يعني هذا أنَّ الخبر في حد ذاته ليس بصحيح أو قريبًا من الصحة؛ لأنَّ الأسانيد تعطي فقط ضمانة للمادة) [5] ، ولذا (لا يُمكن التعويل عليها في الأغلب) [6] . 3- ومنهم يُصرِّح أن النقد الخارجي (الإسناد) يحمل سطحيةً في التفكير وسذاجةً في النقد ؛ لأنَّ (النقد الخارجي أو نقد التحصيل، لا يُثير غير الازدراء في نفس عامة الجمهور الغليظ السَّطحي، وبعض الذين يقومون به مستعدُّون على العكس من ذلك لتمجيده) [7] . بل (يُخيِّل إلى المرء أن يتبنَّى لأول نظرةٍ ما إذا كان المؤلِّف أمينًا أو ما إذا كانت الرواية دقيقةً، وهذا ما يُسمَّى بـ "لهجة الأمانة" أو "انطباع الشعور بالحقيقة" وهو انطباع لا يكاد من الممكن مقاومته، لكنه مع ذلك وَهْم، فليس ثم معيار خارجي للأمانة ولا للدقة.. والخطيب والممثِّل والكذَّاب المعتاد على الكذب أقدر على الظهور بهذا المظهر.. فقوة التوكيد لا تدل دائمًا على قوة الاقتناع، بل على المهارة أو الوقاحة) [8] ، وواللهِ، ما رأيتُ وقاحةً مثل هذه، فهذا جاهل جهلًا مُركَّبًا، يدَّعي العلمَ والعلمُ منه براء، فانظر إليه، هو لا يُدرك - ابتداءً - أصولَ وقواعدَ الجرح والتعديل، ولا قواعد وأصول علم الإسناد، ولا يعلم الأُسس والمعايير والشروط والضوابط التي وضعها العلماءُ لصيانة الإسناد ومعرفة أكان صاحبُه كاذبًا أم لا؟ فكان الأَولى به وبِمِثْلِه أنْ يذهبوا إلى العلماء ويجلسوا بين أيديهم؛ لِيَتَعلَّموا العلمَ، كي يستطيعوا أنْ يُناقشوا أو يُحاجِجوا، ولكنهم – للأسف - اعتمدوا على مراجع عامة، وعلى آراء المُستشرقين، وأعداء الدِّين، مع ضآلةِ ثقافتهم وقلة بضاعتهم، فجعلوا من أنفسهم أبواقًا لهم يُردِّدون مقالاتهم، ويُردِّدون شبهاتهم دون وعي أو فهم. 4- ومنهم مَنْ يزعم أنَّ منهج النقد الخارجي (الإسناد) لدى المُحدِّثين متعلِّق بمصالح اقتصادية وسياسة واجتماعية فُرِضَتْ عليها من السلطة، وبسبب ضيقِ أُفُقِ جُمَّاع الحديث، والانغلاق العقلي، وبُعدهم عن الحياد العلمي ، فيقول: (عَكَسَ المُحَدِّثون معاييرهم النقدية المتناثرة بمصالحهم الاقتصادية، وولاءاتهم السياسية، وانتماءاتهم المذهبية، ودرجة ثقافتهم على هذه الجهود بصورة سلبية، وحسبنا حُكْم "الذهبي" بأنه "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيقِ ضعيفٍ، ولا على تضعيفِ ثقة" [9] ) [10] . فلا يمكن الوثوق بالنقد الخارجي (الإسناد) الذي اتَّبعه أهل الحديث؛ بسبب (تصدُّع المنظومة الأصولية القديمة، وعدم قدرتها على الصُّمود تحت وطأة الثورات الصناعية والتقنية والإعلامية، وما يشهده العالَم من تحوُّلات في القيم ووسائل المعرفة، فلم يعد باستطاعة المؤمن في عصرنا أن يطمئن إلى معايير القدامى.. ذلك أنها كانت محكومةً بثقافةِ أصحابها ومدى اطلاعهم على منجزات العلوم الإنسانية، وبالخصوص على مقتضيات المنهج التاريخي وما يتطلبه هذا المنهج من صرامة، ومن مسافة تفصل الباحث عن النص مهما قدَّسَتْهُ الممارسة الإسلامية) [11] . الأسلوب السابع: نقد السنة بعرضها على القرآن: نادى الحداثيون بضرورة عرض السنة على القرآن الكريم، وأنه حكم عليها بحيث لا يُقبل أيُّ حديثٍ إلاَّ بعد عرضه على آيات القرآن الكريم؛ فإنْ وافقها قُبِل، وإنْ عارضها لم يُقبل، ويهدف الحداثيون من وراء هذه الدعوة إلى أهدافٍ في غاية الخطورة. أهداف الحداثيين من عرض السُّنة على القرآن: يهدف الحداثيون من عدم قبول السُّنة إلاَّ بعد عرضها على القرآن، وجعل ذلك هو المعيار الوحيد لقبول السُّنة، إلى تحقيق أهدافٍ بعينها، ومنها [12] : 1- إلغاء كل الأحاديث التي تناولت الغيب؛ بدءًا من الموت ومرورًا بيوم القيامة وانتهاءً بدخول الجنة والنار؛ بدعوى معارضتها صريح القرآن في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]. 2- إلغاء كل الأحاديث التي تُفسِّر ما ورد مُبهمًا في القرآن، والأحاديث الواردة في أسباب النزول؛ لأن الله تعالى أرادها مُبهمةً، ولم يُذكر معناها في القرآن أو أسباب نزولها. 3- إلغاء كل الأحاديث التي تُخالف أصولًا قرآنية قاطعة؛ كالآيات التي يُذكر فيها العدلُ، والمسؤوليةُ الفردية، وأنه لا تزر وازرة وزر أُخرى. 4- إلغاء كل الأحاديث التي تُثبت فضائل لبعض الأعمال والأشخاص والهيئات؛ لأن التفاضل جاء في القرآن بمقياس التقوى فقط. 5- إلغاء كل الأحاديث التي تُنافي حرية الاعتقاد، وحرية الفكر؛ لأنه ﴿ لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]. وفي القرآن: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]. 6- إلغاء كل الأحاديث التي ذُكِرتْ فيها معجزاتُ النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن؛ لأن معجزته هو القرآن بنص الآيات القرآنية. 7- إلغاء جميع الأحاديث الخاصة بالمرأة التي لم ترد في القرآن الكريم؛ كخلقها من ضلع أعوج، ومسائل الزواج والطلاق والعتاق، وأمور نكاح الرقيق، والفيء والغنائم؛ لأنها مرحلة خاصة انتهت. 8- الأحاديث التي تتحدث عن واقع الحياة اليومية في جزيرة العرب غير مُلزِمة؛ كأحاديث الأكل والشرب واللباس والنوم والمحادثة والمصافحة ونحوها؛ لأنها لم تُذكر في القرآن؛ بل هي جزء من التاريخ. إنَّ من أعظم أُمْنِيات دعاة الحداثة إقصاء السنة النبوية وإبعادها عن واقع الحياة، وأنها لا تُعد صالحة لهذا الزمان ؛ ليؤول الأمر إلى تعطيل السنة النبوية والاكتفاء بما ورد في القرآن الكريم، وها هم يُصرِّحون بهذه الأماني: (سيجعلنا نستبعد قرابة "نصف الأحاديث" المتداولة بين الناس... إنَّ هذه الألوف من الأحاديث هي نتيجة ركوب الصعب والذلول.. فلا غضاضة في استبعادها أو عدم إعمالها أو التوقف فيها) [13] ، و(لا يمكن تحقيق أيِّ إحياءٍ إلاَّ بالعودة رأسًا إلى القرآن الكريم... وضبط السُّنة بضوابط القرآن، وعدم التَّقيد بما وضعه الأسلاف؛ من فنونٍ، واجتهادات ومذهبيات تأثَّروا فيها بروح عصرهم، وسيادة الجهالة، واستبداد الحكَّام، وصعوبات البحث والدَّرس) [14] ، وادَّعوا كذلك أنَّ (كلَّ ما يتعلَّق بسيرة محمدٍ [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يُعرض على القرآن؛ فما وافق كان حقًّا، وما لم يُوافقه لم يكن بحق) [15] ، وزعموا أنَّ (القرآن هو المصدر التاريخي المعتمد الصحيح؛ لأنه يرمز إلى ماهيَّة الوحي والظروف التي حفَّت ببدئه وتواصله، ولا يدخل في التفاصيل الدُّنيوية الفارغة) [16] ، وهم بذلك يلمزون السُّنة النبوية؛ لأنها هي التي فصَّلت وبيَّنت ما أُجمل في القرآن؛ بل أنشأت أحكامًا وآدابًا وتشريعات مُستقلَّة لم ترد في القرآن الكريم. إذًا؛ (الأحاديث التي لا يستطيعون الطعن فيها فسبيل تجميدها هو القول بعرضها على القرآن، فإن جاءت بِحُكم ليس في القرآن لا يُلْتَزم به... ومن الطبيعي أنَّ أيَّ تعطيلٍ لدور الحديث في التشريع تعطيلٌ لدور القرآن في التشريع أصلًا؛ لأنَّ فهمه يتوقَّف عليه؛ لذا حاول أعداء الإسلام توجيه السِّهام إلى الحديث للتَّشكيك فيه حتى يسهل لهم بالتالي تعطيل دور القرآن أيضًا في الأحكام والتشريع) [17] . وبتطبيق هذه الضوابط والمعايير الحداثية يُلغى قرابةُ "ألفي حديث" منها ما هو في الصحيحين وغيرهما من كتب السُّنة الثابتة. الأدلة على استقلال السُّنة بتشريع الأحكام: ولا نزاعَ بين علماء المسلمين في أنَّ كُلًا من القرآن والسنة وحي من عند الله تعالى، وأنَّهما المصدران الوحيدان لهذه الشريعة، وينبوعها الذي تتفجَّر منه، وأنَّ ما سواهما من أدلةٍ ـ مهما تنوَّعت وتعدَّدت ـ راجعة إليهما، ومستوحاة منهما. والقرآن الكريم والسنة الشريفة مصدران يشد أحدهما الآخر، ولا ينفك عنه في إثبات أكثر الأحكام، ومع ذلك يريد دعاة الحداثة أن لا يقبلوا السُّنة إلاَّ بعد عرضها على القرآن؛ فكيف تُعرض السنة على القرآن وهي المُبيِّنة والمخصِّصة والمقيِّدة والناسخة – أحيانًا – لآيات القرآن الكريم؛ بل إنَّ السنة استقلت بتشريع أحكامٍ لم ترد في القرآن، وهو قول جمهور العلماء [18] . ومن أهم الأدلة على استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام ما يلي : 1- عموم عصمته صلى الله عليه وسلم عن الزيغ والخطأ في التبليغ لكلِّ ما جاء به عن ربه، بأيِّ طريق من طرق الوحي، ومنه السنة التي جاءت مثبِتة ومُنشِئة لأحكامٍ سكت عنها القرآن [19] . 2- عموم الآيات القرآنية الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما يأمر وينهى، التي لم تُفرِّق بين السُّنة المُؤكِّدة أو المُبيِّنة أو المُستقِلَّة، وهي آيات كثيرة تفيد القطع بعمومها للأنواع الثلاثة، وعدم إخراج السُّنة المُستقِلَّة منها. 3- عموم الأحاديث الدالة على حُجيَّة السنة، ولم تُقيِّدها بنوعٍ مُعيَّن. ومنها أحاديث تدل صراحةً على أنَّ في السنة ما ليس في الكتاب، يجب الأخذ بها كما يؤخذ بما في الكتاب [20] ؛ من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ! فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ! وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ!) [21] . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ!) [22] . قال ابن القيم رحمه الله: (أَحْكَامُ السُّنَّةِ التي لَيْسَتْ في الْقُرْآنِ إنْ لم تَكُنْ أَكْثَرَ منها، لم تَنْقُصْ عنها، فَلَوْ سَاغَ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّةٍ زَائِدَةٍ كانت على نَصِّ الْقُرْآنِ لَبَطَلَتْ سُنَنُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهَا إلاَّ سُنَّةً دَلَّ عليها الْقُرْآنُ، وَهَذَا هو الذي أَخْبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، ولابد من وُقُوعِ خَبَرِهِ) [23] . إذًا؛ فمثل هذه الأحاديث تدل بوضوح على أنه يوجد في السنة أحكام ليست موجودة في القرآن، (وهو نحو قول مَنْ قال من العلماء: ترك الكتابُ موضِعًا للسنة، وتركت السنةُ موضِعًا للقرآن) [24] . 4- دلَّ الاستقراء على أن في السنة أشياءَ لا تُحصى كثرة لم يُنَصَّ عليها في القرآن؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السِّباع [25] . 5- الاقتصار على القرآن وحده من صفات المنافقين الخارجين عن السُّنة، فهم قوم لا خلاق لهم إذ ادَّعوا أنَّ في الكتاب بيان كل شيء، فطرحوا أحكامَ السنة وهجروها، فأدَّى بهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله [26] ، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منهم في قوله: (إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: الْقُرْآنَ وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِين) [27] . وقوله صلى الله عليه وسلم: (هَلاَكُ أُمَّتِي في الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ). قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ! ما الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ؟ قال: (يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ فَيَتَأَوَّلُونَهُ على غَيْرِ ما أنْزَلَهُ اللهُ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَدَعُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيَبْدُونَ) [28] . والمُلاحَظ : أنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه القائل بعَرْضِ السُّنة على القرآن، قد كثروا وتعدَّد نتاجُهم حتى أصبحوا يُشكِّلون اتِّجاهًا فكريًّا واضِحَ المعالِم وإنْ كان ما يزال في طور التَّكوين، وقد سمُّوا أنفسهم "القرآنيون"؛ لِيَتوهَّم مَنْ يسمع عنهم أنهم إنما يُنصِفون القرآن ويُدافعون عنه ويحفظونه. والحقيقة : أنهم بدعوتهم هذه إنما يجنون على القرآن ويُضَيِّعونه؛ إذ إنهم بالتَّفريق بينه وبين السُّنة الشارحة له والمُفسِّرة والمُبيِّنة لأحكامه، إنما يُعطِّلونه ويُقصونه عن الحياة. والحقيقة الأخرى : هي أنهم لا يعبئون لا بالقرآن ولا بالسُّنة؛ وإنما يريدون التَّفلُّت من كلِّ قيدٍ؛ لِيَحيوا حياتهم الدنيا بلا ضابط ولا رابط، ويسعون إلى فصل الدِّين عن الدنيا، ولكن جعلوا دعوتهم هذه مُغَلَّفة بغلاف الإصلاح، ومزركشة بزينة حفظ القرآن وصيانته، فمَثَلُهم في كتاب الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأِرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلآ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11-12]. فالنفاق عقيدتهم، والحقد صفتهم، والعداوة سبيلهم، فكفانا الله شرَّهم بما شاء، وردَّ كيدَهم في نُحورهم. يُتبع. [1] النص القرآني أمام إشكالية البِنيَة والقِراءة، طيب تيزيني (ص 331). [2] نحو فقه جديد، جمال البنا (2/ 118). [3] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، د. الحارث فخري عيسى عبد الله (ص 248). [4] التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي (4/ 40). [5] تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعَيْد (ص 37). [6] المصدر نفسه، (ص 271). [7] المدخل إلى الدراسات التاريخية، (ص 86). [8] المصدر نفسه، (ص 126). [9] عبارة الذهبي صحيحة، وفيها إعلاء للحديث وأهله؛ لأنه لم يُخطئ اثنان من نقَّاد الحديث في الحكم على راوٍ حقيقته الضعف أو توثيق راوٍ حقيقته الضعف، لكنَّ الحداثيين استعملوها في معرض ذم أهل الحديث ووصفوهم بسوء الفهم وقلة الإدراك. [10] التراث وقضايا العصر، (ص 50). وانظر: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 62). [11] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 349). [12] انظر: نحو فقه جديد، (2/ 249-256)، (3/ 280)؛ الحداثة وموقفها من السنة، (ص 263). [13] نحو فقه جديد، (2/ 248). [14] تفنيد دعوى حد الردة { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }، جمال البنا (ص 130). [15] حياة محمد، (ص 64). [16] السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، (ص 18). [17] المستشرقون والحديث النبوي، (ص 23). [18] انظر: الرسالة، للشافعي (ص 91-93). [19] انظر: منزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية، (ص 484). [20] انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 381). [21] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604). [22] رواه الشافعي في مسنده، (ص 233)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4605)؛ والترمذي، (5/ 37)، (ح 2663) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 118)، (ح 4605). [23] إعلام الموقعين، (2/ 309). [24] الموافقات، (4/ 17). [25] المصدر نفسه، (4/ 16). [26] انظر: الموافقات: (4/ 17). [27] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17457)؛ والطبراني في (الكبير)، (17/ 296)، (817). وحسنه محققو المسند، (28/ 636)، (ح 17421). [28] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17451)؛ وأبو يعلى في (مسنده)، (3/ 285)، (ح 1746)؛ والبيهقي في (شعب الإيمان)، (3/ 104)، (ح 3009). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (6/ 647)، (ح 2778).
جهود الحاجب المنصور في الازدهار الثقافي والمعماري بالأندلس من خلال كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" يُعدُّ كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" من الكتب المهمة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في شهر مارس من العام الجاري 2022؛ حيث سعى المؤلف إلى إبراز جهود أحد أهم شخصيات الأندلس الذي لعب دورًا محوريًّا في بنائها السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي والمعماري وغيرها، ألا وهو الحاجب المنصور، وقد بلغ عدد صفحات الكتاب 262، أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري الدبلوماسي القطري وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية الشهيرة؛ من أهمها: "السلطنة الجبرية"، و"إمبراطور الشرق تشودي"، و"تشنغ خه إمبراطور البحار الصيني"، كما ظهر له مؤخرًا كتاب بعنوان: "أسطورة إفريقيا الشيخ عثمان بن فودي". ويهدف هذا المقال إلى إبراز جهود الحاجب المنصور في الازدهار الثقافي والمعماري بالأندلس من خلال كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس". الحاجب المنصور ومكانته في تاريخ الأندلس يُعدُّ الحاجب المنصور من مشاهير القادة والفرسان عبر مراحل التاريخ الإسلامي، فهو قائد يتشابه مع أولئك القادة الذين أبرزتهم الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، أمثال: صلاح الدين الأيوبي، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، وأحمد بن قلاوون، وسواهم ممن سجَّلوا أسماءهم في سجل الخالدين من مشاهير المسلمين الذين يتلألئون كالنجوم تَهْدي المسلمين وتُضيء سماءهم كلما أظلمت الدنيا وعظمت الخطوب، بل إن القائد الحاجب المنصور يتميَّز عن غيره من قادة الإسلام الذين ظهروا على مسرح الأحداث في حقب تاريخية مختلفة، فالحاجب المنصور يبقى نسيج وحده، ينفرد بخصائصه وصفاته عن بقية القادة والفرسان؛ لذا فهو لا يشبه أحدًا من القادة غير قادة الرعيل الأول من القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي [1] . دور الحاجب المنصور في الازدهار الثقافي وإسهاماته الأدبية: مما لا شك فيه أن الحاجب المنصور لعب دورًا فاعلًا في الازدهار الثقافي في عهده، كما أنه شارك بصفة شخصية في دفع عجلة الثقافة نحو الأمام من خلال تشجيع العلم والعلماء والأدباء، ومن خلال إسهاماته الأدبية، وفيما يلي تفصيل لهذا الدور من خلال ما ورد في كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس". أولًا: دور الحاجب المنصور في الازدهار الثقافي: قد أشار المؤلف إلى أن الحاجب المنصور نشأ في بيت علم وأدب، ودرس وَفْق تقاليد أسرته دراسةً حسنة، وبرع في الشريعة والأدب، وكان حريًّا به أن يتبوَّأ مكانه بين علماء عصره، لولا أن شاءت الأقدار أن تدفع به إلى معترك السياسة والسلطان، ومع هذا فقد كان الحاجب المنصور مهتمًّا بالجوانب الثقافية من مشاركاته الأدبية في الشعر والنثر، وكذلك تشجيعه للعلوم والعلماء والأدباء؛ لهذا فإن بلاد الأندلس عامة وقرطبة خاصة شهدت في عهد الحاجب المنصور نهضةً علميةً، وفكرية، ولغوية واسعة، وأصبحت جامعتُها (جامع قرطبة) من أشهر جامعات العالم في ذلك الوقت، وبهذا الاهتمام الموجه من الحاجب المنصور غَدَتْ مُدنٌ عديدة في بلاد الأندلس في عهده مراكزَ علميةً شهيرةً، بل كانت من أهم المراكز العلمية الإسلامية في ذلك الوقت؛ لذلك يُعَدُّ عهد الحاجب المنصور أخصبَ عهود بلاد الأندلس ثقافةً وأكثرَها ازدهارًا بالعلم، وأوسعها عطاءً بالإنتاج الفكري، وذلك لاهتمام الحاجب المنصور بنشر العلم واحترامه وتكريمه للعلماء، وهو الأمر الذي أدى إلى ازدهار حركة التأليف في كل العلوم مما عزَّ نظيره في بقية عهود بلاد الأندلس.. كما عُرِف عن الحاجب المنصور أنه كان مُحِبًّا لأهل الأدب والشعر والثقافة؛ حيث كان يُكرِّمهم ويرفع منزلهم [2] . ثانيًا: إسهامات الحاجب المنصور الأدبية: لم تتوقف عناية الحاجب المنصور بالثقافة من حيث تكريمه وتشجيعه للعلماء فحسب، بل شارك شخصيًّا في الحياة الثقافية عن طريق إسهاماته الشعرية والنثرية، كما أشار إلى ذلك الدكتور علي الغانمي في السطور الآتية: 1- الشعر: لقد كان الحاجب المنصور شاعرًا مفوِّهًا له شعر حسن، كما كان شعرُه ذا قيمةٍ تاريخية تسجيلية؛ نظرًا لما يعرضه من أحداث ووقائع، كما جاء كل شعر الحاجب المنصور الذي وَقَفْنا عليه في الحماسة، والفخر، والمدح، والهجاء، والمداعبة، ويظهر فيه اعتزازه بنسبه، ويُسطِّر فيه عبارات بسالته وشجاعته وإقدامه في ساحات الوغى [3] . 2- النثر: لقد تميَّز الحاجب المنصور بصياغة النثر، فلا عجب أن يتميَّز في ذلك، فقد كان أديبًا محسنًا، وعالمًا متفنِّنًا، وظهر تميُّزه في نثره من خلال الاعتماد على الحجة، والإفصاح البليغ عن آرائه وأهدافه وفلسفته ورؤيته، واعتماده أسلوبًا يقوم على الترسُّل غير المتكلف، ومن أنواع نثره الرسائل؛ وذلك لما لها من أهمية في عرض الغرض وتوصيله بأسلوب عربي فصيح وسهل، وهذا ما تميَّز به الحاجب المنصور، كما يظهر ذلك في كتابه المشهور إلى مَنْ فرَّ عنه من جنوده، وكذلك الوصايا؛ حيث تتسم وصايا الحاجب المنصور بالعذوبة والسلاسة، وكونها تحمل سياسته أيضًا، ولعل من أبرز وصاياه وصيةً كتبها لابنه عبدالملك حينما حضرته الوفاة، ووصية أخرى كتبها لغلمانه، هذا بالإضافة إلى الوعظ الذي كان له باع فيه [4] . دور الحاجب المنصور في الازدهار المعماري بالأندلس أولًا: التوجُّه المعماري ودلائل الازدهار المعماري لعهد الحاجب المنصور: اهتم الدكتور علي بن غانم الهاجري في هذا الكتاب بالجهود الجبَّارة التي بذلها الحاجب المنصور في الازدهار المعماري بالأندلس، حيث فصَّل القول فيها في السطور الآتية: 1- التوجُّه المعماري للحاجب المنصور: إن المنشآت المعمارية ظاهرةٌ إنسانيةٌ تتشكَّل صورتُها من العصر الذي أُنشِئت فيه، وكذلك نظام طبيعة الفكر للمجتمع في ذلك العصر؛ لذا فإن ما تحمله العمارة يعكس تمامًا ملامح العصر وطريقة التفكير في إنتاج العمارة وفنِّها، وأن كل عصر من العصور عبر الزمن وجدت له عمارة تميُّزه عن غيره من العصور، كما أن المنشآت المعمارية في أي عهد من العهود تُعَدُّ الكاشف الرئيس الذي به سيتكشف التوجُّه العام للسياسة العامة، وهذا يظهر من طغيان نوع المنشآت المعمارية على ذلك العهد؛ أي: إن السياسة ستتكشف لنا من نوعية المنشآت المعمارية، فمثلًا إذا غلبت المنشآت المعمارية العسكرية على المنشآت المعمارية الأخرى كان التوجُّه العام هو توجُّه عسكري، أما إذا كانت الغلبة للمنشآت المعمارية من طرق وجسور وكذلك الأسواق وملحقاتها على المنشآت المعمارية العسكرية؛ فهذا يدل على التوجُّه الاقتصادي، ومن دراسة المنشآت المعمارية في بلاد الأندلس في عهد الحاجب المنصور اتَّضَح بما لا يدع مجالًا للشك أن التوجُّه العام في تشييد المنشآت المعمارية في عهد الحاجب المنصور كان توجُّهًا اقتصاديًّا أكثر من التوجُّه العسكري [5] . 2- دلائل الازدهار المعماري لعهد الحاجب المنصور: ليس من شك أن عهد الحاجب المنصور كان- بكل المقاييس- من أزهى عصور الأندلس في فن العمارة الإسلامية؛ إذ ترك آثارًا معمارية بارزة ظلت باقيةً على مرِّ الزمن لتُرشد الأجيال المتعاقبة على علوِّ الحضارة المعمارية في عهد الحاجب المنصور، فقد مثل عهد الحاجب المنصور قمةَ النهضة المعمارية؛ حيث كان له من المآثر الشهيرة والعجائب الفريدة ما يُدوَّن على جبين الزمان، كما أن عهده يُعدُّ من أفضل عهود بلاد الأندلس في إنشاء المساجد والمدن والقناطر وغيرها من المنشآت المعمارية، وقد جاء ذلك نتيجة للاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهدته مدة حكمه، كما يُعَدُّ التوسُّع في المنشآت المعمارية مظهرًا مُتقدِّمًا من مظاهر الحضارة، ومن ثمَّ فهي تعد دلالة على الرخاء الاقتصادي، وهذا ما حصل في الأندلس في عهد الحاجب المنصور، فقد امتلكت بلاد الأندلس في عهده كل المقوِّمات المؤهِّلة لكي تكون بحق بلد الازدهار المعماري، وأن تصبح العاصمة قرطبة صورةً حقيقيةً لمظاهر التطوُّر المعماري لذلك العصر؛ لذلك كانت قرطبة في عهد الحاجب المنصور من أكبر المدن عمارة، وأجمل عواصم العالم آنذاك [6] . ثانيًا: أبرز المنشآت المعمارية في عهد الحاجب المنصور: هناك الكثير من المنشآت المعمارية التي شُيِّدت في عهد الحاجب المنصور، سواء أكانت هذه المنشآت منشآت في المجال المدني أو في المجال العسكري، ولكثرة هذه المنشآت وتعدُّدها فإننا سنُركِّز على أهم تلك المنشآت والتي يمكن إيجازها كالآتي [7] : 1- المدن: لقد شيد الحاجب المنصور العديد من المدن الجميلة في عدد من البُلدان الإسلامية، وتعدُّ الأندلس والمغرب من أهم البُلدان التي شيد فيها الحاجب المنصور المدن أو اهتم بترميم مدنها. أ- المدن التي شيدها الحاجب المنصور في الأندلس: الزاهرة: اقتفى الحاجب المنصور أثر الخليفة عبدالرحمن الناصر، وذلك عندما شرع في بناء مدينة خاصة به سنة 368هـــــ/978م، التي أطلق عليها اسم الزاهرة، وقد كانت الدوافع التي دفعت الحاجب المنصور إلى بناء هذه المدينة لا تختلف كثيرًا عن الدوافع التي دفعت بالخليفة عبدالرحمن الناصر إلى تأسيس مدينة الزهراء، ويأتي في مقدمة تلك الدوافع تمجيد عصورهم بمنشآت مميزة، دلالة على العز والسلطان الواسع، ولما انتهي من بناء المدينة انتقل إليها بحاشيته وخاصته من الحرس، وشحنها بأنواع الأسلحة، ثم نقل إليها خزينة الدولة ودواوينها، وأقطع ما حولها لكبار رجالات الدولة من عسكريين ومدنيِّين. العامرية: من الآثار المعمارية للحاجب المنصور مدينة العامرية، أو ما تعرف بالمنية العامرية، حيث بنى هذه المدينة إلى جانب مدينة الزاهرة، وكانت العامرية مدينة جميلة ذات قصور وحدائق رائعة، فكان يرتادها الحاجب المنصور للاستجمام والتنزُّه. ب- المدن التي شيَّدها الحاجب المنصور في المغرب: من المدن التي قام ببنائها أو ترميمها الحاجب المنصور مدينة (فكان)، حيث بلغه ما وصلت إليه المدينة من الخراب، فسارع إلى ترميمها وتعميرها، كما قام ببناء مدينة أسلن ومدينة أسلي بالمغرب. 2- المساجد: تُعدُّ المساجد من أبرز الجوانب العمرانية التي ازدهرت في عهد الحاجب المنصور وحظيت بعنايته، وكذلك بعناية مختلف فئات الشعب، وخاصة من التُّجّار الميسورين، حيث سعَوا إلى تعميرها وتشييدها وصيانتها والعناية بها، والإنفاق على القائمين عليها من الأئمة والوعّاظ والعلماء والمؤذِّنين وطلبة العلم وأبناء السبيل، وكذلك تزويدها باحتياجاتها من الفُرُش والبُسُط، والإضاءة والمياه والنظافة، والصرف على العاملين عليها. وعلى الرغم من الازدهار المعماري الذي حدث في بلاد الأندلس في عهد الخليفة عبدالرحمن الداخل والعهود التي تلته، إلا أن عهد الحاجب المنصور كان عهد التفوق المعماري للمساجد، ففي عهده ازداد تشييد المساجد بشكل ملحوظ عن العهود السابقة؛ لذلك فإن عدد المساجد بلغت في عهده في قرطبة ألفًا وستمائة مسجد، بل إن هناك قولًا آخر يرى أن عدد المساجد في قرطبة في عهد الحاجب المنصور بلغت ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثين مسجدًا.. أما أبرز الأعمال العمرانية للحاجب المنصور فهي توسعته لجامع قرطبة حيث عكست التوسعة جمال الجامع، سواء أكان ذلك من ناحية الاتساع أو من ناحية الدقة والمتانة والتخطيط المعماري، فقد عكست الأعمدة والمساحات الداخلية والأشكال الهندسية روعة الطراز المعماري الإسلامي الفريد [8] . 3- الحصون والقواعد العسكرية: من الحصون التي بناها الحاجب المنصور حصون أبطير، كما شُيِّدت في عهده العديد من القصور والمنازل في كثير من الطُّرُقات، كما اهتم بعمارة مدينة سالم لاتخاذها قاعدة عسكرية [9] . 4- القناطر: هناك العديد من القناطر التي أُنشِئت في عهد الحاجب المنصور، فمن أهم تلك القناطر: قنطرة نهر قرطبة الأعظم- وقنطرة نهر إستجة- وقنطرة طليطلة التي تعد من أهم الأعمال العمرانية في بلاد الأندلس [10] . التعليق: ظهر من المعطيات السابقة الواردة في الفصلين السادس والسابع من كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" أن الحاجب المنصور قد لعب في عهده دورًا بارزًا في الازدهار الثقافي والمعماري بالأندلس، وقد تجلَّى دوره بشكل واضح في الازدهار الثقافي، من خلال تشجيعه للعلوم والعلماء والأدباء، وكذلك من خلال مشاركاته الأدبية في الشعر والنثر، أما دوره في الجانب المعماري فقد كان واضحًا وضوح الشمس، حيث قام بإنشاء منشآت كثيرة، من أبرزها تشييده للمدينتين "الزاهرة" و"العامرية"، وبناؤه لعدد كبير من المساجد، والحصون، والقواعد العسكرية، والقناطر، وغيرها، كما أشار إلى ذلك الدكتور علي بن غانم الهاجري في هذا الكتاب القيِّم بالتفصيل. المرجع: الهاجري، علي بن غانم (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف . [1] الهاجري، علي بن غانم (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف، ص 14. [2] الهاجري، علي بن غانم (2022)، ص205. [3] الهاجري، علي بن غانم، ص 210. [4] الهاجري، علي بن غانم، ص212- 220. [5] الهاجري، علي بن غانم، ص 223-224. [6] الهاجري، علي بن غانم، ص 226. [7] الهاجري، علي بن غانم، بتصرف، ص227-233. [8] الهاجري، علي بن غانم، ص233- 237. [9] الهاجري، علي بن غانم، ص 238-239. [10] الهاجري، علي بن غانم، ص239-241.
صناعة الخوف ﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الزمر: 36] تعاني البشرية الآن حالةً من الخوف والرعب وعدم الأمن، خاصة مع تزايُد وسائل النشر والتواصل البشري لكل أنحاء العالم، فقد تَم استخدامُها في نشر وصناعة الخوف لهذه البشرية المنكوبة على يد صناع الخوف والرعب لقيادة البشرية على يد قلةٍ قليلة من البشر. وليس أقرب مما عاشه العالم من ظاهرة فيروس كورونا الذي تَم استغلاله لِمَصِّ ثروات العالم في يد هذه الفئة، وأين هذا الفيروس الآن؟! هذا مثال لصناعة الخوف على مستوى العالم. إن صناعة الخوف يمارسها الإنسان على أخيه الإنسان منذ فجر التاريخ، مارسها الأخ الفاسد عل أخيه الصالح: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، كما مارسها فرعون إذ قال: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]. قَالَ: ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]. وتتم صناعة الخوف على مرِّ العصور والأزمنة، وعلى مستوى الأفراد ومستوى الدول، فقد مارست الدول الاستعمارية ذلك على دول العالم الفقير الضعيف لامتصاص ثرواتها ودماء أبنائها وتسخيرهم عبيدًا، وهذا ما تفعله الدول الكبرى الأن مع باقي دول العالم. ويمارس الأفراد مع بعضهم صناعةَ الخوف على مستويات مختلفة، وكلٌّ حسب مكانته ومنصبه وجاهه، فشياطين الإنس والجن لا تتوانى في بث الخوف والرعب في نفوس الناس ليلَ نهار، وبكل الوسائل، بل إن صناعة الخوف أصبح لها علوم وتخصصات تدرَّس ويتفنَّن فيها أصحابها، ويتم نشر هذه الصناعة على كل الوسائل لتخويف البشرية. وتتوالى عمليات النشر وبث الشائعات (الحيطة لها ودان)، وهكذا. فإذا تحدث أحد مع آخر يجده يبثُّ فيه الخوف. وهناك من يجيدون ذلك: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [آل عمران: 175]. لكن كيف يعيش المسلم في خِضَمِّ هذا كله؟! إن كتاب الله فيه هدى ونور، يوضح لنا كيف يكون تصرفنا تجاه هذه الظاهرة. يقول لك ربك: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]. إن الذين يمارسون هذه الصناعة هم شياطين الإنس والجن والله يقول: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]. ويقول أيضا: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة:150]. ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]. ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 3]. أيها المسلم، كم كيدٍ ومكرٍ من صُناع الخوف والرعب هؤلاء، قد نجاك الله منه وأنت لا تدري ما دمت في كنف الله ومتوكلًا عليه، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11]. إن القلب المؤمن يمضي في طريقه ثابتًا واثقًا مستيقنًا بقوة الواحد الأحد ربِّ كلِّ شيءٍ، ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]. ومن ثم فإن هذا المؤمن ينفض يدَه من هذه القوى الوهمية قوى الشيطان وأعوانه، ويترك أمره لله، ويقول: حسبي الله، عليه توكلتُ، وعليه يتوكل المتوكلون، ثم يقول: قل لهؤلاء الصناع: ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 135]. هكذا تكون الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]. بلى! فمن ذا يُخيفه، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟ ﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الزمر: 36]. فكيف يخاف؟ وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟ إنها قضيةٌ بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى جدل ولا كدِّ ذهنٍ، إنه الله، ومَن هم دون الله، وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباهٌ! وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة، وهو الذي يقضي في العباد قضاءه في ذوات أنفسهم، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ﴾ [الزمر: 37]. أيها المسلم، ذهبت لصلاة المغرب بعد كتابة الكلمات السابقة، فإذ بي أسمع قول الإمام: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]. فقلت في نفسي: إنها من الله لي ولك في هذا المقام فكتبتها. أيها المسلم، سرْ على بركة الله في طريقك إلى الله، ولا تُعِرْ أذنك وقلبك لصناع الخوف والرعب، فالله حاميك وكافيك، وقل كما قال جدُّك إبراهيم عليه السلام قولته المشهورة بعد أن وضعوه في النار: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99].
إسلام أبي ذر ورد في البخاري عن ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنَّة فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل اضطجع فرآه عليٌّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما آن للرجل يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي مثل ذلك فأقام معه، فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصحبت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري))، فقال: والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين ظهرانَيْهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه، وفي رواية أحمد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل، ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؛ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟))، قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسًا، فقال لي: ما صنعت؟ قلت له: صنعتُ أني أسلمت وصدقت، قال: فما بي رغبة عن دينك؛ فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما؛ فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، فأسلم بعضهم قبل أن يقدَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم، وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله، إخواننا نُسلِم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غفارُ غفَر الله لها، وأسلَمُ سالَمها الله)).
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (4) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب الرابع: نفي عدالة الصحابة: الصحابة رضي الله عنهم هم مَنْ بَلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدِّين، وهم مَنْ نقلوا القرآن والسُّنة إلى مَنْ بعدهم، ومن ثَمَّ، فهم همزة الوصل بين زمن النبوة والأزمنة التي تلته، فإذا استطاع أعداء الدِّين التَّشكيك فيهم وفي عدالتهم ونزاهتهم، فهذا يعني فقدان همزة الوصل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مَنْ جاء بعده، وفي هذا هدم للدِّين من أساسه، وتقويض للبنيان من قواعده. ومن أساليب دعاة الحداثة في الطعن في السنة النبوية والتشكيك فيها نفي عدالة الصحابة؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه علم الرواية، ومن أساليبهم في ذلك [1] : 1- منهم مَنْ زعم أنَّ الصحابة كغيرهم من البشر يُخطئون ويصيبون، ويضلون ويهتدون، ويعلمون ويجهلون، ويعتريهم الخطأ والنِّسيان، ومنهم مَنْ يتَّهم الصحابة بالنِّفاق والكذب : انتقد بعضهم مسألة عدالة الصحابة، مُوَجِّهًا النقد اللاذع للذين عدَّلوا الصحابة بأنهم ينظرون إليهم وكأنهم (قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية فلا يعتريهم ما يعتري كلَّ إنسانٍ من سهوٍ أو خطأٍ أو وهمٍ أو نسيانٍ، ولا نقول الكذب والبهتان) [2] ! وأكَّد بعضهم انتفاء عدالة الصحابة قائلًا: (إنه لمن الصعب تاريخيًا إن لم يكن من المستحيل التأكيد والقول إنَّ كلَّ ناقلٍ قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله) [3] . وهذا النَّفي لعدالة الصحابة يعني (رفْض ونَسْف كلِّ الأساليب والشروط والمبادئ التي اعتمدها البخاري وغيره من الأئمة في صحافهم أو متونهم، وذلك يعني ببساطة نَسْف ظاهرة العنعنة، التي تعتمد على النقل لا على إعمال العقل، وتعتمد على مَنْ قال وليس على ما قال!! إنَّ الصحابة كغيرهم من الناس يخطئون ويصيبون، يضلون ويهتدون، يعلمون ويجهلون.. حتى إنَّ سورة التوبة سُمِّيت بالفاضحة؛ لأنها أظهرت حقائق الكثير منهم آنذاك) [4] . وزعم بعضهم بقاءَ المنافقين وقد توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن للمؤمنين أمرهم، وقد انخرطوا في المجتمع ولم يمتازوا عنه، فادَّعى بأنَّ (نفاق الصحابة على عهد النبي تكشفه أحاديثُه، وقد نقل "البخاري" عن حذيفة بن اليمان قوله: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ" [5] ) [6] . وقد أخرج الحداثيون – كعادتهم – قولَ حذيفة رضي الله عنه من سياقه إلى سياقٍ آخَر؛ ليشابه تأويلاتهم الباطلة، قال ابن بطال رحمه الله: (وأمَّا حديث حذيفة، وقولُه: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"؛ لأنهم كانوا يُسِرُّون قولَهم فلا يتعدَّى شرُّهم إلى غيرهم، وأمَّا اليوم فإنَّهم يَجْهرون بالنِّفاق، ويُعلِنون بالخروج على الجماعة، ويُورِثون بينهم ويُحَزِّبونهم أحزابًا، فهم اليوم شرٌّ منهم حين لا يَضُرُّون بِمَا يُسِرُّونه. ووَجْهُ موافقته للترجمة: أنَّ المنافقين بالجهر، وإشهار السِّلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه؛ حين دخلوا في بيعةِ مَنْ بايعوه من الأئمة؛ لأنَّه لا يجوز أنّْ يتخلَّف عن بيعةِ مَنْ بايَعَه الجماعةُ ساعةً من الدهر؛ لأنَّها ساعةٌ جاهليَّة، ولا جاهليَّةَ في الإسلام) [7] . بل استدل بعضهم على وجود مَنْ يكذب على الله من بين الصحابة – وهو يُظهر إسلامه – بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، وزعم أنَّ هذه الآية تُبطِل نظرية عدالة الصحابة بِرُمَّتها [8] . إنَّ التشكيك في الصحابة رضي الله عنهم لوجود منافقين كما أشار القرآن الكريم وأشارت السنة النبوية لا قيمة له، لأسباب، وهي: الأول : وجود نصوصٍ قرآنية نبوية تؤكِّد على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وتزكيتهم ورضا الله تعالى عنهم، والشهادة لهم بالخيرية. الثاني : إطلاع الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على أسماء المنافقين وشخوصهم، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بشخوصهم يعني أنه لو كان هناك خطر يهدد الدِّين من ناحيتهم لَفَضَحَهم للناس جميعًا. الثالث : أطْلَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبَ سِرِّه "حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه" على هؤلاء المنافقين بأسمائهم وشخوصهم؛ ليكون مُراقِبًا لهم وعارفًا بهم، ومن ثَمَّ، لو أنَّ أحدهم تَقَوَّلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عنه بما لم يُخبر به لأبان حذيفةُ حالَه وفضح أمرَه، ولم يمت حذيفةُ رضي الله عنه إلاَّ وقد مات جُلُّ هؤلاء المنافقين، وهذا من صيانة الله لدينه. 2- ومنهم مَن ادَّعى بأن الآيات والأحاديث الدالة على عدالة الصحابة إنما هي عامة ولم تقصد الصحابة بأعيانهم، فيجب البحث عن حال كل صحابي على حِدَة كغيره من الرواة : (فإنَّ الثناء من الله تعالى ورسوله – وهو الدليل على عدالتهم – لم يتناول الأفراد بالخصوصية، إنما غايته عموم.. ومَنْ تتبَّع تلك الموارد وسوَّى بين الصحابة فهو أعمى أو مُتَعام.. ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يَخْرُج عن العدالة فيجب إخراجه كالشارب من العدالة لا من الصحبة، ومنهم مَنْ أسلم خوف السَّيف كالطُّلقاء.. كأبي سفيان ومعاوية ومَنْ معهما) [9] . 3- ومنهم مَنْ يزعم أن عدالة الصحابة مسألة افتراضية، تُخالِف التاريخ والحقائق العلمية، والقصد من وضعه نفي الرَّيب عن القرآن والسُّنة : فقد زعم بعضهم أنَّ عدالة الصحابة (مسألةٌ افتراضية وَضَعَها الضمير الإسلامي حتى لا يقع التشكيك في أمانة صحابة رسول الله وفي صدقهم، ذلك أنَّ الشك إذا بلغ حدَّ الارتياب في نزاهة الصحابة، فإنه يعصف بأصول الدين الإسلامي؛ لأنَّ الصحابة هم الذين رَوَوا هذا القرآن ودوَّنوه، وهم الذين رَوَوا الحديث.. لذلك قرَّر علماءُ الإسلام صِدقَ صحابةِ الرسول وانتفاءَ الانتحال بينهم في حين أنَّ هذه التفرقة اعتبارية لا وجود لها ولا تتَّفق ومقتضيات النقد العلمي الصارم، كما أنه ليس هناك حدٌّ طبيعي بين الصحابة والتابعين يجعلنا لا نُنزِّه الأوَّلين من الانتحال ونشُكُّ في الآخرين) [10] . وبعضهم ينفي التاريخ المُشرق للصحابة ويصفه بأنه (تاريخ معقَّد لا ينسجم البتة وما أُضْفِيَ عليهم من عدالةٍ مطلقة، فلا يُعَدُّ هذا التقديس... تقديسًا يحجب التأثر الذي مارسَتْه العواملُ القَبَلية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي الناشئ ويُغيِّب التاريخَ الحقيقي الذي أسنَدَ فيه الشيعةُ العصمةَ لأئمَّتهم والسُّنةُ العدالةَ المطلقةَ لصحابتهم) [11] . 4- ومنهم مَن ادَّعى بأنَّ مسألة عدالة الصحابة تم صياغتها مُتأخِّرًا : (ففي عهد ابن قتيبة "276 هـ" نجد المسلمين لا يقبلون كلَّ روايات الصحابة، وينتقدون بعضهم ويرمونهم بالكذب، وما كتاب "تأويل مختلف الحديث" إلاَّ محاولة قام بها مُحَدِّثو السُّنة لرفع الاتِّهام عن صحابة الرسول، بل إنَّ إضفاء القداسة على الصحابة لم يتأسس بعد في القرن الرابع للهجرة، كُتُبُ التاريخ تروي لنا أخبارًا كثيرةً عن عادة سبِّ الصحابة في هذا العصر اشترك فيها الشيعة والسُّنة على حدٍّ سواء) [12] . 5- ومنهم مَنْ ادَّعى بأنَّ كثيرًا من الصحابة ارتدُّوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : ومن عادة الحداثيين العرب إخراج الآيات والأحاديث والآثار من سياقها إلى ما يخدم توجُّهاتهم المشبوهة أو تأويلها تأويلًا باطلًا، ومن ذلك [13] : أنهم استدلُّوا على ارتداد الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا... أَلاَ إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ... فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ) [14] . ومعلوم أنَّ مَن ارتدَّ خرج من الصحابة؛ لأنَّ حدَّ الصحبة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وأن يموت الرائي مُسلِمًا، ومَن ارتدَّ خرج عن الإسلام وخرج من كونه صحابيًّا، ولا يطعن ذلك في عدالة الصحابة؛ لكونه ليس منهم [15] . 6- ومنهم مَنْ طعن في الصحابة المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة رضي الله عنها، ومن غير الصحابة؛ كالإمام الزهري رحمه الله: كَثُرت طعون الحداثيين العرب واتِّهاماتهم لأعلام الرواية الحديثية؛ محاكاةً لِمَا فعله أسلافهم السابقون من "المستشرقين"، وعلى رأس هؤلاء الأعلام الذين طعنوا فيهم أبو هريرة رضي الله عنه الذي اتهموه بوضع الحديث لبني أمية لعلاقته بالسلطة آنذاك، واتهموه بأخذ الروايات من أهل الكتاب ولا سيما كعب الأحبار، وأنَّ عائشة رضي الله عنها اعترضت عليه، وهو قليل المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد عزله عمر رضي الله عنه عن ولاية البحرين، وعابوه بالفقر وسوء الحال، وغير ذلك من الطعون المبثوثة في كتبهم السوداء [16] . وممن طعنوا به – من غير الصحابة – الإمام الزهري رحمه الله؛ لأنه أول مَنْ جمع الحديث النبوي قاصدًا الاستيعاب، (فاتهموه بالتبعية للأمويين، وعلاقته بالسلطة آنذاك، وبوضعه الحديث لهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكاد تكون ذات الاتهامات التي وُجِّهت لأبي هريرة رضي الله عنه) [17] . وادَّعى بعضهم بأن شخصية الزهري شخصية خيالية ووهمية لا حقيقة لها، وما نُسِبَ إليه توهُّمات صبيانية ومبالغات طائشة، حيث (إنَّ التواريخ تنسب إلى الزهري عددًا من الكتب ضخمًا في السِّيرة والمغازي، وكتابًا واحدًا في الحديث، لكن هذا لا يمنع حضوره بقوة في الموطأ والصحيحين... ولم تَصِلْنا هذه الكتب؛ لأنه لم يُخلِّف أيَّ أثرٍ مكتوبٍ لا في السِّيرة – وهي اهتمامه الأكبر – ولا في الحديث، ولم يُخلِّف لأنه لم يكتب شيئًا، وقصة الاحتمال إنما هي قصة تشهد على خياليتها ومبالغتها الصبيانية) [18] . الرد المجمل على نفي عدالة الصحابة: انعقد الإجماع على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كلُّهم عدول ؛ لأنَّ الله تعالى أثنى عليهم وزكَّاهم في كتابه الكريم، وكفى به تعديلًا وتزكية، وقد مَنَّ الله عليهم بسعة الحِفظ، وقوة الضَّبط، وقد كانوا رضي الله عنهم أحرصَ الناس على حِفظِ السنة وضبطِها؛ لإيمانهم بأنَّ ما يُحدِّثهم به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحيٌ من عند الله تعالى، والمُتتبِّع حالَ الصحابة واستماعهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم يُدرك بما لا يدع مجالًا للشَّك أنهم رضي الله عنهم كان لهم منهجٌ في السماع، فلم يكن سماعُهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم للتَّسلية أو الترفيه أو الترف الفكري، وإنما كان للتَّحمُّل والتعلم والحفظ والتدوين والتبليغ [19] . ومع ذلك ؛ فإنَّ ( العدالة شيءٌ والعصمة شيءٌ آخر ، والذين قالوا: إنَّ الصحابة عدول، لم يقولوا قط أنهم معصومون من المعاصي، ولا من الخطأ والسهو والنسيان، إنما أرادوا أنهم لا يتعمَّدون كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الذين حُدُّوا في حدٍّ أو اقترفوا إثمًا ثم تابوا أو لامسوا الفتنَ والحروبَ ما كانوا لِيَتَعمَّدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) [20] . قال الخطيب البغدادي رحمه الله - في شأن الصحابة رضي الله عنهم : (لو لم يَرِدْ من الله عز وجل ورسولِه فيهم شيء مِمَّا ذَكَرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها؛ من الهجرة والجهاد والنُّصرة، وبذل المُهَج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمُناصحة في الدِّين، وقوة الإيمان واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضلُ من جميع المُعَدَّلين والمُزَكَّين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومَنْ يُعتدُّ بقوله من الفقهاء) [21] . ويكفي في الرد على أهل الحداثة وغيرهم – ممن طعنوا في الصحابة – قول أبي زرعة رحمه الله: (إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسُّنَنَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يُريدون أن يجرحوا شُهودَنا؛ لِيُبطِلوا الكتابَ والسُّنة، والجرحُ بهم أَولى، وهم زنادقة) [22] . الأسلوب الخامس: رفض منهج أهل الحديث النقدي: يقوم منهج أهل الحداثة النقدي على تطويع النص لواقع الحياة، ومحاكمته وإخضاعه لعملية البحث والمساءلة، مما يعني أن الحداثيين ينظرون إلى (النص القرآني والحديثي بمثابته نصًّا قابلًا للبحث باتجاهات بحثية متعدِّدة تعدُّد الأنساق المعرفية العلمية.. كنظرية النص، ونظرية التراث، وعلم تاريخ الدِّين، وعلم اجتماع الدين، وعلم مقارنة الأديان) [23] ؛ وذلك بفصله تمامًا عن صاحب النص، وهو الله تعالى مع القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم مع السنة النبوية، وهذا يعني نزع صفة القداسة للنص المُستمدَّة من قائله، وفصل النَّص عنه تمامًا، بما يُتيح لهم الفرصة لتأويله وتلقِّيه ودراسته دارسةً بشرية بحتة مُتَغيِّرة بالطبع من شخص إلى شخص، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، فتتعدَّد القراءات وتختلف التأويلات وذلك بِحُجَّة اختلاف الظروف والواقع عمَّا كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بدوره يؤدِّي إلى إقصاء النِّص والدِّين عن واقع التأثير في الحياة. بينما يقوم المنهج النقدي عند أهل الحديث على تعظيم النص والوثوق به، وإعماله وإخراج أقصى ما يمكن منه بالفهم؛ بل تقديمه على غيره ، والمحافظة عليه وعدم التفريط فيه دون مسوِّغٍ أو سبب ملائم، وتطويع واقع الحياة له؛ لأنَّ النص هو صانع الحياة ابتداءً حيث حوَّلها من أمة جاهلية هامشية إلى محور العالم ومدار الحياة لقرون طويلة، ومن أساليب الحداثيين العرب في رفض منهج أهل الحديث النقدي ما يلي [24] : 1- منهم مَن يدَّعي بأنَّ المنهج النقدي عند أهل الحديث يُرسِّخ تقديس النص، ويُقصِي مبدأ تاريخية النص ومحدوديته ، ويُرسِّخ (مفهموم "شمولية النص" وذلك عن طريق قراءة كلِّ تطورات الوعي الإنساني فيها، ولأنها ثانيًا تُولِّد لدى القارئ القناعة بامتلاك كتابه المُقَدَّس لكل ما وصل إليه الإنسان – أو يمكن أن يصل إليه – ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا) [25] ، ويزعم الحداثيون أنَّ تَصَوُّر أهل الحديث لقدسية النص (تَصَوُّرٌ يعزل النَّص عن سياق ظروفه الموضوعية التاريخية بحيث يتباعد به عن طبيعته الأصلية بوصفه نصًّا لغويًّا ويحوِّله إلى شيء له قداسة) [26] ، وفي محاولة بائسة من "نصر حامد أبو زيد"، يُحاول فيها نزع القداسة عن النَّص، والتَّعامل معه بصورةٍ مُجرَّدة باعتباره نصًّا لغويًّا صِيغَ في ظروفٍ تاريخيَّة مُعيَّنة، يُمكنه التَّعامل معه وتَلَقِّيه تلقِّيًا حَدَاثيًا وقراءته قراءةً تأويليَّة مختلفةً عمَّا سبق وَفق ظروف العصر ومُقتضياته؛ فانظر إلى جنايته على القرآن الكريم أولًا، ثم جنايته على السنة النبوية ثانيًا. وهو يُحاول أن ينفي عن النَّص شموليَّتَه سواء التاريخية أو التشريعية؛ بمعنى شموليته ليستوعب التاريخ الإنساني بعد النبوة وحتى قيام الساعة، وكذا ليستوعب بتشريعاته حياة الناس إلى قيام الساعة. وهنا نجد أنه ابتداءً لم يفهم النَّص ولم يفهم التشريع، ولم يستطع أن يُفرِّق بين أنواع الأحكام الشرعية، وبين المُستجدَّات والمُسْتَحْدَثات، ولم يستطيع أن يُدرك أنَّ هناك تطوُّرًا في الأحكام بتطوُّر العصر، ولكنها محكومة بقواعدَ وضوابطَ حدَّدتها الشريعةُ الغرَّاء في مصدَرَيها المُقدَّسين وهما القرآن والسنة؛ لِيَسْتوعِبا بهذه القواعد وتلك الأصول حياةَ البشرية في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكان. 2- ومنهم مَنْ يزعم أنَّ منهج أهل الحديث النقدي تغيب فيه الروح النقدية، وهو منهج غير مؤهل ولا قادر على تنقية الحديث و(ما يُعاني منه هذا المنهج يتلخَّص في آفتين: غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. وطبيعي والحالة هذه أنْ يكون إنتاج هؤلاء هو: "التراث يكرِّر نفسَه" وفي الغالب بصورة مُجزَّأة ورديئة) [27] . 3- ومنهم مَنْ يدَّعي أن منهج أهل الحديث النقدي ليس فيه إبداع ولا تطور ولا يقبل الجديد ، بل إنَّ (موقف الخطاب الديني المعاصر من "علوم القرآن" ومن "علوم الحديث" كذلك هو موقف الترديد والتَّكرار؛ إذ يتصوَّر كثير من علمائنا أنَّ هذين النَّمطين من العلوم يقعان في دائرة العلوم التي "نضجت واحترقت" حتى لم يعد فيها للخَلَف ما يُضيفُه إلى السَّلف) [28] . 4- ومنهم من يدعي أن منهج أهل الحديث النقدي منهج قاصر عن بلوغ مدارك العلم والنقد، إذ يُغفِل كليات الشريعة ومقاصدها، ويصب اهتمامه بالنقد الخارجي (نقد الإسناد) ثم يُهمِل النقد الداخلي (نقد المتن) فجل اهتمامه على الشكل فقط دون المضمون والكليات والمقاصد [29] . 5- ومنهم مَنْ يتهم المنهج النقدي عند أهل الحديث بأنه لا يتَّصف بالعقلانية، ولا يقوم على الأسس العلمية ؛ لأنَّ (المعتمد في هذا المنهج كما نعرف ليس العقل بل شهادة الآخرين؛ أي النقل أيضًا.. فلم يكن هناك مجال للممارسة العقلية كما كان الشأن في النحو والفقه والتحليل البلاغي) [30] . ولا يسمونه علمًا بل (نقول: "آراء رجال الحديث" ولا نقول: "علم مصلح الحديث" ولكن نظريات قبول الحديث؛ لأنه ليس علمًا يعتمد على منهجٍ كعلم التاريخ أو المنطق أو اللغة إلخ...) [31] . وقد (رفض الحداثي "المنهج النقدي" الذي وضعه علماء الإسلام وبالأخص أهل الحديث في نقد المرويات الحديثية، الذي أبدعوه من وحي الواقع والحاجة الذاتية للأمة، فكان إبداعًا خالصًا غير مستورد من أممٍ أخرى سابقة أو معاصرة، إنما هو مُحصِّلة معارف صهرت بعد أن جمعت، فأخرجت عسلًا ترياقًا سائغًا للشاربين. ومما يمكن إضافته هنا هو أن المنهج الإسلامي النقدي منهج يقدِّس النص ويقول بأوليته، كما يحاول فهم أقصى ما يمكن من النص ويضيق باب الهوى والفهم الفاسد للقارئ، فإن المنهج الإسلامي يقوم بنقد المتن كما نقد السند، بل المتن هو الغاية وهو سبب نقد السند) [32] . وما ادَّعوه مردود عليه بما يلي : أولًا : ادعاؤهم اهتمام أهل الحديث بنقد السَّند دون المتن أمر خاطئ؛ إذ إنَّ أهل الحديث ابتداءً من خلال السَّند حاولوا توثيق النَّص؛ فإما أنْ يكون النص ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا يكون، ثم تأتي المرحلة التالية وهي نقد المتن، وذلك بالنظر في متن الحديث، وبداهةً معروفٌ أنَّ التأكُّد من قول النَّص بالشهادة والقرائن تسبق مرحلة التحليل للنص وفهمه وتحقيقه، ولكن أهل الحداثة يُحاولون أنْ يبدؤوا بما يجب أنْ يُنتَهى به، فيتعاملون مع النص مباشرة، كيف هذا؟! أليس في أيِّ محكمةٍ في الدنيا يبدأ القاضي أولًا بتوثيق الكلام من خلال شهادة الشهود والقرائن، ثم يُنظر في الكلام أيستحقُّ قائله أن يُعاقب به أم لا؟! إنَّ توثيق نسبة الكلام إلى صاحبه تسبق النظر في الكلام بالتحليل والقراءة وهذا مما لا يختلف فيه العقلاء. ثانيًا : ادِّعاؤهم قصور منهج النقد عن أهل الحديث؛ فنقول لهم: إنكم تفترضون مبدءًا وهو: إمَّا أنْ يُسَلِّم لكم أهل الحديث بتأويلاتكم ونظرياتكم، وإمَّا أنْ تنعتوهم بأوصافِ التَّخلُّف والرجعية وعدم القدرة على الفهم. هذه حالكم مع المُخالِف، فقد ضربتم عُرض الحائط كلَّ ما أنجزه هؤلاء العلماء وكلَّ ما بذلوه وكلَّ ما أصَّلوه من علمٍ واخترعوه وابتكروه من فنونٍ لتلقِّي هذا النص وتفسيره لمجرَّد مخالفتكم لهم؛ حتى سمَّيتُم العلوم الأُخرى "التاريخ – المنطق – الكلام – علوم العربية" علومًا ونزعتم عن علم الحديث صفةَ العلم، وقد نسيتم أنَّ جُلَّ علوم اللغة والأدب والكلام إنما هي من نتاج أئمة الإسلام الذين تُوَجِّهون لهم سهام النقد وتُحاولون هدم بُنيانهم، وهيهات هيهات لكم. يُتبع. [1] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 201). [2] أضواء على السنة المحمدية، (ص 220). [3] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 244). [4] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 19). [5] صحيح البخاري، (3/ 1437)، (رقم 7198). [6] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 91). [7] فتح الباري شرح صحيح البخاري، (10/ 57). [8] انظر: نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام، المحامي أحمد حسين يعقوب (ص 42). [9] أضواء على السنة المحمدية، (ص 349). [10] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 238). [11] المصدر نفسه، (ص 348). [12] المصدر نفسه، (ص 236). [13] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 339). [14] رواه البخاري، (2/ 969)، (ح 4787)؛ ومسلم، (2/ 1204)، (ح 7380). [15] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 219). [16] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 196)؛ فجر الإسلام، (ص 347)؛ جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 20)؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 95). [17] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 211). [18] تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 37). [19] انظر: عظمة السنة النبوية، أ. د. محمود بن أحمد الدوسري، المطلب الثالث: حفظ السنة في عصر الصحابة (ص 68-78). [20] دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، أ. د. محمد بن محمد أبو شهبة (ص 287). [21] الكفاية في علم الرواية، (49). [22] الكفاية في علم الرواية، (ص 49). [23] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 93). [24] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 238). [25] النص والسلطة الحقيقية، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد (ص 141). [26] مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، (ص 12). [27] التراث والحداثة دراسات ومناقشات، (ص 26). [28] مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، (ص 11). [29] انظر: التراث وقضايا العصر، (ص 52)؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 209). [30] بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظام المعرفة في الثقافة العربية، د. محمد عابد الجابري (ص 549). [31] نحو فقه جديد، (2/ 54). [32] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 239).
توجيهُ المراصِد لمدى صحَّة ما يُنسب للإمام النَّووي من المقاصِد [1] الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فإنَّ كتاب (المقاصد) ينقسم إلى سبعة مقاصد وخاتمة، الأوَّل: في بيان عقائد الإسلام وأصول الأحكام، والثَّاني: في أحكام الطَّهارة، والثَّالث: في أحكام الصَّلاة، والرَّابع: في الزَّكاة، والخامس: في الصَّوم، والسَّادس: في الحجِّ، والسَّابع: في أصول طريق التَّصوُّف، والخاتمة: في بيان الوصول إلى الله. وقد نُسِبَ هذا الكتاب إلى الإمام أبي زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (المتوفى 676 هـ)، ولا تصحُّ نسبتُهُ إليه قطعًا، وذلك لعدَّة قرائن، منها [2] : أوَّلًا: أنَّ الإمام النَّووي لم يُشر إليه إطلاقًا في أيٍّ من مصنَّفاته وأجزائه حتَّى التي هي مظنَّة ذِكره وأقربها مناسبة به، مع أنَّ من عاداته المعروفة المطَّردة الإحالةُ على كُتبه ولو كانت غير تامَّة أو في مسألةٍ مُعيَّنةٍ. ثانيًا: أنَّه خالٍ تمامًا من عادات الإمام النَّووي واختياراته ومُفرداته وأساليبه وتعبيراته التي يدركها كلُّ ممارس لمصنَّفاته، كتسمية الكتاب ومراعاة السَّجع فيه غالبًا، وصياغة مقدّمة له تبيِّن منهجه فيه، وتحديد سنة ابتدائه أو الفراغ منه، والإحالة على مصنَّفاته الأخرى، وتكرار الأفكار لفظًا أو معنىً مع زيادة أو اختصار، وغيرها. ثالثًا: أنَّ كافَّة مَن أَفرد ترجمته بالتَّصنيف مِن أهل العلم المتقدِّمين، واعتنَى بسرد مصنَّفاته مع: تمييز التَّام منها وغير التَّام وتحديد الموضع الذي وصل إليه فيها، وبيان صحيح النِّسبة إليه من غيره، لم يذكروا هذا الكتاب ضمنها،  كتلميذه الخاص وأعرف النَّاس به: العلاء ابن العطَّار (المتوفى 724 هـ) في (تحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) ، والتّقي اللّخمي (المتوفى 738 هـ) في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي) ، والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) في (عمدة المحتاج إلى شرح المنهاج) (1/ 229-234) -وذَكَرَ فيه انكباب النَّاس على كتابة مصنَّفاته التَّامة وغير التَّامَّة حتَّى مختصره للتَّنبيه الذي كَتَبَ منه ورقة-، والكمال ابن إمام الكامليَّة (المتوفى 874 هـ) في (بغية الرَّاوي في ترجمة الإمام النَّواوي) ، والجلال السُّيوطي (المتوفى 911 هـ) في (المنهاج السَّوي في ترجمة الإمام النَّووي) ، والشَّمس السَّخاوي (المتوفى 902 هـ) في (المنهل العذب الرَّوي في ترجمة قطب الأولياء النَّووي) ، وغيرهم، وهؤلاء هم العُمدة في هذا الباب لداعي الاختصاص والتَّتبُّع وقُرب العهد به، ويُعدُّ اتِّفاقهم جميعًا على عدم ذِكره من بينها مِن أقوى قرائن نفي نسبته إليه، وقد اعتمدها الجمال الإسنوي (المتوفى 772 هـ) في (المهمَّات) (1/ 99) والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) في (عمدة المحتاج) (1/ 232) في نفي نسبة بعض الكتب إليه. رابعًا: أنَّنا لم نقف على أحدٍ من أهل العلم المتقدِّمين نَقَلَ منه مصرِّحًا بنسبته إليه. خامسًا: أنَّ مَن يقارن المقصد السَّابع منه مع جزء (أصول الطَّريقة) للشَّيخ أحمد بن أحمد بن محمَّد البرنسي الفاسي المعروف بـ: زَرُّوق (المتوفى 899هـ) -والذي شَرَحَهُ الشَّيخ محمَّد بن علي ‌الخَرُّوبي (المتوفى 963 هـ) في كتاب سمَّاه: (النُّبذة الشَّريفة في الكلام عن أصول الطَّريقة)- يجد التَّطابق بينهما حَرفًا بحَرف -إلَّا في مواضع يسيرة لا تكاد تُذكر-، ومَن يعرف الشَّيخ زَرُّوق ومطَّلعٌ على تراثه لا يتردَّد أنَّ الأسلوب أسلوبه الذي لا تُخطئُهُ العَين، ومِثلُهُ لا يَنقُلُ نصًّا طويلًا لغيره فينسبُهُ لنفْسِهِ، وعليه لم يبق أمامنا إلَّا جناية السَّرقة العلميَّة صاحَبَها بُهتان في النِّسبة، ولعلَّنا لو تتبَّعنا بقيَّة المقاصد لوجدناها كذلك. (أصول الطَّريقة) للشَّيخ زَرُّوق، ضمن مجموع محفوظ في مكتبة المسجد النَّبوي الشَّريف، رقم (80/ 202)، نُسخ سنة 991 هـ ، ويليه شرح الخرُّوبي لها (المقاصد): المقصد السَّابع، مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود، رقم (5524) ♦     ♦     ♦ فإن قيل: قد نسبه خير الدِّين الزِّرِكْلي (المتوفى 1396 هـ) إليه، فقال في (الأعلام) (8 / 149) -وهو يعدِّد كُتبه- ما نصُّه: ("المقاصد - ط": رسالة في التَّوحيد) ا.هـ. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأوَّل: أنَّه تفرَّد بذلك، وخالف جميع المتقدِّمين والمعتنين بتراثه الذين لم يذكروه، كما تقدَّم. الثَّاني: أنَّه لا يَسلم من الوهم في نسبة بعض الكتب، كما نَسَبَ إلى الإمام النَّووي في الموضع نفسه كتاب: (منار الهُدَى في الوقف والابتدا)، وهو قطعًا للأشموني. الثَّالث: أنَّه دخل عليه الوهم بسبب تقليده لشُرَّاح الكتاب الذين ذَكَرَ شرحهم له في تراجمهم. ♦     ♦     ♦ وإن قيل: إنَّ للكتاب نُسخًا خطيَّة في مكتبات العالم تنسبها إليه. فالجواب عنه من وجهين: الأوَّل: أنَّ النُّسخ الخطِّيَّة للكتاب قليلة جدًّا، وجميعها -التي وقفتُ عليها- متأخِّرة وأقدمها تعود إلى أواخر القرن الثَّاني عشر الهجري (1182 هـ)، أي: بعد وفاته بخمسة قرون وأكثر! لا يُطمأنُّ إليها في ميزان التَّحقيق العلمي، وليس فيها أيّ قرينة معتبرة تُثبت صحَّة نسبته إليه، بخلاف سائر مصنَّفاته التي هي مقابلة على نسخته أو مسموعة على الرُّواة عنه من تلامذته، أو مقابلة على أصولهم المعتمدة، أو منصوص عليها عند جمهور أهل العلم من المعتنين به، أو يظهر فيها بجلاء لكل معتنٍ بتراثه نَفَسُهُ وأسلوبُهُ. الثَّاني: أنَّ هناك بعض الكتب وُجدت لها نسخ خطِّيَّة قريبة العهد بعصر الإمام النَّووي، نَسَخَها بعض تلامذته ومَن في طبقتهم، ونَسَبَها إليه بعض أهل العلم ممَّن عاصروه أو أتوا بعده بيسير، ومع ذلك جَزَمَ المحقِّقون من أهل العلم بعدم صحَّة نسبتها إليه، مثل: (مشكلات الوسيط) الذي نسبه إليه: النَّجم أحمد بن محمَّد ابن الرِّفعة (645 هـ-710 هـ) في (المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي) ، والتَّقي محمَّد بن الحسن اللّخمي (680 هـ-738 هـ) في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي) (ص 60) ووصفه أنَّه كامل في كراريس، والكمال جعفر بن ثعلب الأدفوي (685 هـ-748 هـ) في (البدر السَّافر) ووصفه أنَّه لم يكمل، بينما جَزَمَ الجمال الإسنوي (المتوفى 772 هـ) والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) أنَّه ليس من تصنيفه [3] ، و (مختصر مسلم) الذي له عدَّة نسخ، منها: نسخة بخطِّ العلاء علي بن أيُّوب بن منصور المقدسي (666 هـ-748 هـ) -الذي نصَّ السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 87، 127) و (الضَّوء اللَّامع ) (2/ 141) و (التُّحفة اللَّطيفة) (2/ 410) أنَّه تلميذٌ للإمام النَّووي، وذَكَرَ أنَّه نَسَخَ بخطِّه كتابه (المنهاج) وحرَّره ضبطًا وإتقانًا-، وفرغ منها سنة 747 هـ، وأخرى بخطِّ محمَّد بن عمر بن إبراهيم بن محمَّد، وفرغ منها سنة 717 هـ، ونسبه إليه: التَّقي اللّخمي في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي) (ص 55) ووصفه أنَّه مجلَّد كبير ضخم، بينما جَزَمَ السِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) أنَّه ليس من تصنيفه [4] ، فإذا انتَقَدَ المحقِّقون نسبة هذين الكتابَين إليه مع ما ترى من حالهما، فكيف بالنُّسخ الخطِّيَّة القليلة المتأخِّرة لكتاب لم ينسبه إليه أحدٌ من أهل العلم المتقدِّمين المعتنين به؟! ♦     ♦     ♦ وإن قيل: إنَّه اعتنَى به جماعة شرحًا وتعليقًا، منهم: 1- الشَّيخ علي بن محمَّد سعيد السُّويدي (المتوفى 1237 هـ) في كتابه: (شرح مقاصد الإمام النَّووي)، كما في (الأعلام) (5/ 17). 2- الشَّيخ محمَّد أمين بن علي ‌بن ‌محمَّد ‌سعيد ‌السُّويدي (المتوفى 1246 هـ)، في كتابه: (قلائد الفرائد في شرح ‌المقاصد)، كما في (هديَّة العارفين) (2/ 364) لإسماعيل البغدادي (المتوفى 1339 هـ)، و(الأعلام) (6/ 42). 3- الشَّيخ إبراهيم بن صبغة الله بن أسعد الحيدري (المتوفى 1299 هـ)، في كتابه: (إمداد القاصد في شرح المقاصد)، كما في (هديَّة العارفين) (1/ 43)، و(الأعلام) (1/ 44). 4- الشَّيخ محمَّد بن أحمد البيروتي (كان حيًّا قبل 1327 هـ)، في كتابه: (الزَّوائد على رسالة ‌المقاصد)، كما في (معجم المطبوعات العربيَّة والمعرَّبة) (2/ 1627). 5- الشَّيخ مصطفى بن محيي الدِّين بن مصطفى نجا، في كتابه: (فرائد الفوائد على المقاصد)، كما في (الأعلام الشَّرقيَّة) (1/ 418). 6- الشَّيخ محمَّد بن محمود الحجَّار (المتوفى 1428 هـ)، في كتابه: (شرح المقاصد النَّووية). فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأوَّل: أنَّه مع كثرة عناية أهل العلم بمصنَّفات الإمام النَّووي إلَّا أنَّنا لم نقف على مَن اعتنَى به مِن المتقدِّمين، وجميع هذه الشُّروح متأخِّرة جدًّا من القرن الثَّالث عشر الهجري فما بعده، وإنَّما شرحوه بسبب ظنِّهم أنَّه ثابتٌ عنه، ولم يتبيَّن لهم هذه الإشكالات الواضحات الواردة في نسبته إليه. الثَّاني: أنَّ هناك كتبًا نُسبت إلى الإمام النَّووي وشُرحت، ومع ذلك نصَّ المحقِّقون من أهل العلم على عدم صحَّة نسبتها إليه، مثل كتاب: (النِّهاية في الاختصار للغاية) المنسوب إليه الذي شَرَحَهُ جماعة من أهل العلم، كالكمال النَّشائي (المتوفى 757 هـ)، والتَّقي الحِصني (المتوفى 829 هـ)، والشَّمس العجلوني (المتوفى 831هـ) [5] ، بينما جزم التَّقي السُّبكي (المتوفى 756 هـ)، والسِّراج ابن الملقِّن (المتوفى 804 هـ) وغيرهما أنَّه منسوب إليه وليس من تصنيفه [6] . الثَّالث: أنَّ شَرْح بعضهم للكتاب لا يُثبت النِّسبة إلى الإمام النَّووي، فقد شَرَحَ الجمال الإسنوي (المتوفى 772 هـ) كتاب (النِّهاية في الاختصار للغاية) المنسوب إلى الإمام النَّووي، مع جزمه أنَّه ليس من تصنيفه [7] . ♦     ♦     ♦ هذا والله تعالى أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] عرضتُ البحث على فضيلة الشَّيخ المحقِّق د. محمَّد بن يوسف الجوراني، فأقرَّني وأفاد، كعادته النَّبيلة، جزاه الله خير الجزاء. [2] سألني عن ذلك أخي الفاضل أحمد حلبي، وذلك مِن حسن ظنِّه بالعبد الفقير، فكان هذا البحث المتواضع ، وقد ذكرتُ هذه القرائن أيضًا في نفي نسبة (شرح الأربعين) إليه، ومثلُهُ كذلك الجزء المنسوب إليه المسمَّى بـ: (ذِكر اعتقاد السَّلف في الحروف والأصوات)، فإنَّه لا تصحُّ نسبته إليه. [3] قال الإسنوي في (المهمَّات) (1/ 98-99) -بعد قوله: (ويُنسب إليه تصنيفان لَيسا له)-: (والثَّاني: "أغاليط على الوسيط" مشتملة على خمسين موضعًا، بعضها فقهيَّة وبعضها حديثيَّة، وممَّن نسب هذا إليه: ابن الرِّفعة في "شرح الوسيط"، فاحذره، فإنَّه لبعض الحمويِّين) ا.هـ، قلتُ: وهو: شهاب الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الشَّهير بابن أبي الدَّم الهمْداني الحَمَوي ولادةً ووفاةً (583 هـ-642 هـ)، ذكروا من مصنَّفاته: "شرح مشكل الوسيط"، وهو نحو الوسيط مرَّتين، وقد نَقَلَ هذه الأغاليط من شرحه الكبير المذكور، وله نسخة خطِّيَّة محفوظة في دار الكتب المصريَّة رقم (282) فقه شافعي، ونُسخت في أواسط القرن الثَّامن الهجري، صرَّح ناسخها بنسبته إليه، وقال ابن الملقِّن في (عمدة المحتاج) (1/ 232): (و"مشكلات الوسيط": والظَّاهر أنَّها ليست له، وإن عزاها إليه صاحب "المطلب"، وغيره) ا.هـ، وعلَّق على كلامه السَّخاويُّ في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 82)، فقال: (يعني: كالكمال الأدفوي، فإنَّه سمَّاه في "البدر السَّافر" من تصانيفه مع: "إشكالات على المهذَّب"، وقال: إنَّهما لم يكملا) ا.هـ. [4] قال في (عمدة المحتاج) (1/ 232) -بعد جزمه في "النِّهاية" أنَّه ليس له-: (وكذا "مختصر مسلم"، وكأنَّ مصنِّفه أخذ تراجمه من "شرح صحيح مسلم" له، وركَّب عليها متونه، وعزاه إليه) ا.هـ. [5] قال السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (1/ 232): (شَرَحَ "الغاية" المنسوبة له: الجمال الإسنوي، والكمال النَّشائي، والتَّقي الحِصني، والشَّمس محمَّد بن أحمد بن موسى العجلوني) ا.هـ. [6] قال التَّقي السُّبكي في (الفتاوى) (1/ 156): ("نهاية الاختصار" المنسوب إلى النَّووي) ا.هـ، وقال ابن الملقِّن في (عمدة المحتاج) (1/ 232): (وممَّا يُعزى إليه: "النِّهاية" في الفقه، وعندي أنَّها ليست له، وإن كانت له، فلعلَّها ممَّا صنَّفه في أوَّل أمره) ا.هـ. [7] قال في (المهمَّات) (1/ 98-99): (ويُنسب إليه تصنيفان لَيسا له: أحدهما: مختصرٌ لطيفٌ يُسمَّى: "النِّهاية في الاختصار للغاية") ا.هـ.
هل ستنقرض المسيحية؟ ! المـقـدمـة : قديمًا تعلَّمْنا أن البناء الذي بُني على أساس باطل وهشّ سيأتيه يوم ينهار فيه هذا المبنى، ولما كانت المسيحية المحرفة دينًا باطـلًا، فإنها الآن تفقد قوامها شيئًا فشيئًا وخاصة بعد أن تخلصت أوروبا وأمريكا من سلطة الكنيسة؛ تلك الكنيسة التي أرغـمـت الناس على اعتناق المسيحية، وقـتـل أي شخص يرفض المسيحية بحجة أنه هرطوقي! وفي هذا المقال، سوف نرى سويًّا كيف أن المسيحية تنهار اليوم وسط ولولة المنصِّرين الغربيين. الموضوع : نشر معهد (بيو) للأبحاث العقائدية دراسةً بعنوان: ( Ten facts about atheists ) وقد جاء في البند الثالث من هذه الدراسة ما يلي: [ Atheists make up a larger share of the population in many European countries than they do in the U.S. In Western Europe, where Pew Research Center surveyed 15 countries in 2017, nearly one-in-five Belgians (19%) identify as atheists, as do 16% in Denmark, 15% in France and 14% in the Netherlands and Sweden. But the European country with perhaps the biggest share of atheists is the Czech Republic, where a quarter of adults identify that way. In neighboring Slovakia, 15% identify as atheists, although in the rest of Central and Eastern Europe, atheists have a smaller presence, despite the historical influence of the officially atheist Soviet Union. Like Americans, Europeans in many countries are more likely to say they do not believe in God than they are to identify as atheists, including two-thirds of Czechs and at least half of Swedish (60%), Belgian (54%) and Dutch adults (53%) who say they do not believe in God.] وترجمة الاقتباس السابق هو كالتالي : [يشكل الملحدون نسبةً أكبر من السكان في العديد من البلدان الأوروبية مقارنةً بالولايات المتحدة. وبالنظر إلى غرب أوروبا حيث قام معهد (بيو) بدراسة 15 دولة في عام 2017م، فإنه تبين أن نسبة الملحدين تبلغ 19% في بلجيكا؛ أي: خُمس الشعب تقريبًا، كما تبلغ نسبة الملحدين 16٪ في الدنمارك، و15٪ في فرنسا، و14٪ في هولندا والسويد؛ لكن ربما تكون جمهورية التشيك هي أكبر دولة أوروبية بها نسبة ملحدين؛ حيث يُعرَف ربع البالغين على أنهم ملاحدة. وفي سلوفاكيا المجاورة يُعرَف 15٪ بأنهم ملحدون. وعلى الرغم من التأثير التاريخي للاتحاد السوفيتي الملحد رسميًّا إلا أن نسبة الملحدين أقل في شرق ووسط أوروبا. وبمثل الأمريكيين، فإنه من المرجح أن يميل الأوروبيون في العديد من البلدان إلى القول بأنهم لا يؤمنون بالإله أكثر من قولهم بأنهم ملحدون، فمثلًا: ثلثا سكان التشيك، ونصف السويديين (60٪( ، والبلجيكيين (54٪) ، والهولنديين البالغين (53٪) يقولون: إنهم لا يؤمنون بإله]. • فهل ستنقرض المسيحية في الغرب؟! وهل فـشـل الكتاب المقدس في الدفاع عن منطقته الجغرافية أم أن المسيحيين- وخاصة المستشرقين- لا يستعرضون قوتهم إلا على المسلمين فقط؟! وفي النهاية أودُّ أن أقول إنه إن كان من توفيق فمن الله وحده، وإن كان من سهو أو زلل فمني وأرجو المسامحة عليه. لا تنسونا من صالح الدعاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. المراجع:
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (3) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب الثالث: إنكار الثبوت التاريخي للسُّنة: من أساليب دعاة الحداثة في إنكار الثبوت التاريخي للسنة ما يلي [1] : 1- فمنهم مَنْ يزعم أنَّ السُّنة بقيت طوال مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تُتَناقل مُشافهةً دون تدوين، ولم يلتزم الرواةُ بالنقل اللفظي للحديث بل كانوا يرونه وَفق أفهامهم مِمَّا يُفقد الثقةَ بالأحاديث المروية : فيزعمون أنَّ (نصوص الأحاديث لم تُدوَّن إلاَّ متأخِّرة، وخضعت من ثَمَّ لآليات التناقل الشفاهي، الأمر الذي يُقرِّبها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث إنها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي، وإن كانت الأحاديث ذاتها.. نصوصاً تفسيرية لنوع من الوحي مغاير.. فإن الأحاديث التي بين أيدينا تكون في حقيقتها تفسيراً للتفسير) [2] . و(النقل الشفاهي فيه بالطَّبع تحريفٌ مستمر؛ ولهذا فإنه لا يُعتدُّ في العلوم المُتكَوِّنة إلاَّ بالنقل المكتوب) [3] ؛ لأنَّ (الاهتمام بالحديث لم يكن موجوداً في القرن الأوَّل) [4] . وهذه (النصوص التي خضعت لآليات الانتقال الشفاهي - ولو لفترة محدودة كالأحاديث النبوية - فإنها تَطْرَح إشكاليةً أكثر تعقيداً من جانبي المنطوق والمفهوم معاً؛ إذ يفقد هذا النوع من النصوص صفةَ ثبات المنطوق، ويصبح تحديده أمراً اجتهاديًّا خاضعاً بدوره لجدلية الكشف والإخفاء) [5] . وادَّعوا بـ(إنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ممَّا سمُّوه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً، حديثٌ قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، كما نَطَقَ الرسولُ به... وقد وُجِدَ بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في القلة والندرة.. ومن أجل ذلك جاءت الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته صلوات الله عليه إلاَّ نورٌ خافت أو شعاع ضئيل) [6] . و(الإقرار بوجود حديثٍ نبوي متكامل لفظاً ومعنىً مسألة تفتقد المصداقية الوثيقة التاريخية، أو على الأقل تستثير تحفظاً وشكاً شديدين) [7] . نسي أو تناسى أصحاب هذا الرأي عدة أمور ، منها: ♦ أن السنة النبوية المشرفة لاقت من العناية والاهتمام والتدوين القدر الكبير، وقد بدأ تدوين السنة في مرحلة سابقة عن تلك التي يحاولون التأريخ بها لبداية تدوينها؛ إذ من الثابت تاريخيًّا أن التدوين بدأ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ القرن الأول للهجرة، ولكن بشكل فردي، وإنما حدثت الطَّفرة في الجمع والتدوين في القرن الثاني للهجرة كحركة علمية مُنظَّمة. ♦ أنَّ العرب أُمَّةٌ منحها الله تعالى من قوة الذاكرة ما شهد لها به الجميع، حتى ليكاد يكون إجماعاً على قوة ذاكرتهم، وقد مكنتهم هذه الذاكرة القوية من حفظ الحديث النبوي وتأديته كما هو [8] . ♦ أن التبدل أو التغيير في بعض ألفاظ الحديث مرجعه إلى: إمَّا تكرار الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم في موقفين مختلفين، وفي مناسبتين مختلفتين. وإمَّا رواية الحديث كما هو مع تغييرٍ في بعض ألفاظه من قبل الراوي، مع إشارته في كثير من الأحيان إلى ذلك. وهاتان الحالتان لا تُقلِّل من قيمة الحديث ولا تُضعف من مكانته، فالحالة الأُولى الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا إشكال فيها؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الصيغتين، ومن ثَمَّ، هو أدرى بما قال وبما يقول. وأما الحالة الثانية، ففيها جواز رواية الحديث بالمعنى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ممَّن عاصروه وسمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أمَّا غيرهم فلا؛ لأن مَنْ سمعوا منه إنما فهموا مُرادَه وعرفوا غايته، وفي نفس الوقت هم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، ومن ثَمَّ إنْ حدث تغيير أو تبديل في بعض الألفاظ، فهو ممَّا لا يُخِلُّ في المعنى، ولا يُنافي مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمَّا الادِّعاء بأنَّ الأحاديث التي جُمعتْ ليس عليها من ضياء البلاغة النبوية إلاَّ نورٌ خافت، فهذا واللهِ العَجَب العُجاب، فها هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاهم أهل اللغة فلينظروا في هذه الأحاديث ولينظروا في صياغتها وبلاغتها وتفرُّدها وتميُّزها، هل وجدوا مثل هذا الكلام في لغة البشر؟! لا واللهِ، ما وجدوا ولن يجدوا. بل إنَّ الدراسات الأكاديمية في كلِّ جامعات العالم العربي والإسلامي وكذا الرسائل الجامعية التي تناولت الحديث النبوي بالبحث والدراسة اللغوية والبلاغية لَتُثْبِتُ بما لا مجال للشك معه عظمةَ البلاغة النبوية، التي لا يمكن أن تصدر إلاَّ عن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم. 2- ومنهم مَنْ يزعم أنَّ الأحاديث من نسج خيال الرواة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على الحقيقة : فقد زعم أهل الحداثة أنَّ نصوص الأحاديث ما هي إلاَّ خيال يجول في نفس الراوي وليس هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على جهة الحقيقة: (الحديث النبوي في نهاية الأمر تَمَثُّلٌ لما استوعبه المحدِّثون فيما بعد أو كما فهموه، ففيه جانب كبير من ذات الراوي وثقافته ووعيه، فنقل التاريخ لا يعكس التاريخ كواقع وأحداث) [9] . واعتبر الحداثيون العرب أنَّ الأحاديث النبوية من نسج الخيال الجمعي للأمة لإيجاد نموذج مفترض، وهو غير موجود على أرض الواقع؛ فمن مزاعم في ذلك قولهم بـ (أنَّ نموذج المدينة الأكبر ما هو إلاَّ من اختراع المُتَخَيَّل الجماعي لأجيالٍ متتالية من المؤمنين الذين أسقطوا على الزمان والمكان التدشينين "للدولة الإسلامية" "622 م – 632 م" الحضارة المتنمذجة والمثالية للسلطة العادلة والمقدسة والشرعية) [10] . و(نحن نعلم أنَّ "هيغل" كان يتحدث عن الكليانية الأخلاقية المرتبطة بالاستذكار الحنيني والاسترجاعي للمدينة الإغريقية وللجماعات المسيحية الأُولى، ونحن نجد مُعادِلاً لهذه الفكرة في تعلُّق المسلمين بمثالٍ أخلاقي أعلى لا يُمكن تجاوزه، هذا المِثال الذي كان قد تجسَّد في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو صحابته. من المعلوم أنَّ الأحاديث النبوية ما انفكَّت تتزايد وتنتشر طيلة القرون الهجرية الثلاثة الأُولى، وهي تُعبِّر عن مُجمل القيم الأخلاقية – الدِّينية المُعظَّمة والمُبجَّلة من قبل مختلف الفئات الاجتماعية في أوضاعها الحياتية المتنوِّعة، كما أنها مُسقَطة على النماذج المِثالية المقدِّسة للسلف الصالح) [11] . وهكذا حاول الحداثيون قياس حالةٍ بحالة ؛ فقاسوا ما قام به "هيغل" كفردٍ في محاولته إحياء النماذج اليونانية القديمة، وحاولوا إسقاطها على ما قام به علماء المسلمين مع السنة النبوية. وهذه الدعوى خطيرة للغاية ؛ إذ إنها لا تنفي وجود السُّنة فقط، وإنما تؤكِّد على تزوير مُتَعمَّد للتاريخ الإسلامي والتشريع الإسلامي، وليس هذا العمل من قِبَلِ فردٍ أو فردين أو حتى مجموعة أفرادٍ، وإنما قام به علماء الإسلام على تباعدٍ في الزمان والمكان، وكأنهم جميعاً تواطؤوا على هذا الفعل. وهي دعوة هشة لا تثبت أمام العقل من جهة، وأمام وقائع التاريخ من جهة أخرى: أمَّا العقل : فمستحيلٌ عقلاً أن يتواطأ هذا العدد الكبير من علماء الإسلام شرقاً وغرباً مع تباعدٍ في المكان واختلافٍ في الزمان على فكرة واحدة وهي تزوير التاريخ الإسلامي؛ تحقيقاً لهدف واحد، وهو بناء النموذج الكامل المنشود منهم جميعاً والغير موجود واقعاً. أمَّا من حيث التاريخ : فإن تدوين السنة عموماً وتدوين ما يتَّصل بها من علوم لم يبتعد عن زمن الوحي والرسالة كثيراً، وإنما بدأ مبكِّراً، وكذا بدأت الحركة العلمية في كافة العلوم الإسلامية العربية في وقتٍ مُبكِّر، مع اهتمامٍ بالغٍ بضبط النَّقل وضبط النَّص كما لم يحدث في أُمَّة من الأمم؛ مما يجعلنا مطمئنين إلى ما وصلنا من علومٍ حفِظَها لنا علماء الأمة الأفذاذ. 3- ومنهم مَنْ يدَّعي اختلاف الروايات وتعارضها باختلاف الأزمنة المكتوبة فيها ؛ كما ادَّعى ذلك "د. محمد حسين هيكل" بقوله: (إنني لم آخذ بما سَجَّلَتْهُ كتب السِّيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث بنهجها.. وأول هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلافٍ في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبي العربي منذ مولده إلى وفاته، فقد لاحَظَ الذين درسوا هذه الكتب أنَّ ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثيرٍ من غيرها من الأنباء كان يزيد وينقص دون مسوِّغٍ إلاَّ اختلاف الأزمان التي وُضِعَتْ هذه الكتب فيها، فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخِّرها، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بُعداً عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخِّرين) [12] ، وهذا الكلام فيه جانِبٌ من الصواب، فحقًّا هناك وقائع تاريخية غير ثابتة وردت في كتب التاريخ والسِّير. ولكن السؤال المهم : هل أهمل علماءُ الإسلام هذه الوقائعَ ولم يُبيِّنوها؟ بالطبع لا. فقط درسها علماء الإسلام ونبَّهوا عليها، وبيَّنوا صحيحَها من سقيمها وَفق منهجٍ مُطَّرد في تلقِّي الأحداث والوقائع وتدوينها، ولكن يبدو أنَّ صاحب هذا الكلام لم يُعجبه ما ورد من معجزاتٍ نبوية عَبَّرَ عنها هو بقوله: "خوارق" وربما ظنَّ أنها تُخالف العقل، فحاول نفي ثبوتها وعدم وجودها، ولكن مثل هذه المعجزات ثابتة بنصِّ القرآن، وصِدقِ النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام تفصيل. 4- ومنهم مَنْ يُشكِّك في منهج المحدثين وبأنهم عاجزون عن تنقية الحديث من الموضوعات : ومن العجائب أنَّ بعض الحداثيين العرب استدلَّ على عجز منهج المُحدِّثين عن إبعاد "الموضوعات" بأن البخاري رحمه الله جمع "كتابه الصحيح" من ستمائة ألف حديث، فلم يستطع تنقية الحديث النبوي من الشوائب [13] !     وادَّعى بعض الحداثيين بأنَّ المحدِّثين لم يستطيعوا التخلص من الأحاديث الموضوعة؛ لكثرتها وتتابع الناس عليها، فيقول (ومع أنَّ الفقهاء استخدموا عبر نشاطهم التفقيهي التنظيري طريقة الجرح والتعديل... واكتشفوا غيرها مع آخرين من الجُمَّاع والباحثين مجموعاتٍ ضخمةً من الأحاديث الموضوعة "الكاذبة" إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أنْ يفعلوا الكثير، حيث كانوا يُلاحظون أنَّ هذه الأحاديث ظلَّت قائمةً ومعمولاً بها من قبل جموعٍ واسعة من المؤمنين، وذلك بفعل النقل الاجتماعي الذي حققته لديهم عبر تراكمٍ تاريخي وتراثي جديد، وكان من نتائج ذلك أنْ تراكمت الترسانة الحديثية على نحوٍ هائل) [14] . وزعم بعضهم أنَّ المُحدِّثين (اعتبروا الحديث الموضوع صنفاً من أصناف الحديث الضعيف التي لا يُعمل بها إلاَّ في الفضائل) [15] . وبعض دعاة الحداثة يستقي معلوماته - عن أهل الحديث - من خصومهم دون تمحيص أو تمييز، فيزعم أنه (جاء في "دائرة المعارف الإسلامية" تحت مادة: "الحديث" .. مع أنَّ المسلمين كانوا يَلَعنون واضعي الأحاديث ومَنْ يُذيعها بين الناس عن سوء قصد، إلاَّ أنه ثمَّة اعتبارات مُخَفِّفة أُخِذَ بها في بعض الأحوال، وبخاصة إذا كان الحديث الموضوع يتناول بعض العِظات أو التعاليم الخُلُقية) [16] . وهذا الاتهام الباطل يردُّه هذه الجهود العظيمة التي قام به علماء الإسلام في سبيل صيانة السُّنة وحِفظِها؛ فإذا كان الإمام البخاري رحمه الله غربل ستمائة ألف حديث لديه ليخرج لنا صحيحَه، الذي لا يتجاوز الأربعة آلاف وبضع مئاتٍ من الأحاديث، أليس هذا دليلاً على جُهدٍ بالغٍ لتنقية السُّنة وحِفظِها. وليس الإمام البخاري وحده صاحب جُهدٍ في هذا الباب، ولكن انظر إلى هذه المؤلفات وتلك المجلدات التي ضمَّت الصحيح وميَّزته عن الضعيف وعن الموضوع؛ لتكون مرجعاً ترجع إليه الأمة لمعرفة صحيح السُّنة الثابتة وتمييزها عمَّا قد يُخالطها من ضعيفٍ أم موضوع. إن مثل هؤلاء المُدَّعين يُحاولون أنْ يحجبوا ضوء الشمس أو أنْ يُزيلوا الجبال الراسخات، فجهدهم هباء منثور، لم يؤثِّر في منزلة السُّنة ومكانتِها، ولن يؤثِّر؛ لأن الله تعالى حافظٌ دينَه ولو كره الكافرون. 5- ومنهم مَنْ يدَّعي امتزاج الإسرائيليات بالحديث النبوي : فقد زعم بعض الحداثيين العرب أنَّ الصحابة تداولوا الإسرائيليات وأصبح ذلك أمراً مُتعارفاً عليه بينهم، ومألوفاً عندهم فـ(لم يكن اعتماد جمهور المفسرين ورواة الحديث على هذه الإسرائيليات مما يثير الحرج في نفوسهم، فلقد كانت حاضرةً ومقبولةً زمنَ النبوة والصحابة بسبب عاملين اثنين: أولهما نشاط مَنْ يُطلَق عليهم "مسلمة اليهود" وكان بعضهم على دراية بالتراث اليهودي، وثانيهما أنَّ نُسَخاً من التوراة نفسها كانت متداولةً لدى الصحابة زمن النبوة وقبلها) [17] . والهدف الذي يرمي إليه هذا الحداثي واضح ومعلوم؛ وكأنه أراد بذلك أنْ يُبَرهِنَ على أنَّ الإسلام مزيجٌ من دياناتٍ وفلسفاتٍ سابقة عليه، وليس لديه دليل على صدق مذهبه إلاَّ هذه الروايات التي يُطلَق عليها: الإسرائيليات، وما انتشر من نُسَخِ التوراة في زمن الصحابة رضي الله عنهم وقبلهم. وهذا الادِّعاء لا يُمثِّل قيمةً علمية عند البحث والمناظرة؛ فمعلوم وثابت تاريخيًّا أنَّ الدِّيانة السائدة في شِبه الجزيرة هي ديانةٌ وثنيَّة على اختلاف معبوداتهم هذه واحدة، وأنَّ عدداً قليلاً من العرب في الجزيرة على اتِّساعها هو مَنْ تَنَصَّرَ، وأنَّ اليهود وإنْ وُجِدوا بين العرب في يثرب "المدينة النبوية" فهم يضربون لأنفسهم "جيتو" [18] يدخلون فيه ولا يُطلِعون أحداً على تعاليم دينهم، فمن أين له بهذه النتيجة التي مُفادها: انتشار نُسخٍ من التوراة واطِّلاع العرب عليها، وانتشار روايات إسرائيلية بسبب وجود اليهود بينهم؟ إنَّ على صاحب هذا الرأي أنْ يأتِ بدليلٍ على صِدق دعواه وإلاَّ فليصمت. أمَّا ما وُجِد من إسرائيليات في كتب المسلمين، فقد نبَّهوا عليها ولم يتركوها هكذا لتدخل في نسج الدِّين الإسلامي الحنيف، وإنما ذكروها للتنبيه عليها وبيانها للناس. ومن تضخيم دعاة الحداثة للإسرائيليات وادِّعائهم تداخلها وامتزاجها مع الحديث النبوي، كما دخل عليه أشياء أخرى من كل الأديان والنِّحل، قول أحدهم: (لا يعجب القارئ من أنْ يَدخُلَ في الإسلام مسيحياتٌ بعد أنْ دَخَلَ فيه إسرائيلياتٌ، فإنه قد شِيبَ [19] بأشياء من كلِّ دينٍ ومن كلِّ نحلةٍ، ولكن المجال لا يتَّسع لبيان كلِّ ما دخل عليه من المِلل الأُخرى؛ لأنَّ ذلك يحتاج إلى مؤلَّف برأسه) [20] . وبعض الحداثيين العرب ادَّعى امتزاج الإسرائيليات بالحديث النبوي إلى درجة عدم التمييز بين ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما قاله مسلمة الكتاب؛ من أمثال كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وغيرهم، وقد كان (كعب بن ماتع.. يهوديًّا من اليمن.. مِنْ أكبر مَنْ تسرَّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين.. وقد أخذ عنه اثنان هما أكبر مَنْ نَشَرَ عِلمَه: ابن عباس – وهذا يعلِّل ما في تفسيره من إسرائيليات – وأبو هريرة، ولم يُؤثَرْ عنه أنه ألَّف كما أُثِرَ عن وهب بن منبه ولكن كل تعاليمه كانت شفويةً، وما نُقِلَ عنه يدل على عِلمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها) [21] . و(ما صَوَّره الحداثيون بتضخيم الإسرائيليات وحجم روايتها فِعْلٌ مُؤدلج يهدف إلى تزييف الواقع، وإفقاد الثقة بمنهج الرواية عموماً وبالحديث النبوي خصوصاً. والواقع أن هذه الإسرائيليات ليس لها أيُّ مكانةٍ تشريعية، ولا تُثْبَت بها الأحكام، ولا يُحتجُّ بها للترجيح بين المسائل أبداً) [22] . والسؤال : كيف عرف هؤلاء هذه الإسرائيليات وتلك الروايات؟! ألم يعرفوها من علماء الإسلام؟! ألم ينبِّه عليها علماء الإسلام؛ كابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره وغيره؟! لقد تعدَّدت مناهج علماء الإسلام في حركة التأليف، فمنهم مَنْ جمع الروايات ونبَّه عليها، ومنهم مَن اقتصر على الصحيح فقط ولم يلتفت إلى ما عداه. ولكن أدعياء العقل؛ الذين لا عقل لهم يغضُّون الطرف عن تعليقات علماء الإسلام على مثل هذه الروايات، ويقفون عند حدود ورودها في كتبهم، وكأنها أصبحت مُسَلَّمات بسبب ورودها، وهذا مخالف للمنهج العلمي الموضوعي، إذ إنهم يعتمدون الانتقائية المخالفة لمعايير العلم والبحث العلمي الجاد. 6- ومنهم مَنْ يدَّعي تأخُّر تدوين السُّنة إلى ما بعد مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أفقد الأحاديث صلاحيتها للاحتجاج : من أعظم الأمور التي يستدل بها دعاة الحداثة لإبطال مشروعية السنة وإنكار ثبوتها التاريخي الزعم بتأخر تدوينها، وأن الأحاديث لم تُدوَّن ولم تكتب إلاَّ بعد مرور مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، مما أفقدها قيمتها الثبوتية، (فلا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد من سيرةٍ وتاريخٍ وطبقاتٍ وحديث؛ لأنَّ القاعدة أنَّ كلَّ ما دُوِّن بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرخ) [23] . ويعزو بعض الحداثيين العرب تأخُّر تدوين السنة إنما تم بدافع سياسي وليس بدافع علمي؛ وذلك لتعزيز السلطة آنذاك، فيدَّعي أنَّ (الرجال الذين نُسِبَ إليهم تدوين العلم وتبويبه قد قاموا بذلك فِعلاً .. وما نريد التأكيد عليه هنا هو أنَّ العمل الذي تم في وقتٍ واحد وفي أمصار متباعدة لا يُمكن أنْ يحدث هكذا تلقائيًّا وبمجرَّد المُصادفة، إنه لا بد أنْ تكون الدولةُ وراء هذه الحركة العلمية الواسعة التي كانت تستهدف ترسيم الدِّين إذا صحَّ التعبير؛ أي جعله جزءًا من الدولة وفي خدمتها، مِثلما أنَّ عمل الشيعة في هذا المجال، كان يهدف بالمقابل ترسيم المُعارضة السياسية؛ أي إضفاء المشروعية الدِّينية عليها) [24] . ويدَّعي بعضهم بأنَّ الأحاديث المُدوَّنة في الكتب ("السِّتة الصِّحاح" لم تكن معزولة أيضاً عن الولاء لسياسات حُكامٍ على مذهب أهل السُّنة في المشرق الإسلامي) [25] . ويُزعم بعضهم أنَّ (الاستبداد الفكري الذي بدأ بعصر التدوين واكتمل باستقالة العقل العربي الإسلامي على يد "الغزالي" .. ففي عصر التدوين بالقرن الثاني تم تأطير الإسلام ضمن أُطُرٍ نبعت من المعارف السائدة) [26] . وزعم الحداثيون أنَّ تأخُّر تدوين الحديث النبوي أدَّى إلى نتائج يُمكن إجمالها فيما يلي [27] : أ- صعوبة التَّحقُّق من مصداقية السُّنة، ممَّا (أدَّى إلى اعتبار السُّنة أقرب إلى التحريف منها إلى الضبط) [28] . ب- اختلاط الحديث بـ (الموروث الشَّفَهِي للصحابة الأوَّلين وغيرهم من أصحاب الفِرَق والتيارات والمدارس الإسلامية المُبكِّرة والمُتأخِّرة، وهذا ما أسهم في إنتاج بنية نصِّية مركبة ... نص على نص) [29] . ج- دخول "الحديث الموضوع" بشكل كبير جداً وسهل، ممَّا أدَّى إلى (تعاظم حجم النص الحديثي على نحوٍ هائل) [30] . حاول الحداثيون العرب إخضاع حركة التدوين للسنة النبوية لمعايير التفسير الماركسي للتاريخ، والقائم على الصراع والنِّزاع الدائم بين الطبقات ؛ ليصلوا إلى أنَّ حركة التأليف والتدوين لم تسلم من هذا النزاع وذلك الصراع السياسي على السلطة. وهم بهذا الصنيع ضربوا عرض الحائط ما وضعه علماء الإسلام لأسس وركائز علمٍ شَهِدَ لهم العالم بأسره بتميُّزهم وتفرُّدهم به ألا وهو علم الحديث، وما اتصل به من علوم الجرح والتعديل والإسناد والرواة وغيرها. وادَّعوا كذلك بأنَّ (الصراعات والمنازعات السياسية التي اندلعت بعد الصدر الأوَّل من الإسلام أدَّت إلى اختلاق الكثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها أو تسويغاً، واستمر هذا الوضع حتى أصبح الحديث الصحيح من الحديث الموضوع كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود) [31] . يُتبع،،، [1] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 156). [2] نقد الخطاب الديني، (ص 100). [3] المدخل إلى الدراسات التاريخية، لانجلوا وسينوبوس، ترجمة: عبد الرحمن بدوي (ص 140). [4] تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 37). [5] نقد الخطاب الديني، (ص 89). [6] أضواء على السنة المحمدية، (ص 20). [7] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 70). [8] انظر – في مسألة جمع السنة وتدوينها وجهود السلف في ذلك: عظمة السنة النبوية، (ص 78-95). [9] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 244). [10] من فيصل التفرقة إلى فصل المقال.. أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، (ص 175). [11] المصدر نفسه، (ص 176). [12] حياة محمد، د. محمد حسين هيكل (ص 47). [13] انظر: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 63). [14] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 62). [15] نحو فقه جديد، (2/109). [16] دائرة المعارف الإسلامية، (7/374)؛ المستشرقون والحديث النبوي، (ص 195). [17] نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، (ص 80). [18] (الجيتو): مكان داخل المدينة أو خارجها محاط بسورٍ عالٍ له بوابة أو أكثر تغلق عادة في المساء، ويمثل أشهر الأشكال الانعزالية اليهودية في العالم، بحيث أصبح يُطلق على سبيل التعميم على كلِّ شكلٍ من أشكال الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. [19] شِيبَ: أي: خُلِطَ. [20] أضواء على السنة المحمدية، (ص 181). [21] فجر الإسلام، (ص 255). [22] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 173). [23] السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، (ص 94). [24] تكوين العقل العربي، (ص 67). [25] التراث وقضايا العصر، د. محمود إسماعيل (ص 51). [26] دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 217). [27] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 177). [28] الإسلام هو القرآن وحده، توفيق صدقي، مجلة المنار، (مجلد 12)، (ص 912). [29] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 61). [30] المصدر نفسه، (ص 238). [31] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 61).
طبعات التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة كان الحافظ الكبير أبو خيثمة زهير بن حرب النَّسائي (ت 234هـ)، نزيل بغداد حافظًا كبيرًا من حفَّاظ السنة، قدَّمه بعض الأئمة على أبي بكر بن أبي شيبة صاحب " المصنَّف ". وقد وَرِث عنه العلمَ ابنُه أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة (ت 279هـ)، بل فاقه وبزَّه وقد اجتمع له من الشيوخ في شتى العلوم ما لم يجتمع لغيره إلَّا في النادر؛ قال الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (5 / 265): «وَكَانَ ثِقَةً، عالما متقنًا حافظًا بصيرًا بأيام الناس، راوية للأدب. أخذ علم الحديث عَنْ يَحْيَى بْن معين، وأحمد بْن حنبل، وعلم النسب عَنْ مصعب بْن عَبْد اللَّه الزبيري، وأيام الناس عَنْ أَبِي الْحَسَن المدائني، والأدب عَنْ مُحَمَّد بْن سلام الجمحي...». وأبو بكر ابن أبي خيثمة من العلماء الذين أجمع النقاد عبر العصور على توثيقه والحكم عليه بالعدالة والإتقان، وقال ابن حبان كان «ممن جمع وصنَّف مع إتقان فيه». [الثقات لابن حبان 8 /55]. ومن مصنفاته التي ذكرها العلماء في ترجمته: • « أخبار الشعراء »؛ ذكره ابن النديم في الفهرست. • « كتاب الإعراب »، ذكره ابن النديم في الفهرست ومغلطاي في " إكمال تهذيب الكمال "، والسخاوي في " فتح المغيث "، والذي يظهر أنه كتاب في اللغة وليس كتابًا في تاريخ الأعراب. • « تاريخ البصرة »، ذكره ابن الفرض في تاريخ الأندلس. وغير ذلك من المصنفات، أمَّا التاريخ، فقد ذكر له العلماء كتابين: • « التاريخ الأوسط »، نقل عنه مغلطاي في مواضع من كتابه " إكمال تهذيب الكمال ". • و« التاريخ الكبير »، وقد طبع منه عدَّة قطع، وهو موضوع هذا المقال. بل ذكرهما مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (1 /314) معًا في تحقيق نسب إبراهيم بن يزيد النخعي؛ فقال: (كذا نسبه يعقوب بن سفيان الفسوي ..... وابن أبي خيثمة في " تاريخه الكبير " و" الأوسط "... لكن للأسف لم يصل إلينا شيء من مصنَّفات ابن أبي خيثمة غير بعض القطع من كتاب " التاريخ الكبير "، وهو أعظم كتبه وأحسنها تصنيفًا، قال الخطيب البغدادي: وله كتاب التاريخ الَّذِي أحسن تصنيفه وأكثر فائدته ». طبع الكتاب بتحقيق الأستاذ الشيخ صلاح بن فتحي هلل على مرحلتين: المرحلة الأولى: عبارة عن السفر الثالث من الكتاب طبع في 3 مجلدات والمجلد الرابع للفهارس، دار الفاروق، الطبعة الأولى 1424هـ = 2003م. المرحلة الثانية: عبارة عن السفر الثاني من الكتاب، طبع في مجلدين كبيرين (1166 صفحة)، دار الفاروق، الطبعة الأولى 1427هـ = 2006م. والكتاب في أصله الخطي في عدَّة أسفار، وصلنا منها: أولًا: قطعة من السفر الثاني حققت في ثلاث رسائل جامعية في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية: الرسالة الأولى: ابتداء من قوله: « تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ... » إلى قوله: « من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عامر »، دراسة وتحقيق للباحث: د. أحمد بن عبدالله الحمدان (1419هـ). تقابل في طبعة الأستاذ صلاح هلل (ج1/ ص 48 إلى ج1/ ص 388 = السفر الثاني). الرسالة الثانية: تبدأ من قوله: « من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عامر » إلى قوله: « تسمية القبائل الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » دراسة وتحقيق، للباحث د. حسن بن راضي الصاعدي (1419هـ). تقابل في طبعة الأستاذ صلاح هلل (ج1/ ص 385 إلى ج2/ ص 711 = السفر الثاني). الرسالة الثالثة: تبدأ من قوله: « تسمية القبائل الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » إلى قوله: أخبار المكيين» تحقيق ودراسة، للباحث د. كمال بن محمد قاملي (1417هـ). تقابل في طبعة الأستاذ صلاح هلل (ج2/ ص 711 من السفر الثاني إلى ج2/ ص 711 = السفر الثالث). وكما هو واضح هذه الرسائل الثلاث تقع ضمن السفر الثاني بحسب طبعة الأستاذ صلاح هلل عدا قطعة صغيرة من الرسالة الثالثة تقع أول المجلد الأول من السفر الثالث بحسب طبعة صلاح هلل. وهذه الرسائل الثلاث لم يطبع منها شيء حتى الآن. ثانيًا: قطعة من السفر الثالث، حقق منها أخبار المكيين بالكامل في رسالة جامعية، تحقيق ودراسة الباحث د. إسماعيل حسن حسين، وقد طبعت هذه الرسالة في مجلد لطيف، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى سنة 1418هـ = 1997م. تقابل في طبعة الأستاذ صلاح هلل (ج1/ ص 140 إلى ج1/ ص 297 = السفر الثالث). وقد حُقِّق هذا السفر أيضًا في رسالة دكتوراه للباحث د. محمد السرار، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، المغرب (1996م). وبعد نشر الأستاذ صلاح هلل لهذا السفر (الثالث) بسنة واحدة قام الأستاذ عادل سعد رحمه الله والأستاذ أيمن شعبان بطباعته مرَّة ثانية في دار غراس بالكويت سنة 1425هـ = 2004م. وقد استدركا كثيرًا من الأخطاء والسقط في طبعة الأستاذ صلاح هلل تصل في بعض المواضع صفحة كاملة من المخطوط. لكن عندما طبع الأستاذ صلاح هلل السفر الثاني من الكتاب سنة 1427هـ ذيل آخره بإطلالة على تلك النشرة ناقش فيها المحققينِ فيما انتقداه على عمله في تحقيق السفر الثالث من الكتاب. ومن أغرب ما وجدته في مقدمة هذا التحقيق (تحقيق عادل سعد وأيمن شعبان ص 23) أنه نسب مؤلف هذا الكتاب فقال: « ابن الإمام النسائي صاحب السنن »، وهو وهم قبيح سببه أن والد المؤلف واسمه « زهير بن حرب النسائي المتوفى 234ه ـ» بينما النسائي صاحب السنن اسمه: أحمد بن شعيب النسائي ووفاته 303هـ. ثم طبعت قطعة أخيرة من « الكوفيين » بتحقيق الأخ الباحث الفاضل محمد بن عبد الله السريع في دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1435هـ = 2014م. ولا يزال الكتاب بحاجة إلى من يحسن قراءة أصوله الخطية وترتيب أورقه ترتيبًا حسنًا فإن الطبعات الموجودة تدل على وجود خلل كبير في ترتيب الأوراق وأيضًا يحتاج إلى من يخرج الكتاب إخراجة جيدة يجمع ما بذل فيه من جهد ويحرره ويضيف إليه في نسخة محررة، ولا بأس أن يضيف إلى ذلك ذيلا يضم كل النصوص المنقولة عن ابن أبي خيثمة ولا وجود لها في أصوله الخطية المتوفرة بين أيدي الباحثين. فائدة: أخبرني الأخ الفاضل الشيخ صلاح بن فتحي هلل على الخاص عبر رسائل الماسنجر أنَّه بصدد إخراج طبعة ثانية من الكتاب، وفقه الله وأعانه، وجعل ما قام به من جهد في خدمة هذا الكتاب وغيره من الكتب النافعة في موازين الحسنات. وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اسْتِعانَةُ الحَدَاثِيِّين بالفِرَق الضَّالة لِلطَّعْنِ في الإسلام إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: تلقَّف الحداثيون العرب آراء بعض الفِرق الضالة؛ كالخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والصوفية، وجمعوها، وأخذوا يُعيدون نشرها وترويجها في حديثهم عن القرآن الكريم والسنة النبوية وبناء موقفهم منها؛ ظانين أنهم بذلك قد وجدوا ضالَّتهم، وحصَّلوا مطلبهم، فبدؤوا بالدفاع عن هذه الفِرق وعن منهجهم، لا سيما المعتزلة التي نالت النصيب الأكبر من التأييد والمتابعة، فراحوا يُعلون من شأن منهجهم ويلومون في الوقت ذاته أهلَ السُّنة متَّهمين إياهم بالتَّحجُّر والجمود، وكان السبب الرئيس في إعلائهم شأن الفكر الاعتزالي هو الأساس الذي بنى عليه الاعتزالُ منهجه، المتمثل في تقديم العقل على النص، مما يفتح الباب واسعًا أمام الحداثيين لتأويل النصوص من جهة، ومن جهة أخرى لردِّها لمجرد توهُّم مخالفتها العقل. ولم تكن مدرسة المعتزلة هي الوحيدة التي لاقت قبولًا واستحسانًا عند الحداثيين العرب، وإنما كذلك كانت التيارات الأخرى ذات حضور كبير في فكرهم، حيث استشهدوا بآرائهم ومواقفهم واتَّخذوها دليلًا ينالون به من السنة وأهلها. ويبدو أن أصحاب الفكر الحداثي قد تواطؤوا فيما بينهم على تفسير التاريخ الإسلامي تفسيرًا ماركسيًّا قائمًا على فكرة الصراع، فراحوا يدافعون عن مواقف كلِّ التيارات التي عادت السنة وأهلها، وألَّفوا في ذلك المؤلَّفات، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر- كتاب: "الحركات الفكرية في الإسلام"، تأليف: بندلي جوزلي، وكتاب: "الحركات السرية الإسلامية"، تأليف: محمود إسماعيل عبد الرازق، وغيرهم ممَّن ألَّفوا في هذا الباب، وقد جمع بينهم إعلاء شأن هذه الحركات وتلك الأفكار ومهاجمتهم أهل السنة. وبعد هذا التمهيد - بتأييدهم لأصحاب تلك الفِرق - راحوا ينتقون من أفكارهم ما يوافق منهجهم المُعادي للسنة النبوية، وسوف نعرض لذلك من خلال العناصر التالية: أولًا: استعانتهم بالرافضة: انتهج الحداثيون العرب نهج أسلافهم؛ من المستشرقين وحداثيي الغرب بالاستعانة بالرافضة في تسويغ مشاريعهم الهدامة، وقد أخذوا من مذهب الرافضة ما يوافق رغباتهم، وعند وجود ما يخالف هذه الرغبات أو يصادمها في المذهب الرافضي؛ فإنهم يرفضونه، بل يُناصبون صاحبه العداء، فهم انتقائيون نفعيون [1] ؛ إذ يأخذون من المذهب الشيعي ما يدعم توجهاتهم في النيل من منهج أهل السنة، مستشهدين بكلِّ شاذٍ وغريبٍ ودخيلٍ على "المنهج الإسلامي الصحيح". وكما هي عادة الحداثيين – في أخذهم ما يشتهونه من المذاهب والمناهج التي تؤيد فكرهم؛ كالمذهب الرافضي – تجد أنهم يأخذونه من خلال المصادر الغربية والدراسات الاستشراقية؛ سواء الموسوعة البريطانية أو مؤلفات المستشرقين مباشرة؛ كما فعلوا في تلقِّيهم منهج أهل السنة! أسباب استعانة الحداثيين بالرافضة: من أهم الأسباب التي دعت الحداثيين إلى الاستعانة بمذهب الرافضة: 1- موقف الرافضة من الصحابة: وقف الرافضة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفًا عدائيًا، وصل إلى حدِّ التكفير – كما مرَّ بنا – ووصل أذاهم إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس موقفهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخافٍ على أحد. وقد وجد الحداثيون – ومن قَبْلِهم المستشرقون – فيما شغَّب به الرافضةُ على الصحابة رضي الله عنهم وعدالتِهم مجالًا خصبًا ومدخلًا واسعًا يلِجون منه للنَّيل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم مَنْ رووا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مَنْ نقلوه إلى مَنْ بعدهم، فإذا زعزعتَ الثقةَ في عدالتهم، فقد نلتَ من الحديث الشريف؛ إذ بذلك ينتفي عنه وصف الصحة، ويتلبَّس به وصف الشك والرفض. فكان الرافضة – عليهم من الله ما يستحقون – هم الباب الواسع الذي دخل منه الحداثيون لنقض الإسناد من أساسه وقلعه من جذوره – هكذا سوَّلت لهم أنفسهم – متعلِّلين بآراء الرافضة ومواقفهم، مُبرِّرين انتسابهم إلى الإسلام. ولا يظن ظانٌّ أنَّ الحداثيين يوافقون الرافضة في مروياتهم ويقبلونها، بل هم يرفضونها أيضًا، ولكن لمَّا كانت حربُهم ضد الحديثِ وأهلِه تعلَّلوا بموقف الرافضة، فكأنَّهم يكيلون بمكيالين ويزنون بميزانين، فينتقون من آرائهم ما يُوافق هواهم وإن كان باطلًا، ويتركون ما يُخالف هواهم ولا يلتفتون إليه. وقد بدى هذا الموقف واضحًا من قِبَل حداثيِّ العرب، فيما ألَّفه "محمد عابد الجابري" في كتابه عن القرآن الكريم، حيث أكثر فيه من الاستشهاد بأقوال وآراء الرافضة. وكذلك فيما ألَّفه أحد رموزهم بعنوان "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" وهو "جورج طرابيشي"، وكأنَّ الإسلام أصبح مباحًا لكلِّ مَنْ أراد أنْ يتكلَّم فيه دون ضابط أو رابط. 2- غلو الرافضة في "التأويل الباطني": التأويل منهج من مناهج الحداثة يحاولون به الانقضاض على القرآن والسنة، وإعادة قراءتهما وتأويلهما واستنباط ما لم يحتملاه وما لم يقم عليه دليل، حتى إننا لنجزم أنَّ التأويل أصبح ظاهرة خطيرة غاية الخطورة، ومبعث خطورتها: هو إخراج النص عن مراده ومعناه إلى مرادات أخرى ومعانٍ مغايرة، فإذا كانوا قد فشلوا في زعزعة اليقين في ثبوت النص، إذًا فلتكن المرحلة التالية وهي تأويله؛ بدعوى الاجتهاد وخدمة النص، ضاربين عُرض الحائط ما استقر عليه من معانٍ ثابتة، وعلوم مستقرة، وإجماعات لخير البشر. وقد برَّر الحداثيون موقفهم التأويلي هذا بأنهم لم يبتدعوه، بل سُبِقوا إليه، وأنه موجود في التراث، لا سيما عند الرافضة والصوفية، إذ جعلوا للنص الواحد ظاهرًا وباطنًا، وراحوا يتأوَّلون ويُفسِّرون ويستنبطون بآرائهم وأهوائهم. فلم يلجأ الحداثيون للرافضة إلاَّ للتوافق على "التأويل الباطني" للنصوص، وهو ما يؤكده قول أحد دعاة الحداثة: (الظاهر والباطن لم تُستنبط عند جمع من المفسِّرين والمؤوِّلين والفقهاء وأصحاب المذاهب مثل الشيعة والصوفية من البحث في النص القرآني والحديثي، والتمعُّن فيه) [2] . 3- أنَّ الرافضة خليط من الدِّيانات والفلسفات المختلفة: نظر الحداثيون في المذهب الرافضي فوجدوه مزيجًا من الديانات السابقة على الإسلام، فعقيدة الرافضة تُشبه اليهودية؛ بالقول بالرجعة، وتُشبه النصرانية؛ في نسبتهم الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه، وأنَّ النبوة لا تنقطع، وتُشبه البراهمة؛ بالقول بتناسخ الأرواح، وتجسيم الله، والحلول، ونحو ذلك [3] . فأراد دعاة الحداثة إثبات بأنَّ الإسلام "مزيج من الديانات السابقة" وذلك بتطبيق منهج "التاريخية" [4] ، والتي تسير في خطَّين متوازيين : الأول : الادعاء بأنَّ الإسلام خليط من الأفكار والفلسفات والديانات السابقة عليه، ألَّف بينها وجمعها نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم، مستفيدًا من ظرفٍ تاريخيٍّ معيَّن. الثاني : الادعاء بأنَّ ما جاء من تشريعات في الديانة الإسلامية، إنما جاءت مناسبة لمرحلة تاريخية بعينها، وبانقضاء هذه المرحلة التاريخية تنقضي تلك التشريعات وتصبح الضرورة ملحة بإنتاج تشريعات جديدة مناسبة للعصر الحالي وَفق معطياته وآلياته. مظاهر تأثُّر دعاة الحداثة بالمذهب الرافضي: من أهم مظاهر تأثر الحداثيين العرب بالمذهب والمنهج الرافضي الإثني عشري ما يلي: 1- الطعن في القرآن الكريم، والادِّعاء بأنه مُحرَّف وناقص: في كتابات الحداثيين العرب أو في مناظراتهم – غالبًا – ما تجد أحدهم يستشهد بأقوال الرافضة في القرآن الكريم؛ حيث زعمت الرافضة وجود "مصحف فاطمة" الذي هو غائب مع المهدي، وسيعود به في آخر الزمان، وهو ثلاثة أمثال "مصحف عثمان" يعنون به: المصحف الذي بين أيدينا. فمن هنا يطعن الحداثيون في قداسة القرآن؛ بإثارة الشكوك في نصوصه، وبأنه لم يسلم من تحريف البشر، ومن طعنهم ولمزهم للقرآن الكريم: ادعاؤهم بأنهم (أمام رأيين متناقضين: الأول يقول: إنَّ النص القرآني المعروف بمصحف عثمان لا يحتوي على النص الكامل الذي نزل.. والثاني أنه يحتوي على تلك الآيات) [5] . 2- الطعن في الحديث النبوي، ورواة الأحاديث: اتَّبع دعاة الحداثة منهج الرافضة في الطعن في الأحاديث النبوية، واتِّهام الرواة بالكذب والتدليس والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم فمن أصول مذهب الرافضة أنهم (يضربون صفحًا عن الأحاديث التي جاءت عن أبي هريرة، وعائشة، وهو قرابة نصف الأحاديث.. إنَّ الشيعة لا يؤمنون بحديث المارقين عن الدِّين، ولا الدعاة إلى الضلال المبين، ولا بحديث المنافقين كابن هند وابن النابغة) [6] . 3- الطعن في عدالة الصحابة: والطعن في عدالة الصحابة يعني ضرورةً الطعن في الحديث النبوي جملة؛ مما يؤدي إلى نزع التقديس عنه، لعدم الوثوق بناقليه الأُوَل، ومن ثم يتم التَّوصُّل إلى نزع التقديس عن القرآن الكريم؛ لأنَّ جامعيه هم مَنْ نقلوا الحديث النبوي، ومن افتراءاتهم في ذلك قولهم: (حاشى لله أنْ تُؤمن الشيعة بأهل الضلال وتركن إلى المحال كما فَعَلَ غيرُهم؛ فاحتجُّوا بكلِّ مَنْ تشرَّف برؤية النبي وإنْ كان عدوه وطريده؛ كمروان، أو كان من المُؤلَّفة قلوبهم؛ كابن أبي سفيان، أو كان من الكذابين؛ كأبي هريرة، أو كان من المنافقين؛ كالمغيرة) [7] !! 4- التعامل مع مصادر الرافضة وتعميم ما ورد فيها بأنه يُمثِّل الإسلام. 5- الطعن في النبوة، والقول في أحقيَّة عليٍّ رضي الله عنه فيها؛ عند غلاة الرافضة. 6- التوافق مع الرافضة في الغلو في إعمال العقل في النص تأويلًا بعيدًا، ولو ناقض الظاهر. 7- التوافق مع الرافضة في كسر الحواجز، وإبعاد التقديس عن مقدسات الإسلام وشعائره عند أهل السنة. 8- التعامل مع معتقدات الرافضة ومواقفهم تجاه أهل السنة بأنها صحيحة وثابتة، دون انتقادٍ لها، أو تطبيقِ مناهجهم النقدية فيها. 9- رفض مسألة الإجماع، والادِّعاء بأنها سلاح بيد السلطة [8] . ثانيًا: استعانتهم بالمعتزلة: انتقى الحداثيون العرب من منهج المعتزلة ما يوافق توجُّهاتهم ومشروعهم الأيديولوجي، وما يتلاءم مع فكرهم؛ خاصة في مسألة العقل، وخَلْقِ الإنسان لفعلِه، والعدل، وخَلْقِ القرآن، ونحوها من المسائل التي تخدم تطلُّعات دعاة الحداثة، ولا يعني هذا أنَّ المعتزلة أصبحت مصدرًا معرفيًّا للحداثة؛ باعتراف الحداثيين أنفسهم إذ يقولون: (لا يعني إحياؤنا للاعتزال أننا نقبل مواقف المعتزلة كلها.. تأييدُنا للمعتزلة للتيار العام وللحركة التاريخية، وليس للتفصيلات الجزئية في هذه النظرة أو تلك) [9] ، ومع ذلك فقد بقيت المعتزلة – في نظر دعاة التغريب – ضمن إطار الدائرة التراثية الأسطورية، وما زالوا مُتخلِّفين عن ركب الحداثة. أسباب استعانة الحداثيين بالمعتزلة: من أهم الأسباب التي دعت الحداثيين إلى اللجوء إلى المنهج المعتزلي [10] : 1- تقديم العقل وتقديسه: العقل مصدر أوَّلي للمعرفة عند دعاة الحداثة؛ بل له مكانة عظيمة عند بعضهم وأصبح إلهًا يُعبد من دون الله تعالى، وقد وجد الحداثيون في المنهج الاعتزالي إعلاءً من شأن العقل، وهو أوَّل مَنْ حرَّر العقل وجعله مستقلًا ومُتَّصفًا بالتحسين والتقبيح، ويُدرك كُنه الأشياء، يقول بعض دعاة الحداثة: (إنَّ أهم جماعة يمكن لعصرنا أنْ يرثها في وجهة نظرِها – أعني أنْ يرثها في طريقتها ومنهجها عند النظر إلى الأمور – هي جماعة المعتزلة التي جعلت العقلَ مبدأها الأساسي كُلَّما أشكل أمر) [11] . ويصف الحداثيون الاعتزال بأنه "ثورة حقيقة" على سلطة النقل وإحلال لمكانة العقل محلَّها، فـ (الاعتزالية ثورة حقيقية، فلم يعد النقل محور المعرفة، بل صار العقل محورها. الله نفسه صار مسألةً عقلية، وتبعًا لذلك أمكن القول: لا حقيقة إلاَّ بالعقل) [12] . 2- قولهم بخلق القرآن: عندما قالت المعتزلة بمسألة "خلق القرآن" أرادت تنزيه الله تعالى عن الحدوث، أو إثبات قِدَمِ القرآن بحروفه وألفاظه، لكن دعاة الحداثة وظَّفوا مسألة "خلق القرآن" للقول بتاريخية القرآن، أي: أنَّ النص القرآني مُحْدَث، وقد جاء وليد ظروفه وبيئته، وَفْقَ مُعطيات الواقع الذي نزل فيه، فهو صالح للزمان الذي قيل فيه دون غيره، إذًا الحداثيون العرب حرَّفوا المسألة عن سياقها الذي أُثيرت فيه إلى سياقٍ جديد يخدم فِكرهم؛ بغية إبعاد القرآن الكريم عن واقع الحياة، وإحلال العقل البشري مكانه. 3- العدل والحرية، وخلق العباد لأفعالهم: وجد الحداثيون في منهج المعتزلة مسوِّغًا لإبعاد عالَم الغيب عن الحياة البشرية، وأنَّ الكون كله يسير وَفق أفعال مخلوقة وبشرية، والإنسان وحده هو الفاعل الأوحد في هذا الكون، وهو حر في كل ما يقول ويفعل (فقد صار المعتزلة إلى أنَّ أفعال العباد كلها مخلوقة للعباد، والعبد هو الذي يخلق فعل نفسه خيرًا أو شرًا؛ لأن العبد عندهم مستطيع باستطاعة نفسه قبل الفعل، ولا يحتاج إلى الاستطاعة والقوة من الله تعالى.. إذًا فإنَّ ثمة فاعلية مستقلة للإنسان في العالم مستمدة من قدرته الحقيقية لا المجازية على فعله) [13] . إذًا؛ مبدأ الحرية من المبادئ التي ينادي بها دعاة الحداثة؛ لكي يكون قيمة عليا في المجتمع العربي على غرار المجتمعات الغربية، و(إذا ذهب المعتزلة للقول بخلق العبد لفعله تنزيهًا لله عن المعاقبة على فعلٍ لا يملك صاحبه حرية الاختيار له تطبيقًا لمبدأ العدل، فإنَّ الحداثي اقتبس هذا المبدأ وأسقطه على غير ساحته، قائلًا بحرية الإنسان شبه المطلقة وحرية العقل المطلقة بغير ضوابط ليقول ويفعل ما شاء دون قيود أو حدود) [14] . 4- عداوتهم لأهل الحديث، ورفضهم لقبول "خبر الآحاد": يقول أحمد أمين: (كان علماءُ الحديث من أشدِّ خلق الله كُرْهًا للمعتزلة والعكس) [15] هكذا استغلَّ الحداثيون العرب عداوة المعتزلة التاريخية لأهل الحديث، ووجدوا في منهجهم الرافض لمنهج أهل الحديث خيرَ ملاذ للنيل من الحديث النبوي، وقد فهم دعاة الحداثة أنَّ المعتزلة تشترط لقبول الحديث أنْ (يكون خبرًا مُجمعًا عليه؛ أي: ما أُطلق عليه فيما بعد "المتواتر"، أما الأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر كأخبار الآحاد فهي مطروحة) [16] . بل زاد دعاة الحداثة على ما قالته المعتزلة – في إعراضهم عن خبر الآحاد، وإعمال العقل في النص تأويلًا ورفضًا – إلى الرفض المطلق للأخبار، (وبهذه القراءة لموقف المعتزلة من قبول الأخبار الْتَقَى الحداثي مع المعتزلي – بالرغم مما في قراءته من مجانبة للصواب ومجانبةٍ لفكر المعتزلة نفسه – فلما كان المتواتر نادرًا... كان مُؤدَّى هذا الموقف لدى الحداثيين الرفض المطلق للأخبار، فإذا وُجِدَ التواتر وثَبَتَ بالنَّص أشهروا في وجهه سيفَ التأويل الذي وجدوه في الفكر الاعتزالي أيضًا) [17] . 5- توسُّعهم في التأويل: استغل الحداثيون العرب توسع المعتزلة ومغالاتهم في تأويل النصوص الثابتة؛ من الكتاب والسنة، واستخدموها بما يتوافق مع أدوات القراءة الحداثية، فدعاة الحداثة يعتقدون (أن المعارك التي خاضها المعتزلة في مجال تأويل النصوص الدِّينية ضِدَّ الحَرْفِيين لم تكن مجرَّد معارك فكرية ذات طابع نخبوي، بل كانت معارك حول صورة الواقع الاجتماعي وما يرتبط به من مفاهيم ثقافية) [18] . 6- الطعن في الصحابة رضي الله عنهم: رفضت "الواصِلِيَّةُ" [19] من المعتزلة قبول شهادة الصحابة الذين شاركوا في فتنة عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهم، حيث قال أحدهم: (لو شَهِدَ عليٌّ وطلحةُ أو عليٌّ والزبير أو رجل من أصحاب عليٍّ ورجل من أصحاب الجمل عندي على باقة بقلٍ لم أحكم بشهادتهما؛ لِعلمي بأنَّ أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين لِعلمي بأنَّ أحدهما فاسق لا بعينه). وكذلك فَعَلَ "النَّظَّامُ" في الصحابة وفي أخبارهم وكَذَّبَ أبا هريرة رضي الله عنه، وعنه أخذ المستشرقون، ومن بعدهم الحداثيون في طعنهم في الصحابة رضي الله عنهم. ويلحظ القارئ الكريم أنَّ منهج المستغربين من دعاة الحداثة يقوم على ارتضاء كلِّ قولٍ شاذٍ، أو مُستبعد في التاريخ الإسلامي فيه الحط من قدر الصحابة رضي الله عنهم، فمنهجهم المُبهم يقوم على متابعة المعتزلة في نبذ الموروث ورفض التقليد، حيث (ينتقد المعتزلةُ طريقة السلف والفقهاء في العقائد التي تُكرِّس التقليد وتعتمد على المروي). ويرون أيضًا بأنَّ (فِرقة المعتزلة كانت أجرأ الفِرَق على تحليل أعمال الصحابة ونقدهم وإصدار الحُكم عليهم) [20] ، ولهذا تابع دعاةُ الحداثة المعتزلةَ في النَّيل من قدر الصحابة، ومن ثم إسقاط عدالتهم وصولًا إلى عدم قبول حديثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: استعانتهم بالفلسفة الإسلامية: يستشهد الحداثيون العرب – كعادتهم – بكلِّ شاذٍ وغريب يخدم قضيتهم ومنهجهم، ومن العجيب في الأمر أنهم اختزلوا العِلمَ الإسلامي فيما قاله الفلاسفة، وما سِواه لم يعدُّوه شيئًا؛ بل تعاملوا معه على أنه استمرارٌ للتَّبعية والتَّقليد، ومن ثم اتَّهموا الحضارة الإسلامية في العلوم المختلفة بأنها حضارة نصٍّ وتقليد، وليس فيها إبداعٌ وحرية، ومن كتاباتهم في الثناء على الفلاسفة: (ظلَّ العِلم العربي؛ عِلم الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم، خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية، فلم يُشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه، فبقي الزمن الثقافي العربي هو هو... وركد هذا الزمن وتخشَّبت موجاته منذ عصر "ابن خلدون" إلى "النهضة" العربية الحديثة التي لم تتحقَّق بعد) [21] . فهم بذلك قد ألغوا أيَّ حضور للعقل العربي في التاريخ الإسلامي، وإن وُجِدَ فهو منسوب إلى الثقافات الأخرى؛ كالإغريق ونحوهم. ومن استشهادات المستغربين العرب بالفلسفة الإسلامية استشهادهم بأقاويل "الرازي" الرَّافض للنبوة؛ لقوله بأنَّ مدار المعرفة "العقل والطبيعة" وليس الغيبيات، ومن ثَمَّ لا حاجة للإنسان بالنبوة، (فقد طوَّر "الرازي" نقدًا عامًّا للنبوة والدِّين على أُسس عقلية وتاريخية وأنثروبولوجية؛ ولهذا بات قريبًا من تيار التنوير الأوروبي الذي استند في نقد الدِّين إلى الأُسس ذاتها... إنَّ التَّقارب بين "الرازي" وبين تيار "التنوير الأوروبي" يبدو أكثر من لافت) [22] . ولم يستشهد الحداثيون بكلام "الرازي" إلاَّ لأنه التقى مع فكر التيار "التنويري الأوروبي" لا لكونه أنتج فكرًا رائعًا؛ بل لأنه التقى مع "الحداثة الغربية" في نقضها للدِّين. ومِمَّنْ استشهد به دعاة الحداثة العربية "ابن الراوندي" الذي انتقل من الاعتزال إلى التشيُّع، ثم ترك التشيُّع وانتقل إلى الإلحاد، وسبب الاستشهاد به هو اعتماده على العقل البشري في نقد النصوص القطعية اعتمادًا على الشعور! (فالشعور هنا هو الذي يُدرك العالَم ويتصوَّره، ثم يُعبِّر عنه في صورة مثلٍ أو قصة أو حكاية خيالية أو أسطورة، وتُحرِّكه بواعث وغايات قَصْدية، وبهذا يكون النص من وضع الشعور) [23] . إذًا الحداثيون يستشهدون بقول كلِّ مَنْ خرج عن الدِّين، ووافقهم في متابعتهم الحداثة الغربية، وإن كان سابقًا عليهم في التاريخ. رابعًا: استعانتهم بغلاة الصوفية: من المتناقضات أن يستعين حداثيو العرب بالتصوف؛ لأنه يُعنى بما له علاقة بالروح والقلب، وليس بما له تعلُّق بأمر العقل، لكنَّ الحداثيين العرب وجدوا مُبتغاهم فيما ذهبت إليه غلاة المتصوفة، من أمورٍ تُخالف الدِّين، ومن أهم الأسباب التي دعت الحداثيين إلى اللجوء إلى غلاة المتصوفة [24] : 1- الحلول ووحدة الوجود: أُعجب بعض دعاة الحداثة بمذهب "الحلاَّج" في مسألة "الحلول" ويُقصد بها [25] : حلول الذات الإلهية في النفس البشرية ووحدتها معها؛ لتستحيل النفسُ واللهُ شيئًا واحدًا – تعالى اللهُ عن قولهم علوًا كبيرًا – وهاهو أحد الحداثيين يستنكر قَتْلَ الحلاَّج صَبْرًا على يد (أتباع الشعائر والطقوس الذين لا يستطيعون القبول بأنْ تتَّحد الأنا البشرية إلى مثل هذا الحد بالأنا الإلهية المتعالية، كان الحلاَّج يقول بما معناه: "نحن روحان في جسدٍ واحد" ولذلك اتَّهموه بالحلول) [26] . 2- رفض الشريعة والشعائر التعبدية: أُعجب الحداثيون بما عند غلاة الصوفية من رفضٍ للشريعة ورفضٍ للشعائر التعبدية، بدعوى التحرر من القيود الشرعية، والتكاليف العبادية، فقد أُعجِبوا بـ (رفع التكليف عنهم في مسائل الطقوس الدينية... ولقد كان النص القرآني والحديثي في ذلك مِطواعًا طيِّعًا للقراءة الصوفية المعنية) [27] . ومما أُعجِبوا به أيضًا (المثل العربي البارز على رفض الشريعة من أجل الحقيقة – أي: ما يتجاوز الشريعة – هو التصوف على صعيد التجربة الفكرية) [28] . 3- تعاملهم بالرمز والإشارة: ومما وافق أهواء الحداثيين في المذهب الصوفي الغالي قولهم بـ "الرمز" و"الإشارة" فهذه إشارات ورموز باطنية يتعاطها غلاة الصوفية ويفسرون من خلالها الظواهر المشاهدة، ويزعمون أنَّ لها إشارات ورموز ترمي إلى ما خلفها من معانٍ مخفية لا يعرفها إلاَّ هم، ومَنْ نحا نحوهم من الأتباع الأوفياء من مُريدين؛ كالحداثيين العرب من أمثال " نصر حامد أبو زيد" و" محمد أركون" و"د. زكي نجيب محمود" وغيرهم [29] . وبناءً على ذلك؛ وجد حداثيو العرب بغيتهم في "التأويلات الصوفية" من رفضٍ لظاهر النصوص وتأويلٍ لها على غير مراد الشارع الحكيم، وإنما على مراد الهوى الحداثي العربي. 4- تعدُّد أَوْجُه التأويل الصوفي للنص: من مقولات أهل الحداثة قولهم بأنَّ النَّص "حَمَّالُ أَوْجُهٍ" يعنون به: أنه من الممكن تأويل "النص المُعيَّن" بتأويلات مختلفة وأحيانًا متناقضة، فهذا المبدأ متوافق مع التأويلات الصوفية للنصوص، فيقول أحد دعاة الحداثة – عن التأويلات الصوفية أنها (تُبيِّن لنا مدى إمكانية التَّوسع الاحتمالية للخطاب القرآني، كما كان قد تلقَّاه خيالٌ خلاَّق؛ كخيال ابن عربي) [30] . الخلاصة: أولًا: (إنَّ "التاريخ الإسلامي" بكامل مكوِّناته كتاب مفتوح أمام الحداثي وغيره، ينتقي منه ما يشاء ويذر ما يشاء، فالحداثي دائم البحث عن الشَّاذ والمُستَبْعَد، ودائم القراءة في هذا التراث باحثًا عمَّا يوافق هواه ويؤيِّد مذهبه، فلا غرابة أنْ تجد استشهادًا منهم بالبهائية أو الأحمدية أو المرجئة أو الزيدية وغيرها من الفِرق الإسلامية؛ بل لا غرابة أنْ تجدهم يستشهدون ببعض مواقف أئمة الأصولية الإسلامية السابقين؛ من أمثال الشافعي – عدوهم اللدود بتأسيسه لأصول السُّنة وتثبيته النصوص – والغزالي صاحب "تهافت الفلاسفة" الذي يؤرِّخ الحداثيون به فترة الانحطاط العربي، وصولًا إلى استشهادهم بشيخ السَّلفية ابن تيمية. ولا غرابة ما دام يُنتقى من كلام كلِّ واحدٍ منهم ما يُوافق منهج الحداثيين، ويتلاءم مع قراءاتهم النَّفعية المؤدلجة لأيَّة جُزئية من هذا التاريخ الطويل) [31] . ثانيًا: تدور الحداثة العربية في موقفها من النص الشرعي (القرآن – السنة) في ثلاثة محاور، وجدوا لها ما يبرِّرها عند أصحاب الفِرق والمذاهب المنتسبة إلى الإسلام، وهذه المحاور بإيجازٍ شديد هي: المحور الأول: التشكيك والرفض، حيث يُشكِّكون في النص المُقدَّس، بل يرفضونه كلَّه أو بعضَه، لا سيما الحديثَ النبويَّ الشريف؛ إذ أنهم قد خافوا مغبَّة رفض ثبوت القرآن الكريم؛ لما يجرَّه عليهم من ثورات لا قِبَل لهم بها، ولكنهم عمدوا إلى ترويج شبهات وتساؤلات تؤدِّي إلى الغرض ذاته مستعينين بما وُجِدَ عند بعض الفِرق لا سيما الرافضة، أمَّا مع الحديث فلم يتورَّعوا في التشكيك فيه وفي ردِّه بلا ضابط من علم إلاَّ اتِّباع الهوى، وتحقيق المأرب السامي لديهم وهو تمرير المشروع الحداثي القائم على أنقاض التراث. المحور الثاني: التأويل، ويُمثِّل الجانب الأكبر من المشروع الحداثي، لا سيما في تناولهم القرآن الكريم، حيث يطالبون بإعادة قراءة القرآن الكريم وإعادة تلقِّيه وَفْقَ معطيات جديدة ووَفْق نظريات حديثة لا تمت للقرآن بصلة، ملخَّصها ومفادها هو: التعامل مع النص القرآني أو الحديثي باعتباره نصًّا لغويًّا يتم تفسيره وتأويله وَفق معايير النقد الحديثة دون النظر إلى قائله، وهذا المحور يُشكِّل خطرًا كبيرًا؛ إذ إنهم يخلعون عن النص القرآني تحديدًا قداسته وقدسيته. المحور الثالث: التاريخية، التي تُعامل النصَّ معاملةَ المنتج البشري لفترة زمنية وَفْق ظروف عصرها ومقتضيات زمانها، وبما أن الزمن قد تجاوز هذه الظروف وتلك المعطيات، فلسنا مطالبين بتفعيل هذه النصوص مع قداستها، وإنما مطالبون باجتهاد وابتداع ما يُناسب عصرنا ومتطلباتنا من تشريعات وقوانين. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المحاور الثلاثة هي مجمل ما يدور حوله الفكر الحداثي في موقفه من النص، وأنها تختلف من حداثيٍّ لآخَر فيما يرجحه منها أو فيما يسعى لتأييده ويعمل على ترويجه، فهناك مَنْ يسلك سبيلَ القراءة التأويلية ويُركِّز عليها ويجعلها جُلَّ مشروعه الفكري؛ ومنهم "محمد أركون"، وهناك مَنْ يسلك سبيلَ إنتاج تشريعات وتعريفات جديدة باعتبار تاريخية التشريعات الإسلامية؛ ومن هؤلاء "حسن حنفي" في مشروعه الفكري حول الفقه وأصوله، ومنهم مَنْ يتعامل مع النص بنزع القدسية عنه ويسعى إلى تطبيق معايير النقد اللغوي الحديث؛ ويُمثل هذا الاتجاه "نصر حامد أبو زيد". [1] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 86). [2] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، د. طيب تيزيني (ص 278). [3] انظر: فجر الإسلام، أحمد أمين (ص 437). [4] التاريخية: هو منهج بحثٍ يقوم على قراءة النَّص؛ وِفْقَ مفهومِه زَمَنَ تَشَكُّلِه الأوَّل، ويُطلِق عليه بعضُهم: بـ "التاريخانية". [5] المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع، د. نضال عبد القادر الصالح (ص 33). [6] نحو فقه جديد، جمال البنا (2/ 24). [7] المصدر نفسه، (2/ 26). [8] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 88). [9] نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد (ص 181). [10] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 92-97). [11] تجديد الفكر العربي، (ص 117). [12] الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (الأصول)، علي أحمد (أدونيس) (ص 86). [13] النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ، علي مبروك (ص 77). [14] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 94). [15] فجر الإسلام، (ص 472). [16] نحو فقه جديد، (2/ 29). [17] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 96). [18] نقد الخطاب الديني، (ص 211). [19] الواصلية: هي فرقة من المعتزلة، اتَّبعت واصل بن عطاء (ت 131 هـ). [20] فجر الإسلام، (ص 465) [21] تكوين العقل العربي، د. محمد عابد الجابري (ص 347). [22] النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ، (ص 156). [23] مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية، د. حسن حنفي، مجلة ألف، (العدد 2)، (1982 م)، (ص 29). [24] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 106-108). [25] انظر: الصوارم الحداد القاطعة لعلائق أرباب الاتحاد، للشوكاني (ص 32)؛ الرد على القائلين بوحدة الوجود، علي بن سلطان الهروي (ص 123). [26] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، (ص 158). [27] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 297). [28] الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (صدمة الحداثة)، علي أحمد أدونيس (ص 183). [29] انظر: فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، نصر حامد أبو زيد (ص 267)؛ الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، محمد أركون (ص 162)؛ قيم من التراث، د. زكي نجيب محمود (ص 56). [30] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ترجمة: هشام صالح (ص 33). [31] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 111).
دراسة الأسانيد إصدار مركز إحسان لدراسات السيرة النبوية صدر حديثًا كتاب " دراسة الأسانيد "، إشراف وتأليف: أعده نخبة من المتخصصين بإشراف أ.د " إبراهيم بن عبدالله اللاحم " ، نشر " مركز إحسان لدراسات السيرة النبوية ". وهذا الكتاب كتاب تعليمي متوافق مع مفردات المقررات في الأقسام الشرعية يدمج مهارات التفكير مع المحتوى العلمي ويحتوي على (253) نشاطًا تعليميًا في دراسة علوم الأسانيد الحديثية. ويتوقع من الدارس بعد الانتهاء من دراسة هذا المقرر أن يكون قادرًا على: 1. توضيح المفاهيم والمصطلحات المتعلِّقة بعلم دراسة الأسانيد. 2. بيان منهج الأئمة النُّقَّاد في الحكم على الأحاديث. 3. تطبيق قواعد دراسة الأسانيد على الأحاديث؛ للوصول إلى الحكم عليها صحةً أو ضعفًا. 4. توضيح منهج المحدِّثين في الكلام في أحوال الرواة جرحًا وتعديلًا. 5. إتقان التعامل مع كتب الرجال والاستفادة منها. 6. حلِّ الإشكالات التي تعرِض له في أثناء دراسة الإسناد. 7. تقدير جهود المحدثين في تقرير قواعد دارسة الأسانيد والحكم عليها، وأثرها في حفظ السنة. توصيف مفردات الكتاب: تمَّ اعتمادُ مفردات الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي في وزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية؛ وقُسِّمت على خمس وحدات دراسية، تحت كل وحدة مجموعةٌ من الدروس بحسب موضوعها، على النحو الآتي: الوحدة الأولى: مدخل إلى دراسة الأسانيد الدرس الأول: التعريف بعلم دراسة الأسانيد وعلاقته بعلوم الحديث الأخرى. الدرس الثاني: مسائل مهمَّة في علم دراسة الأسانيد. الوحدة الثانية: الجرح والتعديل الدرس الأول: التعريف بعلم الجرح والتعديل. الدرس الثاني: صفة الناقد. الدرس الثالث: العدالة والضَّبْط. الدرس الرابع: أسباب الطعن في الرَّاوي. الدرس الخامس: ألفاظ الجرح والتعديل. الدرس السادس: مراتب الجرح والتعديل. الدرس السابع: تعارض الجرح والتعديل. الوحدة الثالثة: كتب الرِّجال ومعرفة تراجمهم. الدرس الأول: التعريف بعلم الرِّجال. الدرس الثاني: الكتب الجامعة المطلقة في الجرح والتعديل. الدرس الثالث: كتب الثقات. الدرس الرابع: كتب الضعفاء. الدرس الخامس: الكتب الموسَّعة في تراجم رجال السِّتَّة. الدرس السادس: الكتب المختصرة في تراجم رجال السِّتَّة. الدرس السابع: كتب تراجم رجال الأئمة الأربعة. الدرس الثامن: كتب معرفة المختلطين والمدلِّسين ورواة المراسيل. الوحدة الرابعة: خطوات دراسة الإسناد الدرس الأول: تعيين أشخاص الرواة. الدرس الثاني: الترجمة للراوي. الدرس الثالث: البحث في اتصال الإسناد. الدرس الرابع: الحكم المبدئي على الإسناد. الوحدة الخامسة: الحكم على الحديث الدرس الأول: جمع طرق الحديث. الدرس الثاني: النظر في طرق الحديث (1) الدرس الثالث: النظر في طرق الحديث (2) الدرس الرابع: النظر في طرق الحديث (3) الدرس الخامس: جمع شواهد الحديث والنظر في كلام الأئمة. أمثلة تطبيقية على دراسة الأسانيد. وقد روعي في تصنيف هذا الكتاب اتباع منهجية الكتاب المرجعي حيث تم توظيف القضايا الآتية: 1- تضمين الكتاب مفردات مادة دراسة الأسانيد المعتمدة من الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي في وزارة التعليم بالمملكة العربية السعودية، مع إضافة مفردات أخرى تسهم في إثراء مفردات هذا العلم وتحقيق أهدافه. وقد تم تنظيم مفردات المقرر في وحدات دراسية تتفرع كل وحدة إلى عدة دروس بحسب موضوعها، ولهذا قد يتّسع زمن المحاضرة لإلقاء أكثر من درس، أو يُقسَّم الدرس على أكثر من محاضرة. 2- تحديد نتاجات التعلّم للوحدات والدروس بمجالاتها المعرفية والمهارية والوجدانية، وتضمين الدروس بالأنشطة المتنوعة، وختْم كل درس بأسئلة تقويمية. 3- إثراء الكتاب بالأنشطة التعليمية التعلمية التي تعزز معرفة المتعلم التطبيقية، وتزوّده بالمعارف والمهارات المختلفة، وتجعله متمكنًا من المعرفة المتخصصة، وتعزز عنده مبادئ التعلم الذاتي ومهارات التفكير. وتوزّعت الأنشطة في هذا المقرر فوضعت أنشطة قبلية، وأنشطة مرافقة للإجراءات التعليمية التعلمية، وأنشطة بعدية منتمية إلى مفردات المقرر، وقد جاءت على النحو الآتي: • أنشطة التمهيد: يُصَدَّر بها الدرس، وتهدف إلى التهيئة الحافزة بغرض إثارة الدافعية لدى الطالب للتفاعل مع التعلم الجديد. • أنشطة التعلّم: وتكون في أثناء الدرس بغرض تحقيق الأهداف وتعزيز التعلم وفقًا لاستراتيجيات وطرق التدريس الحديثة. • أنشطة بحثية: وتكون في أثناء الدرس، بهدف تنمية مهارات الطالب البحثية من خلال الرجوع إلى المصادر المتخصصة، والبحث فيها، وتلخيص المعلومات منها... • أنشطة التقويم: وتكون في ختام الدرس والوحدة، وهدفها قياس تحصيل الطالب، وتحقق نتاجات الدرس والوحدة. • أنشطة إثرائية: وتكون في ختام الوحدة، لتنمية مهارات الطالب المعرفيّة والمهاريّة. ولمحاضر المادة أن ينتقِي منها ما يراه بحسب ما يقتضيه الموقف التعليمي. فيمكن توظيف الأنشطة على شكل عمل مجموعات، أو واجبات منزلية، أو بتوظيف الشاشات الذكية، فضلًا عن ذلك فإن للمدرس أن يحذف أو يدمج أو يقدم أو يؤخر ما يراه مناسبًا، فما عُرض هو جهد بشري قابل للأخذ والرد. 4- مراعاة دمج مهارات التفكير مع المحتوى التعليمي، ومن أهم تلك المهارات: مهارة التحليل. 5- توظيف الأشكال التوضيحية من خرائط مفاهيمية، ومنظمات تعلّم وجداول، وملخصات للدروس، وذلك لتسهيل الفهم، وإدراك المفاهيم، وتنظيم المعرفة، ومراعاة الفروق الفردية لدى المتعلمين. 6- إضافة إثراءات معرفيّة وإضاءات منهجيّة وُضِعت داخل إطارات تجدها مبثوثة في أثنائه. 7- العناية بجودة التصميم وحسن التنظيم في عرض المحتوى، مما ييسر للطالب فهم المادة. 8- توثيق معلومات الكتاب من المصادر الأصلية. 9- ذكر بعض المراجع المقترحة للاستزادة في موضوع الدرس. وهذا الإصدار هو الإصدار الرابع ضمن إصدارات مركز "إحسان" لمشروع خدمة السنة النبوية ضمن سلسلة المقررات الدراسية التي صدر منها حتى الآن: 1- مقرر الدلائل والشمائل النبوية. 2- مقرر مصطلح الحديث (1). 3- مقرر مصطلح الحديث (2). 4- مقرر دراسة الأسانيد.
أساليب "الحَدَاثِيِّين" في الطَّعْنِ في "السُّنة النبوية" (2) إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب "الحداثيين" في الطعن في "السنة النبوية" ما يلي: الأسلوب الثاني: إنكار المكانة التشريعية للسُّنة: إنَّ الحرب على السنة النبوية هي حرب تدريجية، وفي الوقت ذاته هي حرب شاملة، فلا تترك ثغرةً إلاَّ وتُحاول الولوجَ منها والغارةَ من خلالها على السنة النبوية، في محاولة بائسة ويائسة للنَّيل منها وهدمها، فهم ابتداءً حاولوا نفي قدسيتها وكونها وحيًا من عند الله تعالى، فاستجاب لهم مَن استجاب، واغترَّ بهم مَن اغتر، ولكن هناك مَن رفَضَ هذا القولَ وردَّه، فدخلوا من بابٍ آخر؛ لِيَسْتَمِيلوا أُناسًا آخرين، فكان الباب هو إنكار مكانتها التشريعية، وقد اتَّبعوا أساليب مختلفة؛ لتحقيق هدفهم، فمن أساليب الحداثيين العرب في إنكار المكانة التشريعية للسنة النبوية ما يلي [1] : 1-منهم مَنْ يزعم أنَّ حُجيَّة السُّنة وُضِعَتْ مُتأخِّرًا من قِبَل الشافعي، مع رفض الصحابة لهذه الحُجِّية: ذهب كثير من الحداثيين العرب إلى أنَّ السُّنة لم تكن حُجَّة عند المسلمين الأوائل حتى أسَّسَ حجِّيَّتَها الشافعي بتفسيره "الحكمة" في القرآن بأنها "السنة النبوية" ثم ساق الشافعي في كتابه "الرسالة" و"الأم" الأدلة لإثبات حجيَّتها، ويُخالفه في هذه الحُجيَّة فريق معتبر من الصحابة واعتبروها بأنها تجربة بشرية محضة [2] ، (فإذا مضى البعض يؤسِّس لحضور سنة النبي بوصفها اجتهادًا يعكس حدود خبرة النبي وواقع تجربته، وهو التصور الذي سوف يبلغ بالبعض من الصحابة أنفسهم، حدود إمكان تجاوزها، فإنَّ الشافعي قد مضى في المقابل إلى تثبيت هذا الأصل كأصلٍ مُطلَق) [3] . ونحن لا ندري مَنْ يقصدون بالصحابة الذين رأوا عدم حجيَّة السنة؟! ومن أين لهم بآرائهم تلك؟! وما هي مصادرهم في ذلك؟! وقد أجمعت أمة الإسلام قاطبة - من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين - على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها، والتحاكم إليها، والسَّير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين؛ بل لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين يُنكر الاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها إلاَّ نفرًا ممَّنْ لا يُعتدُّ بخروجهم على إجماع المسلمين من الخوارج، والروافض ومَنْ نحا نحوهم وشذَّ شذوذهم في هذا العصر [4] . ومن الثابت تاريخيًّا أنَّ الإمام الشافعي رحمه الله جاء مُتأخِّرًا عن الإمامين الجليلين: أبي حنيفة ومالكٍ – رحمها الله، وكذلك الإمام الليث بن سعد رحمه الله ، وعن علماء المدينة السبعة، وكلُّهم مُجمِعون على حجية السنة النبوية والعمل بها، وليس الإمام الشافعي – كما يدَّعون – هو مَنْ أسَّس حجية السُّنة، وغاية ما هنالك أنه أوَّل مَنْ أسَّس لعلم أصول الفقه؛ كعلمٍ مُستقل، وإلاَّ فهو موجود في ممارسات الفقهاء من قبله، وإنما هو أوَّل مَنْ جمع وصنَّف ووضعه في إطار علمٍ مستقل. وهناك فَرْقٌ بين علم أصول الفقه، وبين تدوين علم أصول الفقه؛ فعِلمُ أصول الفقه كان موجودًا في أذهان العلماء من الصحابة والتابعين، ونشأ مع نشأة الفقه نفسه؛ لأن استنباط الأحكام مُتوقِّف، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون بمقتضى أصول الفقه في معرفة الأحكام الفقهية، ولكنهم لم يُدوِّنوه، فهم لم يقولوا بالحقيقة، والمجاز، وبدلالة العبارة، ودلالة الإشارة، وغيرها من مسائل أصول الفقه، لكنهم كانوا يعملون بمقتضى الحقيقة، والمجاز، ويعملون بمقتضى دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، فعِلْمُ أصول الفقه كان مُستقرًّا في أذهان الصحابة رضي الله عنهم ، ولكنهم لم يُدوِّنوه، وقواعد علم أصول الفقه كانت مرعيَّة في اجتهاداتهم. إذًا؛ يُعتبر الإمام الشافعي رحمه الله أوَّل مَنْ دوَّن في علم أصول الفقه، وكَتَبَ فيه بصورة مُستقِلَّة، وجَمَعَ مسائله في كتابٍ له سمَّاه "الرسالة" تكلَّم فيه عن القرآن الكريم وبيانه للأحكام، والسُّنة النبوية وبيانها للقرآن، والإجماع، والقياس، والناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والاحتجاج بخبر الآحاد، وما يكون حُجَّة من الأحاديث وما لا يكون، والخاص والعام. وكان سلفنا الصالح يستمسكون بالسُّنة ويهتدون بها، ويحثون على العمل بها، ويُحذِّرون من مخالفتها، ويعتبرونها مكمِّلة للقرآن العظيم وشارحةً له، وإن تعذَّر العثور على الدليل في القرآن الكريم، أخذوه من السُّنة ولا يتجاوزونها إلى غيرها إنْ كان الدليل فيها، وممن نقل الإجماعَ على حجية السنة الإمام الشافعي رحمه الله ، إذْ يقول: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ: على أَنَّ من اسْتَبَانَتْ له سُنَّةُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ له أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ من الناس) [5] . وقال أيضًا: (لم أَسْمَعْ أَحَدًا - نَسَبَهُ الناسُ أو نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ - يُخَالِفُ في أَنْ فَرَضَ اللَّهُ عز وجل اتِّبَاعَ أَمْرِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ، بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لم يَجْعَلْ لأَحَدٍ بَعْدَهُ إلاَّ اتِّبَاعَهُ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ قَوْلٌ بِكُلِّ حَالٍ إلاَّ بِكِتَابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ ما سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا، وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا في قَبُولِ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ، لاَ يَخْتَلِفُ في أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ قَبُولُ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) [6] . ومن أوضح الآيات الدالة على حجية السنة قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [آل عمران: 164]. وجه الدلالة: دلت الآية الكريمة على أنه صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أمته شيئين: الكتاب، وهو القرآن، والحكمة وهي: السنة، وجاء الربط بينها وبين الكتاب العزيز في مواطن عديدة من القرآن العظيم. قال الإمام الشافعي رحمه الله : (فذَكَرَ اللهُ تعالى الكتابَ وهو القرآن، وذَكَرَ الحكمةَ، فسمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ: سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا يُشبه ما قال، والله أعلم؛ لأنَّ القرآن ذُكِرَ وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذَكَرَ الله مِنَّتَه على خلقِه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أنْ تُعَدَّ الحكمةُ هاهنا إلاَّ سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونةٌ مع كتاب الله) [7] . (بل إنَّ إفراد الشافعي لهذا الموضوع جزءًا قليلًا من كتابَيه "الرسالة" و "الأم" يدل على أنَّ الأمر من البديهيات التي عُدَّ المُخالِف فيها – في زمانهم – من الملاحدة الذين لم يُلْقِ لهم علماءُ المسلمين؛ من أصوليين ومحدِّثين وفقهاء اهتمامًا كبيرًا، بل ردُّوا عليهم بما يتناسب مع انتشار شبهاتهم بين الناس، فلم يُفردوا لهم بابًا كبيرًا للردِّ مقارنةً مع ما أفردوه لإنشاءِ العلوم الأُخرى؛ فالشافعي لم يُفرد لمسألة حُجيَّة السُّنة إلاَّ صفحات قلائل، وإذا تم إزالة هوامش المُحقِّق بالكاد يكون أفردَ لها صفحةً أو صفحتين من "الرسالة"، ولم تتجاوز الخمس صفحات في كتابه "الأم"، وكذا لم يتوسَّع بإيراد الأدلة العقلية والنَّقلية في المسألة، وهذا يدل – خلافًا لما قاله الحداثيون – على أنَّ حُجيَّة السُّنة لم يبلغ مُنكِروها من الانتشار والتأثير ما احتيج لإفراد كتبٍ أو أبوابٍ واسعة للرد عليهم، بل الظاهر هو استقرار مسألة حُجيَّة السُّنة لدى هذه الأجيال الأُوَل، فهي ثابتة لديهم نقلًا، ومستقرة في وجدانهم عقلًا، فلم تحتج إلى كثير نقاشٍ في مسألة إقرارِ حجيتها) [8] . 2-ومنهم مَنْ يُفرِّق بين (النبوة) و (الرسالة) فيزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّة مُشرِّع في أداء (الرسالة) التي هي (القرآن الكريم)، أما أحاديثه (النبوية) لا تعدُّ تشريعًا؛ لأنها تجربة شخصية بشرية، لا عصمة للنبي فيها: فيزعمون أنَّ (سيدنا محمد بن عبد الله رجل يحمل صفتين هما: صفة الرسول "من الرسالة" وصفة النبي "من النبوة" تمامًا كما يحمل أحدنا اليوم صفتين من عمله؛ كأن يكون مهندسًا، ومديرًا للعلاقات العامَّة) [9] . وأنَّ (الطاعة في القرآن هي للرسول، ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [آل عمران: 32]. وقد جاء أمر الاقتداء بالرسول في الصلاة والزكاة في مقام الرسالة.. لذلك فإنه لا يوجد لدينا أحاديث رسولية؛ لأنَّ رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، وقد وعى الصحابةُ ذلك فلم يكتبوا عنه عندما كان يحتضر على فراش الموت ما أراد أنْ يوصيهم به؛ لأنه قد أدَّى الرسالة مُتمثِّلة في الذِّكر الحكيم) [10] . وأمَّا (في مقام النبوة يقوم محمد النبي بالاجتهاد والعمل حسب المعطيات والإمكانيات والأرضية المعرفية السائدة) [11] ، إذًا فـ (الجانب المعرفي المادي والتاريخي في "النبوة"، والجانب التشريعي في "الرسالة") [12] . فهذا التفريق الغريب والمبتدع ساقط ابتداءً، ومن الوضوح بمكان في الرد عليه قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ [الأعرف: 157]؛ وقوله تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ﴾ [الأعرف: 158]. وجه الدلالة: الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم بصفتيه "الرسول" و"النبي" مِمَّا يُسقط ادِّعاءهم المزعوم؛ بالتفريق بينهما. وممَّا هو معلوم بالضرورة أنَّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولًا، ومن ثَمَّ، إذا جاءت صيغة الخطاب بلفظة "رسول" مفردة، فيقصد بها الجمع بين المقامين: مقام الرسالة ومقام النبوة، من باب دخول الجزء في الكل. أمَّا ما يُروِّجه هؤلاء المبتورون، فهذا ما لا دليل عليه من كتابٍ أو سُنَّةٍ أو حتى من مقياس اللغة، ومقتضيات العقل. وإنما هي أغلوطة فارغة لا قيمة لها، ولا وزن. 3-ومنهم مَنْ يزعم عدم تعلُّق وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية: ويَقصد الحداثيون "بالأمور الدنيوية" كلَّ ما يتعلَّق بشؤون الحياة الدنيا، بما في ذلك علاقات الناس فيما بينهم، وأمور السياسة وإدارة شؤون الدولة والحكم ونحو ذلك. فيزعمون أنَّ (كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية.. من الآراء المَحْضة، ويُسمِّيه العلماء "أمر إرشاد".. وفي القواعد الأصولية أنَّ العمل بأمر الإرشاد لا يُسمَّى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يُقصد به القُربة ولا فيه معنى التعبُّد.. إنهم معصومون فيما يؤدُّونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك من الخطأ والنسيان والصغائر.. إنَّ مجرَّد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتضي الوجوب) [13] . وبعضُهم يُفسِّر "الحكمة" المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34] بأنها (تعليمات أخلاقية وردت كجزءٍ من أمِّ الكتاب، هي الوصايا العشر عند عيسى كما في قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48] وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء: 39]، نلاحظ في هذه الآيات أنه لا يوجد فيها تشريع ولكن فيها شرح للوصايا إضافةً إلى تعليمات أخلاقية ليست تشريعية) [14] . ويبدو أنَّ أصحاب هذا الرأي لا يستطيعون التَّمييز أو التَّفريق بين ما هو داخل في أمور الدنيا المحضة، التي لا علاقة لمقام النبوة بها، والتي عبَّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) [15] ، وبين ما هو داخل في أمور الدنيا من جهة ومرتبط بالشريعة من جهة أخرى؛ كأمور الزواج، والطلاق، والميراث، والمعاملات، وهذا ممَّا لا يُجادل عاقل في أن الإسلام قد اختصَّها بأحكامٍ رغم أنها أمور دنيوية، ولكن كان يجب تنظيمها وَفق شرع الله تعالى. ومن الأمور الدنيوية أيضًا التي نظَّمها الشرع ووضع لها قواعدها وأسسها نظام الحكم والسياسة وغيرها من المسائل والأمور التي يُمكن الجمع فيها بين كونها أمرًا دنيويًا وكونها ذات صلة مباشرة بالدِّين من حيث تنظيمها ووضع التشريع المناسب لها. 4-ومنهم مَنْ يدَّعي بأنَّ وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى دين الله، وَوِلايته على قومه ولاية رُوحية فقط، ولا شأن له بالحُكم والسياسة، والمُلك، وإدارة شؤون الدولة: فقد زعم بعضهم أنَّ (وِلاية الرسول على قومه وِلاية روحية، منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعًا صادقًا يتبعه خضوع الجِسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد إخضاع الجسم من غير أنْ يكون لها بالقلوب اتصال، تلك هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين وهذه للدنيا... تلك زعامة دينية وهذه زعامة سياسية، ويا بُعْدَ بين السياسة والدِّين) [16] . و(توجيهات القرآن الكريم للرسول أنه ليس ملزمًا إلاَّ بالبلاغ، وأنه ليس مسيطرًا ولا حفيظًا ولا حتى وكيلًا، وأنَّ مهمته تنتهي عند البلاغ المبين، وأنه ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة: 272] و﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 7]) [17] . و(المملكة النبوية عملٌ منفَصِلٌ عن دعوة الإسلام وخارج حدود الرسالة.. ولا يهولنك أنْ تسمع أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم عملًا كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأنَّ مُلكه الذي شيَّده هو من قبيل ذلك العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فقواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم كلُّ ذلك لا يُصادم رأيًا كهذا... فلماذا خَلَت دولتُه من كثير من أركان الدولة ودعائم الحُكم؟ ولماذا لم يصرف نظامَه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدَّث إلى رعيته في نظام المُلك وفي قواعد الشورى؟.. ولماذا ولماذا) [18] . وهذا واللهِ من العَجَب العُجاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس مسيطرًا على قلوبهم ولا حفيظًا عليها، فلا يملك هدايتهم إلى الإيمان، ولا يملك إخضاعهم للدخول في دين الله تعالى، فهذه ليست مُهمَّته ولا وظيفته، وإنما عليه إبلاغهم رسالة ربهم، فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر – وهو مسؤول عن اختياره، فأين ذلك من فهمهم المُنحرف والضال؟! وما علاقة ذلك بكونه مُنَظِّمًا لحركة حياة أُمَّتِه وَفق المنهج الإلهي القويم في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1-4]. فالقرآن هو المنهج، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المُبلِّغ لهذا المنهج، وهو الأسوة في تطبيقه، والقُدوة في تحويله إلى واقع عملي. ولْنسألْ أصحابَ هذه الدعوى: أين هذا الفراغ الذي تزعمونه في أركان دولة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أرسل السفراء، وعَيَّن الولاة، ووقع المعاهدات، وخاض الحروب، وقضى في الأحكام؛ بل أرسل القضاة إلى سائر أقاليم الدولة، كلُّ هذا وغيره الكثير ممَّا شهد به وله القاصي والداني بعد تتبُّع سيرته ودراستها، أليس في هذا ما يدل على تلك التجربة الإسلامية الرشيدة في الحكم، التي تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان. 5-ومنهم مَنْ يدَّعي بأنَّ السُّنة لا تستقل بالتَّشريع، وتقتصر وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم على بيان القرآن وتفسيره لا غير: انتقد كثير من الحداثيين العرب ما ذهب إليه أئمة الإسلام؛ كالإمام الشافعي وغيره بالتسوية (بين القرآن والسنة من حيث استقلال السُّنة بالتشريع) [19] . وقالوا: (يجب أنْ نؤكِّد أنَّ السُّنة النبوية لا تستقل بتشريع) [20] . وزعموا أنَّه (كان تعليم السُّنة يقترن بتفسير القرآن) [21] ليس إلاَّ. و(أنَّ أغلب الحديث النبوي ليس مصدر تشريع؛ لأنَّ مُعظم ما وصَلَنا عن طريقه لم ينفرد به النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره من الناس لكي يتخذ شِرعةً ومِنهاجًا من بعده) [22] . وقصروا مهمة السُّنة على بيان القرآن فقط، زاعمين بأنَّ (القرآن هو أصل الدين القويم، وأنَّ السُّنة لم تكن إلاَّ مُبيِّنةً له، ولا بد أنْ يكون البيان صحيحًا واضحًا لا شُبهة فيه) [23] . ثم توصَّلوا إلى نتيجة حتمية وخلاصة نهائية؛ بأنه (طبقًا لهذا الموقف ليست السُّنة مصدرًا للتشريع، وليست هي وحيًا، بل تفسيرٌ وبيانٌ لما أجمَله الكتاب، وحتى مع التسليم بحجية السُّنة فإنها لا تستقل بالتشريع، ولا تُضيف إلى النص الأصلي شيئًا لا يتضمنه على وجه الإجمال أو الإشارة) [24] . 6-ومنهم مَنْ يَقْصر وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما يوحى إليه من القرآن فقط، وأمَّا السُّنة فيؤخذ منها الشعائر التعبُّدية؛ لأنه أُمِرَ بها صراحة، وما عدى ذلك لا يلزم الناس فيه اتِّباع السُّنة: فزعم بعضهم أنَّ وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتصر على تبليغ الوحي (دون أنْ يُبدِّل فيه حرفًا، وإلاَّ ﴿ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [الحاقة: 46] رغم ذلك فقد جُعِلَ من "قوله وعمله" سُنَّةً واعْتُبِرَتْ السُّنة قرآنًا بعد القرآن، بل وُجِدَ بين الأُصوليين لاحقًا مَنْ يُجيز نسخ القرآن بالسُّنة، ممَّا يجعلها – وهي التي يُفترض أنْ تكون تابعةً له – حاكمةً عليه) [25] . وأمَّا (مصطلح "سُنَّة النبي" لا يعني أنَّ سنة النبي وحيٌ بقدر ما يعني أنَّ ما كان يقضي به الرسولُ هو "السُّنة" والعادة المُتَّبعة المقبولة) [26] ، ومعنى ذلك أنَّ سنة النبي ليست تشريعًا للأُمة، وليس ملزمة لهم إلاَّ من جهة العادة المعهودة لدى العرب في القضاء بين الناس! وبعضهم يحمل أفعالَ النبي صلى الله عليه وسلم وأقوالَه وحياتَه على الخصوصية التي لا تُعَمَّم على سائر البشر، فسائر أفعالِه صلى الله عليه وسلم تُقاس على "الوصال" – مثلًا – في الصوم، فهذا وإنْ كان جائزًا في حقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو حرام في حقِّ سائر البشر، ومن هنا لا تُعدُّ السُّنة واجبة الاتِّباع إلاَّ بما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم التزامه صراحةً [27] ، وقد زعَمَ بعض دعاة الحداثة أنَّ (الخصوصية على كلِّ الأحوال ماثلةٌ دائمًا وتُطَوِّقُ شخصيةَ الرسول وتُحيط به إحاطة السِّوار بالمعصم؛ لأنه هو وحده الرسول، وأنه ليس إلاَّ رسولًا، فكل شيءٍ يصدر عنه ينبثق عن هذه الخصوصية ولا يلزم الناس ما لم يَدْعُ الناسَ صراحةً وعلى وجه التعيين إلى الالتزام به) [28] . لقد خلع الحداثيون بهذا الأقوال عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كلَّ صفات الرسول التي تلزمه كي يُبلِّغ رسالات ربِّه، وغَضُّوا الطَّرفَ عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الرئيسة، وهي إقامة الحُجَّة على البشر أمام الله تعالى. ليس هذا فحسب، وإنما حَرَموه صلى الله عليه وسلم ممَّا منحوا غيرَه من آحاد الناس، ففي الوقت الذي نفوا عنه صفةَ المُشرِّع، ونفوا عن سُنَّتِه صفةَ الوحي ووجوب تطبيقها، منحوا غيرَه من سائر البشر الحقَّ في سنِّ القوانين في الأمور المدنية والدنيوية؛ بل في أمور الدِّين منحوهم الحقَّ في الاجتهاد والتفسير والتأويل، وهم بشر عاديون، فهم حتى لم يُساووا بينه صلى الله عليه وسلم وبين آحاد الناس ممَّن منحوهم هذا الحق. وقد تعلَّلوا بعللٍ واهية وحُجَج داحضة؛ من مثل: تغيُّر الزمان، وتبدَّل الأحوال، وتطوُّر البشر وغيرها من الحُجَج الواهية التي لا تثبت عند النقاش العلمي المبني على أساسٍ صحيحٍ بعيد عن الهوى. إذ إنَّ الدِّين الذي ارتضاه الله ربُّ العالمين ليكون الدِّين الخاتم، هو بلا شكٍّ مناسب لكلِّ الأزمان ولكلِّ الأحوال، وإلاَّ ما جاز له أن يكون الدِّين الخاتم. 7-الزَّعم بأنَّ خبر الآحاد لا يُعدُّ دينًا، ولا يَثْبُت به الدِّين، وأنَّ التواتر مُقتصِرٌ على السُّنة العملية المُتمثِّلة في العبادات فقط: في محاولةٍ من الحداثيين العرب لإنكار المكانة التشريعية للسُّنة؛ فزعموا أنَّ خبر الآحاد لا يُعدُّ دينًا، ولا يَثْبُت به الدِّين، وأنَّ (النظرية الأصولية الكلاسيكية التي تُثَبِّتُ السُّنةَ بوصفها الأصل الثاني للتشريع بدأت تَفقد الكثيرَ من تماسكها في الفكر الإسلامي المعاصر، وأبرز وجهٍ لهذا التصدع موقف الدارسين المُحدَثين من أخبار الآحاد) [29] . وتوسَّعوا في "شروط التواتر" فأضافوا لها ثلاثةَ شروط؛ وذلك بضرورة مطابقة "الخبر المنقول" للحس [30] ، والعقل [31] ، والوجدان [32] ؛ لتصبح "شروط التواتر" أربعة، هي: (التطابق مع شهادة الحس، والعقل، والوجدان، وامتناع التواطؤ على الكذب) [33] . ثم أطَّروا المتواترَ في "السُّنة العملية" المُتمثِّلة في العبادات فقط، زاعمين أنَّ (العمدة في الدِّين هو القرآن، وسُنن الرسول المتواترة وهي السُّنن العملية؛ كصفة الصلاة والمناسك مثلًا.. وما عدا ذلك من أحاديث الآحاد التي هي غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد) [34] . (وهذه الشروط إنما وُضِعتْ؛ ليُصار إلى نتيجةٍ مُؤدَّاها أن لا وجود للمتواتر نهائيًّا، وفي حال وجوده – وإنْ بصعوبة – فهو ليس إلاَّ السُّنة العملية المُتمثِّلة بالعبادات؛ من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحج، وما سوى ذلك أخبار آحاد لا تُفيد علمًا، ولا تلزم اتباعًا) [35] . (ومن هنا فإنَّ منهج هذا الفريق من الحداثيين بقبول المتواتر فقط مع توسيع شروط التواتر ليصار إلى قبول السُّنة العملية من العبادات العملية فقط، ثم يأتي في مرحلة لاحقة ليقرأ العبادات نفسَها على أنها وسائل لتحقيق المعاني في نفس المؤمن، فهي غير مقصودة بهيئاتها التي مارسها الرسول صلى الله عليه وسلم.. ليصل إلى إقصاء السُّنة كليةً عن التشريع أو عن التأثير في حياة الناس؛ لقلة المتواتر ولأنَّ أخبار الآحاد هي الأعم الأغلب من السنة النبوية. وحتى مع قبوله للعبادات بهيئاتها وصورها التي هي عليها فإنَّ مقصد الحداثي ومبتغاه هو حصر الإسلام بهذه العبادات، وإبعاده عن ساحة العمل، وعن السياسة وإدارة حياة الناس... ليكون الدِّين حريةً فكريةً شخصيةً، يُمارِس الإنسانُ طقوسَه بينه وبين نفسه، بينما يعيش واقع حياته وَفق قيم المجتمع الذي يعيش فيه، مُلتزمًا بأنظمته مهما كانت مُخالِفةً للمعتقد الذي يحمله، بل يتعايش مع هذه الأنظمة مؤيِّدًا لها مُمارِسًا حياته وَفْقَها لا يخرج عنها) [36] . يُتبع،،، [1] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 133). [2] انظر: الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 116)؛ إشكاليات العقل العربي، جورج طرابيشي (ص 65)؛ الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد (ص 53). [3] ما وراء تأسيس الأصول مساهمة في نزع أقنعة التقديس، (ص 87). [4] انظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (1/ 481)؛ السنة النبوية حجية وتدوينًا، (ص 112). [5] إعلام الموقعين، (1/ 7). [6] الأم، (7/ 273). [7] أحكام القرآن، للشافعي (1/ 28)؛ الرسالة، (ص 45). [8] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 136). [9] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 36). [10] المصدر نفسه، (ص 16). [11] المصدر نفسه، (ص 36). [12] دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 183). [13] أضواء على السنة المحمدية، (ص 42-44). [14] دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 232). [15] رواه مسلم، (2/ 1011)، (ح 6277). [16] الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (ص 69). [17] تفنيد دعوى حد الردة ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، جمال البنا (ص 60). [18] الدين والدهماء والدم: العرب واستعصاء الحداثة، صقر أبو فخر (ص 25). نقلًا عن: مفاهيم قرآنية، محمد أحمد خلف الله، مجلة عالم المعرفة، الكويت، (عدد: 79)، (تموز 1984 م). [19] الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 157). [20] في نقد المثقف والسلطة والإرهاب، أيمن عبد الرسول (ص 224). [21] الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (الأصول)، (ص 142). [22] جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 16). [23] أضواء على السنة المحمدية، (ص 36). [24] الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 119). [25] المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، جورج طرابيشي (ص 167). [26] الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 53). [27] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 148). [28] نحو فقه جديد، (2/ 206). [29] الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 309). [30] (الحِس): هو ما يُشاهد ويُدرك. [31] (العقل): ليس هناك تعريف منضبط لمفهوم العقل؛ لعدم وجود عقل جمعي يُحْتَكم إليه ليكون مرجعًا. [32] (الوجدان): ليس هناك تعريف منضبط لمفهوم الوجدان؛ لأنه هائم المعنى، غائب عن الوضوح، فأيَّ وجدان يقصده الحداثيون؟ [33] التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، د. حسن حنفي (1/ 369). [34] أضواء على السنة المحمدية، (ص 395). [35] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 153). [36] المصدر نفسه، (ص 154).
الواضح المبين شرح المرشد المعين لأحمدو أشريف المختار الشنقيطي صدر حديثًا كتاب "الواضح المبين شرح المرشد المعين"، تأليف: د. "أحمدو بدو أشريف المختار الشنقيطي"، راجعه: د. "أحمدو نعمة"، نشر: "دار الظاهرية للنشر والتوزيع" بالكويت. ويعد هذا الكتاب شرحًا معاصرًا لمتن "ابن عاشر" المسمى " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين " مصحوبًا بتشجير وتدريبات لكل درس. ومتن ابن عاشر هو نظم يتناول مقدمة في التوحيد على المذهب الأشعري، وأحكامًا في فقه العبادات على المذهب المالكي (الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج) بالإضافة إلى مبادئ من علم السلوك. ويرتبط نظم ابن عاشر بشرف موضوعه، ونفاسة محتوياته، ومسائله التي تتمركز حول شعب الدين الثلاثة الواردة في حديث سيدنا عمر - رضي الله عنه -: الإيمان والإسلام والإحسان، أو بعبارة أخرى العقائد والفقه والتصوف الحق. ونادرًا ما تجد واحدًا من أهل العلم بالمغرب إلا ويستدل لها ببيت أو شطر بيت من هذه المنظومة المباركة، حيث تلقاها الناس بالقبول، وصارت متنًا متداولًا في كل مراكز التعليم ومعاهده، وأبيات هذه المنظومة أربعة عشر وثلاثمائة بيتًا جمعت أصول الدين وفروعه مما لا يسع المسلم جهله، في أوجز لفظ وأوضح عبارة، قال الشيخ " محمد بن أحمد ميارة المالكي " وهو يعدد تآليف ابن عاشر: "ألف تآليف عديدة، منها هذه المنظومة عديمة المثال في الاختصار وكثرة الفوائد والتحقيق، ومحاذاة مختصر الشيخ خليل، والجمع بين أصول الدين وفروعه، بحيث إن من قرأها وفهم مسائلها خرج قطعًا من ربقة التقليد والمختلف في صحة إيمان صاحبه، وأدى ما أوجب الله عليه تعلمه من العلم الواجب على الأعيان". ولنفاسة هذا النظم؛ فقد وضع د. " أحمدو بدو أشريف المختار الشنقيطي " هذا الشرح على أبياته جمع بين فك العبارة، والدراسة الإجمالية للمعنى، مع تشجيرات وتدريبات توسع مدرك الطالب وتعمق الفهم لديه، مع التقديم للكتاب بمقدمة عن متن ابن عاشر، وأثره في الفقه المالكي. والإمام عبد الواحد بن عاشر (990 هـ - 1040 هـ) هو أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي ابن عاشر الأنصاري، المعروف بابن عاشر، وهو من حفدة الشيخ أبي العباس ابن عاشر السلاوي (ت 765هـ). فقيه عالم من المغرب. يعد من أبرز علماء المذهب المالكي واشتهر بمنظومته "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" والتي نظم فيها الفقه المالكي، ولد بمدينة فاس عام 990هـ/1582م، وسكن بدار أسلافه الكبرى بحومة درب الطويل من فاس القرويين. بدأ تحصيل علومه بحفظ القرآن الكريم، فقرأه على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن عثمان اللمطي، وأخذ القراءات السبع على يد الشيخ أبي العباس الكفيف، ثم على الشيخ أبي عبد الله محمد الشريف التلمساني (ت1052هـ)، كما أخذ الفقه عن جماعة من شيوخ عصره، أمثال: أبي العباس ابن القاضي المكناسي (ت1025هـ)، وابن عمه أبي القاسم، وابن أبي النعيم الغساني، وقاضي الجماعة بفاس علي بن عمران، وأبي عبد الله الهواري، وقرأ الحديث على العلامة محمد الجنان (ت1050هـ)، وعلى أبي علي الحسن البطيوي، وكان يتردد على الزاوية الدلائية، فأخذ عن علمائها المبرزين، وحضر مجالس محمد بن أبي بكر الدلائي (ت1046هـ) في التفسير والحديث. رحل إلى المشرق وأخذ العلم عن يد علمائه المشرفين، تولى التدريس، والخطابة، وأخذ العلم عنه عدد من العلماء منهم: أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة (ت1072هـ)، وأحمد بن محمد الزموري الفاسي (ت1057هـ)، ومحمد الزوين (ت1040هـ)، وعبد القادر الفاسي (ت1091هـ)، والقاضي محمد بن سودة (ت1076هـ)، وغيرهم. لعبد الواحد ابن عاشر مشاركة قوية في جل الفنون والعلوم، خصوصًا علم القراءات، والرسم، والضبط، والنحو، والإعراب، وعلم الكلام، والأصول، والفقه، والتوقيت، والتعديل، والحساب، والفرائض، والمنطق، والبيان، والعروض، والطب، وغيرها. ألف الشيخ ابن عاشر أربعة عشر كتابًا، كان أهمها وأشهرها نظمه في قواعد الإسلام الخمس، الذي سماه: "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين"، وبه اشتهر وعرف، داخل المغرب وخارجه. ومن تآليفه أيضًا: "شرح مورد الظمآن في علم رسم القرآن"، و"شرح على مختصر خليل، من النكاح إلى العلم"، و"رسالة في عمل الربع المجيب"، و"تقييد على العقيدة الكبرى للسنوسي"، وغيرها. توفي ابن عاشر عن عمر يناهز الخمسين سنة، وذلك يوم الخميس 3 ذي الحجة عام 1040هـ/ الموافق لـ 3 يوليو 1631م.
قراءة في كتاب "قطر في عيون الرحالة" للدكتور علي بن غانم الهاجري د. محمد ساني إبراهيم رئيس شعبة اللغة العربية والتربية سابقًا، جامعة أحمد بلو، زاريا - نيجيريا يعدُّ كتاب "قطر في عيون الرحالة" من أهم الكتب التي سعت إلى التعريف بدولة قطر تاريخًا واقتصادًا؛ حيث تناولت أهم المحطات التاريخية المختلفة التي مرت بها دولة قطر عبر العصور، بدءًا بالمحطات التاريخية لقطر أثناء عصور ما قبل الميلاد، وصولًا إلى المحطات التاريخية لقطر بعد الميلاد، وانتهاءً بالمحطات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي. ووقف الكتاب كذلك بالتفصيل على الأوضاع الاقتصادية لدولة قطر في محطات تاريخية مختلفة، وقد ظهر الكتاب في عام 2020؛ حيث بلغ عدد صفحاته 167، أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري، الدبلوماسي القطري، وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية القيمة، من أهمها: "السلطنة الجبرية"، و"إمبراطور الشرق تشودي"، و"تشنغ خه إمبراطور البحار الصيني"، كما ظهر له مؤخرًا كتابان: "أسطورة إفريقيا الشيخ عثمان بن فودي"، و"الحاجب المنصور أسطورة الأندلس". ويهدف هذا المقال إلى التعريف بأهم العناصر الواردة في الكتاب مركزًا على المحطَّات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي. فصول الكتاب: يحتوي كتاب "قطر في عيون الرحالة" على أربعة فصول ما عدا المقدمة والخاتمة، تناول الفصل الأول المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة "قطر"، وعلاقة الكلمة بالنشاط البشري في المنطقة، وكذلك ورود تسمية قطر في المصادر التاريخية المختلفة، منها المصادر اليونانية، والمصادر المسيحية، والمصادر العربية الإسلامية، وبيان التداخل الكبير لدى المؤرخين بين قطر والبحرين، ووقف الفصل الثاني على المحطات التاريخية المختلفة لقطر عبر العصور، بدءًا بالمحطات التاريخية لقطر أثناء عصور ما قبل الميلاد، من ذلك علاقة قطر بالعراق، وبلاد الشام، والبحرين، وعمان، والحجاز، ومصر منذ ما قبل الألف الخامس قبل الميلاد، وكذلك علاقة قطر بالحضارة الآشولية في حدود القرن السادس قبل الميلاد، وأيضًا علاقتها بحضارات كلٍّ من العُبيديين والوركاء، وسلالة لجش وبلاد الرافدين والهند، والكيشيين واليونان والرومان، كما عالج الفصل المحطات التاريخية لقطر بعد الميلاد، والمحطات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي، واهتم الفصل الثالث من الكتاب بالأوضاع الاقتصادية لقطر من الزراعة، والثروة الحيوانية، والتجارة، والمنافذ البحرية، وأهم البضائع الصادرة والواردة، والصناعة باختلاف أنواعها، وركز الفصل الرابع على الطرق التجارية لدولة قطر، وخصوصًا بحرية قطر، وموانئها، وأسطولها، وأيضًا الطرق البحرية التي تربط قطر بشرق إفريقيا، والكويت، وسيراف، والهند والصين، وكذلك الطرق التجارية البرية التي تربط قطر بالعراق، وعمان، واليمن، وحضر موت، وصنعاء اليمامة، وعدن، وصعدة. ورود تسمية قطر في المصادر التاريخية: اكتسبت قطر شهرة واسعة في معظم المصادر التاريخية فيما يتعلق بالنشاط البحري على مدى حقب تاريخية ممتدة إلى عشرة قرون قبل الميلاد، وقد أولت المصادر اليونانية هذه المنطقة أهمية خاصة؛ حيث ورد اسم قطر في كتابات المؤرخ اليوناني "هيرودوس" في القرن الخامس قبل الميلاد، كما أورده الجغرافي الشهير "بطليموس" ضمن خريطته التي وضعها للعالم العربي مُطلِقًا عليها اسم كتارا (Katara or Catara)، وورد اسم قطر أيضًا عند "بلينوس" حين كان يتحدث عمن أسماهم "أعراب قطر، أو بدو قطر، أو القطريين الرُّحَّل"، أما المصادر المسيحية فنجد فيها إشارة إلى "بيت قطرايا"، أو "بيت قطرايي"؛ أي: بيت القطريين، وأما المصادر العربية الإسلامية فتؤكد على شيوع هذا الاسم للدلالة على هذه المنطقة البحرية المهمة، وكان اسم قطر متعارفًا عليه خلال العصر الجاهلي؛ حيث أُشير إليه من خلال عدد من المنسوجات التي نُسبت إلى قطر، وكذلك من خلال الجياد والنعام واللؤلؤ [1] . المحطات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي: أشار الدكتور علي بن غانم الهاجري بأن المحطات التاريخية البارزة التي مرَّت بها المنطقة الشرقية للجزيرة العربية بصفة عامة، وقطر بصفة خاصة في العصر الإسلامي كثيرة، وسيتم تناول تلك المحطات من خلال كتب الرحالة والجغرافيا وكتابات الأثريين والاقتباسات من نتائج الباحثين، الذين اهتمت أبحاثهم بالآثار وكتب الرحلات والجغرافيا. وقد شاركت قطر مناطق الجزيرة العربية، فيما قبل الإسلام، في كل المراحل التاريخية، بدءًا بالتمازج في التركيبة السكانية، مرورًا بالأحداث السياسية، والعادات، والتقاليد، والأعراف، والمعتقدات، والموروث الثقافي، فضلًا عن التكامل الاقتصادي، ومع بداية القرن السابع الميلادي بدأت معالم جديدة تبرز في تاريخ قطر ضمن منطقة شرق الجزيرة العربية، فبظهور الإسلام قامت دولة العرب المسلمين، وأُرسيت قواعد إمبراطوريتهم في مشارق الأرض ومغاربها، ولسنا في حاجة إلى أن نذكر أن قطر كانت جزءًا لا يتجزأ من كِيان الدولة العربية الإسلامية في مختلف عصورها [2] . وفيما يلي إبراز لأهم المحطات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي: 1- عصر صدر الإسلام: وينطوي تحت هذه النقطة عنصران مهمان؛ وهما كالآتي: (أ) دخول قطر في الإسلام في ظل حالة الفوضى الدينية والسياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها الجزيرة العربية عامة، وشرق الجزيرة العربية خاصة، بزغ نور حضارة جديدة، انطلق من غار حراء، فأنار الأرض وغيَّر مجرى الحياة البشرية، ومن هذا النور أتت المصدرية الجديدة حوَّلت مسار التاريخ البشري، فانجذبت أفئدة العرب نحو نور الإسلام الذي انتشر في الجزيرة، بما تشمله من قطر وبلاد شرق الجزيرة العربية، وكان ذلك من أبرز المحطات التاريخية التي مرَّت بها هذه المنطقة؛ حيث شكَّل انتشار الإسلام في المنطقة مرحلة جديدة هي الأهم في تاريخها، وهكذا دخلت المناطق الشرقية من جزيرة العرب الواقعة على الخليج العربي في الإسلام من غير قتال، وبهذا دخلت قطر وبقية البحرين في الإسلام، وأبقى الرسول صلى الله عليه وسلم أميرهم المنذر يحكمهم نيابة عنه، وبقي ابن الحضرمي معه قاضيًا ومعلمًا وجامعًا لصدقات البحرين. [3] (ب) الردة: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ارتدَّ كثير من أهل المنطقة الشرقية للجزيرة العربية، وامتدت الرِّدة إلى أطراف جزيرة العرب، ففي المنطقة الشرقية للجزيرة العربية ارتد من قيس بن ثعلبة بن عكابة عدد من الناس بقيادة الحطم، كما ارتدَّ كلُّ مَن بالبحرين من ربيعة خلا الجارود ومن تبعه من قومه، وأمَّروا عليهم ابنًا للنعمان بن المنذر يقال له المنذر، فسار الحطم حتى لحق بربيعة فانضمت إليه ... وكان الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه (ت: ١٣هـــ/ ٦٣٤م ) قد بعث العلاء بن الحضرمي واليًا على البحرين، فسار حتى نزل حصن جواثي، الواقع في قرية جواثي في البحرين، وهي سكن عبدالقيس، فسار إليه من ارتد من أهل البحرين فحاصروه ومن معه في جواثي، فخرج العلاء عليهم بمن انضم إليه من العرب، وقاتلهم قتالًا شديدًا، ثم لجأ المسلمون إلى حصن جواثي، فحاصرهم فيه عدوهم، وظل العلاء بن الحضرمي صابرًا في موقعه، وكان الجيشان على أُهْبة الاستعداد، وعلى الرغم من تفوُّق المرتدين لكنهم ثملوا في ليلتهم، فخرج العلاء بالمسلمين وقاتلوا قتالًا شديدًا، وقُتل الحطم، وهكذا عاد الإقليم الشرقي للجزيرة العربية إلى دوحة الدولة الإسلامية [4] . 2- قطر في صدر الإسلام: تحتوي هذه النقطة على العناصر الآتية: (أ) قطر القاعدة الحربية في الإسلام: لا شك أن المدينة المنورة (يثرب) هي الحاضرة الأولى للدولة الإسلامية، وقاعدتها الحربية، فمنها انطلقت الجيوش للفتح، وفيها درس أعظم قادة الإسلام الذين تتلمذوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مسجده صلى الله عليه وسلم الحاضنة التي نمت فيها جذوة الإسلام في قلوب من حملوا لواءه إلى الدنيا بأسرها، إن قادة الفتوح الإسلامية الذين بلغ عددهم مائتين وستة وخمسين قائدًا، كان منهم مائتان وستة عشر قائدًا من صحابة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وممن تخرجوا على يديه، هؤلاء هم الذين حملوا رايات الإسلام شرقًا وغربًا، فامتدت من حدود الصين شرقًا إلى شاطئ الأطلسي غربًا، وكانوا بذورًا متميزة نبتت وأثمرت في تربة المدرسة النبوية، وارتوت من عذب هديها، وأضحوا كالأشجار التي ينتفع الناس بثمرها، ويستظلون بظلها؛ حيث ساعدوا على تحريرهم من الظلم والاضطهاد، ووفروا لهم الأمان، وأناروا لهم الطريق، وما زلنا نقتدي ببطولاتهم وتضحياتهم وأعمالهم العسكرية، وما زال نورهم متوهجًا، وقد أصبح من الضروري، بعد اتساع الرقعة الإسلامية، إيجاد قواعد حربية أخرى لتكون قاعدة للانطلاق والإمداد، ومن هنا ظهر عدد من القواعد الحربية في بعض الديار الإسلامية ومنها قطر، وربما كانت قطر من أهم القواعد الحربية في الإسلام، ويؤكد ذلك ظهورها كقاعدة حربية في بداية عهد الخليفة عمر، وقد ذكر أحد الباحثين أن قطر أحد مراكز الانطلاق العربي الإسلامي في الفتوحات الإسلامية، وكانت مركز الانقضاض الأول على الدولة الفارسية [5] . (ب) قطر القاعدة العسكرية البحرية الأولى في الإسلام: لقد خبر العرب البحر وركبوا سفنه للتجارة منذ زمن بعيد، لكنهم لم يركبوا سفنه للغزو، وحينما جاء الإسلام استمروا في ركوب سفن البحر للتجارة، ولم يُستخدم البحر للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خلافة أبي بكر رضي الله عنه، واستمرت الحال على هذا حتى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ت: 23هـ/ 644م)؛ حيث انطلقت في عهده أول حملة بحرية للجهاد في سبيل الله، وكان أول من ركب البحر في الإسلام للغزو هو العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وعن جنده، وكان العلاء بن الحضرمي يومئذ واليًا على إقليم البحرين من قِبل خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد انطلق العلاء بن الحضرمي بغزوته دون علم أمير المؤمنين الخليفة عمر، الذي غضب من هذا العمل؛ لأنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيًا؛ كراهة للتغرير بجنده، ويبدو أن العلاء بن الحضرمي ركب البحر للغزو من قطر؛ حيث إنها كانت من مراكز الانطلاق العربي الإسلامي في الفتوحات الإسلامية؛ وعلى هذا، نعتقد أن أول أسطول بحري نقل الجيش العربي الإسلامي للجهاد في سبيل الله، انطلق من قطر، بقيادة العلاء بن الحضرمي، واتجه لفتح فارس؛ حيث كانت موانئ قطر في تلك الفترة الأكثر استعدادًا لهذه المهمة، فضلًا عن أنها كانت أقرب نقطة للانطلاق إلى فارس [6] . (ج) قطر قاعدة إمداد الجيش الإسلامي: كانت سواحل قطر العربية الإسلامية من أهم مراكز الانطلاق، كما كانت من أهم مراكز الإمداد البحري في مراكز الخليج العربي أيام الفتوحات الأولى، وكذلك كانت مركز الانقضاض الأول على الدولة الفارسية، فمنها خرج أول جيش للغزو إلى فار؛ حيث جمع العلاء جيشه فيها، وفرَّق جنوده إلى ثلاث فرق، فجعل على أولاها الجارود بن المعلى رضي الله عنه، وعلى الثانية سوار بن همام رضي الله عنه، وعلى الثالثة خليد بن المنذر رضي الله عنه، وجعل خليدًا على عامة الناس فحملهم في البحر إلى فارس، وعلى الرغم من الانتصارات التي تحققت لهم، فإن الفرس تقاطرت عليهم بعد أن حرقوا مراكب المسلمين، لكن النجدات التي أتت مددًا لهم عملت على تعزيزهم، ففتح الله على المسلمين بالنصر، وقُتل الكثير من أهل فارس، وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة [7] . (د) مشاركة أهل قطر في الفتوحات الإسلامية: كان لقطر دور ريادي في المشاركة الفعَّالة في الفتوحات الإسلامية والجهاد في سبيل الله؛ حيث نهضت لتأدية هذا الدور العظيم، ومن أجله جنَّدت خيرة رجالها وأشجع فرسانها، وقد أبلى أهل قطر بلاء عظيمًا في معارك الشرف وفي نشر المبادئ الإسلامية السامية، ومن بين الفتوحات التي شارك فيها أهل قطر معارك فارس الأولى على سبيل المثال؛ حيث بادروا إلى ذلك وكانت لهم ملاحم وتضحيات، ثم عادوا إلى منازلهم وهم على استعداد تام لتلبية أي أوامر أخرى لخوض معارك الشرف [8] . 3- العصران الأموي والعباسي: تنطوي هذه النقطة على ثلاثة عناصر؛ وهي كالآتي: (أ‌) المعارضة في العصرين الأموي والعباسي: ظهرت الحركة السياسية التي سُميت بــــــ"الخوارج" في عهد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ حيث انطلقت من مدينة الكوفة، ثم امتدت إلى أطراف الدولة العربية الإسلامية، وخصوصًا قطر والمنطقة الشرقية للجزيرة العربية، ثم تزايد انتشار الخوارج، فظهر نجدة بن عامر الحروري الحنفي في زمن عبدالله بن الزبير، في جماعة من بني قومه وأنصاره من حملة هذا المذهب، وأتى إلى المنطقة الشرقية للجزيرة العربية واستقرَّ بها، وأطلق على نفسه "أمير المؤمنين"، وانتشر عماله في اليمامة وعمان وهَجَر، ومن قطر برز أشهر قائد للخوارج وهو قطري بن الفجاءة، فقلَّدوه الزعامة، "وكان حقًّا رجلًا شجاعًا مِقدامًا كثير الحروب، قويَّ النفس لا يهاب الموت"، وبقي ثلاثة عشر عامًا يقاتل ويُسلَّم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين، وتُوصف حركة قَطَري بأنها حركة سياسية ضد حكم بني أمية، أكثر منها دينية، وقد تميَّزت منطقة شرق الجزيرة العربية بالاستقلال، فكانت تميل إلى الثورة إذا استشرى الظلم؛ ولذلك بدا قَطَري كأنه ثائر ضد صنوف الظلم والطغيان، وخاض حروب التحرُّر والنضال ضد بطش حكام بني أمية، معتقدًا أن الموت في سبيل نصرة مبادئه يمثِّل راحة للضمير ونصرة للمبدأ، ولم تكن قطر بمنأى عما سُمي بــــــــ"ثورة الزنج"، فيُذكر أن صاحب الزنج علي بن محمد زار البحرين قبل إعلان الثورة، وادَّعى أنه ينتسب إلى آل على، فتبعه عدد من أهل هجر، ورفض دعوته آخرون، ثم خرج إلى الأحساء إثر فتنة دامية بين مؤيِّديه ومعارضيه، وقد وجد في الأحساء تأييدًا ونجاحًا كبيرين، عاد على إثرهما إلى البصرة للإعداد للثورة، وكان لهذه الثورة آثارها الاقتصادية البعيدة؛ حيث أحدثت تخلفًا اقتصاديًّا كبيرًا، وكانت مناطق الخليج أشد المناطق تأثيرًا بعد البصرة، وكان إقليم المنطقة الشرقية للجزيرة العربية - قطر، وعمان، والبحرين الحالية، وغيرها - خلال العصرين الأموي والعباسي ساحةً للمعارضة ضد الحكم، ولم يكن الإقليم وحده فحسب، بل انتشرت المعارضة في الحجاز، واليمن، وفي العراق الذي كان مصدرًا للأفكار الثورية، ومنه خرجت الأفكار إلى مختلف الأمصار [9] . (ب‌) قطر رباط الإسلام في العصرين الأموي والعباسي: مما لا شك فيه أن الأمويين، ومن بعدهم العباسيين، اهتموا اهتمامًا بالغًا بالثغور وتحصينها، خصوصًا الثغور ذات الأهمية، سواء البرية المتاخمة للروم أو البحرية التي يخشى هجوم العدو من خلالها، ونظرًا إلى كون قطر ذات أهمية كبيرة لديار الإسلام، فقد كانت إحدى المناطق التي لفتت انتباه الدولتين الأموية والعباسية، فعملتا على تحصينها، ونشر المعسكرات فيها، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما أظهرته لنا الآثار في "مروب"؛ حيث اكتُشفت بقايا قلعة، ومن خلال الدراسات التي قامت بها البعثة الفرنسية لآثار هذه القلعة والمنطقة المحيطة بها، تبيَّن أنها تعود إلى بداية العصر العباسي، ويبدو أن هذه القلعة بُنِيت لأسباب دفاعية ضمن الخطة العسكرية للدولة العباسية التي كانت تهدف إلى تحصين مناطق الثغور الإسلامية [10] . (ج) قطر المركز الاقتصادي في العصرين الأموي والعباسي: تعد قطر من أشهر المراكز الاقتصادية في الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية على وجه الخصوص، ومنطقة شبه الجزيرة العربية بشكل عام، فقد كانت من أهم مراكز الثقل الاقتصادي لهذه المنطقة، واشتهرت بمجالات الاقتصاد المختلفة منذ القدم، وكانت مركزًا صناعيًّا تميَّز بجودة مصنوعاته التي ذاع صيتها بين جنبات المعمورة، وفي عصر الأمويين أصبحت قطر ذات شأن كبير في المجال الاقتصادي، فكانت مركزًا لتربية الجِمال، ومركزًا صناعيًّا كبيرًا، أما في العصر العباسي (الأول) فقد كانت قطر مركزًا صناعيًّا ضم كثيرًا من الصناعات، فضلًا عن النشاط التجاري البحري بعد أن اتخذ العباسيون العراق مركزًا لهم، وأصبحت البصرة سوقًا تجارية مهمة للتجارة مع الشرق، ونشطت قوافل العراق المتجهة إلى أواسط آسيا وشمال الهند بمحاذاة الخليج، ونستطيع أن نقف على الحركة التجارية في الخليج من خلال كثرة السفن وازدحامها في مرساها؛ حيث كانت تُرى مشتبكة بين صاعد ومنحدر، وشهد العصر العباسي (الأول) تطورًا في صناعة اللؤلؤ في البحرين بما فيها قطر، وازداد الطلب على اللؤلؤ القطري والتجارة به؛ حيث كان يُستخرَج منها اللؤلؤ الجيد، وكانت هناك أصناف عديدة للؤلؤ، منها المدحرج الذي يسمى "القار"، لكن أكبره وأجوده كان اللؤلؤ القطري الذي تمتع بشهرة كبيرة في التجارة، مما جعله في صدارة منتجات الخليج العربي، وكانت قطر حاضرة السلام في دولة الإسلام، فوفد إليها الناس من كل الحواضر، واشتهرت أيضًا بوصفها حاضرة اقتصادية، فكانت تمد خزانة الدولتين الأموية والعباسية بالمال الوفير؛ وذلك لتعدد مصادر اقتصادها، من موانئ ولؤلؤ وصناعات مختلفة [11] . الخاتمة: تم التطرق في هذا المقال إلى المحطَّات التاريخية لقطر في العصر الإسلامي، ومن أهمها: دخول قطر في الإسلام، وما شهدته في وقت الردة، والأدوار التي لعبتها في الدولة الإسلامية؛ حيث كانت القاعدة الحربية في الإسلام، والقاعدة العسكرية البحرية الأولى في الإسلام، وقاعدة إمداد الجيش الإسلامي، ومشاركة أهلها في الفتوحات الإسلامية، كما لعبت دور المعارضة في العصرين الأموي والعباسي، وكانت أيضًا رباط الإسلام في العصرين الأموي والعباسي، وكذلك المركز الاقتصادي في العصرين الأموي والعباسي، وقد بذل الدكتور علي بن غانم الهاجري جهدًا جبارًا في بسط القول حول النقاط التي ذكرناها. المصادر والمراجع: الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة ، ط1، دار جامعة حمد بن خليفة للنشر. [1] الهاجري، علي بن غانم (2020)، قطر في عيون الرحالة ، ط1، دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، ص38-41. [2] الهاجري، علي بن غانم (2020)، قطر في عيون الرحالة. ص66-67. [3] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص67- 69. [4] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص70- 71. [5] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص 73. [6] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص73-74. [7] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص74-75. [8] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص75. [9] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص 77-78. [10] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص79. [11] الهاجري، علي بن غانم، (2020)، قطر في عيون الرحالة، ص80-81.
قراءة موجزة حول كتاب "قراءة القراءة" "إن قراءة الكتب هي التي تبني عند الإنسان لغة العلوم، وعنها يعرف طريقة الأسلوب وتأليف الكلام المتبع فيها"، ص10. يقدم د/ فهد صالح الحمود رؤيته تجاه القراءة، وأسلوبه في استنباط واستقراء أحكام التأليف والتصنيف، رؤية تختزل كثيرًا من المعاني والمفردات حول مضامين الكتب واتجاهات مُؤلِّفيها، مع الأخذ بالاعتبار الفائدة والتحصيل العلمي الذي ينشده القارئ، وتهيئة السُّبُل له برسم خارطة منهجية، تدُلُّه على طريقة القراءة الصحيحة الجادَّة والمثمرة. "إن القراءة القائمة على الفَهْم والاستيعاب من أشقِّ أنواع القراءة وأكثرها فائدة؛ لأن فيها تحسينًا لفَهْم القارئ والارتقاء بمستواه نحو أفق الكتاب والمؤلف"، ص٦٣. هذه القراءة التي تحدِّدها اتجاهات ورؤى المؤلف بحيث تنصب معلمها نحو الأهداف المرجوَّة من عملية القراءة. يستطيع كل شخص بناء منهجه في القراءة وَفْق رؤية واضحة محددة يبني عليها أطروحات الكتاب من خلال تلمُّس آثاره ليستدل على الوعي القائم على أصول المسائل وتتبُّع فروعها، والبحث عن كنوز الكتب المغمورة داخل طيَّات صفحاتها. فالقراءة ليست هدفًا بحدِّ ذاتها عند المؤلف بل طريقة القراءة التي تعتمد على"التأمُّل والنقد والتحليل"، ص120، "وكيفية البحث والتنقيب في بطون الكتب واستخراج الفوائد والنوادر منها"، ص122. فإدراج شخصية القارئ ضمن عملية التلقي بحيث ينسج قوامَها من تعداد الأفكار حوله، وتمييز المفردات تجعله قائمًا بذاته داخل العملية القرائية "المبنية على أساس صحيح"، ص45، وآثارها على قدراته وحياته، وتطبع أفقه بنوع من المعرفة الاكتشافية التي تُزيل عن كاهله آثار التبعية والتقليد، وتُعينه على بلوغ مراده من القراءة، وتتبُّع آثار العلم داخل النصوص، والإفادة منها في تحصيله المعرفي وبنائه الفكري. اقتباسات: • "إن تحديد الهدف من القراءة من العوامل الأساسية التي تزيد من فاعلية القراءة، وما يتحصَّل منها من ثمرات وعوائد"، ص٥٧. • "الكتب مستودع الأفكار متى أعملنا عقولنا بها"، ص١٩٩. • "فإن البحث والكتابة يعتبران أعلى مستويات القراءة وأنضجها، بل هو هرم التأمُّل والتفكير ومنتهاهما"، ص٦١. • "إن الكتاب إنما يشرف وينفُس بما يحويه من معانٍ وأفكار ومسائل، بقطع النظر عن سهولة أسلوبه وقرب مأخذه"، ص٦٦. ♦ ♦ ♦ بقراءة متأنية واعية لواقع متأزِّم، وأفكار متضاربة، ومناهج يبني عليها العقل والفكر بدون وعي وإدراك للغة والثقافة التي ينسج منها، أقام المؤلف جِدارَه الحصين في وجه تلك المناهج، واختَطَّ لنفسه منهجًا مبنيًّا على علم ودراسة يستند على الموروث. "ففي نظم كل كلام وفي ألفاظه، ولا بُدَّ أثرٌ ظاهرٌ أو وَسْمٌ خفيٌّ من نفس قائله وما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير وشرٍّ أو صدق وكذب"، بهذه الإبانة الصادرة عن عمق تجربة وأصالة فكر، يتحدَّث المؤلف محمود محمد شاكر في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" قرابة ١٦٧صفحة، في سلسلة مقالات عبارة عن رسائل تُوضِّح حقيقة منهجه في "تذوُّق الكلام" وأسلوبه في دراسة الأدب العربي بشِقَّيْه الشعري والنثري. يضم الكتاب بين جنبيه ٢٤ رسالةً من البداية حتى الختام، وتنوَّعت موضوعاتها ما بين المنهج وهو المادة والتطبيق، وبين سبب الخلاف مع المناهج السائدة، وكان منهجه كما يقول "نابعًا من صميم المناهج الخفيَّة التي سَنَّ لنا آباؤنا وأسلافنا طرقها" معتمدًا على دلالات اللسان العربي. ويرجع أهم أسباب فساد الحياة الأدبية، كما رآها المؤلف إلى استشراء الاستشراق داخل أوصال الثقافة العربية، بدراسة مستفيضة عن أحواله ونتائجه من الحروب الصليبية وأثرها في العقل العربي، فكان الاستشراق البوابة الرئيسية لعزل ومسخ الهوية، وفصل الثقافة عن اللغة والدين. اقتباسات: • "أجعل منهجي في تذوُّق الكلام منهجًا جامعًا شاملًا متشعِّب الأنحاء والأطراف"، ص٨. • "والذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتة على أن يُنشئ منهجًا أدبيًّا لدراسة إرْث هذه اللغة"، ص١٥. • "بدأ الرهبان وتلاميذهم معركة أخرى أقسى من معارك الحرب، معركة المعرفة والعلم"، ص٣٧. المراجع: • محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، دار النشر: مكتبة الأسرة.
عقلية آلة الزمن لحظات من الهدوء النفسي والتقاط الأنفاس أستمتع بها بعيدًا عن الأولاد والبيت والمسؤوليات والمطبخ وإعداد الطعام وانشغال الذهن بمذاكرة وتدريبات الأولاد، وحتى عن متابعة هواياتي وكتاباتي. أفصل نهائيًّا عن العالم، أقفل هاتفي، أدخل غرفتي، أغلق الباب، أستمع إلى الهدوء يحيط بي، أنظر إلى السقف، أفكِّر في اللاشيء، أفصل كابل تفكيري عن كل مشاغل أو عقبات أو منغصات. لحظات فقط أحتاج إليها يوميًّا لأستعيد نشاطي، وأشحن بطاريتي، أخرج بعدها بنفسية أفضل مما دخلت، أعتبرها خلوة قصيرة بالنفس. أسأل نفسي: هل سيأتي يومٌ ما وتصبح هذه اللحظات ساعات أو أيامًا، أنعَم فيها بهذا الهدوء، عندما يكبر الأبناء ويبدأون الاستقلال بحياتهم ما بين عمل أو زواج أو دراسة. أسأل نفسي مرة أخرى: ولكن هل سأرتاح وقتها أم سأشعر بالملل، وأتمنَّى الرجوع للماضي والأُنْس بشغب الأولاد وضوضائهم التي تُعطي حسًّا للحياة؟ ربما يتغيَّر رأيي فعلًا وقتها، وأزهد في هذه الوحدة النفسية والراحة الذهنية. هكذا هو الإنسان يُمنِّي نفسه بما ليس لديه، ويُعلِّق آماله على ما ليس عنده؛ ليُبرِّر لنفسه تقصيره في دوره الحالي. تقول البنت التي لم تتزوج: لو تزوَّجتُ لكان حالي أفضل من هذا، وتقول الأُمُّ: لو كبر أولادي وتفرَّغتُ سأحفظ القرآن، وأمارس هواياتي، وأترك أثرًا جميلًا، وتقول الجدة التي كبرت في السِّنِّ: لو أن عندي قوة الشابات لكنْتُ فعلتُ وفعلتُ، كُلٌّ يتمنَّى ما لا يملك ولا يفكر في الاستمتاع بما يملك كما هو، كلٌّ ينتظر الوصول لخط النهاية ولا يستمتع بالهواء العليل الذي يجده طول الرحلة، كلٌّ يُفكِّر بعقلية آلة الزمن، يتمنَّى أن يجد آلة الزمن التي تنتقل به إلى الزمان الذي يأمل فيه تحقيق أهدافه. لماذا لا أستمتع بالمرحلة التي أنا فيها، ولا أشرد بتفكيري فيما لا يفيد؟ لماذا لا أفرح بدوري الذي كتبه الله لي الآن - بهدوئه أو بضوضائه، بمشاغله أو بفراغه، بحريته أو بقيوده - سواء كنت بنتًا أو زوجةً أو أُمًّا أو جدة؟ لماذا أعكِّر صَفْوَ حياتي بتمنِّي الانتقال بآلة الزمن من دور لدور؟ استمتع بكل دور، فلكل دور من أدوار حياتك رونق وجمال لا يُضاهى، لكل دور مميزات وميزات لو استغللْتَها جيدًا لما تمنيتَ انتهاءه، استمتع بدورك ولا تنظر لدور غيرك ولا تُقارن نفسك بغيرك وتحسده على ما وضعه الله فيه، انعَمْ به كما هو، فلا تدري متى ينتهي هذا الدور أو هذا المشهد من مشاهد مسرحية حياتك، فإنه ما أن ينتهي ويسدل عليه الستار إلا يبدأ الذي بعده حتى تنتهي جميع مشاهدك. اللهم أرضني بقضائك، وبارك لي فيما قدَّرْتَ حتى لا أحبَّ تعجيلَ ما أخَّرتَ، ولا تأخيرَ ما عجَّلْتَ.
الهجرة إلى الحبشة اشتدَّ الأذى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبات أغلبُهم في وضع صعب التحمل من شدة الأذى والبلاء، خصوصًا الضعفاء منهم، الذين ليس لهم قبيلة قوية تَمنعهم، وقد أشفق النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، فقال لهم: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإن بهم ملكًا لا يظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه))، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وكان أولَ مَن خرج من المسلمين: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبدالأسد وامرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن رهم، وسهيل بن بيضاء، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، ويروي أنس بن مالك أن خبر عثمان وزوجه قد أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيت خَتَنَك ومعه امرأته، قال: ((على أي حال رأيتهما؟))، قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صحبهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام))، وهذه هي الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكان عددهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، وكان خروجهم في رجب سنة خمس من البعثة، ساروا من مكة إلى ساحل البحر عند الشعيبة، فوجدوا سفينة أقلَّتْهم إلى الحبشة بنصف دينار، وكان عليهم عثمان بن مظعون.
انحراف المرأة المسلمة أسبابه وآثاره وعلاجه الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد: فكوننا مسلمين، فإنه يتطلب من المسلم الالتزام بعبادة الله سبحانه، وامتثال أوامر الشرع الحنيف، والسير على طريق الاستقامة والسلوك السليم، والابتعاد عن الوقوع في الشهوات المحرمة، والانحراف عن جادة الحق والفطرة السليمة، وخاصة فيما يخص المرأةَ المسلمة، فهي ذات قيمة خاصة، فالإسلام رفعَ شأن المرأة وحَسَّنَ حالها، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالرفق بهنَّ، ونهى عن تزويج الفتيات كُرهًا وعن أكل أموالهن بالباطل، ومن ذلك أيضًا فقد نزلت سورة خاصة بهنَّ تسمى سورة النساء توضح فيها أحكام المواريث، وكيفية معاملة المرأة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فإنهن خُلقنَ من ضِلَعٍ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا » [1] ، والآثار في ذلك كثيرة، ورغم أن معدل الانحراف عند المرأة أقل منه عند الرجل، فإنه أشد تأثيرًا، كون المرأة هي قلب الأسرة إن كانت أمًّا وزوجة، ووضع حساس في وضعها ابنة أو أخت. ويجدر بنا في البداية معرفة الانحراف في اللغة: فهو الميلان، يقال: انحرف عن كذا، أي حال عنه [2] ، وجاء بمعنى مال وعدل [3] ، وإذا مال إنسان عن الشيء قيل انحرف، والإنسان على حرف من أمره؛ أي: على انحراف [4] ، وعلى ذلك يمكن القول بأن الانحراف في اللغة الخروج والميل عما هو مألوف في ذلك المحيط الذي يعيش فيه. أما تعريفه في الاصطلاح، فقد عرَّف علماء الاجتماع الانحراف بأنه الخروج عن السلوك السوي التي تحرمها القوانين، وتستوجب عقوبات خاصة، وكما تعد خروجًا عن قيم المجتمع وتقاليده [5] ، وقد عرفه (بول تابان): كل سلوك أو موقف يمكن أن يُعرض أمرُه على المحكمة ويصدُر فيه حكم قانوني [6] . فللمرأة وضع خاص وتغيرات فسيولوجية تؤثر نوعًا ما في سلوكها وحالتها النفسية تتمثَّل في آلام فترة الطمث الشهرية التي تجعل المرأة أقل ضبطًا لنفسها، وقد تصادف أيضًا أنواعًا أخرى من التعرض للعنف والانتقاص داخل الأسرة والتعرض للصدمات الشخصية في العلاقات مع الآخرين مما يوقعها في الانحراف بأنواعه. ويوجد عدة أسباب تؤدي لانحراف المرأة المسلمة وتوقِعها في الخطأ والمعصية، وبراثن أهل السوء، وهي: ضعف الوازع الديني، فالدين هو الذي يردع الإنسان عن عمل المعصية والوقوع في السلوك المنحرف، وكذلك الوقوع في علاقات محرمة مع الرجل، والتعرض للخداع بالزواج، والانتقام من الزوج أو الأب لأسباب وظروف خاصة، والمدرسة التي تعد الحاضن الثاني الذي يكوِّن شخصية الفرد وسلوكه، وقد تكتسب المرأة من المعلمة أو الزميلات السلوك والأخلاق السيئة، ووجود أسباب اقتصادية مثل الفقر أو الثراء الفاحش، فهذه التغيرات لها أثرها في سلوكها جادةَ الانحراف. وهناك عواملُ ساعدت على انحراف المرأة في العالم، وخاصة في المجتمع المسلم، وأثَّرت في استقرارها الفكري والأخلاقي والأسري، عن طريق الحركات النسوية والمنظمات والمؤتمرات الدولية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المؤتمرات الدولية التي تنعقد بشأن المرأة في العالم، من أهمها كان في ميثاق الأمم المتحدة الذي أبرم في سان فرانسيسكو في 26/6/1945م، ونص على عدم التفرقة بين الناس بسبب الجنس [7] ، وفي عام 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص المادة الثانية منه على أن: (لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي؛ سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر) [8] ، وكذلك المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين - الصين 1995م الذي تميَّز عن غيره من المؤتمرات بجرأته على الأخلاق، ودعوته الصريحة للحرية الجنسية (بما فيها ما يسمى زواج المثلين)، والتنفير من الزواج المبكر، والعمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل، والسماح بالإجهاض المأمون، والتركيز على التعليم المختلط بين الجنسين وتطويره، وكذلك التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في سن مبكرة. والمؤتمر العالمي الأول للسكان ببخارست - رومانيا 1974م، وقد اعتمدت في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية، جاء فيها: الدعوة إلى تحسين دور المرأة ودمجها الكامل في المجتمع، والدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل، والدعوة إلى تحديد النسل، وتخفيض المرأة لمستوى خصوبتها. ووجود مؤسسات خاصة بشؤون المرأة في الدول العربية؛ مثل: المجلس القومي للمرأة بمصر، المجلس الأعلى لشؤون المرأة في بعض دول الخليج كالبحرين وقطر، ووجود مكتب كبير منسقي قضايا المرأة الدولية بوزارة الخارجية الأمريكية الذي تقول رئيسته إبريل بالمرلي في كلمة لها بعنوان (النساء في مجتمع عالمي): «حدد مكتبي ثلاثة مجالات عامة للسياسة سوف نستهدفها في جهودنا القادمة، وهي المشاركة السياسية والاقتصادية للمرأة، ومن أهداف المكتب تشجيع الحريات للمرأة والترويج لقضاياها [9] ، وغير ذلك من المؤتمرات التي تهدف إلى هدم الأسرة وكيانها المتمثل في دفع المرأة للانحراف، والانحراف كما بينا سابقًا هو الخروج عن السلوك السوي الذي تحرِّمه القوانين وتستوجب عليه عقوبات خاصة، وينتج عنه جملة من الآثار هي: ترك العمل بالشريعة في كثير من مجالات الحياة؛ مثل عدم الالتزام وكشف جزء من اللباس، والتعطر أثناء الخروج، وقد روى أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار: أحدهما نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها" [10] . وقد يؤدي فساد المرأة كزوجة إلى سخط الزوج عليها والبحث عن بديل آخر للحصول على المتعة والرعاية، وأحيانًا للانتقام من الزوجة، وانهيار العلاقة داخل الأسرة ونشوء حالة الشك والعداوة بين الزوجة والزوج، وإهمال الأبناء، وكثيرًا ما يحصل ذلك بوقوع الطلاق بين الزوجين. ويأتي مواجهة الانحراف وعلاجه عبر عدة أمور: في تطبيق أوامر الله تعالى والتزام المنهج النبوي في أمور الحياة والعلاقة مع الآخرين، واختيار الأصدقاء الصالحين بالنسبة للمرأة والابتعاد عن أصدقاء السوء، والحرص على قراءة كتب التراث الإسلامي، وما تتميز به من الحث على الأخلاق الحميدة ومجانبة الرذيلة، وإشغال الوقت بما يفيدها من التزود من العلوم المختلفة والحرف المنزلية، والتقرب إلى الله بنوافل العبادات، وكذلك الحوار الهادئ مع المرأة داخل الأسرة وإعطائها كامل حقوقها الشرعية كأم وزوجة وأخت وبنت، ونقطة مهمة وهي إبعاد كل ما من شأنه إثارة الغرائز والشهوات من القنوات التلفزيونية الهابطة والأفلام الإباحية، والانغماس في مواقع التواصل الاجتماعي، وبناء العلاقات مع غير المحارم. [1] رواه البخاري في صحيحه رقم ( 5186 ) -كتاب النكاح- باب الوصاة بالنساء. [2] لسان العرب، لابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري (ت 711 هـ)، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، دار المعارف، القاهرة. [3] مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان – بيروت. [4] المحيط في اللغة، الطالقاني، أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس بن أحمد، ط 1، عالم الكتب – بيروت. [5] معجم المصطلحات العلوم الاجتماعية، أحمد زكي، مكتبة لبنان - بيروت، 1977 م : 106 ، التربية المدنية كوسيلة للوقاية من الانحراف، المركز العربي . للدراسات الأمنية والتدريب - الرياض، 1406 هـ. [6] انحراف الأحداث ومشكلة العوامل، منير العصرة، المكتب المصري الحديث القاهرة، 1974 م : [7] ينظر دستور الأمم المتحدة، على الرابط: http:\\www.un.org\arabic\aboutun\charter\charter [8] اعتمد هذا الإعلان ونشر بقرار الجمعية العامة 217 أ (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948م. انظر: لمحمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام 393. [9] د. فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم: المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير، ص16-17 بتصرف، وقد نقل عن الشبكة العنكبوتية، موقع وزارة الخارجية-مكتب برامج الإعلام الخارجي، على الرابط http://usinfo.state.gov/arabic/wfsub.htm. [10] رواه مسلم، ح/ 1793.
شرح العقائد الإسلامية للشيخ سعد الشثري صدر حديثًا كتاب "شرح العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" للشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس - رحمه الله-، شرح: د. "سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري"، نشر: "دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب شرحٌ ميسر نافع لرسالة الإمام عبد الحميد بن باديس (1305-1359 هـ) الموسومة بـ "العقائد الإسلامية" ، والتي كانت في أصلها عبارة عن عدة دروس دينية، مما كان يلقيه الشيخ عبد الحميد بن باديس- إمام النهضة الدينية والعربية والسياسية في الجزائر غير مدافع - على تلامذته في الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن، على الطريقة السلفية التي اتخذتها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" منهاجًا لها بعد ذلك، وبنتْ عليها جميع مبادئها ومناهجها في الإصلاح الديني، مسترشدة بتلك الأصول التي كان الإمام - رحمه الله - يأخذ بها تلامذته قبل تأسيس الجمعية. وجاءت تلك الدروس في العقيدة كعقيدة محمدية مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي، موحد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدل على ما يعتقد في ربه بآية من كلام ربه. وقد جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه، فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله، فإن الطريقة المثلى هي الاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلى الغيبيات لا يكون إلا بالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونفي ما انتفى عنه لا يكون إلا بآية قرآنية محكمة، فالمؤمن إذا سولت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الآخرة، أو صفات الله فإنها لا تسول له مخالفة القرآن. وهذه العقيدة فيها بيان لقواعد الإسلام الخمس من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ثم بيان لمعنى الإسلام، ومنه ينتقل ابن باديس لبيان معنى الإيمان وأقسامه، ثم بيان معنى الإحسان ومراتبه، ثم تفصيل لعقائد الإيمان كعقيدة الإثبات والتنزيه، والتوحيد العلمي والعملي، والإيمان بالقدر، والحكمة والعدل في القدر، ثم يعرج في نهاية عقيدته لبيان دلائل الإيمان باليوم الآخر وخصائصه. حيث تتميز تلك الورقات بأنها عبارة عن ملخص يحتوي أبرز محاور العقيدة الإسلامية الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وما يميز هذه العقائد أنها جاءت مختصرة بسيطة يفهمها المبتدئ والمتقدم في طلب العلم، وينتهج "ابن باديس" في مؤلفه طريقتين مميزتين أولاهما التبويب إذ أن ابن باديس يعتمد حديث جبريل المشهور في هيكلة درسه، والثانية الطرح إذ يعمد ابن باديس إلى نشر الثقافة القرآنية عبر الاعتماد المحوري على القرآن في كتابه، وإحياء فضيلة التبين لدى العقل المسلم. يقول الأستاذ "محمد الصالح رمضان" ناشر تلك الدروس العقدية: " وكأن صوت إمامنا ما يزال يرن في أذني حين إملاء هذه الدروس بالجامع الأخضر، وقد حذا فيها الإمام حذو السلفية الرشيدة من اعتماد كتاب الله، والصحيح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قبل تفسيرات المذاهب المختلفة وتأويلات أصحابها في مرحلة الاختلاط، والاستشهاد بما عند الأقدمين من أصحاب الأديان والفلسفات والمذاهب الأخرى. ومن المحقق أن بعض هذه الآراء كما كان لها فضل التجلية، ودقة الاستشهاد.. كان لها أيضا أثرها الضار في التعمية، أو البعد عن جادة الصواب أحيانًا، مما أثار البلبلة والحيرة، وتشعب الآراء وانبهام الحقيقة أمام الدارس.. وكان ذلك مما دعا المصلحين إلى ضرورة العودة إلى إصلاح العقائد الإسلامية، وشرح المصطلحات، وحل القضايا على نمط سلفي واضح، بصريح نص الكتاب والسنة الصحيحة، لا برأي الجبرية والقدرية وغير ذلك من الآراء الفلسفية..". وقد عمد الشيخ "سعد الشثري" لبيان وشرح ألفاظ الشيخ ابن باديس المجملة، والتمثيل عليها، والتعليق عليها بما يلزم من إيضاحات ودلائل لبيان العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان ينتهجها الشيخ العلامة "عبد الحميد بن باديس" في دروسه وكتاباته، مع التقدمة للكتاب بالتعريف بجهود ابن باديس السلفية والجهادية في أرض الجزائر المسلمة. والشيخ ابن باديس هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي ابن باديس: (1305 - 1359 هـ = 1887 - 1940 م) . • رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، من بدء قيامها سنة 1931 م، إلى وفاته. • ولد في قسنطينة، وأتم دراسته في الزيتونة بتونس. وأصدر مجلة (الشهاب) علمية دينية أدبية، صدر منها في حياته نحو 15 مجلدًا. • وكان شديد الحملات على الاستعمار، وحاولت الحكومة الفرنسية في الجزائر إغراءه بتوليته رياسة الأمور الدينية فامتنع واضطهد وأوذي. وقاطعه إخوة له كانوا من الموظفين، وقاومه أبوه، وهو مستمر في جهاده. وأنشأت جمعية العلماء في عهد رياسته كثيرًا من المدارس. • وتوفي بقسنطينة في حياة والده. له: • (تفسير القرآن الكريم) اشتغل به تدريسًا زهاء 14 عاما، ونشرت نبذ منه ثم جمع تفسيره لآيات من القرآن، باسم (مجلس التذكير) ونشر في الجزائر. • (آثار ابن باديس) في 4 مجلدات، وتضم مقالاته وكتاباته ومحاضراته التي كان يلقيها في المنتديات والتجمعات العلمية والطلابية.
ضمُّ الجواهر المنثورة فيمن أثنى عليهم الإمام النَّووي من شيوخه في مصنَّفاته المشهورة الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فمن أهمِّ آداب طالب العلم مع شيخه ما عبَّر عنه شيخ الإسلام أبو زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (631 هـ - 676هـ) -رحمه الله رحمة واسعة- في غير موضعٍ بقوله [1] : (وينبغي أن يُعظِّم شيخَهُ، ومَن يَسمعُ منه؛ فذلك من إِجلال العلم، وبه يُفتحُ على الإِنسان، وينبغي أن يعتقد جلالةَ شيخهِ ورجحانه، ويتحرَّى رضاه، فذلك أعظم الطُّرق إلى الانتفاع به) ا.هـ، وقوله [2] : (وينبغي أن ينظرَ معلِّمهُ بعين الاحترام، ويعتقدَ كمال أهليَّته ورجحانه على أكثر طبقته، فهو أقربُ إلى انتفاعه به، ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه) ا.هـ. ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في سيرة الإمام النَّووي نفسه مع شيوخه حين يذكرهم في مصنَّفاته بعبارات تفوح توقيرًا واحترامًا وبِرًّا وإعظامًا. وقد اجتهدتُ في ضمِّ ما تناثر منها، واقتصرتُ على أهمِّها وأَصرحها دون تعرُّض للمُختصر منها أو المكرَّر. وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة . ♦♦♦♦♦ 1- الشَّيخ شمس الدِّين أبو الفرج أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن أبي عُمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي الصَّالحي الحنبلي (597 هـ - 682 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: صحيح الإمام البخاري، وسنن الإمام أبي داود السِّجِسْتاني، وسنن الإمام التّرمذي، وسنن الإمام ابن ماجه، ومسند الإمام الدَّارِمي، ومسند الإمام أبي عوانة الإِسْفَرَايِيني، وشرح السُّنَّة للإمام البَغَوي، وذم الوسواس وأهله للإمام الموفَّق ابن قدامة. قال عنه [3] : (هو أَجَلُّ شُيوخي) ا.هـ. وقال أيضًا [4] : (الإمام، العلَّامة، ذو الفُنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الشَّمائل الرَّضيَّة والمحاسن السَّنيَّة واللَّطائف، أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن الشَّيخ الصَّالح الإمام المجمع على جلالته وصلاحيَّته أبي عُمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي الحنبلي، وهو إمام الحنابلة في عصرنا بدمشق وسائر نواحي الشَّام، ذو الوجاهة والقَبول عند الخواصِّ والعوام.. بارك الله للمسلمين في حياته، ورفع في الفردوس درجاته، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته، بفضله ورحمته) ا.هـ. وقال أيضًا [5] : (شيخُنا، الإمام، العلَّامة، ذو الفنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الأخلاق الرَّضيَّة والمحاسن واللَّطائف، أبو الفرج أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن الشَّيخ الإمام أبي عُمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قدامة المقدسي، رضي الله عنه.. وهو الإمام المتَّفق على إمامته، وبراعته، وورعه، وزهادته، وسيادته، ذو العلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة) ا.هـ. وقال أيضًا [6] : (الشَّيخ، الإمام، المتَّفق على إمامته وفضله وجلالته، القاضي، أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن الشَّيخ الإمام العالم العامل الزَّاهد أبي عُمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي، رضي الله عنه) ا.هـ. وقال أيضًا [7] : (الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، الورع، المفتي، شمس الدِّين أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن الشَّيخ الصَّالح الإمام المجمع على جلالته أبي عمر محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن قُدامة المقدسي) ا.هـ. وقال أيضًا [8] : (شيخنا، الإمام، وحيد العصر، شمس الدِّين، إمام الحنابلة بالشَّام) ا.هـ. 2- الشَّيخ شمس الدِّين أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن نوح بن محمَّد المقدسي الدِّمشقي الشَّافعي (المتوفَّى 654 هـ) : ذَكَرَهُ الإمام النَّووي ثاني مَن أخذ عنه الفقه الشَّافعي قراءةً، وتصحيحًا، وسماعًا، وشرحًا، وتعليقًا. قال عنه [9] : (شيخنا، أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن نوح بن محمَّد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثمَّ الدِّمشقي، الإمام، العارف، الزَّاهد، العابد، الورع، المتقن، مفتي دمشق في وقته، رحمه الله) ا.هـ. 3- الشَّيخ شمس الدِّين محمَّد النَّووي (المتوفَّى 656 هـ): ختم الإمام النَّووي عليه كتاب الله تعالى. قال عنه [10] : [11] (الفقيه، شمس الدِّين محمَّد النَّووي، رضي الله تعالى عنه، وعليه قرأتُ الختمة الشَّريفة.. رحمه الله، وإيَّاي، ووالدينا، ومشايخنا، ‌ومَن ‌نفعنا، وأصحابنا، ومَن أسأنا إليه، وسائر المسلمين، آمين) ا.هـ. 4- الشَّيخ جمال الدِّين أبو الفرج عبد الرَّحمن بن سالم بن يحيى الأَنْبَاري الحنبلي (المتوفَّى 661 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: كتاب الحجَّة على تارك المحجَّة للإمام نصر المقدسي، والأربعين البلدانيَّة المتباينة الأسانيد للإمام عبد القادر الرُّهاوي. قال عنه [12] : (الشَّيخ، الإمام، الفاضل، جمال الدِّين أبو الفرج عبد الرَّحمن بن سالم بن يحيى الأَنْبَاري، رحمه الله تعالى) ا.هـ. وقال أيضًا [13] : (الشَّيخ، الفقيه، المسنِد، أبو محمَّد عبد الرَّحمن بن سالم بن يحيى الأَنْبَاري، رحمه الله) ا.هـ. 5- الشَّيخ عماد الدِّين أبو الفضل عبد الكريم بن عبد الصَّمد بن محمَّد الحَرَسْتَاني الأنصاري الشَّافعي (577 هـ-662 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري. قال عنه [14] : (القاضي، الإمام، بقيَّة المشايخ، أبو الفضل عبد الكريم بن القاضي أبي القاسم عبد الصَّمد بن محمَّد الأنصاري) ا.هـ. 6- الشَّيخ شرف الدِّين أبو محمَّد عبد العزيز بن محمَّد بن عبد المحسن بن محمَّد الأنصاري الدِّمشقي الحموي الشَّافعي (586 هـ - 662 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: مسند الإمام أحمد بن حنبل، و جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري . قال عنه [15] : (الشَّيخ، الإمام، ذو الفنون، شيخ الشُّيوخ، أبو محمَّد عبد العزيز بن القاضي الإمام أبي عبد الله محمَّد بن عبد المحسن بن محمَّد بن منصور الأنصاري) ا.هـ. وقال أيضًا [16] : (شيخنا، الإمام، العلَّامة، الرَّئيس، الصَّدر الكبير، شيخ الشُّيوخ، شرف الدِّين أبو محمَّد عبد العزيز بن القاضي الإمام زين الدِّين أبي عبد الله محمَّد بن عبد المحسن بن محمَّد بن منصور الأنصاريُ الشَّافعي الدِّمشقي، رحمه الله ورضي عنه) ا.هـ. 7- الشَّيخ زين الدِّين أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد المقدسي النَّابُلُسِي الدِّمشقي الشَّافعي (585 هـ - 663 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: جزءًا فيه أحاديث أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري، و المحدِّث الفاصل بين الرَّاوي والواعي للإمام الرَّامَهُرْمُزِي، وعمل اليوم واللَّيلة للإمام ابن السُّنِّي، وفضائل شهر رمضان وما فيه الأحكام والعلم وفضل صُوَّامه والتَّغليظ على من أفطر فيه متعمِّدًا من غير عذر للإمام ابن شاهين، والأربعين للإمام الحاكم النيسابوري، والزُّهد والرَّقائق للإمام الخطيب البغدادي، والكمال في أسماء الرِّجال للإمام عبد الغني المقدسي، ومشيخة الإمام أبي اليُمن الكندي تخريج الإمام القاسم بن علي ابن عساكر الدِّمشقي، والأربعين البلدانيَّة المتباينة الأسانيد والرُّباعيَّات للإمام عبد القادر الرُّهاوي، وتاريخ بغداد للإمام الخطيب البغدادي إجازةً، وتاريخ دمشق للإمام ابن عساكر إجازةً. قال عنه [17] : (شيخنا، الإمام، الحافظ، أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد المقدسي النَّابُلُسِي الدِّمشقي الشَّافعي، المتفرِّد في وقته بمعرفة الرِّجال، رحمه الله تعالى) ا.هـ. وقال أيضًا [18] : (شيخنا، وسيِّدنا، الإمام، الحافظ، زين الدِّين، رضي الله عنه) ا.هـ. وقال أيضًا [19] : (حافظ عَصْره، وإمامهم في معرفة أسماء الرِّجال) ا.هـ. وقال أيضًا [20] : (كان علَّامة وقته في هذا الفنِّ، مع كمال تحقيقه فيه) ا.هـ. 8- الشَّيخ رضي الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن مُضر بن محمَّد الواسطي (593 هـ-664 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: موطَّأ الإمام مالك بن أنس رواية أبي مصعب الزُّهري، وصحيح الإمام مسلم. قال عنه [21] : (الشَّيخ، الأمين، العدل، الرَّضِي أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مُضر الواسطي -رحمه الله-) ا.هـ. وقال أيضًا [22] : (أمَّا شيخُنا أبو إسحاق: فكان من أهل الصَّلاح، والمنسوبين إلى الخير والفلاح، معروفًا بكثرة الصَّدقات، وإنفاق المال في وجوه المكرمات، ذا عفاف وعبادة ووقار، وسكينة وصيانة بلا استكبار) ا.هـ. 9- الشَّيخ كمال الدِّين أبو محمَّد إسحاق بن خليل بن فارس الشَّيباني الدِّمشقي الشَّافعي (588 هـ - 665 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: معالم السُّنن للإمام الخطَّابي. قال عنه [23] : (الشَّيخ، القاضي، الإمام، العالم، كمال الدِّين أبو محمَّد إسحاق بن خليل بن فارس الشَّيباني الشَّافعي، رضي الله عنه) ا.هـ. 10- الشَّيخ شرف الدِّين أبو الفضل محمَّد بن محمَّد بن محمَّد التَّيمي البَكري (590 هـ-665 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: شروط النَّصارى للإمام ابن زَبْر الرَّبَعي، وبذيله: أحاديث عبد الوهَّاب بن أحمد الكِلَابي. قال عنه [24] : (الشَّيخ، الأمين، المسنِد، أبو الفضل محمَّد بن محمَّد بن محمَّد التَّيمي البَكري) ا.هـ. 11- الشَّيخ ضياء الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى بن يوسف المرادي الأندلسي المصري الدِّمشقي الشَّافعي (المتوفَّى 667 هـ) : أخذ الإمام النَّووي عنه فقه الحديث، وشرح عليه: صحيح الإمام مسلم، ومعظم صحيح الإمام البخاري، وجملة مستكثرة من الجمع بين الصَّحيحَين للإمام الحُميدي. قال عنه [25] : (إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي، ثمَّ المصري، ثمَّ الدِّمشقي، الفقيه الشَّافعي، الإمام، الحافظ، المتقن، المحقِّق، الضَّابط، الزَّاهد، الورع، الذي لم تَر عيني في وقته مثله، كان رضي الله عنه بارعًا في معرفة الحديث وعلومه، وتحقيق ألفاظه، لا سيما الصَّحيحان، ذا عناية باللُّغة والنَّحو والفقه ومعارف الصُّوفيَّة، حسن المذاكرة فيها، وكان عندي من كبار المسلكين في طرائق الحقائق، حسن التَّعليم، صحبتُهُ نحو عشر سنين لم أر منه شيئًا يكره، وكان من السَّماحة بمحلٍّ عال على قدر وُجده، وأمَّا الشَّفقة على المسلمين ونصيحتهم فقلَّ نظيره فيهما.. جزاه الله عنِّي خيرًا، وجمعني وإياه مع سائر أحبابنا في دار كرامته بفضله ورحمته) ا.هـ. وقال أيضًا [26] : (شيخنا وسيِّدنا، الإمام الجليل، والسَّيِّد النَّبيل، الحافظ المحقِّق، والمقتبس المدقِّق، الضَّابط المتقن، والمشفق المحسِن، الورع الزَّاهد، والمجتهد العابد، بقيَّة الحفَّاظ، المفتي، شيخ الأئمَّة والمحدِّثين، ضياء الدِّين أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي)ا.هـ. 12- الشَّيخ بدر الدِّين أبو حفص عمر بن محمَّد بن أبي سعد الكِرْمَاني (570هـ - 668 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: مسند الإمام أبي عوانة الإِسْفَرَايِيني. قال عنه [27] : (الشَّيخ الأوحد، بدر الدِّين أبو حفص عمر بن محمَّد الكِرْمَاني) ا.هـ. 13- الشَّيخ كمال الدِّين أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي المقدسي الشَّافعي (المتوفَّى 668 هـ) : ذَكَرَهُ الإمام النَّووي أوَّل مَن أخذ عنه الفقه الشَّافعي قراءةً، وتصحيحًا، وسماعًا، وشرحًا، وتعليقًا. قال عنه [28] : (شيخي، الإمام، المتَّفق على علمه، وزهده، وورعه، وكثرة عباداته، وعِظَم فضله، وتميّزه في ذلك على أشكاله، أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثمَّ المقدسي، رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وبين سائر أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه) ا.هـ. وقال أيضًا [29] : (وشيخُنا: أبو ابراهيم إسحاق بن أحمد المقدسي، الفقيه، الإمام، الزَّاهد) ا.هـ. 14- الشَّيخ كمال الدِّين أبو الحسن وأبو الفضائل سلَّار بن الحسن بن عمر بن سعيد الإربلي الحلبي الدِّمشقي الشَّافعي (بعد 600 هـ - 670 هـ) : ذَكَرَهُ الإمام النَّووي رابع مَن أخذ عنه الفقه الشَّافعي قراءةً، وتصحيحًا، وسماعًا، وشرحًا، وتعليقًا. قال عنه [30] : (سلَّار بن الحسن أبو الحسن، شيخُنا، الإمام، البارع، المتقن، المحقِّق، المدقِّق، إمام المذهب في عصره، والمرجوع إليه في حلِّ مشكلاته، وتعرّف خفيَّاته، والمتَّفق على إمامته، وجلالته، وفضله، ونزاهته.. توفِّي رحمه الله ليلة الأحد السَّابع من جمادى الآخرة سنة سبعين وستمائة بدمشق، ودُفن بباب الصَّغير عند الشُّهداء، وحَضرتُ غسله، فرأيتُ عليه أُنس الأحياء ونور الأولياء) ا.هـ. وقال أيضًا [31] : (شيخنا، [الإمام، العالم] [32] أبو الحسن سلَّار بن الحسن الإربلي ثمَّ الحلبي ثمَّ الدِّمشقي، المجمع على إمامته، وجلالته، وتقدُّمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النَّواحي، رضي الله عنه) ا.هـ. وقال أيضًا [33] : (سيِّدنا، الشَّيخ كمال الدِّين سلَّار، حفظه الله تعالى) ا.هـ. وقال أيضًا [34] : (شيخنا، قاضي الإسلام، كمال الدِّين سلَّار، رضي الله تعالى عنه) ا.هـ. 15- الشَّيخ تقي الدِّين أبو محمَّد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليُسر شاكر بن عبد الله التَّنُوخِي الدِّمشقي الشَّافعي (589 هـ - 672 هـ) : روى الإمام النَّووي عنه: سنن الإمام أبي داود السِّجِسْتاني، وسنن الإمام النَّسائي بقراءته عليه، وجزءًا فيه من حديث الإمام وكيع بن الجرَّاح الرُّوَاسي، والجزء الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن سمعون الواعظ، والجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع، واقتضاء العلم العمل كلاهما للإمام الخطيب البغدادي، والمستقصى في فضل المسجد الأقصى للإمام القاسم بن علي ابن عساكر الدِّمشقي. قال عنه [35] : (الشَّيخ، الرَّئيس، الفاضل، أبو محمَّد إسماعيل بن الشَّيخ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليُسر شاكر بن عبد الله التَّنُوخي الدِّمشقي الشَّافعي، رضي الله عنه) ا.هـ. وقال أيضًا [36] : (شيخنا، الإمام، العالم، الرَّئيس، تقي الدِّين أبو محمَّد إسماعيل بن الإمام العالم بهاء الدِّين أبي إسحاق إبراهيم بن تقي الدِّين أبي اليُسر شاكر بن عبد الله التنوخي الشَّافعي الدِّمشقي.. رضي الله عنه) ا.هـ. 16- الشَّيخ جمال الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطَّائي الجَيَّاني الشَّافعي (600 هـ - 672 هـ) : أخذ الإمام النَّووي عنه علم النَّحو واللُّغة. قال عنه [37] : (سيِّدنا، وشيخنا، الإمام، العالم، العلَّامة، حُجَّة العرب، مالك أزمَّة الأدب، أوحد العلماء، سيِّد الفضلاء، جمال الدِّين، أمدَّ الله في عمره) ا.هـ. وقال أيضًا [38] : (شيخُنا أبو عبد الله ابن مالك، إمام العربيَّة في زماننا بلا مدافعة) ا.هـ. وقال أيضًا [39] : (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك رضي الله تعالى عنه، وهو إمام أهل اللُّغة والأدب في هذه الأعصار بلا مدافعة) ا.هـ. وقال أيضًا [40] : (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك، إمام أهل الأدب في وقته بلا مدافعة رضي الله تعالى عنه.. مع شدَّة معرفته، وتحقيقه، وتمكُّنه، واطِّلاعه، وتدقيقه) ا.هـ. 17- الشَّيخ عز الدِّين أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّبَعي الإربلي الشَّافعي (675 هـ) : ذَكَرَهُ الإمام النَّووي ثالث مَن أخذ عنه الفقه الشَّافعي قراءةً، وتصحيحًا، وسماعًا، وشرحًا، وتعليقًا. قال [41] : (شيخنا، وسيِّدنا، الإمام، الفاضل، والعلَّامة، البارع، عزّ الدِّين أبا حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الإربلي، المفتي، الشَّافعي، رحمه الله) ا.هـ. وقال أيضًا [42] : (شيخي، وسيِّدي، الإمام، العلَّامة، المفتي، المدقِّق، المتقن، مجموع أنواع المحاسن، عزّ الدِّين أبا حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الإربلي الشَّافعي، رضي الله عنه) ا.هـ. 18- الشَّيخ تقي الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن الحسين ابن رَزِين العامري الحموي الشَّافعي (603 هـ-680 هـ) : عرض الإمام النَّووي عليه مواضع من كتاب (التَّنبيه) امتحنه فيها. قال عنه [43] : (الشَّيخُ تقي الدِّين ابن رَزِين، حفظه الله، ورضي عنه) ا.هـ. 19- الشَّيخ شرف الدِّين أبو إسماعيل محمَّد بن إبراهيم بن صرى: قال [44] : (شيخنا، وسيِّدنا، الإمام، الصَّالح، العارف، بقيَّة شيوخ الطَّريقة، شرف الدِّين أبا إسماعيل محمَّد بن إبراهيم بن صرى بن ‌هرماس بن نجَّار بن عقيل بن جابر بن حكام بن حكمة بن يوسف بن جعفر الطَّيَّار بن أبي طالب) ا.هـ. ♦♦♦♦♦ وفيما تقدَّم من العبارات والمقولات عدَّة فوائد، منها: 1- أنَّنا تعرَّفنا على بعض شيوخ الإمام النَّووي الذين لم يُذكروا ضمنهم في كتب التَّراجم والطَّبقات أو لم نقف لهم على ترجمة. 2- أنَّها تبيِّن لنا جانبًا عظيمًا من أدب الإمام النَّووي مع شيوخه. 3- أنَّها تُثري ترجمة هؤلاء الأئمَّة الأعلام، وتُضيف إليها ما لم يُذكر فيها، خصوصًا مع عناية بعض أهل العلم بذِكر ثنائه عليهم [45] . 4- أنَّها تحثُّنا على التَّأسِّي به في مثل هذا الأدب الجليل مع شيوخنا ومعلِّمينا، جزاهم الله عنَّا خير الجزاء. هذا والله أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. [1] (إرشاد طلاب الحقائق) (1/ 515)، ونحوه في (التَّقريب والتَّيسير) (ص 82). [2] (المجموع في شرح المهذَّب) (1/ 36)، ونحوه في (التِّبيان في آداب حملة القرآن) (ص 47). [3] (مشيخة قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة) (1/ 314)، و(معجم الشُّيوخ الكبير) (1/ 375) للذَّهبي. [4] (التَّلخيص شرح الجامع الصَّحيح للبخاري) (1/ 243)، ونحوه في (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [22/ أ] بخطِّه. [5] (الإملاء) (ص 138). [6] (التَّرخيص في الإكرام بالقيام) (ص 29). [7] (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [21/ أ] كما بخطِّه. [8] (التَّلخيص) [38/ أ] كما بخطِّه. [9] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/ 85). [10] (بستان العارفين) (ص 217-218). [11] وَرَدَت هذه المقولة وغيرها بعد بابٍ لم أقف عليه إلَّا في نُسخة خطِّيَّة وحيدة لكتاب (بستان العارفين)، وذَكَرَ ناسخها أنَّه رأى ما زادَهُ في آخرها بخطِّ الإمام النَّووي، ومَن نَظَرَ ما فيه مِن مفردات وحكايات مؤرَّخة مرويَّة سماعًا من جُلِّ شيوخه المعروفين فإنَّه سَيَمِيلُ إلى صحَّة نسبتها إليه، لكن لا يمكن الجزم بكونها قطعة من الكتاب؛ لتفرُّد هذه النُّسخة بها -التي لا يُعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها له- من بين سائر نُسخِهِ المتوفِّرة لدينا، وكذلك نصّ ناسخها مرَّتين أنَّه رآها بخطِّه تعليقًا في مواضع متفرِّقة، والله أعلم. [12] (التَّرخيص) (ص 84)، ونحوه في (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [42/ أ] كما بخطِّه. [13] (بستان العارفين) (ص 150، 157). [14] (بستان العارفين) (ص 136). [15] (بستان العارفين) (ص 136). [16] (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [34/ ب] كما بخطِّه. [17] (التَّرخيص في الإكرام بالقيام) (ص 83). [18] (بستان العارفين) (ص 213). [19] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (2/ 668). [20] (التِّبيان في آداب حملة القرآن) (ص 231). [21] (شرح صحيح مسلم) (1/ 329). [22] (شرح صحيح مسلم) (1/ 330-331). [23] (التَّرخيص) (ص 36). [24] (بستان العارفين) (ص 138). [25] (طبقات الفقهاء الشَّافعيَّة) (1/ 311). [26] (بستان العارفين) (ص 222)، وانظر: (ص 139). [27] (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [42/ ب] كما بخطِّه. [28] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/ 84-85). [29] (المجموع) (6/ 390) وهو يسمِّي بعض الأعلام من السَّلف والخلف ممَّن صام الدَّهر غير أيَّام النَّهي الخمسة العيدان والتَّشريق. [30] (طبقات الفقهاء الشَّافعيَّة) (1/ 476). [31] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/ 85). [32] ما بين المعقوفتين زيادة من (تحفة الطالبين) (ص 54). [33] (بستان العارفين) (ص 215). [34] (بستان العارفين) (ص 221). [35] (التَّرخيص) (ص 33). [36] (تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة) [32/ ب] كما بخطِّه. [37] (سؤالاته له ص 305-مجلَّة الحكمة). [38] (المجموع) (4/ 79). [39] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/ 108). [40] (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/ 449). [41] (بستان العارفين) (ص 215). [42] (بستان العارفين) (ص 224)، وانظر:(تهذيب الأسماء واللُّغات) (1/ 85). [43] (رؤوس المسائل) (ص 195، 200). [44] (بستان العارفين) (ص 214). [45] كما في (مشيخة قاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة) (1/ 314)، و(معجم الشُّيوخ الكبير) (1/ 375) للذَّهبي في ترجمة: عبد الرحمن بن أبي عمر ابن قدامة المقدسي، و(طبقات الشَّافعية) (2/ 102، 109) لابن قاضي شهبة في ترجمة: إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي المقدسي، وعبد الرَّحمن بن نوح بن محمَّد المقدسي، و(تاريخ الإسلام) (15/ 139-140) للذَّهبي، و(الوافي بالوفيَّات) (6/ 52) للصَّفدي، و(المنهل الصَّافي) (1/ 135-136) لابن تغري بردي في ترجمة: إبراهيم بن عيسى بن يوسف المرادي، و(طبقات الشَّافعية الكبرى) (8/ 149) للتَّاج السُّبكي في ترجمة: سلَّار بن الحسن بن عمر الإربلي، وذكر ابن كثير (طبقات الشَّافعيين) (ص 889)، وابن قاضي شهبة في (طبقات الشافعية) (2/ 133) أنَّه أثنى عليه ثناء حسنًا.
كتاب ( بين حبيبين ) منى مصطفى مقدمة الكتاب بسم الله لرحمن الرحيم أحمدك اللهمّ وأستمنحك السداد والفتح على قلبي ولساني بما يرضيك وينفع عبادك، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، من أوتي جوامع الكلم فمدت عليه الفصاحة ظلالها، وشدت به البلاغة نطاقها، فما نطق عن هوى، وما ضلّ وما غوى، وبعث بدين قويم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كان صلى الله عليه وسلم خير أبٍ، وألطف زوجٍ، وأوفى صديقٍ، وأنقى العباد سريرة وأحفظهم لفرجه وسمعه وبصره صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يكتب علينا رهبانية ابتدعوها، والحمد لله الذي يثيبُنا على التزام الحلال ونبذ الحرام، والحمد لله الذي خلق الذكر والأنثى وجعل بينهما مودة ورحمة، والحمد لله الذي شرّع لنا الزواج وحرّم الزنا، والحمد لله الذي جعل الأولاد حرزا لآبائهم من النار إذا صلحوا، والحمد لله الذي جعل الرحم معلقة بعرشه، يصل من وصلها ويقطع من قطعها، ثم الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، والحمد لله الذي جعل غريزة الإنسان مقرونة بالحب والرغبة لا لمجرد حفظ النوع كالحيوان، والحمد لله الذي خلق الإنسان - كل إنسان - على فطرة الإسلام ... الحمد لله الذي أعاننا على كَبَد الدنيا بأن جعل الألفة والمودة سرَّ وميض السعادة في أيامها، وجعل كسب الحبّ الدافع لتعميرها. ثم أما بعد: الأسرة في زمننا كصيد غرير أنهكت جسده أسهم الصيادين، فنجدها متردية بين التفكك والسقوط، وينتهي أمرها للطلاق الفعلي وتشرد الأولاد، أو للطلاق الصوري، أي أن الوالدين يعيشان معا بعقد شرعي حفاظًا على الأولاد ولكن الجليد يغزو قلوبهم وفراشهم بدلا من الدفء، والمنافرة تملأ ضلوعهم بدلا من المودة، وأنفاسهم الحارة تحمل البغض ولا تعرف الشوق ... نعم، لا تتعجب، هذا حال غالب بيوت شبابنا، إلا قلة قليلة علمت حال الدنيا فقنعت ورضيت بالمتاح وسقت براعم حبها صبرًا ورضا فأينعت سكينة وأمانًا، وهؤلاء أيضا محاربون! محاربون لأجل بنيهم الذين يتخطفهم المجتمع وما يطغى عليه من فساد في الذوق والفطرة والمفاهيم، وحتى شِرعة الله سبحانه وتعالى غدت غير واضحة ناصعة للشاب يستعصم بها عندما تعصف به الأهواء وتطعنه سهام التشكيك، فقد أصبح تحريف مفاهيم الدين والطعن في صحة نصوص السنة غاية كل من أراد الشهرة وطمع في حفنة من دراهم عفنة تُلقى عليه، أو غلبته نفسه لجذب الأضواء حوله مهما كلفه ذلك حتى لو باع آخرته! كل ذلك جعل حياتنا البسيطة واضحة الغاية محددة الهدف ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56] أعقد من قوانين فيزياء الكوكب، ( مع اعتبار المفهوم الواسع للعبادة ). هذا هو حال أسرتنا اليوم إما شقي بنفسه أو بولده أو بكليهما! والأعجب أننا إذا بغينا الفرار بديننا تحقيقا لسنة التدافع وعملا بالمبدأ الرباني ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ [النساء: 97] وجدنا أن دخول القبر أيسر من دخول بلد آخر تتوسم النجاة فيه بدينك وولدك، وكأن البلاد غدت سجنا واسعًا ضُربت علينا أسواره؛ لنعيش فيه بين مجاهدة إصلاح النفس وكبح جماحها وبين عثرة حفظ الأولاد من الفتن والأخذ بحجزهم إلى طريق النجاة! هذا هو حال بلادنا العربية بكل أسف وبلاد الغرب أشد وطأة وأعظم خطرًا! وأكثر ما يؤرقني تراجع بعض المفاهيم الفطرية، حتى أننا نجد دورات تُعقد ومحاضرات تُلقى ورسائل ماجستير تُبحث فيما كان يعلمه المسلم بفطرته دون اللجوء لأحد، ولا أعلم سببا للانتكاس الفطري الذي أصاب كثيرًا من شبابنا إلا تغير اهتمامات الوالدين، فأصبحا يلهثان وراء الكسب المادي لتوفير حاجات البدن وبالتالي ندر الحوار، وقلّ النصح وطغت المادة، وغدا ( اليوتيوب ) بأدرانه وأرجاسه هو المربي الفاضل بدلا من حضن الأم وزند الأب! فجفت الروح وصارت حاجات الشباب من الجنسين شهوانية ومرهونة بما يراه في مواقع الانترنت الذي مزج الثقافات تقريبا، فانزاح البرزخ الفاصل بين الفضيلة والرزيلة وصارت أخلاق ومبادئ الأسرة ماسخة لاهي ملح ولا فرات! أحدث ذلك كله ربكة في العقل والعاطفة، العقل يقول ديني وفطرتي، والعاطفة تقول جرّب وعش حياتك، وكثرة انتشار الخبث تجعله يؤلف بل ويُشرعن له! تأتي بعد ذلك تجربة الزواج فنكتشف أن هذا الموروث ولّد لدى كل طرف أنانية مفرطة، هي تريده يمجدها ويعظمها ويبالغ في إكرامها بما لا يملك ولا يطيق، فيقدم لها الورد جاثيا على قدميه ليشبع الأنانية والفردانية التي ولدّها الترف أو العوز وفساد الإعلام والثقافة، ويعيّشها كأبطال المسلسلات المترفين بأموال البؤساء منّا ..... وهو يريدها منحوت القوام، بهي الطلعة، ناعم الجلد شجي الصوت يتحدث بغنج ويسير بدلٍ ... وكأنه خلق نفسه كما يتشهّى وكما يقرر خبراء التجميل وتجار الجنس لا كما خلقها الله الجميل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ... وبالتالي يغفل عن مكامن الروح والقلب فيها ولا يريد إلا مفاتن الجسد، - لأن هذه مفاهيمه التي استقاها من مربيه الفاضل ( اليوتيوب ) - فتنهار كل أحلامه وآماله بمجرد التعود أو بعد إنجاب الطفل الأول ... وهكذا تتوالى أمواج الانهيار فيحدث الشقاق، وتتحول الأسرة آباء وأبناء لعش دبابير يغرس كل منهم ذبانه في لحم الآخر بدلا من أن تكون خلية نحل تنتج عسلا يداوي آلام الصاحب! ولا يثبت في هذا الخضمّ المضطرب إلا من ثبته الله بالدين، وسلامة الفطرة، ووالدين يعلمان غاية وجودهما في الحياة فيتخذان من الاعتدال نهجًا، ومن سنة نبيهم نبراسًا، ومن تغذية الروح والعقل لا الكرش والفرج غاية!، ثم يتخذا من القرآن زادًا تزكو به نفوسهم، ومن السنة ضياء يقيل عثراتهم ... وهؤلاء – بفضل الله – موجودون بيننا غير أن شياطين الإنس لا يصدّرون إلا الفشلة ليسود الفساد ... ومن المؤلم حقًا أنّ من احتفظ بفطرته سليمة في زمننا هذا يوشك أن يعيش غريبا؛ إما أن يداهن ويرضى بالمتاح، وإما يشعر أنه من كوكب آخر غير كوكبنا، أو من ديار غير ديارنا فيعيش بوجدان مضطرب وينعكس ذلك بلا شك على أسرته... ومع فتنة الانبهار بالأقوى وإعلائه في نفوسنا - بسبب فساد الإعلام وتدهور الحال - لم نعد نُخضع فكرنا لمعايير الدين والعرف، وأصاب المجتمع غنيه وفقيره مرض المغالاة التي تفوق الخيال حتى تفشى العزوف عن الزواج بين شبابنا من الجنسين، ثم ظهر بيننا عقوق الآباء لأولادهم، وهذا أمر مخالف للفطرة تماما، فالأصل تشديد الوصية للأبناء بكثرة البر، والترهيب من العقوق، ولم يرد ذلك التشديد للآباء؛ لأن الفطرة الأصيلة بقلبهم هي حب الأولاد والاستكثار منهم، بل جعل المولى عزّ وجل كثرة الأولاد والأموال من زينة الدنيا، ومن علامات السعادة. ولن نخرج من مأزق التفكك الأسري واندثار قيمنا العربية والإسلامية إلا بأن نزكي أنفسنا، ونحافظ على فطرتنا سليمة تأنف من الحرام وتقبل على الحلال، تسعد بالطاعة وتشقى بالمعصية، تقبل على ما يرضي مولاها راغبة راهبة، وتنفر مما يغضبه عازفة آنفة، توّسع الجنة التي تسكن صدرها، قبل أن توّسع دارها! وقد أيقنتُ بعد تأمل أن استقامة المرء النفسية والعقلية والعقدية منبعها الأول بيئته، وأن أقوى مراحل العمر تأثيرا في النفس هي مرحلة الطفولة، وأن الحاضنة الأولى لهذه المرحلة هي (البيت) لذا عمدت لتناول بعض العوامل التي تعين الزوجين على مواجهة الحياة بعقل متزن وعاطفة رزينة مقتدين بمعلم البشرية الأول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بدأت الكتابة منذ عقد من الزمن تقريبًا، وكلما أنجزت عملًا صغيرًا كان أو كبيرًا، لقي استحسانا أم لقي استهجانًا، نبذته وراء ظهري وقلت ليس هذا ما أريده، نعم نجحت في معالجة فكرة أو ظاهرة بطريقة ما، ودسست ما أصبو إليه من وعي أرجو ترسيخه في نفس القارئ سواء كان ظاهرًا يفهمه كل قارئ، أو خفيًّا يحتاج إلى قارئ نابه يتلقف ما وراء الحرف ولا يكتفي بظاهره، ومع ذلك ورغم حرصي الشديد أن يكون كل ما أكتبه في ميزان حسناتي بفضل الله ورحمته، إلا أنني لم أرضَ، ليس لاستهانتي بالعمل، ولا لأني ادخرت جهدًا في تقديمه، بل هناك هاتف في نفسي يردد دوما: لم تجدي طريقك بعد! ورغم أن ذاك الهاتف مازال في عقلي، إلا أنني أكتب هذه المرة بشغف مطمئنة النفس إلى هذا العمل بإذن الله؛ لأني أبتغي من ورائه التبليغ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث رصّعت الكتاب بعدد لا بأس به من أحاديث الرسول الكريم بين الصحيح والحسن والنادر من الضعيف الذي يُستأنس به؛ فكل حديث من حبيبنا صلى الله عليه وسلم يغني عن دورات ومحاضرات كثيرة في فن التعامل الناجح بين الزوجين خاصة ومعاملة الناس عامة، كيف لا وقد علمه شديد القوى، فكان حديثه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، فأسأل الله أن ينفعنا بها جميعًا. وأرجو من الله أن يكتب لهذا العمل القبول؛ أملا في إرضائه سبحانه وتعالى، ورغبة صادقة تحدوها مشاعر أشد صدقًا في نفع شباب المسلمين من الجنسين؛ بإحياء الفطرة السليمة التي فطرنا الله عليها والتي يجتهد العالم كله الآن لتنكيسها. تسير المعالجة في الكتاب بهذه الطريقة: 1- همسة في أذن الرجال والنساء. 2- عرض أهم المشاكل الاجتماعية مع تحليل أسبابها وبعض المقترحات لعلاجها من خلال تناول ما يقرب من أربعين حديثًا شريفًا في أصول التعامل بين الزوجين خاصة وعموم الناس، ورد بعض الأحاديث منفردًا بالتحليل ومقصودًا لذاته وبعضها في ثنايا الموضوعات ... 3- خلف النوافذ المغلقة ( عرض بعض رسائل من القراء التي تعبر عن الواقع ومرفق بها تحليل ومعالجة ).
أحاديث الأجزاء العشرة الأولى من كتاب الأفراد للإمام الدارقطني تحقيق محمد السريع صدر حديثًا كتاب "أحاديث الأجزاء العشرة الأولى من كتاب الأفراد للإمام الدارقطني"، بترتيب: الإمام الحافظ "علي بن أبي بكر الهيثمي" (ت 807 هـ)، جمع وتحقيق: د. "محمد بن عبد الله السريع"، نشر: "دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية بعنوان "أحاديث كتاب (الأفراد) للإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) التي رتَّبها الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) في كتابه: "جمع أحاديث الغيلانيات والخلعيات وفوائد تمام وأفراد الدارقطني" (الأجزاء: الأول، والخامس، والسابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، من الأفراد) - جمعًا وتحقيقًا ودراسة"، تقدم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في فقه السنة ومصادرها من كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية، بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحت إشراف د. "حسين بن شريف العبدلي"، وذلك عام 1440 هـ. وينفرد الكتاب بأحاديث ستة أجزاء من كتاب الأفراد للدارقطني لم يسبق نشرها من قبل. ومن أبرز ما يتضمَّنه، ويُضيفه، كتابُ الهيثمي في هذا المضمار ما يلي: 1- ينطوي الكتاب على أكثر من 345 حديثًا جديدًا من (الأفراد)، بتمام أسانيدها، ومتونها، وتعليقات الدارقطني عليها. 2- يمثِّل الكتاب نسخةً جديدةً للأجزاء الموجودة من (الأفراد)، وهي: الثاني، والثالث، والرابع، والسادس، حيث إن الموجود من هذا الأجزاء: نسختان للجزء الثاني، ونسخة واحدة لكلٍّ من الثالث، والرابع، والسادس. ويحلُّ كتاب الهيثمي إشكالاتٍ عِدَّةً وقعت في النُّسَخ الخطية الأخرى، بل ربما حوى زياداتٍ عليها أحيانًا. 3- يقدِّم الكتاب ترتيبًا فقهيًّا محرَّرًا لأحاديث (الأفراد)، يجعلها في ضمائمَ بحسب موضوعاتها، ويجعل الوقوفَ عليها سهلًا، بعد أن كانت متفرِّقةً منثورةً في أصلها. 4- يوضِّح الكتاب ما أجمله ابن طاهر المقدسي في (أطراف الغرائب والأفراد)، ويتمِّم ما اختصره، ويُثبِت ما حذفه. فضلًا عمَّا يوجد فيه مما لم يورده ابن طاهر أصلًا. وقدم الباحث للكتاب بمقدمة مستفيضة عن الإمام الدارقطني وكتابه "الأفراد"، ومنهجه في اختيار الحديث. وقد حقق الباحث هذه الأجزاء العشرة على نسخة خطية نفيسة تحتفظ بها مكتبة الشيخ (أحمد بن عمر البساطي)، بالمدينة النبوية، والناسخ هو الحافظ المشهور أبو الخير؛ محمد بن عبدالرحمن بن محمد السخاوي (831هـ - 902هـ)، تلميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني. وصاحب كتاب "الأفراد" هو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدَّارقطنيُّ. والدارقطني نسبة إلى دار القطن، وهي محلَّة ببغداد. وُلِد الدارقطني سنة ست وثلاثمائة. سمع الدارقطني من أبي القاسم البغوي، وخلقٍ كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط. وأخذ العلم عن الدَّارقطني محمدُ بن الحسن الشيباني، وصعصعة بن سلام، وأبو معاوية الضرير، وغيرهم. نشأ الدارقطني في بيت علم وفضل، فقد كان أبوه من المحدثين الثقات، وقد شاهده في صباه وهو يتردد على حلقات العلم والسماع، ويدون مسموعاته ومروياته ويقضي سحابة نهاره تعلمًا ودراسة، فحُبب إليه طلب العلم والسعي في تحصيله منذ نعومة أظافره وقد ساعده على ذلك ما منحه الله من استعداد فطري وذهن حاد وتعطش شديد للمعرفة وحافظة واعية فقد كتب عن نفسه أنه كتب في أول سنة (315). وكان عمره إذ ذاك تسع سنوات. كانت بغداد في عصر الدارقطني تزخر بالشيوخ من أهل العلم والرواية، وكان العلماء المشهود لهم بالمعرفة والحفظ يؤمُّونها كافة الأقطار الإسلامية، فتعقد لهم مجالس التحديث والإملاء، ولهم تخصصات متعددة تمثل ثقافة عصرهم، وكان الدارقطني حريصًا على الإفادة منهم، وسماع مروياتهم، والأخذ عنهم، والتفقه بهم، وقد أتاحت له حافظته الواعية، وشغفه البالغ ودأبه في الطلب أن يستنزف علومهم، ويستوعب مروياتهم، إلا أنه وهو شديد الرغبة في الاستزادة من العلم لم يقنع بما أخذه عن شيوخها، فشدَّ الرحال إلى عدد من البلاد الإسلامية ليلتقي فيها بالحفاظ وأهل العلم، ليسمع منهم ويكتب عنهم. وارتحل إلى الشام ومصر. قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: "لم يرَ الدارقطني مثل نفسه". وقال ابن الجوزي: "وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلمُ بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعداله وصحة العقيدة". وقال ابن كثير: "الحافظ الكبير أستاذ هذه الصناعة وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، سمع الكثير وجمع وصنَّف وألَّف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريدَ عصره، ونسيجَ وَحْدِهِ، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطِّلاع التام في الدراية". وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: "لم يتكلم على الأحاديث مثل علي بن المديني في زمانه، وموسى بن هارون في زمانه، والدارقطني في زمانه". وقال أبو عبد الرحمن السلمي فيما نقله عنه الحاكم: "شهدت بالله إن شيخنا الدارقطني لم يخلف على أديم الأرض مثله في معرفة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الصحابة وأتباعهم". ومن مؤلَّفات الإمام الدارقطني الكثيرة النافعة: 1- كتاب السنن. 2- العلل الواردة في الأحاديث النبوية. 3- المُجتبى من السنن المأثورة. 4- المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال. 5- كتاب الأفراد. 6- سؤالات الحاكم. وهو كتاب عمدة في الجرح والتعديل. وتُوفِّي الدارقطني سنةَ خمسٍ وثمانين وثلاثمائة، بعد حياة حافلة بالجِدِّ والحرص على تلقي العلوم ونشرها، وله من العمر سبع وسبعون سنة. وصاحب هذا الترتيب هو أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (735 هـ - 1335 / 807 هـ - 1405)، لد في شهر رجب سنة 735 هـ، صحب الشيخ زين الدين العراقي وهو صغير، فسمع معه من ابتداء طلبه على: أبي الفتوح الميدومي، وابن الملوك، وابن القطرواني وغيرهم من المصريين، وسمع من: ابن الخباز، وابن الحموي، وابن قيم الضيائية وغيرهم من الشاميين. ثم رحل مع الشيخ زين الدين العراقي جميع رحلاته، وحج معه جميع حجاته، ولم يكن يفارقه حضرًا ولا سفرًا، وتزوج ابنته، وتخرّج به في الحديث، وقرأ عليه أكثر تصانيفه، وكتب عنه جميع مجالس إملائه. أشهر تلاميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن فهد المكي برهان الدين أبو الوفا إبراهيم بن محمد بن خليل المعروف بسبط ابن العجمي. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وصار كثير الاستحضار للمتون جدًا لكثرة الممارسة، وكان هينًا لينًا خيرًا دينًا محبًا في أهل الخير، لا يسأم ولا يضجر، من خدمة الشيخ وكتابة الحديث، وكان سليم الفطرة، كثير الخير، كثير الاحتمال للأذى خصوصًا من جماعة الشيخ". قال التقي الفاسي: "كان كثير الحفظ للمتون والآثار صالحًا خيِّرًا". قال الأقفهسي:"كان إمامًا عالمًا حافظًا زاهدًا متواضعًا متوددًا إلى الناس ذا عبادة وورع". قال السخاوي: "كان عجبًا في الدين والتقوى والزهد والإقبال على العلم والعبادة والأوراد وخدمة الشيخ وعدم مخالطة الناس في شيء من الأمور والمحبة في الحديث وأهله". وكان الهيثمي غزير الحفظ والتأليف، ومما ألفه من كتب: • البدر المنير في زوائد المعجم الكبير. • بغية الباحث عن زوائد الحارث. • ترتيب الثقات لابن حبان. • ترتيب الثقات للعجلي. • تقريب البغية في ترتيب أحاديث الحلية. • زوائد ابن ماجة على الكتب الخمسة. • غاية المقصد في زوائد أحمد. • كشف الأستار عن زوائد البزار. • مجمع البحرين في زوائد المعجمين: (الأوسط والصغير). • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. • المقصد الأعلى في زوائد أبي يعلى. • موار الظمآن لزوائد ابن حبان.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (العلمنة - تغييب النصوص ) يمر على الأمة حينٌ من الدهر تُضحي فيه نهبًا للآخر، بأي شكل من أشكال النهب السياسي والاقتصادي والعسكري والديني والثقافي، وتكون في هذا مسلوبة الإرادة، مغلوبة على أمرها، لا تستطيع دفاعًا عن نفسها، فيتقلص نفوذها، ويضمحل تأثيرها، ويهرب منها أبناؤها باحثين عن فكر الآخر وثقافته، على اعتبار أن المغلوب - على رأي عبدالرحمن بن خلدون - يتبع الغالب، والأمة حينها مغلوبةٌ على أمرها [1] . من أخطر أنواع النهب: أن تنهب الأمة في دينها الذي هو منبع ثقافتها، فيفرض عليها من الغالب أن تحور في دينها، ليس مباشرةً، ولكن بإغفال ترديد النصوص التي تبين حقيقة الآخر ( غير المسلمين )، الحقيقة التي نزل بها الوحي، ولا يمكن أن تكون مقصورة على زمان أو مكان، بل هي ملازمة لهذا الآخر، والإيمان بها جزء من الإيمان بهذا الدين، وهي تدخل في أصل الاعتقاد. إغفال النصوص التي تبين هذه الحقيقة فيه تدخل في المعتقد، وتغييب لأصل من أصوله، مما يؤثر على الإيمان، فيؤدي إلى الموالاة، في الوقت الذي تدعو فيه النصوص إلى البراءة من الآخر، إذا انطبق عليه ما ينطبق على ما يجب البراء منه. الذي يبدو أن مفهوم البراء نفسه غير واضح في أذهان بعض الذين يثيرونه بين الفينة والأخرى، مما أدى إلى الدعوة إلى تناسي النصوص التي تؤكد عليه والتغافل عنها؛ذلك أن البراء لا يشمل - فيما يبدو - المقاطعة بكل أشكالها، وإعلان الحرب على الآخر ورفضه باسم البراء أو بحجة البراء. الذي يظهر - كذلك - أن مصطلح الولاء والبراء لم يتم التركيز عليه بهذه الصورة وبهذه القوة على الساحة الإسلامية إلا في الآونة الأخيرة، وبنبرة سياسية، وإن كان المسلمون يرددون آيات الولاء والبراء، لا سيما في مطلع سورة التوبة منذ زمن غير قصير [2] ،وهذا أمر يحتاج إلى بحث؛ إذ إنه لا يطرح على أنه من المسلمات،وهناك محاولات لتغييب مثل هذه النصوص. لم يقتصر العمل في تغييب النصوص على هذا الجانب، بل إن هناك أصلًا لدى الآخر بتغييب تلك النصوص التي تتعلق بزرع دولة يهودية في قلب الأمة، وأصبح كثير منا الآن يدعوها إسرائيل،وهناك رغبة - كذلك - في تغييب النصوص التي تتحدث عن اليهود عمومًا،والنصوص التي تتحدث عن اليهود لا تتحدث عنهم بإيجابية؛ ولذا تظهر الدعوة إلى تغييبها كلها. السؤال المطروح هنا يتعلق بمدى جدوى تغييب النصوص ومدى نجاح هذا التغييب، ما دام له علاقة مباشرة وقوية بأصل الاعتقاد الوارد لدى المسلمين بالذكر، ويؤمن المسلمون جازمين أن الذكر محفوظ، وحفظه يعني فيما يعني تطبيقه على الواقع؛قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. اللوم كله لا يقع على الآخر الذي يحاول هذه المحاولات في تغييب النصوص؛ لأنه بذلك يدافع عن وجوده الذي لا يقوم إلا بتغييب كل النصوص، وإنما ينصبُّ اللوم جلُّه على أولئك الذين يستجيبون لهذه المحاولات، وينصبُّ على لوم أهل الزمان الذين وصلوا في حين من الزمان إلى أن يكونوا أداةً تغيَّب بها النصوص،وهو زمان لن يدوم طويلًا، ولكنها مرحلة من المراحل التي تمر بها الأمة، وقد مرت بها من قبل،وهي الآن تحاول الخروج منها، مع ما يتطلبه الخروج من تمحيص يقتضي هذا الوضع الذي نحن فيه على مختلف الصعد. هذه دعوة إلى إدراك هذه النقطة المهمة المتعلقة بمحاولات تغييب النصوص، في الوقت الذي نسعى فيه إلى التنبيه إلى هذه المحاولات، ونؤكد على خطورتها، ونعمل على إيقافها في دور التربية والمراكز الفكرية والأدبية، وغيرها من بيوت الحكمة التي تتعامل مع العقل. [1] انظر في النهب الاقتصادي والسياسي: جان زيجلر ، سادة العالم الجدد: العولمة، النهابون، المرتزقة، الفجر - مرجع سابق - ص 304. [2] انظر: محمد بن سعيد بن سالم القحطاني ، الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف - مرجع سابق - ص 476.
محنة ضعفاء الصحابة بلال بن رباح الحبَشي : كان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضًا، وهو من مولدي السراة، وكنيته أبو عبدالله، فصار بلال لأمية بن خلف، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو يعذب يقول: أحدٌ أحد، فرآه أبو بكر يُعذب فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته فأبعدته، فقال أبو بكر: عندي غلام سواه على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به، قال: قبلت، فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالًا فأعتقه. خباب بن الأرت : كان أبوه سواديًّا من كسكر، فسباه قوم من ربيعة وحملوه إلى مكة فباعوه من سباع بن عبدالعزى الخزاعي، وخباب تميمي، وكان في الإسلام سابقًا - قيل: سادس ستة - أي قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، فأخذه الكفار وعذبوه عذابًا شديدًا، فكانوا يُعرّونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف - الحجارة المحماة - ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوه منه. صهيب بن سنان الرومي: ولم يكن روميًّا، وإنما نسب إليهم لأنهم سبوه وباعوه، وقيل: لأنه كان أحمر اللون، وهو من النمر بن قاسط، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى قبل أن يولد له، وكان ممن يعذب في الله، فعذب عذابًا شديدًا، ولما أراد الهجرة منعته قريش، فافتدى نفسه منهم بماله أجمع فتركوه يهاجر. عامر بن فهيرة: هو مولى الطفيل بن عبدالله الأزدي، وكان الطفيل أخًا لعائشة لأمها أم رومان، أسلم قديمًا قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان مِن المستضعفين يعذب في الله، فلم يرجع عن دينه، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فكان يرعى غنمًا له، وكان يروح بغنم أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر لمَّا كانا في الغار - غار ثور - وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما. أبو فكيهة: واسمه أفلح، وقيل: يسار، وكان عبدًا لصفوان بن أمية، أسلم مع بلال، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلًا وأمر به فجروه ثم ألقوه على الرمضاء، ومر به جُعَل - حشرة تشبه الخنفساء - فقال له أمية: أليس هذا ربك؟ فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنقًا شديدًا، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذابًا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه، وقيل: عذبه بنو عبدالدار فكانوا يضعون على صدره صخرة حتى دلع لسانه، وثبت فلم يرجع عن دينه، وهاجر ومات قبل بدر. لبيبة : جارية بني مؤمل من بني عدي، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب، وكان عمر يعذبها حتى تفتن عن دينها ثم يدعها، وكان يقول لها: إنني لم أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم، فاشتراها أبو بكر فأعتقها. زنيرة : جارية لبني عدي، وقيل: كانت لبني مخزوم، وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت، فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك هذا، فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدها؟ ولكن هذا أمر من السماء، وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها. النهدية وابنتها: مولاة لبني نهد، فصارت لامرأة من بني النجار، فأسلمت، وكانت مولاتها تعذبها وتقول: والله لا أقلعتُ عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد، فابتاعها أبو بكر فأعتقها. أم عبيس : وهي أمة لبني زهرة، فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فابتاعها أبو بكر، فأعتقها. أقول: ولهذا أثنى الله تعالى على أبي بكر: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ [الليل: 17 - 21].
شرح الأربعين النووية لمحمد بن محمد الدلجي الشافعي صدر حديثًا: كتاب " شرح الأربعين النووية " تأليف الشيخ " محمد بن محمد الدلجي الشافعي " (ت 947 هـ) دراسة وتحقيق: " إسماعيل بن الطاهر رحماني " دار النشر: " سامي للطباعة والنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب شرح على الأربعين النووية التي عليها مدار الإسلام للإمام النووي - رحمه الله -، والتي شرحها العلماء والفضلاء من كل صوب وعصر، ومن أمتع تلك الشروح شرحٌ للشيخ محمد بن محمد الدلجي الشافعي من علماء القرن العاشر الهجري، لم يطبع من قبل، ظل في خزائن المخطوطات زمنًا رغم أهميته، فقد خلَّى الإمام محمد بن محمد الدلجي معانيها بأسلوب سلس ممتع، جمع فيه بين عباراته الرشيقة وألفاظ الحديث الجزلة البديعة، بحيث لا تشعر بتنافر ولا تناكر بينها، وقال في خاتمتها: "فدونك شرحًا يتلو عليك من أحكام معانيها ما ينقذك من العثور، ويضئ لك من مشكاة أنوارها ما يخرجك من الظلمات إلى النور، ويظهرك على كنوز حقائق عظم شأنها، ويكشف لك عن رموز دقائق خفي مكانها...". وللكتاب عدة نسخ خطية حسنة التصوير بالمكتبة الأزهرية، وبمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. وصاحب الكتاب هو محمد بن محمد الدلجي الشافعي، عالم فاضل مصري، من الشافعية. ولد ونشأ بدلجة (من قرى مصر)، وتعلم بالقاهرة ثم بدمشق، وأقام بهذه نحو 30 سنة، وسافر إلى بلاد الترك، واجتمع بسلطانها "بايزيد خان" وعاد إلى مصر، فتوفي بالقاهرة. له كتب، منها " مقاصد المقاصد " اختصر به مقاصد التفتازاني في علم الكلام، و" درء النحس عن أهل المكس "، و"الاصطفاء" في شرح الشفاء للقاضي عياض، و" شرح الخزرجية "، و" شرح الأربعين النووية "، و" حاشية على شرح الرسالة السمرقندية ".
تداعيات الفكر بين العمل ورسم المنهج إن من مهمات الفكر الإسلامي هو ميدان عملي تتلاقى فيه فعاليته بعوامل تعرية المجتمع وإصلاحها، يتسم بازدواجية برسم منهجه على المدى البعيد والقريب، وهذا الاتجاه في نظري عملية تربوية لبلورة الفكر إلى واقع يُمارَس ويشعر به من التقتْ به، بيد أن عزل العمل والاستغراق في رسم منهجه على سنن التغير الاجتماعي ينبئ بالترف الفكري الذي ربما لا يكون محمودًا في أكثره، مما تتجاوز الخطوط في تصوراته وهيكلة نظامه، بيد أن القليل منه هادف وأمر سامٍ في اكتمال الرؤيا من كل جوانبه، ومما يبني أسس ما ذكرته سابقًا مستنبطًا من قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]. وهو منهج قرآني مستيقظ قد يخفى على كثير من رواد الفكر نحو خطى إلى استفراغ الجهد والفكر في تصورات جديدة، ومن أهمها في نظري دلالة الاقتران التي وضعته معيارًا في اختيار الباحث الإسلامي لموضوع جديد. ودلالة الاقتران بعيدًا عن تعقيدات الأصوليين؛ حيث تهمنا الفكرة وتطويرها إلى أعلى تصورات في الفكر والثقافة الإسلامية. في قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1]. أرجع إلى مقالي بأن أقرِّر بأن الحكمة والفعالية في نماء المجتمعات، ورسم مناهجه هو بازدواج العمل والعقل وتقريره في ساحة الفكر. إن كان ما قلته صوابًا، فمن الله وحده التوفيق، وإن كان خطأ وزللًا، فأسأل الله أن يغفر ويُلهمني الصواب.
قراءة في كتاب: البناء العقدي للجيل الصاعد قراءة في كتاب " البناء العقدي للجيل الصاعد "، مؤلفُه شيخنا الفاضل أحمد بن يوسف السيد حفِظه الله وأطال في عمره بكل خيرٍ. إن كانت العقيدة التي تلقاها الصحابة عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سهلة واضحة متينة عذبة شفافة، وهي على سهولتها ووضوحها فاعليةٌ وحيةٌ وشموليةٌ تملأ الروحَ وتغذِّيها، وتخاطب العقل وتُنميه، وتؤثر في السلوك والعمل، ولا تبقى حبيسة الأذهان، حتى جعلت نفوسَهم كالجبال ثباتًا وكالشمس ضياءً وكالسهم سدادًا. في بيان الهدف من التأليف يقول المؤلف: (تشتد الحاجة اليوم إلى تثبيت العقيدة الإسلامية الصافية الواضحة في نفوس الجيل الصاعد، وغرس قواعد الإسلام الكبرى وأصوله في عقولهم وقلوبهم، لما لا يخفى على أحد من واقع التحديات الهائلة التي تهدِّد إيمانهم وأفكارهم والشُّبهات التي تنبعث لهم من كل مكان، والشهوات والفتن الداعية إلى الانحلال والانحطاط)، يُكمل فيقول: (إذا ثبتت عظمةُ الإسلام ومتانة عقيدته لدى الشاب، فإن من الصعب أن تؤثر فيه شبهة جزئية، أو أن تقضي على إيمانه فكرة باطلة أو نزوة عابرة). في التعريف بمحتوى الكتاب يقول مؤلفه أنه تناول مبادئ العقيدة الإسلامية بطريقة سهلة واضحة مبرهنة لتثبيت الإيمان وتوضيح قواعده، ولبناء سور واقٍ من الشبهات والانحرافات الفكرية، وهو يرجو ألا تحول تسمية هذا الكتاب دون الاستفادة منها لمن تجاوز مرحلة الجيل الصاعد. وقد قسَّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: كان مقدمات عقدية منهجية مهمة: وفي هذا القسم ناقش فيه معنى العقيدة في اللغة والشرع، وبيَّن أهميتها ومميزاتها التي تتميَّز بها عن باقي العقائد وبرهَن على صحتها، وذكر الفائدة المترتبة على وجود عقيدة سليمة في نفس الإنسان وأثرها في حياته. أما القسم الثاني، فكان معنونًا بأركان الإيمان وركائزه وبراهينه: بدأ هذا القسم بمقدمة حول أركان العقيدة والإيمان، وذكر معالم الدين المكونة من ثلاث دوائر أساسية، وهي: (الإسلام والإيمان والإحسان)، ثم فصَّل في دائرة الإيمان، وذكر أركانه، وبرَهن عليها وأثبت صحتها، مثل أدلة صحة وجود الله عز وجل وصحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). والقسم الثالث كان تحت عنوان ما يضاد الإيمان ويناقضه، وقد أسهَب شيخنا في هذا الباب وفصَّل تفصيلًا دقيقًا؛ حيث قال فيه: إن من المهم على المسلم أن يعرف الأبواب التي تضاد إيمانه؛ ليستفيد منها بالحذر منها واجتنابها، وهذا ما ميَّز الصحابة رضوان الله عليهم؛ حيث عرفوا الشرك وحدوده والإيمان وحدوده، فالتزموا الإيمان واجتنبوا ما يضاده. فتحدَّث عن (الكفر والشرك والنفاق)، وللأمانة أبدع سماحة الشيخ بطرحه وتفصيله، ولو كان الأمر بيدي لوزَّعت هذا الكتاب مجانًا؛ ليكون في بيت كل أسرة مسلمة، ومع كل مسلم، صغيرًا كان أم كبيرًا، ملتزمًا كان أو منحرفًا، فيزداد الملتزم التزامًا، ويهتدي المنحرف مما في هذا الكتاب من فوائد وعِبر، فيغذي إيمانه وينميه، ثم يخشى الله ويتوب. إن العقيدة الإسلامية ليست نصوصًا تحفظ، ولا أقوالًا يجادل بها، وإنما هي إيمان وخشوع وإخبات، وعمل وفاعلية وحياة، ويقين وطُمَأنينة ورضا، وإن غرس أصول العقيدة والثوابت الكبرى في عقول الجيل، هو من واجبات طلاب العلم والقائمين على العمل الدعوي والتربوي والمنشغلين بالدرس العقدي، وأن نعتني باللغة المقنعة المبرهنة، وأن نحرص على تحقيق الأثر العقدي المرجو من علم العقيدة، ألا وهو الإيمان بالغيب والتسليم لله ورسوله والانقياد لهما، وتحقيق العبودية لله توكلًا وإنابةً واعتصامًا. إجمالًا يُمكنني أن أذكر أن الكتاب كله جميل، وهذا ليس بغريبٍ على شيخنا أحمد، فكلُّ مواده المكتوبة والمرئية تفوق الوصف، ولا يفي بحقِّها المديحُ، وأكثر ما أعجبني في هذا الكتاب هو الفصل الذي تحدث عن الإيمان باليوم الآخر.. قال الشيخ في خاتمة كتابه: (لنتذكَّر أن عقيدة المسلم ليست نصوصًا تُحفظ ولا أقوالًا يُجادل بها، وإنما هي إيمان وخشوع وإخبات وعمل وفاعلية وحياة ويقين ورضا)، واستطرد وذكر بعض الأمور التي يجب على طلاب العلم والمربين والمشتغلين بالدرس العقدي مراعاتها.
محمد بن جرير الطبري أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، شيخ المفسرين والمؤرخين، صاحب التصانيف المشهورة. قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلمَ من محمد بن جرير الطبري. وقال أبو العباس ابن سُريج: محمد بن جرير الطبري فقيه العالَم. وقال الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة العلماء، جمع من العلوم ما لم يُشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، فكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالِمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب التفسير لم يُصنَّف مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، لكن لم يُتمه، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء. وقال الذهبي: الإمام، العلَم، المجتهد، عالم العصر، أبو جعفر الطبري، صاحب التصانيف البديعة، مولده سنة أربع وعشرين ومائتين، أكثر الترحال، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علمًا، وذكاء، وكثرة تصانيف، قلَّ أن ترى العيون مثله، وكان من كبار أئمة الاجتهاد، كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات، وباللغة، وغير ذلك، وكان ممن لا تأخُذه في الله لومةُ لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل، وحاسد، وملحد، وكان من رجال الكمال. وقال ابن جرير عن نفسه في مرض موته مخاطبًا بعض طلابه: حفِظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي وعاء مملوءة حجارةً وأنا أرمي بين يديه، فقال له المعبِّر: إنه إن كبر نصَح في دينه، وذبَّ عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئذ صبي صغير. رحل ابن جرير في طلب العلم بمعونة والده، فخرج وهو شاب من بلده آمل طبرستان جنوب بحر الخزر (قزوين) حتى وصل إلى العراق، ومدن الشام وسواحلها، ودخل مصر مرتين، وقرأ القرآن بقراءة حمزة الزيات أحد القراء السبعة على سليمان الطلحي ويونس بن عبد الأعلى، وقرأ القرآن بقراءة ابن عامر الشامي أحد القراء السبعة على العباس بن الوليد البيروتي، وقرأ القرآن بقراءة نافع أحد القراء السبعة عن يونس بن عبد الأعلى عن ورش، وطالت رحلة ابن جرير في الأقاليم لطلب علوم القرآن، والتفسير، والحديث، والسيرة النبوية، وفقه أبي حنيفة ومالك والشافعي، وتعلَّم اللغة العربية، والنحو، والشعر، والأدب، والتاريخ، ولما رجع إلى بلده طبرستان وجد الرفضَ قد ظهر، وسبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشَر، فأملى على الناس فضائل أبي بكر وعمر حتى طلبه السلطان الشيعي ليعاقبه، فخرج ابن جرير من بلده خائفًا في خُفيةٍ، ثم استقر في بغداد لنشر العلم، فاشتَهر أمره، وشاع بين الناس سَعةُ علمه، وعلوُّ أسانيده، وكثرة مروياته في الحديث والتفسير وأقوال الصحابة والتابعين والتاريخ، وشعر الجاهلية والإسلام، وكان زاهدًا في الدنيا، قانعًا بما كان يأتيه من حصة خلَّفها له أبوه بطبرستان يسيرة، وكان لا يقبل هدايا الخليفة والوزراء والوجهاء، ولما تقلَّد الوزارة الخاقاني وجه إلى الطبري بمال كثير، فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء فامتنع. قال مسلمة بن قاسم: كان ابن جرير حصورًا لم يتزوَّج قط، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلم يزل طالبًا للعلم مولعًا به إلى أن مات. وكان ابن جرير في أول أمره على مذهب الإمام الشافعي في الفقه، ولَقِيَ في مصر إسماعيل بن إبراهيم المزني والربيع بن سليمان تلميذي الشافعي، ثم لَما اتسع علمه لم يقلد أحدًا، وكان له اختيار من أقاويل الفقهاء، وكان له أتباع يأخذون بقوله ويقلِّدونه، وينتسبون إليه، ثم انقرض مذهبه الفقهي، قال تلميذه الفرغاني: لَما اتسع علمه أدَّاه بحثه واجتهاده إلى ما اختاره في كتبه، وقال الذهبي: بقي مذهب ابن جرير إلى ما بعد الأربع مائة. ومن منهج الإمام ابن جرير في الفقه أنه يحمل كثيرًا من الخلاف الوارد في العبادات على التخيير، ويجعله من خلاف التنوع المشروع، فمثلًا اختلاف الفقهاء في جلوس التورك في الصلاة، جعله ابن جرير من خلاف التنوع، فمن شاء تورك، ومن شاء ترك التورك؛ لأن كلا الأمرين وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي مسألة اختلاف الفقهاء في القنوت في صلاة الفجر، رجح ابن جرير أن الأمر واسع، فمن شاء قنت، ومن شاء ترك القنوت، قال ابن جرير في كتابه تهذيب الآثار مسند ابن عباس (1/ 385): القنوت فيها حسن، فإن قنت فيها قانت فبفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل، وإن ترك ذلك تارك فبرخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت فيها أحيانًا، ويترك القنوت فيها أحيانًا، معلمًا بذلك أمَّتَه أنهم مخيرون في العمل بأي ذلك شاؤوا وعملوا به، والقنوت أمر مخيَّر المصلي فيه وفي تركه، كالذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمله به أحيانًا، وتركه إياه أحيانًا، تعليمًا منه أمته صلى الله عليه وسلم سبيل الصواب فيه، وكذلك القول عندنا فيما روي عن أصحابه في ذلك من الاختلاف، فإن سبيل الاختلاف عنهم فيه سبيل الاختلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يقنتون أحيانًا على ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأحيانًا يتركون القنوت على ما عهدوه يترك. قال أبو محمد الفرغاني: تَمَّ من كتب ابن جرير كتابُ التفسير، وكتاب القراءات، وكتاب اختلاف العلماء، وكتاب التاريخ إلى عصره، وكتاب تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين إلى شيوخه، وكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مذهبه الذي اختاره وجوده، واحتج له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا، وتم كتاب الخفيف وهو مختصر، وتم كتاب التبصير في أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب تهذيب الآثار، وهو من عجائب كتبه، تكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه، وما فيه من الفقه والسنن واختلاف العلماء وحججهم، وما فيه من المعاني والغريب، فمات قبل تمامه. وقال أبو علي الحسن بن علي الأهوازي: كان أبو جعفر الطبري عالِمًا بالفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور. وقد بلغ عدد شيوخ ابن جرير الطبري (474) شيخًا، ومن أشهر شيوخه الإمام البخاري، وقد شارك ابن جرير البخاري ومسلمًا في كثير من شيوخهما كمحمد بن المثنى العنزي، ومحمد بن بشار، وهنَّاد بن السري، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي الذي عرف قدر ابن جرير، فأسمعه من حديثه أكثر من مائة ألف حديث، كتبها عنه ابن جرير وسمعها منه حديثًا حديثًا. وكان ابن جرير قد قرأ الشعر على أبي العباس أحمد بن يحيى الملقب ثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، ولَما كان ابن جرير في مصر سأله بعض شيوخه عن شعر الطرماح، فإذا هو يحفظه عن ظهر قلب، فأملاه على الناس في جامع مصر مع شرح غريبه. قال عبد العزيز بن محمد: كان أبو جعفر الطبري قد نظر في الحساب والجبر والمقابلة والطب، وأخذ منه قسطًا وافرًا، وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدِّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عاملًا للعبادات، جامعًا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلًا على غيرها. وتفسير ابن جرير هو أعظمُ كتبه، وهو أفضلُ التفاسير على الإطلاق، فسر فيه القرآن كاملًا آية آية، ويذكر في التفسير الأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وكلام أهل اللغة من الكوفيين والبصريين، ويرجِّح ما يراه راجحًا من أقوال المفسرين واللغويين، ويذكر القراءات، وأحكام القرآن، ويذكر جميع الروايات بأسانيده المتصلة إلى قائليها، وكتابه هو أصل التفاسير التي جاءت بعده، والناسخ لما قبله من التفاسير، فقد ضمَّن ابن جرير تفسيره أشهر روايات التفسير التي كانت في كتب المفسرين قبله، كتفسير الضحاك بن مزاحم، وتفسير عطية العوفي، وتفسير قتادة بن دعامة، وتفسير زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج المكي، وتفسير مقاتل بن حيان، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير محمد بن مروان السدي وغيرهم. وتفسير ابن جرير مطبوع في 24 مجلدًا، وفيه (38397) ثمانية وثلاثون ألفًا وثلاث مائة وسبعة وتسعون رواية في التفسير؛ أي: ما يقارب أربعين ألف رواية، يرويها ابن جرير كلها بأسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة أو إلى التابعين وأتباعهم. قال أبو بكر ابن مجاهد: سمعت أبا جعفر الطبري يقول: إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟! قال ابن جرير الطبري: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني. وابن جرير ثقة أمين في نقله، والناظر في تفسيره يعجب من كثرة رواياته، ودقة نقْله، حتى إنه يميز الاختلاف بين ألفاظ شيوخه إذا اختلفوا ولو في حرف واحد، فمثلًا قال ابن جرير في تفسيره (12/ 591): حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، ﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ﴾ [هود: 109] قال: (ما وُعِدوا فيه من خير أو شر). حدثنا أبو كُرَيب ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله، إلا أن أبا كريب قال في حديثه: (من خير وشر)، فبيَّن ابن جرير أنه روى هذا الأثر عن ثلاثة من شيوخه، وأنه كتبه عن شيخين بلفظ: خير أو شر، وأنه كتبه عن شيخه أبي كريب بلفظ: خير وشر بالواو. وكان ابن جرير حريصًا على اتباع القرآن والسنة، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وله كتاب مطبوع باسم صريح السنة، وله كتاب في العقيدة بعنوان التبصير في معالم الدين، وكان ابن جرير شديدًا على أهل الأهواء والبدع، يُبغضهم في الله ويهجرهم، قال أبو بكر بن كامل: كان أبو جعفر الطبري إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطَّرحه. وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر يذهب إلى ما عليه الجماعة من السلف، وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، ماضيًا على منهاجهم، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان شديد الورع، وكان لا يترك تلاوة حزبه من القرآن، ويقال: إنه كان يقرأ كل ليلة ربع المصحف أو حظًّا وافرًا، وكان ظريفًا في ظاهره، نظيفًا في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقدًا لأحوال أصحابه، مهذبًا في جميع أحواله، جميلَ الأدب في مأكله وملبسه، وما يخُصُّه في أحوال نفسه، منبسطًا مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسنَ مداعبة. قال أبو بكر بن مجاهد: كان أبو جعفر الطبري ربما خرج إلى الصحراء للنزهة فنخرج معه. وقد أخذ العلم عن ابن جرير كثير من الطلاب الذين صاروا بعده من أهل العلم المشهورين بالقراءات والتفسير والحديث والفقه والتاريخ والأدب، من أشهرهم: أبو الفرج المعافى بن زكريا، وأبو سعيد عمرو بن محمد الدِّينَوَرِي، وأحمد بن الفضل المطَّوَّعي، وأحمد بن كامل القاضي، وأبو محمد الفرغاني، وأبو إسحاق عبد العزيز بن محمد الطبري، وأبو الطيب أحمد بن سليمان الجريري، وأبو بكر الصيرفي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو أحمد عبد الله بن عدي، وأبو بكر بن مجاهد، وأبو الفرج الأصفهاني. توفِّي محمد بن جرير الطبري في بغداد سنة 310 هجرية وعمره 86 عامًا، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلًا ونهارًا، ورثاه خلق كثيرٌ من أهل الدين والأدب، رحمه الله ونفعنا بعلومه وكتبه.
سِماتُ القُرآنِيِّين إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من خلال تتبع واستقراء تصرفات القرآنيين في إنكارهم للسنة النبوية تبيَّن بأنَّ من أبرز سِماتهم المُشتركة ما يلي [1] : السِّمة الأُولى: جهلهم بالعلوم الشرعية: مما لا شك فيه أننا في عصر التخصُّصات، حيث إنه اتِّساع العلوم وكثرتها وتشعُّبها أصبح من الصعب؛ بل من المستحيل على شخص الإحاطة بفروع العلم، بل إنَّ التخصص الواحد أصبح ينقسم في داخله إلى تخصُّصات عدَّة، وأصبح كلُّ جزء فيه يحتاج إلى مختصِّين، والكارثة تحدث عندما يتدخَّل أحد الأفراد في غير مجال تخصُّصه. لكن يبدو أن العلم الشرعي أو الديني وأخص به الإسلام أصبح مُشَاعاً لكلِّ مَنْ أراد أن يكتب فيه أو يتكلَّم به، دون دراية أو علم، خاصة وقد أُفسِح المجال سواء في الفضائيات أو شبكات التواصل أو من خلال المؤلَّفات التي ليس عليها رقيب، فادَّعى مَنْ شاء ما شاء، فغُرِّر بالسُّذَّج ممَّن يسمعون لهم أو يقرؤون. ومن بين هؤلاء مَنْ يُطلَق عليهم لقب "القرآنيين"؛ حيث إنهم يُهاجمون السُّنة في كلِّ محفلٍ ويُنكرونها ويرفضونها معلِّلين ذلك بحرصهم على القرآن الكريم، وهم في سبيل تأكيد هذا الحرص أطلقوا على أنفسهم لقب "القرآنيين". والمُتتبِّع لهم يجدهم لا يعلمون شيئاً من السنة النبوية ولا يعرفون قدرها، فلا يستطيع أحدهم أن يُفرِّق بين معنى الصحيح والضعيف، أو بين المُتَّصل والمنقطع، أو بين الحسن لذاته والحسن لغيره، أو بين المسند والمرسل، أو بين الصَّدوق والثقة، إلى آخر مصطلحات علوم الحديث وعلم الجرح والتعديل؛ وذلك لجهلهم بها وفَقْر بضاعتهم فيها. فهم بعيدون كل البعد من ذلك؛ فمنهم: مَنْ هو كاتب أمام محكمة، ومنهم: مَنْ دراسته في الهندسة، ومَنْ دراسته في التجارة، ومَنْ دراسته في الفلسفة، ومَنْ يعمل بالقانون، ومَنْ كان يعمل في العسكر. وباحترام التخصص فهؤلاء لا قيمة لرأيهم، بل كان الأحرى بهم ألاَّ يكتبوا؛ فإنَّ كلَّ عِلْم يؤخذ من أهله، يعرف ذلك كل عاقل. ويبدو أنهم يُختارون بعناية؛ بحيث تتوافر فيهم صفات تُعَمِّي على المسلم العامي، أو الذي لا يعرفهم؛ فهذا ابن شيخ كبير، وآخر شقيق داعية فاضل! ويحملون ألقاباً تتفق مع ألقاب العلماء، فيكون أحدهم حاصلاً على "دكتوراه" في علم غير علوم الإسلام، أو يحمل لقب أستاذ، فيلقب نفسه بـ "دكتور" أو "أستاذ دكتور" مما يجعل بعض الناس يظن أنه يحمل "الدكتوراه" أو "الأستاذية" في علوم الإسلام. ولو أنصفت الجامعات لمنعت استعمال الألقاب العلمية إلاَّ إذا كتب الأستاذ في تخصصه، وعليه: فاستعمال "دكتور أو "أستاذ" لا قيمة لها في مؤلفاتهم ومواقعهم على الشبكة العنكبوتية؛ فإنهم كتبوا في غير تخصصاتهم. فكيف يُقبَل قول قسيس في القرآن والسنة؟ وقول هندوسي أو يهودي في القرآن والسنة؟ وكيف يُقبَل كلام مهندس لا يحفظ القرآن الكريم؟ وكيف يُقبَل قوله في مسائل في غاية الدقة في الإسلام؟ وكيف يُقبل قول رجل منحرف في دينه وعقيدته وسلوكه وأمانته؛ من أمثال "أحمد صبحي منصور" في الحديث بأصول الدين والشريعة والسنة؟ والتطاول في انتقاد الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، والأئمة الأبرار، وينتقد أحدهم أئمة الإسلام الأجلاء أمثال: الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، ولست أدري كيف أصبح هؤلاء الأقزام مؤهَّلين لأن ينصِّبوا أنفسهم نُقادًا وحُكاماً على الأئمة الأخيار، فيعترضون على هذا، ويعيبون هذا؟ بل غالى أحدهم فعاب الأمة بأسرها، وانتقد أهل السنة والجماعة!! ألا ليت كل إنسان يعرف قدره، ويخاف سيئاته ووزره!! وكيف يُقبَل كلام رجل أمضى عمره في خدمة القوانين، ولم يُعرف عنه في الإسلام علم ولا عمل، كيف يُقبل قوله حينما يعيب علماء الإسلام السابقين واللاحقين؟ إنَّ عمله بالقانون لا علاقة له بالدراسات الإسلامية، اللهم إلاَّ أنه زاده جرأة على الحق، وتعالياً على الخَلْق، مع ما فيه من قدرة على الهمز واللمز، وحسبنا الله ونعم الوكيل. إنَّ كتابة ألقابٍ كهذه نوع من التضليل، تنطق بكذبهم، وهي دليل كامل على افترائهم وتزويرهم، وليت أحدهم حينما كتب "دكتور" أو "أستاذ بجامعة كذا" كتب تخصصه ليعرف الناس تخصصه، وليعرف الناس أنه لا علاقة له بالتخصص في العلوم الإسلامية. إنَّ الألقاب لا تؤهل في حد ذاتها؛ فالأستاذ في الهندسة لا يستطيع أن يفتح عيادة لاستقبال المرضى، ولو فعلها ما ذهب إليه عاقل، ولو ذهب إليه جاهل فإنه يضره ولا ينفعه. إنَّ أنظمة الدنيا لا تسمح بفتح عيادة لأستاذ في الهندسة، ولا دكتور في الاقتصاد، لكن لست أدري كيف يتكلم هؤلاء في دين الله؟! وإن رجل القانون حسبه القانون، أمَّا أن يذهب فيكتب في دين الله، ويعيب الأئمة الأعلام فهذا ضلال، وبُعد عن الفكر السليم والمنهج القويم. السِّمة الثانية: في كتاباتهم تلبيس على غير المُتخصِّص في السُّنة: يزعم القرآنيون أنهم يتَّبعون "الأسلوب العلمي" و"الفكر الحر" و"النظر الثاقب" و"تحرير المسائل" و"التدقيق في كل أمر" و"الحيدة" و"النزاهة" إلى غير ذلك من الكلمات البرَّاقة التي تُوهم القارئ أنهم سيحققون في المسائل تحقيقاً لم يسبقهم إليه أحد. وإنك لتعجب حينما تسمع لحامل "دكتوراه" في "علوم التجارة" يتحدَّث أنه لا يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُفسِّر القرآن، ولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا عمر الفاروق رضي الله عنه، ولا الطبري رحمه الله، ولا ابن كثير رحمه الله، وإنما هذا "الدكتور" وحده هو الذي يستطيع أن يفسر القرآن الكريم!! بل كيف يُفسِّر القرآن العظيم مَنْ يجهل السُّنة النبوية؛ بل يُنكرها، ويجهل اللغة العربية، وفي أسلوبه ركاكة؛ بل حتى كتابة الإملاء على غير القواعد الصحيحة للإملاء؟! سبحان الله!! هل هذا فكر؟ هل هذا احترام التَّخصص؟ بل هل هذا عقل؟ أرَجُلُ التجارة يفسر القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفسِّره؟ إنهم لا يملكون أدوات العلم، ولا يعرفون قواعده، فبضاعتهم في اللغة العربية مزجاة، وسلعتهم في قواعد وأصول علم الحديث والسُّنة كاسدة راكدة، والقرآن الكريم وعلومه وتفسيره يحتاج إلى تضافر علوم عدة؛ كي يتسنَّى للعالِم الجِهْبِذ أن يتكلَّم فيه، فكيف بمَنْ لا يعرف الفرق بين المكي والمدني، أو بين المحكم والمتشابه، أو بين المُجمل والمُفصَّل، ولا يعرف غريب القرآن وقواعد اللغة ومناسبات الآيات، ودلالات الألفاظ، والفرق بين معاني الحروف وغير ذلك من الأدوات اللازمة لتفسير القرآن والتكلُّم فيه؛ بل يحرم على مَنْ يجهل هذه العلوم وغيرها من علوم القرآن اللازمة والواجبة أن يتكلَّم في كتاب الله عز وجل. وفي هذه الأيام ظهر نوع آخر من التلبيس؛ حيث يستعمل أصحابه النظريات التي درسوها في كتاباتهم لتكون فوق أسلوب القارئ فيظن أنهم من العلماء، وأن تفسيرهم للقرآن برأيهم له قيمته. إلاَّ أنَّ هذا التلبيس وهذا الخداع لا ينطلي على مَنْ دَرَسَ السنة النبوية، فإنه - بادئ ذي بدء - يتجلَّى له زيف كلامهم، وباطل مُدَّعاهم [2] . ولكي يحبكوا تلبيسهم على الناس تجدهم يستخدمون مصطلحات برَّاقة وكلمات رنانة من مثل: "التداولية - التأويلية - التاريخانية - التلقي - البشري والمقدس - الإنيطيقيا – الأنطولوجيا - السيميالوجيا – العرفانية..." إلى آخر هذه الكلمات وتلك المصطلحات التي تكثر في كتاباتهم وتشيع على ألسنتهم، فيشعرون بها السُّذَّج أنهم أهل علم وأصحاب خبرة، وهم في حقيقة الأمر أبالسة هذا الزمان ومنافقوه، بها يحاولون التلبيس على الناس دينهم. السِّمة الثالثة: إحياؤهم لشبهات السابقين: إن أعداء الإسلام قديماً قد افتروا وكذبوا على الإسلام فتتبَّعوا الشَّواذ، وأثاروا الشبهات، وتركوا المحكم، ولجؤوا إلى المتشابه، وفرَّقوا بين الوحيين؛ القرآن والسُّنة، وادَّعوا الخصومة والقطيعة بينهما، وغالوا في ذلك، فأنكروا السُّنة وطعنوا فيها؛ كي ينفردوا بالقرآن بتأويلاتهم الباطلة، وشبههم المُضلِّلة، ثم جاء القرآنيون منكرو السُّنة المعاصرون فأخذوا أقوال أعداء الإسلام السابقين، وراحوا يُردِّدونها على أنها طعنات للإسلام عامة، وللسُّنة خاصة، وينسبونها لأنفسهم زوراً، يُدرِك ذلك مَنْ قرأ كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي رحمه الله الذي أجاب فيه على فرية إنكار السنة، التي كانت قد ظهرت بمصر، وهي جزء من الحملة المعادية للإسلام. إن الفرية هي هي يُردِّدها المعاصرون من منكري السنة، لم تتغير منذ زمن الإمام الشافعي الذي عاش في القرن الثاني الهجري وتوفي (سنة 204 هـ)، ومَنْ راجع هذا الكتاب عَرَفَ الجواب. ومن مصادر افتراءاتهم أيضاً أن يقرؤوا كتب أئمة الإسلام، فإذا صوَّر الأئمة إشكالاً وأجابوا عليه أخذ هؤلاء الإشكال وردَّدوه في كتبهم، وقد أعرضوا عن الجواب. ومن زورهم أنهم يكذبون في إيراد الحقائق: فهذا أحدهم يورد خبراً نقله من كتاب (الإحكام، لابن حزم)، مفاده: أنَّ عمر بن الخطاب حَبَسَ ابنَ مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث! وهذا الخبر أورده "ابن حزم" في كتاب "الإحكام" وحَكَم عليه بالكذب [3] ، فإذا بِعَدوِّ السُّنة يأخذه ليستدل به! وهذا يدل على أنهم يتعمَّدون الكذبَ في سبيل بلوغ غايتهم!! وتجدهم يُفتِّشون في كتب السُّنة الصحاح وغير الصحاح، فيتتبَّعون من الأحاديث أضعفها، ومن الأخبار أكذبها، يروِّجونها بين الناس دونما إشارة إلى أقوال أهل السنة الثقات فيها؛ حيث بيَّنوا عوارها وأظهروا ضعفها أو وضعها. وربما لجؤوا إلى الأحاديث المشكلة، فراحوا يُشنِّعون بها على الإسلام وأهله، وأيضاً دون أمانة في النقل، فما من حديثٍ مُشكل إلاَّ وَضَعَ له أهل السنة تفسيراً، بما يشفي العليل ويروي الغليل، فتراهم من قديمٍ يدورون حول أحاديث بعينها لا يتعدَّونها إلى غيرها؛ مثل حديث السحر، وحديث الذباب، وحديث موسى عليه السلام وملك الموت، وحديث إرضاع الكبير، وغير ذلك من أحاديث يوهم ظاهرها بالإشكال، وأمَّا حقيقتها وما استخلصه منها أهل العلم ففيه من الفقه والتيسير ما فيه، ناهيك عن أحاديث الفتن وأشراط الساعة التي تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي من أعلام نبوته ودلائل معجزته؛ فقد شنَّعوا بها تشنيعاً على السُّنة وأهلها، والغريب والعجيب أنك تشعر أن الزمان يستدير مع هؤلاء كهيئته، فهذه الأحاديث وغيرها هي نفسها التي احتجَّ بها السابقون، فتشابهت حُججهم كأنَّ الزمان قد توقَّف عندهم ولم يَتعدَّوها إلى غيرها، فما أشبه اليوم بالأمس، تشابهت قلوبهم، فهم لِغَيِّ مَنْ سبقهم مُتَّبعون، ولِضلالهم مُقلِّدون، وبهداهم مُقتدون، ولكن بقالب عصري ومظهر حداثي، به يُغَرِّرون، ومن خلاله يَدُسُّون السموم لِمَنْ يقرأ لهم أو يسمع لمعسول كلامهم، لكن هيهات هيهات، فلَحْن القول في كلامهم ظاهر، ولفظ الضلال في حديثهم واضح، لا ينطلي على أهل الدين والصلاح؛ لذا تجدهم في عداوة وبغضاء لعلماء الإسلام العاملين، يُحاولون تشويههم وكسر هيبتهم، ويأبى الله إلاَّ أن يفضحهم ويهتك سِترهم. السِّمة الرابعة: افتراءاتهم لا تنطلي إلاَّ على السُّذج: وافتراءات القرآنيين أعداء السنة هزيلة، تزول بقراءة موضوعها في كتب السنة، شأنها شأن الافتراءات على الإسلام عموماً؛ فإنها لا تُقبل إلاَّ عند من ليست عنده دراية، ولا فطانة. أما الدارسون للإسلام، أو حتى من عندهم ذكاء ودربة علمية فإن افتراءات أعداء الإسلام لا تجد عندهم قبولاً؛ فمثلاً: يُكثرون الكلام عن كتابة السنة، ويقولون: إنها لم تدوَّن إلاَّ على رأس المائة الأُولى، وإنَّ علماً ظل مائة عام بدون كتابة لا بد أن يدخله الزيادة والنقص، وهذا كلام ينطلي على مَنْ ليس عنده دراية بتاريخ السنة، وليس عنده دربة علمية. أمَّا مَنْ عنده مجرد دربة علمية فإنه لا يقبله؛ إذ يقول - بادئ ذي بدء: إنَّ السنة النبوية مصدر الإسلام مع القرآن الكريم فلا بد أنْ تُحافِظَ عليها الأمة، وأمة الإسلام بحمد الله كثيرة، والحفظ كان قوياً فلا بد أن السنة وَجَدَت مَنْ يحفظها ويصونها، ومُحالٌ أنْ تُفرِّط الأمة في مصدر دينها. أما الدَّارس لتاريخ السنة فيقول: نعم إن السنة لم تُدوَّن إلاَّ على رأس المائة الأُولى الهجرية إلاَّ أن هذا لا يفيد أنها لم تكتب طيلة هذا القرن؛ فالتدوين شيء، والكتابة شيء آخر. والفرق بين الكتابة والتدوين : أنَّ الكتابة : مُطلق خطِّ الشيء، دون مراعاةٍ لجَمْعِ الصُّحُف المكتوبة في إطارٍ يجمعها. أمَّا التَّدوين : فمرحلةٌ تاليةٌ للكتابة، ويكون بجمع الصُّحف المكتوبة في ديوان يحفظها. وعلى ذلك؛ فقول الأئمة: إنَّ السُّنة دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل، لا يُفيد أنها لم تُكتب طيلة هذا القرن، بل يُفيد أنها كانت مكتوبةً، لكنها لم تصل لدرجة التدوين - أي: جمع الصُّحف في دفتر - بل كان أكثر العلماء يكتب ما يسمع من غير ترتيب، وعندما جاءهم أمرُ الخليفةِ عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله أخَذَ الصِّفة الرَّسمية، وأخذ التَّدوينُ أشكالاً مُتعدِّدة، وما فهمه المعاصرون ـ من أنَّ التدوين هو الكتابة ـ فهو خطأٌ، منشؤه عدم التمييز بين الكتابة والتدوين [4] . إذاً؛ مُطلق الكتابة - يعني دون ترتيب على الأبواب - فهذا موجود ومُتَوَفِّر للسنة في مجالس رسول الله؛ فلقد كَتَبَ صلى الله عليه وسلم كُتُباً وأرسلها إلى حُكام البلاد المجاورة، وكَتَبَ كُتُباً لِعُمَّاله بيَّن فيها الكثير من الأحكام، وكتب الصحابةُ رضي الله عنهم أمامه، وأقرَّهم صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ بالكتابة لبعضهم. إنَّ افتراءهم هذا يزول سريعاً أمام التَّعقُّل أو العلم، كما أن النور يُزيل الظلام، والشمس تملأ الوجود ضياءًا. ولقد ظَلَّ تدوين السنة النبوية والتشكيك فيها من قِبَلِ أعداء الدِّين باباً واسعاً يُحاولون الولوج منه لِكَسْر هيبتها وهدم بُنيانها، وقد تناسى هؤلاء أنَّ هذا الباب الواسع من ورائه حصن شامخ في وجه أعداء الدِّين يتمثَّل في هذا النتاج العلمي غير المسبوق في تاريخ الإنسانية بأسرها فيما اصْطُلِح عليه باسم علوم الحديث، وعلم الجرح والتعديل، والتي بها استطاع أهل السنة حفظ النص وتمييزه ومعرفة صحيحه من سقيمه، فحفظوا السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بذلك فقط، وإنما بيَّنوا ما دخلها من فعل الوضَّاعين والكذابين والمغرضين، فظلَّت السُّنة ناصعةً ساطعة، حافظةً لدين الله تعالى، شارحةً لكتابه، مبيِّنةً لأحكامه. ولعل علوم السُّنة هذه كانت هي العقبة الكؤود أمامهم، فلم يجدوا حيلةً للتشكيك في منهجها وانضباطها، فأرادوا أن يلتفُّوا عليها، فيهاجمون السُّنة في مرحلة ما قبل التدوين، ظانين أنهم بذلك سيحصلون على بغيتهم، ولكن أخزاهم الله، فما استطاعوا لهذا الغرض تحصيلاً، فلا يصمدون أمام نقاشٍ علمي جاد، ولا يستطيعون دفعاً ولا انتصاراً. السِّمة الخامسة: منهجهم مُختل: يلاحظ على كثير من القرآنيين أعداء السنة اختلال منهجهم، واعوجاج خطهم؛ فتجدهم يطلبون الشيء من غير بابه، ويدرسون الإسلام من كتب أعداء الإسلام!! إن دراسة الشيء كلَّما اقتربت من مصدره عظمت ووثق بها، وكلَّما بعدت ضعفت وقلَّت الثقة بها، فمَنْ أراد دراسة الإسلام فعليه بالقرآن والسنة وعلومهما؛ فالقرآن في قراءته من أهل الدراية بقراءات القرآن، وفي فهمه من علماء التفسير الذين جمعوا علوماً مُتعدِّدة حتى استطاعوا أن يفسروا القرآن الكريم، والسنة تؤخذ من علمائها؛ إنْ درايةً فمن علماء الدراية الذين يعرفون كلمات كل حديث، بل حروف كل حديث، وإنْ روايةً فمن علماء الرواية الذين يعرفون روايات كل حديث، ومعنى كل حديث، وما يستفاد من الحديث. هذا هو المنهج السليم، أمَّا القرآنيون أعداء السنة فهم عكس ذلك تماماً، لا يقرؤون كتب أئمة الإسلام، وإنما يقرؤون الإسلام من خلال كتب أعدائه!! وتجد أسلوب الواحد منهم في أول الكتاب يختلف عنه في آخر الكتاب، وأمَّا دراسة المسائل فحدِّث عن اعتلال منهجهم فيها ولا حرج. فهم يخصصون آيةً بدون مخصص، فيزعم بعضهم أن هذا الأمر خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دليل لهم على الخصوصية، ويخطئون في فهم النصوص، وينكرون حجية الإجماع، ولا غرابة في ذلك فقد أنكروا السنة كلها. ويفترون العلل للآيات، لِتُفَسَّر في ضوء ما افتروه، ويُعلِّقون الحكم على شيء ثم يُلغون المُعَلَّق عليه؛ يتضح هذا كثيراً لمن قرأ كتبهم. وجهلهم بأصول الكتابة والتأليف واضح؛ إذ يقتبسون من تعليق ويعزونه إلى الكتاب والأصل، ويسوقون الدعوى والدليل، إلاَّ أن الدليل لا يؤيد الدعوى!! ويسوقون الدعوى ولا دليل!! ويسوقون الدعوى والدليل ضدها!! والخروج عن وقار العلم شائع فيهم، فما بين تجريحٍ ودسٍّ، وما بين وقيعة وخبث، فهم لا يعرفون أدب طالب العلم ولا أخلاق العلماء، بل إن بينهم وبين ذلك بوناً شاسعاً [5] . وتجدهم يجمعون من المتناقضات في بابٍ واحد؛ فمثلاً إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلاَّ ما قام عليه دليل، وجدناهم يأخذون بها فيما يريدون إثباته، ويرفضونها فيما لا يوافق هواهم، كما مر بنا في آية الحجاب، وأنها خاصة بنساء النبي، وكذا آيات تطبيق الشريعة وغيرها. وهذا التناقض الواضح والانتقائية الظاهرة تُوقِع بهم عندما يعرضون بضاعتهم في حضور علماء الدين؛ لذا نجدهم يبتعدون عن مواجهتهم، ويُوَجِّهون حديثَهم إلى عامة الناس، فيتأثر بهم مَنْ لا يملك الحجج والبراهين. السِّمة السادسة: ليسوا طلاب حق: أعداء السنة القرآنيون ليسوا طلاب حق، وإنما هم مقيمون على عداء السنة والكيد لأهلها، يُردِّدون فكرهم كأنهم ببغاوات، مهما أقمت لهم من حجج وبراهين لا يقبلون، جُنِّدوا لذلك وعليه حريصون، ولو اتضح لهم الحق أعرضوا عنه ونأوا بجنوبهم؛ لأنهم جعلوا فكرهم هو الأساس وله تُطوى كل الحقائق، وتُقصف أعناق النصوص. فإذا كان المجال مجال اللغة فلا يعنيهم ماذا تقول كتب اللغة، وإنما المهم أن يفسروا الشيء حسبما تقتضيه زبالات أفكارهم، وإذا كان المجال مجال حُكمٍ شرعي فليس يعنيهم أن يرجعوا إلى كتب الفقه، وإنما يعنيهم أن يفرضوا باطلهم، وإن خالف الكثير من النصوص. فهذا أحدهم يؤول قوله تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]. حسب هواه وما يعتقده من باطل؛ فيدَّعي: أن الذكر يرث 66. 6 بحد أقصى، والأنثى ترث 33. 6 بحد أدنى، فمن أين جاء بذلك، وما دليله، ومن قال به من أهل العلم؟! ثم راح يقول: ويجوز لنا أن نقربهما من بعضهما فلو أعطينا الذكر 60% والبنت 40% فهذا جائز. إن منهج القرآنيين يقوم على مخالفة الآية والأحاديث التي في الموضوع، ولو كانوا طلاب حقٍّ لقالوا بما قرَّره الله تعالى، ثم بما قال به علماء الإسلام على مر التاريخ: للذَّكر ضعف ما للأنثى. وبعضهم يزعم فيقول: نترك هذه الآية: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]. ونأخذ بالآية الأخرى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]. يقول: فنسوِّي بين الذكر والأنثى في الميراث، وهو من أعجب العجب! أتترك الآيات التي حدَّدت الأنصبة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11، 12]. فنلاحظ أن الآيات حدَّدت الأنصبة بدقة وبشروط، فكيف نُعرِض عنها إلى الآية التي أثبتت أصلَ الميراث؟ أيُّ فهم هذا؟! فلو اعتمدنا فهم أعداء السنة؛ يُكون كلُّ الرجال وكلُّ النساء سواسية في الميراث من الأبوين والأقربين!! وهذا فيه مخالفة صريحة لنص القرآن العظيم، وفيه خروج للأمة من دينها!! وهؤلاء القرآنيون أعداء السنة يفترون على الله الكذب؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 7 - 9]. وهذه الانتقائية، والانتقال من المحكم إلى المتشابه يدل على هواهم واتباعهم له دون الحق الظاهر بالدليل والبيِّنة. السِّمة السابعة: اعتمادهم على مصادر غير موضوعية: ومنكرو السنة يكتبون ويضعون لكتاباتهم مصادر، إلاَّ أنه يُلاحظ أن مصادرهم لا تُوثِّق بحوثهم؛ بل تشهد بخطئها، فما قيمة كتاب يأخذون منه ويعتبرونه مصدراً لدراساتهم الإسلامية بينما مؤلف هذا الكتاب غير مسلم؟! وما قيمة كتاب كتبه عدو للإسلام؟ وما قيمة كتاب كتبه إنسان لا يعرف الإنصاف؟ وهم أنفسهم، أعني: منكري السنة – لا يعرفون الإنصاف، وهم معروفون بالضلال والكذب فيما يؤلفون ويكتبون وينشرون. وإن الكثير من مصادرهم لِمُستشرقين، من النصارى، واليهود، وكثير منها لِفِرَق تُحسب على الإسلام ظلماً، وكثير منها لمؤلفين معروفين بالضلال والزيغ، وبعضهم يعتمد على مصادر قد حُكِم على مؤلفيها بالردة، وكثير من مصادرهم حَكَمَ علماءُ الإسلام بضلال مؤلفيها، وهم - منكري السنة - يُقبِلون على هذه المصادر بكل حرص، مما أفقد مؤلفاتهم وزنها، وأبان عوار كتبهم وزيفها، وأظهر بطلان أفكارهم وضلالها. ومنكرو السنة - في هذه الآونة - جعلوا من أنفسهم مصادر لهم؛ فهذا يأخذ عن هذا وهذا وهذا، وذاك يأخذ عن هذا وهذا وهذا، وهكذا يؤيد كل منهم كلامه بكلام أمثاله، وهم جميعاً لا قيمة لكلامهم من المنظور الشرعي؛ فليس كلُّ مَنْ تكلَّم يُقبل كلامه، ولا كلُّ مَنْ كَتَبَ تُقبل كتابته، وإنما يُقبل علم التَّقي الورع الملتزم بالقرآن والسنة، الذي يشهد له علماء الأمة بالاستقامة والفضل. إنهم يدورون في ثلاث دوائر فكرية، عنها يأخذون أفكارهم وبها يستدلون على آرائهم ، وهي: 1- اعتمادهم على كتابات المستشرقين والمُنصِّرين ، والاستناد إلى آرائهم واتِّخاذها أدلةً على كلامهم، وهذه الكتابات تُمثِّل الدائرة الأُولى من دوائر نقلهم. 2- أمَّا الدائرة الثانية، وهي تتبُّع الشُّبهات التي رَوَّج لها أصحاب الفِرق والمذاهب المُعادية للسُّنة على مدار التاريخ ، وإحياؤهم لمقولاتهم ونشرها والارتكاز عليها، دونما إشارة إلى ردود علماء الإسلام عليها وتفنيدهم لها. 3- وأما الدائرة الثالثة، فهي نَقْلُ بعضِهم عن بعض، واعتبار ما قاله أحدُهم حُجَّةً قائمة بذاتها ، ومُسلَّمَة يجب الإذعان لها مُستغلِّين الألقاب العلمية التي يُلبِّسون بها على كثير من القُرَّاء المُتَلَقِّين عنهم. [1] انظر: التعريف بمنكري السنة النبوية، د. عبد المُهدي عبد القادر عبد الهادي، مجلة البيان، عدد: (144)، (شعبان 1420 هـ)، (ص 16-23) بتصرف وزيادة. [2] انظر: القرآنيون .. نشأتهم – عقائدهم - أبرز أعلامهم، (ص 88). [3] انظر: الإحكام في أصول القرآن، (2/249، 250). [4] انظر: السنة النبوية: مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها، (ص 97). [5] انظر: جماعة القرآنيين.. محاولة تفكيك النص الديني، (ص 101).
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (البعثات) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب قيام البعثات العربية والإسلامية، ولا يقصد هنا البعثات الدبلوماسية،ولكن المقصود هنا الطلاب العرب والمسلمون الذين قدموا إلى أوروبا وأمريكا، وأقاموا فيها إقامة مؤقتة، لغرض واضح ومحدد، وهو تلقي العلم الحديث في الجامعات والمعاهد العليا الغربية [1] . وقد مر زمان كان الطلبة الغربيون ينتقلون إلى الشرق الإسلامي يتلقون العلم الحديث آنذاك،ومع انتقال الحضارة من أيدي المسلمين إلى الغربيين انقلبت الصورة: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]. ليس المقام هنا بصدد المقارنة بين الجاليات والبعثات في قوة التأثير،ولا بأس من الوقفة الموضوعية التي تستدعي القول: إن تأثير الطلبة، وإن كان وجودهم مؤقتًا، كان في بعض المجتمعات الغربية أقوى من تأثير المغتربين؛ ذلك أن الطلبة الذين أصروا على هويتهم الإسلامية ومارسوا شعائرهم كان لهم تأثير على الجاليات المغتربة نفسها، وأسهموا وشجعوا على تمسك الجاليات المغتربة بهويتها الثقافية والدينية. لم يكن هؤلاء الطلبة بعيدين عن المجتمع المسلم الذي غادروه؛ فالصلة معه مستمرة، ويترددون عليه في الإجازات غالبًا، ويعلمون أن مردهم إليه،شجعهم كل هذا على الاحتفاظ بهويتهم، ولكنه احتفاظ لم يمنعهم من التعايش والتأثر مع المجتمع الغربي، وإن أدى ذلك إلى بعض التجاوزات في الممارسات اليومية لدى بعض منهم [2] ،لقد كان في وجود الطلبة في أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية خير كثير، وإن ظهرت مقولات تحذر من الابتعاث وتنهى عنه، وظهرت بعض الآراء والفتاوى التي تحدد الحاجة إليه [3] . هذه مواقف لها ما يسوغها؛ إذ إن الغيرة على الإسلام وأبنائه تؤدي إلى هذا الموقف، لا سيما مع وجود شواهد حية من الانغماس في الثقافة الغربية بعد الانبهار بها، والسعي إلى تبنيها مزاحمة للإسلام في المجتمعات المسلمة! [4] ، وفئة الطلبة المسلمين الذين لم يتمسكوا بدينهم، وهم قلة لا تكاد تذكر، ولا يعدون مؤشرًا من مؤشرات العلاقة بين الشرق والغرب؛ ذلك أنهم لم يحترموا أنفسهم، فلم يحترمهم الآخرون. إنما الحديث هنا عن تلك الفئة من الطلاب الذين كان لهم تأثير واضح في المجتمعات الغربية، من خلال إيجاد البنية التحتية التي مارسوا عليها شعائرهم الدينية من صلوات جماعية وأعياد ودروس ومناسبات زفاف، بل وتجهيز الموتى والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر خاصة للمسلمين، أو مخصص جزء منها للمسلمين، والتأكد من تذكية الذبائح. سعى هؤلاء الطلاب إلى إيجاد المساجد والمراكز الإسلامية، أو أعانوا الجاليات المغتربة على إقامتها وتشييدها،كما أحيوا هذه المساجد والمراكز بالصلاة وحلقات الذكر والمحاضرات والدروس والأعياد، ودعمتهم في ذلك قوانين البلاد التي عاشوا فيها، التي تحترم التنظيم، بشرط ألا يمس النظام العام ويؤثر سلبًا على الأمن الوطني،وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة به،كما أعانتهم بلدانهم وأهل الخير في هذه البلدان الذين أسهموا في بناء هذه المساجد والمراكز، وما يزالون يجنون ثمار هذه الجهود صدقةً جاريةً مستمرة بإذن الله تعالى. لا عبرة بفئة ضلت الطريق من أهل الأهواء والتحزبات، واتخذت من الدين مطية لتحقيق أغراض ليست من الدين مهما قيل: إنها من الدين، ولم يكن تأثيرها على المجتمع على الصورة المبتغاة، لا سيما إذا غلَّبت الهوى. كان لوجود الطلبة المبتعثين في الجامعات والمعاهد العليا تأثير واضح من خلال وضوحهم مع أساتذتهم والمسؤولين في هذه المؤسسات العلمية، من حيث ابتعادهم عن أي أمر مخلٍّ بالدين في الشرب أو الأكل، أو الوقت والاختلاط غير المسوغ، لا سيما في المناسبات الاجتماعية التي ما تفتأ تحدث في هذه المجتمعات، ويكون فيها لغط في مفهومنا ونظرتنا لها. كما كان لوجودهم في هذه المؤسسات التعليمية أثر واضح عندما أضحوا طرفًا في الحوار الدائر حول الأحداث المتتابعة في المنطقة الإسلامية، فاستطاعوا أن يقدموا صورة واضحة وصحيحة عن الوضع، بدلًا من أن يتصدى لذلك إعلامي مغرِض، أو مستشرق لم يفهم بالضرورة الوضع على ما يفهمه هؤلاء. يمكن الاستنتاج من هذا أن وجودَ البعثات في المجتمع الغربي كانت له حسناته في توجيه الحوار القائم بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني العلماني، على ألا يفهم هذا على أنه دفاعٌ عن وجود الطلبة المسلمين في الغرب،وما داموا قد وجدوا فلا بأس من إبراز الجانب المضيء من وجودهم وقدرتهم على التأثير؛ أخذًا في الحسبان أن هناك من لم يوفق في التمسك بهويته، مما أدى إلى التحذير من الابتعاث وبيان مخاطره، كما ذكر موريس بوكاي في كتابه المشهور عن الإنجيل والتوراة والقرآن والعلم [5] ، عندما حذر الطلبة المسلمين الدارسين في الغرب من قبول فكرة فصل العلم عن الدين، كما هي الحال هناك [6] . [1] انظر: المؤثر الثاني البعثات التعليمية - ص 57 - 95 - في: علي بن إبراهيم الملة ، مجالات التأثير والتأثر بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب - مرجع سابق - ص 179. [2] انظر: هالة مصطفى ، الإسلام والغرب: من التعايش إلى التصادم - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م - ص 144 - (سلسلة مكتبة الأسرة؛ الأعمال الفكرية) ، وانظر لها طبعة أخرى من الكتاب نفسه - القاهرة: دار مصر المحروسة، 2002م - ص 123. [3] انظر: محمد الصباغ ، الابتعاث ومخاطره - ط 2 - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ/ 1983م - ص 48. [4] انظر: إبراهيم بن حمد القعيد ، الطلبة المسلمون في الغرب بين المخاطر والآمال - الرياض: مكتبة دار السلام، 1415هـ - ص 126. [5] انظر: موريس بوكاي ، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم - مرجع سابق - ص 253 . [6] انظر: محمد عبده، الشيخ ، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية/ تقديم وتعليق رشيد رضا، الشيخ - سوسة، تونس: دار المعارف، (1995م) - ص141.
سعيد بن المسيب المخزومي المدني أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، سيد التابعين علمًا وعملًا وعبادة وفقهًا، وفضلًا وورعًا وزهدًا، وهو من أبناء الصحابة، أبوه وجده صحابيان، عالم أهل المدينة بلا مدافعة، وسيد التابعين في زمانه، الملقَّب فقيه الفقهاء، وعالم العلماء. وُلد في المدينة النبوية في خلافة عمر بن الخطاب سنة 13 للهجرة، وأخذ العلم عن نحو ستين صحابيًّا؛ كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وأبي هريرة، وكان زوج بنت أبي هريرة، وأعلم الناس بحديثه، وكان أعلمَ الناس بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يفتي والصحابة أحياء، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب إذا سُئل عن شيء يشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب؛ فإنه قد جالس الصالحين. وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: سعيد بن المسيب أعلم الناس وأفقههم. وقال مكحول: طفت الأمصار كلها أطلب العلم، ما لقيت رجلًا أعلم من سعيد بن المسيب. وقال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدًا أوسع علمًا من ابن المسيب، هو عندي أََجَلُّ التابعين. وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. وقال أحمد بن حنبل وغير واحد من حفاظ الحديث: مرسلات سعيد بن المسيب صِحاحٌ. قال سعيد بن المسيب: كنت أَسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وحججت أربعين حجة. وكان سعيد بن المسيب من العباد الزهاد، وكان يسرد الصوم، ويُفطر أيام العيدين والتشريق، ويكثر من صلاة النافلة في البيت، وكان من قراء القرآن، وممن عرض عليه القرآن محمد بن شهاب الزهري، وكان سعيد من أعبر الناس للرؤيا، وكان يحب سماع الشعر، وكان يكره كثرة الضحك، وكان يصافح كل من لقِيه، وكان يعظ الناس ويذكِّرهم، ويكثر أن يقول: اللهم سلِّم سلِّم. وكان سعيد بن المسيب يشتغل بتجارة الزيت، ويكثر الدخول في السوق، وكان يقول: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حلِّه، يعطي منه حقَّه، ويكف به وجهَه عن الناس. وكان سعيد بن المسيب ساخطًا على بني أمية بسبب ظلمهم، وكان لا يأخذ من بيت المال عطاءه، وكان إذا دُعِي لأخذ حقه يأبى ويقول: لا حاجة لي فيها، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان، وقال: ما أصلي صلاة إلا دعوت الله على بني مروان. وكان قوالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد ضربه والي المدينة في عهد عبد الله بن الزبير ستين سوطًا، ثم ضربه والي المدينة في عهد عبد الملك بن مروان وسجنه، ثم أخرج من السجن ونُهي الناس عن مجالسته، فلم يكن يجالسه أحد في آخر حياته. وكان سعيد بن المسيب ينهى عن سب الصحابة رضي الله عنهم، وإذا سئل عن ما جرى بين الصحابة من الفتنة يقول: أقول فيهم ما قوَّلني ربي: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. روى العلم عن سعيد بن المسيب كثير من التابعين وأتباعهم، كسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن شهاب الزهري، وقتادة بن دعامة، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر، والقاضي يحيى بن سعيد الأنصاري، وبلغ عدد الرواة الذين رَوَوْا عنه الحديث نحو 160 راويًا. توفِّي سعيد بن المسيب رحمه الله في المدينة النبوية سنة 94 هجرية وعمره 80 عامًا.
سلسلة التراث الرمضاني لحسن معلم داوود صدر حديثًا " سلسلة التراث الرمضاني "، تحقيق وتعليق: د. " حسن معلم داوود "، نشر " دار طيبة الخضراء ". وهي تضم سلسلة رسائل خطية تحقق لأول مرة، مع التعليق على متنها، ونشرها وهي: 1- "تحرير المقال في حكم من أخبر برؤية هلال شوال"، للعلامة: عبدالرحمن بن عبدالكريم الزبيدي الشافعي (ت ٩٧٥ هـ). التّعريف بمؤلِّف الرّسالة : ابن زياد اليمني: عبد الرحمن بن عبد الكريم بن أحمد ابن زياد الزبيدي وجيه الدين اليمني أبو محمد الشافعي، ولد سنة ... وتوفي سنة 975 هـ. له عدد كبير من التصانيف والرسائل المحررة: "إثبات سنة رفع اليدين عند الإحرام والركوع والاعتدال والقيام من اثنتين"، "الأجوبة المحررة عن المسائل الواردة من بلاد المهرة"، "الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية"، "الأدلة الواضحة في الجهرة بالبسملة وإنها من الفاتحة"، "كتاب حافل على مناقب الأئمة الأربعة"، "إسعاف المستفتي عن قول الرجل لامرأته أنت أختي"، "إقامة البرهان على كمية التراويح في رمضان"، "إيراد النقول المذهبية عن ذوي التحقيق في أنت طالق على صحة البراء من صيغ المعارضة لا التعليق"، "إيضاح الدلالة في أن العداوة المانعة من قبول الشهادة تجامع العدالة"، "إيضاح النصوص المفصحة ببطلان تزويج المدرك في تصديق مدعي الأنفاق"، "تحذير أئمة الإسلام عن تغيير بناء البيت الحرام"، "تحرير المقال في حكم من أخبر برؤية هلال شوال"، "التحرير الواضح الأكمل في حكم الماء المطلق والمستعمل الجواب المتين عن السؤال الوارد من البلد الأمين"، "الجواب المحرر لأحكام المنشط والمخدر"، "حل المعقود في أحكام المفقود"، "خلاصة الفتح المبين في أحكام تبرع الدين"، "الرد على من أوهم أن ترك الرمي للعذر يسقط الدم"، "الزواجر عن اقتراف الكبائر"، "سمط اللآل في الكلام على ما ورد في كتب الأعمال"، "شد اليدين على دفع ما نسب إلى الزهري من الوهم في حديث ذي اليدين"، "فتح الكريم لواجد في إنكار تأخير الصلاة على أئمة المساجد"، "الفتح المبين في أحكام تبرع الدين"، "فصل الخطاب في حكم الدعاء بإيصال الثواب"، "القول النافع القويم لمن كان ذا قلب سليم"، "كشف الجلباب عن أحكام تتعالق بالمحراب"، "كشف الغطا عما وقع في تبرع الدين من اللبس والخطأ"، "كشف الغمة عن حكم المقبوض عما في الذمة"، "كشف النقاب عن أحوال المحراب"، "مزيل العنا في أحكام الغنا"، "مزيل العنا في أحكام ما أحدث في الأراضي المزروعة من الفنا"، "المقالة الناصة على صحة ما الفتح والذيل والخلاصة"، "المواهب السنية في الأجوبة عن المسائل العدنية"، "النخبة في الأخوة والصحبة"، "النقول العذبة المعينة المستفاد منها صحة بيع العينة". ٢- "خلاصة البيان في كيفية ثبوت صيام رمضان"، للشيخ: محمد بن أحمد الجوهري الشافعي (ت ١٢١٥ هـ). وهي رسالة لطيفة ومنحة شريفة منيفة - كما وصفها المؤلف - في ثبوت كيفية شهر الصيام على العموم أو الخصوص، حيث ضمنها مقدمة في مفاهيم وحدود الرسالة، ومقصدًا في أدلة ثبوت الشهر الكريم ودخوله عند الفقهاء الشافعية، كما ناقش مسألة إثبات دخول الشهر بالحساب، وخاتمة في حرمة صوم الشك ما لم يكن عن قضاء أو نذر أو يصله بما قبل النصف أو يوافق عادة له وهو يوم الثلاثين من شعبان في حال عدم ثبوت الرؤية. التّعريف بمؤلِّف الرّسالة : وابن الجوهري: هو محمد بن أحمد بن الحسن بن عبد الكريم الخالدي المصري الشافعي الشهير بابن الجوهري ولد سنة 1151 هـ وتوفي سنة 1215 هـ، له من التصانيف: "إتحاف الأحبة في الضبة أي المفضضة"، و"إتحاف الآمال بجواب السؤال في الحمل والوضع لبعض الرجال"، و"إتحاف الألباب بشرح ما يتعلق بشيء من الإعراب"، و"إتحاف الرقاق لبيان أقسام الاشتقاق"، و"إتحاف الظرف في بيات متعلق الظرف"، و"إتحاف الكامل بين تعريف العامل"، و"إتحاف اللطيف بصحبة النذر للموسر والشريف"، و"امتثال الإشارة بشرح نتيجة البشارة"، و"تحقيق الفرق بين علم الجنس واسمه"، و"ثمرة غرس الاعتناء بتحقيق أسباب البناء"، و"حاشية على ابن قاسم العبادي إلى باب البيوع"، و"حلية ذوي الإفهام بتحقيق دلالة العام"، و"الدر المنثور في الساجور"، و"الدر النظيم في تحقيق الكلام القديم"، و"رسالة في أركان الحج"، و"رسالة في إهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم -"، و"رسالة في تعريف الشكر العرفي"، و"رسالة في تعريف شكر النعم"، و"رسالة في توجيه وإتمام الأركان"، و"رسالة في ثبوت رمضان"، و"رسالة في زكاة النابت"، و"رسالة في مدعجرة ودرهم"، "رسالة في مسألة ذوي الأرحام"، و"رسالة في مسألة الغصب"، "رسالة في النذر الشريف"، و"الروض الأزهر في حديث من رأى منكر"، و"الروض الوسيم في المفتي به من المذهب القديم"، و"زهر الإفهام في تحقيق الوضع وما له من الأقسام"، و"شرح الجزرية"، و"شرح لامية أبي العباس الجزائري"، و"شرح المعجم الوجيز للسيد عبد الله ميرغني"، و"شرح منقذة العبيد لوالده"، و"عقيدة التوحيد"، و"شرح عقيدة التوحيد"، و"القول المشفي لتحقيق تعريف الشكر العرفي"، و"اللمعة الألمعية في قول الشافعي بإسلام القدرية"، و"مرقى الوصول إلى معنى الأصولي والأصول"، و"منهج الطالبين في مختصر منهاج العابدين"، و"نظم عقائد النسفي"، و"نهج الطالب في أشراف المطالب" اختصره من "منهج الطلاب". ٣- "أحكام ثبوت الأهلة في رمضان وشوال وذي الحجة"، للشيخ: يحيى بن محمد اليمني (ت ١٢٩٣ هـ) . ٤- شرح حديث [صوموا لرؤيته وأفطروا برؤيته]، للشيخ: أحمد السجاعي الشافعي (ت ١١٩٧ هـ). وهي رسالةٌ لطيفةٌ - كما وَسَمَها صاحبُها - "في احتمالاتٍ عشرة تَرِدُ على ضميرِ: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» أوردها من أقوال بعض المحققين في المذهب الشافعي؛ فأتى عليها واحدة واحدة، وبيّن مرادَهم فيها، والصحيحَ منها؛ فأحبَبْتُ إخراجَها محقّقة ليستفيد منها طالب العلم في مسألة فقهية تتعلق بها مسائل نازلة، لابد من بيان الحكم الشرعي فيها". وقد اعتمد المحقق في إخراج هذه الرّسالة على نسختين من «المكتبة الأزهرية»؛ كلتاهما كاملة، لا يوجد فيهما نقص ولا طمس، كتبتا بخط واضح، إحداهما محفوظة تحت رقم: (43900)، والأخرى تحت رقم: (ع 15). التّعريف بمؤلِّف الرّسالة : هو أحمد بن أحمد بن محمد بن محمد البدراويّ الأزهريّ الشّافعيّ السُّجَاعِيّ، نسبة إلى «السُّجَاعِيَّة»: قرية من مديرية الغربية بمركز المحلة الكبرى بمصر. ولد بمصر ونشأ بها في أسرة علمية، كان أبوه من شيوخ الأزهر؛ فطلب العلم عليه، وعلى غيرِهِ. وله مؤلفات كثيرة؛ أغلبها شروحٌ، وحواشٍ، ورسائل، ومتون متنوعة؛ بين منثورٍ ومنظومٍ، وهي أكثر من (150) مؤلفًا في العقيدة، والفقه، والحديث، والتزكية، واللغة وعلومها، والفلك، والحساب والمنطق، وغيرها. وتوفي الشّيخُ أحمد بن أحمد السُّجاعي في القاهرة ليلة الاثنين السادس عشر من صفر سنة: (1197هـ)، وصُلِّي عليه في الأزهر، ودُفن عند أبيه بالقرافة الكبرى بتربة المجاورين.
محنة أسرة عمار روى ابن إسحاق أن بني مخزوم كانوا يخرُجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه سمية - فقد أسلم هؤلاء جميعًا واتبعوا الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم - إذا حمِيَت الظهيرة يعذبونهم برمضاء - الرمل الملتهب من حرارة الشمس - مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "(( صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة ))، وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: (( أبشروا آل عمار وآل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة ))، فأما أمه فتأبى إلا الإسلام فيقتلونها، وذكر الإمام أحمد أن سمية أم عمار كانت أول شهيدة في الإسلام، طعنها أبو جهل بحربة في قلبها - وقيل: في قُبُلها - وذكر ابن الأثير أن عمارًا وأباه من عنس، وهم بطن من مراد، أسلم هو وأبوه وأمه، وكان ياسر حليفًا لبني مخزوم، فكانوا يخرجون عمارًا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم على حر الرمضاء، فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة ))، فمات ياسر تحت التعذيب، وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها بحربة في قُبُلها فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار، وقالوا: لن نتركك حتى تسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول في اللات والعزى خيرًا، ففعل، فلما أعطاهم ما طلبوا تركوه - وتمام الخبر أعلاه.
أية عربة ستختار؟ الأفكار هي جذورُ الأشياء، فالفكرة تأخذ اتجاهًا نحو هدف، ثم تتحول إلى فعلٍ، هذا الفعل إذا وجد البيئة المناسبة له، صارت الفكرة ذات قوة جذبٍ وتأثير، ونفوذ عند الآخرين. في عام (1848م) استخدم عارض السيرك الأمريكي ( دان رايس ) في حملته السياسية عربةً تًصدر أنغامًا موسيقية، ووضع لها شعارًا هو ( القفز إلى العربة )، ومع ازدياد نجاح حملته، سعى سياسيون آخرون للحصول على مقعد في العربة أملًا منهم في أن يُحققوا النجاح نفسه! وبمرور الوقت صارت العربة وسيلةً أساسية في الحملات الانتخابية في أمريكا، مما كرَّس لهذا المصطلح، حتى ظهر ما يُسمى بـ ( تأثير العربة )، وهي ظاهرة نفسية تعني زيادة تبنِّي الفرد لفكرة ما برؤيته لزيادة عدد الذين سبقوه إليها، فحين يزيد عددُ المتقبلين لفكرة ما، فإن الآخرين الذين اقتنعوا بهذه الفكرة سيقفزون للركوب في العربة! اتَّسع تأثيرُ هذه الفكرة، فطغى على مجالات كثيرة في حياة الناس الذين يعانون من هشاشة نفسية، وتراجع في مستوى الوعي، فشمِلت السياسة والاقتصاد والمجتمع والرياضة والطب. ففي عالم الطبِّ القديم مثلًا كان المرضى يتداوون بتمرير الأفاعي المقدسة على مواضع المرض لتَلعقها؛ ظنًّا منهم أن هذا هو العلاج للمرض بعد أن شاع عندهم تأثيرُ العربة المستمد من تأثير إله الطبِّ الأسطوري اليوناني ( أسكليبيوس )، ومثل هذه الطرائق في التداوي ما تزال منتشرة لدى كثير ممن يطلبون الطبَّ الشعبي الذي تناقلته الأجيال بعد أن قفزوا إلى عربة الاعتقاد والتصديق. وفي هذا الوقت صارت تتجاذب الناس كثيرٌ من العربات ببريقها الأخَّاذ، وشرائطها التي زادتها فتنة وجذبًا لفئام كثيرة من الناس، ولعل ( عربة الشهرة ) بِجَلَبتها، هي أكثر العربات التي راح يقفز إليها كثيرون وكثيرات بحثًا عن المال الذي وجدوا فيه النعيمَ، من خلال المتابعة والإقبال والطلب، والتنقل بين البلدان، والظهور في وسائل التواصل والإعلام! اليوم قد ينهار أحدُهم، ويدخل في حالة من الحزن والضيق بسبب مشاهدته لمقطع يصوِّر أحدهم وهو يتنقل بين البلدان، وكأن الحياة برُمَّتها صارت محصورة عنده في سَفرةٍ! ومع تتابُع تأثير العربات وسرعتها المتهورة، صار لزامًا على الإنسان التريث، وترتيب حياته، وتقديم الأولويات، وأن يعرف حقَّ المعرفة أيَّة عربة سيختار؛ لأن الركوب فيها يعني رسمًا لحياته، وتحديدًا لمصيره!
إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلًا بِعُمَر الحمد لله الولي الحميد، جعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، خيرُ الخلق نبيُّها، وخير الأصحاب أصحابه، لا كان ولا يكون مثلهم، صفوة الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله عز وجل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين، وجدِّدوا إيمانكم؛ فإنه يَخْلُق كما تخلق الثياب، وطالعوا سير أسلافكم من الصالحين؛ لعل القلوب أن تهتز لذكراهم فتسير على منهاجهم، فلا يعرف الفضلَ لأهل الفضل إلا أهلُ الفضل، ومِنْ أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فعل. فمن يجاري أبا حفصٍ وسيرتَهُ أو من يحاول للفاروقِ تشبيهًا وإذا جرَّد ابن تيمية قلمه للكتابة عن عمر، علمنا أن نوعًا راقيًا من الكتابة يُشيَّد، ونظمًا بديعًا من المعاني يُنْثَر، فإذا انضم لذلك غضبة سُنية حنيفية دفاعًا عن أمير المؤمنين، الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، أيقنا بجزالة الكلم، وفخامة المعاني، ونصاعة البراهين، وقوة الأسلوب، فلله أبوه! ورحم الله امرأة درَّت عليه وحنَّت! حي المنازل إذ لا تبتغي بدلًا بالدار دارًا ولا الجيران جيرانًا فرضِيَ الله عن الفاروق، ورحم ابن تيمية، وجزاهما عن الإسلام خير ما جزى المصلحين والمجاهدين، ومن ذلك أن أحد رؤوس الرافضة، ويقال له ابن المطهر الحلي، ألَّف كتابًا في ذم السنة وأهلها، وملأه بالدجل الفاحش، والكذب الممجُوجِ، وسوء الأدب مع أفضل قرون الأمة، وموَّه ببعض الأغاليط، حتى راج على أشباه الأنعام، من الرافضة الذين دنْدَنُوا ببعض قَرْمَطَتِهِ وسَفْسَطَتِهِ عند أهل الحق، فرغبوا للجبل الأشم، والبحر الخِضَّم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية - أن يهتك شُبَهَ الدجال الرافضي، فانبرى رحمه الله وأعلى نزله وجمعنا به ووالدينا ووالديه في عليين، فسطر كتابه الباهر: (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)، فنقض شُبَهَ الرافضي شرعًا وعقلًا، فأعلى الله به السنة، وقمع به البدعة، وأطار به وساوس الرافضة، كما أطار عمر وساوس المفتونين إبان حياته، بالعلم والحجة والبرهان، وبالسيف والدرة والسنان، تلك المكارم لا قَعْبان من لبن؛ كأنما عناهما أبو تمام إذ قال : فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مرهف تميل ظباه أخدعي كل ماثلِ فهذا دواء الداء من كل عالمٍ وهذا دواء الداء من كل جاهلِ وسنذكر شيئًا مما رَقَمَهُ رحمه الله: قال: ومناقب عمر باب طويل، قد صنف الناس فيه مجلدات. فمن إجابة الله لدعوته؛ أنه دعا على أناس لما عارضوه في قسمة الأرض، فقال: اللهم اكفني فلانًا وذويه، فما حال الحول وفيهم عين تطرف. وأما خوف عمر من الله تعالى؛ ففي صحيح البخاري، عن المسور بن مخرمة قال: ((لما طُعن عمر، جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك، لقد صحِبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحِبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من الله منَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك من الله منَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا، لافتديتُ به من عذاب الله قبل أن أراه)). وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر، قال: ((يا ابن عباس، انظر مَن قتلني، فجال ساعة ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدَّعي الإسلام، فقتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثُرَ العُلُوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت - أي: إن شئت قتلنا - قال: كذبت - أي: أخطأت - بعدما تعلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتُمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ووُلِّيتَ فعدلتَ، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفافٌ لا عليَّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبدالله بن عمر، انظر ما عليَّ من الدَّين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إنْ وَفَى له مال آل عمر فأدِّ من أموالهم، وإلا فَسَلْ في بني عدي بن كعب، فإن لم تفِ أموالهم وإلا فَسَلْ في قريش، ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفَن مع صاحبيه. فسلَّم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يُدفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأُوثِرَنَّه اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبدالله بن عمر وقد جاء، فقال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذِنَتْ، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهمَّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ، فاحملوني، ثم سلِّم، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني، ردوني إلى مقابر المسلمين... وذكر تمام الحديث)). ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راضٍ، ورعيته عنه راضون، مقرُّون بعدله فيهم، ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعِظَمِها عندهم؛ وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشِرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم))، ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [الفاتحة: 143]، وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُوشِك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن وبالثناء السيئ))، ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقًا وغربًا، ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرنًا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرَف أن أحدًا طعن في ذلك، ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين، لرضا المسلمين عنه، وإنما قتله كافر فارسي مجوسي. وخشيته من الله لكمال علمه؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. أما علمه، فقد ثبت من علم عمر وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ((قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمرُ))؛ قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون. وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحًا أُتيت به، فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطاب، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم)). وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يُعرَضون عليَّ، وعليهم قُمُصٌ منها ما يبلغ الثَّدْيَ ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)). وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال عمر: وافقت ربي في ثلاث؛ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر)). وفي الصحيحين: ((أنه لما مات عبدالله بن أبي بن سلول، دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قال عمر: فلما قام، دنوت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي عليه وهو منافق؟ فأنزل الله: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ [التوبة: 84]، وأنزل الله: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80])). وقد رُوي من وجوه ثابتة عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر، يقول به))، وفي لفظ: ((جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، أو ((قلبه ولسانه))، وهذا مرويٌّ من حديث ابن عمر وأبي هريرة. وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)). والعلماء يعرفون قدر علمه وفقهه، ويخضعون لعدل عمر وعلمه. وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده، فأمرٌ قد عرفته العامة والخاصة، فإنها أعمال ظاهرة، وسيرة بينة، يظهر لعمر فيها من حسن النية، وقصد العدل، وعدم الغرض، وقمع الهوى ما لا يظهر من غيره؛ ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا، إلا سلك فجًّا غير فجك))؛ لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه، وقال: ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه))، ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل الذي قال، وقال ابن عمر: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر"؛ وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل؛ قال الله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل، فكل من كان أتمَّ علمًا وعدلًا، كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل، وهذا كان في عمرَ أظهرَ منه في غيره، وهذا ظاهر لكل أحد. أما زهده، فكان زاهدًا ورِعًا في كل شأنه، ولم يكن له غرض في فَدَك ولا غيرها، فلم يأخذها لنفسه، ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه، ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى إنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا، ابدؤوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَعُوا عمر حيث وضعه الله، فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))، فقدَّم العباس وعليًّا والحسن والحسين، وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل، وفضَّل أسامة بن زيد على ابنه عبدالله في العطاء، فغضب ابنه، وقال: تفضل عليَّ أسامة؟! قال: فإنه كان أحب إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير، لم يختلف فيه اثنان. أيها المؤمنون: لقد كان عمر عادلًا وقَّافًا عند كتاب الله تعالى؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، فقال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذِن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هِيَه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضِبَ عمر حتى همَّ أن يُوقِعَ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان عمر وقافًا عند كتاب الله)). وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى إنه أقام على ابنه الحدَّ لما شرب بمصر، بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد، لكن كان ضربه سرًّا في البيت، وكان الناس يُضرَبون علانية، فبعث عمرُ إلى عمرو يزجره، ويتهدده، لكونه حابى ابنه، ثم طلبه، فضربه مرة ثانية، فقال له عبدالرحمن: ما لك هذا؟ فزجر عبدالرحمن، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود، وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تُذكَر. وقد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه كان لا يفرض للصغير حتى يُفطَم، ويقول: يكفيه اللبن، فسمِع امرأة تُكْرِهُ ابنها على الفطام؛ ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس: إن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع، وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو، لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم، فهذا من إحسانه إلى ذرية المسلمين. ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق، وصار يُضرَب به المثل، كما قيل: سيرة العمرين، وأحدهما عمر بن الخطاب. وروى ابن بطة عن غالب بن عبدالله العقيلي، قال: ((لما طُعن عمر دخل عليه رجال، منهم ابن عباس، وعمر يجود بنفسه، وهو يبكي، فقال له ابن عباس: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: أما والله ما أبكي جزعًا على الدنيا، ولا شوقًا إليها، ولكن أخاف هول المطلع، قال: فقال له ابن عباس: فلا تبكِ يا أمير المؤمنين، فوالله لقد أسلمت؛ فكان إسلامك فتحًا، ولقد أُمِّرت؛ فكانت إمارتك فتحًا، ولقد ملأت الأرض عدلًا، وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتُذكر عندهما إلا رضيا بقولك، وقنعا به، قال: فقال عمر: أجلسوني، فلما جلس، قال: أعِدْ عليَّ كلامك يا ابن عباس، قال: نعم، فأعاده، فقال عمر: أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أشهد لك بهذا عند الله، وهذا عليٌّ يشهد لك، وعلي بن أبي طالب جالس، فقال علي بن أبي طالب: نعم يا أمير المؤمنين. عباد الله: لقد أعز الله بعمرَ الإسلام، وبسط له الثناء على ألسن المؤمنين، وقد أفرد العلماء مناقب عمر، فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت كأني أنزع على قَلِيب بدلوٍ، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعِهِ ضعفٌ، والله يغفر له، ثم أخذها عمر بن الخطاب، فاستحالت في يده غَرْبًا، فلم أرَ عبقريًّا من الناس يفرِي فَرْيَه، حتى ضرب الناسُ بعَطَنٍ)). وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان عمر أحوذيًّا، نسيجَ وحدِه، قد أعدَّ للأمور أقرانها"، وكانت تقول: "زيِّنوا مجالسكم بذكر عمرَ". وروى الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر". وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رأيت عمر قط، إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكًا يسدده"، وقال أيضًا: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". وقال أيضًا: "إذا ذُكِرَ الصالحون فحيِّهلًا بعمر، كان إسلامه نصرًا، وإمارته فتحًا"، وقال أيضًا: "كان عمر أعْلَمَنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأعرفنا بالله، والله لهو أبين من طريق الساعين"؛ يعني: إن هذا أمرٌ بيِّن يعرفه الناس. وقال أيضًا: "لو أن علم عمر وُضع في كِفَّة ميزان، ووُضع علم أهل الأرض في كفة، لرجح عليهم". وقال أيضًا لما مات عمر: "إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم، وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أُصيب". وعن زيد بن وهب: ((أن رجلًا أقرأه معقل بن مقرن آية، وأقرأها عمرُ بن الخطاب آخرَ، فسألا ابن مسعود عنها، فقال لأحدهما: من أقرأكها؟ قال: معقل بن مقرن، وقال للآخر: من أقرأكها؟ قال: عمر بن الخطاب، فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه، ثم قال: اقرأها كما أقرأكها عمر، فإنه كان أقرأنا لكتاب الله، وأعلمنا بدين الله، ثم قال: كان عمر حصنًا حصينًا على الإسلام، يُدخَل في الإسلام، ولا يُخرَج منه، فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثُلْمَة لا يسدُّها أحد بعده، وكان إذا سلك طريقًا اتبعناه ووجدناه سهلًا، فإذا ذكر الصالحون فحيِّهلًا بعمر، فحيهلًا بعمر، فحيهلًا بعمر)). وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل، لا يزداد إلا قربًا، فلما قُتل؛ كان كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعدًا". وقال مجاهد: "إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه". وقال أبو عثمان النهدي: "إنما كان عمر ميزانًا، لا يقول كذا ولا يقول كذا". ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، قال: فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم يومئذٍ))، وفي لفظ: ((أعزَّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك))، وعن ابن عباس قال: "لما أسلم عمر، قال المشركون: قد انتصف القوم منا". وقال ابن مسعود: "كان عمر حائطًا حصينًا على الإسلام، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما قُتل عمر انثلم الحائط، فالناس اليوم يخرجون منه". وعن أم أيمن رضي الله عنها، قالت: "وَهَى الإسلام يوم مات عمر". وعن القاسم بن محمد: "كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من رأى عمر بن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذيًّا نسيجَ وحدِه، قد أعد للأمور أقرانها". وقال محمد بن إسحاق في السيرة: "أسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلًا ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، فامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُزُّوا، وكان عبدالله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم، قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه". وقال أبو المعالي الجويني: "ما دار الفلك على شكله". وثبت عن طارق بن شهاب قال: "إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث، فيكذب الكذبة، فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه الحديث، فيقول: احبس هذه، فيقول: كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه". وعن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشًا، وأمَّر عليهم رجلًا يُدْعَى سارية، قال: فبينا عمر يخطب في الناس، فجعل يصيح على المنبر: يا سارية، الجبلَ، يا سارية، الجبلَ، قال: فقدم رسولُ الجيش، فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية، الجبلَ، يا سارية، الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله، فقيل لعمر بن الخطاب: إنك كنت تصيح بذلك على المنبر. وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب، قال: "كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه مَلَكٌ"، وعن مجاهد قال: "كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن". أيها الناس: لقد كان الشيطان يفْرَق من عمر؛ فعن مجاهد قال: "كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفَّدة في إمارة عمر، فلما قُتِلَ عمر وَثَبَتْ". و((استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قُمْنَ فابْتَدَرْنَ الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: قلت: يا رسول الله، أنت أحق أن يَهَبْنَ، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن تهبنني، ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: والذي نفسي بيده، ما لقِيَكَ الشيطان قط سالكًا فجًّا، إلا سلك فجًّا غير فجك))؛ [متفق عليه]، وفي حديث آخر: ((إن الشيطان يفِرُّ من حس عمر)). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. يا عباد الله: حفظ الناس لعمر وصايا حسنةً نافعة، منها ما حدث به يحيى بن جعدة، قال: قال عمر رضي الله عنه: "لولا ثلاثٌ لأحببتُ أن أكون قد لحقت بالله، لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجدًا، أو أجالس قومًا يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر". وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه مُلْهَمٌ محدَّث، كل كلمة من كلامه تجمع علمًا كثيرًا، مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن، فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم، وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة. وقال ابن عباس: "قال لي عمر: إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل، قال: يقول ابن عباس: فوالله ما أعرفه غير عمر". وعن سالم عن أبيه: "أنه كان إذا ذكر عمر قال: لله در عمر، لقلَّما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه؛ إلا كان حقًّا". عباد الله: لقد كان عمر يرجع إلى الحق متى علمه، وقصة رد المرأة عليه دليل على كمال فضله ودينه وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه، ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل ألَّا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]. وبالجملة، فهذا باب يطول وصفه، وعمر أكمل الصحابة بعد أبي بكر، والصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها؛ ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله: "هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدًى، وفي كل سبب يُنال به علم وهدًى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا"، أو كلامًا هذا معناه. وقال أحمد بن حنبل: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وما أحسن قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ حيث قال: "أيها الناس، من كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". وقال حذيفة رضي الله عنه: "يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا طريقَ مَن كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم؛ لقد سبقتم سبقا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالاً، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا".
الاستغناء الفكري عند منعطفات الحياة كانت على دَرْب القرآن والعلم وصُحْبة أهل الخير، ثم مرَّت في منعطف في حياتها من القطع الثقيل، ولكي تُداوي جِراحَها، وتلمَّ شتاتها قُدِّم لها ترياق يحمل أطروحات جديدة بمسميات لامعة من شخصيات ذات نبرة هادئة، وابتسامات عريضة، وتلطُّف في التعامل، فانجرفت معهم، مع أن ما قدَّمُوه لها يلبَس في بعض أطروحاته لباسًا شرعيًّا؛ لكن التمحيص في حقيقته يُظهِر أنه دَسٌّ للسُّمِّ في العسل؛ فنبعه ليس بنبع عقيدتنا الصافية؛ بل يحمل صبغةً فلسفيةً، وطرقًا جديدةً لتخطِّي ضغوط الحياة، والوصول للنجاح والإنجاز؛ مثل: قانون التسامح، قانون الجَذْب، التأمُّل التجاوزي، ممارسة اليوغا، قانون الامتنان، قانون الاستحقاق، قوة عقلك الباطن، وغيرها من هذه المصطلحات والممارسات التي يظهر بعد تتبُّع جذورها أنها مُستقاةٌ من الفلسفات الشرقية، بعضها باطلٌ صِرْفٌ، وبعضها يحتاج إلى تفصيل في المعنى للوصول إلى حكمه الشرعي. والتساؤلات التي يدور حولها النقاش: لماذا يلجأ بعض أبنائنا وبناتنا لمثل هذا؛ ليشبعوا حاجاتهم النفسية، ويداووا جِراحاتهم، وينمُّوا مهاراتهم؟ لماذا لم يستطِعْ أحدُهم أن يستقي من مَعِين الوَحْيَيْنِ علاجًا شافيًا كافيًا يُهدِّئ به نفسه، ويُطمئن قلبه؟ إن الاستغناء الفكري، والثقة بمصادرنا، وكيفية الاستفادة منها في استقاء ما يُشبع حاجاتنا يحتاج إلى معرفة عميقة، معرفة متجذِّرة في عمق الفكر والتصوُّر، تظهر عند الأزمات تلقائيًّا، أو بعد تذكير يسير؛ لتُشكل طوق النجاة الصحيح الذي نتشبث به متى عصفَتْ بنا الأيامُ، فنصل إلى بَرِّ الأمان ، ونستطيع ترميم ما انكسر من نفوسنا بيُسْر؛ لأن الأساس باقٍ سليم ومتين، "فمن أراد عُلوَّ بُنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه، وشِدَّة الاعتناء به، فإنَّ عُلُوَّ البُنْيانِ على قدرِ توثيقِ الأساسِ وإحكامِه، وأوَّل مـــا يُبــنى عليه هــذا الأســاس هو: «صِحَّةُ المعرفةِ باللهِ وأمرهِ وأسمائِه وصفاتِه»"، فهنا تكمن أهمية تعبئة الرصيد المعرفي الفكري الإيماني باستمرار؛ حتى لا نجده صفرًا أحوج ما نكون إليه، وعدم الاتِّكاء على معرفة سابقة قديمة تُخلَق مع طول الغفلة، فالتركيز على تغذية القلب والرُّوح من النَّبْع الصافي باستمرار ولو بالقليل الدائم؛ سيكون له أثر النحت على الصخر بإذن الله. السؤال الآخر الذي نطمح للترقي له، هو: هل لدينا من الغِنى المعرفي ما نكتفي به ذاتيًّا بل ونمدُّ يدَ الإحسان إلى غيرنا لنُجيد تطبيب مبتلى مصدوم وجَدَ راحته في مثل تلك التطبيقات؟ هل لدينا القدرة على الإصغاء إليه بتبصُّر، ثم إعطائه قَبَسًا من علم ونور يمشي به بين الناس، أم أننا نشعر أن بضاعتنا مزجاة قليلة وتقليدية؟ إن الثقة بجودة ما نملك وقوة تأثيره تنبع من معرفتنا بصفات مَنْ دلَّك على ذلك العلاج ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، فخالق الإنسان هو الأعلم بما يُصلِح حاله، فعلامَ الالتفات إلى المخلَّفات الفكرية الشرقية والغربية لمداواة هذه الرُّوح؟! وعند عقد موازنة سريعة بين مَنْ حاول تخطِّي منعطفٍ صَعْبٍ في حياته بطريقةٍ شرعيةٍ من التصبُّر والرِّضا بقضاء الله وقدره، والثقة بتدبير الحكيم، والتسليم له، وممارسة عبوديات قلبية وبدنية مختلفة لها أثر على طُمَأْنينة النفس؛ مثل: الدعاء والاستغفار والتسبيح والصلاة، والتدبُّر في قصص السابقين في القرآن الكريم. كيف ستكون نفسه إن مارس هذا كلَّه واثقًا بوعد الله بطُمَأْنينة القلب، وتجاوَز العُسْرَ إلى اليُسْر القادم حتمًا؟ قارنه مع مَن يلجأ ليُنفِّس كربه إلى ممارسة (يوغا الضحك)، أو (التأمل التجاوزي)، أو يحاول جذب الأقدار السعيدة (بقانون الجذب). ربما يجد لنفسه علاجًا مؤقتًا، فهي بمثابة الحبوب المهدئة سهلة التناول؛ لكن آثارها الجانبية خطيرة على العقيدة التي هي أهم ما يملك، فهي أعظم خسارة، علاوة على الخسائر المادية التي يدفعها لهذه الدورات والأنشطة باهظة الثمن، ثم يخدع نفسه ومَن حوله بأنه انتفع بها؛ حتى لا يتجرَّع خيبة مرارة خسران الوقت والمال فيما لا ينفع. والمشكلة لا تكمن في المنعطف الواحد؛ بل يصبح هذا سلوكًا وملجأً له كلما ضاقَتْ به الحياةُ. فما كتبت هذه السطور إلا رغبة في لفت الانتباه إلى الحرص على تعليم الجيل كيف يكون له استغناءٌ فكريٌّ يمارسه عند الضغوطات- التي لا يخلو منها أحد- ليخرج منها قويَّ الإيمان، سليمَ المعتقد دون الحاجة ليمد يده إلى من يجرفه إلى خرافات تنخر في فكره ومعتقده الثمين (ولات حين مندم).
القُرآنِيُّون المُعاصِرون "الباطِنيون الجُدُد" إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: ممَّا لا شك فيه أن السنة النبوية وقفت سدًّا على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان في وجه أعداء الإسلام، ولعل أهم ما قامت به السُّنة في هذا المِضمار، هو حِفْظُها القرآنَ الكريمَ من عبث العابثين أو تأويل المنحرفين أو انتحال المبطلين؛ وذلك لأنها المُفسِّرة للقرآن الكريم والمبيِّنة لأحكامه، إذ أنها وحي من عند الله تعالى، وعلى هذا اتَّفق أهل الإسلام، فإنَّ أعداء الدِّين حينما حاولوا الولوج إلى حِصنه الحصين حاولوا خائبين هدم السنة النبوية، وذلك على النحو الذي مر بنا على مدار قرون طوال. وفي العصر الحديث، لا سيما مع الاتصال بشياطين الغرب من المستشرقين والمُنَصِّرين وغيرهم، ومع وجود فلسفات ونظريات حديثة في النقد واللغة حاول كثير ممَّن ينتسبون إلى الإسلام استغلال بريق هذه الفلسفات ولمعان تلك المذاهب والمناهج والنظريات مُعتمدين على انبهار المسلمين بكلِّ ما هو غربي، فراحوا يُروِّجون لأفكارهم، باسم الإصلاح والتحديث والتطوير. وكانت بداية هذه المَوجة من محاربة السُّنة - وإلى الآن - تتستَّر بستار خدَّاع، وهو أن القرآن الكريم هو النَّص الوحيد المنقول إلينا بالتواتر والموثوق في نَصِّه، وأن الله تعالى تكفَّل بحفظه فقط؛ لذا يجب أنْ يكون هو مرجعنا وهو قائدنا في الاستدلال ومعرفة ديننا، وهي دعوة ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها فيه العذاب على نحو ما سنرى. لقد بدأت الدعوة إلى نقض السُّنة والاعتماد على القرآن في مرحلة مبكِّرة من مراحل عصر التنوير كما اتُّفِق على تسميته، وذلك في البداية على يد الطبيب "محمد توفيق صدقي" (فقد ادَّعى أنها – أي: السنة النبوية – لا تتضمَّن تشريعات ذات طابع مُلزِم للمجتمعات الإسلامية في مختلف العصور، سواء في أحكام "العبادات" أم في أحكام "المعاملات"، وقد انتقد الأدلةَ النَّقلية التي أسَّس عليها الأصوليون القدامى مشروعية السُّنة باعتبارها مصدرًا ثانيًا للتشريع في الإسلام) [1] . تلى ذلك "محمود أبو رية" في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" والسيد صالح أبو بكر في كتابه "الأضواء القرآنية وغيرهم، ثم سار على نهجهم "د. محمد سعيد مشتهري" وادَّعى بأنه وحده القادر على تفسير القرآن الكريم - مع أنه حصل على الدكتوراه في "الدراسات الاقتصادية" وليست الشرعية! وزعم "مشتهري" أنه ليس في وُسع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر القرآن، ولا في وسع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا في وسع الطبري والقرطبي، ولا في وسع ابن كثير والألوسي؛ ليس في وسع هؤلاء وأمثالهم تفسير القرآن، وإنما هو وحده الذي يُفسِّر القرآن العظيم! وسار على نهجهم أيضًا عدد من أعضاء "مركز ابن خلدون" في القاهرة، وكذا "إسماعيل منصور"، و"جمال البنا"، و"محمد شبل"، فهؤلاء جميعًا يَدْعون الناس للاقتداء بهم في فهم الإسلام، بعيدًا عن سنة رسول الله، وفَهْم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام! أبرز دعاة القرآنيين في العصر الحديث: من أشهر المنكرين للسنة في العصر الحديث: "د. أحمد صبحي منصور" [2] الذي قام بتأسيس مذهب هدام؛ هو الاكتفاء بالقرآن وحده كمصدر للتشريع الإسلامي عام (1977 م) وبعدما انكشف أمره من طلابه، واعترف – في التحقيقات – بضلاله واستمر على هذا الضلال؛ صودرت بعض كتبه، وأصدر "الأزهر" قرارًا بفصله من الجامعة عام (1987 م)؛ بسبب إنكاره للسنة النبوية وتطاوله على علماء الحديث؛ من أمثال الإمام البخاري رحمه الله. وقد التقى معه – في مصر – كبير زنادقة العصر الحديث "محمد رشاد خليفة" [3] الذي ادَّعى النبوة مع أنه أنكر السُّنة! وبعد ادِّعائه النبوة تلقَّفته "أمريكا" [4] والتقى مرة أخرى مع "د. أحمد صبحي منصور" في أحضان الأمريكان حتى قُتِل هناك في أوائل التسعينيات. وبعد تشاوره مع أساتذته في أمريكا؛ عاد إلى "القاهرة" – مبشِّرًا بدعوته المُنكَرة التي تقوم على تسفيه كل ما ورد في السنة النبوية من أحكام، وسُجِنَ من جرَّاء ذلك عدة أسابيع، ثم خرج ليعمل محاضرًا في "الجامعة الأمريكية" في "القاهرة" لعدة شهور، إلى أن أصبح أحد أركان "مركز ابن خلدون" [5] والذي تم تأسيسه بضغوط أمريكية على الحكومة المصرية، وعمل فيه لمدة خمس سنوات، وبعد المُشكلات القضائية التي واجهها المركز انتهت بإغلاقه. ثم هاجر "صبحي" إلى أمريكا؛ ليتم تكريمه هناك، فعمل مُدرِّسًا في "جامعة هارفارد" لعام واحد، ثم أنشأ مركزه الخاص باسم "المركز العالمي للقرآن الكريم" وبعد أن استقرَّت أحواله نوعًا ما، بدأ حربه على السنة النبوية على ساحة الإنترنت، منذ أكتوبر (2004 م)، إذ أنشأ موقعًا على الشبكة يُدعى "أهل القرآن" ولا يزال ينشر فيه مقالاته وكتبه الضالة المُضِلَّة على هذا الموقع وبعض المواقع الأخرى، وتلقى صدىً واسعًا من قبل أعداء الإسلام، ويتم ترجمة بعضها إلى الإنجليزية [6] . مؤتمر القرآنيين لإلغاء السُّنة: تجدر الإشارة إلى أنَّ مذهب القرآنيين في "شبه القارة الهندية" رغم أنه أسبق في النشأة والدعوة إلاَّ أنه – ولله الحمد – لم يُكتب له النجاح، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم قدرتهم على التواصل ونشر بدعتهم بين أعداد كبيرة، ولكن في الوقت المعاصر فإن هذه البدعة قد انتقلت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ حيث أمريكا بكل إمكاناتها في وسائل الاتصال والتواصل الحديثة عبر الشبكة العنكبوتية، وحيث الدعم المادي السخي الذي يُقدَّم لهم؛ لذا فقد بدأوا في الترويج والدعوة إلى تكوين جماعة على مستوى العالم ممن يؤمنون بفكرهم ومنهجهم البدعي، فكان مؤتمرهم الأول في أمريكا. ففي مدينة "أتلانتا" بولاية "جورجيا" الأمريكية في الفترة ما بين (28-30 مارس 2008م) أُقيم "مؤتمر القرآنيين تحت شعار: "الاحتفال بالكفر .. التفكير الناقد من أجل الإصلاح الإسلامي"! فقد نشر موقع "العربية نت" بتاريخ الثلاثاء (3 ربيع أول 1429هـ) – (11 مارس 2008م)، بعنوان: "الكفار المسلمون" يعقدون مؤتمرهم الأول بأمريكا لإلغاء "السُّنة" ومما جاء فيه: تعتزم "حركة القرآنيين" تنظيم مؤتمر غير مسبوق هو الأوَّل في أمريكا "للكفار المسلمين" حسب ما بثَّته وكالة "أمريكا إن آرابيك"؛ بهدف إصلاح الإسلام، وتقديم وُجهات نظرٍ بديلة للمفاهيم السائدة في العالم الإسلامي! واختارت المجموعة المُنظِّمة للمؤتمر لنفسها اسم "المهرطقون المسلمون" أو "الكفار المسلمون" حسب الترجمة الحرفية. لكن "د. أحمد صبحي منصور" زعيم "حركة القرآنيين" قال لـ "العربية نت" إنَّ المعنى الحقيقي المقصود من وراء الاسم هو "المُتَّهمون بالهرطقة" ويحمل في طياته سُخريةً من اتهامات الكفر، والخروج عن الإسلام، وإنكار السنة، والعلمانية المُوجَّهة ضِدَّ مَنْ سماهم "الإصلاحيين المسلمين". واستطرد قائلًا: نحن نُسمِّي أنفسنا إصلاحيون، وهم يُسمُّوننا الكفار. وقدَّرَ "أحمد صبحي منصور" عددَ الذين يحملون فِكر الحركة القرآنية التي تُطالب باستبعاد الأحاديث النبوية والقُدسية "بعشرة آلاف" باحثٍ ودارس، مُشيرًا إلى أنَّ العدد يزداد باستمرار في ظلِّ إمكانيات الإنترنت واختراقه للحواجز. ونشرت وكالة أنباء "أمريكا إن آرابيك" مضمون بيان أصدرته هذه المجموعة، بتاريخ 10/ 3/ 2008م، ومما جاء فيه: على لسان "أديب يوكسل" الكاتب التركي الأصل، وأحد معتنقي مذهب القرآنيين، وأحد المشاركين في المؤتمر؛ حيث سيترأَّس حلقة مناقشة عن الفكر الناقد في الاسلام، إذ يقول: (في هذا الجو الحالي تُعتبر أمريكا أفضل الأماكن لعقد مثل هذا المؤتمر، إذ يمكن للمسلمين أن يُعبِّروا بِحُرية عن آرائهم بدون الخوف من العقاب). وقال البيان: إنَّ المُنظِّمين قضوا وقتًا طويلًا من التفكير قبل الاستقرار على هذا العنوان غير المألوف. وأضاف قائلًا: (قد يشعر بعض المسلمين بالإهانة؛ بسبب هذا العنوان أو ربما يَعْتَبرون ذلك سَبًّا للإسلام، ليس ذلك غرضنا، لكن مع هذا ستُعتَبَر هذه الردود وردود الأفعال مُساعِدة في إثبات وجهة نظرنا؛ وهي أنه على المسلمين أن يتخطَّوا تلك المشاعر من أجل أنْ يتمكَّنوا من مواجهة القضايا الحالية). المشاركون في المؤتمر: قالت وكالة أنباء "أمريكا إن آرابيك" إنه يشارك في تنظيم المؤتمر: "البروفيسور عبد الله نعيم" أستاذ القانون في "جامعة إيموري" السوداني الأصل، والذي يعمل حاليًا على بحث لاكتشاف طرق لفصل الإسلام عن الدولة في العالم الإسلامي. والكاتبة الأمريكية الإيرانية الأصل "ميلودي معزي"، والتي ألَّفتْ كتابًا عن حياة المسلمين الأمريكيين. ويحضره - وَفقًا لبيان المُنظِّمين المخرجة المصرية "نادية كامل" مخرجة فيلم "سلطة بلدي" الذي تحكي فيه عن قصص الإسلام في مصر، ويُعتبر فيلمها التسجيلي الأول. كما يُشارك فيه "علياء هوجبن" المديرة التنفيذية لمجلس النساء المسلمات في كندا"، و"د. أحمد صبحي منصور"، والكاتبة الأمريكية "ساندرا ماكاين" المعروفة بانتقاداتها للدول العربية، و"أمينة ودود" وهي التي قامت بإلقاء خطبة وإمامة صلاة الجمعة في "نيويورك" في داخل كاتدرائية سانت جون في (مارس 2005م) [7] . ويقدِّم موقع المؤتمر روابط لعددٍ من المفكرين العرب والمسلمين المثيرين للجدل منهم: الكاتب المصري "طارق حجي" عضو مجلس استشاري لمعهد دراسة الإرهاب والعنف السياسي في "واشنطن"، و"إرشاد مانجي" الكندية ذات الأصول الباكستانية التي اعترفت بشذوذها الجنسي عَلَنًا، وتُطالب بإصلاح الإسلام في أمريكا الشمالية لِتَقَبُّل الشَّواذ، ومنهم كذلك الناشطة "إسراء نعماني" التي تُطالب بأن تُعقد "الصلوات الخمس" بوجود "الرجال والنساء" في نفس الصفوف داخل المساجد. وأضافت وكالة "أمريكا إن آرابيك": إنَّ المؤتمر يُعتبر نقطةً في سلسلةٍ متواصلة من المؤتمرات والفعاليات المُناهِضة للإسلام في "أمريكا" والتي تتم بدون مُعارضة الإدارة أو الهيئات الرسمية والشعبية الأمريكية، ومنها "مؤتمر انتقاد القرآن" الذي قام برعايته كبار المحافظين الجُدد في "أمريكا" العام الماضي، وشارك فيه عدد من "الليبراليين الجدد" وبَحَثَ خلاله المُنَظِّمون "إعادة تفسير القرآن" و"علمنة الإسلام". واستطردت: من الفعاليات الأخيرة المُناهِضة للإسلام كذلك "أسبوع التوعية بالفاشية الإسلامية" الذي نَظَّمه الناشط الصهيوني "ديفيد هورويتس" والعضو البارز في معهد "هدسون" المعروف بتوجُّهاته المُتشدِّدة [8] . أبرز مراكز ومواقع القرآنيين: من أبرز مراكز القرآنيين في العصر الحديث: "المركز العالمي للقرآن الكريم" ويضم في إدارته يهود ونصارى، ويُعتبر بمثابة الإدارة الرئيسة التي تُوَجِّه طائفة القرآنيين وتدعو المسلمين للانضمام إليهم، ولم يُسمح للمُنضمِّين إليهم بطباعة الكتب، ولا إصدار مطبوعات إعلامية؛ لذا تُعتبر مواقعهم على شبكة الإنترنت نافذتهم الإعلامية الوحيدة، ومن أبرز هذه المواقع على الشبكة: "موقع أهل القرآن" [9] و"موقع مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم الإسلامي" و"موقع عرب تايمز" و"موقع غلوبال ريبورت" و"موقع إزالة القناع". والمتأمل في كُتَّاب "موقع أهل القرآن" – على سبيل المثال – يجدهم خليطًا من الرجال والنساء، والعجيب أن فيهم كتَّابًا ليسوا مسلمين! فهل آمن هؤلاء بالقرآن حتى ينبروا للدفاع عنه ضد فرية السنة كما يزعمون؟! أم أن هذا الموقع أضحى منبرًا لكل يُهاجم الإسلام والمسلمين والشريعة الإسلامية؟ صحيح أن أكثر كُتَّاب الموقع مسلمون أصلًا؛ لكن ماذا يفعل بينهم الأقباط المصريون من أمثال؛ "مجدي خليل" و"كمال غبريال" وغيرهم؛ مِمَّن يُصرِّحون بعداوة الإسلام، ويتطاولون على الذات الإلهية، والقرآن الكريم؟! ناهيكَ عن "نورا برثول" و"نورمان كورلاند" و"ستيفن شوارتز" و"مايك جويس" الذين لا تُوحي أسماؤهم بأنهم مسلمون أصلًا! ولماذا نجد كتابات "أحمد صبحي منصور" في مواقع ومنتديات أعداء الأمتين؛ العربية والإسلامية على حدٍّ سواء؟! بل كيف يقبل "صبحي" أن يكتب في "شبكة اللادينيين العرب" و"شبكة الأقباط الأحرار"؟! ولماذا نجد اسمه ضمن قائمة "أبطال الصحوة"؟! إماطة اللِّثام عن "جماعة أهل القرآن": يعيش أغلب هذه الجماعة في "أمريكا" وهي جماعة مرتبطة بالغرب عمومًا وبأمريكا خصوصًا، ولطالما دافعت أمريكا عن أفرادها بحزم وإصرار، وطالبت بإخراج معتقليهم من السجون، وهذه الجماعة تعلن بكل وضوح عن انتماء زعمائها إلى الأديان الثلاثة "الإسلام، واليهودية، والنصرانية" ومنهم: أقباط مصريون، والمسلمون منهم ليسوا جميعهم من أهل السنة؛ بل ينتمون لِفِرَق وطوائف خارجة عن منهج أهل السنة؛ ولذا لا يستغرب الراصد لفكر "جماعة أهل القرآن" أنها أقامت مركزًا متخصصًا لانتقاد السنة النبوية ومنهج أهل السنة والتشكيك فيه، وفي الوقت ذاته يتولى تفسيرَ القرآن الكريم خليطٌ من "المسلمين واليهود والنصارى"! والخطوط العريضة في منهج هذه الجماعة تلتقي مع المواقف السياسية الأمريكية والغربية والصهيونية، ثم يزعمون أنهم فقهاء ومشايخ العصر! وهم يرمون بفتن من بعيد، بطريقة ماكرة، وبطرق خفية أحيانًا؛ تشبه "صناعة الإشاعات" أو "أعمال السياسة الخفية" وهم أبعد الناس من الانتصار للإسلام؛ فضلًا عن اتِّباع تعاليمه، فكيف يلتقي هذا مع "التشكيك في السنة النبوية" بل التصريح بالمطالبة بإلغائها من دين الإسلام؟! حقًا إنهم باطنيون؛ حيث يحيكون مؤامرات علمانية ضد أهل السنة والجماعة بطريقة تشبه طريقة المنافقين في التخفي بثوب التَّديُّن، ثم ينهجون النهج "الحداثي الغربي" في تفكيك نصوص الدين، وتدميره من الداخل، والزعم بالحرص على الإسلام! ومن أمثلة تفكيك النص الديني الذي يمارسه منكرو السنة "الباطنيون الجدد" الفصل بين المتلازمين: فصل القرآن عن السنة، وفصل الحجاب عن العفة، وفصل القداسة عن نصوص الوحي، وفصل الصلاة عن الإيمان والعبادة، وفصل الدين عن الحياة. ومن العجب العجاب أن إصلاحهم المزعوم يقف وينتهي عند أهل السنة دون غيرهم؛ من الفِرق والطوائف الضالة؛ كالرافضة والصوفية والبهائية والقاديانية، فضلًا عن الأديان الأخرى؛ كاليهودية والنصرانية والهندوسية والبوذية وغيرها، فهم يتبنون تغيير عقائد أهل السنة، وتغيير منهجهم، وتغيير الأحكام الشرعية المأخوذة من الكتاب والسنة، وهذه الجماعة، هي "جماعة القرآنيين"، التي دعت إلى إلغاء السنة النبوية، والتشكيك في معاني القرآن الكريم وابتداع تفاسير جديدة له بمعزل عن أصول التفسير المعروفة عند المفسرين من السلف الصالح، ومَنْ تبعهم بإحسان؛ فضلًا عن التلاعب باللغة العربية وقواعدها، والاستهزاء بلغة القرآن والسخرية من الكلمات العربية والنقاط والتشكيل، وهم في الوقت ذاته لا يجيدون الكتابة العربية الصحيحة فعباراتهم فيما من الركاكة والخطأ والعامية الشيء الكثير. والخلاصة : أن هذه الجماعة تصنع دينًا جديدًا يتوافق مع رغبات أعداء المسلمين وأهوائهم ومصالحهم وفكرهم وسياساتهم وتوجهاتهم. أهدافهم المعلنة على "موقع أهل القرآن": من الأهداف المعلنة لمنكري السنة ما يلي: 1- الأهداف العلمية: أ- نشر فكر وإبداع القرآنيين وكل المفكرين والكتَّاب الأحرار في صفحات خاصة بهم. ب- باب للاستشارات العلمية سيتحوَّل فيما بعد إلى ما يُشبه "الجامعة العلمية" المفتوحة لكل دارس وباحث في القرآن الكريم والتراث وتاريخ المسلمين وحضارتهم وشتى أنواع الفِرق الإسلامية والمذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية... 2- الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية: أ- سيكون اللبنة الأولى لتجميع القرآنيين في كل أنحاء العالم، وتوثيق الروابط بينهم، وإمكانية أن يتعاونوا معًا ليس في أمور الدين والدعوة فحسب، بل أيضًا في أمور العمل الدنيوي مما يعود عليهم بالفائدة، لتوثيق الأواصر بيننا سيكون للقرآنيين في الموقع غرف مغلقة للتشاور وللتساؤل، وقاعات للصور والفيديو والمحاضرات، وشريط للأخبار، وهناك باب آخر للتسلية ومتعة القراءة ننشر فيه نوادر التراث مع التعليق عليها. ب- سيدعم الموقع الصلة والصداقة مع كل المثقفين من كل الملل والنحل والثقافات والشعوب على أساس احترام حق كل فرد في عقيدته. ج- الاهتمام بالانفتاح على ثقافة الآخر [10] المختلِف عنا في الدين واللغة والعنصر والثقافة، ماذا يراه فينا من عيوب ومن مزايا، فإن صورتنا الحقيقية لا تكتمل إلاَّ بأن نرى أنفسنا في عين الآخر، ماذا يراه فينا وماذا يقوله عنا، يزيد من أهمية رأي الآخر فينا أنه الأكثر تحضُّرًا ورقيًّا، ولا بد من الاعتراف بهذا والإقرار به إذا كنا نريد الإصلاح الفعلي. لقد تكلمنا كثيرًا لأنفسنا؛ مدحًا لأنفسنا وذمًا للآخرين، وظللنا نردد نفس الكلام فازددنا جهلًا وتخلفًا، وحان الوقت الآن للإصلاح، ومن أوجه الإصلاح الاستفادة بما فعله الآخرون كي ينهضوا، وكيف نتعلم منهم، وماذا يرونه فينا وماذا يقولونه عنا. وفي النهاية فإننا جميعًا – نحن والآخر – إخوة... وأهل القرآن هم دعاة العلم والسلام والإصلاح بين الناس). 3- شروط النشر في الموقع: أ- الالتزام بالمنهج الموضوعي في تدبر القرآن الكريم. ب- الالتزام بعدم نسبة أحاديث لخاتم المرسلين [صلى الله عليه وسلم]، مع جواز مناقشة تلك الأحاديث، وأن تكون مناقشتها بهدف توضيح التناقض. ج- الالتزام بعدم تأليه البشر، بدءًا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأن واجب الموقع هو تعليم المسلمين عقائد الإسلام الصحيحة من خلال القرآن الكريم، والتي غفل عنها المسلمون قرونًا طويلة. د- لا يسمح بالهجوم على معتقدات أهل الكِتاب؛ بالسَّب أو التَّسفيه أو التَّشويه، مُهِمَّتنا هي إصلاح المسلمين فقط، ولا شأن لنا بالآخرين. هـ- لن يسمح المَوقِعُ لِمَنْ يتَّخذ ما يُطلق عليه "الحديث النبوي" أو "السنة النبوية" وسيلةً أو مرجعًا لإثبات وجهة نظر معينة أو تفسير آيات القرآن الكريم. و- عدم التقول على الله تعالى أو رسوله بما يُعرف بالحديث القدسي أو الحديث النبوي. بين القرآنيين في الغرب والقرآنيين في البلاد العربية: بعد هذا العرض المُوجز لجماعة القرآنيين التي نبتت نبتتها في أمريكا حتى استطاعت عقد مؤتمرها الأوَّل في "أتلانتا" نلحظ ما يلي: 1- سطحية أفكارهم، وقلَّة بضاعتهم. 2- تشبُّههم بالماسونية إنْ لم يكونوا إحدى أدواتها؛ حيث يجمعون بين ديانات عدة بدعوى الإخاء والحب. ولكن؛ هناك تيار آخر في ديار المسلمين، هذا التيار يُمثِّل الجانب القوي في فِكر القرآنيين؛ إذ إنه يستند على فكر فلسفي رصين حيث يُعْرَفُ أصحابه بسعة الاطلاع والمعرفة والقُدرة على التأثير، وهذا التيار يُمثِّله العديد من أصحاب الأقلام السَّيالة القادرة على التعبير عن أطروحاتها وأفكارها في قالب منطقي يُمْكِنُه التأثير على مَنْ يقرأ لهم بدون خلفية علمية تُمَكِّنه من فهم مقولاتهم ومعرفة مغزاهم. ومن نماذج هؤلاء في "مصر": جمال البنا، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، وفي "المغرب العربي" محمد عابد الجابري، محمد أركون، طيب تيزيني، عبد المجيد مشرفي، وفي "سوريا" محمد شحرور، وغيرهم. وقد اشتركوا جميعًا في موقفهم من السنة النبوية، ونزع القداسة عنها في محاولة للانفراد بالنص القرآني، ثم بعد ذلك يتعاملون مع النص القرآني من خلال قراءة حَدَاثية، حَصَرَ الدكتور "طه عبد الرحمن" أهدافَها في (ثلاثة أهداف، كل هدفٍ يُتَوَخَّى منه [11] إزالة عائق معيَّن، وهذه العوائق هي: الإيمان بتعالي القرآن الكريم وقدسيته، وهو ما اصطلحوا عليه بِأنْسَنَة القرآن ونقله إلى الوضع البشري. والهدف الثاني هو رفع الغَيبِيَّة عن كتاب الله وإثبات عقلنته [12] ، والتعامل معه بكل وسائل النظر والبحث التي تُوفِّرها المنهجيات والنظريات الحديثة. والهدف الثالث هو رفع حاكمية القرآن الكريم وأزَلِيَّةِ شريعته، وإثبات تاريخيَّتها ووصلها بظروف بيئتها وزمانها في سياقاتها المختلفة) [13] . وهذا التيار الذي أشرنا إليه رغم أنه يُمثِّل القراءة الحَدَاثية للسُّنة النبوية والقرآن الكريم، إلاَّ أنه في الوقت ذاته يحمل في طياته بُذورَ فِكرِ القرآنيين؛ إذ يُحاولون الفصلَ بين القرآن والسُّنة؛ كي يتمكَّنوا من إعمال مشروعهم البدعي في النص القرآني. [1] الاستدلال الشرعي الفاسد: تاريخه ومنهجه وقضاياه، د. محمد اغبالو، (ص 393). [2] هو "د. أحمد صبحي منصور" ولد في "مصر" سنة (1949 م)، ودَرَسَ في الأزهر وتخصَّص في التاريخ الإسلامي والحضارة، ودرَّس في جامعة الأزهر أيضًا من عام (1973 م) حتى عام (1987 م) أستاذًا للتاريخ بكلية اللغة العربية، وحُوكِم في جامعة الأزهر بسبب مؤلفاته المشبوهة؛ منها: كتاب "الأنبياء في القرآن الكريم" الذي شكك فيه في جملة مسائل كثيرة بعضها في العقيدة وبعضها متعلِّق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتَّهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكتمان الوحي، ثم ترك الجامعة سنة (1987 م). [3] هو "د. محمد رشاد خليفة" – مصري الجنسية من مواليد عام (1935 م) هاجر للدراسة في أمريكا وتخصص في الكيمياء الحيوية، ونال الجنسية الأمريكية، أسَّس "المسلمون المُتَّحدون الدولية" والتي تدعو إلى الإسلام إلى الله وحده لا شريك له، وتنبذ العمل بالسنة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إمام مسجد في مدينة "توسان" في ولاية "أريزونا" الأمريكية، أنكر شيئًا من القرآن، وادَّعى النبوةَ والوحيَ إليه، وابتدع بدعة الرقم (19) وعلاقته بكل آيات القرآن الكريم، قُتِل في منزله في "توسان" في أوائل سنة (1990). [4] مثلما فعلت "بريطانيا" بالأمس القريب مع منكري السنة في "شبه القارة الهندية"؛ حيث تشابهت قلوبهم في احتضان النَّكِرات الذين باعوا دينَهم، وخانوا أُمَّتَهم العربية والإسلامية. [5] هو مركز مشبوه معروف بتبعيته لأمريكا ولليهود وعدائه الفج للإسلام والمسلمين، داهمته الشرطة المصرية عام (2000 م)، وقبضت على مديره "سعد الدين إبراهيم بتهمة خيانة الوطن. [6] انظر: منكرو السنة .. تاريخ حافل بالزندقة والعمالة والجهل والضلال، أحمد أبو زيد (منتديات الجزيرة توك): الأقسام العامة: الشريعة والحياة؛ القرآنيون .. نشأتهم-عقائدهم- أبرز أعلامهم، علي محمد زينو (ص 57، 58)؛ جماعة القرآنيين .. محاولة تفكيك النص الديني، محمد نمر المدني (ص 18)؛ [7] نقلت وسائل الإعلام المختلفة - صورة وصوتًا - هذا الخبر الشنيع، وفيه خَلْطٌ قبيح مقصود. وحقيقة الخبر : أنَّ أستاذةً جامعيَّة (أمريكيَّة إفريقيَّة)، تُسمَّى «أمينة ودود» تُدَرِّس في إحدى جامعات ولاية «فرجينيا» الأمريكيَّة - قسم الدِّراسات الإسلاميَّة، دُعِيت - كما جاء على لسانها - إلى أن تتولَّى خطابةَ وإمامةَ صلاةِ الجمعة في إحدى ضواحي نيويورك؛ فلبَّت الدَّعوة، كما سبق أن لبَّتها في إحدى مدن جنوب إفريقيا قبل عشر سنوات من هذه الحادثة. وكان الذي دعاها لهذه الفِعْلة الشَّنيعة : لفيفٌ من الرِّجال والنِّساء «اللِّيبراليين» الدَّاعين إلى تحرُّر المرأة المسلمة عمومًا، والمسلمة الأمريكيَّة خصوصًا، وإلى رفع قدرها وإعلاء شأنها، والرَّد على مظاهر إهانتها والنَّيل من كرامتها، كما زعموا! وقد صلَّوا مختلطين لا فرق بين صفوف الرَّجال والنِّساء، وقد أذَّنَتْ فيهم امرأةٌ حاسرةُ الرَّأس! فأيُّ بدعةٍ قبيحة ابْتُلِيَ بها المسلمون في هذا الزَّمان، فحسبنا اللهُ ونعم الوكيل. [8] انظر: موقع "العربية نت" بتاريخ الثلاثاء (3 ربيع أول 1429هـ) – (11 مارس 2008م)، بعنوان: "الكفار المسلمون" يعقدون مؤتمرهم الأول بأمريكا لإلغاء "السُّنة"! [9] كان الأَولى أن يُطلق عليه اسم: "موقع أهل النفاق". [10] يعنون بالآخر: غير المسلمين وغير العرب، فقد يكون الآخر وثنيًّا أو بوذيًّا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا أو لا دينيًّا؛ لذا هم يمجِّدونه ويرغبون في التعلم منه والأخذ من ثقافته، وكأن المسلمين ليس عندهم ثقافة أو دين أو تاريخ أو تشريع! [11] أي: يُقصَد منه أو يُراد منه. [12] المقصود: عقلنة القرآن الكريم على طريقة العقلانيين الخاصة بهم. [13] نقلًا عن: الاستدلال الشرعي الفاسد: تاريخه ومنهجه وقضاياه، (ص 391).
زينة الدهر في ذكر محاسن شعراء العصر لسعد بن علي الحظيري صدر حديثًا " زينة الدهر في ذكر محاسن شعراء العصر "، تأليف: " أبي المعالي سعد بن علي الحظيري " (ت 568 هـ)، تحقيق: "إبراهيم صالح" ، سلسلة "ذخائر التراث" ، نشر "دار ملامح للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب كان في عداد المخطوطات، وهو كتاب ذيَّلَ به سعد بن علي الوراق الحظيري (ت 658 هـ - 1172 م) على كتاب " دمية القصر وعصرة أهل العصر " من تأليف علي بن أبي الطيب أبي الحسن (أو أبي القاسم) الباخرزي السنخي المتوفى (467 هـ- 1074 م) ، والذي ألفه بدوره كذيل أيضًا على كتاب " يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر " للثعالبي (ت 429 هـ- 1038 م)، وحذا فيه حذوه وجمع فيه زهاء 530 شاعرًا، وقد أنهاه سنة 464 هـ وقيل 466 هـ وشرحه عبد الوهاب المالكي، إلا أننا لم نعثر على هذا الشرح. أما كتاب " زينة الدهر " للحظيري فأتم به عمل " الباخرزي " السابق وترجم فيه لجماعة كثيرة من أهل عصره من الشعراء، وأورد لكل واحد منهم طرفًا من أحواله وشيئًا من شعره. ونجد أن من حمل الراية من بعده أيضًا العماد الأصفهاني (ت 597 هـ-1200 م) وصنف كتابه " خريدة القصر وجريدة أهل العصر " وجعله ذيلًا على " زينة الدهر "، وهؤلاء هم الذين سبقوا ابن بسام أو عاصروه في التأليف في هذا اللون بالمشرق. ونجد أن هذا النوع من الكتب كان ثمرة مشاريع علمية امتدّت لقرون، تتابع فيها العلماء على تكميل جهود بعضهم، في تعاون ثقافي باهر وتفاعل علمي جميل، بدأ ثم استمر، وفقدنا نحوه في القرنين الأخيرين! ومن ذلك كتب تراجم الشعراء والأدباء المعاصرين لصاحب الكتاب أو القريبين من عصره. فهذا المشروع بدأ منذ القرن الهجري الثالث، حتى القرن الهجري الثاني عشر، في تلك السلسلة من التراجم التي تتسم بالمعاصرة للمترجم لهم والإحاطة بأخبارهم، ومن باب إثراء باب التراجم والسير. وقد جمع " سعد بن علي الحظيري " في كتابه " زينة الدهر في ذكر محاسن شعراء العص ر" جملة من تراجم شعراء وأدباء المائة السادسة الهجرية. وأبو المعالي الحظيري هو سعد بن علي بن القاسم بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الحظيري البغدادي (؟ - 15 صفر 568 هـ/5 أكتوبر 1172 م)، والحَظيري بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة نسبة إلى الحظيرة، وهي موضع فوق بغداد ينسب إليه الثياب الحَظِيرية. ويُعرَف بدلال الكتب، والوراق، وُلِدَ سعد بن علي بن القاسم في الحظيرة، وهي قرية صغيرة شمال بغداد، في أسرةٍ عربية تعود أصولها إلى المدينة المنورة. انتقل سعد في فترة من حياته إلى بغداد، وعمل هناك في الوراقة وبيع الكتب. وبرع في نظم الشعر، وتناول في شعره الغزل والخمريات مع ميل إلى المجون. وهو كاتب واسع الاطلاع، ألَّف مصنفات في التأريخ والألغاز وفنون عدة منها: • "إعجاز المُحاجي في الألغاز والأحاجي". • "مختصر صفوة الصفوة في الحكم". • "الإعجاز في الأحاجي والألغاز". • "صفوة المعارف". • "لُمَح المُلَج". • ديوان شعر، احتوى على العديد من القصائد الشعريّة. وتُوفِّي أبو المعالي الحظيري في شهر صفر من سنة 567 هـ في بغداد.
من مآثر الشيخ محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله نشأ الشيخ محمد المختار الشنقيطي في بيت علم؛ فوالده هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي يرحمه الله، الذي ألَّف العديد من الكتب النافعة، وكان من أشهر تلك الكتب: كتاب أضواء البيان. كانت بداية طلب الشيخ محمد المختار للعلم في دولة موريتانيا، التي هي بلده الأصلي الذي ينتمي إليه، انتقل والده إلى المملكة العربية السعودية، ثم انتقل بعده إلى المملكة العربية السعودية ابنُه الشيخ محمد المختار؛ حيث واصل فيها الشيخ محمد المختار طلَبَه للعلم، واستقر في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أصبح مدرسًا في الجامعة، وفي المسجد النبوي، وفي بعض مساجد المدينة، وكذلك حصل الشيخ على الجنسية السعودية. كانت بداية طلبي للعلم عند الشيخ محمد المختار الشنقيطي في المسجد النبوي، وفي بعض مساجد المدينة المنورة، ومن ضمن تلك المساجد مسجد الخندق، المعروف بالمساجد السبعة، وكان الشيخ إذ ذاك قد بلغ من العمر أكثر من سبعين سنة. لم يكن للشيخ في الحرم النبوي كرسيٌّ يجلس عليه، ولم يكن له مُكَبِّرُ صَوتٍ؛ بل كان الشيخ يُسنِد ظهرَه إلى إحدى سواري المسجد النبوي، ويضع خلف ظهره سجادةَ صلاةٍ؛ ليقي بها ظهرَه صلابةَ تلك السارية، ولم يكن الشيخ على كبر سِنِّه يمدُّ رِجْليه أثناء الدرس، الذي يستمر مدَّةَ ساعة تقريبًا، على الرغم من أن تلاميذه في عمر أبنائه. كان الشيخ محمد المختار يرحمه الله على الرغم من قلة عدد الحضور من قِبَل التلاميذ الدارسين عنده، الذين في بعض الأحيان لا يصل عددُهم إلى خمسة، إلا أن الشيخ يرحمه الله كان لديه أربعة دروس أسبوعيًّا، ومدَّةُ كل درس ساعةٌ تقريبًا، ويلقي الشيخ درسه بكل هِمَّة ونشاط غير مبالٍ بقِلَّة الحضور. كان الشيخ يترفَّق بطُلَّابه وبالسائلين، ففي إحدى المرات قال أحد التلاميذ عن نفسه: إنه جاهل، فقال له الشيخ: لا تقل ذلك عن نفسك، وفي إحدى المرات وأثناء الدرس مرَّ شخصٌ وسأل الشيخ عن مسألة شرعية، فأجابه الشيخ، ثم أكمل درسه. وفي إحدى المرات طُرِح سؤالٌ في مجلس الشيخ، فبادر أحد التلاميذ وأجاب عن السؤال، ثم اعتذر التلميذ على مبادرته بالجواب في حضرة الشيخ، إلا أن الشيخ لم يُعنِّفْه. كان الشيخ محمد المختار يرحمه الله يتلاطف بالكلام مع تلاميذه، ففي إحدى المرات تناقش اثنان من تلاميذ الشيخ حول حكم خروج الريح من الرجل في المسجد، فالأول يقول بالجواز، والثاني يقول بالتحريم، واحتدم بينهم النقاش، فالتفت الشيخ محمد المختار ناحية الذي يقول بالجواز، وقال له: أخشى أن تُوجبه. كان الشيخ محمد المختار يرحمه الله يوصي تلاميذه بما ينفعهم، ومما قاله في إحدى المرات، قال: لا تصاحب مَنْ يشغلك عن طلب العلم، وكان أحيانًا يُقيم مَأْدُبة طعام لتلاميذه. كان الشيخ محمد المختار يرحمه الله متواضعًا ذا هِمَّة عالية، حريصًا على التعلُّم، وتعليم الناس ما ينفعهم، نحسبه- والله حسيبه- أنه من أهل العلم الأخيار. بقي الشيخ محمد المختار الشنقيطي يرحمه الله في المدينة المنورة حتى تُوفِّي، ودُفِن فيها.
عبق الزُّهور فيما صنَّفه الإمام النَّووي حسب الأيَّام والشُّهور الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فـقد وفَّقني الله تعالى في إفراد بحثٍ عن مصنَّفات الإمام شيخ الإسلام أبي زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّواوي الدِّمشقي (المتوفى 676 هـ) -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- وفق ترتيب السَّنوات، اقتصرتُ فيه على التَّواريخ التي حدَّدها بنفسه أو نصَّ أهل العلم أنَّها من أوائل مصنَّفاته أو أواخرها، سمَّيتُهُ: (التَّرتيب الزَّمني لما صنَّفه الإمام النَّووي) . ثمَّ حثَّني أخي العزيز فضيلة الشَّيخ المحقِّق د. محمَّد بن يوسف الجوراني -جزاه الله خير الجزاء- على إفراد بحثٍ آخر يُراعى فيه ترتيب مصنَّفاته وفق الأيَّام والشُّهور، وما لذلك من فوائد، ومثلُهُ لا أردُّ له طلبًا، فكان هذا الجهد المتواضع الذي أمام ناظرَيك. وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة . أوَّلًا: مصنَّفات الإمام النَّووي حسب الأيَّام: 1-السَّبت: 1) «إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق صلَّى الله عليه وسلَّم» المعروف اختصارًا بـ:«الإرشاد»: فرغ منه: ظهر يوم السَّبت 11 من شهر رمضان سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. 2/3) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الثَّاني: صبيحة يوم السَّبت نصف ذي القعدة سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. وفرغ من تصنيف جزئه الثَّالث: يوم السَّبت 6 من شهر ذي الحجَّة سنة 663هـ، وعمره وقتها 32 عامًا، ومات ولم يتمَّ الكتاب. 4) «التَّرخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزيَّة من أهل الإسلام على جهة البر والتَّوقير والاحترام لا على جهة الرِّياء والإعظام»: فرغ منه: آخر يوم السَّبت 22 من شهر جمادى الأولى سنة 665 هـ، وعمره وقتها 34 عامًا. 2-الأحد: 1) «روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين»: فرغ منه: يوم الأحد 15 من شهر ربيع الأوَّل سنة 669هـ ، وعمره وقتها 38 عامًا. 2) «المنسك الخامس»: فرغ منه: يوم الأحد 27 من شهر رجب سنة 673 هـ ، وعمره وقتها 42 عامًا. 3) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: فرغ إلى آخر كتاب صلاة المسافرين وقصرها: يوم الأحد 15 من شهر ربيع الآخر سنة 672 هـ، وعمره وقتها 41 عامًا. 3-الاثنين: 1) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الخامس: يوم الاثنين 28 من شهر الله المحرَّم سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا، ومات ولم يتمَّ الكتاب. 2/3/4/5/6) «تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة وإيضاح حِكَمها واستنباط معانيها البارزة والخفيَّة التي تضمَّنها صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: ابتدأ في تصنيف جزئه الأوَّل: يوم الاثنين 16 من شهر رمضان سنة 664هـ. وفرغ من تصنيفه: يوم الاثنين 23 من شهر رمضان سنة 664هـ. وابتدأ في تصنيف جزئه الثَّاني في نفس التَّاريخ ، وعمره وقتها 33 عامًا. وفرغ من تصنيفه: يوم الاثنين 12 من شهر ربيع الآخر سنة 665 هـ. وابتدأ في تصنيف جزئه الثَّالث في نفس التَّاريخ ، وعمره وقتها 34 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 7) «بستان العارفين»: بدأ فيه: يوم الاثنين 28 من شهر ربيع الأوَّل سنة 665 هـ، وعمره وقتها 34 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 8) «رياض الصَّالحين من كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّد العارفين»: فرغ منه: يوم الاثنين 4 من شهر رمضان سنة 670 هـ، وعمره وقتها 39 عامًا. 9/10/11) «المجموع في شرح المهذَّب» (المتوسِّط): فرغ من باب الإحرام يوم الاثنين تاسع شوَّال سنة 673 هـ، وفي ذلك اليوم بدأ بباب صفة الحجّ، وعمره وقتها 42 عامًا . وختم رُبع العبادات يوم الاثنين 24 من شهر ربيع الأوَّل سنة 674 هـ، وعمره وقتها 43 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 12/13/14) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: بدأ فيه: أوَّل يوم الاثنين 3 من شهر رجب سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا. وبدأ في كتاب الجمعة: يوم الاثنين 16 من شهر ربيع الآخر سنة 672 هـ، وعمره وقتها 41 عامًا. وفرغ منه: أوَّل يوم الاثنين 23 من شهر جمادى الأولى سنة 675 هـ ، وعمره وقتها 44 عامًا . 4-الثُّلاثاء: 1) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الأوَّل: يوم الثُّلاثاء 4 من شهر ذي القعدة سنة 663هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. 2) «مختصر التِّبيان في آداب حملة القرآن»: فرغ منه: ليلة الثُّلاثاء 8 من شهر ربيع الآخر سنة 666 هـ ، وعمره وقتها 35 عامًا. 5-الأربعاء: 1) «الإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات»: فرغ منه: ليلة الأربعاء 20 من شهر شعبان سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . 2) «المجموع في شرح المهذَّب»: بدأ في باب الأذان: يوم الأربعاء 27 من المحرَّم سنة 671 هـ، وعمره وقتها 40 عامًا . 3) «تحرير ألفاظ التَّنبيه»: فرغ منه: يوم الأربعاء 25 من شهر ذي الحجَّة سنة 671 هـ ، وعمره وقتها 40 عامًا. 6-الخميس: 1) «المجموع في شرح المهذَّب» (المبسوط): بدأ فيه: آخر يوم الخميس 8 من شهر شعبان سنة 662 هـ، وعمره وقتها 31 عامًا. 2) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: وفرغ من تصنيف جزئه الرَّابع: ليلة الخميس 3 من شهر الله المحرَّم سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا. 3/4) «التِّبيان في آداب حملة القرآن»: بدأ فيه: يوم الخميس 12 من شهر ربيع الأوَّل سنة 666 هـ. وفرغ منه: صبيحة يوم الخميس 3 من شهر ربيع الآخر من السَّنة نفسها ، وعمره وقتها 35 عامًا. 5) «مختصر التِّبيان في آداب حملة القرآن»: بدأ فيه: يوم الخميس 3 من شهر ربيع الآخر سنة 666 هـ ، وعمره وقتها 35 عامًا. 6) «روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين»: بدأ فيه: يوم الخميس 25 من شهر شعبان سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا. 7) «حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار» المعروف اختصارًا بـ:«الأذكار»: بدأ فيه: يوم الخميس 24 من شهر رمضان سنة 666 هـ ، وعمره وقتها 35 عامًا. 8) «الأربعين في مباني الإسلام وقواعد الأحكام» المعروف اختصارًا بـ: «الأربعين النَّوويَّة»: فرغ منه: ليلة الخميس 29 من شهر جمادى الأولى 668 ه، وعمره وقتها 37 عامًا . 9) «منهاج الطَّالبين»: فرغ منه: يوم الخميس 19 من شهر رمضان سنة 669 هـ، وعمره وقتها 38 عامًا. 10) «الإملاء شرح حديث إنَّما الأعمال بالنَّيَّات»: بدأ فيه: يوم الخميس 23 من شهر ربيع الآخر سنة 676 هـ، وعمره وقتها 45 عامًا تقريبًا، وقبل وفاته بثلاثة أشهر. 7-الجمعة: 1 ) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: فرغ إلى آخر كتاب الإيمان: يوم الجمعة 2 من شهر جمادى الآخرة سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا . 2) «الإيضاح في المناسك»: فرغ منه: صبيحة الجمعة 10 من شهر رجب سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . 3) «العمدة في تصحيح خلاف التَّنبيه» : فرغ منه: صبيحة الجمعة 27 من شهر رجب سنة 671 هـ، وعمره وقتها 40 عامًا. ثانيًا: مصنَّفات الإمام النَّووي حسب الشُّهور: 1-المحرَّم: 1/2) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الرَّابع: ليلة الخميس 3 من شهر الله المحرَّم سنة 664 هـ. وفرغ من تصنيف جزئه الخامس: يوم الاثنين 28 من شهر الله المحرَّم سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا، ومات ولم يتمّه. 3) «حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار» المعروف اختصارًا بـ:«الأذكار»: فرغ منه: في المحرَّم سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا. 4/5/6) «المجموع في شرح المهذَّب» (المتوسط): بدأ في باب الأذان: يوم الأربعاء 27 من المحرَّم سنة 671 هـ، وعمره وقتها 40 عامًا. وختم الجنائز: ضحوة يوم عاشوراء سنة 673 هـ، و في نفس التَّاريخ بدأ في كتاب الزَّكاة، وعمره وقتها 42 عامًا . 2-ربيع الأوَّل: 1) «بستان العارفين»: بدأ فيه: يوم الاثنين 28 من شهر ربيع الأوَّل سنة 665 هـ، وعمره وقتها 34 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 2) «التِّبيان في آداب حملة القرآن»: بدأ فيه: يوم الخميس 12 من شهر ربيع الأوَّل سنة 666 هـ ، وعمره وقتها 35 عامًا. 3) «روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين»: فرغ منه: يوم الأحد 15 من شهر ربيع الأوَّل سنة 669هـ ، وعمره وقتها 38 عامًا. 4) «المجموع في شرح المهذَّب» (المتوسط): ختم رُبع العبادات: يوم الاثنين 24 من شهر ربيع الأوَّل سنة 674 هـ، وعمره وقتها 43 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 3-ربيع الآخر: 1/2 ) «تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة وإيضاح حِكَمها واستنباط معانيها البارزة والخفيَّة التي تضمَّنها صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيفه جزئه الثَّاني: يوم الاثنين 12 من شهر ربيع الآخر سنة 665 هـ، وبدأ في تصنيف جزئه الثَّالث في نفس التَّاريخ ، وعمره وقتها 34 عامًا، ومات ولم يتمَّه. 3) «التِّبيان في آداب حملة القرآن»: فرغ منه: صبيحة يوم الخميس 3 من شهر ربيع الآخر سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا. 4/5) «مختصر التِّبيان في آداب حملة القرآن»: بدأ فيه: يوم الخميس 3 من شهر ربيع الآخر سنة 666 هـ. وفرغ منه: ليلة الثُّلاثاء 8 من شهر ربيع الآخر من السنة نفسها ، وعمره وقتها 35 عامًا. 6) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: فرغ إلى آخر كتاب صلاة المسافرين وقصرها يوم الأحد 15 من شهر ربيع الآخر سنة 672 هـ، وبدأ في كتاب الجمعة في اليوم الذي يليه ، وعمره وقتها 41 عامًا . 7) «الإملاء شرح حديث إنَّما الأعمال بالنَّيَّات»: بدأ فيه: يوم الخميس 23 من شهر ربيع الآخر سنة 676 هـ، وعمره وقتها 45 عامًا تقريبًا، وقبل وفاته بثلاثة أشهر. 4-جمادى الأولى: 1) «التَّرخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزيَّة من أهل الإسلام على جهة البر والتَّوقير والاحترام لا على جهة الرِّياء والإعظام»: فرغ منه: آخر يوم السَّبت 22 من شهر جمادى الأولى سنة 665 هـ، وعمره وقتها 34 عامًا. 2) «الأربعين في مباني الإسلام وقواعد الأحكام» المعروف اختصارًا بـ: «الأربعين النَّوويَّة»: فرغ منه: ليلة الخميس 29 من شهر جمادى الأولى 668 ه، وعمره وقتها 37 عامًا . 3) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: فرغ منه: أوَّل يوم الاثنين 23 من شهر جمادى الأولى سنة 675 هـ ، وعمره وقتها 44 عامًا . 5-جمادى الآخرة: 1) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: فرغ إلى آخر كتاب الإيمان: يوم الجمعة 2 من شهر جمادى الآخرة سنة 666 هـ ، وعمره وقتها 35 عامًا . 6-رجب: 1) «منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري»: بدأ فيه: أوَّل يوم الاثنين 3 من شهر رجب سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا . 2) «الإيضاح في المناسك»: فرغ منه: صبيحة الجمعة 10 من شهر رجب سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . 3) «العمدة في تصحيح خلاف التَّنبيه» : فرغ منه: صبيحة الجمعة 27 من شهر رجب سنة 671 هـ، وعمره وقتها 40 عامًا. 4) «المنسك الثَّالث»: فرغ منه: في شهر رجب سنة 673 هـ ، وعمره وقتها 42 عامًا. 5) «المنسك الخامس»: فرغ منه: يوم الأحد 27 من شهر رجب سنة 673 هـ ، وعمره وقتها 42 عامًا. 7-شعبان: 1) «المجموع في شرح المهذَّب» (المبسوط): بدأ فيه: آخر يوم الخميس 8 من شهر شعبان سنة 662 هـ، وعمره وقتها 31 عامًا. 2) «روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين»: بدأ فيه: يوم الخميس 25 من شهر شعبان سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا. 3) «الإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات»: فرغ منه: ليلة الأربعاء 20 من شهر شعبان سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . 8-رمضان: 1) «إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سنن سيِّد الخلائق صلَّى الله عليه وسلَّم» المعروف اختصارًا بـ:«الإرشاد»: فرغ منه: ظهر يوم السَّبت 11 رمضان سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. 2/3/4) «تلخيص شرح الأحاديث النَّبويَّة وإيضاح حِكَمها واستنباط معانيها البارزة والخفيَّة» التي تضمَّنها صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري: بدأ في جزئه الأوَّل: يوم الاثنين 16 رمضان سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا. وفرغ من جزئه الأوَّل: يوم الاثنين 23 رمضان سنة 664 هـ، وبدأ في جزئه الثَّاني في نفس التَّاريخ، وعمره وقتها 33 عامًا. 5) «حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار» المعروف اختصارًا بـ:«الأذكار»: بدأ فيه: يوم الخميس 24 رمضان سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا . 6) «منهاج الطَّالبين»: فرغ منه: يوم الخميس 19 رمضان سنة 669 هـ، وعمره وقتها 38 عامًا. 7) «رياض الصَّالحين من كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّد العارفين»: فرغ منه: يوم الاثنين 4 من شهر رمضان سنة 670 هـ، وعمره وقتها 39 عامًا. 8) «الإيجاز في المناسك»: فرغ منه: في أواخر شهر رمضان سنة 670 هـ، وعمره وقتها 39 عامًا . وقد أفردتُ ما اعتنَى به في هذا الشَّهر الفضيل في بحثٍ مستقلٍّ سمَّيتُهُ: (التِّبيان لما صنَّفه الإمام النَّووي أو قُرئ عليه في شهر رمضان) . 9-شوَّال: 1) «المجموع في شرح المهذَّب» (المتوسط): ختم باب الإحرام: يوم الاثنين 9 من شهر شوَّال سنة 673 هـ، وفي ذلك اليوم بدأ بباب صفة الحجّ، وعمره وقتها 42 عامًا . 10-ذو القعدة: 1/2) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الأوَّل: يوم الثلاثاء 4 من شهر ذي القعدة سنة 663 هـ. وفرغ من تصنيف جزئه الثَّاني: صبيحة يوم السَّبت نصف ذي القعدة سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. 11-ذو الحجَّة: 1) «تلخيص شرح الألفاظ والمعاني ممَّا تضمَّنه صحيح الإمام أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري»: فرغ من تصنيف جزئه الثَّالث: يوم السَّبت 6 من شهر ذي الحجَّة سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. 2) «تحرير ألفاظ التَّنبيه»: فرغ منه: يوم الأربعاء 25 من شهر ذي الحجَّة سنة 671 هـ ، وعمره وقتها 40 عامًا. ♦    ♦    ♦ وفيما تقدَّم عدَّة فوائد، منها: 1- يُعدُّ استثمار الأعمار وتحرِّي الأزمنة الفاضلة من السَّاعات: كالصَّباح والضُّحى والمساء، والأيَّام: كالاثنين والخميس والجمعة وعاشوراء، والأشهر: كأشهر الحرُم وأشهر الحج، بالتَّصنيف ونحوه من أفضل الأعمال الصَّالحة التي يتقرَّب بها طالب العلم إلى الله سبحانه، وممَّا ينفعه في دينه ودنياه وآخرته. 2- أهمية العناية بتأريخ التَّصانيف ابتداءً وانتهاءً بالسَّاعة واليوم والشَّهر والسَّنة، فهي ممَّا تُبرز المراحل التي مرَّ بها المصنِّف، وتقوِّي صحَّة النِّسبة إليه، ويعلم بها المتقدِّم من المتأخِّر من مصنَّفاته ومباحثه وما يترتَّب عليه، وترفع بعض الإشكالات الواردة. 3- رفعُ همَّة طالب العلم في استمراريَّة عطائه وديمومة بذل العلم النَّافع بالتَّصنيف ونحوه طوال الأيَّام والشُّهور والسِّنين. 4- الوقوف على شيء من أسرار القَبول الذي كتبه الله تعالى لمصنَّفات الإمام النَّووي، فتجده يُصنِّف بلا كلل ولا ملل: صباحًا، وضحًى، وظهرًا، وآخر النَّهار، ومساءً، وسائر أيَّام الأسبوع، والشُّهور-سوى صفر-. هذا والله أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الفقيهة الأصولية الدكتورة زينب بنت عبد السلام أبو الفضل تاريخنا الإسلامي العريق - في علمه وعمله - مليءٌ بالنماذج النسائية الراسخة تأصيلًا ومواكبة للمستجدات والنوازل، فأمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - في الذِّروة العالية من التأصيل الفقهي، والعلم بالسنة النبوية العملية في أخص الخصوصيات بوصفهنَّ الزوجات الطاهرات، وبثهنَّ هذا العلمَ، ولا غَرْوَ فهنَّ للمؤمنين والمؤمنات أمهات. وتأتي في مقدمتهنَّ أم عبد الله الصديقة بنت الصديق، لِما توافر لها من أسباب الذيوع العلمي ومؤهِّلات النظر الفقهي السديد، ومن أراد جَلِيَّةَ أمرِها ومقدارَ علمها، فليستنطق أمَّات الكتب ومعتمدات المصادر أخبارَها وعباراتِها الرائقةَ في بيان مناقب الصديقة ومميزاتها في الفهم التامِّ وثقابة النظر. وتمتد السلسلة العلمية الطاهرة على مرِّ العصور وكرِّ الدهور، مُسجلةً بصماتٍ علميةً رائدةً، وآثارًا تكتب بالتِّبر لا بالحبر. وإن لفقيهتنا - التي أنشأنا هذه المقالة؛ لنتناول طَرَفًا من منهجها ونبذًا يسيرة من تحريرها العلميِّ الممتد - موقفًا طريفًا مع والدها فضيلة الشيخ العالم الجليل الولي الصالح عبد السلام أبو الفضل -رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس - يتمثل في ترديده - رحمه الله - على مسامع ابنته الفقيهة الأصولية الأستاذة الدكتورة زينب عبد السلام أبو الفضل - أمد في الطاعة والمعافاة مدتها - نبأَ الفقيهة العالمة زينب السمرقندية ابنة الفقيه الحنفي الكبير علاء الدين السمرقندي، وزوجة ملك العلماء الكاساني الفقيه الحنفي صاحب الكتاب السَّيَّار "بدائع الصنائع"، والسؤال الذي يُلِحُّ على ذهن القارئ: هل أثمر النبأُ ثماره اليانعة؟ وهل أنتج التذكيرُ بالفقيهة السمرقندية نتاجه؟ والجواب الذي لا جواب إلا هو: أَجَلْ، لقد كانت السمرقنديةُ إلهامًا لفقيهة العصر ونبراسًا لها، فقد حازت أستاذتنا زينب أعلى لقب علميٍّ يعرفه العالم الآن لقب بروفيسور (أ. د). ولا ينبغي أن يفوتني أن أنوِّه إلى أن فقيهتنا زوجةُ الفقيه الأصولي ذي الصيت العالم الجليل الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الحفناوي - حفظهما الله تعالى. ولست ممن تستهويه الألقاب دون ما أدى إليه من عِلْمٍ ونتاج علمي يُعجب الدارسين ويَسُرُّ الناظرين، نعم لقد أخرجت فقيهتنا للأمة مؤلفات فقهية ومصنفات شرعية لها وزنها وثقلها العلمي في الأوساط الفقهية والمجامع العلمية. أذكر منها بعضها مما يحضرني: المغتصبة وأحكام السَّتر عليها في الفقه الإسلامي، وواقع الفتاوى المعاصرة في ضوء مقاصد الشريعة، وقواعد التعايش السلمي، واختلاف الفتوى، والنص القرآني والأحرف السبعة، علاوة على رسالتي التخصص والعالِمِيَّة، وغير ذلك من الأبحاث التي لا يسعك إلا أن تسارع إلى قراءتها وتأملها والاستفادة منها. وفي الختام فهذا غيضٌ من فيض، وقليل من كثير، ولعل الله يهيئ لي كتابة واسعة مستفيضة عن أستاذتنا ومعلمتنا في دروب الدراسات العليا ومسالك العلم الممتدة إلى أن تبلغ بنا جنات النعيم بفضل الله رب العالمين.
موقف أهل السنة والجماعة من العقل إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: يُمكن إجمال "مفهوم العقل" لدى أهل السنة فيما يلي [1] : 1- الغريزة المُدرِكة في الإنسان التي بها يعقل ويعلم، وهي فيه؛ كقوة البصر في العين. 2- العلوم الضرورية، وهي التي تشمل جميع العقلاء؛ كالعلم بالممكنات، والواجبات. 3- العلوم النظرية، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال. 4- الأعمال التي تكون بموجب العلم، قال الأصمعي: (العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن) [2] . قال ابن تيمية رحمه الله: (الْعَقْلُ: مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلاً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ لا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلا الْعَمَلُ بِلا عِلْمٍ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ) [3] . وقال ابن القيم رحمه الله: (العقل عقلان: عقل غريزة: وهو أبو العلم ومربيه ومُثمره. وعقلٌ مُكتسب مُستفاد: وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، واستقام له أمره، وأقبلت عليه جيوش السعادة من كل جانب) [4] . منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال العقلي: جاء موقف أهل السنة والجماعة من العقل والاستدلال العقلي على مدار العصور وسطاً بين موقِفَين متواجدين أيضاً على مدار العصور، والفارق بين أهل السنة وغيرهم: هو بقاء أهل السنة واستمرارهم وبقاء منهجهم مُطَّرِداً، أمَّا غيرهم فقد تغيَّروا وتغيَّرت أسماؤهم على مدار التاريخ، فليس لهم من الثبات والبقاء ما لأهل السنة والجماعة. وأمَّا عن المَوْقِفين المُنحرِفين عن الجادة، فأحدُهما مُغَالٍ إلى أقصى درجات الغلو في تمجيد العقل وإعلاء شأنه وتقديمه على غيره، حتى وصل بهم الأمر إلى جعله حاكماً على النَّص المُقدَّس. والآخَرُ مُفْرِطٌ إلى أقصى درجات التفريط، حيث ألغى العقلَ وهمَّشَ دورَه وأسلم نفسَه إلى الخرافات والأهواء والبدع والضَّلالات تعبث به وبدينه. وهذان المَوقِفان كانا ولا يزالان في صراعٍ شديد مع أهل السنة والجماعة؛ إذ إنَّ كُلاًّ منهما يرى في أهل السنة عَدُوَّه الأوَّل، وليس هذا إلاَّ لما يملكه أهل السنة من حُجَّةٍ وبرهان على صحة منهجهم وقوة مذهبهم. وهذا الموقف الوسط عند أهل السنة ليس توليفاً بين موقفين، وإنما هو الموقف المُتَّزن بميزان الشرع؛ لذا جاء وسطاً معتدلاً مُتَّسِقاً، لا تناقضَ فيه ولا تعارض. أمَّا عن المَوقِفين المُنحرفَين عن جادة الصواب، فهما: الأوَّل : أهل الكلام؛ كالفلاسفة والمعتزلة الذين غالوا في تقديس العقل، وجعلوه الأصل لعلومهم ومعارفهم، وقدَّموه على الوحي، بل جعلوه حاكماً على النقل والشرائع، ومع ذلك هم مُتفاوتون فيما بينهم في درجة هذا الغلو، وكذلك ينضم إليهم أصحاب المدرسة العقلانية الحديثة ومَنْ سار على دربها، على تفاوتٍ فيما بينهم من حيث درجة الغلو والانحراف كذلك. الثاني : الخرافيون؛ كغلاة الصوفية والرافضة؛ الذين ذمُّوا العقل وعطَّلوه وأهملوه ولم يلتفتوا إليه، واعتقدوا ما لا يُعقل من الحماقات والخرافات، وكذا مَنْ سار على هديهم من أصحاب الطُّرق الصُّوفية الحديثة والدَّجالين والمُشعوذين وأصحاب الفِرق والمذاهب المُستحدثة؛ كالبهائية والبابية والقاديانية وغيرها، الذين ألغوا العقل، وأسلموا أنفُسَهم للخرافة والبدعة والجهل. أمَّا أهل السنة فكانوا وسطاً في هذا الباب، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف؛ فقد أخذوا بالنظر العقلي الذي أمرت به الشريعة؛ من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر ونحوه، لكنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطلٍ في النظر والاستدلال، فشنَّع عليهم أهل الكلام؛ معتقدين أنَّ هذا الإنكار مستلزِمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال. يقول ابن تيمية رحمه الله - في معرض ذبِّه عن أهل السنة ودفعِ ما يتَّهمهم فيه أهل الكلام بأنهم مُعرِضون عن النظر العقلي بالكلية: (وَمِنْ الْعَجَب: أَنَّ أَهْلَ الْكَلامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ تَقْلِيدٍ، لَيْسُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلالٍ، وَأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ حُجَّةَ الْعَقْل، وَرُبَّمَا حُكِيَ إنْكَارُ النَّظَرِ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَهَذَا مِمَّا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِحَقٍّ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لا يُنْكِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، هَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي غَيْرِ آيَةٍ، وَلا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَلا أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَائِهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الأمْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ؛ مِنْ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَقَعَ اشْتِرَاكٌ فِي لَفْظِ "النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ" وَلَفْظِ "الْكَلامِ"، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَا ابْتَدَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ بَاطِلِ نَظَرِهِمْ وَكَلامِهِمْ وَاسْتِدْلالِهِمْ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لإِنْكَارِ جِنْسِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلال) [5] . ولأجل هذا نجد ابن تيمية رحمه الله يحتفي كثيراً بما في كلام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من ردودٍ عقلية على الجهمية والزنادقة، في نفيهم لعلوِّ الله تعالى، وقولهم بالحلول [6] ؛ لما في ذلك من دلالة على اهتمام أئمة السلف بدلائل العقول؛ ولما فيه من ردٍّ على مَنْ يتَّهم السلف بالنصية المطلقة، وضعف الحجة العقلية، والاقتصار على السمع. ومن صور تكريم الإسلام للعقل – كما هو مذهب أهل السنة والجماعة – أنْ حدَّد له ميادين يمكنه أن يسير فيها بأمان، بشرط أن يستعملها استعمالاً صحيحاً، إذ عمله خارج مجاله هذا يعرِّضه للخطأ والتخبُّط؛ لأن هناك ميادين لا يدركها العقل؛ كعلم الغيب مثلاً، وهناك ميادين لا يدرك العقل حِكَمَها وعِلَلَها على وجه الحقيقة؛ كالعبادات. وإنَّ كثيراً من أرباب المذاهب الفلسفية والكلامية الذين أرادوا تمجيد العقل والرفع من شأنه - بزعمهم - أساؤوا إليه أيَّما إساءة؛ حيث أوغلوا في مفاوز لا يهتدي فيها على سبيل، حتى صار أحدهم يأتي بالحُكم ونقيضِه، وإنْ أصاب مرةً تعثَّر مرات [7] . ضوابط الاستدلال العقلي عند أهل السنة: من أهم ضوابط الاستدلال العقلي عند أهل السنة: 1- أنَّ العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع؛ إذ العقل (غريزةٌ في النفس وقوةٌ فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتَّصل به نور القرآن والإيمان كان كنور العين إذا اتَّصل به نور الشمس والنار، وإذا انفرد بنفسه لم يُبصر الأمورَ التي يعجز وحده عن دركها) [8] . 2- تقديم "النقل" على "العقل" عند توهُّم التعارض، فالعقل مصدِّق للشرع في كل ما أخبر به، دال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة عامة مطلقة؛ بل يقال إنَّ العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم في خبره عن الله تعالى الذي لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أَولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يُخالفه [9] . والعقل لا يمكن أنْ يُعارِض الكتاب والسنة؛ لأنَّ "العقل الصريح" لا يُخالف "النقل الصحيح" أبداً، فلا يصح أنْ يُقال: إنَّ العقل يُخالف النقل، ومن ادَّعى ذلك فلا يخلو من أمور [10] : 1- أنَّ ما ظنَّه معقولاً ليس معقولاً، بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك. 2- أنَّ ما ظنَّه سمعاً ليس سمعاً صحيحاً مقبولاً؛ إما لعدم صحة نسبته، أو لعدم فهم المراد منه على الوجه الصحيح. 3- أنه لم يُفرِّق بين ما يُحيله العقلُ وما لا يُدركه؛ فإن الشرع يأتي بما يعجز العقلُ عن إدراكه، لكنه لا يأتي بما يعلم العقل امتناعه. قال ابن القيم رحمه الله: (وقد كان السلف الطَّيِّب يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحدٍ من الناس كائناً مَنْ كان، ويهجرون فاعلَ ذلك، ويُنكرون على مَنْ يَضرب له الأمثال، ولا يُسوِّغون غير الانقياد له والتسليم، والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقُّف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قولَ فلانٍ وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]) [11] . الفرق بين أهل السنة وغيرهم في إعمال العقل: وتجدر الإشارة إلى أنَّ الخلاف القائم بين أهل السنة وغيرهم في مسألة "العقل والاستدلال العقلي" إنما مرجعها إلى مسألة: أيهما أَولى بالتقديم؛ العقل أم النقل؟ فأصحاب المدرسة العقلية - التي غالت في العقل ووثقت به ثقةً مطلقة: قدَّمت العقل على النقل وعلى سائر الأدلة، بينما أهل السنة: قدَّموا النَّقل على العقل، وجعلوه حاكماً عليه. وليس أدل على رحابة أهل السنة وتوسُّعِهم في استعمال العقل؛ من تلك المؤلَّفات التي لا حصر لها في الفقه وأصوله، بل حتى في السنة وعلومها؛ إذْ كيف يتسنَّى لهم هذا الانتاج العلمي الغزير دون إعمالهم للعقل أبلغ إعمال. بينما لو نظرنا إلى أصحاب الفِرق والمذاهب الأخرى، فباستقراء تاريخهم وتاريخ مذاهبهم نجد فقراً مدقعاً في نتاجهم العلمي حتى فيما يتَّصل بالعقل، ولسنا بحاجة إلى أنْ يُلبِّس أحدهم علينا زاعماً ضياع تراثهم وفقدانه، إذ كيف يكون ذلك؟ وأين مَن اعتنق هذا الفِكرَ على مدار الأعصر والأزمان؟ ألم يكن لهم القدرةُ على حفظ تُراثهم وفكرهم؟ فإذا قيل: حرقت كتبهم، قلنا: إنَّ ما حدث من مثل تلك الحوادث من إحراق الكتب إنما هي حوادث فردية شاذَّة لا ترقى أنْ تكون ظاهرةً عامة تتمكَّن من ابتلاع تراثهم بكامله، وكذا نقول لهم: فإنَّ ما فُقِدَ من كتب علماء أهل السنة أضعاف ما فُقِدَ وضاع من كتبهم، ومع ذلك بقي تراثهم ونتاجهم شاهداً على غزارة علمهم وانتشار فكرهم. ولكن الحقيقة التي لا يُناقضها شيء هو أنَّ العقل له حدود يصل عندها ولا يمكنه تجاوزها، فإذا ما أفرغ ما لديه من تصورات عجز عن الاستمرار والإتيان بجديد، فيقف عن الإبداع وهذا مُشاهَد في إبداعات الفلاسفة والمفكِّرين، حيث يصلون إلى مرحلةٍ مَّا، وبعدها يُفلِسون ولا يأتون بجديد، أمَّا النص، فدائماً عطاؤه لا حدَّ له. [1] انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان بن علي حسن (1/ 158). [2] المخصص، ابن سيده (1/ 16). [3] مجموع الفتاوى، (9/ 286-287). [4] مفتاح دار السعادة، (ص 117). [5] مجموع الفتاوى، (4/ 55-56). [6] انظر: بيان تلبيس الجهمية، (2/ 535). [7] انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، (1/ 168)؛ التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، د. عايض بن عبد الله الشهراني (1/ 129)؛ تجديد الدين لدى الاتجاه  العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 37، 40). [8] مجموع الفتاوى، (3/ 338). [9] انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/ 138)؛ الصواعق المرسلة، (3/ 808). [10] انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/ 78)؛ مجموع الفتاوى، (3/ 339)؛ الصواعق المرسلة،    (2/ 459). [11] إعلام الموقعين، (4/ 244-245).
إسلام حمزة بن عبدالمطلب والجهر بالقرآن حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله وأسد رسوله، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وُلد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل: بأربع سنوات، كان محاربًا قويًّا مقدامًا، وراميًا ماهرًا؛ لذلك كثيرًا ما كان يخرج للصيد. كان سبب إسلامه أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدِينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مولاة لعبدالله بن جدعان في مسكن لها تسمع ما قاله أبو جهل وما فعله، وانصرف أبو جهل وجلس في نادٍ لقريش عند الكعبة، وفي هذه الأثناء عاد حمزة من الصيد متوشحًا قوسه، وكان من عادته أنه إذا عاد من قنص أن يطوف بالكعبة، ثم يمر بنوادي قريش في طريقه إلى بيته، فيسلم عليهم ويقف ليتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، فلما مر بمولاة عبدالله بن جدعان قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزةَ الغضبُ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد - معدًّا لأبي جهل أن يوقع به - فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتم محمدًا وأنا على دِينه أقول ما يقول؟ فرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت، فقام رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه وعلى متابعة رسول الله، فلما أسلم حمزة عرفَتْ قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. وأما عبدالله بن مسعود فقد كان من الجرأة بمكان بالرغم من ضعف جسمه وصغر حجمه؛ فقد كان شجاعًا وجريئًا قل نظيره، وفي أحد الأيام تدارس عدد من الصحابة - وهم في دار الأرقم - أمر قريش وما تفعله بالمسلمين من إيذاء وتنكيل، فقال بعضهم لبعض: ما سمعت قريش القُرْآن يجهر لها به، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: نخشى عليك؛ إنما نريد من له عشيرة يمنعونه، قال: إن الله سيمنعني، فغدا عليهم في الضحى حتى أتى المقام وقريش في أنديتها، ثم رفع صوته وقرأ سورة الرحمن، فلما علمت قريش أنه يقرأ القُرْآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم اليوم، ولئن شئتم لأغادينهم، قالوا: حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.
إبراز جهود الحاجب المنصور في تنظيم الجيش من خلال قراءة في كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" للدكتور علي بن غانم الهاجري يُعدُّ كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" من الكتب المهمة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في شهر مارس من العام الجاري 2022؛ حيث سعى المؤلف إلى إبراز جهود أحد أهم شخصيات الأندلس الذي لعب دورًا محوريًّا في بنائها السياسي والاقتصادي، والأمني والثقافي، والمعماري وغيرها؛ ألا وهو الحاجب المنصور، وقد بلغ عددُ صفحات الكتاب 262 صفحةً، أما مؤلف الكتاب، فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري الدبلوماسي القطري، وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية القيِّمة؛ من أهمها: "السلطنة الجبرية"، و"إمبراطور الشرق تشودي"، و"تشنغ خه إمبراطور البحار الصيني"، كما ظهر له مؤخرًا كتاب بعنوان: "أسطورة إفريقيا الشيخ عثمان بن فودي". ويهدِف هذا المقال إلى إبراز جهود الحاجب المنصور في إعادة تنظيم الجيش، على ضوء ما ورد في الفصل الخامس من كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس". مكانة الحاجب المنصور في تاريخ الأندلس: يُعَدُّ الحاجب المنصور من مشاهير القادة والفرسان عبر مراحل التاريخ الإسلامي، فهو قائد يتشابه مع أولئك القادة الذين أبرزتهم الحروبُ الصليبية في المشرق الإسلامي؛ أمثال: صلاح الدين الأيوبي، والمظفَّر قطز، والظاهر بيبرس، وأحمد بن قلاوون، وسواهم ممن سجَّلوا أسماءهم في سجل الخالدين من مشاهير المسلمين، الذين يتلألؤون كالنجوم تهدي المسلمين وتُضيء سماءهم، كلما أظلمت الدنيا، وعظُمتِ الخُطُوب، بل إن القائد الحاجب المنصور يتميز عن غيره من قادة الإسلام الذين ظهروا على مسرح الأحداث في حِقب تاريخية مختلفة؛ فالحاجب المنصور يبقى نسيجَ وحدِهِ، ينفرد بخصائصه وصفاته عن بقية القادة والفرسان؛ لذا فهو لا يشبه أحدًا من القادة غير قادة الرعيل الأول من القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي [1] . الحاجب المنصور وجهوده في تنظيم الجيش: أشار مؤلف كتاب "الحاجب المنصور" إلى أن الأندلس قد بلغت في عهد الحاجب المنصور أوْجَ قوتها العسكرية، وذلك بفضل القوة العسكرية الهائلة التي كوَّنها الحاجب المنصور، حتى إن الأندلس لم تعرف مثل هذه القوة في أيِّ عصر سابق أو لاحق، حتى إنه لا يكاد يقف في طريقها أحد؛ لذلك استطاع الحاجب المنصور أن يقيم الهيبةَ للدولة، ودانت له أقطار الأندلس، ولم يضطرب عليه شيء منها أيام حياته، كما أن ما وصلت إليه بلاد الأندلس في عهد الحاجب المنصور من تقدم وازدهار حضاري يعود إلى مجموعة من العوامل؛ من أهمها: امتلاكه لمؤسسة عسكرية منظمة؛ كانت أساسًا في قوة الدولة وازدهارها، كما استطاع بهذه المؤسسة أن يحقق كل آماله وطموحاته في التوسع، واكتسبت بلاد الأندلس هيبةً سياسية كبرى، وقوة عسكرية يُعتَدُّ عليها [2] . إن أول اهتمامات الحاجب المنصور كان قضية بناء جيش قويٍّ متماسك، يتناسب قوة وعددًا مع ما كان يجول في خاطره، ومع ما كان يريده لدولته في الأندلس من رفعة ومنعة؛ لذلك، فقد وضع الخطط لإعادة بناء الجيش على أسس جديدة تعتمد على التجارب السابقة، والعمل على إدخال طرائق إدارية جديدة، يكون لها دور في تحديث نظام الجيش؛ لذلك أعاد الحاجب المنصور تنظيم الجيش تنظيمًا عسكريًّا، يحقق الوحدة والتجانس، ويقضي على العصبية، ويبني جيشًا منظمًا جديدًا على أنقاض النظام العسكري السابق، خلاصة القول: لقد استطاع الحاجب المنصور من تكوين جيش قويٍّ كان عماد السلطان والدولة، يدين للحاجب المنصور بمنتهى الولاء والإخلاص، وقاده إلى ميادين النصر لمدة خمسة وعشرين عامًا [3] . عناصر الجيش وأعداده وأقسامه: 1- عناصر الجيش: اعتمد الحاجب المنصور في الجيش على القوات البربرية والصَّقَالبة، والعرب المتطوِّعة، حيث طعَّم الجيش برجال زناتة والبرابرة، وأخَّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، كما أمدَّ جيشه بالرقيق، واستكثر من العُلُوج والعبيد، وكان الحاجب المنصور يسعى من هذه السياسة إلى خلق توازنات بين الجماعات الموجودة في الأندلس، فنجحت هذه السياسة، واستطاع السيطرة على الوضع القائم باعتماده على التوازنات الموجودة؛ بحيث لا تطغى فئة على فئة أخرى [4] . 2- أعداد الجيش: بيَّن مؤلف كتاب "الحاجب المنصور" بأن الحديث عن أعداد أيِّ جيش من جيوش الدول في العصر الإسلامي أمرٌ بالغ الصعوبة؛ لأن المصادر لم تعطِ إحصائيات لعدد الجيش كاملًا، كما أن أعداده تتغير بين مدة وأخرى؛ نتيجة لسياسة الدولة أو سياسة قائد الدولة تجاه ذلك أو غير ذلك، ومع ذلك، فقد ذكرت لنا الروايات التاريخية أعدادًا مختلفة لعدد الجيش المرابط (الثابت) بلغ في عهده من الفرسان اثني عشر ألفًا ومائة فارس من سائر الطبقات، جميعهم مرتزقون (يستلمون مرتبات) في الديوان، يُصرَف لهم السلاح والنفقة والعلوفة، كما كان عدد الحرس الخاص ستمائة فارس غير الأتباع، وانتهى عدد الرجالة في الجيش المرابط إلى ستة وعشرين ألف راجل، ولكن على ما يبدو فإن هذا العدد كان في بداية عهده؛ لذلك عمل الحاجب المنصور على زيادة أعداد جيشه، كما كان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، فقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفًا، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو يزيد [5] . 3- أقسام الجيش: ينقسم الجيش في عهد الحاجب المنصور بحسب تنظيمه في الغالب إلى ثلاثة أقسام؛ وهي [6] : أ‌- الجيش النظامي: وهم الجند المُثْبتون في ديوان الجيش والذين يتلقون رواتبَ منتظمة؛ لِما يقومون به من خِدْمَاتٍ عسكرية منتظمة وثابتة، ومن المحتمل أن هناك مجموعةً من الشروط التي يجب أن تتوافر في الشخص الذي يريد الالتحاق بالخدمة العسكرية في الجيش النظامي. ب‌- جيش المتطوعة: يمثِّل جيش المتطوعة المقاتلة غير المدونين في سجلات ديوان الجيش، ولا يتقاضَون على خدمتهم أجورًا ثابتة، بل هم متطوعة ينضمون إلى الجيش النظامي تلبية لنداء الدولة؛ تدعيمًا لجيشها النظامي عند الحاجة، ويتكون هذا الجيش من القبائل والبدو وسكان المدن الذين كانوا يشتركون في الحروب. صنوف الجيش: تنقسم صنوف جيش الحاجب المنصور بحسب المهام التي تؤديها إلى قسمين رئيسين؛ هما: الصنوف المقاتلة، والصنوف المساعدة، وكل صِنف من هذين الصِّنفين ينقسم إلى أقسام فرعية؛ وبيان ذلك كالآتي: 1- الصنوف المقاتلة: تنقسم صنوف الجيش المقاتلة في عهد الحاجب المنصور كما هي الحال في عهود من سبقه من أمراء وخلفاء بني أمية أو الجيوش الإسلامية بصفة عامة - إلى صنفين أساسيين؛ هما: الفرسان؛ الذين يُعدُّون من الصنوف الفاعلة في كل موقعة من المواقع، والمشاة؛ الذين يمثِّلون القوة الضاربة في الجيش الإسلامي بصفة عامة، والفرسان هم الذين يمتطُون الخيول في أثناء القتال، ويشكِّلون العمود الفَقْرِي لجيش الحاجب المنصور، والصِّنف الرئيس في الحروب، وأكثرها فتكًا ومَضاء في ميدان القتال، أما الرجَّالة أو المشاة فهم الذين يقاتلون راجلين أو مشاة، وكانوا يشكِّلون القوة العظمى للجيوش، ويقع على عاتقهم العبء الأكبر، وكانوا يتسلحون بالسيوف والرماح والحِراب والقِسيِّ والسهام، ويلبسون الجُنَنَ الواقية [7] . 2- الصنوف المساعدة: يقصد بالصنوف المساعدة الصنوف التي تقدِّم الخدماتِ المهمة للجيش؛ فمن أهمها: أ‌- الاستخبارات العسكرية (العيون والجواسيس): إن ميدان جمع المعلومات عن الأعداء عُدَّ على مر التاريخ من أهم شواغل ذهن من يقوم بالحرب، وهذا أمر طبيعي مع وجود جيش نظامي له أهداف محددة؛ إذ كيف يستطيع الجيش أن يقوم بتحقيق أهدافه من دون أن تكون تحت تصرفه المعلومات الفعَّالة في جميع الميادين عن أعدائه؟ وقد وُجدت العيون والجواسيس ضمن صنوف الجيش الإسلامي في الأندلس؛ حيث كانت تقوم بنقل المعلومات عن الأعداء إلى القيادة العسكرية للجيش، كما أدَّت هذه الفرقة دورًا كبيرًا في عهد الحاجب المنصور؛ حيث استطاعت تقديم معلومات مهمة لقيادة الجيش، فكان لهذه المعلومات الأثر الكبير في حسم المعارك [8] . ب‌- الموسيقى العسكرية: هي إحدى الفرق العسكرية التي ترافق الجيش في تحركاته، وتعني بيت الطبل، ويشتمل على الطبول وتوابعها من الآلات، وقد كانت هذه الآلات تضرب في أوقات القتال وفي بقية الأيام ثلاث مرات، وبها يُناط حمل رايات الدولة وعلمِها الرسمي؛ أي: إن هذه الفرقة تشبه فرقة الموسيقى العسكرية في الجيوش الحديثة، ومن المجزوم به أنه كلما كثُر عدد الذين يقومون بقرع الطبول، زاد الهَلَعُ في جيش العدو؛ لهذا فقد حرص الحاجب المنصور في زيادة عدد الذين يقومون بقرع الطبول؛ فقد بلغ عدد الطبَّالين في جيشه مائة وثلاثين فارسًا [9] . ج‌- النقل العسكري: إن عملية نقل الغذاء والأعلاف والأقمشة والعتاد الحربي في الحملات العسكرية مهمة شاقة؛ لأن تلك المواد كانت كثيرة جدًّا، حتى إن كل نوع منها يشكِّل مستودعات خاصة، لهذا تطلب الأمر إيجاد وحدة عسكرية تتولى هذه المهمة، لها وسائلها الخاصة في النقل، وطاقم إداري يعمل على تسيير شؤونها، وتمثل البِغالُ والجمال أهم وسائل النقل في جيش الحاجب المنصور، ولما كان جيشه يخرج في غزوات إلى أماكن بعيدة وتستمر مدة زمنية طويلة، كان لزامًا عليه توفير الكثير من المعدات الحربية والتموينية؛ حتى تكفي لمدة زمنية طويلة، وهو الأمر الذي يتطلب توفيرَ عدد كبير من البغال والجمال؛ لذلك فقد كان عدد البغال والجمال التي تشارك في عملية النقل العسكري كثيرًا جدًّا، فقد بلغ عدد البغال الذي كانت تقوم بعملية النقل العسكري في عهد الحاجب المنصور نحو ألف رأس، هذا من غير تلك التي تستخدم لنقل العاملين في وحدة النقل، أما الجمال التي كانت تستعمل في عملية النقل العسكري، فقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خُصِّصت لحمل الأمتعة والأثقال [10] . د‌- التموين العسكري: إن خروج الجيش بالحملات العسكرية المؤلَّفة من الأعداد الكبيرة للجند واستمرارها في السير، والمرابِطة أشهرًا عديدة، كل ذلك يحتاج إلى مؤنٍ ومعدات؛ لذا كان لزامًا على قيادة الجيش أن تتولى مسألة تموين الجيش بما يحتاجه من المؤن والمعدات، التي يجب أن تكون كافية للمدة الزمنية التي يقضيها منذ خروجه من معسكره حتى عودته؛ حيث إن إمداد الجيش بعد انطلاقه أمر صعب؛ نظرًا لابتعاده عن المراكز العسكرية، ونظرًا لاعتماد الجيش في نقل التموين على الحيوانات البطيئة؛ مما يتعذر وصولها في الوقت المناسب، هذا، بالإضافة إلى احتمال قيام الخصم بمحاولة قطع خطوط الإمداد بين الجيش ومركزه، ولقد أثبتت الوقائع الحربية ما للتموين من أهمية ودور في تحديد مصير الحملات العسكرية، خاصة إذا ما عرفنا أن وراء نقص التموين مضرة شديدة يعاني منها الجيش، بل ربما قد تكون من الأسباب التي تدفع الجيش إلى الاستسلام؛ لذلك كانت الجيوش تقوم باستنزاف تموينات الخصوم عن طريق الحصار أو غيرها؛ حيث تستعمل طريقة استنزاف التموينات لإجبار الخَصم على الاستسلام، وهذه الطريقة هي ما تسمى في الحروب المعاصرة بـ"حروب الاستنزاف"، ولما كان التموين على هذا القدر من الأهمية؛ كان من الطبيعي أن يوليَ الحاجب المنصور اهتمامًا خاصًّا بالتموين العسكري؛ وذلك من حرصه على أن يحتوي تموين جيشه على كل الأسلحة والمعدات والأدوات، وكل ما يحتاجه الجيش [11] . ه- الأشغال العسكرية: وُجد في جيش الحاجب المنصور فرقة تسمى بـ"الفعلة"؛ ومهمة هذه الفرقة تمهيد الطريق للجيش وتدمير البنية التحصينية والاقتصادية للعدو في حروبه، فكانت تتقدم الجيش لشقِّ الطرق والتأكد من صلاحيتها، وكانت تتعزز بفرق الحراسة، ومن المجزوم به أن الفعلة يتمركزون في مؤخرة الجيش مع بقية الصنوف المساعدة إلى أن تأتيهم التعليمات بالتحرك إلى المقدمة لمزاولة عملهم [12] . و- الاستطلاع العسكري (الأدلَّاء): استعمل جيش الحاجب المنصور الأدلَّاء، وهم ممن عُرف عنهم معرفتهم بالطرقات وعورات العدو، فيدُلُّون قادة الجيش عليها، وقد كانت المعلومات التي يقدمها هؤلاء الأدلاء على قدر كبير من الأهمية؛ حيث تساعد قادة الجيش على التعرف على نقاط ضعف العدو، والاستفادة منها، حتى إن تلك المعلومات تساعد على حسم الموقف دون قتال [13] . الأسطول الحربي: مثلما اهتم الحاجب المنصور بتنظيم الجيش، اهتم كذلك بالأسطول الحربي، فمن المعروف أنه كان يوجد أسطول عسكري في بلاد الأندلس، وكان مقر هذا الأسطول هي مدينة المرية، وهذه المدينة أُنشئت في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر الذي أمر ببنائها في سنة 344هـ/ 900م، وهذه المدينة تقع على الساحل الأندلسي، وكان الأسطول ينطلق منها، أما في عهد الحاجب المنصور، فقد بلغ الأسطول البحري أوْجَ قوته وازدهاره؛ كما ازدادت في عهده سفن الأسطول الحربي أكثر مما كانت عليه في عهد الخليفة الحكم المستنصر [14] . التعليق: من خلال وقوفي على هذا الكتاب القيِّم، تبيَّن لي أن المؤلف بذل جهدًا كبيرًا في إبراز الجهود التي قام بها الحاجب المنصور في عهده؛ من أجل إعادة بناء جيشه على أسس جديدة، تعتمد على التجارب السابقة، والعمل على إدخال طرائق إدارية جديدة، يكون لها دور في تحديث نظام الجيش، كما بيَّن المؤلف أهم الجوانب التي عرفت إعادة البناء، بدءًا بالجيش وأعداده وأقسامه، وصولًا إلى صنوف الجيش، من الصنوف المقاتلة، والصنوف المساعدة بأقسامها الستة كما تمت الإشارة إليها، وانتهاءً بالأسطول الحربي، ويبدو لي أن هذه المعلومات مهمة جدًّا لمعرفة ما وصل إليه السابقون من الخبرات في مجال بناء الجيش، وهذا ما حاول المؤلف أن يطلعنا عليه في الفصل الخامس من كتاب: "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس". المرجع: الهاجري، علي بن غانم، (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات الضفاف/ منشورات الاختلاف. [1] الهاجري، علي بن غانم، (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف، ص 14. [2] الهاجري، علي بن غانم، (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات الضفاف/ منشورات الاختلاف، ص 177. [3] الهاجري، علي بن غانم، ص177. [4] الهاجري، علي بن غانم، ص 184. [5] الهاجري، علي بن غانم، ص 185-187. [6] الهاجري، علي بن غانم، ص 188. [7] الهاجري، علي بن غانم، ص189-192. [8] الهاجري، علي بن غانم، ص192. [9] الهاجري، علي بن غانم، ص193-194. [10] الهاجري، علي بن غانم، ص194. [11] الهاجري، علي بن غانم، ص 195-196. [12] الهاجري، علي بن غانم، ص 197-198. [13] الهاجري، علي بن غانم، ص 199. [14] الهاجري، علي بن غانم، ص 200-201.
وصية نبينا بأهل مصر خيرًا إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًَا كَثِيرًَا. أمَّا بَعْدُ: فقد أوصى نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم بأهل مصر خيرًا، فأقول وبالله تعالى التوفيق. سبب تسمية مصر: قال الزبيدي (رحمه الله): مِصْرُ: هِيَ الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة الْآن، سُمِّيَتْ بذلك لتَمَصُّرها أَي تَمَدُّنها، أَو لأنَّه بناها المِصرُ بنُ نوح عَلَيْهِ السَّلَام فسُمِّيت بِهِ؛ (تاج العروس ـ للزبيدي ـ جـ14ـ صـ126). تعريف الأقباط: قال الزبيدي (رحمه الله): القِبْطُ: أَهْلُ مِصْر، وهُمْ أَصلُها، وَيُنْسَبُ القِبْطُ إلى القِبْطِ بنِ حَامِ بنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السلامُ؛ (تاج العروس للزبيدي جـ20صـ5). فائدة مهمة: القِبْطُ: هو اسمٌ يُطْلَقُ على كُلِّ مَنْ سَكَنَ مِصْرَ قَبِلَ الإسلام، بصرف النظر عن ديانته. أسماء مصر: قَالَ أَبو الخَطَّاب بن دِحيةَ: مِصرُ أَخْصَبُ بِلَاد الله، وسمَّاها اللهُ تَعَالَى بمِصْرَ وَهِي هَذِه دون غَيرهَا، وَمن أَسمائها: أُمُّ الْبِلَاد، والأَرضُ المُباركةُ، وغَوْثُ العِبادِ، وأُمُّ خَنُّور، وَتَفْسِيره: النِّعمةُ الْكَثِيرَةُ، وَذَلِكَ لما فِيهَا من الْخيرَات الَّتِي لَا تُوجد فِي غَيرهَا، وساكِنُها لَا يَخْلُو من خَيرٍ يَدِرُّ عَلَيْهِ فِيهَا، فكأَنَّها الْبَقَرَة الحَلوبُ النافعة؛ (تاج العروس للزبيدي جـ14صـ126). اسم مصر في القرآن الكريم: اللهُ تعالى ذَكَرَ مِصرَ في أكثر من ثلاثين موضعًا في القرآن الكريم، منها ما هو صريح اللفظ، ومنها ما دل عليه القرآنُ الكريم وكتبُ التفسير؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ14: 11). سوفُ نَذْكُرُ بعضَ الآيات التي جاءَ فيها ذِكْرُ مصرَ، وذلك على سبيل المثال: (1) قال جَلَّ شأنه: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس: 87) • قال الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله): يَذْكُرُ تَعَالَى سَبَبَ إِنْجَائِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكَيْفِيَّةِ خَلَاصِهِمْ مِنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ﴿ أَنْ تَبَوَّءَا ﴾ أَيْ: يَتَّخِذَا لِقَوْمِهِمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا؛ (تفسير ابن كثير جـ7صـ392). (2) وقال سُبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ (البقرة: 61). • قال الإمامُ ابنُ جرير الطبري: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: ﴿ مِصْرًا ﴾ فَقَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: ﴿ مِصْرًا ﴾ بِتَنْوِينِ الْمِصْرِ وَإِجْرَائِهِ؛ وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ وَحَذْفِ الْأَلْفِ مِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ نَوَّنُوهُ وَأَجْرُوهُ، فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ لَا مِصْرًا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُنَوِّنْ مِصْرَ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى مِصْرَ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ غَيْرِهَا؛ (تفسير الطبري جـ1صـ: 133: 132). • وروى الإمامُ ابنُ جرير الطبري عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: فِي قَوْلِهِ: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾ قَالَ: يَعْنِي بِهِ مِصْرَ فِرْعَوْنَ؛ (تفسير الطبري جـ1صـ134). (3) قال تعالى: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ (الزخرف: 51). • قال الإمامُ ابنُ كثير(رحمه الله): يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ وَكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ، فَنَادَى فِيهِمْ مُتَبَجِّحًا مُفْتَخِرًا بِمُلْكِ مِصْرَ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ قَالَ قَتَادَةُ بنُ دعامة: قَدْ كَانَتْ لَهُمْ جِنَانٌ وَأَنْهَارُ مَاءٍ، ﴿ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾؟ أَيْ: أَفَلَا تَرَوْنَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْمُلْكِ، يَعْنِي: وَمُوسَى وَأَتْبَاعُهُ فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ؛ (تفسير ابن كثير جـ12صـ316). (4) قال سُبحانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (يوسف: 21). • قال الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَلْطَافِهِ بِيُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَيَّضَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ، حَتَّى اعْتَنَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ، وَتَوَسَّمَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْفَلَاحَ، فَقَالَ لِاِمْرَأَتِهِ: ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾، وَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ عَزِيزُهَا، وَهُوَ الْوَزِيرُ بِهَا، يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَنْقَذْنَا يُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ، ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ﴾ يَعْنِي: بِلَادَ مِصْرَ، ﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾؛ أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ لِمَا سِوَاهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾؛ أَيْ: فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾؛ يَقُولُ: لَا يَدْرُونَ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ، وَتَلَطُّفَهُ لِمَا يُرِيدُ (تفسير ابن كثير جـ8صـ25: 24). (5) قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (يوسف: 56). • قال الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ﴾ أَيْ: أَرْضِ مِصْرَ. قَوْلُهُ تعالى: ﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ بنُ جَبرٍ: إنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَّاهُ مَلك مِصْرَ، الريانُ بْنُ الْوَلِيدِ، الْوَزَارَةَ فِي بِلَادِ مِصْرَ، مَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ زَوْجِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ، وَأَسْلَمَ الْمَلِكُ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ (تفسير ابن كثير جـ8صـ52). (6) قال جَلَّ شَأنه: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ (يوسف: 99). • قال الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُرُودِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقُدُومِهِ بِلَادَ مِصْرَ، لَمَّا كَانَ يُوسُفُ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى إِخْوَتِهِ أَنْ يَأْتُوهُ بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَتُحُمِّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَتَرَحَّلُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ قَاصِدِينَ بِلَادَ مِصْرَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِاقْتِرَابِهِمْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِمْ، وَأَمَرَ الْمَلِكُ أُمَرَاءَهُ وَأَكَابِرَ النَّاسِ بِالْخُرُوجِ مَعَ يُوسُفَ لِتَلَقِّي نَبِيَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ خَرَجَ أَيْضًا لِتَلَقِّيهِ؛ (تفسير ابن كثير جـ8صـ72). (7) قال جَلَّ شأنه : ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ﴾ (المؤمنون: 20). قال الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله): قَوْلُهُ تعالى (وَطُورُ سَيْنَاءَ): هُوَ طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّم اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ؛ (تفسير ابن كثير جـ10صـ118). (8) قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ (المؤمنون: 50)، روى الطبريُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ﴾ (أَي: مكان مرتفع منبسط) ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ ﴾؛ (أَي: يستقر فيها المقيم) ﴿ وَمَعِينٍ ﴾؛ أي: ماء جارٍ ظاهر للعيون) (المؤمنون: 50)، قَالَ: إِلَى رَبْوَةٍ مِنْ رُبَا مِصْرَ قَالَ: «وَلَيْسَ الرُّبَا إِلَّا فِي مِصْرَ، وَالْمَاءُ حِينَ يُرْسَلُ تَكُونُ الرُّبَا عَلَيْهَا الْقُرَى، لَوْلَا الرُّبَا لَغِرَقَتْ تِلْكَ الْقُرَى»، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ؛ (تفسير الطبري جـ19صـ38). (9) قال سُبحانه: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ (الأعراف: 137)؛ قال الليثُ بنُ سعد (رحمه الله): هي مصر بارك فيها بالنيل؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ8). (10) قال جلَّ شأنه : ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ (يونس: 93). قال القرطبي: أَيْ مَنْزِلَ صِدْقٍ مَحْمُودٍ مُخْتَارٍ، يَعْنِي مِصْرَ؛ (تفسير القرطبي جـ8صـ351). نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوصي بأهل مصر خيرًا: (1) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا؛ (مسلم حديث: 2543). قال الإمامُ النووي (رحمه الله): قَالَ الْعُلَمَاءُ الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَغَيْرِهِمَا وَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ يُكْثِرُونَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَأَمَّا الذِّمَّةُ فَهِيَ الْحُرْمَةُ وَالْحَقُّ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الذِّمَامُ وَأَمَّا الرَّحِمُ فَلِكَوْنِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ وَأَمَّا الصِّهْرُ فَلِكَوْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ تَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ بَعْدَهُ بِحَيْثُ يَقْهَرُونَ الْعَجَمَ وَالْجَبَابِرَةَ وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَفْتَحُونَ مِصْرَ؛ (مسلم بشرح النووي جـ8صـ338). (2) روى الحاكمُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرًا فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا» قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَالرَّحِمُ أَنَّ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ؛ (حديث صحيح)، (السلسلة الصحيحة للألباني حديث 1374). (3) روى الطبرانيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عُدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ»؛ (حديث صحيح)، (السلسلة الصحيحة للألباني حديث: 3113). نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مصر للإسلام: كتبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الْهِجْرَة إلى الْمُقَوْقِسِ عَظِيم القبط، يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام، وبعثَ الرسالةَ مَعَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وهذا نصها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: من محمد بن عبد اللَّهِ إِلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ القِبطِ و﴿ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ( آل عمران: 64)؛ (عيون الأثرـ لابن سيد الناس ـ جـ2صـ332). حوار حاطب مع المقوقس: خَرَجَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بكِتَابِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْمُقَوْقِسِ بالإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَأعطَاه كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ حَاطِبٌ لِلْمُقَوْقِسِ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى، فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلا يُعْتَبَرُ بِكَ. قَالَ: هَاتْ، قَالَ: إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ الإِسْلامُ الْكَافِي بِهِ اللَّهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ يَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي ما بشارة موسى بعيسى بن مَرْيَمَ إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَأَنْتَ مِمَّنْ أَدْرَكَ هَذَا النَّبِيَّ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّا نأمرك به، فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبِيِّ فَوَجَدْتُهُ لا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ، وَلا يَنْهَى إِلَّا عَنْ مَرْغُوبٍ عَنْهُ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسَّاحِرِ الضَّالِّ، وَلا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ، وَوَجَدْتُ معه آلة النبوة بإخراج الخبيء، والأخبار بالنجوى، وسأنظر. وأخذ كتاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَهُ فِي حُقٍّ (وعاء صغير) مِنْ عَاجٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى جاريةٍ له؛ (عيون الأثرـ لابن سيد الناس ـ جـ2صـ332). رد المقوقس على رسالة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : دَعَا الْمُقَوْقِسُ كَاتِبًا لَهُ يَكتبُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَكتب إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رسالةً، هذا نصها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلامٌ، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا بَقِيَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، وَبَعَثْتُ إِلَيْكَ بِجَارِيَتَيْنِ، لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٍ، وَبِكِسْوَةٍ، وَأَهْدَيْتُ لَكَ بَغْلَةً لِتَرْكَبَهَا، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ؛ (عيون الأثرـ لابن سيد الناس ـ جـ2صـ333). حوار هرقل مع أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم : روى البخاري عَنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ"، وَ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ، سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا اليَهُودُ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ؛ (البخاري حديث: 7). أنبياء الله الذين وُلِدوا في مصر: موسى وهارون ويُوشع بن نون، صلى اللهُ عليهم وسلم؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ13). أنبياء الله الذين سكنوا مصر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وعيسى ابن مريم، صلى اللهُ عليهم وسلم؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ13). مصريون صالحون: عَمُرَتْ مصرُ بالكثيرِ مِن أولياء الله الصالحين، ومنهم: (1) ذو القرنين: قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ (الكهف84: 83). (2) مؤمن آل فرعون: قال سُبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ (غافر29: 28). (3) الخضِر: قال جَلَّ شأنه عن موسى صلى الله عليه وسلم وفتَاه: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا *قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ (الكهف70: 65). قال الإمامُ ابنُ كثير (رحمه الله) قَوْلُهُ تعالى: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ (تفسير ابن كثير جـ9صـ163). (4) سحرة فرعون: قال سُبحانه عنهم: ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ (طه73: 70)، قَالَ كَعْبُ الأحْبَار: كَانَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا؛ (تفسير ابن أبي حاتم جـ8 ـ صـ2762). نساء صالحات سكنوا مصر: عَمُرَتْ مصرُ بالكثيرِ مِن الصالحات، ومنهن: (1) ، (2) سارة زوجة إبراهيم وهاجر أم إسماعيل: روى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ، فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ (مَا الْخَبَرُ)؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ؛ (البخاري حديث: 3358 /مسلم حديث: 2371). (3) آسية بنت مزاحم (زوجة فرعون): قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ (التحريم: 11). (4) مريم بنت عمران: قال سُبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ (آل عمران: 42). وقال جَلَّ شأنه: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ (التحريم: 12). روى الترمذيُّ عَنْ أَنَسِ بنِ مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي للألباني حديث: 3053). (5) ماشطة بنت فرعون: روى أبو يَعلى الموصِلي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ مَاشِطَةُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ كَانَتْ تُمَشِّطُهَا فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ. قَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ، قَالَتْ: أَقُولُ لَهُ إِذًا، قَالَتْ: قُولِي لَهُ، قَالَ لَهَا: أَوَلَكِ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَأُحْمِيَ لَهَا بَقَرَةٌ مِنْ نُحَاسٍ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا لِمَا لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ، فَأَلْقَى وَلَدَهَا فِي الْبَقَرَةِ وَاحِدًا وَاحِدًا، فَكَانَ آخِرَهُمْ صَبِيٌّ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ؛ (إسناده صحيح)، (مسند أبي يعلى بتحقيق حسين أسد حديث: 2517). (6) أم موسى: قال اللهُ تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ (القصص: 8: 7). (7)، (8) مارية المصرية وأختها سيرين: أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ حاكِمُ مِصرَ لِلنّبِي صلى الله عليه وسلم أُمّ إبْرَاهِيمَ الْقِبْطِيّةَ وَاسْمُهَا: مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ وَأُخْتَهَا مَعَهَا، وَاسْمُهَا سِيرِينُ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَغُلَامًا اسْمُهُ مَأْبُورُ وَبَغْلَةً اسْمهَا دُلْدُلُ وَكُسْوَةً وَقَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ (الروض الأُنُف للسهيلي جـ4صـ390). دخول أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم مصر: عَدَدُ أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين دخلوا مصر، كانوا أكثر مِن ثلاث مائة صحابي، ذَكرَ أسماءهم الإمامُ السيوطي؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ209: 132). خلفاء دخلوا مصر: دخلَ مصرَ مِن الخلفاء: معاوية بن أبي سفيان، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، ومروان بن محمد، وأبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، والمأمون، والمعتصم، والواثق؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ5). مصر بلد الخير: أثبت التاريخُ أن أهلَ مصر، بعدَ دخولهم في الإسلام، يقفون بجوار كلِّ مَن يطلبُ منهم المساعدة، فَيُقَدِمُونَ لهم الطعام والشراب والكساء والدواء، والمسكن، وكل ما يحتاجون، وبدون مقابل، في خلافة أمير المؤمنين، عُمَر بْن الْخَطَّابِ، وَفِي عَامِ الرَّمَادَةِ، عَمَّ جَدْبٌ أَرْضَ الْحِجَازِ، وَجَاعَ النَّاسُ جُوعًا شَدِيدًا، فكتب أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، وهو بمصر، يطلب منه المساعدة، فكتب إليه عمرو بن العاص: "لعبد الله عمر أمير المؤمنين: أما بعد، فيا لبيك ثم يا لبيك! قد بعثت إليك بعيرٍ (الإبل) أولها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله، "فبعث عمرو إليه بعيرٍ عظيمة، فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضًا، فلما قَدِمَتْ على أمير المؤمنين عمر وسَّعَ بها على الناس، فأعطى كلَّ أهل بيتٍ بالمدينة وما حولها بَعيرًا بما عليه مِن الطعام؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ124). خليج أمير المؤمنين في مصر: كتبَ أميرُ المؤمنين عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلى عمرو بن العاص (أمير مصر) يَقْدُمُ عليه هو وجماعة مِن أهل مصر، فقدموا عليه، فقال أمير المؤمنين، عمر: يا عمرو، إن اللهَ قد فتحَ على المسلمينَ مصر، وهي كثيرةُ الخير والطعام، وقد أُلْقِيَ في نفسي - لَما أحببت مِن الرفق بأهل الحرمين، والتوسعة عليهم - أن أحفرَ خليجًا مِن نيلها حتى يسيل في البحر، (وهو البحر الأحمر)، فهو أسهل لما نريد مِن حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يَبْعدُ ولا نبلغ معه ما نريد، فانْطَلِقْ أنتَ وأصحابك، فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم، فقامَ عمرو بن العاص بحفر خليجٍ من النيل إلى البحر الأحمر، فلم يأت عَامٌ حتى فَرَغَ المصريونَ مِن حَفْره، وجرت فيه السفن، فحملَ فيه عمرو بن العاص ما أراد مِن الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع اللهُ تعالى بذلك أهل الحرمين، وسُمي خليج أمير المؤمنين، ثم لم يَزَلْ يُحمل في هذا الخليج الطعام، حتى حُملَ فيه بعد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ثم ضَيَّعَهُ الولاةُ بعد ذلك، فتُركَ وغَلَبَ عليه الرملُ، فانقطع، وصار منتهاه إلى بحيرة التمساح التي أصبحت الآن جزءًا مِن قناة السويس؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ125). شهادة عمر بن الخطاب لجنود مصر: قال الخليفةُ الراشدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لعمرو بن العاص (أمير مصر) حين قدم عليه: قد عرفتَ الذي أصابَ العرب، وليس جندٌ مِن الأجناد أرجى عندي مِن أن يغيثَ اللهُ بهم أهل الحجاز مِن جُندك؛ (فتوح مصر والمغرب ـ لعبد الرحمن بن عبد الحكم صـ191). مسجد عمرو بن العاص: يعتبرُ مسجد عمرو بن العاص هو أول مسجد بُنِي في قارة إفريقيا بعد أن فتح المسلمون مصرَ، في عام عشرين مِن الهجرة، على يد عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في عهد الخليفة الراشد: عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ107: 103). أشرفَ على إقامة قبلة مسجد عمرو بن العاص ثمانون رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعُبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفَضَالة بن عُبَيْد، وعقبة بن عامر، وأبو ذر الغفاري ، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وخارجة بن حُذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن مسلمة، وأبو أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة وغيرهم؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ5). الجامع الأزهر منارة العلم: يعتبرُ الجامع الأزهر هو أول جامع بُنِي بالقاهرة، أنشأه القائد جَوْهَرُ الصِّقِلِّي في عهد المعز لدين الله الفاطمي، وابتدأ بناءه في يوم السبت الرابع والعشرين مِن جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة من الهجرة، وكَمُلَ بناؤه في السابع من رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة مِن الهجرة؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ1صـ221). لقد أصبحَ الأزهرُ بفضل الله تعالى منارةً مِن منارات العِلْمِ ، وجامعةً مِن أكبر الجامعات الإسلامية، على مستوى العالم، وقد خرجَ منه الكثيرُ مِن الدُّعاة إلى الله تعالى، ويأتي طلابُ العِلْمِ، من جميع دول العالم، إلى جامعة الأزهر؛ ليتعلموا أحكامَ الشريعة الإسلامية، وسائر العلوم الدنيوية التي تنفع المسلمين في دينهم ودنياهم. مصر في عيون علماء السلف الصالح: (1) قال عبدُ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أهل مصر أكرم الأعاجم، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ9). قال عبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ12). (2) قال أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ رضي الله عنه: مصرُ خزانة الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾، ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد من جميع الأرض؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ5). (3) قال كعبُ الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس، لما سكنت إلا مصر، فقيل له: فلمَ؟ فقال: لأنها معافاة من الفتن، ومن أرادها بسوءٍ كَبَّهُ اللهُ على وجهه، وهو بلدٌ مباركٌ لأهله فيه؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ11). (4) قال هارونُ الرشيد: مصرُ موروثةُ يوسف صلى الله عليه وسلم؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ101). (5) قال ابْن هرمز الأعرج: خيرُ سواحلكم رباطًا الإسكندرية، فخرج إليها منَ المدينة مرابطًا فمات بها سنة سبع عشرة ومائة؛ (فتوح البلدان لأحمد بن يحيى البَلَاذُري صـ220). قال سُفيانُ بنُ عُيينة: الإسكندرية كنانةُ الله، يجعلُ فيها خير سهامه؛ (المسالك والممالك ـ لعبد الله البكري جـ2صـ643). (6) قال تعالى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾ (سورة الدخان: 25: 27). قال الكندي: لا يُعلم أن بلدًا من البلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب بمثل هذا الثناء، أو وصفه بمثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ2). (7) قال أحمدُ بنُ المدبِّر: كشفتُ عن مصر فوجدتُ باطنَها أضعافَ ظاهرها، ولو عَمَّرَها السلطان لوفت بخراج الدنيا؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ13). (8) قال سعيدُ بنُ أبي هلال: مصر أم البلاد، وغَوث العباد، إن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائرُ المدن مادَّةٌ أيديها إليها تستطعمها؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ6). (9) قال يحيى بنُ سعيد: تجولتُ في البلادِ فما رأيت الوَرَعَ ببلد من البلدان أعرفه إلا بالمدينة وبمصر؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ6). (10) قال شُفَيُّ الأصبحي: لا يريدُ أحدٌ بأهل مصرَ سوءًا، إلا أهلكه الله؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ12). (11) قال تاجُ الدين الفَزَّاري: إن الحكماءَ وأهل التجارب ذكروا أن مَن أقام بمصر سنة وَجَدَ في أخلاقه رِقةً وحُسْنًا؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ2صـ336). (12) قال أبو الربيع السائح: نِعْمَ البلد مصر، يُحجُ منها بدينارين، ويغزى منها بدرهمين، يريد الحج في بحر القلزم (البحر الأحمر)، والغزو إلى الإسكندرية وسائر سواحل مصر؛ (فضائل مصر المحروسة ـ لمحمد بن يوسف الكندي صـ6). (13) قال المقريزي: أهل مصر يستغنون بها عن كل بلد، حتى إنه لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسُورٍ، لاستغنى أهلها بما فيها عن جميع البلاد؛ (الخطط للمقريزي جـ1صـ53). علماء مصريون: كان بمصر كثيرٌ مِن الفقهاء والعلماء، منهم إمامُ قُرَّاءِ القرآن الكريم، وَرْش، وهو عثمان بْن سَعِيد، ومحمد بن إدريس الشافعي، ويوسف بن يحيى البويطي، المفضل بن فضالة، ويزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وله مذهب انفرد به. ومنهم عبد الله بن وهب، ورِشْدين بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وأشهب بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن القاسم، وأصبغ بن الفرَج، وأيوب بن سليمان، وعبد الله بن عبد الحكم، وأسد بن موسى، ومحمد بن عبد الحكم، وسعيد بن عُفير، ويحيى بن عثمان، والربيع بن سليمان، ومحمد بن يوسف الكِنْدي، وابن أبي خيثمة، وعبد الملك بن هشام(صاحب السيرة النبوية)، وابن النحاس، والقاضي عبد الوهاب المالكي، والشاطبي (صاحب الاعتصام) وعبد الغني المقدسي، وعبد العظيم المنذري (صاحب الترغيب والترهيب)، وابن دقيق العيد، وابن حجر الهيتمي، والعز بن عبد السلام، وابن حجر العسقلاني، (صاحب فتح الباري)، ومحمود العيني (صاحب عمدة القاري)، وزكريا الأنصاري، والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، وغيرهم كثيرٌ. كل واحد منهم قد فاق أهل عصره وبرَز عليهم في الفقه والعلم والأخبار وأيام الناس، وفي سائر العلوم؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ32: 28)، و(حسن المحاضرة للسيوطي جـ2صـ420: 337). أئمة الحديث يدخلون مصر: (1) قَالَ الإمامُ البُخَارِيُّ دخلت إِلَى الشَّام ومصر والجزيرة مرَّتَيْنِ وَإِلَى الْبَصْرَة أَربع مَرَّات وأقمت بالحجاز سِتَّة أَعْوَام وَلَا أحصي كم دخلت إِلَى الْكُوفَة وبغداد مَعَ الْمُحدثين؛ (مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني 502). (2) ذهبَ الإمامُ مسلمٌ بن الحجَّاج لسماع الحديث إلى مكة والكوفة والمدينة ومصر؛ (مقدمة صحيح مسلم صـ9: 8). (3) رَحَلَ الإمامُ أبو داودَ في طلَبِ عِلْم الحديث إلى الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ العَربية، وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ11صـ58). (4) رَحَلَ الإمامُ النَّسَائِيُّ فِي طَلَبِ العِلْمِ إلى خُرَاسَانَ، وَالحِجَازِ، وَمِصْرَ، وَالعِرَاقِ، وَالجَزِيْرَةِ، وَالشَّامِ، وَالثُّغُوْرِ، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ مِصْرَ، وَرَحَلَ الحُفَّاظُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ نَظِيْرٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ14صـ127). (5) رحل الإمامُ ابنُ ماجه (رحمه الله) في طلبِ العِلْم إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والرَّي؛ (وفيات الأعيان لابن خلكان جـ4صـ105). (6) ذهبَ الإمامُ ابنُ خُزيمة لسماع الحديث إلى الشام والجزيرة ومصر، وبغداد والبصرة والكوفة؛ (مقدمة صحيح ابن خزيمة صـ8: 9). علماء حديث مصريون: كان في مصر كثيرٌ من المحدثين منهم: حرملة بن يحيى، ومحمد بن رُمح، ويونس بن عبد الأعلى، وعيسى بن إبراهيم، ويزيد بن سنان، وبحر بن نصر، وأبو جعفر الطحاوي، وغيرهم كثير؛ (فضائل مصر ـ للحسن بن زولاق صـ34: 32). أهل المصريون يصنعون كسوة الكعبة: كان سلاطين المماليك في مصر يحرصون على إرسال كسوة الكعبة كلَّ عام مع قافلة الحجاج المصريين إلى بيت الله الحرام؛ لأن كسوة الكعبة شرفٌ يمثلُ أقوى الروابط الإسلامية في نظرهم، ولا يمكنهم التخلي عنه؛ (الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي ـ جـ5صـ114). نهر النيل من أنهار الجنة: (1) روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ»؛ (مسلم حديث: 2839). (2) قَالَ عَبدُ اللَّه بْنُ عَمْرو بنُ العَاص، رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا: نِيلُ مِصْر سَيِّدُ الْأَنْهَار؛ (تفسير ابن كثير جـ12صـ342). (3) قَالَ عَبدُ اللَّه بْنُ عَمْرو بنُ العَاص رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا: في قولِهِ تَعَالَى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ﴾، قَالَ: كَانَتِ الْجِنَانُ بِحَافَّتَيْ هَذَا النِّيلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي الشِّقَّيْنِ جَمِيعًا، مَا بَيْنَ أَسْوَانَ إِلَى رَشِيدٍ، وَكَانَ لَهُ تِسْعَةُ خُلُجٍ، منها: خَلِيجُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخَلِيجُ دِمْيَاطَ، وَخَلِيجُ سَرْدُوسَ، وَخَلِيجُ مَنْفٍ، وَخَلِيجُ الْفَيُّومِ، وَخَلِيجُ الْمَنْهَى، مُتَّصِلَةٌ لَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ؛ (تفسير ابن كثير جـ12صـ342). من عجائب نهر النيل: (1) لا يُعلم نهرٌ مِن الأنهار يَسقي من الأرض ما يسقيه نهرُ النيل. (2) ماءُ النيل أصَحُ المياه وأعدلها وأعذبها وأفضلها. (3) يأتي النيلُ أرضَ مصر في وقتِ شدة الحر، ويُبْسِ الهواء، وجفافِ الأرض، فيبل الأرض، ويُرطِّبُ الهواء. (4) نهرُ النيل هو أطول أنهار العالم. (5) نهرُ النيل يجري مُخالفًا غالب أنهار العالم، فهو يجري مِن الجنوب إلى الشمال. (6) ليس في الدنيا نهرٌ يُزرعُ عليه ما يُزرعُ على النيل، ولا يجيء مِن خَراج غَلَّةِ زرعه ما يجيء مِن خَراج غَلَّةِ زرع النيل. (7) توجد في النيل سمكة تُسمى الرَّعَادة، مَن مَسَّها بيده، أو بعود مُتصلٍ بيده أو جذب شبكةً هي فيها، أو قصبة أو سنارة وقعت فيها، رعدت يده ما دامت فيها. (8) كُلُّ نهرٍ مِن الأنهار العِظَام، وإن كان فيه منافعٌ، فلا بد أن يتبعها مضار في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره، والنيل موزون على ديار مصر بوزن معلوم، وتقدير مرسوم، لا يزيد عليه، ولا يخرج عن حَده، وهذا مِن فضل الله تعالى على أهل مصر؛ قال سُبحانه: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام: 96)؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ2صـ 303: 301). مقاييس مياه نهر النيل: (1) قال ابنُ عبد الحكم: أوَّل من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام وضع مقياسًا بِمَنف. (2) بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسًا بأسوان بموضع يُقالُ له: دندرة. (3) بنى عبد العزيز بن مروان مقياسًا لنهر النيل بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذراع. (4) أمرَ الخليفة سليمان بنُ عبد الملك نائبه على مصر أسامة بن زيد التنوخي أن يبني مقياسًا في الجزيرة، (وتسمى الآن بالروضة)، فبناه في سنة سبع وتسعين. (5) بنى الخليفة المتوكل فيها مقياسًا لنهر النيل في أوَّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركي على مصر، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد؛ (الخطط للمقريزي جـ1صـ109: 108). فائدة مهمة: سُمِّيت جزيرة مصر بالروضة؛ لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها، والنيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في غيرها؛ (حسن المحاضرة للسيوطي جـ2صـ377). ختامًا: أسألُ اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعلَ هذا العمل خالصًاَ لوجهه الكريم، وأن ينفعَ بهذا العمل طلابَ العِلْمِ الكرام، وأرجو كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ سُبحانه لي بالإخلاصِ، والتوفيقِ، والثباتِ على الحق، وحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ (الحشر: 10). وآخرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبينا مُحَمَّدٍ، وَآلهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
العقلانيون، مَنْ هم؟ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: ابتليت هذه الأمة بفرق ومذاهب عارضت بمعقولاتهم صحيح المنقول، وأوَّل مَن عُرف عنه ذلك هم الجهمية في أواخر عصر التابعين، ثم انتقلت إلى المعتزلة، ثم إلى الأشاعرة والماتريدية، وسائر مَن أخذ بعلم الكلام والفلسفة [1] ، مع تفاوتٍ فيما بينها من حيث المنطلقات والآليات والأهداف؛ إذْ لا يمكن بحالٍ من الأحوال أنْ نضع الأشاعرةَ والماتريدية في دائرة الجهمية أو المعتزلة. العقلانيون ونسبتهم إلى العقل: قبل الخوض في تعريف العقلانيين، لا بدَّ من الإشارة إلى أمرٍ في غاية الخطورة، وهو نسبتهم إلى العقل، فلا يُفهم من ذلك أنَّ مَنْ يُقابلونهم لا ينتسبون إلى العقل أو لا يُحسنون استعماله. فالعقل ليس حكرًا على أحد، وليس لأحد أنْ يدَّعي أنه يملك الأدوات العقلية أو من القدرة العقلية ما لا يملكه غيره. والعقل قِسْمةٌ بين الناس جميعًا؛ قد يتفاوتون في درجة الفهم أو في القدرة على توظيفه، لكنهم في النهاية مُشترِكون جميعًا فيه، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجمعي، الذي يجمع بين تياراتٍ فِكرية مُعيَّنة لها أفكارها ومُنطَلقاتُها وأهدافُها وآلياتُها، لا يُمكن بحال من الأحوال أنْ تدَّعي فئةٌ على الأخرى أنها – في مجموعها – أكثر قدرة عقلية على توظيف العقل من غيرها. ومن ثَمَّ؛ فإنَّ نسبة هذه المدرسة إلى العقل، وتسميتهم عقلانيين هي على سبيل ما اشْتَهَرت به بين المحافل العلمية، وإلاَّ، فإنَّني أرى ابتداءً أنَّ هذه التسمية ليست من حيث الشكل صحيحة، فهي أجدرُ أن يُتوهَّم من ورائها أمور غير صحيحة؛ ومن ذلك: احتكارهم للفهم دون غيرهم، أو التقليل والتهوين من شأن العقل عند مَنْ يُخالفهم في المنهج أو الرأي، أو إنصافهم للعقل في حين معاداة غيرهم له. فيصبح كلُّ مَنْ يُخالفهم إنما يعادي العقل ويُخالفه ولا يُعاديهم، أو يُعادي ما يُنادون به، فيُنتَقَص من شأن مخالفيهم، وهذا واقع بالفعل عند المقارنة بينهم وبين المدرسة السلفية المُنضبطة بضوابط الشرع، إذْ تُكال لهم التُّهم بمعاداة العقل وعدم القدرة على استعماله، في حين أنهم أكثر الناس قدرة على استعمال العقل، ولكن وَفْقَ منهجٍ مُنضبط على نحو ما أشرنا إليه سابقًا. عوامل ظهور المدرسة العقلية: في العصر الحاضر ظهرت اتجاهاتٌ ومدارِسُ عقلانية مُتعدِّدة ما بين ليبرالية وعلمانية وفلسفية ويجمع بينها المغالاة في تعظيم العقل، والقول بأوَّليَّته على غيره من مصادر المعرفة. ومن بين هذه الاتجاهات: ما اصطُلِح على تسميته بالمُجدِّدين العقلانيين للسُّنة، التي تعد – إلى حدٍّ كبير – امتدادًا للفرق العقلانية القديمة، ولا سيما المعتزلة، وقد واجهت هذه المدرسة مشكلة تعارض العقل مع النقل بزعمها، وانضاف إليها واقع الأمة الإسلامية المتأخر – في مجالات الحياة المختلفة – عن الأمم الأخرى ولا سيما الغرب، فارتأى أصحاب هذه المدرسة العقلية أن طريق النهضة للأمة لا يكون إلاَّ بسلوك سبيل الأمم المتقدمة، فتوهَّموا وجود شيء من التعارض بين النصوص الشرعية والمقررات العقلية والمكتشفات العلمية الحديثة، وتحت ضغط الواقع وبداعي المصلحة أصبحوا ينادون إلى تجديد الأفكار والمفاهيم الإسلامية بما يتماشى مع هذا العصر، وبما يتَّفق مع العقل البشري والنظريات العلمية؛ مما أدى إلى ظهور تأويلات عصرية لأحكام الإسلام لا يُراعى فيها النصوص الشرعية، ولا إجماع علماء المسلمين، ولا دلالات اللغة العربية [2] . المقصود بالمُجدِّدين العقلانيين: يُقصد بالمجددين العقلانيين هم الذين يُقدِّمون العقل – في الجملة – على نصوص الشرع عند توهُّم التعارض، وهم ممَّن يتبنى المرجعية الإسلامية في الجملة، ويسعون إلى التوفيق بين نصوص الشرع وبين الحضارة الغربية والفكر الغربي المعاصر؛ وذلك بتطويع النصوص وتأويلها تأويلًا جديدًا يُضاهي المفاهيمَ الغربية، والمكتشفاتِ العلميةَ الحديثة. وتتفاوت رموز هذه المدرسة تفاوتًا كبيرًا في موقفها من النص الشرعي، ولكنها تشترك في الإسراف في تأويل النصوص سواء كانت في العقيدة أو الأحكام أو الأخبار المحضة، وفي رد ما يستعصي من تلك النصوص على التأويل. وأيضًا رموز هذه المدرسة ليسوا على درجة واحدة، ففيهم الداعية الفقيه الذي طغت عليه فكرة تقريب الإسلام للغرب، وأخذته الحمية لدفع الشبهات عن الإسلام، فزلَّت به الأقدام باسم مصلحة الدعوة تارة، والدفاع عن الإسلام تارة أخرى، وهم أيضًا متفاوتون فيما بينهم بين مُقِلٍّ ومُكثِر في ذلك، وفيهم الصحفي الذي يفتقر إلى العلوم الشرعية، ويُعرف بوصفه كاتبًا إسلاميًا لدى عامة القراء، وفيهم المُغْرِق في عقلانيَّتِه، الذي يَحْكُم فِكرَه وتصوُّرَه اتجاهاتُ المدارس الغربية الحديثة، أو المدارس الكلامية، خاصة المعتزلة. ومن الأهمية بمكان؛ وبعيدًا عن العاطفة سيكون النقد موجَّهًا للأقوال التي صدرت عن أصحاب هذا الاتجاه وليس لأشخاصهم؛ وعند ذكر قول أحدهم فلا يلزم من ذلك موافقة الآخَرين له في قوله، بل ربما يوجد مَن يرده؛ فهم ليسوا على درجة واحدة [3] . يقول "د. محمد عمارة": (لقد أصبح الواقع الفكري للحياة العربية يتطلَّب فرسانًا غير النصوصيين، ويستدعي أسلحةً غير النُّقول والمأثورات؛ للدفاع عن الدين الإسلامي، وعن حضارة العرب والمسلمين... ويُسَلِّم الكثيرون بأنَّ المعتزلة هم فُرسان العقلانية في حضارتنا) [4] . وهذه هي القاعدة التي ينطلق منها معظم أصحاب هذا الاتجاه الفِكري، وهي: الواقع الفكري للحياة العربية؛ وكأنَّ المطلوب هو تطويع الدِّين للحياة والواقع الفِكري، وليس العكس؛ إذ إنَّ النظرة والفكرة لدى الاتجاه السلفي المنضبط بضوابط الشرع إنما هي تطويع الحياة والفكر بما يُوافق الدِّين ويُراعيه. وقد يتناسى أصحاب هذه الاتجاه الفكري أنَّ الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر وتنمو وتسود العالَمَ إلاَّ في ظلِّ هذا التطويع للحياة والفكر لصالح الدِّين. فالتَّعلُّل بالرغبة في إصلاح الواقع الذي تعيشه الأمة، لا يُمْكِن بحالٍ من الأحوال أنْ يكون على حساب الدِّين ذاته، وعلى حساب تقديم تنازلات بتشويهه وفُقدانه لأصالته وحيويَّته لإرضاء الآخَرِ الذي يُراد اللَّحاق به. وإنما كان يجب استقراء التاريخ استقراءً حياديًّا لنرى كيف نهضت الأمة من قبل في ظلِّ هذا الدِّين، وكيف ارتقت إلى ما ارتقت إليه من مكانةٍ سامية ومنزلة عالية بين الأمم. والتاريخ دائمًا يُجيب أنَّ الانتصار لهذا الدِّين ولمنهج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان هو العامل الأساس في تقدُّم الأمة، ومَنْ عنده غير ما نقول فلْيأْتِنا به، إنْ كان صادقًا في دعواه! ويُبيِّن "د. محمود الطحان" خطورة منهج التجديد العقلاني، فيقول: (ظهرت فئة في هذا العصر، اتَّجهت في معنى التجديد وجهةً غير التي عرفها المسلمون على مر العصور، وحمَّلت التجديد الوارد في السنة ما لا يحتمله، وقامت بعرض أفكار للتجديد بعيدة عن المنهج الإسلامي السوي، وقامت بنشر مقالات فيها كثير من المغالطات كما يحلو لها، ودعت في مقالاتها إلى تجديد الفكر الإسلامي، وتجديد أصول الفقه، وتجديد أصول الحديث، وتجديد العلوم الإسلامية، لا بطريقة عرض تلك العلوم عرضًا سهلًا، أو إيجاد بعض الأحكام الشرعية لمواجهة بعض المشكلات التي جدَّت؛ كالتأمين والبيع بالأجل على أقساط وما إلى ذلك، وإنما انْصَبَّت الدعوة على تغيير الأفكار الإسلامية، وتغيير أصول العلوم الإسلامية... رغبة مسايرة العصر الذي نعيش فيه، وعابوا في مقالاتهم اعتماد المسلمين على أحكام قال بها الأئمة الفقهاء الأقدمون، وزعموا أنها أحكام بَليت وذهبت مع عصرهم كما بلي أصحابها، وقالوا: يجب على المسلمين المعاصرين أن يأتوا بأفكارٍ جديدة، وأصولٍ جديدة للعلوم الإسلامية تناسب المسلم المعاصر) [5] . ويُفهم من كلام "د. محمود الطحان" أنَّ أصحاب منهج التجديد العقلاني إنما أرادوا أنْ يُبدِّلوا الأصولَ الثابتةَ المستقِرَّة التي أنتجتها العبقرية الإسلامية مُتمثِّلة في علمائها الأفذاذ في أصول الفقه وعلوم الحديث وغيرها من العلوم الأصيلة، وبدلًا من أنْ يبنوا عليها ويُضيفوا إليها بضوابط منهجية، فيُشاركون في صرح العلم، عمدوا إلى هدم أساسه وتقويض أركانه. ويُشير "د. محمود الطحان" إلى أنَّ الأَولى بهم صرف جهودهم وتفكيرهم إلى مواكبة المستجِدَّات والمستحدَثات ودراستها وبيان الرأي فيها. وهم بتصرُّفهم هذا خالفوا قواعدَ العلم الرَّصين؛ فمن المعلوم ضرورةً أنَّ العلوم – النظرية منها والبحتة والتطبيقية – تراكمية، فكلُّ جيلٍ يبني على ما سبق، وإذا كان العلم قائمًا على النقض والهدم، فالجيل التالي يهدم ما بناه الجيل السابق لَتَوَقَّف بنا العلم عند نقطة الصِّفر، ولَمَا حدث أيُّ تطورٍ أو تجديد. فكان الواجب عليهم أنْ يبنوا على ما ذهب إليه أسلافهم العلماء لا أنْ ينقضوه، وكان يجب عليهم أنْ ينطلقوا من حاجاتهم الضرورية والمُتوافقة مع دينهم وفِكرهم لا أنْ يُسايروا الأمم الأخرى فقط، ويُقلِّدوها فيما ذهبت إليه، وهذا هو سر التَّميُّز الذي يُميِّز الشخصية المسلمة والفِكر الإسلامي عن غيره، فنصبح فاعلين ومتفاعلين مع غيرنا لا مُجرَّد مُقلِّدين مُنهزمين لغيرنا. أبرز معالم المُجَدِّدين العقلانيين: من أبرز معالم المدرسة العقلية المعاصرة والمجددين العقلانيين ما يلي: 1- رد السُّنة النبوية كلَّ الرد أو بعضَه؛ فمنهم مَنْ يردُّها مطلقًا، ومنهم مَنْ يقبل المتواتر العملي فقط، ومنهم مَن يقبل المتواتر مطلقًا عمليًّا كان أو قوليًّا. وأما حديث الآحاد – الذي لم يبلغ حد التواتر – فقد يقبلون منه ما يُوافق روحَ القرآن، وما يتَّفق مع العقل، أو التجربة البشرية، وقد يرده بعضُهم مطلقًا، فلا يقبل منه شيئًا. 2- التوسُّع في تفسير القرآن والسنة على ضوء العلم الحديث لكافة جوانبه، ولو أدَّى ذلك إلى استحداث أقوالٍ مُجانبة لتركيب الآيات والأحاديث من الناحية اللغوية، وغير موافقة للمنقول عن السلف الصالح؛ كما في تفسير "محمد عبده" وهو من أقطاب تلك المدرسة. 3- التهوين من شأن الإجماع؛ إما برفضه رفضًا كليًّا؛ كما هو عند "أحمد خان الهندي" وإما بوضع قيودٍ جديدة للإجماع؛ كما هو عند "محمد عبده" وغيره. 4- الحرية الواسعة في الاجتهاد مع غض النظر عن الشروط المطلوبة في المجتهد، ومع غض النظر أيضًا عن الأطر العامة التي يجب أنْ تضبط هذا الاجتهاد. 5- الميل إلى تضييق نطاق الغيبيات ما أمكن؛ تأثرًُّا بالتيار المادي الذي يسود الحضارة المعاصرة، ومن هنا جاء إقحام العقل في المسائل الغيبية، وتأويل الملائكة والجن والشياطين. 6- تناول الأحكام الشرعية العملية تناولًا يستجيب لضغوط الواقع ومتطلَّباته [6] . الشيخ "محمد رشيد رضا" وموقفه من السُّنة النبوية: مَثَّلَ الشيخ "محمد رشيد رضا" [7] رحمه الله اتِّجاهًا فكريًّا عقلانيًّا، بدأ مع بدايات ما يُسمَّى "عصر التنوير" في مصر والعالم العربي، ويُعتبر امتدادًا لأستاذه وشيخه "محمد عبده"، من حيث متابعته في الكثير من القضايا والمسائل المُتعلِّقة بالكتاب والسُّنة وظل الشيخ "محمد رشيد رضا" محسوبًا على هذا الاتِّجاه سواء من قِبَل العقلانيين أو الحداثيين أنفسهم، أو من قِبَل أدعياء التَّجديد الديني، أو من قِبَل بعض العلماء والباحثين حيث اعتبروه كذلك امتدادًا لهذا التيار، دونما مراعاةٍ لمراحل تَطوُّر وتغيُّر حياته العلمية وموقفه من السنة النبوية. وهذا الصَّنيع قد جعل العقلانيين والحداثيين يستشهدون بأقواله، وما كتبه في بداية حياته العلمية قبل تراجعه عن آرائه تجاه بعض قضايا السنة، ولا سيما أنه يُمثِّل قيمةً علمية كبيرة. ولكن الحقيقة التي يجب أن تنكشف هي أن الشيخ "محمد رشيد رضا" قد حَدَثَ له تغيُّر في آرائه ومواقفه، تراجَعَ من خلاله عن كثير من المسائل العلمية حول السنة النبوية، ولا سيما بعد وفاة شيخه "محمد عبده"، وقد أشار إلى ذلك د. مصطفى السباعي رحمه الله بقوله: (أمَّا السيد رشيد رضا رحمه الله، فيظهر أنه كان في أوَّل أمرِه مُتأثِّرًا بوجهة أستاذه الشيخ "محمد عبده"، وكان مِثْلَه قليلَ البضاعة من الحديث، قليلَ المعرفة بعلومه، ولكنه منذ استلم لواء الإصلاح بعد وفاة أستاذه "محمد عبده"، وأخذ يخوض غمار الميادين الفقهية والحديثية، وغيرهما، وأصبح مَرجِعَ المسلمين في أنحاء العالم في كلِّ ما يعرض لهم من مشكلات، كَثُرت بِضاعتُه من الحديث، وخِبْرَتُه بعلومه، حتى غدا آخِرَ الأمر حامل لواء السُّنة، وأبرَزَ أعلامِها في مصر خاصَّة...) [8] . ويمكننا أن نُخلِّص هذا التراجع والتصحيح العلمي للشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله من خلال أمرين هامين، وهما: أولًا: موقفه من صحيحي البخاري ومسلم: يتلخَّص موقف الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله من "صحيحي البخاري ومسلم" في إعلاء قدرهما وقدر مؤلَّفيهما، فقال عن صحيح البخاري: (إنَّ "صحيح البخاري" أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله) [9] . وقال عنهما: (وجملة القول في "الصحيحين" أن أكثر رواياتهما متَّفق عليها عند علماء الحديث، لا مجال للنزاع في متونها ولا أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه) [10] . وقال: (ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي عرَّفوا به الموضوعَ في علم الرواية، ممنوعة لا يسهل على أحد إثباتها) [11] . وقال: (على أنَّ مَنْ أطال البحث فيه، وفيما قبله؛ يدهش لدقَّة الشيخين، ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحرِّيهما فيها) [12] . وقال - مُنتصرًا لهما: (ومن دقَّقَ النظر في تاريخ رجال الصحيحين، ورواية الشيخين عن المجروحين منهم، يرى أكثرها في المتابعات التي يُراد بها التقوية؛ دون الأصول التي هي العمدة في الاحتجاج. ثم إذا دقَّق النَّظر فيما أنكروه عليهما ممَّا صحَّحاه من الأحاديث؛ يجد أن أقوالهما في الغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما، لا سيما البخاري، فإنه أدق المحدِّثين في التَّصحيح) [13] . ورغم هذا الموقف الإيجابي من الصحيحين ومؤلفيهما إلاَّ أنه رحمه الله قد انتقد جملةً من الأحاديث، وأغلبها أحاديث في أشراط الساعة، ولكنه رغم انتقاده لها إلاَّ أنه يختلف عن غيره ممَّن وجَّهوا سهامهم إلى السنة النبوية وذلك في أمرين: 1- أنه لم يُعادي أحاديث الصحيحين، ولم يتَّخذ منها موقفًا سلبيًّا لمجرَّد النقد أو الهوى، يُثبِتُ ذلك دفاعه عن الصحيحين وما بهما. 2- أنه ظنَّ – من حيث أخطأ – أنه بذلك يخدم دين الله، وينصر سُنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بدفع الشبهات عنها، وعبَّر عن ذلك عندما ردَّ على مَن اتَّهمه بردِّ أحاديث الصحيحين بقوله: (إنني ذكرتُ حديث أبي ذرٍّ في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من "المنار" في سياق الأحاديث المُشْكلة، وطرقِ الحلِّ لمشكِلاتِها من مقالٍ طويلٍ في تأييد السُّنة... فجعل البَهَّاتُ المُفترِي نَصْرَنَا للسُّنة، ودفاعَنَا عنها تكذيبًا وكُفرًا لصاحبها صلى الله عليه وسلم، ولكتاب الله) [14] . ثانيًا: موقفه من التفريق بين السُّنة القولية والسُّنة العملية في الاحتجاج: تبنَّى الشيخُ رشيد رضا رحمه الله رأيًا مبدئيًّا وهو أن السنة يُقْصَد بها السنة العملية فقط، ومن ثَمَّ فإن السُّنة القولية والتقريرية غير داخلة في معنى السنة، وبنى على هذا الموقف رأيه في عدم حجية السنة القولية والتقريرية، فقال: (فالعمدة في الدِّين هو القرآن وسنن الرسول المتواترة، وهي السنن العملية؛ كصفة الصلاة والمناسك) [15] ، وقد تشبَّثَ بهذا الرأي العديد ممَّن يُنكرون السُّنة ويردُّونها من أمثال؛ "جمال البنا" و "توفيق صدقي" وغيرهم. ولكن العجيب هو أن هؤلاء وأمثالهم قد فاتهم أن الشيخ "محمد رشيد رضا" قد عَدَل عن رأيه هذا، وقد أشار إلى ذلك تلميذه د. مصطفى الرفاعي رحمه الله، بقوله: (لقد أدركتُه رحمه الله في آخر حياته، وكنتُ أتردَّدُ على بيته، فأستفيد من علمِهِ وفهمِهِ للشريعة ودفاعه عن السنة؛ ما أجد من حقِّ تاريخه عليَّ أن أشهدُ بأنه كان من أشد العلماء أخذًا بالسُّنة القولية، وإنكارًا لمن يُخالفها من المذاهب الفقهية، إني على ثقة بأنه لو كان حيًّا حين أصدر "أبو رية" كتابَه [16] ؛ لكان أوَّل مَنْ يرد عليه في أكثر من موضع في ذلك الكتاب) [17] . بل إن الشيخ نفسه قد كَتَبَ مقالًا جاء فيه ما يُثبت صحَّة ما قاله د. مصطفى السباعي، حينما عبَّر عن استيائه من أصحاب الاتجاه الحداثي الذي يريد نقل روح المدَنيَّة الغربية إلينا وتفريطه في دينه بقوله: (كذلك المُتَّبِعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرُّقي والمدَنيَّة، هم مُنَفِّرون للسَّوَادِ الأعظم عن هذه المدَنيَّة وعلومِها وفنونِها وصناعتِها؛ لأنه يعزو إليها ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية، بجملتها وتفصيلها، ورد السُّنن القولية منها، وإنكار بعضهم لما لا يوافق رأيه وهواه منها) [18] . وفي موضع خر يذم بعضَ المبتدعة الذين يأخذون بالسُّنة العملية دون الأحاديث القولية الصحيحة الثابتة، فيقول: (ومنهم [أي المبتدعة] مَنْ يَدَّعي اتِّباع سنته صلى الله عليه وسلم العملية التي تلقَّاها عنه أصحابه بالعمل، دون ما ثبت عنه بالأحاديث القولية؛ وإنْ كانت صحيحةَ المتون والأسانيد، لا يُعارضها مُعارِض من القرآن، ولا قطعيٌّ آخَرُ يُثبته العلم والعقل) [19] . وهكذا يترجَّح لدينا رجوعه عن إنكار السُّنن القولية، وعدم الاحتجاج بها إلى القول بِحُجيَّتها؛ بل والإنكار على مَنْ يرى عدم حجيَّتها. وقد اجتهد الشيخ "محمد رشيد رضا" في أمور أصاب في بعضها وأخطأ في بعضها الآخَر، كما أنه قد تراجع عن أمور رَضِيَها أو تقبَّلَها أوَّل أمرِه، وكذلك ظَلَّ ثابتًا على موقفه في مسائل بعينها، ومنها موقفه من خبر الواحد، الذي ظلَّ متابعًا شيخه "محمد عبده"، إذ زعم الشيخ "محمد رشيد رضا" وقوعَ الإجماع على أنَّ الحديث الصحيح لا يُفيد أكثر من الظن؛ بل يُطْرَحُ لِمُجَرَّد ظهور مُخالفته لقطعيٍّ من المعقول، فيقول: (أجمعَ العلماءُ من الأصوليين والمُحدِّثين على أن روايات الآحاد العدول الثقات؛ كالصحابة، وأئمة التابعين المعروفين، ومَنْ عُرِفَ بالصدق وحُسن السيرة مثلهم؛ لا يفيد أكثرَ من الظنَّ، وأجمعوا على أنه إذا رُوِيَ عنهم ما يُخالف المعقول القطعي، والمنقول القطعي كنص القرآن؛ فإنه لا يُعتدُّ بالرواية ولا يُعوَّل عليها، إلاَّ أنْ يُوفَّق بينها وبين القطعي منقولًا كان أو معقولًا فقط) [20] . وقال أيضًا: (فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلاَّ الظن) [21] . وإننا لنخلص إلى نتيجة هامة مفادها : أن الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله لم يكن مُعاديًا للسُّنة فضلًا أن يكون مُنكرًا لها، وإنَّ كثيرًا من مواقفه (السلبية حول السنة النبوية؛ ممَّا خالف به الشيخُ جماهيرَ العلماء؛ كان في أعداد المجلة الأُولى، حيث كان الشيخُ قليلَ الإلمام بمباحثها، ضعيفَ التمرُّس في كثيرٍ من قضاياها، إضافةً إلى تأثُّره بشيخه "محمد عبده" الذي غلبت عليه النزعة العقلية في تعامله مع نصوص الوحيين بعامة، غير أنَّ رشيد رضا بعد وفاة شيخه وخفوتِ ذاك التأثير الذي كان لـ"محمد عبده" عليه، وبعد أن صارت "المنار" ملجأ كثير من مسلمي العالَم في السؤال عن دينهم؛ تَعَمَّقَ في علوم السُّنة، وكَثُر استدلاله واستشهاده بنصوصها، واعتدل رأيه في كثير من مسائلها، وقد أشار إلى هذه الحقيقة؛ د. مصطفى السباعي رحمه الله الذي أدرك الشيخَ في آخِر سِنِيِّ حياته، وكفى بشهادة الشيخين المُحَدِّثين أحمد شاكر والألباني – وهما مَنْ هما – بتمكُّن الشيخ رشيد رضا في علوم الحديث؛ شهادةً وتزكية... وإنَّ صنيع كثيرٍ من أعداء السنة المعاصرين في الاستشهاد ببعض مواقف الشيخ رشيد رضا التي جانَبَ فيها الصواب؛ هو صنيعٌ يعوزه الإنصاف، ويفتقر إلى الموضوعية؛ لأنَّ هؤلاء أغفلوا – قصدًا أو جهلًا – ذِكْرَ مواقِفِه الأُخرى الكثيرة التي انتصر فيها للسُّنة ورواتها، خصوصًا في مراحله الأخيرة) [22] . [1] انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية (5/ 244). [2] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، د. أحمد بن محمد اللهيب (ص 6-7). [3] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 9-10، 25). [4] تيارات الفكر الإسلامي، د. محمد عمارة (ص 70-71). [5] مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين، د. محمود الطحان (ص 4-5). [6] انظر: الفكر الإسلامي المعاصر، غازي التوبة، (ص 40)؛ مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد (ص 50)؛ منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي (ص 80)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (ص 183). [7] - هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدِّين بن محمد بهاء الدِّين القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب: صاحب مجلة «المنار»، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي، من الكتَّاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. ولد في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) سنة (1282هـ)، ونَظَم الشِّعر في صباه، وكتب في بعض الصُّحف. ومن أشهر آثاره: «تفسير القرآن الكريم»، و«الوحي المحمدي»، و«شبهات النصارى وحجج الإسلام»، توفي بمصر سنة (1354هـ). انظر: الأعلام (6/ 126). [8] - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 45). [9] مجلة المنار، (29/ 51). [10] المنار، (12/ 697). [11] المنار، (29/ 104). [12] المنار، (29/ 41). [13] المنار، (12/ 696). [14] المنار، (32/ 774). [15] المنار، (27/ 616). [16] المقصود بكتاب "أبي رية" (أضواء على السنة المحمدية). [17] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 46). [18] المنار، (29/ 69). [19] المنار، (30/ 688). [20] المنار، (6/ 55، 56). [21] المنار، (7/ 508). [22] آراء "محمد رشيد رضا" في قضايا السنة النبوية من خلال مجلة المنار، محمد بن رمضان رمضاني (ص 452، 453).
تجديد وإحياء الفروض الكفائية لعبد الكريم القلالي صدر حديثًا كتاب " تجديد وإحياء الفروض الكفائية: من تصورات الأحكام الفقهية إلى تحقيق المقاصد العقدية الاستخلافية "، تأليف: د. " عبدالكريم القلالي "، نشر: " الدار العالمية للكتاب "، الدار البيضاء: المغرب. وهذا الكتاب دراسة بيانية لوظيفة الفروض الكفائية ومقاصدها السامية، وأثرها في تحقيق التنمية المستدامة والشهود الحضاري، كشف فيه المؤلف ما لحق بالفروض الكفائية من علل وانحراف في الفهم والتطبيق، مؤكدًا أن تجديدها وإحياءها هو السبيل إلى إحياء المجتمع والدولة والأمة، ومبينًا أثرها في تنمية الحس الاجتماعي واستشعار المسؤولية التضامنية، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية. وفيه بيان الأسس والأبعاد النفسية والفكرية للفروض الكفائية، وأثرها في جلب المقاصد العقدية الاستخلافية، وعلاقتها بتنوع القدرات والقابليات الإنسانية وتقسيم العمل المعتمد على القدرات والكفاءات المحققة للكفاية. واستشرف فيه المؤلف الرؤية المستقبلية لكيفية إحياء الفروض الكفائية منطلقًا مما كان لها من أثر في تحقيق الشهود الحضاري خلال فترات من التاريخ، واستطاعت الأمة بتنزيلها في مختلف مجالات التنمية أن تصعد نحو معارج التقدم والرقي؛ لكنها تعرضت فيما بعد إلى الانكماش الذي أدى إلى تقزيمها وتخلفها عن الشهود الحضاري. كما تناول الكاتب في مؤلفه مراجعة فكرية لأثر الفروض الكفائية في التنمية المستدامة، ومقاصد الإنسان الوجودية. أما عن معنى الفرض الكفائي في اصطلاح الفقهاء: فجل ما عليه الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم هو تركيزهم على تعريف الفرض الكفائي بحكمه، وألفاظهم متقاربة في تعريفهم هذا، كما عرفه صاحب كتاب "التعريفات" الإمام الجرجاني بقوله "وفرض الكفاية: ما يلزم جميع المسلمين إقامته ويسقط بإقامة البعض عن الباقين كالجهاد وصلاة الجنازة". وقد عرف الغزالي الفرض الكفائي بقوله "هو كل مهم ديني يريد الشرع حصوله، ولا يقصد به عين من يتولاه". وبذلك نجد أن فرض العين يختلف عن فرض الكفاية من حيث تحقيق المصلحة ففرض العين يؤدي إلى تحقيق مصلحة الفرد ورفع شأنه في مجال الأمر المطلوب منه، في حين أن فرض الكفاية يؤدي إلى تحقيق مصلحة المجتمع، ورفع شأنه، فهو مهم من مهمات الوجود سواء كانت دينية أو دنيوية، وهو ما أشار إليه الإمام الشاطبي بقوله: "وحاصل الثاني - أي طلب الكفاية - إقامة الأود العارض في الدين وأهله". لذا كانت هذه الدراسة هامة في استجلاء أسس الفروض الكفائية في إقامة مجتمع مترابط الأركان، لا يغفل عن دوره في إقامة أمر جماعة المسلمين، ونصرة المقاصد الشرعية للدين. والمؤلف د. "عبد الكريم القلالي" من مواليد الحسيمة بالمملكة المغربية عام 1985م، وحاصل على الدكتوراه في تخصص العلوم العقدية والفكرية في الغرب الإسلامي، كلية أصول الدين تطوان - المغرب، ويعمل أستاذًا بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس/ المغرب. شارك في عدد من الندوات الوطنية والدولية، وله عدد من المؤلفات المنشورة، منها: • "تأويل النصوص الشرعية وآثاره العقدية والفكرية في الغرب الإسلامي". • "التكامل المعرفي في تجديد علوم الشريعة عند علماء المغرب، أهميته وضوابطه". • "افتراءات المستشرقين على الفكر الإسلامي؛ قضايا السنة والعقيدة أنموذجًا". • "تأملات وسوانح فكرية؛ فصول من القول والنقد والرأي في قضايا معاصرة".
قراءة في كتاب الإنسان العاري يأتي كتاب الإنسان العاري عملًا جديدًا للكاتبين مارك دوغان وكريستوف لإبر، وترجمة الدكتور السيميائي سعيد بنكراد. يتكون الكتاب من 191 صفحة من الحجم المتوسط، ويحتوي على أكثر المواضيع نقاشًا في العصر الحالي؛ حيث يبيِّن عبر فصوله الستة عشر، وبأسلوب استنباطي ولغة إحصائية تعتمد على الكثير من الإحصاءات، كيف تستطيع مجموعة من الشركات المتعددة الجنسيات، أو ما يُعرف بـ " BIG DATA " - تكوين تغييرٍ كاملٍ في حياتنا اليومية عبر العديد من وسائل التواصل: كالفيسبوك وغوغل وآبل وأمازون وتويتر؛ حيث أصبح الناس يقدِّمون حريتهم طواعيةً عندما يُبحرون في الإنترنت، فيصبحون كأنهم يعرفون عنهم أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم. هذا ما وضَّحته مقدمة الدكتور سعيد بنكراد لهذا الكتاب، فقد بيَّن كيف أن الثورة الرقمية ورغم جمعها بين المنفعة والخير، فإنها فعلًا قد تكون أزالت مفهوم الحياة الشخصية للإنسان، وجعلت الجميع يعيش في فردانية ووحدانية، وهذا ما تسميه المحللة النفسانية الفرنسية الزاغودار (الأنا الرقمية) ''إننا جميعًا ولكن وَحدَنا''. يعتبر الكتاب بمثابة أبحاث ذات جرأة عالية تكشف عن الظروف التي أصبحت تعتمدها BIG DATA لتبرير تصرُّفاتها بكونها جهادية للإرهاب، فهي بهذه التبريرات تجعل الناس أكثر استخدامًا لها، ويتواصلون عبر طريقها، ولا يفكِّرون في الاستغناء عنها؛ مما يجعلهم لا يرون إلا الوجه السطحي لها دون رؤية ما تُخفيه من الداخل، وبذلك تكون قد تحققت نبوءة أفلاطون: ''لا تعتقد أنهم إذا تداولوا فيما بينهم، فسينظرون إلى الظلال أمامهم باعتبارها أشياءَ حقيقية''، هذه النبوءة التي أصبحت تصف بشكل دقيقٍ عالَمنا الرقمي، ويوضح أن ما أصبحنا نعيشه اليوم قيدٌ بالأوهام في العالم الذي تريده البيغ داتا. لقِي الكتاب - وفور صدوره - إقبالًا كبيرًا، وأصبح من أكثر الكتب مبيعًا في مجال الدراسات التي تهتم بالعالم الافتراضي، فقد جاء إنذارًا ولمحة عما يحمله المستقبل الآتي من مخاطر وصعوبات متمثلة في استحواذ مواقع التواصل الاجتماعي على عقول الناس، ومعرفة كل أمورهم وآلامهم، وتبعًا لذلك يوضح الكاتب آنفًا مفهوم "الحياة الشخصية"، ويبيِّن المعلومات الكامنة في هذا الكتاب التي تتجلي في التحكم الكبير لشركات القارة السابعة على عقول وطرق تفكير الناس وسلوكياتهم، فشركات غوغل وفيسبوك وتويتر يتوفرون على ما يطلق عليه الكاتبان "المنجم الذي يملك الذهب الأسود الجديد"، ويقصد يذلك توفُّرهم على ثمانين بالمائة من المعلومات الشخصية للرقمية الإنسانية. إن هذا العالم الافتراضي الذي تتزعمه البيغ داتا، أصبح يمتلك جميع المعلومات، ويعرِف عن الناس أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم، وهو ما تفعَله وكالة الأمن القومي الأمريكية، فهي تملك أكثر المعلومات عن موظَّفيها أكثر حتى مما يعرِفه عنهم جهاز "ستازي" في زمن ألمانيا الشرقية. إنها تعرف كل اتصالاتهم وتحرُّكاتهم، وهو الأمر الذي يجعلنا نُدرك مدى خطورة هذه المواقع، فإذا كانت فعلًا جيدة، فما معنى انتقاد الفيلسوف والكاتب الإيطالي الشهير والكبير (أمبرتو إيكو) لها حينما تحدث في مقابلة صحفية، فقال: "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنَح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق في الكلام مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء''. لهذا يؤكد المؤلفان أن كل ما نفعله، سواء من اقتناء الأغراض، أو تواصل مع العائلة، أو ما سنفعله في كل يوم من أيامنا العادية، يتم ترقُّبه ومتابعته. إن هذه المواقع ترسل في اليوم الواحد حوالي 300000 تغريدة، و 15 مليون رسالة قصيرة، و 204 مليون رسالة إلكترونية في كل أنحاء العالم، وترقم الأجهزة المحمولة والهواتف الذكية الأخرى أدوات أخرى تحصل من خلالها البيغ داتا على معطياتنا الشخصية، وتود منا أن نترقبها، ونعمل بها، لذلك فهي تجد نوم الإنسان عائقًا يواجهها، ويعرقل طريقها إلى النجاح، لذا فإنها تركِّز دراستها واهتماماتها عليه، من خلال دراسته طائر الشرشور وذي العنق الأبيض هذا الطائر الذي يستطيع أن يبقى مستيقظًا سبعة أيام متتالية أثناء هجرته، من أجل ذلك وضعت وزارة الدفاع الأمريكية برنامجًا لمدة خمس سنوات بغية الاستفادة من قدرته الفريدة والمقاولة، من خلال تكوين أشخاص يستغنون عن النوم فترة طويلة، وبفضل كل ما ذكرناه، فقد صُنفت شركة غوغل أحسن مقاولة في العالم في أقل من 15 سنة، وقد وصلت قيمتها في البورصة إلى 544 مليار دولار. إن التطور الهائل الذي وصلت إليه البيغ داتا جعلها تترقب البشرية جمعاءَ، تترقب أنماط حياتنا وأنواع الموسيقى التي نُحبها وصورنا العائلية، وغير ذلك، لهذا وجب علينا احترام أوقات استعمالها وعدم الإدمان عليها، وإنما التقليص من استعمالها والرجوع إلى أجواء الدفء العائلي والعلاقة الحقيقية.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق - الانسلاخ ) وكما ناقشت بعض الأطروحات العربية صورة العربي في الدراسات الاستشراقية الحديثة وكذلك في الطرح الإعلامي السريع القائم غالبًا على الإثارة، فإن بعض الغربيين يعاني كذلك من الطرح العربي لصورة الغربي في الدراسات التي تصدت للاستشراق كما تصدت لصورة العربي في الإعلام الغربي، مما أدى إلى محاولة الإساءة للإنسان الغربي، الذي يبني اليوم حضارةً قائمة على العلم والتقانة، ويسعى إلى التخلص من خلفياته الدينية والذاتية،ومثل هذا الطرح هو ما يمكن أن يصدق عليه بأنه نواة للاستغراب الذي ستأتي مناقشته في وقفات لاحقة. واللافت أن بعضًا من دارسي العربية والإسلام من أمثال دومينيك شوفالييه وهو مستشرق فرنسي، يَدْعون العرب إلى التخلي عن تراثهم ودينهم في سبيل تبني هذه الحضارة المادية القائمة على العلوم والتقانة [1] . والمتوقع هنا أن العربي وغير العربي لن يتمكن من التخلي عن تراثه ودينه والاستعاضة عنه بحضارة العلوم والتقانة، وإن دعا إلى ذلك بعض الداعين؛ فلقد طالعتنا الكتب التي نشرها مركز دراسات الوحدة العربية عن الأبعاد الدينية في السياسات الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية [2] ،مما يعني توظيف الدِّين، ولو لم يعلن توظيفه. ولا يظهر أن العرب سوف ينسلخون من دينهم وحضارتهم التي قامت على هذا الدين ليتبنوا حضارة العلوم والتقانة؛ ذلك أن العرب المسلمين يدركون أن الدين هو الذي يدعو إلى حضارة العلوم والتقانة، بخلاف فهم بعض المتدينين الغربيين لدينهم، الذي رأوا فيه مانعًا من العلوم والتقانة، وهذا ما حذرنا منه موريس بوكاي من أن يسري بيننا هذا الفهم، لا سيما المسلمين الذين يدرسون في الغرب أيَّ نوع من الدراسات، حتى لو كانت علمية تطبيقية، أو تقانية بحتة [3] . ومن هنا يأتي الفرق بين دين يدعو إلى العلوم والتقانة، ويفرض على أتباعه التعلم والعمل والاحتراف، ويجعل ذلك بين فرض العين وفرض الكفاية، وبين دين عُرف عنه أنه يحارب العلوم والتقانة، ويجعلهما شكلًا من أشكال الهرطقة التي لا تتفق والتوجه الديني. ولعل من أسباب دعوة بعض المستشرقين إلى التخلي عن الدين والتراث لدى العرب، والمقصود هنا المسلمون: فَهْمَ الدين الإسلامي بالفهم الغربي للدين. وعلى أي حال، فإن هذا الطرح حول الاستشراق في كونه محددًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب لا يُلغي ما لبعض المستشرقين المنصفين الجادين من جهود محمودة في الإسهام في حفظ التراث العربي الإسلامي ودراسته ونشره وتحقيقه وترجمته، مما يؤكد النظرة المنصفة في دراسة الاستشراق،"إنه مهما وُجِّهت من تُهَمٍ للاستشراق والمستشرقين لا بد من إنصاف بعضهم، وخصوصًا أولئك الذين أدَّوْا للتراث العربي الإسلامي خدمات جليلة، سواء بأبحاثهم العلمية القيمة، وتحقيقاتهم للتراث، واكتشاف مصادره، ووضع فهارس مهمة يستفيد منها القارئ العربي والغربي في أبحاثه ودراساته" [4] . وعند الدخول في تحليل هذا الفهم فإنه يقود إلى نواة الاستغراب التي يدعو إليها بعض العرب والمسلمين [5] ، كما يدعو إليها بعض المستشرقين، ومنهم المستعربون والمهتمون بالحضارة العربية والثقافة الإسلامية. [1] انظر: أحمد الشيخ ، من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق - القاهرة: المركز العربي للدراسات الغربية، 1999م - ص 103 - 111. [2] انظر: يوسف الحسن ، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - ط 2 - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997م - ص 222. [3] انظر: موريس بوكاي ، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ، Maourice - ، Bucaille ، The BIBLE THE Quran and Science - translated from French by: Alasteair D ، Pannell and the Author - ، Indianapolis: North Ammerican Turst ، 1978 - p 253 . [4] انظر: محمد القاضي ، الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف - التاريخ العربي - ع 66 (ربيع 1424هـ/ 2003م) - ص 179 - 208. [5] انظر: حسن حنفي ، مقدمة في علم الاستغراب - بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1412هـ/ 1992م - ص 910.
مواقف مشهودة لعدد مِن الذين دخلوا في الإسلام شد الله تعالى أَزْرَ نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بعدد من المسلمين من أولي البأس والشدة والصبر والتمسك بالدين، وضرب المثل في التضحية وبذل النفس في سبيل الله: ﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]، وقد أفسَحوا ببذلهم وتضحيتهم للنور لأن ينتشر وينطلق ليضيء ظلامَ الأرض الدامس الذي خيَّم دهرًا عليها، فكانوا قدوة لمن بعدهم إيمانًا وحبًّا وبذلًا. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بعد أن كان أول الرجال إسلامًا، ساهم في نشر الدعوة بشكل فعال؛ فأسلم بدعوته عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وتروي عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلًا - ألَحَّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: ((يا أبا بكر، إنا قليل) )، فلم يزل أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أولَ خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطِئَ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا، ونال منه عتبة بن ربيعة، فجعَل يَضرِبه بنعلين مخصوفتين، ويُحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يُعرَف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم - عشيرة أبي بكر - يتعادَوْن، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثم رجع بنو تيم إلى المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتُلنَّ عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم - أسمعوه شيئًا لا يعجبه؛ لأن أول ما تكلم به: ما فعل رسول الله؟ - وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه - أم الخير -: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبدالله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو الله أن ينتقم منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله عليَّ ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله، وادعُ الله لها؛ عسى أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت. ومع هذا الصمود لأبي بكر، فإن للإنسان قوة تحمُّل لا تقوى على شدة الإيذاء؛ لذلك طلب أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمح له بالهجرة إلى الحبشة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى إذا سار من مكة يومًا أو يومين، لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث، فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذوني وضيَّقوا عليَّ، قال: ولمَ؟ فوالله إنك لتَزِين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتَكسِب المعدوم، ارجع فإنك في جواري، فرجع معه، حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرض أحد له إلا بالخير، قال: فكفوا عنه، وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح، فكان يصلي فيه، وكان رجلًا رقيقًا، إذا قرأ القُرْآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة، فقالوا: يا بن الدغنة، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق، وكانت له هيئة، ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فأْتِه فمُرْه بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما يشاء، فمشى ابن الدغنة إليه، فقال: يا أبا بكر، إني لم أُجِرْك لتؤذي قومك، وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟! قال: فاردُدْ عليَّ جواري، قال: قد رددته عليك، فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد عليَّ جواري، فشأنكم بصاحبكم، فجاء سفيه من سفهاء قريش فحثا على رأس أبي بكر التراب، فمر به الوليد بن المغيرة، وقيل: العاص بن وائل، فقال أبو بكر: ألا ترى ما يفعل هذا السفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.
"الإطار النظري" ( Theoretical Framework ) : رحلة شخصية أكاديمية في تطويع المصطلح تمهيد: ليس سهلًا أن يفتح الإنسان نافذة جديدة، يعبر فيها عن أفكاره وقناعاته وإيمانه بمبدئه ضمن مجال ما له مصطلحات وممارسات فَهم، أصبحت من قبيل المسلَّمات، حتى وإن كانت تلك المصطلحات في فلسفتها وتنظيراتها تتيح مساحةً لأفكار جديدة؛ لتتدافع معها وتشاركها الوجود أو حتى توسعها. مكمنُ الصعوبة هم القائمون على قنوات ذلك المجال الذين أخضعوا مصطلحاته لفَهم سائد ولممارسات أصبحت من المسلمات. جانب من الصعوبة يكمن في قولبة مفاهيم مصطلحات ذلك المجال ضمن ممارسات فكرية ضيقة بدلًا من فسح الطريق لتوسيعها؛ لتناسب سَعة الفهم والإدراك البشري الغني بتنوع تجربته وخبرته ومعرفته تنوعًا يتيح للإنسان مساحة للمقارنة والاختيار، واتخاذ القرار الفكري المناسب له. أغرب ما في الأمر هو أن يتمَّ التشبث بفَهْم محدد لمصطلحات مرنة وواسعة لا يعبر أساسًا عن ثقافة بيئة المتشبثين به الذي تعوَّدوا عليه بدون إدراك لمرونة وسعة تلك المصطلحات نفسها، وإعاقتهم لأي محاولة إدراك إيجابية تبعث روحًا تجديدية في المجال كله، قد تكون محاولة فتح رؤية جديدة صعبة بالفعل، إلا أنها ليست مستحيلة إن آمن الإنسان أولًا بأحقية تعبيره عن أفكاره وقناعاته وإيمانه بمبدئه، ضمن مجال متاح ومشروع أساسًا، وثانيًا يُمكنه فتح النافذة بمفتاح يناسب طبيعتها مثلًا إن رأى أن طبيعة الصعوبات الناجمة بشرية، فعليه التغلب عليها بخطوات من نفس نوعها؛ أي بالعلاقات الإنسانية، قياسًا بالمثل الشهير القائل: "لا يَفِلُّ الحديد إلا الحديد"، وأيضًا يمكن للإنسان أن يقدم بعض التنازلات التي لا تؤثر على جوهر المبدأ، طالما كان مؤمنًا بصوابه، لتتحرك العَجَلة في المقام الأول. سأتحدث في المقال التالي عن تجربة شخصية مع مصطلح بحثي معناه في أساسه مرن، إلا أن الفهم السائد له قد انتقل إلى وضع المسلَّم به ضمن مجال أكاديمي معين سيأتي ذكره، لم أستطع تقبل الفهم السائد للمصطلح الذي كان يحاول تعديل أو تغيير أو جعلي أتخلى عن رؤيتي الإسلامية لتناسب فهمًا سائدًا معينًا في ذلك المجال الأكاديمي، وأساسًا لم يكن مفترضًا أن يُشْغَلَ هذا المصطلح كقالب بحثي بفهم محدد يجعله لصيقًا ومسلَّمًا به، إلا أن بعض ممارسي هذا المجال الأكاديمي قد تعودوا عليه أو ربما، كطريق سهل، يسبحوا فيه مع التيار، كيفما اتفق، في حين كان وقتها لدي شعورٌ ينأى بي عن - أو يجعلني أقاوم - تأثير ذلك الفهم السائد، فنشأت تجربة أرجو أن تكون مثيرة ومحفزة لرفض التقولب ضمن فهم محدد، طالما كانت رؤية الإنسان تعطيه فرصة للانطلاق نحو آفاق فكرية أرحب، وطالما أيضًا كانت هناك مساحة لذلك. مرحلة التعرف على المصطلح والتوتر المعرفي الناجم: لم أعرف تحديدًا مصطلح " الإطار النظر ي " إلا بعدما أنهيت رسالة الماجستير [1] ، رغم تطبيقي لمحتوى المصطلح في الرسالة وإبرازي له، كما يبدو لي الآن، كمنهجية بحثية أكثر منه إطارًا نظريًّا، و" الإطار النظري " هو مصطلح بحثي يستخدم في الأبحاث الأكاديمية النظرية للتدليل على الرؤية النظرية والفلسفية الشاملة التي يتبناها الباحث لترشد وتقود عملية البحث، وموضعة البحث، بشكل عام، ضمن سياقها، بدأت أعي المصطلح ومعناه تدريجيًّا بعد قراءتي لكتاب يشرح ويطبق بطريقة سلسة مجموعة من النظريات الأدبية النقدية المعاصرة في الغرب [2] ، وعندما بدأت بحث الدكتوراة، متأثرًا بنظريات هذا الكتاب، أردت أن استخدم نظرية "ما بعد الاستعمار" (أو "ما بعد الكلونيالية" Postcolonial Theory )كإطار نظري للبحث إعجابًا مني بأفكارها ومفاهيمها (في بداية تعرفي عليها) لقراءة رواية عربية مترجمة للإنجليزية، ضمن برنامج الأدب الكلونيالي المكتوب أو المترجم للإنجليزية في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الوطنية الماليزية؛ أي: إن الموضوع بدايةً كان محاولة إيجاد إطار نظري يمكن من خلال مفاهيمه قراءة (أو نقد) رواية أو مجموعة روايات، إلا أن تعرُّفي على النظرية استغرق فصلًا كاملًا من القراءة النهمة والمتعمقة، فأبت أفكار هذه النظرية إلا أن ترتد انعكاسًا في ذهني عليها نفسها في الأخير [3] ؛ أي: بدأت أُسائِل النظرية نفسها مستخدمًا نفس مفاهيمها: مثلًا، عن مفهوم "الهوية" Identity ، من أين تستمد النظرية مفهومها عن الهوية الذي يرى أن الهوية متشكلة وليست أصيلة أو أصلية، ومن ثَمَّ بحسب تنظيراتهم، يُمكن الوعي بآثار الخطاب الإمبريالي البريطاني السلبي الذي تَمَّ تمريره في أذهان الشعوب المستعمرة عن أنفسهم، وتشكيل خطاب خاص بتلك الشعوب نابع من إدراكهم بممارساتهم سواء قبل وجود المستعمِر أو أثناء وجوده أو بعد رحيله؛ إلخ؟ وهنا بدأت هذه النظرية تقودني إلى النظريات النقدية الغربية الأخرى التي تستمد منها بعض مفاهيمها، وتدريجيًّا وأخيرًا نحو الفلسفة الغربية بتفرعاتها التنظيرية المختلفة التي كنت أرى فيها تعارضات عقائدية صعب التسليم لها أو بها، كنت أرى تعارضات جذرية كثيرة في مفاهيم تلك النظرية النقدية، ومفاهيم النظريات الغربية عمومًا التي تستمد أفكارها منها مع الرؤية الإسلامية؛ الرؤية للإله وللإنسان وللغة وللخطاب وللحياة بشكل عام ... إلخ، فعلًا صُدمت بما علمت حينها؛ كمسلم لم أستطع التسليم أو حتى التظاهر بالتسليم - ولو مؤقتًا - لتلك الرؤى الفلسفية العقائدية في مضمونها، ناهيك عن تمثلها لعدة سنوات دراسية، والرؤية من خلالها كإطار نظري يقود ويرشد عملية البحث، وكانت تتراءى لي الحياة الأكاديمية المستقبلية عمومًا أنها ستسير في ظل ذلك، إلا أني تريَّثتُ، ولكن ابتعدت فصلًا أكاديميًّا آخر عن تحديد موضوع للبحث، متتبعًا جذور تلك الأفكار التي بدورها كما أسلفت قادتني إلى الفلسفة الغربية ذهابًا وإيابًا من منظِّري ما بعد البنيوية (ميشيل فوكو، وجاك دريدا، والثوسر، إلخ) والبنيوية (سوسور، وفنجنشتاين، وبارت، إلخ)، وقبلهم نيتشيه وماركس وفرويد وديكارت، حتى أرسطو وأفلاطون، وفي تلك الأثناء، وعيت تمامًا أن الفلاسفة والمنظرين الغربيين آخذون موضوع تفسير الكون والإنسان، وكل ما يتعلق بذلك من تفاصيلَ - بجدٍّ كفكر وحياة أكاديمية على الأقل، وكأن لا حقيقة ولا علمية ولا أكاديمية إلا ما يقولون، وكان هذا سبب عدم تقبلي لذلك في حينه [4] ؛ حيث كنت أقول لنفسي: "حسنٌ، نحن لدينا قرآن كريم وسنة نبوية وهي مرجعيتنا لفهم الكون والإنسان؛ إلخ"، فكان القرآن الكريم لي دليلًا ومرجعًا يعيدني إلى جادة الصواب، عندما أغوص في أفكار تلك النظريات والفلسفات الغربية، ولولا إيماني بأن كتاب الله هو المرجع في كل شؤون الحياة بما فيها الحياة الأكاديمية، لكان تيار المفاهيم الفلسفية الغربية الهادر الساحر جرفني معه، فلطف الله سبحانه وتعالى كان دائمًا معي، ولله الحمد. كنت أسائِلُ نفسي: هل أتيت إلى ماليزيا لأتخصص في الأدب والنظرية النقدية الأدبية أم لأتعرف على كيفية فهم الكون والإنسان؟ كانت نظراتي للأدب ولنقده ولجذور النقد الأدبي الممتدة والمتصلة بالفلسفية غير مترابطة ببعضها؛ ربما لتركيزي على إتقان اللغة الإنجليزية كلغة أكثر من أي شيء آخر في المرحلة الجامعية الأولى، وربما أيضًا ترجع تلك النظرة غير المترابطة عندي لقصور أكاديمي منهجي في أقسام اللغة الإنجليزية، فعندما بدأت أحاول فهم مصطلح " الإطار النظري " فوجئت بطرح الفلاسفة الغربيين والمتغربين عندما يعرضون ويناقشون المفاهيم المختلفة: كاللغة، والخطاب، والإيديولوجيا، والفاعلية الذاتية الإنسانية أو عدمها، والهوية، إلخ، بربطها بالنظرة الكلية للمجتمع والحياة والإنسان والإله أو موت الإله أو موت الإنسان كما يفلسفون، وما تفاصيلها عند استخدامها في نقد الأدب إلا تطبيقٌ لتلك الرؤى الفلسفية التي تتشكل هي أيضًا بدورها من ملاحظات الفلاسفة والمنظِّرين لآداب وحياة ولغات الشعوب المختلفة، فقلت لنفسي: ما دامت نظريات ما بعد الحداثة الغربية، ونظرية "ما بعد الاستعمار" ترى أن الأمور نسبية، وأن لا فضل لأحد على أحد، فبإمكاني أن استخدم الرؤية الإسلامية كإطار نظري في بحثي للدكتوراة؛ وفكرت في نقد واحدة من نظريتين من منظور إسلامي؛ إما نظرية "ما بعد الاستعمار" أو "تفكيكية دريدا"؛ لِما لهاتين النظريتين، كما لاحظت، من تأثير كبير في الدراسات الأدبية الإنجليزية على الأقل، مع كل الجهد الذي بذلته، إلا أني لم أجد حينها من يتبنى رؤية إسلامية كإطار نظري لدراسة أكاديمية لاتخاذها كمثال أهتدي به، فقد كان وما يزال تيار الفكر الفلسفي الغربي، كما هو ملاحظ من الأوراق البحثية الكثيرة المنشورة، مسيطرًا على أذهان ووجدان كثير من الأكاديميين المسلمين في أقسام اللغة الإنجليزية، على أقل تقدير، في كثير من بلدان العالم العربي والإسلامي؛ حيث لا يستطيعون رؤية غير ذلك الفكر لاستخدامه كإطار نظري لدراساتهم وأبحاثهم الأكاديمية، لكني لم أستسلم، برغم بدء نفاد زمن المنحة الدراسية [5] ، والوقت المخصص للانتهاء من بحث الدكتوراة، وتأخر تسليم خطة البحث عن وقتها، ووضعي الدراسي الحرج الذي وضعت نفسي فيه، حاولت أن أجد طريقًا، ولساني وكل حالي يردد قول الحق سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]. مرحلة البحث عن إطار نظري يتوافق مع الرؤية الإسلامية: في هذه الأثناء، بدأت مرحلة أخرى عندي موازية لتلك القراءات النظرية الفلسفية السابقة، وهي مرحلة التعرف على آراء المفكرين المسلمين عن الكون والإنسان، والهوية واللغة، والإيديولوجيا والخطاب، والذاتية والنصية وتداخل النصوص، إلى آخر المفاهيم التي يتناولها المنظِّرون والفلاسفة الغربيون، ولكن لم يكن سهلًا عليَّ إيجاد أولئك المفكرين المسلمين في البداية نتيجة لجهلي بهم ولندرتهم أيضًا، ونظرًا لكثرة الباحثين العرب والمسلمين الذين يتبعون النظريات النقدية الغربية في أوراقهم البحثية وكتبهم النقدية، وحتى في مقالاتهم النقدية الصحفية؛ لذلك، لم أجد أحدًا يساعدني على الرد على ما يقوله المنظرين والفلاسفة الغربيين [6] ، فبدأت أتخبط يمنة ويسرة بحثًا عن معلومات مشابهة لدينا نحن المسلمين، وجدت بعض الكتب والمقالات لكن كانت كلها تقريبًا تتكلم - بشكل عام فقط - عن تعارض المفاهيم الفلسفية الغربية مع الرؤية الإسلامية، في حين كنت أبحث عن مقابل أو مناظر أو بديل لتلك المفاهيم الفلسفية الغربية حتى يمكنني القول أن لدي إطارًا نظريًّا لموضوع بحثي؛ فبدأت أقرأ في الفلسفة الإسلامية وتعرفت على آراء المعتزلة والأشاعرة فيما يتعلق بالاسم والمسمى، وابن فارس، والجرجاني ... إلخ، ثم عن طريق أحد الزملاء [7] ، تعرفت على كتاب محمد شحرور: الكتاب والقرآن: رؤية جديدة، فُتنتُ به في البداية حتى وصلت إلى آخر الكتاب ووجدته يكيل المديح بلا ضابط للديمقراطية الغربية، فتنبهت لخلل منهجه، فأعدت قراءة الكتاب مرة أخرى قراءة فاحصة، وتبين لي أنه فعلًا يقرأ بلا رؤية أو منهج واضح سوى هوى النفس، فتركته؛ ثم وجدت لاحقًا من ردَّ على أفكاره بكتب ومقالات كثيرة، ثم تعرفت على كتاب للدكتور عبدالوهاب المسيري بعنوان: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود ، قرأت الكتاب عدة مرات قراءات متأنية، وأعجبت به وما أزال؛ فالمسيري رحمه الله من المتمكنين جدًّا في عرض ونقد الفلسفة الغربية؛ إلا أن تعرُّفي عليه حدث بعد تعرفي على الفلسفة الغربية من الكتب الأصلية الإنجليزية أو المترجمة لأصحابها، والكتب الشارحة لها، لكنه أثْرَى معرفتي بالفلسفة الغربية بلا شك، وأيضًا تعرفت على بعض كتب الدكتور إسماعيل الفاروقي وبعض جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي في أسلمة المعرفة، ثم جهود كتَّابِ ونقَّاد الأدب الإسلامي من أمثال الدكتور عماد الدين خليل [8] ، والدكتور وليد قصاب وغيرهما، ثم أخيرًا وجدت ضالَّتي في أفكار الفيلسوف الماليزي المسلم سيد محمد نقيب العطاس، وأفكار أستاذه الفيلسوف الياباني آيزوتسو توشيهيكو [9] ؛ اللذين كانا لديهما قدرة عالية وصعب تجاوزها على التأصيل لمفاهيم بحثية تقابل - بل وتتعدى - مفاهيم المنظرين والفلاسفة الغربيين، وأهم شيء بالنسبة لي حينها كانت رؤيتهما - على ما أحسب - تتوافق مع الرؤية الإسلامية. عقبات على الطريق: رغم كل ذلك الوقت (سنة وتسعة أشهر) والجهد والقراءة، قُوبلت محاولتي الأولى لنقد نظرية "ما بعد الاستعمار" أو "تفكيكية دريدا" من منظور إسلامي بالصدِّ أولًا من قبل مشرفتي الهندية الماليزية غير المسلمة، التي اضطُررت لطلب تغييرها برغم كفاءتها الأكاديمية؛ لرغبتي في تغيير موضوع البحث وإطاره النظري ؛ وأيضًا لاحقًا قُوبلت المحاولة بالصد من قِبل المشرفتين الماليزيتين المسلمتين الجديدتين اللتين تم تعيينهما لي بدلًا من المشرفة الأولى [10] ، الأخيرتان حاولتا مساعدتي وإقناعي بأن بَرنامج القسم لا يسمح باتخاذ " إطار نظري " كمادة للبحث يتم نقده بإطار نظري آخر، وأن عليَّ إنْ أردت أن أواصل بحث الدكتوراة أن أتخذ روايتين أو أكثر كمادة للبحث، وأحاول إيجاد إطار نظري لذلك كما أرغب، وكانتا قد تفهَّمتا أن مشكلتي ليست مع الأدب بحد ذاته بقدر ما هي مع " الإطار النظري " الذي من خلاله ينظر الباحث برؤية نظرية (فلسفية) لقراءة (أو نقد) الأدب، سألتني المشرفة الثانية: ألم تكن تعرف أن النظريات والفلسفات الغربية غير متوافقة مع الرؤية الإسلامية؟ فأجبتها، صادقًا، بالنفي؛ حيث كانت دراستي الجامعية السابقة ضمن سياق التيار الأكاديمي الغربي السائد في أقسام اللغة الإنجليزية في اليمن، الخلاصة أنهما نصحاني أن أقدم أولًا خطة بحث بالإطار النظري الذي أراه، بشرط أن تكون مادة البحث هي الأدب (الرواية أو أي نوع آخر)، فرضَخْتُ مضطرًا نتيجة لوضعي الدراسي الحرج حينها، ولِما سببته لي المشرفة الهندية الماليزية السابقة بتقريرها السلبي عني للجامعة، أن أُعيد ترتيب أفكاري بحيث تكون مادة البحث الرواية، والإطار النظري متوافقًا مع الرؤية الإسلامية. النجاح في تقديم إطار نظري ذات محتوًى متوافق مع الرؤية الإسلامية: استغرق الموضوع فصلًا دراسيًّا آخر؛ لأكمل بذلك عامين أكاديميين كاملين محاولًا تقديم خطة بحث أكاديمي، تمكنت خلاله بمساعدة أفكار الفيلسوف الماليزي سيد محمد نقيب العطاس وبعض أفكار نقاد الأدب الإسلامي أن أقدم خطة بحث بإطارٍ نظريٍّ متوافق مع الرؤية الإسلامية، وأيضًا بمساعدة أفكار العطاس وأفكار أستاذه الياباني آيزوتسو توشيهيكو قدمت منهجية تحليلية أكاديمية لقراءة ثلاثية روائية مترجمة للإنجليزية، وكان للمشرفة الثانية فضل كبير عليَّ في الاستعداد للدفاع عن محتوى إطاري النظري المخالف للفهم السائد لمحتوى مصطلح " الإطار النظري "، وأيضًا في الاستعداد للدفاع عن منهجية البحث، سواء في مرحلة خطة البحث أو في مرحلة المناقشة النهائية للأطروحة، بشكل عام، ساعدني أيضًا تأثير نظرية "ما بعد الاستعمار" على المجال الأكاديمي في دول شرق آسيا عمومًا؛ لِما لمفاهيم النظرية من قوة جذَّابة في تعزيز الهوية المستقلة عند الشعوب التي كانت مستعمرة من قبل الإمبريالية البريطانية، وبشكل خاص، أفادني تأثير تلك النظرية في جَعْلِ المستمعين لدفاعاتي عن خطة البحث وعن الأطروحة [11] أكثر تقبلًا لأفكاري التي تسير عكس فهم تيار المجال الأكاديمي السائد، لكن باستخدام نفس ألفاظ المصطلحات البحثية الأكاديمية المتعارف عليها، في قسم اللغة الإنجليزية. الخلاصة: إن قصر محتوى مصطلح " الإطار النظري " على التنظيرات الفلسفية الغربية في الأبحاث النظرية الأكاديمية كان وما يزال برأيي غير مبرر من كل النواحي؛ إذ إن تلك التنظيرات هي أساسًا رؤى بشرية خاضعة لآراء فلسفية كثيرة مختلفة ومتغيرة مع الزمن في طبيعتها، فما الذي سيحدث إن تم استخدام رؤى أخرى، كالرؤية الإسلامية أو حتى غيرها، في قراءة الأدب مثلًا؟ ألن يتعرف الناس بوجود الرؤى الأخرى، مسلمين وغير مسلمين، على خبرات ومعارف أخرى تُثْرِي الفكر الأدبي النقدي بما تقدمه من رؤى مختلفة أيضًا، ما الذي يُميز مفهوم اللغة عند الفلاسفة والمنظرين اللغويين الغربيين عن مفهومه في الرؤية الإسلامية؟ لماذا قد يُقْبَل المفهوم الأول برغم تعدد نظرياته والآراء حوله، ويتم الإحجام عن استخدام المفهوم الآخر في مجال البحث الأكاديمي، وتحديدًا في أقسام اللغة الإنجليزية؟ ستجد أيضًا، من الباحثين العرب المسلمين، من يضع مفهوم اللغة في الرؤية الإسلامية - أو لنقل مفهوم اللغة عند اللغويين العرب - تحت مجهر لغوي غربي ( إطار نظري ) لدراسته وفهمه، أو حتى لنقده، ولن يقبل حدوث العكس، شخصيًّا، لا أجد مبررًا مقنعًا لحدوث ذلك، ولا أنفي صعوبة الأمر في طريق من يريد أن يسلك طريقًا مختلفًا أو حتى موازيًا لِما هو سائد في مجالنا الأكاديمي لفتح نوافذ رؤى جديدة تثري المعرفة البشرية، إلا أن الموضوع يستحق المحاولة برغم صعوبته. [1] بالإمكان الاطلاع على رسالتي للماجستير باللغة الإنجليزية على موقع الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميلر التالي: https://bit.ly/3Mq4yel [2] عنوان الكتاب: Critical Theory Today: A User-Friendly Guide أهداني مشكورًا نسخة من هذا الكتاب الأخ د. يحيى الوظاف، عام 2007م، أرسله لي من ماليزيا وكنت ما أزال في اليمن، وقد أفدت منه أيما إفادة قبل وصولي إلى ماليزيا نهاية الربع الأول من العام 2008م؛ حيث تعرفت من خلاله على بعض أنواع النظريات النقدية الأدبية. [3] كان زميلي الأخ د. عبدالجليل نصر الشرعبي رفيقي في تلك الرحلة الأكاديمية؛ حيث كان هو الآخر يعمل في بحثه للدكتوراة في دراسات الخطاب، وأنا ممنون له لنقاشاتنا المطولة والعميقة وأفكاره الثاقبة التي أفدت منها كثيرًا؛ فقد كان نِعْمَ الصاحب في تلك الرحلة الفكري، وأذكر ذات مرة، وكنا قد دخلنا محيط الفلسفة بدون وعي منا، أننا عبَّرنا عن خوفنا من أن ندخل في الأمور الفلسفية وتأخذنا عواصفها إلى أماكن صعب الرجوع منها، إلا أنه سرعان ما تأكد لنا أننا كنا فعلًا في وسط محيط الفلسفة، ولكن لَطَفَ اللهُ بنا، وخرجنا منها وعدنا سالمين غانمين بفضل الله. [4] للمزيد حول هذا النقطة بالإمكان الاطلاع على مقال لي هنا على شبكة الألوكة بعنوان: ملاحظات من تجربتي الشخصية مع الفلسفة . [5] دراستي كانت ممولة بمنحة من جامعتي: جامعة صنعاء. [6] كتبت في تلك الفترة بريدًا إلكترونيًّا لمن ظننتُ أنه قد يساعدني في نقد تفكيكية دريدا من منظور إسلامي، لكنه وعد بالرد ولم يرد، ونشرته هنا في على شبكة الألوكة لمن يريد الاطلاع عليه، بعنوان: إيميل له علاقة بتفكيكية دريدا وهناك أيضًا مقال آخر كتبته لاحقًا عن تفكيكية دريدا من منظور إسلامي هنا على شبكة الألوكة، لمن يريد الاطلاع عليه، بعنوان: "لا تحديدية" دريدا؛ التفكيكية من منطلق إسلامي [7] كان للأخ د. أمين محمد القدسي فضل كبير بعد الله سبحانه وتعالى في تعريفي بكثير من المفكرين المسلمين من أمثال الدكتور المسيري والدكتور الفاروقي، وغيرهم من خلال النقاش معه، فقد كان قارئًا نهمًا في مجالات كثيرة برغم تخصصه العلمي في مجال الفيزياء. [8] الدكتور عماد الدين خليل، جزاه الله خيرًا، بعدما استشرته عبر البريد الإلكتروني في موضوع ما، أهداني أحد كتبه بعنوان: مدخل إلى نظريات الأدب الإسلامي، عبر البريد الإلكتروني، وقد أفدت منه كثيرًا. [9] كان تعرفي على كتب الفيلسوف الماليزي سيد محمد نقيب العطاس صدفة لطيفة قدرها الله لي في وقتها عن طريق زميل أندونيسي، كان يدرس ماجستير في نفس جامعتي، وتعرفي على أستاذ العطاس الفيلسوف الياباني أيزوتسو توشيهيكو كان عن طريق الأخ د. عبدالجليل نصر الشرعبي الذي تتبع جذور فكر العطاس بعدما عرفناه معًا، فشكلت هذه المعرفة لأفكار الفيلسوفين العطاس وآيزوتسو إضافة قيمة لا تُقدَّر بثمن لي في بحث الدكتوراة، وأنصح بقراءة كتابيَ العطاس التاليين (بالإضافة لرسالته للدكتوراة وهي موجودة في مكتبة الجامعة الوطنية الماليزية): Islam, Secularism, and the Philosophy of the Future (1985) & Prolegomena: To the Metaphysics of Islam (2001) . وأنصح أيضًا بقراءة كتاب آيزوتسو التالي: God and Man in the Quran (1980) وهناك ترجمتان لهذا الكتاب باللغتين العربية والإنجليزية أيضًا. [10] لم نتفق أنا ومشرفتي الهندية الماليزية غير المسلمة حينها على تغيير الموضوع؛ حيث أردت أن يكون له إطار نظري متوافق مع الرؤية الإسلامية وليس نظريًّا فلسفيًّا غربيًّا، فلم تعجبها أفكاري وكتبت عني تقريرًا سلبيًّا للجامعة، لكن بفضل الله ثم بفضل تقارير مشرفاتي الماليزيات المسلمات الجديدات تمكنت من تحسين وضعي الدراسي لدى الجامعة في مدة قصيرة مع وجود شد وجذب في تحديد موضوع البحث الجديد. [11] أطروحتي للدكتوراة مكتوبة باللغة الإنجليزية (ناقشتها في عام 2014م)، وموجودة في الجامعة الوطنية الماليزية؛ لم تترجم للعربية ولم تنشر خارج الجامعة حتى الآن، إلا أني كتبت تلخيصًا موجزًا لها في مقال باللغة العربية نشر في مجلة الأدب الإسلامي (متاحة على النت)، العدد (93) للعام 2017م، لمن يريد أن يأخذ فكرة عن الأطروحة.
الفكر العسكري عند السلطان ألب ارسلان السلجوقي المبحث الأول: اسمه ونسبه ونشأته ووفاته: المطلب الأول: اسمه ونسبه ونشأته: عَضُدُ الدولة أبو شجاع، محمد ألب أرسلان، ابن الملك جغراي بك، وهو داود بن ميكائيل بن سلجوق بن نفاق بن سلجوق - ودقاق بالتركي: قوس حديد - ودقاق أول من دخل في دين الإسلام [1] ، أحد أهم كبار قادة المسلمين الشجعان وكبار رجال التاريخ، وصاحب الانتصار الخالد في ملاذ كرد على الروم، الذي سنأخذه في محلِّه من البحث، وُلِدَ ألب أرسلان سنة 425 للهجرة حسب قول الذهبي عن تاريخ وفاته [2] ، وكان قد وُلد في أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب، فتبرَّكوا به، وتيمَّنوا بطلعته [3] ، ينتسب إلى أسرة تركمانية تعود إلى الأغوز وقبائلها المختلفة الذين اعتادوا السفر والترحال بسبب طبيعية حياتهم البدوية، وكثرة حروبهم مع جيرانهم من القبائل البدوية المتنقلة، لذا فالفرد في هذه الأجواء ينشأ نشأة قاسية، ويتعلم تحمل المسؤولية منذ الصغر بسبب تلك الطبيعة، وألب أرسلان كان من أولئك الأفراد الذين نشؤوا نشأة قاسية متحملين المهام، حتى أصبح فارسًا لا يشق له غبارٌ رغم صِغر سنِّه، لذا سنرى كيف أن عمه طغرلبك [*] سيعتمد عليه في بعض المهام التي تتناسب مع سنه الصغير. وفاته وأقوال المؤرخين فيه: توفي السلطان ألب أرسلان الأسد الشجاع: في سنة خمس وستين وأربع مائة، وله أربعون سنة [4] ، قد ذكرنا سيره في الحوادث وكيفية قتْله ما يدل على تواضُعه وورعِه وتعلُّقه بالله، حيث كان يقول حين قتل ما وجه قصدته إلا واستعنت الله عليه إلا هذا الوجه، فإني اشتغلت بالعساكر ولم يخطر ربي بقلبي قال: ولما كان في أمسنا صعدت تلا فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا وما يقدر أحد علي، فجاءتني قدرة لم يخطر على بالي وأنا أستغفر الله من ذلك الخاطر ووصى العسكر بولده ملك شاه الذي جعل فيه الملك بعده ونظام الملك وزيره، والطاعة لهما، وأحلف من ينبغي أن يحلف، واستوثق وأوصى أن يعطى أخاه قاورت بك أعمالَ فارس وكرمان، وشيئًا عينه من المال، وأن يتزوج بزوجته، وأن يعطي ابنه إياز ما كان لداود والده وهو خمسمائة ألف دينار، وأن يكون لولده ملك شاه القلعة وما ضمها وتوفى في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة ودفن قبر ابيه بمرو [*] [5] ، وكانت قصة موته عندما قصد ما وراء النهر وعبر نهر جيحون [*] ، في مائتي ألف فارس، فأتي بعلج يقال له: يوسف الخُوارزمي، كانت بيده قلعة، قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فحمل مقيدًا، فلما قرب منه أمر أن تُضرب له أربعة أوتاد لتشد أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله فقال له يوسف: يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟ فاحتد السلطان، وأخذ القوس والنشابة، وقال: حلُّوه من قيوده، فَحُلَّ، فرماه فأخطأه، وكان مُدِلًّا برميه، قلما يخطئ فيه، وكان جالسًا على سريره، فنزل فعثر ووقع على وجهه، فبادره يوسف المذكور، وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فرَّاش أرمني، فضربه في رأسه بمرزبة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحًا وأحضر وزيره نظام الملك وأوصى إليه، وجعل ولده ملكشاه أبا شجاع محمد وليَّ عهده [6] . أقوال المؤرخين فيه: قائد مثل ألب أرسلان له من الإنجازات العظيمة في وقت غلب عليه الانهزام والفشل، لابد ان للمؤرخين والمعاصرين له من أقوال تفي بحقَّه أو تصفه: قال الذهبي في العبر: أوَّل من قيل له السلطان على منابر بغداد، وكان في أواخر دولته من أعدل الناس، ومن أحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد، وفي نصر الإسلام، لم عبر بهم جيحون، في صفر، ومعه نحو مئتي ألف فارس، وقصد تكين بن طمغاخ، فأتى بمتولِّي قلعة، اسمه يوسف الخوارزمي [7] . وقال عنه صاحب المنتظم: خطب أئمة المسلمين على المنابر لشكر السلطان ألب أرسلان والاعتداد بخدمته في تسيير السيدة وتقدم إلى الخطباء بإقامة الدعوة، فقيل في الدعاء: اللهم أصلح السلطان المعظم عضد الدولة وتاج الملة أبا شجاع ألب أرسلان محمد بن داود [8] . المبحث الثاني: نشاطه العسكري أميرًا وسلطانًا: المطلب الأول: نشاطه العسكري أميرًا: عند الحديث عن الفكر العسكري وفنون الحرب السياسية التي انتهجها السلطان ألب أرسلان، لا بد من تناول الخطوات والمحاولات التي كونت هذا الفكر، وأقصد الظروف التي صنَعت هذا القائد الفذ في مرحلتي الامارة والسلطنة. فقد ذكر أن السلطان طغرل بك كان من الذين فتحوا الأرض وامتد سلطانه لبقاع واسعة، ولم يكن له ولد، لذا فهو اعتمد على ابن أخيه محمد (ألب أرسلان)؛ لأنه رأى فيه مستقبل دولة السلاجقة، وأملهم في التوسع، فقد اصطحبه معه في الحملات؛ ليكتسب خبرة عسكرية تجعله قائدًا جيدًا في الميدان العسكري، فقد ذكر أن والده داود عندما توفِّي جعل طغرل بك ألب أرسلان في خراسان، (فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان...)) [9] ، وذكر طغرل بك لأحد القضاة يذكره انتصارته، ويعمل على صنع نصر معنوي له قال: (وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن في ثلاثين رجلًا، وهم في ثلاثمائة فغلبناهم، وكنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، وكنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفًا، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك، وهو في أعداد كثيرة متوافرة، فقهرناه، وأخذنا مملكته بخوارزم، وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به وأسرناه وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان، وصرنا ملوكًا متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة )) [10] ، ولا شك أن هذه المناطق وفتحها لم تكن غائبة عن ألب أرسلان، ووجده فيه بسبب أنها فتحت بعد وفاة أبيه 451هــ وهو قد بلغ إحدى وعشرين سنة، وهي سن متقدمة بالنسبة لتلك الزمان، وإن دخوله في تلك الفتوحات قد أكسبه خبرة لا بأس بها في الجانب العسكري، وقد يعتمد عليه في قمع بعض الثورات، فقد ذكر أن ألب أرسلان قد قصد بلاده ونهبها أيام عمه طغرلبك، فلم يقابل الشر بمثله، وأرسل رسولًا إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين [وأربعمائة] يهنئه بعوده إلى مستقره، ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان بالكف عن بلاده، فأجيب إلى ذلك، وأرسل إليه الخلع والألقاب [11] ، مما يبن فائدة تلك الحملات للقدجرة العسكرية للسلطان ألب أرسلان. المطلب الثاني: نشاطه العسكري سلطانًا: بعد أن توفي السلطان طغرل بك لم يترك ولدًا، وكانت عينه على ألب أرسلان، ولكن قرَّبه من أرملة أخيه داود وتأثيرها عليه أدت إلى إعطاء ولاية العهد لابنها الصغير محمود، ولكن الأمر تم تسويته بعد أن تغلب ألب أرسلان وسيطر على الوضع [12] . لقد ذكرت المصادر العديد من المواضع التي فتحها ألب أرسلان بعد وفاة عمه وتوليه الحكم منها أبناء عمومته وإخوته، ومن تلك المناطق مرو الروز الذي تمكن ألب أرسلان منها [13] ، ثم قصده هارون بغرا خان بن يوسف قدر خان، وطغرل قرا خان، وكان طفغاج قد استولى على ممالكهما، وقارَبَا سمرقند، فلم يظفر بشمس الملك، فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لشمس الملك، وأعمال الخاهر في أيديهما [14] ، كما ذكر استيلاءه على مدينة فسا من مدينة مرو الروز، فسار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان، وقصد بلاد فارس في المفازة، فلم يعلم به أحدٌ، ولا أعلم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا وضمها لملكه [15] . وعظُم أمرُ السلطان ألب أرسلان، وخطب له على منابر العراق والعجم وخراسان، ودانت له الأمم وأحبته الرعايا، ولا سيما لما هزم العدو، فإن الطاغية عظيم الروم أرمانوس حشد وأقبل في جمع ما سمع بمثله في نحو من مائتي ألف مقاتل من الروم والفرنج والكرج، وغير ذلك وصل إلى منازكرد، وكان السلطان بخوي قد رجع من الشام في خمسة عشر ألف فارس وباقي جيوشه في الأطراف، فصمم على المصاف، وقال: أنا ألتقيهم وحسبي الله، فإن سلمت وإلا فابني ملكشاه ولي عهدي، وسار فالتقى يزكه ويزك القوم فكسرهم يزكه وأسروا مقدمهم، فقطع السلطان أنفه، ولما التقى الجمعان، وتراءى الكفر والإسلام، حتى التحما وثار النقع وكانت الغلبة للمسلمين، وقُتل عشرات الآلف من الروم، وأسر مثلهم، ومنهم الإمبراطور وكانت موقعة ثبتت الحكم في آسيا الصغرى للإسلام، ودانت الناس للسلاجقة [16] . المبحث الثالث: الفكر العسكري للسلطان ألب أرسلان: يتكون الفكر العسكري عند السلطان ألب أرسلان من شقين: الأول: عام، وهو يندرج في الإطار العام للسلاجقة الذي يعتبر السلطان واحدًا منهم، والثاني أمور خاصة بالسلطان نفسه تَميز بها عن غيره، لذا أصبحت ضمن فكره العسكري الخاص. المطلب الأول: أثر الفكر العسكري لدى السلاجقة على السلطان ألب أرسلان وفكره: يعد السلاجقة من القبائل البدوية التي مرت بعدة مراحل في تاريخ تكوينها لدولة، فهي تعرف تمامًا أهمية الوحدة وإزالة عناصر الخلاف والإعداد لجيد للنصر، وكسب الحلفاء عبر المصاهرة وبناء المصالح، وكل هذا يندرج ضمن الفكر العسكري للسلاجقة عمومًا الذي تأثر به السلطان ألب أرسلان، فالمصادر التاريخية تخبرنا أن السلطان منذ استلامه للحكم بعد وفاة طغرل بك، وهو يحاول توحيد البلاد التي خضعت للسلاجقة من قبل، التي نتجت عنها استقلال الأمراء الصغار بمدنهم مستغلين وفاة طغرل بك، وارتباطهم بالأسرة السلجوقية برابط النسب، فما كان من السلطان ألب أرسلان إلا أن أجبر الجميع على الانصياع له، وتسوية الخلافات العائلية وحالات التمرد، من خلال أسلوب المهادنة والمحاربة والعفو لكي يجذب هؤلاء إلى طاعته [17] ، وهي من المسائل المهمة في صناعة النصر؛ إذ إن جيش متفرق يَمكُر بعضه ببعض، محال أن ينتصر، فكان ذلك مما عرفه السلطان ألب أرسلان وعالجه في وقته، كما ضمن أسلوب السلاجقة في كسب الحلفاء من خلال المصاهرات مع الدول القائمة أنذاك؛ كالدولة الغزنوية التي ارتبط بها برباط المصاهرة؛ حتى يضمن عدم مكرها بها في الشرق أثناء التقدم إلى الغرب، فقد ذكر أن السلطان ألب أرسلان كان قد تزوج ابنة قدر خان، وكانت قبله عند مسعود بن محمود بن سبكتكين، وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان، وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه، وهو خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه [18] ، كما اهتم السلاجقة بتنشئة أبنائهم التنشئة العسكرية، وكان ذلك أثرًا واضحًا في ألب أرسلان وفكره العسكري، فقد ذكر أن اهتمام سلاطين السلاجقة بالفنون العسكرية كبيرًا منذ بداية أمرهم، ولذلك اهتموا بتربية أبنائهم على فنون الحرب والقتال وإتقانها، ولهذا نجد جدهم الأول سلجوق، يجتهد - قدر طاقته - في تربية وتنشئة حفيديه: طغرل بك، وجغري بك تنشئة عسكرية، آتت أكلها بعد ذلك في نجاح كل منهما في قيادة السلاجقة، وإدارة معاركهم ضد أعدائهم، وقد أسهمت إلى حد ما هذه التنشئة في تولي أكثر زعماء السلاجقة للقيادة العامة للجيش، ويقاتلون بأنفسهم في أرض المعركة، نظرًا للتدريب المبكر لهم على ذلك، فقد غزا ميكائيل بن سلجوق بلاد الأتراك وباشر القتال بنفسه حتى استشهد في سبيل الله [19] ، وكان ألب أرسلان يجيد الرمي بالقوس الذي لم يكن يفارقه في أي مكان، وكذلك ولده ملكشاه الذي وصف بأنه فارس لا يُشق له غبارٌ [20] ، كما أن اعتماد السلاجقة ومن ضمنهم على القدرات الخبيرة في قيادة الجيش، وإدارة الدولة - كانت من الأمور التي تأثر بها ألب أرسلان، ونتج عنها اختياره للوزير نظام الملك صاحب الباع الطويل في الإدارة، والذي كانت له اليد العليا في صناعة التطور في الدولة السلجوقية، لقد أرشد نظام الملك في كتابه سياست نامه وهو الكتاب الذي أراده مرشدًا للقيادات العسكرية والسياسية في إدارة شؤون البلاد، كما أن أبناءه وأحفاده اشتغلوا جميعًا وزراء وموظفين في البلاط السلجوقي على تعاقب سلاطينه [21] . المطلب الثاني: الفكر العسكري عند السلطان ألب أرسلان: للسلطان ألب أرسلان صفات جليلة صنعت الفكر العسكري الخاص به، وامتاز به عن غيره، لعل من ذلك شدة تمازجه مع جنوده؛ حيث كان لا يُميز نفسه عنه ويعطف عليه ولا يتعالى، وهذا مما يحبب القائد إلى جنوده [22] ، كما كان السلطان مبتعدًا عن إراقة الدماء في سبيل التوسع، قد عُرف بعفوه وصفحه، إذ كانت الغاية توحيد الأمة في سبيل مواجهة العدو الخارجي، لا إراقة دماء المسلمين من دون سببٍ ولا برهان بيِّن، وكان يطلق الأسرى المسلمين بعد إتمام الأمر وفتح المدن، ويُحسن إليهم [23] ، كما يتجلى ذلك في تعامله مع حاكم حلب محمود بن نصر المرداسي الذي كان يتبع الفاطميين، والذي استخدم معه الطرق السلمية عبر لحصار، وعدم الإقدام على اقتحام القلعة، وما تخلفه من قتلى في صفوف الطرفين، فقبِل من المرداسي وعمل على إعادته إلى حكمه تحت ظل الدولة العباسية [24] ، وهذا يعكس حقيقة أن السلطان لم يكن يرى عدوًّا له غير الروم ومن تحالف معهم. كما كان السلطان يحسن التفكير والتدبير ويحسب عواقب الأمور، فإن وجد العدو أكثر طلب الهدنة، طلب المهادنة في حال الضعف، أو قلة القوات، ففي معركة ملاذكرد كان تفاوت في عدد الجيشين لصالح الروم، ذُكر: (ولَما التقى الجمعان، وتراءى الكفر والإيمان، واصطدم الجبلان، طلب السلطان الهدنة قال، أرمانوس: لا هدنة إلا ببذل الري)) [25] ، كما أن التحضير نفسيًّا، والتعبئة النفسية للجيش والتذلل لله، كانت من أفكاره العسكرية التي تعني أن لا غالب إلا بالله، والطول يكون منه جل شأنه، فقد ذكر (... إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، ولعل هذا الفتح باسمك، فالْقَهم وقت الزوال وكان يوم جمعة قال: فإنه يكون الخطباء على المنابر، وإنهم يدعون للمجاهدين، فصلوا وبكى السلطان، ودعا وأمَّنوا وسجد وعفر وجهه، وقال: يا أمراء، من شاء فلينصرف فما ها هنا سلطان، وعقد ذنب حصانه بيده ولبس البياض، وتحنَّط وحمل بجيشه حملة صادقة، فوقعوا في وسط العدو يقتلون كيف شاؤوا، وثبت العسكر ونزل النصر، وولَّت الروم، واستحرَّ بهم القتل، وأُسر طاغيتهم أرمانوس، أسره مملوك لكوهرائين وهمَّ بقتله، فقال إفرنجي: لا لا فهذا الملك، وقرأت بخط القفطي أن ألب أرسلان بالغ في التضرع والتذلل، وأخلص لله)) [26] ، وبهذا اتضح الفكر العسكري للسلطان ألب أرسلان السلجوقي. وقد كان من نتائجها: فتح الطريق أمام قبائل الأتراك لتدخل آسيا الصغرى التي كانت معتبرة إذ ذاك أراضي الدولة البيزنطية، بما في ذلك جزءٌ كبير من بلاد الأرمن، وكان الأرمن حينذاك منتشرين على مساحات واسعة تمتد من شرق البحر الأسود جنوبًا إلى شمالي بلاد الجزيرة والموصل، وعقب انتصار ملاذكرد تدفقت جموع من الأتراك السلاجقة، فدخلت آسيا الصغرى، واستقرت في شرقها، وأنشأت فيها سلطنة سلجوقية عُرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم [27] . قائمة المصادر والمراجع: أولًا: المصادر الأولية: • ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني الجزري (ت:630هــ). (1) الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، (بيروت:1997). • ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت:597هــ). (2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار صادر، (بيروت: 1358). • ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن محمد الحضرمي الإشبيلي (ت 808هـ). (3) ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، ط2، (بيروت:1988). • ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم البرمكي الإربلي (ت: 681هـ). (4) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، ( بيروت:1994). • ابن العديم، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي(ت: 660هـ). (5) زبدة الحلب في تاريخ حلب، وضع حواشيه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، (بيروت: 1996). ابن العماد، عبد الحي بن أحمد العَكري الحنبلي (ت: 1089هـ). (6) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق: 1986)، ابن العمراني، محمد بن علي بن محمد (ت: 580هـ). (7) الإنباء في تاريخ الخلفاء، تحقيق: قاسم السامرائي، دار الآفاق العربية، (القاهرة:2001). أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود. (8) المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، (مصر: د. ت). ابن القلانسي، حمزة بن أسد بن علي بن محمد (ت: 555هـ). (9) تاريخ دمشق لابن القلانسي، تحقيق: سهيل زكار، دار حسان للطباعة والنشر، ( دمشق: 1983). ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر (ت: 774هـ). (10) البداية والنهاية في التاريخ، دار الفكر، (بيروت:1986). البكري، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد الأندلسي. (11) معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، عالم الكتب، (بيروت:1403)، ط3. البيهقي، أبو الحسن ظهير الدين علي بن زيد بن محمد. (12) تاريخ بيهق، دار اقرأ، (دمشق: د.ت). التطيلي، الرابي بنيامين بن الرابي يونة النباري الإسباني اليهودي (ت: 569هـ). (13) رحلة بنيامين التطيلي، المجمع الثقافي، (أبو ظبي:2002) . الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748هـ). (14) سير أعلام النبلاء، دار الحديث، (القاهرة: 2006). (15) العبر في خبر من غبر، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، (بيروت: د. ت). الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله (ت: 764هـ). (16) الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، (بيروت:2000)،12/ 77. اليافعي، محمد عفيف بن عبد الله بن أسعد. (17) مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، وضع حواشيه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، (بيروت:1997). ياقوت، شهاب الدين أبو عبد الله بن عبد الله الرومي الحموي. (18) معجم البلدان، دار صادر، (بيروت: 1995)، ط2. ثانيًا: المراجع الثانوية: الزركلي، خير الدين. (1) الأعلام، دار العلم للملايين، (بيروت: 2008)، ط15. السرجاني، راغب. (2) الفكر العسكري للسلاجقة، مقالة منشورة في موقع قصة الإسلام السنة 2017. الصلابي، علي محمد. (3) دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، (القاهرة: 2006). (4) صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، (بيروت: 2008) . العسيري، أحمد معمور. (5) موجز التاريخ الإسلامي منذ عهد آدم عليه السلام (تاريخ ما قبل الإسلام) إلى عصرنا الحاضر 1417 هـ/ 96 - 97 م، مكتبة الملك فهد الوطنية (الرياض: 1996) . ثالثًا: البحوث والدوريات: الرشود، باسل بن سعود. (1) أزمة ومواقف، مقالة منشورة في مجلة البيان. عبد الله، محمد. (2) تقي الدين الفاسي، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية / السعودية. [1] الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748هـ)، العبر في خبر من غبر، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، (بيروت: د. ت)، (2/ 318). [2] الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748هـ)، سير اعلام النبلاء،13/ 496. [3] ابن الاثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، (بيروت:1997)، 8/ 8. [*] طغرل بك: محمد بن ميكائيل بن سلجوق، أبو طالب، الملقب ركن الدين طغرل بك: أول ملوك الدولة السلجوقية ولد سنة 385 وتوفي سنة 455. كانوا قبل تملكهم يسكنون وراء النهر، قريبا من بخارى، ولا يدينون لأحد من الملوك، فإذا قصدهم من لا يطيقونه دخلوا المفاوز. وهم أتراك. وخطب ابنة القائم بأمر الله، فزوجه بها، وكان العقد بتبريز وزفّت إليه ببغداد، فمكثت معه ستة أشهر، كان مريضًا فيها، وتوفي بالريّ، ومدة ملكه 25 أو30 سنة . الزركلي، خير الدين، الأعلام، دار العلم للملايين، (بيروت: 2008)، ط15، 7/ 120. [4] الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748هـ)، سير أعلام النبلاء 13/ 496. [*] مرو: بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعده واو: مدينة بفارس معروفة. ومرو الرّوذ، بضمّ الراء المهملة، وبالذال المعجمة، ومرو الشّاهجان، بفتح الشين المعجمة، وكسر الهاء، بعدها جيم: من بلاد فارس أيضا. والمرو بالفارسية: المرج. البكري، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد الأندلسي، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، عالم الكتب، (بيروت:1403)، ط3،4/ 1216. [5] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار صادر، ( بيروت: 1358)، 8/ 279؛ وينظر: ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم البرمكي الإربلي (ت: 681هـ)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، ( بيروت:1994)،2/ 128؛ الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله (ت: 764هـ)، الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، ( بيروت:2000)، 12/ 77؛ ابن القلانسي، حمزة بن أسد بن علي بن محمد (ت: 555هـ)، تاريخ دمشق لابن القلانسي، تحقيق: سهيل زكار، دار حسان للطباعة والنشر، ( دمشق: 1983)، 170؛ اليافعي، محمد عفيف بن عبد الله بن اسعد، مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، وضع حواشيه: خليل المنصور،  دار الكتب العلمية، (بيروت:1997)، 3/ 67، ابن كثير، ابو الفداء اسماعيل بن عمر (ت: 774هـ)، البداية والنهاية في التاريخ، دار الفكر، (بيروت:1986)، 12/ 106، ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن محمد الحضرمي الإشبيلي، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، ط2، (بيروت:1988)، 3/ 580. [*] جَيْحُونُ: بالفتح، وهو اسم أعجميّ، وقد تعسّف بعضهم فقال: هو من جاحه إذا استأصله، ومنه الخطوب الجوائح، سمي بذلك لاجتياحه الأرضين، قال حمزة: أصل اسم جيحون بالفارسية هرون، وهو اسم وادي خراسان على وسط مدينة يقال لها جيهان فنسبه الناس إليها وقالوا جيحون على عادتهم في قلب الألفاظ، وقال ابن الفقيه: يجيء جيحون من موضع يقال له ريوساران، وهو جبل يتصل بناحية السند والهند وكابل، ومنه عين تخرج من موضع يقال له عندميس؛ ينظر: ياقوت، شهاب الدين أبو عبد الله بن عبد الله الرومي الحموي، معجم البلدان، دار صادر، (بيروت: 1995)، ط2، 2/ 196. [6] ابن العماد، عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي، أبو الفلاح (ت: 1089هـ)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق: 1986)، 1/ 37. [7] الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت: 748هـ)، العبر في خبر من غبر، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، (بيروت: د.ت)، 2/ 318. [8] ابن الجوزي، المنتظم، 8/ 235. [9] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8/ 165. [10] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8/ 165. [11] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 7/ 645. [12] الذهبي، سير، 13/ 495 ؛ ابن العمراني، الإنباء في تاريخ الخلفاء، 199. [13] ابن الجوزي، المنتظم، 8/ 239. [14] ابن الجوزي، المصدر نفسه، 8/ 279. [15] ابن الأثير، الكامل في التاريخ 8/ 85. [16] الذهبي، سير اعلام النبلاء، 13/ 495. [17] الذهبي، سير اعلام النبلاء، 13/ 495. [18] ابن الجوزي، المنتظم، 8/ 279. [19] الصلابي، علي محمد، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامى لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، (القاهرة: 2006)، 217. [20] السرجاني، راغب، الفكر العسكري للسلاجقة، موقع قصة الاسلام السنة 2017. [21] البيهقي، أبو الحسن ظهير الدين علي بن زيد بن محمد، تاريخ بيهق، دار اقرأ، (دمشق: د.ت) 49؛ وينظر: عبد الله، محمد، تقي الدين الفاسي، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية / السعودية، العدد 56 ص 47. [22] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 13/ 496. [23] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 8/ 103. [24] ابن العديم، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي(ت: 660هـ)، زبدة الحلب في تاريخ حلب، وضع حواشيه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، (بيروت: 1996)، 173؛ وينظر: أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود، المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، (مصر: د. ت)، 2/ 186. [25] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 13/ 496. [26] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 13/ 496 ؛ وينظر: العسيري، احمد معمور، موجز التاريخ الإسلامي منذ عهد آدم عليه السلام (تاريخ ما قبل الإسلام) إلى عصرنا الحاضر 1417 هـ/ 96 - 97 م، مكتبة الملك فهد الوطنية (الرياض: 1996)، 211 ؛ الصلابي، علي محمد، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، (بيروت: 2008)، 18؛ الرشود، باسل بن سعود، أزمة ومواقف، مقالة منشورة في مجلة البيان، العدد187 ص18. [27] التطيلي، الرابي بنيامين بن الرابي يونة النباري الإسباني اليهودي (ت: 569هـ)، رحلة بنيامين التطيلي، المجمع الثقافي، (أبو ظبي:2002)، 42.
تفسير ابن فورك طبعة مكتب إحياء التراث الإسلامي بالأزهر الشريف صدر حديثًا "تفسير القرآن المنسوب لأبي بكر محمد بن الحسن بن فورك (ت: ٤٠6هـ)‎"، (من المؤمنون إلى الناس)، الطبعة الأولى الخاصة بالحكماء للنشر، نشر: "مكتب إحياء التراث الإسلامي"، مشيخة الأزهر الشريف بمصر. قراءة وتعليق ومراجعة الأساتذة بمكتب إحياء التراث: محمد يوسف الساكت - رحمه الله -، ومحمد محمود عزام، وأحمد فتحي بشير، وعمرو بكري. الصف الطباعي والتنسيق: ناصر محمد يحيى، وترجم للمؤلف ووصف مخطوطته: محمد نصر الفلكي. وهذا الكتاب يضم بقايا ما حفظ من مخطوطة تفسير الإمام ابن فورك، من أول سورة المؤمنون وحتى سورة الناس، وهو تفسير عزيز حوى مقالات تفسيرية وكلامية ولغوية ونحوية، وكلام في القراءات، مع مناقشات، وحفظ لنا نصوصًا من كتب مفقودة. سلك الإمام ابن فورك - رحمه الله - منهجا فريدًا في هذا التفسير لم يسبق إليه وهو: طريقة السؤال، والجواب؛ فإنه يعمد إلى السورة حسب ترتيبها في المصحف، وينتقي منها ما يريد تفسيره، وغالبًا ما يكون في حدود عشر آيات أو أقل أو أكثر ثم يتطرق إلى تفسير تلك الآيات من عدة جوانب. أولًا: يذكر المعنى اللغوي وأحيانًا يقتصر عليه في بعض الآيات المفسرة. ثانيًا: يذكر الروايات الواردة عن السلف في تفسير الآيات دون إسناد. ثالثًا: يذكر أقوال الفقهاء إن كانت الآية من آيات الأحكام. رابعًا: يذكر الأوجه الإعرابية في بعض الآيات التي يتعرض لتفسيرها. خامسًا: يذكر القراءات الواردة في الآيات التي فسرها، ويقتصر على القراءات السبع. وتفسير ابن فورك قال فيه الإمام "أبو بكر ابن العربي" في قانون التأويل وهو يعدد كتب التفسير التي قرأها (وكتاب ابن فورك - يعني تفسيره - وهو أقله حجمًا وأكثرها علمًا وأبدعها تحقيقًا وهو ملامح من كتاب ( المختزن ) الذي جمعه في التفسير الشيخ أبو الحسن الأشعري في خمسمائة مجلد). ونلمح جانب من تميز الكتاب من طريقة ابن فورك في ردوده على المعتزلة في كتابه؛ كلما وجد مناسبة لذلك، ولكثرة فوائد الكتاب وقيمته العلمية احتفى به كثير من العلماء احتفاءً بالغًا، ويتجلى ذلك الاحتفاء في النقول الكثيرة التي تدل على تفضيلهم إياه على الكثير من كتب التفسير. ولعل ما يعكر هذا التفسير تأويل بعض الأسماء والصفات دون موجب يوجب ذلك، كما هو مذهب الأشاعرة، مع إيراده بعض القراءات الشاذة مع القراءات المتواترة مع عدم التنبيه عليها مما يوهم أنها متواترة، وخلطه بين كلام بعض العلماء وما روي عن الصحابة والتابعين في بعض الروايات التفسيرية. وابن فُورَك (... - 406 هـ =... - 1015 م) هو "محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر": واعظ عالم بالأصول والكلام، متكلمٌ أشعريٌّ، من فقهاء الشافعية في الفروع. سمع بالبصرة وبغداد، سمع مسند أبي داود الطيالسي من عبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني، وسمع أيضًا من ابن خرزاد الأهوازي، وأبي الحسن الباهلي، وغيرهم. وحدث بنيسابور، وبنى فيها مدرسة. روى عنه البيهقي، والقشيري، والحاكم، وأبو بكر أحمد ابن علي بن خلف، وغيرهم. وتوفي على مقربة من نيسابور، فنقل إليها. له كتب كثيرة، قال ابن عساكر: بلغت تصانيفه في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن قريبًا من المئة. منها: • مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري. • شرح أوائل الأدلة للكسبي في الأصول. • كتاب الحدود في الأصول. طبع في بيروت سنة 1324هـ. • النظامي في أصول الدين. مخطوط، في أصول الدين، ألفه لنظام الملك. • مُشْكِل الحديث وغريبه. وهو كتاب يتناول فيه عددًا من الأحاديث المتشابهة فيؤولها ويبين معانيها. • مشكل الآثار. • دقائق الأسرار. • طبقات المتكلمين.
الثورة الصناعية والعلمية إن الثورة الصناعية والعلمية التي انطلقت أساسًا من الغرب قد فتحت الأعين على حاجتين أساسيتين: الأولى تمثلت بالحاجة إلى المواد الأولية الأساسية لحركة التصنيع التي نمت لاحقًا بوتيرة عالية، والثانية تمثلت بالحاجة إلى الأسواق الاستهلاكية لتصريف المنتجات. ووراء هاتين الحاجتين وقف تغييران جوهريَّان أصابا المحتوى الداخلي للإنسان، وقد تمثَّل هذان التغييران في اعتبار السعادة هي الهدف من الحياة وتحقيق أقصى متعة، والثاني في كون الأنانية والسعي لتحقيق المصلحة الشخصية والجشع تفضي إلى الانسجام والسلام. وللأسف فإن السعادة في نظر "هوبز" هي التقدُّم المطرد دائمًا من شهوة لشهوة، بل إن الأمر يصل إلى حد ما عند "لاميتري" إلى حد تحبيذ تعاطي المخدرات؛ حيث هي تعطي وهمًا بالسعادة، وهناك "دي ساد" الذي يعتبر إشباع دوافع القسوة أمرًا مشروعًا. هذا التحول في المحتوى الداخلي للإنسان مُهِم جدًّا وتزداد أهميته عندما تقدم لنا اللذة بجذرها المادي كإجابة مقنعة لمعضلة الوجود الإنساني. إن مذهَبَي اللذة والأنانية المفرطة شكَّلا المبدأين الرئيسين اللذين صدرت عنهما إعادة تشكيل وبرمجة المحتوى الداخلي للإنسان وسلوكه وَفْق قوالب مادية خالصة. ومن ثَمَّ فلا عجب أن انساق مجموعة كبيرة من الناس لاستهلاك المخدرات، والسرقة وجرائم مختلفة الأشكال والآثار، زعما بأنها تحقق قدرًا من اللذة أو المنفعة أو السعادة. لقد باتت الصحف ومحطات التلفزيون والقنوات الفضائية في مختلف أنحاء العالم هذه الأيام مشبعة بالتقارير عن جرائم العنف والمخدرات، وازدياد نشاطات المافيا العالمية. والإحصائيَّات المذهلة عن ذلك كافية لبث الذعر، فالجريمة في الواقع قضية أكثر غموضًا وأعقد تركيبًا مما يبدو، ومن عناوين الصحف المنذرة بالخطر. ومما يجدر ملاحظته أن معظم الناس يقرنون بين الجريمة والخوف، والجريمة والعنف، والجريمة والفساد، والجريمة والتنمية، والجريمة والفقر، والجريمة والبطالة. وقد جرت العادة أن تؤخذ المعدَّلات العالية في الجرائم كإشارة خطر تنبئ أن انهيارًا اجتماعيًّا وشيكًا يربض خلف المنعطف. فلا عجب أن القلق العام المتعلق بالجريمة يتنامى. أما استهلاك المخدرات، فهو ينتشر بشكل سريع في العالم، ويزداد الاستهلاك عادة مع زيادة العرض ورخص السعر. وللأسف فإن متعاطي المخدرات يهرب إليها كنوع من التمرُّد أو الهروب من الواقع، أو للتعبير عن الاستسلام، والإقرار بالهزيمة النفسية، وأحيانًا لمجرد اقتناص وَهْمِ النشوة والسعادة. والأخطر من ذلك أن كثيرًا من الناس ينظرون الآن للمخدرات كوسيلة ترفيه، وعند آخرين لا يزال استخدام المخدرات مجرد محاولة للتعويض عن السأم. والمخدرات عمومًا ذات علاقة بعدة مشكلات اجتماعية؛ كالقلق، والتفكك الأُسَري، والجريمة والفساد، والمخدرات هذه الأيام مصدر قلق كبير للجميع؛ لأن أضرارها وآثارها فادحة. وأشد آثار تجارة المخدرات أذى على المجتمع هو تصعيد الجريمة؛ إذ تعتبر المتاجرة بالمخدرات هذه الأيام أحد أكبر مجالات كسب المال في العالم، والمشكلة أن صناعة المخدرات الآن بالغة التطور والتعقيد، فهي تستخدم وعلى نطاق واسع أنظمة اتصال بمساعدة التقنية والحواسب؛ لذا أصبحت ظاهرة انتشار المخدرات ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ظاهرة تهدد الاقتصاد على المستوى الفردي والمجتمعي والإقليمي والعالمي. إن ما يُسمَّى سياسة النمو هي سياسة غايتها تشغيل الآلة، حتى ولو كانت آلة بلا فائدة أو ضارة أو مميتة، فكل ما هو تقني ممكن هو ضروري ومرغوب فيه، على حد زعم "روجيه جارودي". لقد أوجدت السوق الاقتصادية الحرة الغاب الحيواني من جديد، وفي هذا الغاب يفترس الأقوياء الضعفاء، فالمنشآت الكبرى لسحق الصغرى، والعمالقة الضواري في المجتمعات المتعددة الجنسيات يستولون على العالم، ويفلتون من كل رقابة من الشعوب. إن الدعاية تشكل عدوانًا دائمًا على الإنسان الذي تخضعه لقصف من الأنباء الكاذبة، وتثير فيه شهوات وهميَّة غير محدودة، فليست القضية هي قضية الماضي فحسب، قضية مطلع القرن التاسع عشر حين رسم "كارل ماركس" لوحة رقصات رأس المال الصاخبة ساحبًا تحت دبابة النمو الأولاد والنساء كيد عاملة رخيصة. بل وقضية الحاضر أيضًا، قضية القرن الحادي والعشرين؛ حيث المجتمع الجرائمي المنظَّم، إجرام بياقة بيضاء، عنف مجاني، تشرد، عمالة أطفال، بزنس الجنس، إن المخدرات خطر، والقتل جريمة، والسرقة انحراف، والبغاء والجنس وعمالة الأطفال والتشرد أشكال عديدة من واقعنا الاجتماعي المريض. رغم ذلك فإن أخطر جريمة وأعنف انحراف يتمثل في انهيار الأخلاق، وضياع القيم، والتفلُّت من التراث الأصيل والتنكر للحضارة الرائدة. ولا عجب إذًا أن تضيع الأمة المنهارة أخلاقيًّا، الخاوية قِيَمًا وعقيدة، والفارغة فِكرًا أو ثقافة، والفقيرة حضارة وتقدُّمًا، فتلهث كالكلاب تبحث عن حضارة تلتصق بها بعد أن قضت على أغلى ما تتمسك به الأمم عالية الهِمم. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت   فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا إن تتبع الآيات القرآنية يظهر التأكيد على وجود علاقة موضوعية بين وقوع الظلم والفساد الاقتصادي والاجتماعي في أيِّ مجتمع، وبين هلاك ودمار واضمحلال الأمم عبر مسيرتها التاريخية؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]. تؤكد هذه الآية أن تصرفات وسلوكيات بعض الناس التي تتحكم فيهم النظرة المادية النفعية تؤدي إلى تفشِّي الفساد والظلم، وانتشار الفقر والبؤس، وإهدار الأموال والطاقات؛ مما يعني انهيار وتدهور الكيان الاقتصادي، وتفكك البنية الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار الفساد الخلقي، والانحطاط الروحي، وتدمير وهلاك المجتمع. وفي آيات قرآنية أخرى إشارات مضيئة لعلاقات وروابط موضوعية شرطية بين مستوى ودرجة استقامة الأمة؛ من حيث المعتقدات والقيم والأخلاق والتراث، وبين درجة وفرة الخيرات وازدهار ورخاء الأمة. يقول - تعالى -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]. ويقول - سبحانه -: ﴿ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66]. ويقول - جل شأنه -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]. إن هذه الآيات تؤكد على معانٍ ومضامين حقيقية تعتبر ركائز نمو وازدهار أو تدهور واضمحلال أي مجتمع، وذلك بتوفير المقدمات، ومعرفة العلل والأسباب، والتمسك بالأُسس والركائز المنبثقة من المحتوى الداخلي للإنسان والأمة. فالآيات القرآنية تتحدث عن الحياة والكون والإنسان مؤكدة على وجود علاقات ارتباطية بين الحوادث المختلفة وَفْق قانون وسنة السبب والمسبب، والعلة والمعلول. ختامًا أقول: إننا مدعوون أفرادًا وجماعات، ومؤسسات حكومية، وخاصة إلى اقتسام المسؤوليات كل من زاويته الخاصة، وبقدراته المتاحة، وإلى توزيع الأدوار؛ بحيث نضمن النجاح والتكامل والأمن والاطمئنان، فلا جرائم ولا سرقات ولا مخدرات، بل قِيَم أخلاقية متينة، وأخلاقيات سامية، وتفعيل اقتصادي واجتماعي وسياسي شريف مستند ومستمد من عقيدتنا الصافية، وتراثنا العريق، وحضارتنا الأصيلة.
تحولات الشعرية في الأندلس لرشا غانم صدر حديثًا كتاب "تحولات الشعرية في الأندلس، قراءة في التشكيل والدلالة"، تأليف: د. "رشا غانم"، نشر "دار النابغة للنشر والتوزيع". يسلط الكتاب على تحولات الظاهرة الشعرية (الدلالة والتشكيل) في الأندلس، وتلقي الضوء على التحولات الشعرية في مدينة "بلنسية" عاصمة شرقيّ الأندلس بوصفها نموذجًا دالًا على التحولات الزمنية والتشكيلية والموسيقية. وبرهنت الدراسة على إبداعاتهم الشعرية من خلال قصائدهم السامقة التي خلدت ذكر مملكة "بلنسية"، وما مرت به من أحداث، فكانت نتاجًا شرعيًا للبيئة بظروفها الجغرافية والتاريخية. وترجع أهمية الدراسة إلى الزخم الشعري الذي تميزت به مدينة بلنسية حيث سطع في سمائها نجومٌ متلألئة تفيض شعرًا من نبع وجدانها، ورقة إحساسها، وفصاحة لسانها من خلال إبداعاتهم الشعرية، وقصائدهم السامقة، التي خلدت ذكر مملكة بلنسية، وما مرت به من أحداث، مما برهن على براعة شعراء شرقي الأندلس في شتى الأغراض الشعرية المختلفة . وقد وقفت الكاتبة على نماذج شعرية كثيرة عند شعراء شرقي الأندلس، سواء الموجودة في دوواينهم أو المبثوثة في مصادر الأدب الأندلسي المختلفة، انتقت من جملتها ما يظهر أداءهم الفني سواء فنون الشعر التقليدية والموسعة أو الفنون المستحدثة كالموشحات والأزجال، وذلك عبر تحليل تلك النصوص التي جلت الغبار عن أبهى الصور الفنية "تحولات التشكيل" حيث تجاوزت صورهم كل الصور المعروفة في إبداع حقيقي، وترتب على الإبداع خصائص مميزة تكشف عن جرأة هؤلاء الشعراء في الاشتقاق والتجديد وعدم النمطية، وأيضًا المرونة الشديدة في صياغة الجملة، تقديمًا وتأخيرًا، ومخالفة للشائع في الاستخدام اللغوي لدى الآخرين سواء فيما يتعلق بالقواعد النحوية أو الصرفية أو المعجمية، وبرهنت على خيالهم الخصب الذي خضبته الطبيعة الجميلة بشاعريتها، التي حباها الله للأندلس ومدنها خالدة الذكر. والكاتبة د. "رشا غانم" مدرس الأدب والنقد بالجامعة الأمريكية بمصر، حصلت على دكتوراه الأدب العربي بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وهي نائب رئيسة تحرير بوابة عرار الإخبارية الشاملة "إذاعة وتليفزيون عرار"، وعضو مؤسس في جماعة عرار للأدب والثقافة والشعر العربي والنبطي والشعبي. لها من المؤلفات: • "مقاييس الجمال في مرآة النقد العربي". • "الشعر في شرقي الأندلس". • "الإبداع فى الشعر العراقى المعاصر". • "موسوعة بستان الأندلس".
اقتصاديات الحاسوب ولد الحاسب الآلي وترعرع بين أيدي القوات المسلحة، وحظي بالشعبية بين أيدي الاقتصاد الاستهلاكي ورواده وأفراده. بيد أن قيمته الكبرى قد تثبت أنها ليست عسكرية أو تجارية. يقول جون يونغ: طبقت أجهزة الحاسب أول ما طبقت على المسائل الرياضية المعقدة، التي أراد العسكريون إيجاد الحلول المناسبة لها، مثل تفسير الاضطراب الذي تـُوجده الانفجارات الذرية، أو التنبؤ بانطلاق قذائف المدفعية. وفيما بعد وضعت تلك الأجهزة في العمل في المهام المدنية التي تنطوي على إدارة كميات من المعلومات مثل حساب جداول رواتب الشركات الكبرى، أو جدولة الإجابات الخاصة باستبيانات الإحصاءات. وطوال ربع قرن ظل يُنظر لأجهزة الحاسوب كآلات غريبة لا يفهمها ولا يشغلها إلا العباقرة، ولكن أجهزة الحاسوب تغيرت، وتغير كذلك الدور الذي تلعبه، ولم تعد حكرًا على فئة الفنيين، وبدأت في تحقيق أغراضها كأجهزة تنظيم في عصر تخمة المعلومات. وعلى أية حال ينبغي الأخذ بعين الاعتبار التكاليف البيئية والإنسانية الخاصة بإنتاجها واستخدامها، والتكاليف التي تـُدفع من أجل حوسبة العالم تكاليف كبيرة. فقد أصبحت هذه الأجهزة المستهلك الرئيس للكهرباء في الدول الصناعية. إن صناعة أجهزة الحاسوب التي تنامت على وجه السرعة بحيث غدت واحدة من أكبر الصناعات وأقواها في العالم، لها آثارها البيئية. وإذا كانت لهذه الآلات أن تساعدنا على إقامة المجتمع المستديم، فإنه ينبغي التصدي لجميع هذه المشكلات البيئية. إن أحد الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بآثار أجهزة الحاسوب وإنتاجها هو أن كلًا من تقنية الحاسوب والصناعة الحاسوبية قد تطورتا بمعدلات مذهلة. وتتركز أجهزة الحاسوب بكثافة في الدول الصناعية. وتقدر قيمة الصناعة الحاسوبية بما في ذلك البرامج بـ360 بليون دولار في العالم في العام. ويختلف قطاع الحاسوب بصورة مميزة عن الصناعات التقليدية؛ لأن صغر حجم منتجاته وقيمتها العالية تجعل شحنها أرخص عند نقلها مسافات بعيدة؛ ولأن الاستعمال واسع الانتشار لأجهزة الحاسوب في الاتصالات الدولية أعطى الشركات المصنعة مرونة تحديد مواقع الإنتاج. إنّ الحاسوب هو مدفع تقني طليق، فهو جهاز له قدرات هائلة على تغيير الصحة البيئية والاقتصادية للأفضل أو للأسوأ. ومن الملاحظ أننا لا نفهم سوى القليل عن الأنظمة البيئية لكوكبنا أو عن ملايين أنواع الكائنات الحية التي تكون هذه الأنظمة. إذ يقدم الحاسوب قدرة هائلة على جَمع المعلومات وتخزينها وتنظيمها، والتي يمكن أن تساعدنا على فهم البيئة العالمية من خلال المراقبة والنمذجة. وأحد أشكال المراقبة الصناعية هو متابعة التلوث، أي التعرف على المواد السامة التي يجري إطلاقها، وفي أي الأماكن وبأي كميات ومِنْ قِبَل مَنْ. وبالإضافة لقدرة أجهزة الحاسوب على تقديم وسيلة فعالة لخزن المعلومات واسترجاعها، فإنها تستطيع تسريع عملية جمع هذه المعلومات وتيسيرها. إن مجموعة منوعة واسعة من البيانات الهامة بيئيًا لا زالت قليلة. فقد جاء في دراسة أجراها معهد الموارد العالمية أنه لا توجد هناك مراقبة عالمية لتدفقات التلوث عبر حدود الدول، أو للإشعاعات فوق البنفسجية، أو المطر الحمضي. إضافة إلى قدرات الحواسيب، فإنها تساعد على تصميم سلسلة واسعة من المنتجات، ذات الآثار البيئية المنخفضة. وتقدم شبكات الحاسوب الموارد الهائلة، والمعلومات الشاملة الموثوقة، زهيدة الثمن مع توفرها في متناول يد المواطنين العاديين. وتسمح للناس بتمحيص مجموعات كبيرة من البيانات البيئية، بحثًا عن المعلومات التي يريدونها. إن إنتاج الحواسيب ليس بالنظافة التي توحي بها المواقف المخضرة. إذ تستخدم الصناعة الإلكترونية عددًا كبيرًا من المواد السامة أو التي تعرض البيئة للخطر، والتي يتسرب الكثير منها إلى مواقع العمل والبيئة. كما لم تقم أجهزة الحاسوب بالحد من الآثار البيئية لأولئك الذين يستخدمونها. وقد صاحب الآثار البيئية لأجهزة الحاسوب آثار جسمانية على الذين يستعملونها. فآلاف الناس يعانون الآن من التهابات الرسغ. كما أن التحديق في شاشات الحاسوب ساعات طويلة يسبب مشاكل في الرؤية. هذا إضافة للإصابات المرتبطة بقضاء ساعات طويلة أمام لوحة مفاتيح الحاسوب. وختامًا، أقول : منذ البداية، كان الإنسان ولا زال صانع أدوات، وتكمن أهمية أي أداة لا في سحرها التقني بل في كيفية استخدامها.
أهداف الاستشراق إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: اختلف الباحثون في وضع تعريفٍ محدَّدٍ للاستشراق؛ فَوُجِدَت عدَّة تعريفات له، ولكنها تدور جميعُها في فلك واحد، فهو مجموع الدراسات التي تُعْنَى بالحياة الشرقية؛ سواء الشرق الأقصى أو الشرق الأدنى، التي تهتم بدراسة أديانهم وتاريخهم وحياتهم الاجتماعية والعلمية، وغير ذلك من مجالات وأوجه الدراسات الاستشراقية. ولكن نال العرب المسلمون القدرَ الأكبر من جانب الدراسات الاستشراقية، وقد اختلف الباحثون كذلك في تاريخ بداية الدراسات الاستشراقية المتعلِّقة بمنطقتنا وهي المنطقة العربية الإسلامية، ومما لا شك فيه أننا لابد أنْ نُفرِّق عند التأريخ لها بين حالين: الأُولى : جهود فردية وصلات طبيعية بين الشرق والغرب، فهذه بدأت منذ فترة مُبكِّرة، تكاد تتوازن مع بداية ظهور الإسلام وظهور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإرسال البعوث إلى أقطار الغرب، واستقبالهم في الشرق للسؤال عن الإسلام ومعرفته. الثانية: جهود مُنظَّمة ومدعومة من قِبَل حكومات وكنائس الغرب، فهذه بدأت مع نهاية الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي؛ إذ تيقَّنوا عدم قدرتهم على الانتصار المادي على المسلمين، فأرادوا وسيلةً أُخرى يَدخلون بها بلادَهم ويغزونهم من داخلها، فكانت الدراسات الاستشراقية. تحديد مصطلح الاستشراق: أول ما يتبادر إلى الذهن أنَّ كلمة "الاستشراق" مشتقَّة من كلمة "شرق" وقد أُضيف إليها الألف والسين والتاء؛ لتفيد طلب الشيء. فيصبح المعنى: طلب لغات الشرق وعلومه وآدابه وتاريخه أو التعرف على العالم الشرقي من خلال الدراسات اللغوية والدينية والتاريخية والاجتماعية وغيرها [1] . ويُعرَّف الاستشراق – في صورته العامة بأنه: (اتجاه فكري غربي يقوم بدراسة حضارة الأمم من جوانبها الثقافية والفكرية والدينية والاقتصادية والسياسية كافة، لغرض التأثير فيها) [2] . ومن أبرز التعريفات الاصطلاحية للاستشراق: 1- تعريف " إدوارد سعيد " في كتابه "الاستشراق": (بأنه أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة عليه) [3] . 2- تعريف " أحمد عبد الحميد غراب ": (إنَّ الاستشراق دراسات "أكاديمية" يقوم بها غربيون من أهل الكتاب للإسلام والمسلمين من شتى الجوانب: عقيدةً، وثقافةً، وشريعةً، وتاريخًا، ونظمًا، وثروات، وإمكانيات... بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدَّعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي) [4] . 3- وقد أضاف " د. مازن مطبقاني " تعريفاً أوسع مما سبق؛ ليشمل نطاقاً واسعاً له واقع ملموس في واقعنا المعاصر، فقال: (إنَّ الاستشراق هو كلُّ ما يصدر عن الغربيين من أوروبيين "شرقيين وغربيين بما في ذلك السوفيت" وأمريكيين، من دراسات أكاديمية "جامعية" تتناول قضايا الإسلام والمسلمين في العقيدة، وفي الشريعة، وفي الاجتماع، وفي السياسة، أو الفكر أو الفن. كما يُلحق بالاستشراق كلُّ ما تبثه وسائل الإعلام الغربية سواء بلغاتهم أو باللغة العربية من إذاعات أو تلفاز أو أفلام سينمائية أو رسوم متحركة أو قنوات فضائية، أو ما تنشره صحفهم من كتاباتٍ تتناول المسلمين وقضاياهم. ولا بد أنْ نُلحِق بالاستشراق ما ينشره الباحثون المسلمون الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين، وتبنَّوا كثيرًا من أفكار المستشرقين؛ حتى إن بعض هؤلاء التلاميذ تفوَّق على أساتذته في الأساليب والمناهج الاستشراقية، ويدل على ذلك احتفال دور النشر الاستشراقية بإنتاج هؤلاء ونشره باللغات الأوروبية على أنها بحوث علمية رصينة، أو ما يترجمونه من كتابات بعض العرب والمسلمين إلى اللغات الأوروبية) [5] . عداوة الاستشراق للإسلام: من أهم ما ينبغي على المسلم إدراكه في الحياة، العدوُّ الذي يتربص به وبدينه من كل جانب، ويحاول أن ينقضَّ عليه لاستئصاله، وانتزاع عقيدته من واقع حياته. وهذا العدو يظهر بأشكالٍ كثيرة ومتنوعة، فأحياناً يكون بصورة استعمار عسكري يغزو البلاد وينهب الخيرات، وأحياناً يكون تحت شعارات إنسانية وحقوق الإنسان، ويأتي أحيانًا أخرى بهدف الحوار الحضاري أو المعرفي، وكلها صور مختلفة ولكن الهدف واحد؛ هو استعمار البلاد، واستعمار العقول حسب ما تُملي عليهم مبادئهم ومصالحهم. وأخطر هذه الأنواع ذلك الذي يتغلغل داخل الأمة عبر الثقافة والمعرفة، ومنه ما يُسمَّى بالاستشراق، فإنه عدو خطير بكل أدواته ووسائله؛ لأنه يحارب بالشبهة من خلال بعض ما يتوافر لديه من أحداثٍ تاريخية، أو روايات غير صحيحة، ولكنه يضعها في ثوبٍ يُثير الانتباه، ويشكك الضعفاء من أبناء الأمة في أمر دينهم وتاريخهم، مستفيدًا من بعض الصراعات التي حدثت في التاريخ الإسلامي في القرون الأُولى لهذا الدين. وهذا العدو خطير؛ لأنه مدعوم بأشياء كثيرة ومن أطراف متعددة، فتدعمه بعض الدول الكبرى والمؤسسات العلمية في الغرب والشرق، التي لها شهرة معرفية لدى معظم دول العالم، هذا فضلاً عن القيادات التي ترأس هذه المؤسسات وعلاقاتهم مع الساسة الكبار في دولهم الاستعمارية. وقد فرض المستشرقون دراساتهم وأبحاثهم المتعلِّقة بالإسلام حتى على الهيئات الدولية للاعتماد عليها في بحثها عن الإسلام والمسلمين - على الرغم من وجود دول إسلامية منتسبة إلى هذه الهيئات الدولية، وفي ذلك يقول د. محمود حمدي زقزوق: (الغريب أنَّ الهيئات العالمية؛ مثل اليونسكو هي هيئة دولية – فيها الدول الإسلامية – تستكتب المستشرقين بوصفهم متخصِّصين في الإسلاميات، وللكتابة عن الإسلام والمسلمين في الشاملة التي تُصدِرها اليونسكو عن "تاريخ الجنس البشري وتطوره الثقافي والعلمي") [6] . كما أنه (مرَّت على العرب والمسلمين – بل الشرقيين بوجه عام – فترة من الزمن كان كل ما يصدر عن الغرب عنهم قضايا مُسلَّمة لا مجال فيها للنقاش، واعتُبرت بحوث المستشرقين والمُستعربين وعلماء الدراسات الإسلامية من الغربيين نموذجاً يُحتذى ومثلاً أعلى، وصارت الاقتباسات المأخوذة عنهم زينة كتابات الشرقيين والعرب والمسلمين، وغدت النتائج التي انتهى إليها الأوَّلون منطلقات ومرتكزاً للآخَرين) [7] . وفي الوقت المعاصر لا يكاد يجد المرء مجلةً أو صحيفة أو وسيلة من الوسائل الإعلامية مرئية أو مسموعة إلاَّ وفيها ذِكر أو إشارة إلى شيء عن الاستشراق أو يمتُّ إليه بصلة قريبة أو بعيدة [8] . أهم أهداف الاستشراق: وضع هذا العدو المُتمثِّل في الاستشراق والمستشرقين أمامهم عدَّة أهدافٍ من أجل الوصول إلى تحقيقها، وهذه الأهداف كثيرة ومتفاوتة من حيث الأهمية بالنسبة لهم؛ فمن أهمها: منع انتشار الإسلام في أوروبا وغيرها، والحقد ضد المسلمين، وتأييد الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين والعمل على تحطيم المقاومة الإسلامية، وتشكيك المسلمين في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار كون الإسلام ديناً من عند الله تعالى، والتشكيك في صحة الحديث النبوي، والتشكيك في قيمة الفقه الإسلامي، والتشكيك في قدرة اللغة العربية، وإضعاف ثقة المسلمين بتراثهم وهكذا. والغاية الأخيرة لهم هي جعل الدين الإسلامي مجرد أسطورةٍ ليس له حقيقة ربانية، وإنما هو مزيج من الآراء والأفكار التي اقتُبِست من بعض الأشخاص؛ مثل "بَحِيرا الراهب" وغيره، ومن الأديان الأخرى؛ كاليهودية والنصرانية، لذلك بادر هؤلاء المستشرقون إلى الطعن في أركان هذا الدين ومصادره الأصلية التي هي مصدر الأحكام والتشريعات، إذ أعلنوا حربًا فكرية شعواء على القرآن الكريم، وعدّ الوحي ضرباً من الصرع أو الجنون. المستشرقون جنودٌ للاستعمار: أفاد الاستعمار من التراث الاستشراقي؛ حيث استطاع تجنيد طائفة من المستشرقين لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه، وتمكين سلطانه في بلاد المسلمين، فنشأت رابطة قوية بين الاستعمار والاستشراق، فكان الاستعمار يستعين بما يُقدِّمه المستشرقون من خبرات ومعلومات عن طبيعة البلاد الشرقية عموماً والإسلامية خصوصاً حول مختلف الجوانب الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية؛ وليس أدل على ذلك من أنَّ "نابليون" كان متسلِّحاً بفريق من المستشرقين في حملته على مصر سنة 1798م معتمداً دراساتهم في التعرُّف على طبيعتها وطبيعة أهلها [9] . كما أنَّ خبراء "الشرق الأوسط" الذين يقدِّمون المشورة لصانعي السياسة في أمريكا – صاحبة الاستثمارات الضخمة في الشرق الأوسط – مفعمون بالاستشراق عن بكرة أبيهم [10] . وبعد أن التقت مصالح الكنيسة، والصهيونية، والدول الاستعمارية؛ على إضعاف المسلمين وعلموا أنَّ سَرَّ وحدتهم وقُوَّتِهم ومَنَعتِهم يكمن في تمسكهم بالكتاب والسنة؛ ولمَّا كان من الصعب عليهم أن ينالوا من القرآن الكريم، وجَّهوا سهام مطاعنهم نحو السنة النبوية؛ لكونها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ويقوم تفصيل التشريع عليها، مستغلِّين بعض الأحاديث الموضوعة، والخلافات التاريخية بين المسلمين، ولم تسلم الأحاديث الثابتة من طعنهم فيها سنداً ومتناً، وتشكيكاً في صحة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق ادِّعاء الوضع فيها، وبث الشبهات حولها، والطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وشخصه الكريم، لكنَّ آمالهم قد خابت وجهودهم ضاعت وباءت بالفشل الذريع؛ بفضل الله تعالى الذي قيَّض للسنة النبوية رجالاً يذودون عنها ويزيلون ما يحاك حولها من شبهات وافتراءات، على أسس علمية ومنهجية نزيهة، وقواعد وضوابط لم يشهد تاريخ البحث العلمي لها نظيراً، فظلت السنة النبوية صافيةً كما تركها صاحبها صلى الله عليه وسلم وستظل كذلك ما دام هناك إسلام ومسلمون، ولله الحمد من قبل ومن بعد [11] . إحصاءات مخيفة عن الاستشراق: الاستشراق ليس مشروعاً فرديًّا، وإنما هو مؤسسة متضامنة متعاونة على اختلاف البلدان التي ينتسب إليها المستشرقون، وعلى اختلاف اللغات التي ينطقها المستشرقون، وعلى اختلاف سياسات الدول التي ينتمون إليها. ومنذ أكثر من "مائة وخمسين" سنة حتى الوقت الحاضر يصدر في أوروبا بلغاتها المختلفة كتاب "كلَّ يوم" عن الإسلام، وتقول الإحصاءات: بأنَّ "ستين ألف" كتاب قد صدر بين 1800-1950 م أي: عبر قرن ونصف، ويوجد في أمريكا حوالي "خمسين" مركزاً مختصًّا بالعالم الإسلامي، والمستشرقون يصدرون الآن أكثر من "ثلاثمائة" مجلة متنوِّعة بمختلف اللغات، وتم عقد أكثر من "ثلاثين" مؤتمراً دورياً خلال المائة سنة الأخيرة، سوى المؤتمرات الإقليمية، والندوات، ويكفي أنَّ بعض المؤتمرات؛ مثل "مؤتمر أوكسفورد" ضمَّ قرابة "تسعمائة" عالم ومختص، فلماذا كل هذا الاهتمام بالإسلام، وبالشرق، وبالعرب، وبالقضايا التي تتَّصل بمنطقة بعيدة عنهم؟ ما يُستنبطُ من الاستشراق والمستشرقين: ومِمَّا سبق يتبيَّن لنا، ما يلي: 1- أنَّ الاستشراق هو حركة علمية (أكاديمية) من أهل الكتاب؛ من شرقيين وغربيين وأمريكيين وغيرهم ممن ينظر إلى الإسلام بالمنظار الغربي. 2- تشويه الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم، وذلك بالطعن في أهم مصادر التشريع: القرآن، والسنة، وتاريخ المسلمين. 3- إنشاء مجتمعات تابعة للغرب في الفكر والاقتصاد والسياسة والاجتماع؛ ليسهل استغلالهم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. 4- أن الاستشراق ذو علاقة وطيدة مع الاستعمار، فلا استعمار بدون استشراق، ولا استشراق من غير دول استعمارية. 5- أن الاستشراق له علاقة بالتنصير؛ لأنَّ معظم المستشرقين من أهل الكتاب، يبذلون قصارى جهدهم في سبيل أن يُحوِّل المسلمون دينَهم إلى النصرانية، وهذا ما أكدته البعثات التنصيرية التي كانت تُرافق الاستعمار في البلاد الإسلامية. 6- أن كثيراً من المستشرقين يفتقدون المنهجية العلمية في طرح شبهاتهم وأباطيلهم، فهم يحتجون ببعض الموضوعات من الآثار والروايات الموضوعة التي لا أصل لها في الواقع، وأحيانًا كثيرةً لا يعتمدون على شيء، وإنما يعتمدون على وساوس شياطينهم لتشكيك الأمة في دينها [12] . "العرب والمسلمون" محور دراسات الاستشراق: ويُعَدُّ العرب والمسلمون هم المركز الذي تدور حوله دراسات الاستشراق أكثر من بقية الأمم والشعوب، ومن المُلفَت للنظر: أنَّ نوعية الدراسات التي تناولت الإسلام والمسلمين تختلف عن بقية أرجاء الشرق، فقد اتَّسمت الدارسات المُتعلِّقة بالإسلام والمسلمين بالتحيُّز والتعصُّب، والانفعالات المختلفة، ولماذا لا تتَّسم بذلك الدراسات عن البوذية أو الهندوسية أو الثقافات الأخرى؛ كالصين مثلاً؟ والجواب على ذلك يتَّضح في مراجعتنا للاستشراق في بداية نشاطه الذي يرتبط بقصة الصراع بين المسلمين والغرب من خلال فتح الأندلس، ومن خلال الحروب الصليبية، ومن خلال الصراع في صقلية وجنوب أوروبا، فأوروبا تخشى من غزوٍ إسلامي فكري في تلك الفترة، ومن هنا أُنشئت مراكز الدراسات الاستشراقية المختلفة في أوروبا بإذن من "البابوات" وبتنسيق "المجالس الكنسية". واستمر هذا الصراع الفكري الديني إلى أنْ ظهرت "المرحلة الجديدة" المقترنة "بالتوسع الاستعماري"، عندئذ صار من مهام الحكومات أنْ تُسخِّر عدداً كبيراً من الباحثين؛ ليكتبوا في الإسلام والمسلمين باللغات الأوروبية، ولسان حال هذه الحكومات الاستعمارية يقول: إذا كانت هذه هي صورة المسلمين فلا تلومونا إذا اقتحمنا ديارهم، واستنزفنا خيراتهم، وتعصَّبنا ضدَّهم؛ لأن القوم يتَّسمون بخصائص عقلية وجنسية وثقافية لا تمكِّنهم من النهوض بأنفسهم، وهم بحاجة إلى عوننا، ونحن نعمل لصالح الحضارة الإنسانية! واستمر هذا الخطاب عبر "قرن" من الزمان، وهو القرن "التاسع عشر" الذي اشتدَّ فيه الاستشراق، واشتدت فيه مؤسساته بمساندة من الحكومات الأوروبية. ومنذ مطلع "القرن العشرين" حتى وقتنا الحاضر نعلم كيف برزت منطقة "الشرق الأوسط" وأهمية هذه المنطقة استراتيجيًّا واقتصاديًّا، وبالتالي فإن الدراسات الاستشراقية استمرَّت واتَّصلت، كما أنَّ مؤتمرات المستشرقين واصلت طريقها بدعم من الحكومات ومن المؤسسات ومن الأفراد الأغنياء في أمريكا وأوروبا. وظهرت دراسات "تحليلية" كثيرة في القرن "العشرين" عن الإسلام والمسلمين، والقرآن الكريم، والسنة النبوية، والسيرة النبوية، والثقافة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، وجل هذه الدراسات تستهدف شيئاً أساسياً: هو تصوير النبي صلى الله عليه وسلم على أنه "مصلح اجتماعي" وليس نبيًّا مرسلاً [13] . وهم في سبيل هذا أنفقوا أمولاً طائلة على البحث وعلى المشاريع الفكرية التي تُمكِّنهم من ذلك، ويكفينا أن نذكر في هذا الصدد قيام المستشرقين بوضع "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي"، الذي اشترك في إعداده عدد كبير من المستشرقين بقيادة "فنيسنيك"، وأنفقت عليه خمس دول، فخرج معجماً رائعاً وعملاً مميَّزاً، كما وضع "فنيسنيك" كتاب: "مفتاح كنوز السُّنة" للتسهيل على الباحثين من المستشرقين البحث في مواضيع السُّنة؛ بغية التشكيك فيها. إذاً، لم يكن الهدف من وراء وضعهم لهذين العملين هو خدمة السنة النبوية، وإنما أرادوا أنْ يُفتِّشوا فيها فيجمعوا الشُّبه، وبالتالي يُشكِّكون في صدقها وصدق رواتها، فينقضونها ويقضون عليها. ولكن ولله الحمد والمنة، لم يتمكَّنوا، ففشلوا إلاَّ في الترويج لأفكارهم الضالة التي تلقفتها عُصابةٌ من أهل الإسلام مِمَّن لاحظَّ لهم في علم الحديث والسُّنة، ولا حتى في علم الشريعة الغَرَّاء فردَّدوا أقوالهم بغير علم، وانطلت عليهم شُبَهُهم بغير فهم. والعجيب أن يستفيد المسلمون من هذين الكتابين أيما إفادة، رغم ما وُضِعَا له؛ فبدلاً من أنْ يكونا عوناً على هدم السُّنة، صارا سبباً في التسهيل على علماء المسلمين في تخريج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَزْوِهِ إلى مصادره، وهذا من إعجاز الله تعالى، إذ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]؛ وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8-9]. [1] انظر: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، (ص 24، 25)؛ من افتراءات المستشرقين الفرنسيين على السنة، د. بلقاسم محمد الغالي (ص 251) ضمن بحوث المؤتمر الدولي الثاني (المستشرقون والدراسات العربية والإسلامية) مصر 1427هـ-2006م. [2] الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 4). [3] انظر: رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد عبد الحميد غراب (ص 7، 8). [4] رؤية إسلامية للاستشراق، (ص 9). [5] الاستشراق، د. مازن بن صلاح مطبقاني (ص 6) باختصار. [6] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، محمود حمدي زقزوق (ص 15) [7] مجلة العربي، الكويت، عدد: (202) سنة (1979م)، (ص 34). [8] انظر: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، (ص 13)؛ الاستشراق، إدوارد سعيد (ص 319). [9] انظر: الاستشراق، إدوارد سعيد، ترجمة: كمال أبو ديب (ص 107)؛ المستشرقون والسنة، د. سعد المرصفي (ص 18). [10] انظر: الاستشراق، (ص 318). [11] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، أ. د. فالح بن محمد الصغيِّر (ص 1، 2) ضمن بحوث ندوة (عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية) المدينة النبوية؛ المستشرقون والحديث النبوي، د. محمد بهاء الدين (ص 9، 10). [12] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 6، 7). [13] انظر: موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية، د. أكرم ضياء العمري (ص 6-13).
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق- إدوارد وديع سعيد ) وفي سبيل التمثيل لنموذج ممن تصدى للاستشراق في بعض وجوهه يبرز علم عربي تتبع الاستشراق الإمبريالي، وكتب عنه في أكثر من كتاب،وهو إدوارد وديع إبراهيم سعيد، المولود في القدس الشريف سنة 1356هـ تقريبًا 1935 ميلادية، من عائلة عربية اللسان، إسلامية الثقافة، نصرانية التدين، وأراد له والده أن يحمل الاسم إدوارد، تيمنًا باسم أمير بلاد الغال إدوارد وارث العرش البريطاني الذي كان نجمه لامعًا في تلك السنة التي ولد فيها إدوارد وديع إبراهيم سعيد. هو عربي اللسان؛ لأنه ينتمي إلى هذا اللسان، حيث انقسم نصارى العرب من قديم الزمان إلى النساطرة واليعاقبة، والانقسام كان بسبب كنه المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - بين الناسوتية واللاهوتية، فقالت طائفة: إنه ناسوتي، وقالت الأخرى: إنه لاهوتي [1] ، ومنذ ذلك التاريخ والجدل قائم حول طبيعة من نعتقد نحن المسلمين جازمين أنه عبد الله ورسوله، آتاه الله الكتاب والحكمة، وجعله نبيًّا، وجعله مباركًا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيًّا، وبَرًّا بوالدته، ولم يجعله جبارًا شقيًّا، والسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يُبعَث حيًّا [2] . نشأ إدوارد سعيد في وسط الثقافة الإسلامية؛ حيث احترم الإسلام والمسلمون النصارى واليهودَ، وأبقَوهم على دينهم، وتسامحوا معهم، ظهر ذلك واضحًا في القرون الأولى منذ أن انطلق الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى القدس الشريف، واحترم كنيسة القيامة، بل قبل ذلك حينما هاجر المسلمون الأوائل إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي، وجادلهم في طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ثم ورود وفد من النصارى العرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما دار من نقاش حول هذا المفهوم،وكل هذا منثورٌ مبثوثٌ في كتب السيرة وكتب التاريخ. موقف السماحة من قِبل المسلمين موقف مبدئي، جعل من يعيشون بينهم يتثقفون بثقافة الإسلام من دون أن يعتنقوا الإسلام بالضرورة،وفي هذه البيئة التي يؤكد عليها النصارى أنفسهم نشأ إدوارد سعيد، الذي لم يكن راضيًا بحكم هذا العيش بالاسم إدوارد مقرونًا بالاسم سعيد، لا سيما أن اسم أبيه كان وديعًا، واسم جده كان إبراهيم؛ ولذا انعكس هذا الموقف على إدوارد وديع إبراهيم سعيد في موقفه هو من الثقافة الإسلامية، فكانت بعض كتبه تعكس هذا الانتماء الثقافي، وإن كان قد استخدم مسيحيته لأسباب ربما أنه لم يفصح عنها، ولكن الذي يظهر أنها قربته كثيرًا في المجتمع الغربي الذي احتضنه وفتح له قاعات المحاضرات في جامعة من الجامعات العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ جامعة كولومبيا بنيويورك المدينة. ويحكي إدوارد سعيد كل هذا في كتاب عنوانه يكفي لترجمة ما كان عليه، وما لا يزال عليه الشعب الفلسطيني حينما وضع قسرًا خارج المكان، وهو عنوان مذكراته [3] ، وكانت قد صدرت باللغة الإنجليزية سنة 1418هـ/ 1998م،وفيها تفصيل طويل للمشاعر قبل الحقائق في حياة هذا الرجل الذي يظهر أنه دافع عن الإسلام دفاعًا عكَسَ انتماءه الثقافي للإسلام، وإن لم يتحدث بلغة المسلم المنتمي للعقيدة الإسلامية، ولا يتوقع منه ذلك؛ لأنه لم يؤمن بالإسلام عقيدة. ظهر دفاعه عن هذا الدين وعن الثقافة الإسلامية واشتهر عندما أصدر كتابه المشهور "الاستشراق" باللغة الإنجليزية سنة 1398هـ/ 1978م، ثم تمت ترجمته إلى اللغة العربية سنة 1410هـ/ 1981م، حيث نقله إلى العربية كمال أبو ديب، باسم: الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، وظهرت له طبعات عدة بعد هذه الطبعة التي صدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت [4] . وبغَض النظر عن الأسلوب الطلسمي الذي نقل فيه كتاب الاستشراق ابتداءً إلى اللغة العربية، مما حفه بالغموض؛ بسبب أن المترجم كمال أبو ديب اتبع أسلوب "التعجيم" foreignsation في الترجمة، مما جعل الرجوع إلى الأصل باللغة الإنجليزية أولى وأوضح لمن يستطيع ذلك، بالرغم من ذلك فإن الكتاب يؤكد أن الفكرة العامة له بغض النظر عن التفاصيل تَصبُّ في الدفاع عن الثقافة الإسلامية، بأبعاد سياسية وعلمية وأدبية فكرية. ثم ظهرت بمصر ترجمة جديدة قد تكون أوضح من الترجمة السابقة؛ لأن المترجم محمد عناني اتبع في ترجمته أسلوب "التدجين أو التأنيس" domesication في الترجمة [5] . ومنذ صدور هذا الكتاب بلغته الإنجليزية تعرَّض إدوارد سعيد لهجوم ودفاع من الكتَّاب الغربيين والعرب، وما يزال مثار نقاش وجدال وهجوم ودفاع؛ مما جعل إدوارد سعيد نفسه يصدر كتابًا في التعقيب على كتابه الاستشراق، سماه: تعقيبات على الاستشراق [6] . ثم الكتاب الآخر الذي دافع فيه إدوارد سعيد عن الإسلام هو ما تمت ترجمته أو نقله إلى اللغة العربية بعنوان "تغطية الإسلام" الذي صدر سنة 1401هـ/ 1981م [7] ، وأظن أن كلمة تغطية في العنوان لم تعطِ المدلول الدقيق لما يقابلها باللغة الإنجليزية Covering Islam ؛ إذ إنها تفهم على أن أفضل كلمة تعطي المدلول هي: تعمية الإسلام؛ ذلك أن كلمة تغطية بالمفهوم الإعلامي الصحفي تعني خلاف ما قصده المؤلف، على ما يظهر؛ إذ يتداول في الإعلام أن التغطية تعني الإظهار، أو الإشهار، أو الإعلام عن الشيء، بينما الذي أراده المؤلف هو ما جاءت عليه أصل الكلمة في اللغة الإنجليزية، التي قد تعود جذورها إلى اللغة العربية، التي تعني الستر والتعمية "في ليلة كَفَرَ الظلام نجومها"، مما يطول بحثه. هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الأخرى التي جمعت فيها مقالاته في الدوريات العربية والأجنبية من منطلق تكريمه والاعتراف بإسهاماته في مجال نصرة القضية التي تبناها في داخله، ولم يتخلَّ عنها، اعتذارًا للآخرين، أو رغبةً في الاستقرار المعيشي، كما هي حال بعض من يتاجرون بالقضية ويزايدون عليها. وتتسارع دور النشر العربية إلى إخراجها؛ نظرًا للإقبال عليها من مفكري العربية، ويتضح من عرضها هنا أبرز داري نشر أسهمتا في إشهار إسهامات إدوارد سعيد بنقلها إلى اللغة العربية، ومنها: تأملات حول المنفى [8] ، وصور المثقف [9] ، والمثقف والسلطة [10] ، وإسرائيل - العراق - الولايات المتحدة [11] ، ونهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها [12] ، وغزة وأريحا: سلام أمريكي [13] ، والقضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي [14] ، والقلم والسيف [15] ، وفرويد وغير الأوروبيين [16] ، والثقافة والإمبريالية [17] ، والآلهة التي تفشل دائمًا [18] ،وهذا الكتاب الأخير تكرار لكتاب صور المثقف في المحاضرة التي حملت العنوان نفسه مع إضافة المقالات أخرى. وكتب بالاشتراك مع برنارد لويس: الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية من وجهة نظر أمريكية [19] ،وكتب مع دانيال بارنبويم نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع [20] ،وكتب مع إعجاز أحمد: الاستشراق وما بعده [21] . والذي يظهر في هذه الكتب الثلاثة الأخيرة التي يشارك فيها إدوارد سعيد غيره من المؤلفين أنها من تجميعات الناشرين أو المعدين والمحررين، وليست بالضرورة مشاركة بالمفهوم العلمي للمشاركة في التأليف. وعلى أي حال، فقد رحل إدوارد بديع إبراهيم سعيد المولود في الطالبية في القدس، حيث كان حيًّا يقطنه الموسرون العرب، وترك وراءه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا، كان له تأثيره على الساحة الفكرية الأدبية،وكان رحيله في 28/ 7/ 1424هـ الموافق 25 سبتمبر من سنة 2003م،ولم تتعرض هذه الوقفة إلى أثره في السياسة وشخصيته من هذا المنطلق؛ إذ إن لهذا الجانب مَن يملِك زمامه. ويحتاج هذا الأستاذ إلى مزيد من الاعتراف بما له من إسهامات في هذا المجال الذي ركزت عليه هنا، على اعتبار أنه مِثل غيره يؤخذ من كلامه ويرد،والذي ظهر لي أن ما يؤخذ من كلامه أكثرُ مما يرد. ولقد وددت أن يتسع المقام للمزيد من النقاش حول هذا الموضوع، مرورًا ببعض ما كُتِبَ عنه من كتب وبحوث ومقالات، وكَتَبَه هو غير ما نشر، مثل: دفاعًا عن إدوارد سعيد [22] ، وإضاءات على كتاب الاستشراق [23] ، وإدوارد سعيد مفارقة الهوية [24] ، وإدوارد سعيد: أسفار في عالم الثقافة [25] ، وإدوارد سعيد: رواية للأجيال [26] ، وإدوارد سعيد: مقالات وحوارات [27] ، وهل القلب للشرق والعقل للغرب؟: ماركس في استشراق إدوارد سعيد [28] ، وإدوار سعيد: آخر العمالقة جاء من فلسطين [29] ، وغيرها مما كتبه هو أو يكتب عنه. ولعل المجال يسمح بذلك في مستقبل الأيام - إن شاء الله تعالى - للغوص بقدر من العمق في محاولة مستقلة في كتاب حول رحلة الأستاذ الدكتور إدوارد وديع إبراهيم سعيد في المجال الفكري من حياته [30] . [1] انظر: سالم عبدالله سالم النوبدي ، المسيحية والإسلام بين حوار الفكر وحرب المبشرين - بيروت: دار الأمر، 2001م - ص 144. [2] انظر في هذا منطوق الآيات الكريمة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31 - 33]. [3] انظر: إدوارد سعيد ، خارج المكان: مذكرات/ ترجمة فواز طرابلسي - بيروت: دار الآداب، 142هـ/ 200م - ص 359. [4] انظر: إدوارد سعيد ، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء - مرجع سابق - ص 367. [5] انظر: إدوارد سعيد ، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق - مرجع سابق - ص 560. [6] انظر: إدوارد سعيد ، تعقيبات على الاستشراق/ ترجمة وتحرير صبحي حديدي - بيروت: دار الفارس، 1416هـ/ 1996م - ص 60. [7] انظر: إدوارد سعيد ، تغطية الإسلام/ ترجمة محمد عناني - القاهرة: دار رؤية، 2005م - ص 352. [8] انظر: إدوارد سعيد ، تأملات حول المنفى ومقالات أخرى (1)/ ترجمة ثائر ديب - بيروت: دار الآداب، 2004م - ص 383. [9] انظر: إدوارد سعيد ، صورة المثقف: محاضرات ريث، 1993م/ نقله إلى العربية غسان غصن، راجعته منى أنيس - ط 3 - بيروت: دار النهار، 1997م - ص 122. [10] انظر: إدوارد سعيد ، المثقف والسلطة/ ترجمة محمد عناني - القاهرة: دار رؤية، 2006م - ص 169. [11] انظر: إدوارد سعيد ، إسرائيل، العراق، الولايات المتحدة - بيروت: دار الآداب، 2004م - ص 312. [12] انظر: إدوارد سعيد ، نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها - بيروت: دار الآداب، 2002م - ص384. [13] انظر: إدوارد سعيد ، غزة - أريحا: سلام أمريكي/ تقديم محمد حسنين هيكل - القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994م - ص 152. [14] انظر: إدوارد سعيد ، القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي - بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1980م - ص 32 - (سلسلة أوراق مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛ 1). [15] انظر: إدوارد سعيد ، القلم والسيف/ حوارات مع دافيد بارساميان/ ترجمة توفيق الأسدي - ط 2 ، دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 1999م - ص 153. [16] انظر: إدوارد سعيد ، فرويد وغير الأوروبيين - بيروت: دار الآداب، 2004م - ص 109. [17] انظر: إدوارد سعيد ، الثقافة والإمبريالية - نقله إلى العربية وقدم له: كمال أبو ديب - بيروت: دار الآداب، 1997م - ص 411. [18] انظر: إدوارد سعيد ، الآلهة التي تفشل دائمًا - مرجع سابق - 139ص ، وأعيدت طباعته بعنوان: آلهة تفشل دائمًا/ ترجمة حسام الدين خضور - ط 2 - دمشق: دار التكوين، 2006م - ص 150. [19] انظر: برنارد لويس وإدوارد سعيد ، الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية من وجهة نظر أمريكية - بيروت: دار الجيل، 1414هـ/ 1994م - ص 133. [20] انظر: إدوارد سعيد ودانيال بارنبويم ، نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع/ تنقيح وتقديم: آرا غوزيليمان، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي - بيروت: دار الآداب، 2005م - ص 199. [21] انظر: إعجاز أحمد وإدوارد سعيد ، الاستشراق وما بعده: إدوارد سعيد من منظور النقد الماركسي/ ترجمة وتقديم: ثائر ديب - دمشق: دار ورد، 2004م - ص 224. [22] انظر: فخري صالح ، دفاعًا عن إدوارد سعيد - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م - ص 121. [23] انظر: باقر بري ، إضاءات على كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد - بيروت: دار الهادي، 1422هـ/ 2002م - ص 120. [24] انظر: بيل اشكروفت وبال أهلواليا ، إدوارد سعيد: مفارقة الهوية/ ترجمة سهيل نجم، مراجعة حيدر سعيد - دمشق: نينوى للدراسات والترجمة والنشر، 2002م - ص 235. [25] انظر: محمد شاهين ، إدوارد سعيد: أسفار في عالم الثقافة - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007م - ص 71. [26] انظر: محمد شاهين ، إدوارد سعيد: رواية للأجيال - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005م - ص 207. [27] انظر: محمد شاهين/ مقدم ومحرر ، إدوارد سعيد: مقالات وحوارات - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م - ص 216. [28] انظر: مهدي عامل ، هل القلب للشرق والعقل للغرب؟: ماركس في استشراق إدوارد سعيد - ط 3 - بيروت: دار الفارابي، 2006م - ص 111. [29] انظر: سلطان الحطاب ، إدوارد سعيد: آخر العمالقة جاء من فلسطين - عمان: دار العروبة، 2003م - ص 294. [30] انظر: من آخر الاحتفائيات بالراحل إدوارد سعيد، وقبل صدور هذا الكتاب، ما دعت إليه منظمة الجالية الفلسطينية في بريطانيا، بالتعاون مع جمعية التضامن مع فلسطين في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، من تنظيم يوم إدوارد سعيد، يشارك فيه نخبةٌ من الأكاديميين من الجامعات البريطانية والأمريكية والعربية، وذلك في الثالث من أكتوبر 2004م ، ذكرت ذلك صحيفة الشرق الأوسط في عددها 9432 في 24/ 9/ 2004م - ص 23.
ولاة الحرمين الشريفين في عهد الخلفاء الأربعة الراشدين لقد اختار الله تعالى مكةَ المكرمة والمدينة المنورة، فشرَّفهما وأعلى مكانتهما، وجعل للحرمين الشريفين منزلةً رفيعة ومناقبَ جليلة كما هو معلوم لدى جميع المسلمين، ومن هنا جاء اهتمامُ المسلمين حكامًا ومحكومين بمكة والمدينة، وهما مهوى الأفئدة ومنزل العلم والفضل، ومكان نزول الوحي على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن العناية بمكة المكرمة والمدينة المنورة الاهتمام بتعيين الولاة الصالحين عليهما خلال العصر الراشدي المبارك الذي استمر ثلاثين سنة من سنة11هجرية حتى سنة41 هجري، وانتهى بتنازُل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لصالح سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. ويظهر اهتمامُ الخلفاء الراشدين بالحرمين الشريفين، من خلال تعيين واختيار الولاة الصالحين الأكْفَاء؛ مثل عتاب بن أسيد، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهما، وكان الراشدون يولون مكة والمدينة اهتمامًا خاصًّا، نظرًا لمكانتهما الكبيرة، وهم أعلم الناس بمكانتهما، ومن منطلق الاهتمام بالعصر الراشدي، وأهمية دراسة كلِّ جانبٍ من جوانبه المشرفة الرائعة، أحببتُ أن أكتُب هذا المقال متحدثًا فيه عن جانبٍ من جوانب الخلافة الراشدة، وهو جانب الحديث عن الولاة الذين عيَّنهم الخلفاء الراشدون على مكة المكرمة والمدينة المنورة من بداية عهد أبي بكر الصديق، وحتى نهاية عهد علي بن أبي طالب، وأسير في ذلك على ترتيب الخلفاء، وفي الغالب أكتفي بذكر اسم الوالي دون التوسع في ترجمته، وأمهِّد قبل ذكر الولاة ببيان تعريف الولاية وبعض أعمال التي يجب أن يقوم بها الوالي، ولا بد من الإشارة إلى أن سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما هو خليفة راشدي مهدي، لكن لم أذكر عهده لقِصَر مدته وانشغاله بإصلاح ذات البين والسعي إلى الصلح، ولا شك أن ذلك كان مقدمًا عنده على الأمور الإدارية، وأسأل الله سبحانه العون والتوفيق والسداد. تعريف الولاية : الولاية: هي تكليف الخليفة شخصًا مختارًا ليقوم بسياسة إقليم معين وتدبير أموره وإدارة شؤونه في أعمال محدودة ومعروفة، ويسمى أمير الإقليم أو عامله أو واليه؛ كما جاء في كتاب الولاية على البلدان للدكتور عبدالعزيز العمري. واجبات الوالي: واجبات الوالي كثيرة؛ منها: 1- إقامة الصلاة وإمامة الناس في الجمع والجماعات. 2- الجهاد وحماية الولاية وتحصين الثغور. 3- تعيين القضاة والعمال والموظفين ومحاسبتهم. 4- إقامة الحدود وتأمين البلاد. 5- الإشراف على الشؤون المالية في الولاية والاهتمام بشؤون العمران. وغير ذلك الكثير، وانظر للتفصيل والاستزادة كتاب (أبو بكر الصديق) للعلامة عبد الستار الشيخ، وإليك الآن أسماء ولاة الحرمين الشريفين في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة: عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ولاة مكة المكرمة: 1- عتاب بن أسيد. وهو صحابي ولَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، فأقرَّه عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستمرَّ واليًا طيلة عهد أبي بكر رضي الله عنه. ولاة المدينة المنورة: كانت المدينة عاصمة الخلافة في عهد الصديق رضوان الله عليه، وكان إذا خرج منها استخلف عليها حتى يرجع، وعندما حج سنة 12هجرية استخلف عليها: 1- قتادة بن النعمان الظفري. عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولاة مكة المكرمة: 1- محرز بن حارثة بن ربيعة بن عبدشمس. 2- قنفذ بن عمير بن جدعان التميمي. 3- نافع بن عبدالحارث الخزاعي. 4- خالد بن العاص بن هشام المخزومي القرشي. ولاة المدينة المنورة: المدينة هي عاصمة الخلافة، وعندما يخرُج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منها كان يستخلف عليها: 1- علي بن أبي طالب. 2- زيد بن ثابت الأنصاري (كان يستخلفه في بعض الأحيان). عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه: ولاة مكة المكرمة: 1- خالد بن العاص بن هشام المخزومي القرشي. كان والي مكة عندما استُشهد عمر فأبقاه عثمان عليها مدة. 2- علي بن ربيعة بن عبدالعزى العبشمي. 3- عبدالله بن عمرو بن الحضرمي. 4- خالد بن العاص بن هشام المخزومي القرشي. أعاده عثمان رضي الله عنه إلى ولايتها مرة أخرى واستشهد عثمان وهو عليها والٍ. ولاة المدينة المنورة: المدينة هي عاصمة الخلافة في عهد عثمان أيضًا، وعندما يخرج منها كان يستخلف عليها: 1- زيد بن ثابت الأنصاري. عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولاة مكة المكرمة: 1- أبو قتادة الأنصاري. وهو صحابي جليل. 2- قثم بن العباس بن عبدالمطلب، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولاة المدينة المنورة: 1- سهل بن حنيف الأنصاري. 2- تمام بن العباس بن عبدالمطلب. 3- أبو أيوب الأنصاري. وهو الصحابي الجليل الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بعد الهجرة. فهؤلاء هم ولاة مكة المكرمة والمدينة المنورة في عهد الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم، وعددهم 18واليًا، مع الذي تولَّوا المدينة في أثناء غياب الخلفاء عنها، ومن المعلوم أن الكوفة أصبحت عاصمة الخلافة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأصبحت المدينة المنورة ولاية من الولايات، وعيِّن عليها ثلاث ولاة كما مر معنا. وكنت أوَدُّ أن أترجم للولاة، وأذكر سيرتهم، ولكن خشيت الإطالة، ورغِبت في الاختصار والإيجاز، وتراجمهم مبسوطة في كتب التراجم والسير فراجعها إن شئت. وبذلك يتم لي ما أردتُه من ذكر ولاة الحرمين الشريفين في عهد الخلفاء الراشدين، وبيان أسمائهم، وعسى الله أن يوفِّقني لكتابة المزيد عن ولاة الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين وغير ذلك من جوانب هذا العصر في الفترات المقبلة عندما ييسِّر الله لي ذلك. وفي الختام رضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفِّق المسلمين في كل زمان ومكان للاقتداء بهديهم والسير على خطاهم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُر الميامين أجمعين، ومن والاهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله ربِّ العالمين. المصادر والمراجع: 1- كتاب الولاية على البلدان؛ عبدالعزيز العمري. 2- كتاب عصر الخلافة الراشدة، أكرم ضياء العمري. 3- تاريخ الطبري، الإمام محمد بن جرير الطبري. 4- كتاب "أبو بكر الصديق"، عبدالستار الشيخ. 5- كتاب عمر بن الخطاب، عبدالستار الشيخ. 6- كتاب عثمان بن عفان، عبدالستار الشيخ. 7- كتاب علي بن أبي طالب، عبدالستار الشيخ.
رؤوس أقلام للناس الهادئة العاقلة بخصوص موت الصحفية شيرين أبو عاقلة • ليكن جدالُك بالتي هي أحسن بعلمٍ وأدبٍ وحكمة، فقد أمرك الله بهذا؛ قال تعالى: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]. • لتكن مخلصًا عند عرض نُصحك وعند جدالك، فلا يكن قصدُك الغلبة أو إظهار نفسك، أو الانتقام من شخص معينٍ، أو التنكيل بفصيل معين، بل اجعل نيَّتك لله. • فرِّق في جدالك بين المتكبر المعاند وبين الجاهل التائه، واعلَم أنك في زمان زاد رجسُه وقلَّ علمُه وخيرُه. • عدمُ معرفة البعض للحكم الشرعي جهلٌ، ودعوتك إلى الله بسخرية واستهزاء وبغير حكمة وأدب جهلٌ أيضًا، بل قد يكون أعظم فلا يَغلبنَّ جهلُك جهلَهم، واستعِذ بالله أن تكون من الجاهلين. • للأقصى مكانةٌ عظيمة في نفوس المسلمين، فحافِظ عليها ولا تَخدشها فضلًا عن أن تُسقطها من قلوبهم. • حبُّ الأقصى والدفاع عنه نابعٌ من العقيدة، وليس شيئًا ثانويًّا، فلا تُهمِّشه، بل عظِّم أمره في قلوب المسلمين. • الحِلمُ والأناة من الصفات التي فاتَت الكثيرين، فكن حكيمًا وتخيَّر الوقت المناسب والوجه المناسب. • اسمَع حيثيات الأمور جيدًا، وأحِط بها علمًا قبل أن تدلي بدَلْوك. • لا تنقل شائعات قبل أن تتثبَّت منها، ولا تعمِّم حكمَ البعض على الجميع. • علاج الخلل العقدي لن يتأتَّى بالتنبيه عليه فقط، بل لا بد من خطب كثيرة ودروس عديدة منك أيها الداعية إلى الله في المساجد والمجالس. • طريقة التشنج والاستهزاء في عرض الحكم قد تأتي بنتيجة عكسية، فلا يكن إنكارُك للمنكر سبيلًا إلى وقوع منكرٍ أكبرَ. • تأخير البيان أحيانًا ليس جبنًا ولا محاباة، بل حكمة ورَويَّة وفَهْم للمجريات والمآلات. • كثير من الدعاة بالفعل هَمُّهم نُصرة الدين والذب عنه، لكن ليس ذلكم سلاح الداعي وحده. • الهداية ليست بيدك، فاعرِض بضاعتك واصبِر عليها، وليس عليك هدى الناس، بل الهداية بيد الله، وإنْ عليك إلا البلاغ. • هناك من الدعاة من يتصيَّدون الأحداث؛ ليظهروا جدالهم العقيم، سواء في التشديد أو التمييع. • هناك مَن هَمُّه النكاية في الآخرين؛ ليثبت أن طريقته هي المثلى، ولا يدري المسكين أنه لم يكن دافعُه إلا الشخصنة والحَميَّة. • ورد أن الفضيل بن عياض قال: «العلماء كثير والحكماء قليل، وإنما يراد من العلم الحكمة، فمن أُوتي الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا». • كثير من الناس ينتظرون حدثًا ما ليجادلوا بعنف؛ سواء فرَّطوا أو أفرَطوا، أخلَصوا النية أو لم يُخلصوا، هم في جانب والحكمة في جانب آخرَ، الحكيم هو من يعلم متى يتكلم وكيف. • في مثل هذه الأمور الشائكة حاوِل نُصحَ من يُخطئ على الخاص، وليس أمام الناس؛ كي يؤتي نصحُك أُكلَه. • حبذا لو بدأتَ توضيحَك للحكم بمقدمة لطيفة وبأدلة وافية من القرآن والسنة، مع التركيز على قصة عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، ومظاهر نصرته للرسول، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم أشدَّ الحرص على هدايته وإسلامه، ثم حزنه البليغ على فقْده له، وكذا وفاته دون نور الإسلام. • لا حرج أن تحزَن على شخصٍ مات وإن كان مخالفًا لك في الدين، خاصة إذا كان صاحب قضية حقٍّ اشترك معك فيها، ولا حرَجَ عليك في حزنك على موت قريبك غير المسلم أو جارك أو زميلك، فالحزنُ شيء والموالاة والمحبة شيء آخرُ. • لا يجوز الترحم ولا الاستغفار لمن مات على غير الإسلام، والأدلة على ذلك متضافرة وبينة، مهما حاول المدلسون طمسَها أو لَيَّ عُنقها. • جواز زواجك من كتابية ليس معناه أنك ستترحَّم عليها، أو تطلُب لها المغفرة عند موتها، وتأمَّل خاتمة الآية في سورة المائدة: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، قال: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله بعد إباحته للزواج من الكتابية. قال بعض المفسرين: كي لا يظن المسلم المتحرِّج من الزواج منهنَّ لأنهم أهل كتاب - أن الله لا يعلَم شركهنَّ، بل يعلم، وأخبر أن عملهنَّ قد حبِط بسبب كفرهنَّ، وقال البعض: كي لا تظن الكتابية أن زواجها من مسلم سيغني عنها من الله شيئًا، وقال البعض: كي لا تظن الكتابية أنها على حق طالما أُبيح للمسلم الزواج منها. • هذا الزمان يحتاج منا إلى رفقٍ أكثر بالمسلمين، وما كان الرفق في شيء إلا زانه. • نعم طغت (الإنسانوية) على كثير من جهلة المسلمين وقدَّموها على شريعة الإسلام، لكن لا يَحمِلنَّك جهادُك للإنسانوية أن تنفِّرَ الناس من الإسلام، أو تحملهم على بُغضه والأعراض عنه. • قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن منكم لمنفِّرين"، ووالله كثيرٌ من الشباب يستجيب بالرفق ويلتزم بالشرع. ودينُ الإسلام قادمٌ ولو كره الكافرون.
الفقهاء والمحدِّثون يُكمِّل بعضُهم بعضًا إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: بيَّن ابن الجوزي رحمه الله بأنَّ أهلَ الحديث هم أهل الفقه، فقال: (وقد كان المحُدِّثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاءُ لا يعرفون الحديث، والمُحدِّثون لا يعرفون الفقه) [1] . وذَكَرَ ابن الجوزي - رحمه الله – "تلبيس إبليس" على بعض الفقهاء، فقال: (كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث؛ فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخِّرون: يكفينا أنْ نعرفَ آيات الأحكام من القرآن، وأنْ نعتمِدَ على الكتب المشهورة في الحديث؛ كسنن أبي داود ونحوها، ثم استهانوا بهذا الأمر أيضًا، وصار أحدهم يحتج بآيةٍ لا يعرف معناها، وبحديثٍ لا يدري أصحيحٌ هو أم لا، وربما اعتمَدَ على "قياسٍ" يُعارضه "حديثٌ صحيح" ولا يعلم؛ لقلة التفاته إلى معرفة النقل. وإنما الفقه استخراجٌ من "الكتاب والسنة" فكيف يَستخرج من شيءٍ لا يعرفه. ومن القبيح: تعليق حُكمٍ على حديثٍ لا يدري أصحيح هو أم لا) [2] . روى الخطيب البغدادي رحمه الله بسنده إلى عبيد الله بن عمرو قال: (جاء رجلٌ إلى الأعمش؛ فسأله عن مسألةٍ، وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نُعمانُ! قُلْ فيها؛ فأجابه، فقال الأعمش: مِنْ أين قلتَ هذا؟ فقال: مِنْ حَديثِكَ الذي حدَّثْتَنَاه، قال: نعم، نحن صيادلة، وأنتم أطباء) [3] . وقال الخطابي رحمه الله: (ورأيتُ أهلَ العلم في زماننا؛ قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديثٍ وأثر، وأهل فقهٍ ونظر، وكلُّ واحدةٍ منهما لا تتميَّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأنَّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكلُّ بناءٍ لم يُوضَعْ على قاعدة وأساس فهو منهار، وكلُّ أساسٍ خلا عن بناءٍ وعمارةٍ فهو قَفْرٌ وخَراب. ووجدتُ هذين الفريقين على ما بينهم؛ من التَّداني في المَحَلَّين والتَّقارب في المنزِلتين، وعمومِ الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمولِ الفاقة اللازمة لكلٍّ منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين - وعلى سبيل الحقِّ بلزوم التَّناصر والتعاون غير متظاهِرِين) [4] . وقال علي بن المديني رحمه الله: (التَّفقة في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم) [5] . وقال الشوكاني رحمه الله: (المُتصدِّر للتَّصنيف في كتب الفقه - وإنْ بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حدٍّ يتقاصر عنه الوصف - إذا لم يُتقِنْ عِلْمَ السُّنة، ويَعرفْ صحيحَه من سقيمه، ويُعوِّلْ على أهله في إصداره وإيراده؛ كانت مُصنَّفاتُه مبنيةً على غير أساس؛ لأنَّ عِلمَ الفقه هو مأخوذٌ من عِلمِ السُّنة إلاَّ القليل منه، وهو ما قد صرَّح بحُكمه القرآنُ الكريم، فما يصنعُ ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالِمًا بعلم الحديث، مُتقِنًا له مُعَوِّلًا على المُصنَّفات المُدوَّنة فيه) [6] . وقال الرامهرمزي رحمه الله – ردًا على مَنْ يُبغض أهل الحديث من الحاقدين: (إلاَّ تأدَّب بأدب العلم، وخَفَضَ جناحَه لِمَنْ تعلَّق بشيءٍ منه، ولم يُبَهرِجْ شيوخَه الذين عنهم أخذ وبِهِم تصدَّر، ووفَّى الفقهاءَ حقوقَهم من الفَضْل، ولم يبخَسْ الرواةَ حظوظَهم من النَّقْل، ورغَّبَ الرُّواةَ في التَّفقه، والمُتفقِّهةَ في الحديث، وقال بِفضْلِ الفريقين، وحضَّ على سلوك الطريقين؛ فإنهما يَكْمُلان إذا اجْتَمَعا، ويَنقُصان إذ افترقا) [7] . نصائح ووصايا للفقهاء والمُحدِّثين: ما زال العلماء ينصحون المتفقهة والمحدِّثين ويوصونهم بوصايا نفِيسة، تنفعهم في مواصلة طريقهم إلى الله تعالى والدار الآخرة، ومن ذلك: أولًا: وصية ابن الجوزي رحمه الله، حيث قال: (أمَّا العالِم؛ فلا أقولُ له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه. بل أقول له: قدِّم المُهِمَّ؛ فإن العاقل مَنْ قدَّر عُمْرَه وعمل بمقتضاه، وإنْ كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يَبْني على الأغلب. فإذا علِم العاقلُ أنَّ العمر قصير، وأنَّ العلم كثير، فقبيحٌ بالعاقل الطالبِ لكمال الفضائل؛ أنْ يتشاغل – مثلًا – بسماع الحديث ونسْخِه ليحصل كلُّ طريقٍ، وكلُّ روايةٍ، وكلُّ غريب. وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنةً؛ خصوصًا إنْ تشاغَلَ بالنَّسْخ ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النَّقْل الذي عليه مدار المسألة) [8] . وقال – في موطن آخر: (فاللازم في العلم طلبُ المُهم، فرُبَّ صاحبِ حديثٍ حَفِظَ – مثلًا؛ لحديث: "مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" [9] عِشرين طريقًا، والحديثُ قد ثَبَتَ من طريقٍ واحد، فشَغَلَه ذلك عن معرفةِ آداب الغُسْل) [10] . وذكر – في موطن آخر: (وقد كان المُحدِّثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاءُ لا يعرفون الحديث، والمُحدِّثون لا يعرفون الفقه. فمَنْ كان ذا هِمَّةٍ ونَصَحَ نفسَه تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جُلَّ شُغلِه الفقه، فهو أعظمُ العلوم وأهمُّها) [11] . وأشار ابن الجوزي رحمه الله بأن على طالب العلم أن يتدرج في طلبه، واقترح ما ملخَّصه: 1- يبدأ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا. 2- إن أمكن أخذ القراءات السَّبع. 3- يأخذ شيئًا من النحو وكتب اللغة. 4- ثم يبدأ بأصول الحديث؛ كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث؛ كالصحاح والمسانيد فلينظر في أصول ذلك. 5- ثم ينظر في كتب التاريخ؛ ليعرف ما لا يستغنى عنه؛ كنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له. 6- ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانِّه؛ كتفسير آيةٍ وحديثٍ وعلمِ لغة. 7- ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم. 8- فإن اتَّسع الزمان للتزيُّد من العلم فليكن من الفقه؛ فإنه الأنفع. 9- ومهما فسح له في المهل فأمكنه التصنيف في علم؛ فإنه يُخَلِّفُ بذلك خَلْفَه خَلْفًا صالحًا [12] . ثانيًا: وصية الخطيب البغدادي رحمه الله، إذ يقول: (ورسمتُ في هذا الكتاب – لصاحب الحديث خاصة، ولغيره عامة - ما أقوله نصيحةً مني له وغيره: عليه أنْ يتميَّز عمَّنْ رَضِيَ لنفسه بالجهل، ولم يكن فيه معنى يُلحِقه بأهل الفضل، وينظر فيما أذهب فيه مُعظَم وقتِه، وقطع به أكثرَ عُمرِه من كَتْبِ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَمعِه، ويبحث عن علم ما أُمِرَ به؛ من معرفة حلاله وحرامه، وخاصِّه وعامِّه، وفرضِه وندبِه، وإباحتِه وحظرِه، وناسخِه ومنسوخِه، وغير ذلك من أنواع علومه، قبل فوات إدراك ذلك فيه) [13] . وقال أيضًا: (وليعلم أنَّ الإكثار من كتب الحديث وروايته؛ لا يَصير به الرجلُ فقيهًا، وإنما يتفقَّه باستنباط معانيه، وإمعانِ التفكير فيه) [14] . ثالثًا: وصية الرامهرمزي رحمه الله – لطلاب الحديث: (فتمسَّكوا - جبركم الله - بحديث نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، وتبيَّنوا معانيه، وتفقَّهوا به، وتأدَّبوا بآدابه، ودَعُوا ما به تُعَيَّرون؛ من تتبُّع الطُّرق، وتكثيرِ الأسانيد، وتَطلُّبِ شواذِّ الأحاديث، وما دلَّسه المجانين وتَبَلْبَلَ فيه المغفَّلون، واجتهدوا في أنْ تُوفُوه حقَّه؛ من التَّهذيب والضَّبط والتَّقويم؛ لتشرفوا به في المشاهد، وتنطلق ألسنتُكم في المجالس، ولا تَحْفَلوا بِمَنْ يعترض عليكم؛ حسدًا على ما آتاكم اللهُ من فضله؛ فإنَّ الحديث ذِكْرٌ لا يُحبُّه إلاَّ الذُّكران، ونَسَبٌ لا يُجهل بكلِّ مكان) [15] . وهذا هو المنهج الوسطي المعتدل في التَّحصيل والطَّلَب؛ بحيث يجمع فيه الفقيه أدواته التي تُمكِّنه من الوصول إلى الرأي الصواب مُتَّبعًا سُنَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم دونما إفراطٍ أو تفريط. [1] صيد الخاطر، (ص 145). [2] تلبيس إبليس، (ص 103). [3] نصيحة أهل الحديث، (ص 44)، (رقم 23). [4] معالم السنن، (1/ 3). وانظر: الفِصام المُبتَدع بين أهل الفقه وأهل الحديث، عقيل بن محمد المقطري (ص 72). [5] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 320). [6] أدب الطلب ومنتهى الأدب، (ص 80). [7] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 161). [8] صيد الخاطر، (ص 55) باختصار. [9] رواه الترمذي، (1/ 143)، (ح 494) وقال: (حسن صحيح)؛ وابن ماجه، (1/ 157)، (ح 1141). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (1/ 279)، (ح 492). [10] صيد الخاطر، (ص 68). [11] صيد الخاطر، (ص 145). [12] انظر: صيد الخاطر، (ص 55) بتصرف واختصار. وانظر: الفِصام المُبتَدع بين أهل الفقه وأهل الحديث، (ص 93). [13] الفقيه والمتفقه، (1/ 425). [14] الفقيه والمتفقه، (1/ 430)؛ نصيحة أهل الحديث، (ص 37). [15] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 161).
انشقاق القمر وسأل زعماءُ قريش النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية واضحة ومعجزة بينة تدل على صدق نبوته وتأييد الله له، فدعا ربه أن يريهم آية فيها إعجاز كبير؛ فكان انشقاق القمر؛ حيث شقه الله نصفين، هكذا شاهده أهل مكة، فكان فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وفي الصحيحين: أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا))، وفي رواية لابن عباس: أن عددًا من زعماء قريش - منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن وائل وغيرهم - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، نصفًا على أبي قبيس، ونصفًا على قعيقعان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن فعلت تؤمنوا؟))، قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل اللهَ عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر نصفًا على أبي قُبيس ونصفًا على قيعقعان - وهذا بالطبع وفق النظر، وليس فوق أبي قبيس على الحقيقة، فعندما يغيب القمر أو الشمس وفي جهة الغروب بحر يرى الرائي أنهما يغيبان في البحر - والرسول صلى الله عليه وسلم ينادي: ((يا أبا سلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن الأرقم، اشهدوا))، كان موقف قريش أن هذا سحر، ورُوي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: رأيت القمر منشقًّا شقتين مرتين، مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء. ولهذا الحدث نزلت سورة القمر؛ قال الله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر: 1 - 5]، ومِن هذه الآيات يتبين أن هذه الآية والمعجزة الكبيرة لم تغيِّر من عنادهم وموقفهم من الدعوة شيئًا، بل رددوا تهمهم السابقة بأن هذا سحر مستمر؛ لذلك لما رأوا انشقاق القمر قالوا: سحَرَنا محمد، فقال بعضهم: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فاسألوا السُّفَّار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، قال: فسُئل السفار - وقدموا من كل جهة - قالوا: رأينا، وقد ذكر فيما بعد أن مناطق أخرى شهدت انشقاق القمر؛ لأن المدة - حسب الروايات - استمرت حتى غياب القمر، وأرَّخ كثير من البلاد تواريخهم بليلة انشقاق القمر، وذكر أنه في بعض بلاد الهند أرخوا على بناء بُنِيَ تلك الليلة بليلة انشقاق القمر.
العمران وبنية الحضارة الإسلامية الحضارةُ الإسلامية في بنيتها العقَدية والتشريعية، لم تراعِ في قصدها الأول تطاولَ البنيان، وزَخرفة المساجد، والتجمل في هندسة العمران، وإنما راعت التخلق بقِيَمِ الإيمان التي تنبثق منها معرفةُ الرحمن، وتكريم الإنسان، فإذا تحقَّقت، فالعمران وجمال البنيان تَبَعٌ لها، ولذلك فوجود ناطحات السحاب، وتطاول البنيان والعمارات، لا يدل على أن أصحابَها مؤمنون متحضرون، ولو نراجع سيرة الأماجد الأوائل من الرعيل الأول، من الصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم، وقد كانوا في أَوَج تحضُّرهم الإيماني والأخلاقي والإنساني، مع بساطة عيشهم وسهولة مشربهم وموردهم ومعاشهم، أما الذين أَتَوْا من بعدهم من المتخلفين، فكانوا في أَوْج تحضُّرهم العمراني والبنياني، الذي بُني على مخلفات التحضر الإسلامي الحقيقي، ولكن كانوا في تقهقُر مستمر؛ لأنهم فقدوا أُسسها، ومنها: أولًا: الأسس العقدية: 1- من توحيد الله في العبودية، ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران:2]، التوحيد العبودي المبني على الحب والخوف والرجاء، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه ﴾ [البقرة:165]، ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء 57]. 2- وتوحيد الله في الحاكمية، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ﴾، [يوسف:40]. ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة:44]، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ الظالمون ﴾ المائدة:45، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ الفاسقون ﴾، [المائدة:47]. 3- وترسيخ العدل والقسط بين الناس ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]. ثانيًا : الأسس الإيمانية: من معرفة الله وأسمائه وصفاته معنًا ومقصدًا ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر:22-24]. ثالثًا : الأسس التشريعية: 1- كالشوری والاحتكام إليه، وجعله قضية ملزِمة وليست معلِمة فحسب ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [الشورى:38]، فتداول الشورى وأنه القاضي على تحصيل أمورهم بعد الاستجابة لله في دينه وإقامة الصلاة، له مكانته في ترسيخ الحكم الرشيد بين الأمة وإبعادها عن مهاوي الرأي الأوحد المورث للاستبداد، كما أن الاستجابة لله والصلاة له لها مكانتها في ترسيخ عبودية الله في خلقه ونفاذ الرشاد فيهم. 2- والعمل بالشورى كان ديدنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم مع غناه عنه، لتأييده بالوحي والآيات والخبر الصادق من الله، ولكن شاوَر أصحابه في مكة للهجرة، وفي المدينة في غزوة بدر وغزوة أحد، وفي صلح الحديبية، وقصة مشاورته صلى الله عليه وسلم أم سلمة معروفة لَمَّا امتنع أصحابه عن الحلق ونحر الهدْي، فاقترَحت عليه أم سلمة رضي الله عنها الحلقَ والنحر، فيَتبعه أصحابُه بذلك، فاستجاب لها، ينظر: شعيب الأرناؤوط، في تخريج صحيح ابن حبان عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، رقم الحديث:4872، بإسناد صحيح. وشاوَر صلى الله عليه وسلم في جُلِّ غزواته، وما إن يستقر أمرٌ على مشورةٍ بعينها إلا وأقدَم إليه؛ كما في غزوة أحد والخروج إلى المشركين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم عازمًا الخروج، ولكن لِمَا للشورى من أهمية ومكانة في احترام العقل، واعتبار الرأي، ومشاركة أكثر العقول في أمر الأمة واجتماعها عليه مما يقرِّب الإنسان إلى الصواب، ويُبعده عن الخطأ والحَيْف، فقد "شاوَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ أُحُدٍ في المُقامِ والخروجِ، فرأَوْا له الخروجَ، فلمَّا لَبِس لَأْمَتَهُ وعزَم، قالوا: أقِمْ، فلم يَمِلْ إليهم بعد العَزْمِ، وقال: لا ينبغي لنبيٍّ يَلبَسُ لَأْمَتَهُ، فيضَعُها حتى يحكُمَ اللهُ"، أخرجه شعيب الأرناووط في تخريج شرح السنة، 10/ 119، وبين أن إسناده صحيح، لولا عنعنة أبي الزبير، وله شاهد، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فأعْرَضَ عنْه، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فأعْرَضَ عنْه، فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، فَقالَ: إيَّانَا تُرِيدُ يا رَسولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، ولو أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلى بَرْكِ الغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قالَ: فَنَدَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حتَّى نَزَلُوا بَدْرًا"، رواه مسلم، صحيح مسلم، رقم الحديث: 1779. 3- وكان الصحابة الكرام والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم مشاورين متبعين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فيه. رابعًا : الأسس الأخلاقية: 1- من قيمة الوقت ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر:1-3]، عن عبدالله بن عباس قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حياتَك قبلَ موتِك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وشبابَك قبلَ هرمِك، وغنَاك قبلَ فقرِك"، أخرجه السيوطي، الجامع الصغير، ص1205، حديث صحيح. 2- والإتقان في العمل، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ"، الألباني، صحيح الجامع، رقم الحديث:880، وقال حديث حسن. 3- ونفع المسلم والإنسان ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، [البقرة:195]، ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف:56]، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هاهُنا ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ"، رواه مسلم. خامسًا : الأسس الإنسانية: 1- من التكريم ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء:70]. 2- والحرية ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة:256]. 3- والرحمة ﴿ وما أرسلناك إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. سادسًا : الأسس الكونية: 1- من العلم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾، [العلق:1 - 4]. 2- والملاحظة ﴿ قُلْ سِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَانْظُرُوْا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر ﴾ [العنكبوت:20]، ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس:101]. وقد استُبدلت تلك الأسس بأضداها: فمقابل العدل فشا الظلم ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾، [هود: 18-19]، ومقابل معرفة الله بكمال صفاته معنًی ومقصدًا، وُجِد الجهلُ به، والاكتفاءُ بمعرفة صفاته اسمًا وصورة، ومقابل الشوری استُبدل بولاية الغلَبة والملك العاض الجبري، الانفراد بالحكم والاستبداد، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ، قال حَبيبٌ: فلمَّا قام عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ، وكان يَزيدُ بنُ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ في صَحابتِه، فكَتَبتُ إليه بهذا الحديثِ أُذكِّرُه إيَّاه، فقُلتُ له: إنِّي أرجو أنْ يكونَ أميرُ المؤمنينَ، يَعني عُمَرَ، بعدَ المُلكِ العاضِّ والجَبريَّةِ، فأُدخِلَ كِتابي على عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، فسُرَّ به وأعجَبَه"، أخرجه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، رقم الحديث:18406، وقال: إسناده حسن. ومقابل القيم الأخلاقية استبدل بفقْد قيمة الإنسان والمسلم، وقد حذَّر الله تعالى من التهاون فيها ﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة:32]، ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه ﴾، [التوبة:71]، وهدر الوقت، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن كان الوقت عند مَن يرونه قيمته بالمال؛ لأن في استغلاله درًّا للمال، فإن الوقت في النظر الإسلامي هو الحياة، فباستغلال الوقت يُفلح المرء في الدارين. وما ترونه من أدلة عمارة الأرض في الإسلام ﴿. .. اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾، [هود: 61]، فالقصدُ الأساس منه عمارة الإنسان تربويًّا وفكريًّا وعقليًّا وإيمانيًّا، والاهتمام به والقيام بخدمته. وما ترونه من كراهة تطاول البنيان وزخرفة العمران في الإسلام، سببُه ما ذهَب إليه جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ؛ إذ ذكروا أَنَّهُ يُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ صَبْغٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلاَتِهِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ"؛ ينظر: حكم زخرفة المسجد وإنارته وفرشه بالبُسُط الفاخرة - (إسلام ويب) . فليس دلالتها على الكراهة بالقصد الأوَّلي منها لذاتها، وإنما لسببٍ آخر، وهو إلهاء المصلي عن صلاته التي هي مصدر إيمانه وتقواه، وطريق عروج رُوحه إلى مولاه ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، البقرة:143، أي صلاتكم، ولذلك فكراهة ذلك سببها أنها ستكون علی حساب القصد الأول من عمارة الأرض، ومِن ثَم يورث تطاوُل البنيان وزخرفة المساجد والعمران قبل الاهتمام بالإيمان والإنسان - الإضرارَ بهم جميعًا. وفلسلفة بنية الحضارة الإسلامية التي تعطي الأولوية لمعرفة الله، وبناء الإنسان على القيم والخلق والإيمان، قبل الاهتمام بالعمران المادي؛ لأن معرفة الله راجعة إلى الفكر والمعتقد الذي تُبنى عليه كرامة الإنسان واحترامه، والمعتقد يُعد من الضروريات الخمس التي يجب حفظُها، وهي (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال)، والاهتمام بالمعتقد والخلق والإيمان يقع في المرتبة الأولى، وبالتضمن يدخل الإنسان فيها، أما الاهتمام بالعمران المادي، فمتعلِّقٌ بالمال الذي يدخل ضمن الاهتمام بالأشياء بعد الأفكار والدلائل والبراهين التي هي من جملة حفظ الدين، وكذلك الاهتمام بالفكر والمعتقد والإنسان يقع في مرتبة الضروريات، بينما الاهتمام بجمال العمران يقع في مرتبة التحسينيات والتكميليات، ومعلوم أن الضروريات مقدَّمة على التحسينيات، وهي أصلٌ لها. ولتأصيل القضية يُضرَب أنموذجُ الأنظمة والأحزاب السياسية في الدول العربية والإسلامية، فما نراه اليوم من ضَعفٍ في الحالة الإنسانية في تلك الدول، وخرمٍ في فكر المسلم ومعتقده ومنهج حياته، ومِن تقهقُر لاقتصاده ومَورد عيشه، ومن تخلُّف علمي وثقافي للأجيال المتعاقبة، ومن تفتُّت وضَعف في الأسرة، وانشقاق في المجتمع، فمصدره ومنشؤه أن تلك الأنظمة والأحزاب لم تُعطِ اهتمامًا بالأُسس العقدية والتشريعية التي مرَّت في الوصول عن طريقها إلى السلطة والبقاء فيها، والتربُّع على العرش، بل استخدمت كل الوسائل الموصلة إلى الحكم وإن كانت على حساب القيم والخلق والإيمان التي تُعطي الأهمية بالإنسان وتربيته والقيام بخدمته، ومن خلال تلك المنهجية يجب أن يوصل الإنسان إلى القوة والسلطة والحكم، الأمر الذي قامت به الأحزاب والهيئات والجهات السياسية الغربية في تعامُلهم مع السلطة والإنسان في آن واحدٍ، فسلِمت السلطة من الاستبداد والحكم الجبري الفردي، وسلِم الإنسان من الظلم والحيف والتخلف والتشرذم، إلا أن هناك جوانبَ خُلقية ما زالت مفقودة عندهم، وذلك لاختلاف البنية الفلسفية للحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية؛ إلا أن هناك مشتركات كثيرة جارية بينهما، ومنها احترام الإنسان وكرامته، وقيمة الوقت والإتقان في العمل، والصدق فيه، وأمور أخرى. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
من آثار التحريف الطباعي في البحث العلمي تحريف في طبعات "تذكرة الحفاظ" ضمن ترجمة "أبي الفتح الأزدي" إذا كان التصحيف والتحريف في النصوص التراثية المطبوعة ظاهرة مزعجة للقراء مقلقة للباحثين؛ فإن شرّه ما أدّى إلى تغيير في معنى النص، أو نسبة مذهب إلى مؤلف خطأ، أو حكاية قول عن عالم لم ينطق به، ونحو ذلك من آثار هذه الظاهرة. وبين يديك أخي القارئ صورة من صور هذا التحريف وقعت في ترجمة الحافظ أبي الفتح محمد بن أحمد بن الحسين الأزدي الموصلي (ت: 369 أو 374هـ) عند الحديث عن منزلته جرحًا وتعديلًا – وفيه خلاف مشهور ليس هذا محله -. قال الذهبي في ترجمة الأزدي من "تذكرة الحفاظ": "قلت: له (مصنف كبير في الضعفاء) وهو قوي النفس في الجرح وهاه جماعة بلا مستند طائل ..." هكذا: " وهّاه جماعة " في طبعات الكتاب المتداولة، ابتداء بأولاها: طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند سنة (1334هـ) (3/166)، وهذه صورتها: ثم في طبعته التي عني بتصحيحها المعلمي (3/967) مثل ذلك. وانتهاء بطبعات «طبقات الحفاظ» – وهو اختصار لكتاب الذهبي – للسيوطي بتحقيق علي عمر (ص403) وغيرها. وظاهر هذه العبارة دفاع الذهبي عن الأزدي وغمزه لكلام المجرّحين بأنه لا يقوم على براهين علمية تسنده. وهو ما دفع جماعة من أهل العلم والباحثين المعاصرين إلى الاستشهاد بعبارة الذهبي في مقام الدفاع عن الأزدي وتوهين أقوال المجرّحين، كالألباني في «الضعيفة» (204)، والسوالمة في بحثه «الحافظ أبو الفتح الأزدي بين الجرح والتعديل» (456)، والحايك في أطروحته «منهج أبي الفتح الأزدي في الحديث وعلومه» (81) وغيرهم. وجعلت بعضهم يتعقب الذهبي في هذا الأمر ويتحفظ على حكمه، ومنه تعقيب أبو غدة في تحقيقه "لسان الميزان" (7/90) على عبارة الذهبي بقوله: "كذا قال، وفيه نظر". وقد ارتبت من سلامة هذا الحرف أول مرة لغرابة موضعه؛ ثم قلّبت النظر فإذا السياق لا يساعده؛ إذ هو عن كتاب الأزدي في الضعفاء ونفَسِه فيه، وكان قد ذكر قبل ذلك ما يتصل بالنقد الموجّه إلى ضبطه، فكيف يعود مرة أخرى للطعن في مستندات جرحه، فلما قارنت هذا الموضع بعباراته في كتبه الأخرى ازددت شكًّا على شك، ومنه ما جاء في «سير النبلاء» (16/348): «وعليه في كتابه في الضعفاء مؤاخذات، فإنه ضعّف جماعة بلا دليل». فأنت ترى التركيب ذاته للمعنى، وهو أن الأزدي كان شديد النفس في الجرح، حتى إنه جرّح في كتابه جمعًا من الرواة بلا برهان. وليس لهذا اتصال بعدالة الأزدي وضبطه. فلم يبق إلا قطع الشك بالقين بالعودة إلى مصورات الأصول الخطية للكتابين – تفضّل بها عليّ جميعًا أخي العزيز الباحث المفيد عادل العوضي جزاه الله خيرًا – فنظرت في ثلاث نسخ جياد من «تذكرة الحفاظ»: مخطوط باريس، والأزهر، ومخطوط مكتبة الحرم التي اعتمد عليها المعلمي في تصحيحه المشار إليه، وطالعت خمس نسخ خطية من «طبقات الحفاظ»، فكانت الكلمة في جميعها بيّنة مجوّدة: «وهّى جماعةً»، وفي نسخة الحرم بالمد: «وهّا جماعةً»، وبه نعلم أن ما وقع في مطبوعات «التذكرة» و «الطبقات»: «وهّاه جماعةٌ» تحريف بلا ريب، وأن كلام الذهبي متسق في جميع كتبه، فرفع اللبس الحاصل في العبارة، وبطل الاحتجاج بهذه المقولة على تشكيك الذهبي في مستندات الجارحين، والحمد لله على هدايته وتوفيقه. صورة ما في نسخة "الأزهر" من تذكرة الحفاظ للذهبي: صورة ما في نسخة "يني جامع" من طبقات الحفاظ للسيوطي:
اقتصاديات الإنترنت يقول جيل إيلورث: يُعَدُّ الاستخدامُ التجاريُّ للإنترنت أحدَ موضوعات النقاش والنشاط الساخنة والمتسارعة النمو، فقوائم النقاش في كل مواقع الإنترنت تتحدث عن النمو السريع للاستخدام التجاري. وتُعَدُّ المكونات التجارية من أكثر القطاعات نمواً على الشبكة في عصر الاتصالات الكونية. في البداية، نمت الإنترنت Internet ببطء ولكن مع مرور الوقت، اتسعت الإنترنت لتضم أكثر من 45 ألف شبكة محلية في أكثر من 200 دولة. وهناك نحو 30 مليون شخص لديهم نوع من أنواع الاتصال بالإنترنت. وبوجه عام ضم الإنترنت أفراداً ومجموعاتٍ ومنظماتٍ ومدارسَ وجامعاتٍ وخدماتٍ تجاريةٍ وشركاتٍ وحكوماتٍ وكذلك شبكاتٍ حُرَّةً. وعادة ما تكون الإحصاءات عن الإنترنت تقديرية وذلك للتغير والتزايد المستمرين في الأرقام. وهناك عدد من المؤشرات والإحصاءات الجديرة بالاهتمام منها: 1- يُقدَّرُ نمو الإنترنت بما يقارب من 10% شهرياً. 2- يتزايد نمو القطاع التجاري بمعدل يتراوح بين 10% و13% شهرياً. وقد تزايد الاستخدام التجاري للإنترنت، حيث ينمو القطاع التجاري للإنترنت، في الوقت الحالي بصورة أسرع من أي قطاع آخر. وتشكل مجموعة من المشروعات والمؤسسات التجارية القوى الكبرى المستخدمة للإنترنت وتوجد القوى التجارية المستخدمة للإنترنت في مجال عريض من الصناعات، بمن في ذلك مصنعو التقنية المتقدمة والصناعات المرتبطة بالحاسب الآلي، وشركات النفط وشركات المستحضرات الطبية والصيدلية، والصناعات المرتبطة بالرعاية الصحية، والخدمات المالية والبنوك وقد تزايدت كثافة استخدام الإنترنت من قبل بعض هذه الشركات بنسبة وصلت إلى 90% في الربع الأول من عام 1995م. إنَّ عمالقة الصناعة ليسوا وحدهم المستخدمين للإنترنت، بل يستخدمها كذلك العديد من الشركات الصغيرة والمستثمرين الأفراد مقابل تكلفة يسيرة من خلال موزعين تجاريين. ولا داعي للدهشة، لكثافة النشاط التجاري على الإنترنت، فمنذ أعوام قليلة كانت هذه الأسئلة تظهر على الإنترنت نفسها، مثل: هل يمكننا أن نمارس نشاطنا التجاري على الإنترنت؟. أو هل هناك نشاطات تجارية على الإنترنت؟. والآن هناك مئات أو آلاف من المواقع على الإنترنت تمتلك اسمها المجالي الخاص. وقد وجد العديد من الأعمال التجارية أن استخدام الإنترنت يفي بعدد كبير من حاجاتها، بما في ذلك التسويق وإرشاد البائعين وتشجيع المشترين وتبادل المعلومات، والمشروعات المشتركة للبحث والتطوير؛ وكذلك تستطيع الشركات، بمساعدة الإنترنت، أنْ تُطوِّرَ وتعدُّ منتجاتٍ جديدة، وأن تتسلم أوامر شراء ومستندات إلكترونية، وأن تسترجع بيانات من قواعد بيانات متخصصة. وإضافة إلى ذلك تستطيع الأعمال التجارية أن تجد النصيحة الفنية، وأن تنشئ وتحفظ على علاقتها التجارية وتحصل على استطلاعات السوق، وتعقد الصفقات الجيدة، وتحدد أماكن الخبرات والكفاءات التي تحتاج إليها، بل إن بإمكان الشركات أن تبيع منتجاتها مباشرة. وأصبحت شؤون التوصيل والتسهيلات الإدارية في الآونة الأخيرة وبشكل متزايد، عاملاً حاسم الأثر في القضايا المتعلقة بالإنتاج وخدمة المستهلكين في أي نشاط تجاري. إنَّ القدرة على المحافظة على الوضع التنافسي تتوقف على إمكان الحصول على أحدث المعلومات حول السوق التي يتعامل معها، وكذلك الإلمام بأحدث التقنيات في مجال الصناعات. فمعرفة أي شركة بما تفعله الشركات الأخرى والاطلاع على ما هو متاح من معلومات واكتشاف أسواق جديدة يمكن أن يساعد تلك الشركات على المحافظة على ميزة تنافسية. وقد أصبح تعاون أكثر من شركة بالمشاركة أمراً شائعاً بصورة متزايدة، وتساعد الإنترنت على تسهيل هذا التعاون الذي قد يكون في اتجاه تصميم منتج أو قنوات توزيع أو أبحاث وتطوير وسائل إنتاجية وتسويقية. لقد تعززت الأساليب التعاونية من خلال الإنترنت بثرواتها المعلوماتية وبقدرتها على الاتصال. كما ساعد الإنترنت على تحسين أداء هذه الأنماط التعاونية الجديدة وتطويرها وهو ما يُعد شرطاً أساسياً لتعزيز المنافسة في الأسواق المختلفة. وتُوفِّر الإنترنت وسيلة سريعة للتواصل مع الموزعين والموردين، الأمر الذي يضفي سرعةً وتنوعاً على عملية الحصول على الإمدادات ومتطلبات العملية الإنتاجية. ومن خلال سرعة الاتصال تستطيع الإنترنت تخفيض المخزون لدى أيِّ شركة. وتستطيع الإنترنت أن تدلَّ مختلف النشاطات التجارية على مواقع موردين جُدد وتمكن الشركات من المحافظة على قنوات اتصال مع هؤلاء الموردين، وتستطيع الإنترنت أن تمارس عملية التسويق عن طريق الاتصال المباشر وذلك عن طريق وجودها على الإنترنت، وعلى الرغم من أن الإعلان يواجهه بعض المشكلات على الإنترنت، فإنَّ الشركات تستطيع أن تستخدم الإنترنت لتسويق خدماتها ومنتجاتها، وتستطيع الشركات توفير رؤية أكثر وضوحاً لبرامجها التسويقية. وخلاصة القول، فإنَّ حضور النشاط التجاري على الإنترنت له ميزات عديدة، ومساعدة وإرشاد العملاء، واكتساب ميزات تنافسية وفرص للتسويق والتعاون مع مؤسسات وشركات أخرى.
دلالة السَّالك لما بين الإمام النَّووي وشيخه ابن مالك الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فمن أهمِّ آداب طالب العلم مع شيخه ما عبَّر عنه الإمام أبو زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي (631 هـ - 676هـ) في غير موضعٍ بقوله [1] : (وينبغي أن يُعظِّم شيخَهُ، ومَن يَسمعُ منه؛ فذلك من إِجلال العلم، وبه يُفتحُ على الإِنسان، وينبغي أن يعتقد جلالةَ شيخهِ ورجحانه، ويتحرَّى رضاه، فذلك أعظم الطُّرق إلى الانتفاع به ) ا.هـ، وقوله [2] : (وينبغي أن ينظرَ معلِّمهُ بعين الاحترام، ويعتقدَ كمال أهليَّته ورجحانه على أكثر طبقته، فهو أقربُ إلى انتفاعه به، ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه) ا.هـ. ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في سيرة الإمام النَّووي مع شيوخه، منهم: شيخه الإمام، العلَّامة، شيخ النُّحاة، حُجَّة العرب، أبو عبد الله جمال الدِّين محمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطَّائي الجَيَّاني الشَّافعي (600 هـ - 672 هـ)، الذي أخذ عنه: اللُّغة، والنَّحو، والتَّصريف، وقرأ عليه بعض تصانيفه، وعلَّق عليها [3] . فمن ذلك: أوَّلًا : أنَّه كان يُثني عليه غاية الثَّناء، فقال في (سؤالاته له ص 305-مجلَّة الحكمة): (سيّدنا، وشيخنا، الإمام، العالم، العلَّامة، حُجَّة العرب، مالك أزمَّة الأدب، أوحد العلماء، سيّد الفضلاء، جمال الدِّين، أمدَّ الله في عمره) ا.هـ، وقال في (المجموع) (4/79): (شيخُنا أبو عبد الله ابن مالك، إمام العربيَّة في زماننا بلا مدافعة) ا.هـ، وقال في (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/108): (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك رضي الله تعالى عنه، وهو إمام أهل اللُّغة والأدب في هذه الأعصار بلا مدافعة) ا.هـ، وقال ( 3/449): (شيخُنا جمال الدِّين ابن مالك، إمام أهل الأدب في وقته بلا مدافعة رضي الله تعالى عنه .. مع شدَّة معرفته، وتحقيقه، وتمكُّنه، واطِّلاعه، وتدقيقه) ا.هـ، وقال في (شرح صحيح مسلم) (15/238 ): (شيخُنا الإمام أبو عبد الله ابن مالك رحمه الله تعالى) ا.هـ، ونحوه في (تحرير ألفاظ التَّنبيه) (ص 309). ثانيًا: أنَّه كان يُكثر من نقل الفوائد عنه -لا سيَّما من كتاب (المثلَّث)- في مصنَّفاته، ويصرِّح بذلك، مثل: (تهذيب الأسماء واللُّغات) (3/105، 108، 171، 176، 259، 349، 394، 438، 449، 462، 482، 652)، و(شرح صحيح مسلم) (3/520)، و(15/238)، و(المجموع) (4/79)، و(تحرير ألفاظ التَّنبيه) (ص 309). ثالثًا: أنَّه كان يتوجَّه إليه بالسُّؤال والاستفسار عن الإشكالات المتعلِّقة بلغة العرب ، كما في أسئلته المطبوعة وغيرها، وقد نَقَلَ في موضع من كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) (4/59-60) عن كتاب شيخه (المثلَّث)، ثمَّ صرَّح أنَّه سأله كذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ ما بين أيدينا من تلك الأسئلة هي مجرَّد نماذج منها. ***** ومن أهمِّ آداب الشَّيخ مع طلَّابه ما عبَّر عنه الإمام النَّووي في غير موضعٍ، فقال [4] : (وينبغي للمعلِّم أن يُظهر فضل الفاضل، ويُثني عليه بذلك؛ ترغيبًا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم، وليتدرَّبوا بذلك، ويعتادوه) ا.هـ، وقال [5] : (ويُثني على مَن ظهرت نجابَتُهُ، ما لم يخش عليه فتنة بإعجابٍ أو غيره) ا.هـ . ونجد هذا الأدب الجمّ ماثلًا في سيرة الإمام ابن مالك مع تلميذه الإمام النَّووي. فمن ذلك: ما ذَكَرَهُ العلاء ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) (ص 95)، فقال: (وقال لي شيخُنا العلَّامة حُجَّة العرب شيخ النُّحاة أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن مالك الجَيَّاني -رحمه الله- وذَكَرَ "المنهاج" [6] لي بعد أن كان وَقَفَ عليه: "والله لو استقبلْتُ مِن عُمري ما استدبرْتُ لحفظتُهُ". وأَثنَى على حُسن اختصاره، وعُذوبة ألفاظه ) ا.هـ. أقولُ: وأيُّ ثناء أبلغ من هذا الصَّادر من شيخٍ له هو مِن أعلام البلاغة وفصاحة اللِّسان وأحد أئمَّة اللُّغة وحُسن البيان على متنٍ فقهيٍّ مذهبيٍّ. ***** تنبيه [7] : قال بعضهم: مِن هذا الباب كذلك ما قاله الإمام ابنُ مالك في ألفيَّته: "وَرَجَلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا" ، فقالوا: إنَّ المقصود به هو تلميذه الإمام النَّووي! • قال محمَّد بن الطَّيِّب الفاسي (المتوفَّى 1170 هـ) في (فيض نشر الانشراح) (1/491): (وقد سمعتُ من جماعة من أشياخنا أنَّ النَّووي هو المرادُ بقول ابن مالك في "الخلاصة": "وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا"؛ لأنَّه كان ضيفهُ في تلك اللَّيلة)ا.هـ. • وقال محمَّد بن مصطفى الخضري (المتوفَّى 1287 هـ) في (حاشيته على شرح ابن عقيل) (1/7): (وكفاه شرفًا أنَّ ممَّن أخذ عنه: الإمام النَّووي رضي الله تعالى عنهما، ويُقال: أنَّه عناهُ بقوله في المتن: "وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا")ا.هـ، وقال (1/97): (قيل: أراد به الإمام النَّووي؛ لأنَّه تلميذ المصنِّف رضي الله عنهما)ا.هـ. • وقال أحمد بن محمَّد بن حمدون ابن الحاج (المتوفَّى 1316 هـ) في (الفتح الودودي على المكودي) (1/220): (وقد قيل: إنَّه لمَّا كان يؤلِّفُ هذا المحل بات عنده الإمام النَّووي، فأشار له بهذا) ا.هـ • وقال محمَّد معصوم السّفاطوني (بعد 1326 هـ) في (تشويق الخلَّان) (ص 522): (ومن تلاميذه: الإمام النَّووي رحمه الله تعالى، قيل: عناهُ في قوله: "وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا" ) ا.هـ. أقولُ: في ثبوت هذا المراد نظرٌ بيِّنٌ، وذلك لعدَّة أمور، منها: أوَّلًا: أنَّه لم يذكره العلاء ابن العطَّار في كتابه (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) ، ويبعد جدًّا أن يكتفي بذكر ثنائه العطر على "المنهاج"، ويغفل عن مثل هذا، لا سيَّما هو في مقام سرد المناقب والفضائل، وتلميذٌ لهما معًا. ثانيًا: أنَّه لم يذكره أحدٌ ممَّن ترجم له من المتقدِّمين في كتبهم المُفردة أو غيرها. ثالثًا: أنَّه لم يذكره أحد من الشُّرَّاح المتقدِّمين للألفيَّة، وجُلُّ المتأخِّرين ذكروه بصيغة الحكاية والتَّمريض، مثل: (يُقال) و(قيل). رابعًا: ذَكَرَ بعضهم أنَّ مراده به تلميذه: الإمام أبو عبد الله شمس الدِّين محمَّد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (المتوفَّى 709 هـ)، ففي (الفوائد المنتقاة من تحقيقات الدُّكتور عبد الرَّحمن العثيمين) (ص 75) لمؤلِّفه: ماجد بن حمَّاد السَّلماني أنَّه سأله عن ذلك، فقال: ( الشَّافعيَّة يقولون: إنَّه النَّووي، والحنابلة يقولون: إنَّه محمَّد بن أبي الفتح البعلي، وهو أوَّل شارح للألفيَّة ) ا.هـ . وبهذا يظهر أنَّه لم يُعرف إلَّا في القرن الثَّاني عشر الهجري ، ولعلَّه من بعض المتأخِّرين الذين أرادوا أن يُظهروا منقبة لعالِمٍ ينتسب إليهم، وأهل العلم في غُنية عن ذلك. ***** فهذا ما وقفتُ عليه من نماذج أدب الإمام النَّووي مع شيخه وأدب شيخه الإمام ابن مالك معه، وحريٌّ بنا أن نقتدي بمثل هؤلاء الأئمَّة الأعلام، ونتأدَّب بآدابهم الرَّضيَّة، وفَّقنا الله تعالى لذلك. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. [1] (إرشاد طلاب الحقائق) (1/ 515)، ونحوه في (التَّقريب والتَّيسير) (ص 82). [2] (المجموع) (1/ 36)، ونحوه في (التِّبيان في آداب حملة القرآن) (ص 47). [3] قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) (ص 59) في فصل مَن أخذ عنه اللُّغة والنَّحو والتَّصريف: (وَقَرَأَ على شيخنا العلَّامة أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله بن مالك الجَيَّاني -رحمه الله- كتابًا من تصانيفه، وعلَّق عليه شيئًا، وأشياء كثيرة غير ذلك) ا.هـ.، وعلَّق السَّخاوي على ذلك في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 68) –طبعة دار المنهاج بجدَّة-، فقال: (صرَّح غير واحد بأنَّه أخذ عِلم النَّحو عن الجمال ابن مالك، وقد ذَكَرَ الشَّيخُ الجمالَ في "شرح المهذَّب"، ونَقَلَ عنه فيه وفي غيره من تصانيفه، وأَثنَى عليه ثناءً بالغًا، [ومن جُملته في الكلام على مسألة التَّكلُّم في الصَّلاة ما نصُّه: "وقال شيخُنا أبو عبد الله ابن مالك، إمام العربيَّة في زماننا بلا مدافعة"]) ا.هـ.، وما بين المعقوفتَين أَثبتُّه من نُسخةٍ خطِّيَّةٍ نفيسةٍ لم تُعتمد. [4] (المجموع) (1/ 34) بتصرُّف يسير. [5] (التِّبيان) (ص 60). [6] هذا الكتاب هو العمدة في فقه السَّادة الشَّافعيَّة، واعتنَى به خلقٌ لا يُحصون حفظًا، وشرحًا، واختصارًا، وحاشيةً، ونكتًا، وتخريجًا، ونظمًا. [7] شرَّفني شيخنا الفاضل الجليل المحقِّق المدقِّق النَّبيل محمَّد بن ناصر العجمي -حفظه الله ورعاه- بإبداء رأيي المتواضع في ذلك، فاجتهدتُ في كتابة هذه السُّطور تلبيةً لرغبة فضيلته الذي لا أردُّ له طلبًا، وأرجو الله تعالى أن وفِّقتُ فيه.
تحقيق جديد لكتاب " إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري " صدر حديثًا تحقيق جديد لكتاب "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري"، للإمام العلامة "أبي العباس أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي" (851-923 هـ)، تحقيق المكتب العلمي بدار الكمال المتحدة، تحت إشراف ونشر: "دار عطاءات العلم". وتتميز هذه الطبعة عن مثيلاتها السابقات بأنها نسخة محققة على أفضل نسخ الكتاب الخطية المعتمدة لأول مرة، حيث قوبل الكتاب على نسخة العلامة أحمد العجمي الذي قابلها على نسخة المؤلف مرتين. كما أن الكتاب قوبل على نسخة العلامة إسماعيل العجلوني وأربع نسخ أخرى. كما أنه مذيل بحواشي العجمي والعجلوني والسندي، وغيرهم من العلماء. كما تم إدراج نسخة الإمام اليونيني لصحيح البخاري التي اعتمدها المؤلف في شرحه. وتم من جانب محققي الكتاب عمل مراجعة كاملة لمصادر المؤلف مع التنبيه على أوهام المؤلف أو أخطائه في العزو أو النقل. وتم إضافة كتاب "نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني" للعلامة عبد الهادي الأبياري، المتوفى سنة 1305هـ، شرح فيه صحيح البخاري، وقدم له بكلام على فضل أهل الحديث وشرفهم، وأول من دون الحديث ومن بعدهم، ونبذة في فوائد في علم الحديث، وتقسيم أنواعه وتحمله وأدائه، والبخاري وشرطه وتقدمه على غيره، ونسب البخاري وترجمته. ونجد أن شرح القسطلاني لصحيح البخاري من نوع الشرح الممزوج: وهو شرحٌ يذكر نص الحديث سندًا ومتنًا ممزوجين بشرحهما، يمتزج المتن بشرحه وينسبك معه في أسلوب واحد، بحيث لايتميز المتن إلا بوضعه بين أقواس أو كتابته بخط أكبر، أو بحبرٍ يختلف لونه عن اللون المكتوب به ألفاظ الشرح. ويُلحظ أن القسطلاني قد صرَّح في مقدمة «إرشاد الساري» حيث قال عن صحيح البخاري: (أُعلِّق عليه شرحًا أمزجه فيه مزجًا, وأُدرجه ضمنه درجًا، أُميِّز فيه الأصلَ مِنَ الشَّرح بالحُمْرة والمِدَاد.. ). فالكتاب حلقةٌ من حلقاتِ عناية علماء الإسلام بأعظم ديوان حديثي من دواويين الإسلام، لا يُغني هذا الشرح عن غيرِه، ولا يغني غيرُه عنه. قال الشيخ: عبدالعزيز الدهلوي - رحمه الله - عن القسطلاني: (ومن أعظم مؤلفاته هذا الشرح «إرشاد الساري» الذي لَخَّصَ فيه «فتح الباري»، و «شرح الكرماني»، واختصرهما اختصارًا تامًا، وجعله وسطًا بين الإيجاز والإطناب). قال العيدروس عن «إرشاد الساري»: (لعله أجمع شروح البخاري وأحسنها). وعلَّق الكتاني بقوله: (وكان بعض شيوخنا يُفضِّلُه على جميع الشروح؛ من حيث الجمع، وسهولة الأخذ، والتكرار، والإفادة؛ وبالجملة فهو للمدرِّس أحسن وأقرب من «فتح الباري» فمن دونه، ولابن الطيب الشركي عليه حاشية في مجلدين، واختصره الشمس الحضيكي السوسي، عندي منه المجلد الثاني). ومن مزاياه أنه شَرحٌ ممزوجٌ بالمتن، يُعتبر متوسِّطًا، إذا قُورن بِـ «فتح الباري» و «عمدة القاري»، وقد اختصره من عدة شروح، خاصة من شرح ابن حجر، والعيني، والكرماني، مع إضافات له قيمة، لاسيما وقد وقف على عدد كثير من شروح الصحيح، كما ذكره في المقدمة، وسبق ذكر ذلك. مع الدقة العجيبة في ضبط الصحيح، على نسخة اليونيني، وفروعها، وغيرها من الرويات والشروح. والمؤلف هو العلامة "شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني"، ولد بمصر في الثاني عشر من شهر ذي القعدة سنة 851 هجرية، في عائلة من أصل أندلسي. ونشأ بمصر، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ودرس القراءات السبع للقرآن الكريم، وحفظ الشاطبية، والوردية في القراءات، وبعدها اتجه إلى دراسة علوم الحديث، حيث قرأ كتاب "صحيح البخاري" في خمسة مجالس على أيدي الكثير من العلماء في مقدمتهم أبو العباس الشاوي، وشمس الدين السخاوي. ورحل القسطلاني إلى مكة المكرمة سنة 584 هجرية، ومكث فيها فترة للدراسة والتعلم، حيث درس على أيدي جماعة من علماء الحرم، وعاد إلى القاهرة، وجلس للتدريس، وظل لفترة طويلة يدرس في الجامع العمري بالقاهرة، وتردد عليه طلبة العلم والباحثون في علوم الحديث والفقه، وبعدها قرر أن يعتزل الناس من أجل التفرغ للتأليف. بدأ القسطلاني فقيهًا مالكيًا، ثم تحول في آخر عمره إلى الشافعية. وكان شديد الانتقاد للصوفية، وله آراء بالغة السلبية في ابن عربي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين والششتري، وهم أهم شخصيات الصوفية. ويُعتقد أن هجومه على الصوفية، قد ألهم منتقدوها اللاحقين، ومنهم ابن تيمية. كانت وفاته ليلة الجمعة ثامن المحرم سنة 923 هـ الموافق 1517م, لعروض فالج له نشأ من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاه الله المكي صديق السلطان الغوري، بحيث سقط عن دابته، وأغمي عليه فحمل إلى منزله، ثم مات بعد أيام، وصلي عليه بالأزهر عقب صلاة الجمعة، ودفن بقبة قاضي القضاة بدر الدين العيني من مدرسته بقرب جامع الأزهر. مؤلفاته: • إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري. • الأسعد في تلخيص الإرشاد من فروع الشافعية. • تحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري. • الروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر. • العقود السنية في شرح حرز الأماني للشاطبي. • فتح المواهبي في مناقب الشاطبي. • قبس اللوامع في الأدعية والأذكار الجوامع. • مدارك المرام في مسالك الصيام. • مراصد الصلات في مقاصد الصلاة. • مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على النبي مصطفى صلى الله عليه وسلم. • مشارق الأنوار المضية في شرح الكواكب الدرية. • منهاج الابتهاج لشرح الجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج. • المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. • يقظة ذوي الاعتبار في موعظة أهل الاعتبار.
عناية العلماء بصحيح الإمام مسلم لنظر الفاريابي صدر حديثًا كتاب " عناية العلماء بصحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري قراءةً وسماعًا وحفظًا وشرحًا وتعليقًا واختصارًا"، تأليف: "نظر محمد الفاريابي"، تقديم وتعليق ومراجعة: أ. د. "محمد عوني عبد الرءوف" وأ. د. "إيمان السعيد جلال"، توزيع: " دار التدمرية " و"دار ابن الجوزي" و"دار المحدث". وهذا الكتاب بمثابة موسوعة مجمعة محققة و سرد لكل الأعمال التي قامت على صحيح مسلم، من شروح وتعليقات ومختصرات ونحوها. أورد فيها الشيخ "نظر الفاريابي"450 عملًا علميًا، ما بين شروح، وحواشي، وتعليقات، ومختصرات، ومستخرجات.. وغيرها، مبينًا فيها اهتمام العلماء والخلفاء والأمراء بـ"المسند الصحيح" للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261 هـ)، بل إن النساء المحدثات كان لهن نصيب من الاهتمام بهذا الكتاب المبارك أبرزه الكاتب في ثنايا هذه الدراسة التي استغرقت من عمره أكثر من أربعة عقود من الجمع والتحقيق والدراسة لصحيح مسلم، وجميع ما يتعلق به. ويحتوي هذا الكتاب على: أولًا: القصائد والفوائد والنكت. ثانيًا: الفصل الأول، وهو يحتوي على (132) نصًا جمعها من بطون الكتب. ثالثًا: الفصل الثاني: وهو يحتوي على (450) كتابًا عن "صحيح مسلم". وأورد الشيخ "نظر الفاريابي" في أول الكتاب أربع قصائد وثلاثة أبيات في مدح "الصحيحين"، أو في الإمام مسلم وكتابه "الصحيح"، وكذا ثلاثة أبيات لثلاثة من العلماء، كما أورد فيه عدة فوائد ونكات تتعلق أيضًا بالصحيحين أو بمسلم وكتابه "الصحيح". وأما الفصل الأول فهذا القسم سماه الكاتب بـ"عناية العلماء بصحيح مسلم قراءةً وسماعًا وحفظًا" حيث ذكر فيه (132) نصًا يتعلق بعناية العلماء بصحيح مسلم، وفي قليل منها يشاركه صحيح البخاري تحت (56) عنوانًا، جمعها من بطون الكتب من خلال قراءته الموسعة، ورتبها كالآتي: الأول: عنايتهم بالقراءة والإقراء. الثاني: عنايتهم بحفظه واستظهاره. الثالث: استحضارهم بعض شروح "صحيح مسلم". الرابع: عنايتهم بحفظ الصحيحين البخاري ومسلم. الخامس: ضبط الكتاب معتمدًا على الذاكرة. السادس: روايته وتلقيه عن أكثر من شيخ. السابع: الجلوس لإسماعه والتحديث به. الثامن: الحرص على سماعه وأخذه بعلو. التاسع: عنايتهم بالصحيحين عمومًا بإدمان النظر فيهما. العاشر: عنايتهم بتقييد سماع "الصحيحين" خاصةً. الحادي عشر: عنايتهم بإسماعه واستجازته للأبناء والأحفاد والنافلة. الثاني عشر: حرصهم على إسماعه والتحديث به، ومصابرتهم على ذلك مع تحمل المرض والتعب. الثالث عشر: عنايتهم بنسخه وكتبه بأيديهم. أولًا: من انتسخ الكتب الستة وغيرهم. ثانيًا: من انتسخ "الصحيحين" بيده. ثالثًا: من انتسخ "صحيح مسلم" بيده. الرابع عشر: كتابته ونسخه بقلم واحد ولم يصلحه. الخامس عشر: حرصهم على عرضه على النسخ المضبوطة والمتقنة بخطوط العلماء. السادس عشر: من عرض "صحيح مسلم" من نسخة كتبها بخط يده. السابع عشر: عنايتهم بانتساخه في سفر واحد؛ ليسهل حمله ومراجعته. الثامن عشر: إحضار شيخ عالي الإسناد كبير السن عند ختمهم. التاسع عشر: عناية النساء المحدثات بسماع "صحيح مسلم" وروايته. العشرون: مشاركة النساء في المقابلة. الحادي والعشرون: عنايتهم بسماع الحديث والتكثر منه. الثاني والعشرون: من شغله اهتمامه بالصحيحين عن مشاريعه العلمية الأخرى. الثالث والعشرون: إنفاقهم المال من أجل الأولاد؛ ليحظى ببركة السماع. الرابع والعشرون: حرص بعضهم على ختم "الصحيحين" بعد ختم القرآن في الروضة الشريفة. الخامس والعشرون: عنايتهم بالتفقه فيه ودراسته وفهمه. السادس والعشرون: إهداء بعضهم نسخة منه وإرسالها إلى "مكة" لتقرأ في المسجد الحرام. السابع والعشرون: ما نقل عنهم من القراءة والإقراء عند قبر الإمام مسلم. الثامن والعشرون: احتفاؤهم بالنسخ المتقنة والمهمة، وصيانتها عن التغيير والتعديل. التاسع والعشرون: عنايتهم بوقف نسخة من "صحيح مسلم" وغيره من الكتب؛ ليستفيد منها العلماء ويقتدي بهم غيرهم. الثلاثون: عنايتهم وإجلالهم لمن يحفظه ويدرسه ويشتغل به. الواحد والثلاثون: حرصهم على سماعه والاشتغال به إلى حين الوفاة. الثاني والثلاثون: حرصهم على السماع من النسخ المسموعة مرارًا على الحفاظ المتقنين. الثالث والثلاثون: حرصهم على سماعه بقراءة حسن الصوت والأداء والقراءة. الرابع والثلاثون: حرصهم على سماعه وأخذه بالإسناد العالي. الخامس والثلاثون: من توقف لسانه عن القراءة عند قراءته للكتاب، وكان ذلك آخر ما نطق به. السادس والثلاثون: براعتهم في توجيه ما يشكل فهمه من ألفاظه عند قراءته. السابع والثلاثون: عنايتهم بالتفنن في نسخه على وجوه متعددة. الثامن والثلاثون: من حظي بالسماع في الروضة الشريفة. التاسع والثلاثون: الحرص على اقتنائه وشرائه بالأثمان الباهظة. الأربعون: عنايتهم بتحقيق ألفاظه وضبطها. الحادي والأربعون: عنايتهم بتحقيق ألفاظه وضبطها. الثاني والأربعون: من اشتغل بالصحيحين في آخر عمره. الثالث والأربعون: ندمهم على التفريط به أو بيعه حتى مع الفاقة والحاجة. الرابع والأربعون: حرصهم على الجلوس بالجامع لشرح الكتاب. الخامس والأربعون: العناية البالغة به بكثرة ضبطه وإتقانه ووصفه كأنه نسخة من الكتاب. السادس والأربعون: الفخر على الأقران بالتفرد بروايته بعلو. السابع والأربعون: الاجتماع والازدحام على سماعه من الشيوخ المسندين. الثامن والأربعون: عناية السلاطين والأكابر بشرحه ومدارسته. التاسع والأربعون: العناية بدراسته وشرحه في المدارس العلمية. الخمسون: وجود نسخ صحيحة ونادرة من "صحيح مسلم" وشروحه في "حصن تعز". الواحد والخمسون: عنايتهم في عقد مجلسٍ خاصٍّ لرواية "الصحيحين". الثاني والخمسون: اهتمامهم بما انفرد به مسلم عن البخاري. الثالث والخمسون: تخصص عالم بجميع ما يتعلق بالصحيحين من حفظ نصوصهما، وما اتفق عليهما، وما انفرد به كل واحد، واستحضار شروطهما والاطلاع على أحوال الرواة. الرابع والخمسون: من رأى العز والقبول بسبب تسميع صحيح مسلم. الخامس والخمسون: من انتسخ الجامع الصحيح للإمام مسلم اغتنامًا للأجر والثواب. السادس والخمسون: إيرادهم بعض المشاهدات عند شرح الكتاب. القسم الثاني: باسم "عناية العلماء بصحيح مسلم شرحًا وتعليقًا واختصارًا". الأول: شروحات صحيح مسلم: ذكر الكاتب تحت هذا العنوان (96) شرحًا لهذا الكتاب، والذين كتبوا قبل الكاتب لا يتجاوز عدد الشروح عندهم أكثر من (54) شرحًا. الثاني: شروح مقدمة صحيح مسلم: أورد فيه عشرة كتب، منها كتاب لمقدمة "شرح النووي" وآخر في "علوم الحديث في مقدمة صحيح مسلم". الثالث: مختصرات صحيح مسلم: ذكر فيه (16) مختصرًا لكتاب صحيح مسلم ولم يستوعب مختصرات المعاصرين كلها. الرابع: شروح مختصرات صحيح مسلم: أوردَ فيه ثمانية شروح. الخامس: شروح غريب صحيح مسلم. السادس: الكتب المؤلفة في أفراد مسلم على البخاري: السابع: المؤلفات في الجمع بين الصحيحين: ذكر فيه (24) كتابًا في "الجمع بين الصحيحين" وبيَّنَ أن ستة منها من أوهام المؤلفين الذين ذكروها أو من الناقلين دون فهم. الثامن: المؤلفات في الأحاديث المتفق عليه: ذكر فيه سبعة كتب، أربعة منها في الأحاديث المتفق عليه، وثلاثة كتب أخرى تتعلق بـ"اللؤلؤ والمرجان". التاسع: المؤلفات في بعض الأحاديث المختارة من الصحيحين أو صحيح مسلم: أورد فيه كتابين الأول في الصحيحين والثاني في صحيح مسلم. العاشر: مختصرات وتهذيب الجمع بين الصحيحين: ذكر فيه أربعة كتب، بعضها لـ"الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وبعضها لعبد الحق الإشبيلي. الحادي عشر: المستخرجات على صحيح مسلم: بلغت (23) مستخرجًا، إلا أن ستة منها تعد من الأوهام، ولم تثبت. الثاني عشر: المستخرجات على الصحيحين. الثالث عشر: أطراف الصحيحين. الرابع عشر: المستدركات على الصحيحين: أورد فيه أربعة كتب فقط. الخامس عشر: شروح كتب الجمع بين الصحيحين: لم يجد فيه إلا كتابين، أحدهما من الأوهام ولم يثبت. السادس عشر: الجمع بين الصحيحين للحميدي، وما كتب عليه من شروح وتعليقات وغيرهما: أورد فيه ستة كتب فقط. السابع عشر: شرح غريب الجمع بين الصحيحين: ذكر فيه كتابًا واحدًا لمؤلف "الجمع بين الصحيحين" وهو الحميدي نفسه. الثامن عشر: كتب الغريب والمشكل على الصحيحين: وجد فيه خمسة كتب فقط. التاسع عشر: المختصرون لكتاب ابن قرقول: اختصره أربعة من العلماء. العشرون: الختوم على صحيح مسلم. الحادي والعشرون: الدراسات في الإسناد المعنعن في الصحيحين. الثاني والعشرون: المؤلفات في رجال مسلم. الثالث والعشرون: المؤلفات في شيوخ مسلم أورد فيه أربعة كتب فقط. الرابع والعشرون: المؤلفات في سيرة الإمام مسلم: وجد فيه كتابًا للعجلوني ألف في ترجمة البخاري ومسلم وللعلم أن للعجلوني كتابًا مستقلًا عن الإمام البخاري. الخامس والعشرون: المؤلفات في رجال صحيح مسلم: أورد فيه ثلاثة كتب فقط. السادس والعشرون: المؤلفات في الأسانيد وروايات صحيح مسلم: ذكر فيه ثلاثة كتب. السابع والعشرون: الكتب المؤلفة في المشكل وما يلحق به من العلل والمبهمات والموقوفات والمعلقات: أورد فيه ثلاثة عشر كتابًا. الثامن والعشرون: المؤلفات في رجال الصحيحين. التاسع والعشرون: المؤلفات في ذكر أسماء الصحابة في الصحيحين. الثلاثون: المنظومات في رجال الصحيحين. الحادي والثلاثون: مكانة الصحيحين، والشبهات والردود. الثاني والثلاثون: الأعمال والدراسات المعاصرة: ذكر فيه ثلاثة وثلاثين كتابًا. الثالث والثلاثون: البحوث المنشورة في الندوات أو المجلات عن الصحيحين أو مسلم: أورد فيه ستة عشر بحثًا نشرت في المجلات. الرابع والثلاثون: الدراسات البلاغية والنحوية وغيرهما: ذكر فيه ثلاثة عشر كتابًا. الخامس والثلاثون: المؤلفات في شرح حديث واحد من الصحيحين. ويقول الكاتب أنه لم يفرد أحد حتى وقتنا هذا كتابًا مستقلًا يستوعب جميع ما كتب عن "صحيح مسلم" مثلما فعل الأستاذ "محمد عصام عرار الحسيني" عن الإمام البخاري في كتابه "إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري" وذكر فيه (370) كتابًا، فكان لزامًا سد تلك الثغرة وملء هذا الفراغ عن "صحيح مسلم".
قراءة في كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس" للدكتور علي بن غانم الهاجري د. محمد ساني إبراهيم، رئيس شعبة اللغة العربية والتربية سابقًا، جامعة أحمد بلو، زاريا- نيجيريا يُعدُّ كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس "من الكتب المهمة التي ظهرت في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في شهر مارس من العام الجاري 2022؛ حيث سعى المؤلف إلى إبراز جهود أحد أهم شخصيات الأندلس التي لعبت دورًا محوريًّا في بنائها السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي والمعماري وغيرها، ألا وهو الحاجب المنصور، وقد بلغ عدد صفحات الكتاب 262. أما مؤلف الكتاب، فهو الدكتور علي بن غانم الهاجري الدبلوماسي القطري، وصاحب عدد من المؤلفات التاريخية القيمة، من أهمها "السلطنة الجبرية"، و"إمبراطور الشرق تشودي"، و"تشنغ خه إمبراطور البحار الصيني"، كما ظهر له مؤخرًا كتاب بعنوان: "أسطورة إفريقيا الشيخ عثمان بن فودي". ويهدف هذا المقال إلى التعريف بأهم العناصر الواردة في الكتاب مركزا على سيرة الحاجب المنصور والعوامل التي ساعدته للوصول إلى الحكم على ضوء ما ورد في هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن. الحاجب المنصور ومكانته في تاريخ الأندلس: يُعد الحاجب المنصور من مشاهير القادة والفرسان عبر مراحل التاريخ الإسلامي، فهو قائد يتشابه مع أولئك القادة الذين أبرزتهم الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، أمثال صلاح الدين الأيوبي، والمظفر قطز، والظاهر بيبرس، وأحمد بن قلاوون، وسواهم ممن سجّلوا أسماءهم في سجل الخالدين من مشاهير المسلمين الذين يتلألؤون كالنجوم تهدي المسلمين، وتضيء سماءهم كلما أظلمت الدنيا وعظُمت الخطوب، بل إن القائد الحاجب المنصور يتميز عن غيره من قادة الإسلام الذين ظهروا على مسرح الأحداث في حقب تاريخية مختلفة، فالحاجب المنصور يبقى نسيجَ وحدِه، ينفرد بخصائصه وصفاته عن بقية القادة والفرسان؛ لذا فهو لا يشبه أحدًا من القادة غير قادة الرعيل الأول من القرن الأول الهجري / السابع الميلادي [1] . وقد تحدث التاريخ عن الحاجب المنصور، فذكره بأوصاف قلما نجدها في غيره من القادة، فقد وصفه التاريخ بأنه آية من آيات فاطرة دهاءً وسياسةً، وآية في النصر على الأعداء، وواحد من أبرز الشجعان الدهاة الذي لم تنكسر له راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أصيب له بعث من بعوث الجيوش، ولا هلكت عليه سرية، فكان القائد الشجاع الذي لا يكسر رمحه مقاتل، ولم يلو سيفه محارب، بل كان القائد والفارس الذي تفوق على جميع الملوك والقادة والفرسان في الجاهلية والإسلام؛ كونه لم يذق طعم الهزيمة على الإطلاق [2] . وقد حكم الحاجب المنصور بلاد الأندلس قرابة ربع قرن، وهي المدة الممتدة بين السنة التي انفرد بها بوظيفة الحجابة (367 ه/978م)، وسنة وفاته (392ه /1002م)، وهذه المدة تقدر بخمسة وعشرين عامًا تقريبًا، وقد بلغت الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس في عهده ذروة تفوقها السياسي والحربي، فأخضع أغلب بلاد الأندلس إلى سلطانه حتى بلغ أقصى الشمال الإسباني، وهي أراض لم تطأْها قبله قدم فاتح مسلم، كما أخضع شمال إفريقيا، فدانت له بالطاعة، وحقَّق أكبر استقرار سياسي في غرب الديار الإسلامية في حين كان المشرق الإسلامي يترنَّح تحت وطأة الصراعات، وفي هذه المدة شيد الحاجب المنصور دولة مترامية الأطراف من واحات المغرب جنوبًا إلى جبال البرينيه على حدود فرنسا شمالًا، ومن جزائر البحر المتوسط شرقًا إلى شاطئ المحيط الأطلنطي غربًا [3] . فصول الكتاب: تَم معالجة هذا الكتاب من خلال سبعة فصول ما عدا المقدمة والخاتمة، حيث تناول الفصل الأول سيرة الحاجب المنصور، وتشمل اسمه، ونسبه، ولقبه، وموطنه، ونشأته، وتدرجه في المناصب، وصفاته وغيرها، ووقف الفصل الثاني من الكتاب على العوامل التي ساعدت الحاجب المنصور في الوصول إلى الحكم، ولعل من أهمها: تميز شخصيته، والوصول إلى القصر الملكي، والعمل عند القاضي ابن السليم، وفتح مكتب محاماة، وعلاقته مع كل من السيدة صُبح والخليفة الحكم المستنصر، وكذلك إقامته شبكة من العلاقات داخل القصر وغيرها، وعرَّج الفصل الثالث على صراع الحاجب المنصور مع القوى الطامحة بالحكم وإجراءاته لتثبيت حكمه، ومن هذه القوى الطامحة نكبة الصقالبة، وحركة عبدالرحمن حمد بن عبدالرحمن بن عبيدالله بن عبدالرحمن الناصر، والتخلص من جعفر المصحفي، والصراع مع القائد غالب الناصري ومع السيدة صبح، وغير ذلك من الإجراءات التي قام بها لتثبيت حكمه، وتحدث الفصل الرابع عن علاقات الحاجب المنصور مع الممالك الإسبانية والمغرب العربي والدولة الفاطمية، وعالج الفصل الخامس جهود الحاجب المنصور في إعادة تنظيم الجيش باختلاف أقسامها وصنوفها: (الصنوف المقاتلة والصنوف المساعدة)، وبيَّن الفصل السادس دور الحاجب المنصور في الازدهار الثقافي وإسهاماته الأدبية بالأندلس، أما الفصل السابع فتناول الازدهار المعماري في عهد الحاجب المنصور، وخصوصًا أبرز المنشآت المعمارية التي بناها أو رممها في عهده، ثم ذكر المؤلف الخاتمة وقائمة طويلة من المصادر والمراجع. أولًا: سيرة الحاجب المنصور: اسمه، ونسبه، ولقبه: أشار المؤلف إلى سيرة الحاجب المنصور معتمدا على مصادر موثوقة؛ حيث ذكر أن اسمه هو أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقيل: محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري [4] ، أما بالنسبة لنسبه فبيَّن المؤلف بأن كُتب الأنساب والتاريخ والتراجم والسير والطبقات ترفع نسب الحاجب المنصور إلى أسرة المعافر التي تنسب إلى قبيلة حِميَر، وهي إحدى أشهر القبائل اليمنية، وتصفه بحفيد القائد عبد الملك الذي كان أول الداخلين من بلاد المغرب من العرب الفاتحين إلى الأندلس مع طارق بن زياد [5] ، وأما ألقابه فكثيرة هي تلك الألقاب التي لُقِّب بها الحاجب المنصور في مدة حكمه للأندلس، فمن تلك الألقاب لقب "الحاجب"، وهذا اللقب كان أول لقب لُقِّب به، وهو نسبة إلى وظيفة الحاجب التي كان يشغلها قبل تسلمه الحكم في الأندلس، كما لقَّبه الخليفة هشام المؤيد بــ"ذي الوزارتين"، وكان ذلك بعد غزوته التي كانت في سنة 367ه /977م، كما لُقِّب بلقب "المنصور بالله" إثر انتصاره في إحدى المعارك في سنة 371ه /981م، فأصبح يدعى له على المنابر بالحاجب المنصور بالله محمد بن أبي عامر، ونظرًا لتعلقه بالجهاد والمعارك الحربية، وتفوُّقه بالأمور العسكرية، فقد أطلق عليه لقب "أمير العسكريين"، هذا بالإضافة إلى أنه لقب بـ"أمير الأندلس" [6] . موطنه ونشأته: من المعروف أن عبد الملك المعافري نزل في الجزيرة الخضراء، وسكن في قرية من أعمالها تسمى "طرش"، وهي قرية تقع على نهر يسمى وادي آرُوا، في جنوب الأندلس، واستقر بها، وهذه المنطقة هي موطن الحاجب المنصور ومسقط رأسه، ففيها ولد سنة 326ه / 938م، وقيل 327ه/939م، وفي هذه المنطقة نشأ في كنف أسرته المعافرية وترعرع فيها؛ حيث نشأ نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة، وتفرست فيه السيادة منذ طفولته، وفي وسط هذه الأسرة تشرب الطفل الثقافة، وانفتق علمه، واكتسب الصفات الحميدة من كرم وشجاعة وحسن الإدارة وغيرها من الصفات التي ظهرت عليه بوضوح فيما بعد [7] ، وبعد ما أدرك الحاجب المنصور أن بلدته الصغيرة وما حولها من قرى لا تفي بحاجته للعلم أو تحقق طموحه نحو القيادة، جعله يفكر في الانتقال إلى قرطبة حاضرة بلاد الأندلس، وعاصمة العلوم، وأرض الفرص والسياسة، ومنارة الحضارة، وبعد أن حزم متاعه وشد الرحال ارتحل الشاب الطموح إلى قرطبة حاضرة العلم والسياسة، فطلب العلم والأدب، وسمع الحديث في حداثته، وقرأ الأدب، وقيَّد اللغات علي أبي علي البغدادي، وعلى أبي بكر بن القوطية، وقرأ الحديث على أبي بكر بن معاوية القرشي وغيرهم من رؤساء وشيوخ العلم من أهل المشرق، وقد برع براعة أدناه منهم، مع نوازع سعد وبوادر حظ كانت تلازمه، وفي جامع قرطبة الكبير جذب الشاب القادم من ريف الجزيرة الخضراء أنظار الشيوخ بعلمه بالتاريخ وأحوال العرب، وحفظه الشعر وحبه للفقه، فنال الإجازات العلمية واحدة تلو أخرى في زمن قياسي، فكان الشاب العشريني حجة في الآداب والحديث والتاريخ واللغات [8] . تدرجه في المناصب: بعد أن رأى الفتى نفسه قد اكتفى من تشرُّبه من العلوم والمعارف حتى ارتوى، فخرج إلى الحياة العامة، فجاب ميادينها طولًا وعرضًا، وهو لم يكن قد تجاوز منتصف العقد الثالث من العمر، وقد خرج إلى الحياة العامة بعد أن أخذ قسطًا من علوم الدين، إلا أنه قد تمرَّس وأبدع في الأدب والتاريخ واللغات وأجاد الشعر، وكان فصيح اللسان، فسارت الفصاحة في لسانه سيرًا، وشرب الأدب والتاريخ شربًا، ومن هنا بدأ الحاجب المنصور العمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق بن السليم قاضي الجماعة بقرطبة، فكان هذا القاضي قد لاحظ نبوغ الحاجب المنصور وحذقه، وهو الأمر الذي جعله يوصي به عند الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ونتيجة هذه التوصية رشَّحه الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ليكون وكيلًا لعبد الرحمن أول أولاد الخليفة الحكم المستنصر، وهو ما وافق عليه الخليفة، وباركته أم عبد الرحمن السيدة صُبح البشكنجية، وهكذا التحق الحاجب المنصور بخدمة الخليفة الحكم المستنصر بالله، وفي رواية أخرى هناك من يرى أن بعض فتيان القصر قدِّموا لصُبح، فاستحسنته ونبهت الخليفة إليه فولاه القضاء، فقد قيل: إن الخليفة الحكم المستنصر استخلفه على قضاة كورة رية، ووكيلًا لابنه عبد الرحمن، يقوم بخدمته وخدمة أمه السيدة الصبح [9] . ولما رأى الخليفة الحكم أن الحاجب المنصور كان شخصًا حريصًا على إنجاز الأعمال والحرص عليها، ولديه كفاءة في إدارتها، قرَّبه منه وصرفه في مهم الأمانات وأصنافها؛ فاجتهد وبرز في كل ما قلَّده، واضطلع بجميع ما حمَّله، فولاه دار السكة في 13 شوال 356ه /967م، هذا إلى جانب وظيفته الأساسية وهي كفالة ابن الخليفة عبد الرحمن وأمه صبح، ومن ثم ولاه الخليفة خطة المواريث في 7 محرم من سنة 358ه /969م، كما أسند إليه قضاء إشبيلية ولبلة وأعمالهما في 12 ذي الحجة من سنة 358 ه /969م، وبعد وفاة عبد الرحمن صغيرًا، بقي في خدمة أم الخليفة إلى أن أنجبت ولدها الثاني هشام، فأصبح وكيلًا لهشام في 4 رمضان من سنة 359ه /970م، وفي جمادى الآخرة من سنة 361ه / 972م، جعله الخليفة الحكم على الشرطة الوسطى، ثم ولاه الأمانات بالعدوة، فاستصلحها واستمال أهلها، وفي سنة 362ه/ 973م أُسند إليه أول مهمة سياسية لاختبار ذكائه؛ إذ ذهب إلى المغرب لاستمالة زعمائها للولاء للدولة الأموية في الأندلس، وبعدما نجح، عُيِّن قاضي القضاة لعدوة المغرب، ولما عاد أصبح صاحب الشرطة، ثم عينه الخليفة الحكم المستنصر في السنة نفسها ناظرًا على الحشم وهو في مرض موته [10] . مما سبق يتضح أن الحاجب المنصور أخذ يتدرج في مناصب الدولة ويرتفع من وظيفة إلى أخرى حتى انتهى به الأمر صاحبًا للشرطة قبل وفاة الخليفة الحكم المستنصر، وذلك في مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز ست سنوات، وبذلك أصبح الحاجب المنصور الرجل الثاني في دولة الخلافة في الأندلس بعد الوزير الأول جعفر المصحفي، وبعد أن شغر منصب الخلافة بوفاة الخليفة الحكم المستنصر، كان للحاجب المنصور الدور البارز إلى جانب المصحفي في تنصيب ابنه هشام خليفة له، ولم يكن الوزير حتى ذلك الحين يشك بولاء الحاجب المنصور له وتنفيذ ما يأمره به، ولم يشك أنه سوف يزيحه يومًا عن الحجابة، فبعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر تعرضت الحاميات الإسلامية لهجمات المماليك الأندلسية مستغلة موت الخليفة، إلا أن الحاجب المنصور خرَج لمواجهتها على رأس الجيش، فاستطاع الانتصار عليها، ونتيجة لهذا الدور الذي قام به كافأه الخليفة هشام المؤيد بأن أسند إليه خطة الوزارة في سنة 366ه / 976م، فصار بذلك من جملة الوزراء، وفي سنة 367ه/ 978م، ونتيجة للانتصارات التي حققها الحاجب المنصور في معركته الثالثة دفاعًا عن الثغور ورفعه الخليفة هشام إلى خطة الوزارتين؛ حيث ساوى فيها بينه وبين القائد غالب الناصري، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارًا في الشهر، وهو ما يعادل راتب الحجابة، ومن ثم قلَّده الخليفة خطة الحجابة مع الحاجب جعفر المصحفي مشتركًا، ثم سخط الخليفة على الحاجب جعفر المصحفي، وعزله عن الحجابة، وتقلدها الحاجب المنصور منفردًا، وذلك في 13 شعبان من سنة 367ه / 978م [11] . والحجابة هي الاسم الإداري الوظيفي التي تمثل أعلى وظيفة في الهرم الإداري الأموي في الأندلس، ولا يأتي بعدها إلا منصب الخلافة ذاته، وسماها بعض المحدثين لأهميتها بـ"رئاسة الوزراء"، وهكذا استطاع الحاجب المنصور أن يرقى فوق الحواجز ويذلل العقبات، وأن يصبح من أهم وأرفع الشخصيات في البلاد الخلافي الأندلسي، كما أصبح في المكان الذي كان يطمح إليه والوظيفة التي أرادها وهي الحجابة، وذلك ليتمتع بمكانتها الكبيرة. إنها رحلة قطعها في سنوات معدودة، وإنجازات امتزج فيها الحلم والطموح بالجهد والمثابرة، حيث انطلقت قاطرة حلمه من ريف جنوب الأندلس، وانتهت إلى حاضرتها قرطبة التي قلَّبته بطنًا لظهر، وظهرًا لبطن، وتقاذفته أمواج السياسة فيها حتى اعتلى مدَّها كوثبة الفهد على فريسة أنهكتها مخالبه، فتربَّع على عرش أقوى دولة إسلامية عرفتها الأندلس [12] . مدة حكمه: حكم الحاجب المنصور بلاد الأندلس قرابة ربع قرن، وهي المدة الممتدة بين سنتي 367ه/ 978م، وهي السنة التي انفرد بها بوظيفة الحجابة، وسنة 392ه / 1002م، وهي سنة وفاته، وهذه المدة تُقدر بخمسة وعشرين عامًا تقريبًا، وفي هذه المدة شيَّد الحاجب المنصور دولة مترامية الأطراف من واحات المغرب جنوبا إلى جبال البرينيه على حدود فرنسا شمالًا، ومن جزائر البحر المتوسط شرقًا إلى شاطئ المحيط الأطلنطي غربًا، وكانت الكلمة الأولى والأخيرة للحاكم المستبد العادل الذي شهد بعزمه وحزمه العدو والصديق من عرب وبربر وإسبان وصقالبة ومولَّدين، إنه الفارس المغوار الذي حرث تلك المساحة الشاسعة بحوافر خيله [13] . ثانيًا: صفات الحاجب المنصور: يُعد عهد الحاجب المنصور من العهود النادرة في نشر هيبة الأمن وتحقيق العدل، فهو العهد الذي مدحه المؤرخون وأشادوا به، حتى إن إحدى الروايات التاريخية تذكر أنه في عهد الحاجب المنصور سئم الناس الأمنَ وضَجِرُوا من العدل، وذلك بسبب ما اتَّصف به الحاجب المنصور من العدل والإنصاف حتى على أقرب الناس إليه، وقد اشتهر بالصفات الآتية: التقوى، والشجاعة، والجود، والطموح، وحسن السياسة، والوقار، والصبر، والحزم والحذر، والنخوة والشهامة، التواضع [14] . التعليق: سعى هذا المقال إلى إبراز أهم العناصر الواردة في كتاب "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"؛ حيث تم الإشارة إلى فصول الكتاب السبعة وأهم الموضوعات التي تناولتها، وقد ركزتْ قراءاتي للكتاب على الفصل الأول من الكتاب الذي تناول سيرة الحاجب المنصور؛ من حيث اسمه، ونسبه، ولقبه، وموطنه، ونشأته، وتدرجه في المناصب ومدة حكمه، لقد بذل المؤلف الدكتور علي بن غانم الهاجري جهدًا كبيرًا في تقديم بيان شامل ومفصل حول مختلف جوانب شخصية الحاجب المنصور من خلال هذا الكتاب القيم . المرجع: الهاجري، علي بن غانم (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف. [1] الهاجري، علي بن غانم (2022) "الحاجب المنصور أسطورة الأندلس"، ط1، منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف، ص 14. [2] الهاجري، علي بن غانم، ص14. [3] الهاجري، علي بن غانم، ص 15. [4] الهاجري، علي بن غانم، ص 25. [5] الهاجري، علي بن غانم، ص 27. [6] الهاجري، علي بن غانم، ص33-34. [7] - الهاجري، علي بن غانم، ص 35. [8] الهاجري، علي بن غانم، ص 36-37. [9] الهاجري، علي بن غانم، ص 39-40. [10] الهاجري، علي بن غانم، ص42-43. [11] الهاجري، علي بن غانم، ص 43-44. [12] الهاجري، علي بن غانم، ص 44-45. [13] الهاجري، علي بن غانم، ص 49. [14] الهاجري، علي بن غانم، ص 53-76.
سلسلة هن قدوتي (15) بنات الرسول صلى الله عليه وسلم 4- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها سيدة نساء العالمين في زمانها، رابعة بنات النبي صلى الله عليه وسلم، أمها خديجة رضي الله عنها. ولدت فاطمة -رضي الله عنها- في مكة، وقريش تجدد بناء الكعبة، قبل النبوة بخمس سنين، واستبشر النبي صلى الله عليه وسلم بمولدها، وسماها فاطمة، ولقبها بالزهراء، وكانت تكنى أم أبيها، وهي شديدة الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كادت تبلغ الخامسة من عمرها حتى بدأ التحول الكبير في حياة أبيها، بنزول الوحي عليه، وأحست بأعباء الدعوة، وشاهدت والدتها تقف إلى جانب أبيها وتشاركه ما يواجهه من أحداث عظام. وشاهدت العديد من مكائد الكفار لأبيها صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد ما قاسته من آلام في بداية الدعوة ذلك الحصار الشديد في شعب أبي طالب، حيث أثر الحصار والجوع على صحتها، وما كادت تخرج من محنة الحصار حتى توفيت والدتها خديجة رضي الله عنها فأحست بالحزن والأسى. وفي السنة الثانية من الهجرة تزوج علي بن أبي طالب فاطمة -رضي الله عنها- وبنى بها، وذلك عقب غزوة بدر الكبرى، وانتقلت إلى بيت الزوجية الذي كان في غاية التواضع. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويكرمها ويسرُّ إليها، وغضب لها لما بلغه أن أبا الحسن همَّ بما رآه سائغا من خطبة بنت أبي جهل فقال: « والله لا تجتمع بنت نبي الله وبنت عدو الله، وإنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها »؛ أخرجه البخاري ومسلم، فترك علي -رضي الله عنه- الخطبة رعايةً لها، فما تزوج عليها، ولا تسرى، فلما توفيت تزوج وتسرَّى . ورزقت منه الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ومن منزلة فاطمة -رضي الله عنها- العالية عند رسول صلى الله عليه وسلم أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: " ما رأيت أحدًا كان أشبه كلامًا وحديثًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها، فقبلها، ورحب بها، وكذلك كانت هي تصنع ". ولقد كان لها مواقف وضيئة في الجهاد، ففي غزوة أحد لما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه ووجهه، وتدفق الدم منه، كانت تغسله وعلي -رضي الله عنه- يسكب الماء عليه بالمجن، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير أحرقتها حتى صارت رمادًا ألصقتها بالجرح، فاستمسك الدم. وتابعت حياة الجهاد فشاركت في غزوة الخندق، وفي خيبر، وقسم لها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة خمسة وثلاثين وسقًا من قمح خيبر، وشهدت فتح مكة. ولقد احتملت فاطمة -رضي الله عنها- حياة الفقر، وكابدت من ذلك الشيء الكثير، وقد أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا بسبب ما تلقاه من تعبٍ ومشقةٍ من أعمال بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ألفيته عندنا »؛ أي: لم تجديه فاضلًا عن حاجتنا إليه، ثم أرشدها صلى الله علي وسلم على ما هو خير من الخادم وهو أن تسبّح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد ثلاثًا وثلاثين، وتكبر أربعًا وثلاثين، إذا أخذت مضجعها للنوم. من فوائد الحديث: 1- علّمها صلى الله عليه وسلم أن عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا. 2- ويحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرّر بكثرة العمل، ولا يشق عليه ولو حصل التعب. 3- وفيه: أيضًا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته أوّل الإسلام من شظف العيش، وقلة ذات اليد. 4- وفيه: خدمة المرأة زوجها وأمْر بيتها. 5- وفيه: حمل الإنسان أهله على ما يحمل نفْسه من التقلُّل في الدنيا، وتسليتهم عنها بما أعد الله للصابرين في الآخرة. وبعد حجة الوداع، مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأتته فاطمة -رضي الله عنها- لتطمئن عليه وهو عند أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فلمّا رآها هش للقائها قائلًا: مرحبًا يا بنيتي، ثم قبلها، وأجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها فبكت بكاءً شديدًا، فلما رأى جزعها سارّها الثانية، فضحكت، فقالت لها عائشة خصّك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر نسائه بالسّرار، ثم تبكين؟ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ماكنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّه. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل سنة مرّة، وإنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارّني الثانية، فقال: فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟ وأنك أول أهلي لحوقًا بي فضحكت؛ أخرجه البخاري ومسلم. واشتد الوجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقامت إلى جانب أبيها تسهر عليه وتخدمه فلما رأته ثقل، وجعل يتغشاه الكرب خنقتها العبرة، وقالت بصوت يفيض حزنًا ولوعة، واكرب أبتاه، فقال لها صلى الله عليه وسلم: « ليس على أبيك كرب بعد اليوم ». فلما مات عليه الصلاة والسلام ودفن قالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول صلى الله عليه وسلم التراب؟. وفاتها : لم تمض على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر أو قريب منها حتى مرضت فاطمة -رضي الله عنها-، وتوفيت ليلة الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وكان عمرها 28 عامًا. رضي الله عنها وأرضاها!
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق - برنارد لويس) في سبيل التمثيل للمستشرق الذي يسعى إلى توسيع الفجوة بين الشرق والغرب، يَرِدُ الحديث عن مستشرق متطرف، هو هنا برنارد لويس، المستشرق التركي الجذور، البريطاني الأصل، اليهودي المعتقد، الصهيوني الفكر، الأمريكي الجنسية والإقامة،له إسهامات كثيرة في مجال الاستشراق، نزع في البداية إلى دراسة الفِرَق التي انبثقت عن الإسلام، فكتب عن الحشاشين، وكتب عن أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرامطة [1] ، وكتب في التاريخ الحديث كتابات ليست في مستوى البحوث التي قدمها في الكتابات التاريخية [2] ؛ ذلك أن النزعة الصهيونية التي يصرح بها هو ويؤكدها بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية سيطرت على كتاباته في التاريخ الحديث، فظهرت أقرب إلى الكتابات الإعلامية منها إلى الكتابات العلمية المنهجية، فكتب عن الإسلام والغرب، وعن صدام الحضارات صدى لما كتبه زميله السموءل " صومئيل " هنتنجتون، وكان العنوان الفرعي لهذا الكتاب: " المسيحيون والمسلمون واليهود في عصر الاكتشافات "، مع أنه أسبق من هنتنجتون في فكرة الصدام الحضاري هذه، وربما أن هنتنجتون أخذها عنه، وكتب عن الشرق الأوسط: ألفا سنة من التاريخ من فجر المسيحية حتى يومنا هذا. وكتب عن الساميين وغير الساميين، ولجأ إلى تركيا، وسماها في أحد كتبه تركيا الحديثة، وجعلها في كتابه الأخير: مستقبل الشرق الأوسط، هي القوة القادمة في هذه المنطقة في العقود الخمسة المقبلة، وهي "المرشحة للعب الدور الأول مع إسرائيل في الشرق الأوسط"، خلال هذه العقود المقبلة [3] . وهو متأثر بحركة مصطفى كمال أتاتورك، التي يعدها انطلاقة تركيا الحديثة، ويعول عليها في أن تكون البدل الذي يريده، من خلال منطقه الفكري والعقدي؛ ذلك أنه يرى ما لم يصرح به، وهو أن البلاد الأخرى المشمولة في مصطلح الشرق الأوسط جغرافيًّا كلها تميل إلى تطبيق الدين في قضيتها مع اليهود في فلسطين المحتلة. وهو لا يريد هذا البُعد أن يكون هو الدافع للتعامل مع اليهود؛ ولذا وجد في غير البلاد المجاورة لفلسطين بديلًا مناسبًا، فَهِمَ هو منه أنه سيقبل بالأمر الواقع ويتعامل مع اليهود من هذا الواقع. وهذه هي النظرة الإعلامية التي وقع فيها برنارد لويس في إيجاد البديل؛ لأن من رشحه بديلًا ليس بالضرورة قانعًا في هذا الواقع؛ إذ تظل تركيا بلدًا مسلمًا قادت العالم الإسلامي قرونًا، ومعظمها ذات عاطفة قوية نحو الإسلام والمسلمين، لا سيما مع استقلال جمهوريات الاتحاد السوفيتي: أذربيجان وقازاخستان وقرقيزيستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، وهي دول إسلامية، وجورجيا وأرمينيا وهما دولتان مسيحيتان في أغلبهما. والدول الإسلامية الست المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق ذات ارتباط بالتركية والأتراك؛ لغة وثقافة، وارتباط آخر بالفارسية؛ لغة وثقافة كذلك، ولكنه ليس في مستوى الارتباط بالتركية. وتظل تطلعات برنارد لويس أماني وتوقعات، جاءت في عنوان كتابه تنبؤات برنارد لويس،والترجمة العربية غير دقيقة، والأولى أن تكون توقعات؛ لأنها تناسب مقابلها الأجنبي ( Predictions ) [4] . وكان هذا المستشرق هو محور البحث الذي قام به الدكتور مازن بن صلاح المطبقاني، وهو بحث مستفيض، نال عليه الباحث درجة الدكتوراه من كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بفرع المدينة المنورة، وهو حجة في أعمال برنارد لويس، فقد ذهب إليه بنفسه وحاوره وناقشه، وضاق المستشرق من الباحث،ويظهر أن الباحث قد زود المستشرقَ لويس بنسخة من بحثه الذي نشرته مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض باللغة العربية [5] ، وإن لم يكن قد زوده بهذا البحث فإنه ربما قد حصل عليه بطريق آخر،وهو بحث جدير بالاطلاع. وستظل الكتابات عن هذه المنطقة تترى، وكل يؤخذ من كلامه ويرد [6] ، وهناك من يؤخذ من كلامه أكثر مما يرد، وهناك من يرد من كلامه أكثر مما يؤخذ، وربما أن هناك من يرد كلامه ولا يؤخذ منه شيء، إلا الأنبياء؛ فإن كلامهم يؤخذ كله ولا يرد منه شيء؛ إن هو إلا وحيٌ يوحى. وعندما يُكتب عن المستشرق المعاصر أستاذ دراسات تاريخ الشرق الأدنى المتقاعد في جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية برنارد لويس تجد من المتخصصين في الاستشراق ومن الذين بحثوا كثيرًا في إسهامات هذا المستشرق من يَعُدُّك دخيلًا على هذا المستشرق بعينه، ولعله تدخل يرضي الباحثين المتعمقين؛ لأنه يبين مدى علمهم بالمستشرق وفكره وميوله في مقابل جهل الآخرين به ممن يكتبون عنه، لا سيما أولئك الذين قرؤوا له كتابًا أو كتابين من إنتاجه الغزير. وكتابة لويس ممتعة، ولغته بسيطة، وتحليله ممتع لكثير من الناس الذين يلتقون معه في نظرته إلى الشرق الأدنى وشعوبه - كما يقال - ومن هنا جاء التأثر بالآخرين من الذين يكتبون عن المنطقة والدين الذي نؤمن به، والفكر الذي يُسَيِّر الناس، ويَسِير الناس من خلاله، لا سيما أولئك الذين لديهم الرغبة في التغيير، أيًّا كان هذا التغيير. وهذا شعور ليس محدَثًا، بل هو قديم قدم هذه الإسهامات الخارجية، حتى قيل من سنين عديدة تصل إلى خمسة عقود مضت: إن المستشرقين قد فهموا الإسلام أفضل من فهم أهله له [7] ، وحتى قيل: إن بعض المناطق الإسلامية ليست إسلامية الروح، بقدر ما هي أوروبية الهوى، وينبغي أن تكون كذلك،وهذا ناتج عن قراءات سريعة غير تحليلية لكتابات ممتعة في أسلوبها ولغتها بسيطة،وناتج كذلك عن قدر من الجمود في الفكر في مرحلة من المراحل التي تهمَّش فيها ما يسمى اليوم بالفكر الإسلامي. وليس كل المستشرقين يبيِّنون ذلك في كتاباتهم وتعليقاتهم، حتى أضحى من الصعب على الباحثين في الاستشراق استخلاص هذا الانتماء الديني والفكري إلا بمزيد من تحليل الكتابات،وهذا يحتاج إلى المزيد من التخصص في الأفراد من المستشرقين على غرار ما قام به الدكتور مازن المطبقاني الذي درس برنارد لويس دراسة علمية أظهر فيها انتماءه الديني والفكري، وهذا من حقه، كما هو حق قد أعطي للمدروس، فلمَ لا يعطى للدارس؟! ولم ينل عمل مازن المطبقاني الانتشار المتوقع له؛ لأسباب عدة، لعل منها أنه تعرض لمفكر صهيوني "محمي"،على أن هناك مفكرين "محميين" لا يصلهم النقد، وإن وصل فإنه لا ينتشر. ومهما يكن من أمر، فإن وقفتي مع كتاب برنارد لويس الأخير مستقبل الشرق الأوسط قد أثبت في تحليلاته نقاطًا عدة، أكدت الموقف منه في توجهه إلى التاريخ الحديث ولجوئه إلى التحليل الإعلامي السريع الذي لم يكن معهودًا عنه في إسهاماته في تاريخ الشرق الأدنى،وهو بهذا يحقق من الغايات لدينه ومعتقده وفكره أكثر مما يحققه أو حققه لهما في مسيرته الأولى، وإن ضحى بسمعته العلمية وبعمق البحث العلمي، وقدر يسير جدًّا من التحليل الموضوعي. [1] انظر: برنارد لويس ، الحشاشون The Assaishns: A R adical Sect in Islam - ، London: Al Saqi Books ، p 1985 - 166. وانظر أيضًا: Betrnat Lewis ، The Political Language of Isalm - Chicago: The Univcesity of Chicago ، 1988 - p 168 ، وقد ترجمه إلى اللغة العربية إبراهيم شتا بعنوان: لغة السياسة في الإسلام - قبرص: دار قرطبة، 1993م - ص 173. [2] انظر: Betnatr Leweis ، What Went Wron: Impact and Middle Easten Response - ، London: Author ، p 200 - 202 ، وقد ترجمه إلى اللغة العربية محمد عناني بعنوان: أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين - تقديم ودراسة: رؤوف عباسي - القاهرة: سطور، 2003م - ص 269. وانظر أيضًا: Bernatd Lewis ، The Crsissl of Islam: Holy War and UNGHOLY terror - London: Authoe ، 2003 - p175. [3] انظر: برنارد لويس ، مستقبل الشرق الأوسط: تنبؤات - بيروت: رياض الريس، 2000م - ص 140. [4] انظر: برنارد لويس ، مستقبل الشرق الأوسط: تنبؤات - المرجع السابق - ص 140. [5] انظر: مازن بن صلاح مطبقاني ، الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس - الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416هـ/ 1995م - ص 614. [6] يؤثر هذا القول عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - ونقله عنه مجاهد - رحمه الله - ونقله عن مجاهد الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - ونقله عن مالك الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - انظر: محمد ناصر الدين الألباني ، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها - ط 13 - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ/ 1983م - ص 26 - 27. [7] انظر: محمود محمد شاكر ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا - مرجع سابق - ص 258.
كتاب "تحرير قول الشيخ محمد بن عثيمين في تارك التوحيد" لأيمن سعود العنقري صدر حديثًا كتاب "تحرير قول الشيخ محمد بن عثيمين في تارك التوحيد"، تأليف: د. "أيمن سعود العنقري"، في سلسلة البحوث المحكمة، نشر: "دار الأوراق للنشر والتوزيع". وهو بحث علمي تتبع فيه المؤلف تقريرات الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - وفتاويه في حكم تارك التوحيد؛ كمن يدعو الأوثان والأصنام والصالحين ويستغيث بهم في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، وينادي الغائبين. وهذا البحث في مسألةٍ مهمة من أهمّ مسائل التوحيد ألا وهي: تارك التوحيد المتلبّس بما يضادّه من الشرك الأكبر، ويختص بعقيدة المسلم التي عليها مدار الأمر كله، وقد لاحظ الكاتب اختلاف المعاصرين من متخصصين في العقيدة وطلبة العلم في تحرير قول الشيخ في المسألة - كما سيراه القارئ في الكلام عن الدراسات السابقة التي تكلّمت عن رأي الشيخ في ذلك؛ ممّا دعاه لمحاولة استقصاء كلام الشيخ فيها، ودفع ما قد يظنّ الناظر له لأول مرة أنّ فيه تناقضًا، والجمع بين تقريراته وفتاواه في المسألة، وحمل كلٍ منها على ما أراده الشيخ ممّا يفهم من سياق كلامه والقواعد التي ذكرها في توضيح قوله في المسألة. ومما أدى لهذه المشكلات التحريرية لقول الشيخ ابن عثيمين أنه ورد عن الشيخ في حكم من تلبّس بالشرك الأكبر - جاهلًا - فتاوى وتقريرات يظهر منها التناقض في أول الأمر؛ حيث نصّ في بعضها على كفره، وفي بعضها الآخر أنّه لا يكفّر حتى تقام عليه الحجّة ويبيّن له. وقد اختلف المعاصرون في التعامل مع تلك الفتاوى والتقريرات؛ فمنهم من ذكر أنّ للشيخ قولين في المسألة! ومنهم من أخذ بأحد الحكمين وزعم أنّ الشيخ تراجع عن الحكم الآخر. وقد اتضح للكاتب أن ابن عثيمين - رحمه الله - يسمى من يفعل ذلك ( مشركًا ) لا مسلمًا، ويرى أن تسمية من ينذر المقبور والأولياء ويدعوهم ( مسلمًا ) جهل من المسمي. ويفرق بين الكفر الظاهر الذي تترتب عليه آثاره في الدنيا، وكفر الباطن المستلزم للعذاب في الآخرة. وبين المفرط المتمكن من التعلم ومعرفة الحق، وغير المفرط.. وقد نصّ - رحمه الله - على التفريق في تكفير المعيّن بين الحكم الدنيوي وبين ما يقضيه الله في الآخرة، فمن تحقّق من تلبّسه بالشرك الأكبر، فيجب عليه اعتقاد كفره وخروجه من الإسلام؛ لكون ما تلبّس به مناقضًا لأصل إيمانه الذي من شرط صحّته الكفر بالطاغوت. فالحكم على معيّنٍ بالكفر أو الإسلام مناطه: أصل الإسلام وجودًا وعدمًا. فمن كان عنده أصل الإسلام فهو مسلم، ويشمل ذلك كلّ من نطق بالشهادتين وأظهر الإسلام، ولم يظهر منه ما يضادّ ذلك من نواقض الإسلام الصريحة؛ إذ أحكام الدنيا مدارها على الظاهر. فمن أظهر الشرك أو الكفر الصريح، فالحكم للظاهر؛ إذ لا يجتمع أصل الإسلام وهو التوحيد مع ضدّه وهو الشرك أو الكفر الصريح. فلا نتوانى عن إطلاق اسم الشرك عليه ما دام أنّه فعل الشرك ونرتب عليه أحكام الكفّار في الدنيا، لكنّ الشرك الذي يطلق عليه لا تستباح به أمواله ولا دمه، بل ذلك موقوف على البيان، ولا الحكم عليه بالنّار حتى نعلم أنّه ردّ الحجّة الرساليّة بعد بيانها له. أمّا الحكم القضائي بكفره وردّته، الذي يترتّب عليه عذاب وهو قتله، فهذا الحكم لا يوقع على المعيّن إلا بعد الاستتابة وقيام الحجّة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]. وأن هذا التفصيل في أحكام الكفر الوارد في فتاوى الشيخ وتقريراته مع كونها متفقةً مع قرائن كلامه واستدلالاته، فهي أيضًا متوافقة مع فتاوى وتفصيلات المحققين من أهل العلم. فيتعيّن المصير إليها؛ وهذا هو المنهج السديد في توجيه كلام أهل العلم الوجهة الصحيحة المتفقة مع قرائن الكلام والاستدلال وما عليه أئمّة أهل السنّة المحققين. والمؤلف هو أيمن بن سعود العنقري أستاذ مساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، من مؤلفاته: • سلسلة شرح المتون العلمية في العقيدة - شرح رسالة نواقض الاسلام لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. • سلسلة شرح المتون العلمية في العقيدة - شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي. • المسائل المستجدة في نوازل الزكاة.
الإعلام بأحكام المال الحرام لمنصور عبدالحميد النجار صدر حديثًا كتاب: "الإعلام بأحكام المال الحرام"، تأليف: "منصور بن عبدالحميد النجار"، تقديم: الشيخ "مصطفى العدوي"، نشر: "دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع". حيث تناول فيه المؤلف صور الكسب الحرام، وكيف للمسلم أن يتخلص من المال المحرم وفق الكتاب وصحيح السنة، وقد ضمنه مسائل كثر سؤال العامة عنها، منها على سبيل المثال: هل يجوز قبول الهدية ممن غالب ماله حرام؟ وهل يصح الحج من المال الحرام؟ وهل يجوز التخلص من المال الحرام في بناء المساجد؟ وكيف يتخلص التائب إلى الله من المال المكتسب من الحرام ولم يعلم له صاحب؟ كما تناول عدة مسائل فقهية متعلقة بأحكام المال المغصوب أو المكتسب حرامًا، كالإجابة عن أسئلة: ما الحكم في مال الكافر إذا أسلم؟ وماذا يجب على من سرق عينًا وأراد أن يتوب بعد زمن وقد هلكت العين وليس لها مثل؟ وقد توسع المؤلف في باب الربا وما يتعلق به من مسائل. وقد انتهج في تصنيف دراسته جمع الوارد في هذا الباب من الكتاب والسنة، ونقل فقه الصحابة والتابعين في كثير من المسائل، مع تخريج الأحاديث والآثار في الباب. مع التقيد بالمسائل الشائعة في الواقع المعاصر غاضًا الطرف عن المعاملات التي اندثرت مما ذكره الفقهاء في كتبهم، مع محاولة عرض المسألة في صورة مختصرة قبل ذكر الأدلة والخلاف الحاصل فيها، وأحيانًا يكون العرض في نهاية المسألة. مع مناقشة أقوال أئمة المذاهب في كثير من المسائل وإظهار الراجح معتمدًا في ذلك على ما يوافق الدليل.
الامتحان لم تكن دعوةُ النبي صلى الله عليه وسلم خِلْوًا من المعجزات التي تؤيد صدق دعوته وأنه موحًى إليه من ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكانت الآيات المعجزة وكان الامتحان المظفر المعجز، لقد فكرت قريش مليًّا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأت أن تلجأ إلى يهودِ يثرب لكي يعودوا بالخبر اليقين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما إذا كان صادقًا في دعواه أو مدَّع للنبوة، فبعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فقابلا أحبار اليهود وقصَّا خبر النبي عليهم، فقال الأحبار: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه قد حدث لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح، ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي، فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فعادا إلى قومهما بهذا الامتحان، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم، وسألوه ما أملاه عليهم اليهود، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أخبركم غدًا بما سألتم) )، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يُحدِث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكث الوحي هذه المدة، وشق عليه ما يتكلم به كفار قريش، ثم جاء جبريل عليه السلام بسورة الكهف، وفيها أجوبة سؤالين مما سألوه عنه، وهم الفتية الذين فروا بدينهم من الملك الطاغية وتواروا في الكهف وناموا فيه ثلاثمائة سنة ميلادية، ثم أفاقوا بعد هذه المدة ليجدوا أن بلدهم تغير من الوثنية إلى التوحيد، ثم ماتوا الميتة الحقيقية، وأن الرجل الذي طاف الأرض هو ذو القرنين، وفي سورة الإسراء جواب السؤال عن الروح: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
الإمام الألباني محدث العصر ومجدد الزمان إن العلماء والمحدثين هم ورثة الأنبياء، وسادات الأولياء، ومشاعل الطريق التي تضيء الدرب للسالكين، وتعطي النور للسائرين، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. ومن كبار العلماء الربانيين في زماننا وسادات المحدثين وعظماء المجددين الإمام الرباني العظيم، والمحدث المجدد الجليل، محمد ناصر الدين الألباني المعروف بالإمام الألباني نسبة إلى بلده الأم ألبانيا. إن الإمام المحدث الأجل الألباني هو شيخ المحدثين، وأستاذ الأستاذين، وصفوة العلماء العاملين، لقد كان الإمام الألباني آية عظيمة، ومجددًا كبيرًا، وعالمًا ربانيًّا في الحديث الشريف وعلومه وفنونه؛ بل هو الذي جدد هذا العلم الشريف، وأحياه بعدما خمد ذكره على مرِّ قرون عديدة. لم يكن الإمام الألباني عالمًا فحسب؛ بل كان عالمًا ومحدثًا ومربيًّا، وفقيهًا يتبع الكتاب والسنة دون تعصُّب لمذهب أو تحيُّز لإمام معين. لقد كان الإمام الألباني نموذجًا فريدًا، وعالمًا عظيمًا، استطاع بهمته، وسعة علمه، وغزارة فهمه إحياء علم الحديث وتجديده، والقيام بمشروعات كبيرة، وجهود عظيمة في سبيل تبيين صحيح الحديث من ضعيفه، وثابته من موضوعه، وتجد ذلك واضحًا في السلسلة الصحيحة والسلسلة الضعيفة، وفي اهتمامه الواسع بالسنن الأربعة، وتخريجه لأحاديثها، وبيان صحيحها من ضعيفها. في مشروع علمي ضخم رائع: ولا ريب أن الإمام الألباني هو مجدد هذا العصر، وشيخ هذا الزمان إلى جانب الإمامين الكبيرين: ابن باز، وابن عثيمين رحمهم الله أجمعين. فالإمام الألباني مجدد من صفوة المجددين؛ جدد علم الحديث، وأحيا الله به العلم الشرعي، واتباع الدليل، وجعله الله تعالى مفتاحًا لكل خير بعلمه وفقهه وغزارة معرفته. وحياة الإمام الألباني متشعبة، وفيها الكثير من الفصول والأحداث، وسأذكر وأتحدث في هذه المقالة عن أهم الأحداث والفصول في سيرة الإمام العظيم الألباني، وإلا فاستيفاء سيرة الإمام الألباني تحتاج إلى مجلدات ضخام، وحسبي أن أذكر منها في هذا المقال المحطات الكبرى والمهمَّة في حياة هذا الإمام الجليل، مستعينًا بالله العزيز الحميد، راجيًا منه التوفيق والعون والتسديد. اسمه ونسبه: هو الإمام العظيم الجليل العلَّامة المحدِّث الكبير شيخ الإسلام والمسلمين، وصفوة الفقهاء والمحدثين والمجددين أبو عبدالرحمن محمد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري الألباني الأرنؤوطي المعروف باسم الإمام محمد ناصر الدين الألباني نسبة إلى بلده الأصلي ألبانيا، والإمام ألباني الأصل والمولد، دمشقي النشأة والتربية. مولد الإمام الألباني: وُلد الإمام الألباني في مدينة أشقودرة عاصمة دولة ألبانيا في سنة 1333هجرية، الموافق عام 1914ميلادية، في أسرة كريمة فقيرة متدينة، يغلب عليها الطابع العلمي، فقد كان والده الحاج نوح من كبار علماء الحنفية في ألبانيا. ومنذ ذلك الحين ما زال الإمام الألباني منارةَ هدى، وشعاعًا يهتدي به الناس، ويستضيء به المستضيئون بعلمه وفقهه، وعلمه بحديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيظل الإمام الألباني منارة هدى للعالمين حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. ولقد وُلد الإمام الألباني في السنة التي بدأت فيها الحرب العالمية الأولى، وفي السنوات الأخيرة للدولة العثمانية فقد سقطت الدولة العثمانية بعد ولادة الإمام بتسع سنوات فقط. أسرة الإمام الألباني: وُلد الإمام الألباني في أسرة علمية كريمة طيبة، وكانت أسرة الإمام فقيرة بعيدة عن الغنى، متدينة، تعيش في أجواء علمية؛ فقد درس والده الحاج نوح العلم الشرعي والفقه الحنفي في إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، وعاد إلى بلاده ألبانيا ليصبح من كبار العلماء فيها، وليصبح مرجعًا علميًّا لأهلها، وكان والد الإمام الألباني من أهل الخير والغيرة على الدين؛ ولذلك رفض البقاء في بلاده لما اتجه أحمد زوغو حاكم ألبانيا بالبلاد إلى العلمانية، والتخلي عن الشريعة، وهاجر إلى دمشق كما سيأتي. ولقد كان والد الإمام الألباني هو الشيخ الأول للإمام كما سيأتي في الفصول القادمة. أولاد الإمام الألباني: وبعد أن عرَفْنا الجو العام لأسرة الإمام الألباني لا بد أن نلقي الضوء على ذريته من أولاد وبنات، فقد تزوج الإمام الألباني بأربع نساء، رزق منهن ثلاثة عشر ولدًا وبنتًا، وأولاده هم: عبدالرحمن، وعبداللطيف، وعبدالرازق، من زوجته الأولى، وعبدالمصور، وعبدالأعلى، ومحمد، وعبدالمهيمن، وأنيسة، وآسية، وسلامة، وحسانة، وسكينة، وهؤلاء كلهم من زوجته الثانية، وابنته هبة الله من زوجته الثالثة، وأما زوجته الرابعة فلم تنجب له. وقد نقلنا هذه التفاصيل من كتاب (حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه) للشيخ محمد الشيباني. صفات الإمام الألباني وشمائله: كان الإمام الألباني رضي الله عنه غزير العلم والمعرفة، واسع الاطلاع، ناصرًا للسنة، قامعًا للبدعة، إمامًا من أئمة المسلمين، ومجددًا من مجددي الدين، وعالمًا ربانيًّا من كبار المحدِّثين والفقهاء. وكان الإمام الألباني كريمًا جوادًا متواضعًا جمَّ التواضع، يزور طلابه، ويتفقدهم، ويخدم أضيافه بنفسه، وكان زاهدًا تقيًّا نقيًّا، سخي اليد، كريم المعشر، عظيم الأخلاق، واسع العلم، وكان ورعًا عظيم الورع، كثير النفع للناس، أفنى حياته في خدمة السنة النبوية، وخدمة العلم الشرعي. وكان صادق اللهجة، طيب اللسان، نقي السريرة، طاهر النفس، لا ينتقم لنفسه، ويعترف بالفضل لأهله، ولا يعرف الفضل لأهله إلا ذووه. وكان الإمام الألباني فصيح اللسان، عالمًا باللغة، كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يترسل في كلامه، ويتمهل فيه، وكان سماحة الإمام الألباني هو إمام المحدِّثين في هذا الزمان، ومجدد علم الحديث، وصاحب السبق والفضل فيه، وهو إمام الحديث الشريف وشيخه ومجدده بلا منازع ولا مدافع. لقد جمع الإمام الألباني الأخلاق الفاضلة، والسجايا الكريمة، والخصال الحميدة، والمناقب الرشيدة، فما فاته منها شيء. ولقد كان الإمام الألباني نموذجًا فريدًا في نبل الأخلاق، ورفعة الشمائل، وكرم النفس، وطهارة الروح. والحاصل أن الإمام الألباني قد جمع الله فيه كل فضيلة، ووهب له كل منقبة وجميلة، ووصل إلى مرتبة صار فيها جديرًا بقول الفرزدق: حلو الشمائل لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم نشأة الإمام الألباني وهجرته إلى دمشق: وُلد الإمام الألباني في مدينة أشقودرة عاصمة دولة ألبانيا كما مرَّ معنا، وعاش سني حياته الأولى في ألبانيا، وكان والده من علماء ألبانيا. ولما تولى الملك أحمد زوغو- الذي أزاغ الله قلبه كما وصفه الإمام الألباني- حكم ألبانيا سار في طريق تحويل البلاد إلى العلمانية، وتقليد الغرب في كل شيء؛ مما أحدث صدمة لدى الشعب المحافظ على الطابع الإسلامي. وقام هذا الملك بإلزام المرأة المسلمة بنزع الحجاب، وإلزام الرجل باللباس الغربي كما فعل أتاتورك في تركيا، وحينها بدأت هجرة الألبان المتدينين الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة باتجاه البلاد الإسلامية الأخرى. وتوجس والد الإمام الألباني وتوقع أن يسوء الأمر أكثر؛ فقرر الهجرة من ألبانيا؛ فرارًا بدينه ودين أولاده من الفتن. واختار والد الإمام الألباني الهجرة إلى مدينة دمشق درة بلاد الشام، وكان قد عرَفَها خلال رحلته لأداء الحج، وشجَّعه على الهجرة إليها ما ورد في فضائلها من أحاديث نبوية صحيحة. وهكذا هاجر الإمام الألباني وهو طفل صغير من بلده ألبانيا إلى دمشق الشام؛ ليبدأ حياته الجديدة، ويقوم بتعلُّم اللغة العربية، ومن ثم يصبح أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام. وبعد الاستقرار في دمشق تعلم الإمام الألباني من والده مهنة تصليح الساعات، وأتقنها حتى صار من أصحاب الشهرة فيها، وكان يحمد الله على تعلُّمها؛ لأنها ساعدته على طلب العلم، وسيأتي الحديث عن تعلم الإمام مهنة تصليح الساعات في فصل قادم. وقد نقلنا هذه التفاصيل من كتاب (الألباني: حياته وآثاره وثناء العلماء عليه) للشيخ محمد الشيباني. نشأة الإمام الألباني العلمية وطلبه للعلم: وبعد استقرار عائلة الإمام الألباني في دمشق بدأ الإمام بطلب العلم، ودخل مدرسة الإسعاف الخيرية في حي البزورية ليدرس فيها المرحلة الابتدائية، واستمر فيها حتى أشرف على إنهاء المرحلة الابتدائية، وحينها قامت الثورة السورية على المحتل الفرنسي سنة 1925 فاحترقت المدرسة، وانتقل الإمام الألباني إلى مدرسة أخرى بحي ساروجة، وهناك أنهى الإمام دراسته الابتدائية. وفي مدرسة الإسعاف الخيرية تعلم الإمام الألباني اللغة العربية الفصحى وبرع فيها، حتى تفوق على كثير من الطلاب السوريين، رغم أنه لم يكن يتقن أي شيء منها عندما دخل دمشق، وكان قد أتقن اللغة العربية السورية أيضًا، وهكذا تعلم الإمام الألباني اللغة العربية، وفتحت له بابًا عظيمًا لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وكان الإمام الألباني يعد تعلم اللغة العربية من نِعَم الله عليه. ونظرًا لسوء رأي والد الإمام الألباني بالمدارس النظامية من الناحية الدينية فقد قرر عدم إكمال ولده الألباني دراسته فيها بعد المرحلة الابتدائية، ووضع له برنامجًا علميًّا مركزًا قام من خلاله بتعليمه القرآن والتجويد والصرف والفقه الحنفي. وأتم الإمام الألباني حفظ القرآن الكريم على يد والده الحاج نوح، وكان والده هو شيخه الأول، كما درس عند صديق والده الشيخ سعيد البرهاني، وقرأ عليه بعض الكتب الحنفية وكتب اللغة العربية، وقد أجازه الشيخ العلامة محمد راغب الطباخ لما رأى سعة علمه وهو شاب، وكان يحضر دروس المحدث بدر الدين الحسني في مسجد بني أمية بدمشق، وهكذا كانت النشأة العلمية الأولى للإمام العظيم الألباني قبل توجهه إلى دراسة الحديث الشريف وعلومه. توجَّه الإمام الألباني إلى علوم الحديث الشريف: بقي الإمام الألباني يدرس على والده ومشايخ آخرين في الفقه واللغة وغيرهما حتى قارب العشرين من عمره، وعندها بدأ يتوجه نحو الحديث وعلومه، ونصر السنة النبوية متأثرًا بأبحاث مجلة المنار للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى، والتحقيق العلمي الذي كان ينشره السيد رشيد رضا، ولنستمع للإمام الألباني وهو يحدثنا عن قصة توجهه إلى علم الحديث فيقول رحمه الله: "أول ما ولعت بمطالعته من الكتب القصص العربية؛ كالظاهر، وعنترة، والملك سيف وما إليها، ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، ثم وجدت نزوعًا إلى القراءات التاريخية، وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءًا من مجلة المنار، فاطلعت عليه، ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنه ومآخذه، ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي، فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله. ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء، ورأيتني أسعى لاستئجاره؛ لأني لا أملك ثمنه، من ثم أقبلت على قراءة الكتاب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه، وهكذا جهدت حتى استقامت لي طريقة صالحة تساعد على تثبيت تلك المعلومات، وأحسب أن هذا المجهود الذي بذلته في دراستي تلك هو الذي شجعني، وحبَّب إليَّ المضي في ذلك؛ إذ وجدتني أستعين بشتى المؤلفات اللغوية والبلاغية، وغريب الحديث لتفهم النص إلى جانب تخريجه". وكان نسخ كتاب تخريج أحاديث الإحياء المعروف باسم (المغني عن حمل الأسفار) والتعليق عليه هو أول عمل حديثي يقوم به سماحة الإمام الألباني، وهو يومها في مطلع العشرينات، وقد بذل جهدًا جبارًا في هذا العمل، وبلغ أكثر من ألفي صفحة، كما يقول محمد المجذوب. وقد فتح هذا العمل الجليل الباب للإمام الألباني للتمرُّس على عالم البحث والتحقيق ودراسة الأسانيد والتمحيص فيها لتأتي بعده خطوات أكبر وأهم خطاها الإمام حتى أصبح الإمام الألباني هو محدِّث العصر ومجدِّد علم الحديث بلا منازع ولا مدافع. وهناك عدة عوامل ساعدت الإمام الألباني على المضي في علم الحديث والنبوغ فيه نبوغًا لم يصل إليه إلا القلة على مر الزمان، يقول الإمام الألباني رحمه الله تعالى عن هذا الموضوع: "إن نعم الله عليَّ كثيرة لا أحصي لها عدًّا، ولعل من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشام، ثم تعليمه إياي مهنته في تصليح الساعات. أما الأولى فقد يسَّرت لي تعلُّم العربية، ولو ظللنا في ألبانيا لما توقعت أن أتعلَّم منها حرفًا، ولا سبيل إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق العربية، وأما الثانية فقد قيضت لي فراغًا من الوقت أملؤه في طلب العلم؛ فأتاحت لي فرص التجارة التي لو حاولت التدريب عليها أولًا لالتهمت وقتي كله؛ وبالتالي لسدت بوجهي سبل العلم الذي لا بد لطالبه من التفرغ". فبهذه الطريقة وبجهود السيد رشيد رضا ومجلته المنار اتجه الإمام الألباني إلى علوم الحديث الشريف ليحيي الله به هذا العلم بعد كاد يندرس، فجزاه الله خيرًا على ما قدَّم للأمة من نفع ونصح. شيوخ الإمام الألباني ومن التقى بهم من أهل العلم: بدأ الإمام الألباني دراسته الشرعية على يد والد الشيخ نوح بن نجاتي، وحفظ على يديه القرآن الكريم، ودرس عليه الفقه الحنفي مذهب والده. كما درس عند شيوخ من أصدقاء والده أهمهم الشيخ سعيد البرهاني، وكان يحضر دروس الشيخ المحدث بدر الدين الحسني في الجامع الأموي، ومن مشايخه أيضًا الشيخ محمد راغب الطباخ العالم الشهير، والتقى بالشيخ العلَّامة أحمد شاكر، وجرت بينهما لقاءات علمية مفيدة، فنستطيع أن نقول: إن أهم مشايخ الإمام الألباني هم: 1- والده الشيخ نوح بن نجاتي من كبار علماء الحنفية في ألبانيا، تخرج في عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول، ثم هاجر إلى دمشق، وقد توفي سنة 1372هجرية، ودفن في دمشق. 2- الشيخ سعيد البرهاني من كبار علماء الحنفية، وهو علَّامة، فقيه أصولي، قرأ عليه الإمام الألباني بعض كتب الحنفية وكتب اللغة، وتوفي البرهاني سنة 1386هجرية. 3- الشيخ المحدِّث بدر الدين الحسني، وكان الإمام الألباني يحضر دروسه في المسجد الأموي تحت قبة النسر. 4- الشيخ العلامة محمد راغب الطباخ، وقد منح الإجازة للإمام الألباني بجميع مروياته؛ لما رأى تفوقه ونبوغه في علم الحديث. 5- العلامة المحدِّث أحمد شاكر، وقد التقى به الإمام الألباني وجرت بينهما أبحاث وجلسات علمية ونقاشات مفيدة. والتقى الإمام الألباني بكثير من كبار العلماء أيضًا يستفيد منهم ويفيدهم، ومنهم العلامة حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية بمصر، والشيخ عبدالرزاق حمزة العالم المعروف، كما التقى بالعلَّامة تقي الدين الهلالي العالم السلفي المشهور، والتقى بالعلامة السلفي المبدع محب الدين الخطيب، كما التقى بالدكتور مصطفى الأعظمي، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والتقى بكثير غيرهم من أهل العلم والصلاح، سواء في شبابه أو بعد شبابه. تلاميذ الإمام الألباني: وللإمام الألباني من التلاميذ الشيء الكثير، ولا يحصون لكثرتهم، فمنهم من تتلمذ على يديه ولازمه مددًا طويلة، ومنهم من لازمه على فترات متقطعة، ونكتفي هنا بذكر أبرز تلاميذه الأفاضل الذين نهلوا من معين علمه؛ فمنهم: 1- الشيخ علي الحلبي، وهو من خواصِّ تلاميذ الإمام الألباني وعلمائهم، التقى بالإمام الألباني أول مرة سنة1977، واستمر يتتلمذ عليه حتى وفاة الإمام، وهو عالم معروف له الكثير من المؤلفات؛ منها: كتاب (علم أصول البدع)، توفي منذ عام ونصف في الأردن. 2- الشيخ الكبير حمدي عبدالمجيد السلفي المحقق المعروف صاحب التحقيقات الكثيرة، وقد تتلمذ على الإمام في دمشق فتلقى عليه علم الحديث، ومن تحقيقاته تحقيق كتاب (معجم الطبراني الكبير)، وهو عمل ضخم في عشرين مجلدًا. 3- الدكتور العلَّامة عمر سليمان الأشقر، وهو شيخ معروف، كان يدرس بكلية الشريعة بالكويت، ومن مؤلفاته: كتاب (أصل الاعتقاد)، وكتاب (خصائص الشريعة الإسلامية). 4- الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، وهو عالم ومحقق كبير، تتلمذ على الإمام الألباني في الأردن، وله الكثير من المؤلفات، منها: (معجم المصنفات الواردة في فتح الباري). 5- الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، له الكثير من المؤلفات، منها: (الرد على من أنكر توحيد الأسماء والصفات). 6- الشيخ الكبير محمد عيد العباسي، وهو من كبار تلاميذ الإمام والملازمين له منذ أن كان في دمشق، له كتاب (بدعة التعصب المذهبي)، وهو كتاب مُهِمّ في علاج هذه المشكلة، وقد قام مع الشيخ علي خشان بتأليف ترجمة للإمام الألباني. 7- الشيخ محمد إبراهيم شقرة، وهو من كبار تلاميذ الإمام وأقربهم إليه، وكان رئيس المسجد الأقصى، له عدة مؤلفات، منها: كتاب (ركائز الدعوة في القرآن). ومن تلاميذ الإمام أيضًا العلَّامة الكبير مقبل بن هادي الوادعي، والشيخ زهير الشاويش، والشيخ محمد جميل زينو، والشيخ علي خشان، والشيخ خليل العراقي الحياني، كما يعد من تلاميذه الشيخ أبو إسحاق الحويني وغيرهم الكثير، وكلُّهم من كبار العلماء في عصرنا. علوم الإمام الألباني: كان الإمام الألباني بحرًا من بحور العلم، وجبلًا من جبال الحفظ والفهم، واسع المعرفة، عميق الاطِّلاع، قوي الفهم والإدراك للمعاني الغريبة والأمور المشكلة. والجميل في الإمام الألباني تفنُّنه وتبحُّره في كثير من العلوم الشرعية، فرغم اهتمامه الشديد بالحديث الشريف والوقت الذي يتطلبه ذلك إلا أنه لم يهمل بقية العلوم؛ بل برع في الحديث والعقيدة والتوحيد والفقه والعربية والتفسير وفي مختلف المجالات؛ ففي الحديث وعلومه هو العالم الجليل والإمام الكبير، حامل راية الحديث في زماننا، ورائد المحدِّثين في زماننا، وهو بلا ريب ولا شك مجدد علم الحديث وشيخه وعالمه وحبره وإمامه الذي أحيا الله به هذا العلم الجليل بعدما اندرس أو كاد يندرس، فشمَّر الإمام الألباني عن ساعد الجد، وراح بهمة عالية ونية صادقة وعلوم عالية يشتغل في علم الحديث الشريف فيميِّز الصحيح الثابت من الضعيف الواهي بمنهج صحيح وأصول واضحة وعقل صافٍ، فليس تصحيح الحديث وتضعيفه عند الإمام الألباني معتمدًا على الأهواء أو العقل المجرد بل هو مبني على أصول ثابتة وقواعد رائعة اعتمد عليها الإمام الألباني في تخريج الأحاديث، فالإمام الألباني هو محدِّث العصر وعالم الحديث الأوحد في هذا الزمان والكلام عن جهود الإمام الألباني الحديثية يحتاج إلى صفحات طوال لنوفي هذه الجهود بعض حقِّها. يقول الإمام الأجل عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: "لا أعلم تحت قبة الفلك في هذا العصر أعلم من الشيخ ناصر في علم الحديث". ورأى الإمام ابن عثيمين رحمه الله شريطًا مكتوبًا عليه "لمحدث الشام محمد ناصر الدين الألباني"، فقال الإمام: "بل محدث العصر". وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله متحدثًا عن الإمام الألباني: "وهو- يعني الإمام الألباني- المرجع اليوم في رواية الحديث في الديار الشامية". وأما في العقيدة والتوحيد، فالإمام الألباني هو البحر الذي استطاع بأسلوبه الماتع الرائق تبسيطَ مسائل العقيدة ونصر عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة السلف بالأدلة الثابتة والبراهين الواضحة، فنصر العقيدة السلفية في كل مؤلفاته، وردَّ على المبتدعين والمخرفين وأدعياء العلم، ومن نظر في كتابه العظيم (التوسل: أنواعه وأحكامه) وكتابه الجليل (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) تبيَّن له سعة علم الإمام الألباني في هذا العلم الجليل وصفاء عقيدته ونقاء توحيده، وأنه يسير على العقيدة السلفية الصافية النقية من الشوائب والبدع. وأما في الفقه، فالإمام الألباني هو الفقيه الحقيقي الذي يتبع الدليل من الكتاب والسنة دون تعصب لإمام أو مذهب معين، فهو يعمل ويفتي بما يرجحه الدليل ويؤيده القرآن والسنة حتى وإن خالفه جميع الناس، وهو أجل من فهم الأدلة وضبطها في هذا الزمان؛ ففقهه هو فقه الوحيين، وهو فقه الكتاب والسنة وأنعم به من فقه! وهكذا في كل العلوم نجد للإمام الألباني قصب السبق فيها، ونجده هو البحر في كل علم والحبر في كل باب رضي الله عنه وأرضاه. مؤلفات الإمام الألباني : الاشتغال بالتأليف أفضل من التدريس عند ابن الجوزي؛ لأن فائدته تبقى على توالي السنين، وفي هذا الباب كان للإمام الألباني جهود عظيمة من ناحية كثرة المؤلفات وجودتها ودقَّتها واشتمالها على الخير كله. وتتميَّز مؤلفات الإمام الألباني بالتحقيق العلمي الدقيق والتخريج الحقيقي الرائع، وبالتمييز بين الأدلة الثابتة والأشياء الواهية، كما تتميَّز باتِّباع الدليل وتعظيم الأثر في كل مسألة وفي كل باب، وتتميَّز بالترتيب والتنسيق وترابط الأفكار؛ مما يجعل القارئ يفهم الفكرة فهمًا تامًّا. وبالجملة فكتب الإمام الألباني من خيرة الكتب وأعظمها، ولا توجد مكتبة تقريبًا إلا وفيها من هذا التراث العظيم المتمثل في كتب الإمام الألباني الغنية بالخير والفوائد. وقد بلغت مؤلفات الإمام الألباني من الكثرة مبلغًا عظيمًا؛ إذ بلغت مؤلفاته ما بين تأليف وتحقيق وتخريج 218 كتابًا في الحديث وعلومه والعقيدة وغيرها، وسنذكر قسمًا من مؤلفات الإمام الألباني نقلًا عن كتاب (الإمام الألباني: دروس ومواقف وعبر) للشيخ عبدالعزيز السدحان. وسنتحدث أولًا عن مؤلفاته ثم عن تحقيقاته: فمن مؤلفات الإمام الألباني: كتاب (سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها) وكتاب (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة)، وهما من أعظم مؤلفاته. ومن مؤلفاته: كتاب (صحيح سنن الترمذي) وكتاب (ضعيف سنن الترمذي) وكتاب (صحيح سنن النسائي) وكتاب (ضعيف سنن النسائي) وكتاب (صحيح سنن ابن ماجه) وكتاب (ضعيف سنن ابن ماجه) وكتاب (صحيح سنن أبي داود) وكتاب (صحيح سنن أبي داود مع التخريج المفصل) وكتاب (ضعيف سنن أبي داود) وكتاب (ضعيف سنن أبي داود مع التخريج المفصل) وكتاب (صحيح الجامع الصغير وزياداته) وكتاب (ضعيف الجامع الصغير وزياداته) وكتاب (صحيح الترغيب والترهيب) وكتاب (ضعيف الترغيب والترهيب) وكتاب (مختصر صحيح البخاري) وكتاب (مختصر صحيح مسلم)- وهو مفقود- وكتاب (صحيح الأدب المفرد) وكتاب (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) وكتاب (تيسير انتفاع الخلان بثقات ابن حبان) وكتاب (تمام المنة في التعليق على فقه السنة) وكتاب (صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) وكتاب (ضعيف موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) وكتاب (صحيح الكلم الطيب) وكتاب (مختصر الشمائل المحمدية). ومن مؤلفاته: كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) وكتاب (أحكام الجنائز وبدعها) وكتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) وكتاب (التوسل: أنواعه وأحكامه) وكتاب (تحريم آلات الطرب) وكتاب (تلخيص أحكام الجنائز) وكتاب (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) وكتاب (آداب الزفاف في السنة المطهرة) وكتاب (جلباب المرأة المسلمة) وكتاب (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة) وكتاب (صحيح السيرة)- وهو مطبوع لكنه غير كامل- وكتاب (الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد) وكتاب (صلاة العيدين في المصلى خارج البلد هي السنة) وكتاب (منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن) وكتاب (وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والأحكام) وكتاب (قيام رمضان) وكتاب (كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والافتراءات) وكتاب (الرد على كتاب ظاهرة الإرجاء لسفر الحوالي) وكتاب (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) وكتاب (تخريج أحاديث فضائل دمشق والشام للربعي). ومن الكتب التي حققها الإمام الألباني وخرجها وعلق عليها، وبعضها حقَّقها أو خرَّجها فقط: كتاب (الاحتجاج بالقدر) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب (إصلاح المساجد من البدع والفوائد) للقاسمي، وكتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) للإمام ابن القيم، وكتاب (اقتضاء العلم العمل) للخطيب البغدادي، وكتاب (العبودية) لشيخ الإسلام، وكتاب (الإيمان) لشيخ الإسلام، وكتاب (الباعث الحثيث) للعلامة أحمد شاكر، وكتاب (بداية السول في تفضيل الرسول) للإمام العز بن عبدالسلام، وكتاب (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) للمعلمي، وكتاب (حقيقة الصيام) لشيخ الإسلام، وكتاب (سبل السلام) للصنعاني، وكتاب (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، وكتاب (الكلم الطيب) لشيخ الإسلام. وللإمام الألباني غير ذلك الكثير من الكتب والمؤلفات العظيمة الجليلة الماتعة الرائقة، وكلها تسطر بماء الذهب؛ لغزارة فوائدها وكثرة نفعها، وأغلبها مطبوعة منتشرة ولله الحمد. الإمام الألباني ومهنة تصليح الساعات: لا شك أن مهنة تصليح الساعات داخلة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطيب كسب الرجل من عمل يده)). والإمام تعلم هذه المهنة عند والده وأجادها، وبرع فيها حتى صار من أصحاب الشهرة فيها، وكان تعلُّم هذه المهنة من نعم الله على الإمام الألباني؛ إذ وفرت له الوقت لطلب العلم- لأنها مهنة حرة لا تتطلب وقتا معينًا- ووفرت له ولأهله الستر والكفاف وعدم الحاجة إلى الناس. ولنستمع للإمام الألباني وهو يحدِّثنا عن قصته مع هذه المهنة فيقول رحمه الله: "من توفيق الله تعالى وفضله عليَّ أن وجَّهني منذ أول شبابي إلى تعلُّم هذه المهنة؛ ذلك لأنها حرة لا تتعارض مع جهودي في علم السنة، فقد أعطيت لها من وقتي كل يوم- ما عدا الثلاثاء والجمعة- ثلاث ساعات زمنية فقط، وهذا يمكنني من الحصول على القدر الضروري لي ولعيالي وأطفالي على طريقة الكفاف طبعًا فإن من دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا))؛ رواه الشيخان، وسائر الوقت أصرفه في سبيل طلب العلم والتأليف ودراسة كتب الحديث وبخاصة المخطوطات منها في المكتبة الظاهرية؛ ولذلك فإني ألازم هذه المكتبة ملازمة موظفيها، ويتراوح ما أقضيه من الوقت فيها ما بين ست ساعات إلى ثماني ساعات يوميًّا على اختلاف النظام الصيفي والشتوي في الدوام فيها". وقد نقلت هذا النقل من كتاب (الإمام الألباني) للسدحان. ومن العجيب أن بعض الجهلة والحُسَّاد وأهل البدع والأهواء يعيرون الإمام الألباني بمهنته ويلمزونه بسببها، وما علم هؤلاء الجهلة أن كسب الرزق والعمل شرف للإنسان، وأنه طريق الأنبياء، فمحمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق رعى الغنم، وأدريس كان يعمل خياطًا، وداود كان يعمل حدادًا، وكل نبي قد رعى الغنم ولكن هؤلاء الجهلة معرضون عن دين الله، لا يهمهم إلا الهوى والبدعة، ونشر الجهل بين الناس. محنة الإمام الألباني ودخوله السجن ثم هجرته من دمشق: تعرض الإمام الألباني خلال دعوته في دمشق لكثير من التعب والأذى من المبتدعين والمتعصبين حتى وصل الأمر إلى التحريض عليه في المنابر وعند قوات الأمن، ووجَّه له المفتي تهمة إثارة الفتنة- والفتنة عند هذا المفتي ومن على شاكلته هي اتِّباع السنة- وكان الإمام الألباني يقوم برحلات علمية، فمنعه مفتي إدلب من دخولها، وتعرض لكثير من المضايقات في دمشق بل وصل الأمر إلى نشر فتوى منسوبة إلى رئيس رابطة العلماء، يفتي فيها بقتل الإمام الألباني واستباحة دمه. وما ندري ما هو الجرم الذي اقترفه الإمام الألباني حتى يفتى بقتله، إن الجرم عند هؤلاء المبتدعة والمتعصبين والخرافيين هو اتِّباع السنة والنهي عن البدعة والعلم النافع الذي كان ينشره الإمام، ولقد سجن الإمام الألباني بسبب دعوته إلى الله عام 1969 في سجن قلعة دمشق، وهي نفسها التي سجن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم أفرج عنه ثم سجن مرة أخرى في نفس العام في سجن مدينة الحسكة شمال شرق سوريا. ونقل الإمام الألباني إلى سجن الحسكة، وكان سجنها جديدًا واسعًا، واصطحب معه كتابه المحبب (صحيح مسلم) وقلمَ رصاصٍ وممحاةً، ووصل إلى السجن، وكان محبوسًا فيه بعض المشايخ أحدهم يقال له: (الشيخ مصطفى)، وكان في السجن شباب من حزب التحرير، فكان الإمام الألباني يدخل معهم في نقاشات دائمًا، واستطاع إصلاح بعض أفكارهم. وكان الإمام يريد اختصار (صحيح مسلم) ولكن كانت اللمبة- المصباح الكهربائي- في السجن بعيدة جدًّا لا يستفيد منها شيئًا، فطلب من مدير السجن بواسطة الشيخ مصطفى- الذي كان قد أمضى في السجن مدة طويلة- توفيرَ الإنارة والكهرباء، فوافق مدير السجن بشرط أن يدفع الإمام الألباني ثمن الأغراض، فوافق الإمام الألباني وقال: "هذا سهل". وبالفعل تم ما يريده الإمام الألباني، وتوفرت له الإنارة، وبدأ يختصر (صحيح مسلم) وكان يقول: "فما أحسست بالغربة في السجن إطلاقًا، كما قال ابن تيمية رحمه الله: سجني خلوة". وفي السجن حقَّق الإمام الألباني أمنيته واختصر (صحيح مسلم) بعد ثلاثة أشهر من العمل فيه، وقد مضى ذكره في تعداد مؤلفاته. فلله درُّ هذا الإمام، ما أعظم همته وأوسع علمه! وقد نقلت هذه التفاصيل من كتاب (الإمام الألباني) للسدحان، وبعد خروج الإمام الألباني من السجن بفترة وتحديدًا في الأول من رمضان سنة 1400هجرية هاجر الإمام الألباني بأهله من دمشق إلى عمان عاصمة الأردن ليبدأ سلسلة هجرات متتالية بسبب تقلُّب الأوضاع حتى استقرَّ الإمام في الأردن، وسنسرد الآن بعض التفاصيل عن هجرة الإمام الألباني من دمشق، ثم ما جرى معه حتى استقر في الأردن. يقول الإمام الألباني عن هجرته من دمشق إلى عمان: "إن الله تبارك وتعالى قد جعل بحكمته لكل شيء سببًا، ولكل شيء سمى أجلًا، وقدَّر كل شيء تقديرًا حسنًا، وكان من ذلك أنني هاجرت بنفسي وأهلي من دمشق إلى عمان في أول شهر رمضان سنة 1400هجرية، فبادرت إلى بناء دار لي فيها، آوي إليها ما دمت حيًّا، فيسَّر الله لي ذلك بمنِّه وكرمه بعد كثير من التعب والمرض الذي أصابني من جراء ما بذلت من جهد في البناء والتأسيس، ولا زلت أشكو منه قليلًا، والحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات". واستقر الإمام الألباني في الأردن قليلًا في منزله الجديد، وألقى قليلًا من الدروس على طلبة العلم المتعطشين لعلومه، ولكن فجأة حدث ما أجبره على الهجرة من الأردن، واضطر الإمام الألباني للخروج من عمان، فهاجر الإمام الألباني إلى دمشق مرة أخرى ومنها إلى بيروت. يقول الإمام الألباني عن هذه التفاصيل: "وبينما أنا أستعد لإلقاء الدرس الثالث إذ بي أفاجأ بما يضطرني اضطرارًا لا خيار لي فيه مطلقًا للرجوع إلى دمشق حيث لم يبق لي فيها سكن، وذلك أصيل نهار الأربعاء في 19شوال 1401هجرية، فوصلتها ليلًا وفي حالة كئيبة جدًّا وأنا أضرع إلى الله تعالى في أن يصرف عني شرَّ القضاء وكيد الأعداء، فلبثت فيها ليلتين وفي الثالثة سافرت بعد الاستشارة والاستخارة إلى بيروت مع كثير من الحذر والخوف لما هو معروف من كثرة الفتن والهرج والمرج القائم فيها، والوصول إلى بيروت في الثلث الأول من الليل قاصدًا دار أخ لي قديم وصديق وفيّ حميم، فاستقبلني بلطفه وأدبه وكرمه المعروف، وأنزلني عنده ضيفًا معززًا مكرمًا، فجزاه الله خيرًا". وبعد فترة من الزمن قضاها الإمام الألباني في بيروت اضطر أن يهاجر إلى الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا إمارة الشارقة عند بعض محبِّيه من أهل السنة والجماعة، فهاجر الإمام الألباني إليها واستقبله أهل الخير هناك، وسعدوا به سعادة عظيمة، وكانت أيامه في الإمارات أيام انهماك في العلم، وتوافدَ عليه الناسُ من دول الخليج لرؤيته وزيارته، واستغل فترة وجوده في الإمارات وزار بعض الدول المجاورة؛ كالكويت وقطر، وبعدها قام الشيخ محمد إبراهيم شقرة- تلميذ الإمام الألباني ورئيس المسجد الأقصى- بالشفاعة للإمام الألباني عند ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال، وأخبره بدعوة الإمام ومنهجه، وما تعرض له من الأذى على يد الجهلة والحُسَّاد، فوافق الملك الحسين فورًا على السماح للإمام الألباني بالعودة إلى الأردن وأمر بذلك، وفرح طلبة العلم بعودة الإمام الألباني أيما فرح، واستقرَّ الإمام الألباني مع أهله في الأردن حتى وفاته، وبقي منارةَ علمٍ وهدى يستضيء بها السائرون، وانتهت سلسلة المحن المتعاقبة، وكتب للإمام التوفيق والقبول والتمكين في الأرض، وقد نقلنا هذه التفاصيل كلها من كتاب (الألباني: حياته وآثاره وثناء العلماء عليه) للشيباني، وكتاب (محدث العصر) للشيخ عصام موسى هادي. الإمام الألباني وتدريسه في الجامعة الإسلامية: كتب الله القبول للإمام الألباني بعلمه وصدقه ونيَّته الصافية، ونفع الله بمؤلفاته الخلق، وبلغ صيته مشارق الأرض ومغاربها؛ ولذلك لما افتتحت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1381هجرية تم تعيين الإمام الألباني مدرسًا فيها للحديث وعلومه، يقول الأستاذان: عيد عباسي، وعلي خشان، وهما يتحدثان عن الإمام الألباني وانتشار علمه: "مما دفع المشرفين على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة حين تأسيسها وعلى رأسهم الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس الجامعة الإسلامية والمفتي العام للمملكة العربية السعودية آنذاك على أن يقع اختيارهم على الشيخ ليتولى تدريس الحديث وعلومه وفقهه في الجامعة. وبقي هناك ثلاث سنوات أستاذًا للحديث وعلومه، كان خلالها مثالًا للجد والإخلاص حتى إنه كان يجلس مع الطلاب على الرمل أثناء الاستراحات، فيمر بهم بعض الأساتذة والطلاب حوله على الرمل فيقولون: "هذا هو الدرس الحقيقي وليس الذي خرجت منه أو الذي ستعود إليه". وهكذا بقي الإمام الألباني يدرس الحديث وعلومه في الجامعة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات أفاد الطلبة خلالها بآلاف من الفوائد، ونفعهم النفع العظيم. وبعد حدوث بعض الخلاف بين الإمام الألباني وبعض الأساتذة في الجامعة وبسبب مكائد بعض الحاسدين انتهى عمل الإمام الألباني فيها، وقال له الإمام عبدالعزيز بن باز: "حيث كنت تقوم بواجب الدعوة فلا فرق عندك". ثناء العلماء على الإمام الألباني: أثنى الكثير من أهل العلم والفضل على الإمام الألباني، وأشادوا بعلمه وفضله، وهو أهل لكل مدح وثناء، وسأنقل بعض كلامهم مستفيدًا من كتاب (الإمام الألباني) للسدحان. 1- قال سماحة الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن الإمام الألباني: "وهو صاحب سنة ونصرة للحق ومصادمة لأهل الباطل". 2- قال سماحة الإمام عبدالعزيز بن باز: "من إخواننا الثقات المعروفين من إخواننا الطيبين أخونا وصاحبنا العلامة الشيخ محمد ناصر الدين وهو من المجدِّدين". وصرح الإمام ابن باز بأن الإمام الألباني هو مجدِّد العصر. 3- قال الإمام ابن عثيمين عن الإمام الألباني: "طويل الباع، واسع الاطلاع، قوي الإقناع". 4- قال العلَّامة محب الدين الخطيب عن الإمام الألباني: "من دعاة السنة البارزين الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها". 5- قال الشيخ علي الطنطاوي: "الشيخ ناصر أعلم مني بعلوم الحديث، وأنا أحترمه لجده ونشاطه وكثرة تصانيفه، وأنا أرجع إلى الشيخ ناصر في مسائل الحديث، ولا أستنكف أن أسأله عنها معترفًا بفضله". 6- قال سماحة العلَّامة المفتي عبدالعزيز آل الشيخ عن الإمام الألباني: "نصر السنة في هذا الزمان". وثناءات العلماء على الإمام الألباني كثيرةٌ تحتاج إلى بحث مستقل، ونكتفي منها بما قدمنا. وفاة الإمام الألباني: إن الموت هو مصير كل إنسان، فلا خلود لأحد في الدنيا، والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة، فإما نعيم وإما جحيم، ولئن مات الإمام الألباني وغاب جسده، فإن علمه وذكره ومنهجه لم يمت ولن يموت أبدًا بإذن الله، وكما قال الشاعر: قد مات قوم وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أحياء أصيب الإمام الألباني في آخر عمره بمرض السرطان الذي أثَّر في أمعائه، وظل المرض يشتدُّ حتى توفي الإمام الألباني رحمه الله تعالى بعد عصر يوم السبت 22 جمادى الآخرة عام 1420هجرية، الموافق الثاني من أكتوبر عام1999ميلادية، وبدأ أقرباء الإمام الألباني بتجهيزه للدفن، وطار خبر وفاته كل مطار، وتوافد طلبة العلم لحضور جنازته، وتنفيذًا لوصية الإمام الألباني تم تجهيزه على وجه السرعة، وحمل إلى المقبرة، فإذا بآلاف الناس تنتظره للصلاة عليه رغم أنه لم يمضِ على وفاته إلا ساعات قليلة، وصلى عليه الشيخ محمد إبراهيم شقرة، ودفن الإمام الألباني في مقبرة جبل الهملان قرب منزل الإمام رضي الله عنه، وبذلك غاب قمر من أقمار أمتنا، ومات مجدد الزمان ومحدِّث العصر، ولكن بقي علمه ومنهجه ومؤلفاته تدرس إلى قيام الساعة، ومات الإمام ولكنه سقانا بعلم يسد الثغور. قصائد في مدح الإمام الألباني: قال خالد جمعة الخراز يمدح الإمام الألباني: إن الذي ينصر شريعة ربنا ينصر كما قد قاله الوحيان ولقد رأينا من محدث عصرنا أعني المحدث ناصر الألباني نشر العلوم بعصرنا يا حبذا من ناشر لشريعة المنان ترك التعصب للمذاهب كلها نصر الأئمة شيعة الرحمن نفع الإله بعلمه رغم الذي قد قاله ذو الحقد والأضغان قالوا قريض الشعر قلت أحبه لا سيما في ناصر الألباني علم الزمان فلست أزري حقه شيح المشايخ ذو النهى رباني فهو المجدد للزمان وقد أتى خبر صحيح ينتهي للداني هذه السيرة المشرقة الناصعة هي صورة إمام المحدثين وشيخ الشيوخ محدث العصر الإمام العلامة الحبر محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى. لقد سطر الإمام الألباني نموذجًا فريدًا في طريق العلم وسجلات العلماء. وبهذا نكون قد أنهينا ما أردناه من كتابة سيرة هذا البحر الجليل الإمام الكبير الألباني رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه خير الجزاء وأحسن الثواب، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا. المصادر والمراجع: 1- كتاب (الألباني: حياته وآثاره وثناء العلماء عليه) محمد إبراهيم الشيباني. 2- كتاب (الإمام الألباني: دروس ومواقف وعبر) عبدالعزيز السدحان. 3- كتاب (محدث العصر الإمام محمد ناصر الدين الألباني كما عرفته) عصام موسى هادي.
المدخل إلى كتاب المحرر في الحديث لخالد بن قاسم الردادي صدر حديثًا كتاب " المدخل إلى كتاب "المحرر في الحديث" لابن عبدالهادي (ت 744 هـ) "، تأليف: د. "خالد بن قاسم الردادي"، نشر: " دار الميراث النبوي للنشر والتوزيع"- الجزائر. يهدف البحث إلى التعريف بالإمام ابن عبد الهادي، وكتابه (المحرر في الحديث) ، وبيان موضوعه، ومنهجه فيه، وثناء العلماء عليه، والدراسات حوله، ومقارنته بالكتب المقاربة له. ويعد كتاب "المحرر" في الحديث لابن عبد الهادي الحنبلي، من أهم الكتب المصنفة في أحاديث الأحكام، كما يعتبر أحد أهم كتب أدلة المذهب الحنبلي، وقد انتخبه المصنف من كتب السنة المشهورة؛ حيث قال في مقدمة الكتاب: "أما بعد، فَهَذَا مُخْتَصر يشْتَمل عَلَى جملَة من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، انتخبته من كتب الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين والحفاظ المعتمدين "كمسند" الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل، و"صحيحيّ" البُخَارِيّ وَمُسلم، و"سنَن" أبي دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، و"جَامع" أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ، و"صَحِيح" أبي بكر بن خُزَيْمَة، و"كتاب الْأَنْوَاع والتقاسيم" لأبي حَاتِم بن حَبَّان، وَكتاب: "الْمُسْتَدْرك" للْحَاكِم أبي عبد الله النَّيْسَابُورِي، و"السّنَن الْكَبِير" للبيهقي وَغَيرهم من الْكتب الْمَشْهُورَة. وَذكرت بعض من صَحِيح الحَدِيث أَو ضعفه، وَالْكَلَام عَلَى بعض رُوَاته من جرح أَو تَعْدِيل، وَاجْتَهَدت فِي اختصاره وتحرير أَلْفَاظه، ورتبته عَلَى تَرْتِيب بعض فُقَهَاء زَمَاننَا ليسهل الْكَشْف مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مُتَّفقًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَا اجْتمع البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى رِوَايَته، وَرُبمَا ذكر فِيهِ شَيْئًا من آثَار الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ". وهذا الكتاب يكتسب أهميته من ذكر الأحاديث التي يستدل بها الحنابلة وغير الحنابلة، فحصل فيه بذلك نوع من الشمول الذي تفتقده بعض الكتب الأخرى المؤلفة في أحاديث الأحكام التي تختص بالأحاديث التي يستدل بها أصحاب مذهب معين. كما أن مؤلفه له عناية بأحاديث الأحكام، وقد شهد له بذلك أهل العلم في القديم والحديث، وقد اعتنى بالكلام على الأحاديث تصحيحًا وإعلالًا على طريقة علماء الحديث المتقدمين، كما أن "ابن عبد الهادي" كان بعيدًا عن التعصب، ملتزمًا الإنصاف في الكلام على الأحاديث والأحكام والجرح والتعديل. وهو على اسمه كتاب محرر متقن مضبوط، من أدق كتب الأحكام وأشدها تحريرًا، وفيه إشارات ودقائق إلى علل الأحاديث قد لا توجد عند غيره، ولكنه لم يُعتَنَ به، فلا يوجد له شرح مطبوع، وإن التفت الناس إليه مؤخرًا، ووضعوا فيه الدروس والدورات وشرحوه بأشرطة، وهو حري وجدير وخليق بالعناية، فعلى طالب العلم أن يعتني به، فهو أنفس ما كتب في أحاديث الأحكام، وهو أمتن من "بلوغ المرام" في أحكام المؤلف على الأحاديث، لكن "البلوغ" فيه زوائد، وفيه ترتيب قد يكون أنسب لكثير من الأحاديث من ترتيب المحرر. وأصل المحرر هو كتاب (الإلمام) ، حيث اختصر منه المحرر. وقد سلك الباحث في التعريف بهذا السفر النفيس المنهج التحليلي الوصفي، وجاءت دراسته في مقدمة وفصلين رئيسين تندرج تحتهما عدة مباحث ومطالب فرعية على النحو التالي: الفصل الأول: ترجمة موجزة للإمام ابن عبد الهادي. وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ونسبته، وكنيته. المبحث الثاني: مولده ونشأته العلمية. المبحث الثالث: شيوخه. المبحث الرابع: تلاميذه. المبحث الخامس: ثناء العلماء عليه. المبحث السادس: عقيدته، ومذهبه الفقهي. المبحث السابع: مؤلفاته المبحث الثامن: وفاته. الفصل الثاني: التعريف بكتاب المحرر في الحديث. وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب، وتوثيق نسبته إلى مؤلفه. المبحث الثاني: التعريف بالنسخ الخطية للكتاب. المبحث الثالث: موضوع الكتاب، وقيمته ومنزلته العلمية. المبحث الرابع: موارد المؤلف في كتابه. المبحث الخامس: منهج المؤلف في كتابه. المبحث السادس: مقارنة بين المحرر وأشهر كتب أحاديث الأحكام، وفيه مطلبان: المطلب الأول: المقارنة بين المحرر والإلمام. المطلب الثاني: المقارنة بين المحرر وبلوغ المرام. المبحث السابع: جهود العلماء والباحثين في خدمة الكتاب، وفيه مطلبان: المطلب الأول: جهودهم في شرح أحاديث الكتاب. المطلب الثاني: طبعات الكتاب والدراسات حوله. الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات. ملحق: وفيه نماذج من صور مخطوطات الكتاب. فهرس المراجع والمصادر. وخرج الباحث بعدة نتائج من أهمها: تعريف موجز مهم بالإمام شمس الدين محمد بن عبد الهادي، ثم التعريف بكتابه ((المحرر في الحديث) )، وتناول تعريفه بالكتاب الأمور التالية: تحرير اسمه، وبيان موارده، وموضوعه، وثناء العلماء عليه وقيمته العلمية، وذكر أماكن نسخ الكتاب الخطية، والتي تيسر الوقوف عليها، مع وصف مفصل لها، وبيان المنهج الذي سلكه المؤلف في كتابه، وتميزه في كتب وأبواب كتابه، ومن ثم المقارنة بين كتاب ((المحرر) ) وأشهر كتب أحاديث الأحكام المقاربة له، ثم التعريف بجهود العلماء والباحثين في خدمة الكتاب، وتنوعهم في ذلك. ويرى الباحث أن كتاب ((المحرر) ) بحاجة لمزيد من الدراسات حوله؛ من حيث الصناعة الحديثية فيه، ومنهج المؤلف في إيراد الأحاديث، وبيان عللها، ونحوها من الأبحاث التي تخدم الكتاب وتثري محتواه وتزيد من التعريف بقيمته العلمية. وصاحب " المحرر " هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي (704 هـ - 744 هـ) ، المعروف باسم محمد بن عبد الهادي المقدسي، فقيه ومحدث ونحوي، وُلِدَ بدمشق سنة 704 هـ وتوفي سنه 744 هـ، من تلاميذ ابن تيمية، برع في علوم الحديث وعلم الرجال والنحو واللغة، ودرَّس في المدرسة الصدرية والضيائية والعمرية وغيرهم. أخذ العلم عن عدد كبير من العلماء، منهم: ابن تيمية وجمال الدين المزي، والقاضي تقي الدين سليمان، والذهبي، وابن مسلم، وأبو بكر بن عبد الدائم، وزينب بنت الكمال، وابن قيم الجوزية، وآخرون. • قال عنه ابن كثير: "حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار وتفنن في الحديث والتعريف والفقه والتفسير والأصليين والتاريخ والقراءات، وله مجامع وتعاليق مفيدة وكثيرة، وكان حافظًا جيدًا لأسماء الرجال وطرق الحديث، وعارفًا بالجرح والتعديل، وبصيرًا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيمًا على طريقة السلف وأتباع الكتاب والسنة، مثابرًا على فعل الخيرات". • قال عنه ابن حجر: " مهر في الحديث والأصول والعربية وغيرها ". • قال عنه السيوطي: "الإمام الأوحد المحدث الحافظ الحاذق الفقيه الورع المقرئ النحوي اللغوي، ذو الفنون شمس الدين، أحد الأذكياء، مهر في الفقه والأصول والعربية". • قال عنه الذهبي: "سمعت من الإمام الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي، إلى أن قال: اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في العلوم وذهن سيال". والمصنف له مصنفات كثيرة في مختلف العلوم كالتوحيد والفقه واللغة والحديث والتفسير والتاريخ، وهي تزيد على السبعين، وكثير من مؤلفاته لم يكملها لموته المبكر قبل الأربعين، منها: 1- "العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية". 2- "الصارم المنكي في الرد على السبكي". 3- "المحرر في الأحكام". 4- "اجتماع الضميرين". 5- "الأحاديث الضعاف في منهاج السنة". 6- "الأحكام الكبير". 7- "اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية". 8- "الاعلام في ذكر مشايخ الأمة الأعلام أصحاب الكتب الستة". 9- "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". 10- "تحقيق الهمز والإبدال في القراءات". 11- "تراجم الحفاظ".
مدة الحمل (أكثر مدة الحمل من القرآن) تمهيد: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد تعبدنا الله تعالى بتتبُّع الدليل والتمسك به في كل أمور الشرع الحنيف، ولا يختلف في هذا مسلم مع أخيه، وقد تكلَّم أهل العلم في مدة الحمل وعمَّ علاجهم هذه القضية مسألتين؛ الأولى: أقل مدة الحمل، والثانية: أكثر مدة الحمل، ونظرًا لاتفاق كلمتهم في المسألة الأولى وهي أقل مدة الحمل، فلن نطيل في الحديث فيها، ونظرًا لتباين كلماتهم في بيان أكثر مدة للحمل، وتباعد ما بين الآراء وصعوبة إمكانية الجمع بينها، ستزيد مساحة علاج هذه القضية عن سابقتها، ثم نختم صفحات البحث بالترجيح والخلاصة من هذا الخلاف. وسيكون الحديث في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أقل مدة الحمل في الفقه والطب. في بداية الحديث نؤكد أنه لا يثبت نسب الحمل بصفة عامة إلا إذا أتى في فترة واقعة بين أقل مدة الحمل وأكثرها [1] ، وتتباين الآراء في مثل هذه المسائل خاصة إذا علمنا أنه ليس هناك نص في هذه المسألة، وإنما سبيله الاجتهاد وحسب، فأقل الحيض والنفاس وأكثره، وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به؛ فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره الله لنا، ووُجد ظاهرًا في النساء نادرًا أو معتادًا" [2] ؛ لذا سيكون الترجيح على اعتبار ما رجحه العلماء من خلال النظر في أدلتهم على هذا التقدير والترجيح. أولًا: أقل مدة الحمل في الفقه: اتفقت كلمة الفقهاء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، منذ الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم؛ قال الإمام ابن تيمية [3] : "واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15]، مع قوله:﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ [البقرة: 233]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حَولَين، يكون الحمل ستة أشهر؛ فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع" [4] . وقال الحافظ ابن كثير [5] عن استنباط علي رضي الله عنه لهذه المسألة: "وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم" [6] . وينقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، يقول الماوردي [7] : "فأما مدة أقل الحمل الذي يعيش بعد الولادة فستة أشهر، استنباطًا من نص، وانعقادًا من إجماع، واعتبارًا بوجود؛ أما استنباط النص فقول الله:﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15]، فجعلها مدةً للحمل ولفصال الرضاع، ولا تخلو هذه المدة من أربعة أحوال: إما أن تكون جامعةً لأقلهما، أو لأكثرهما، أو لأكثر الحمل وأقل الرضاع، أو لأقل الحمل وأكثر الرضاع، فلم يجُز أن تكون جامعةً لأقلهما؛ لأن أقل الرضاع غير محدَّد، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما؛ لزيادتها على هذه المدة، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثر الحمل وأقل الرضاع؛ لأن أقله غير محدَّد، فلم يبق إلا أن تكون جامعةً لأقل الحمل وأكثر الرضاع، ثم ثبت أن أكثر الرضاع حولين؛ لقول الله: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، علم أن الباقي - وهو ستة أشهر - مدة أقل الحمل" [8] . فلزم من ذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك بطرح مدة الرضاع الكاملة (24 شهرًا) من مدة الحمل والرضاعة معًا (30 شهرًا) وفقًا للمعادلة البسيطة التالية: 30 - 24 = 6. والأمر ذاته عند أهل الطب، فإن أقل مدة حمل يمكن أن يعيش الجنين إذا وُلد بعد تمامها هي ستة أشهر (180 يومًا)، ولا يكون قابلًا للحياة إذا وُلد قبلها؛ لأن الجهاز العصبي المركزي والجهاز التنفسي لم يكتملا بعد، ويقرر الأطباء أن الجنين الذي يبلغ عمره ستة أشهر يتميز بصفة مهمة؛ وهي قدرته علي التنفس من تلقاء نفسه إذا وُلد وهو في هذا العمر، بل وتكون لديه فرصة العيش دون حضَّانة، والستة أشهر هي أقل مدة للحمل يمكن أن يُولد فيها المولود تام الخِلقة [9] . ثانيًا: أقل مدة حمل في تاريخ الطب:( premature pregnancy ) سُجلت أقل مدة حمل في التاريخ الطبي الحديث لحالتين: الأخيرة منهما لطفلة ألمانية تدعى "فريدة" بتاريخ: 7 نوفمبر 2010م، بعد حمل دام واحدًا وعشرين أسبوعًا وخمسة أيام، ويقول البروفسور "رينالد ريب" رئيس قسم الأطفال في المستشفى الذي وُلدت فيه فريدة: "أن يُكتب لهذه الطفلة الحياة، فهذه معجزة في حدِّ ذاتها؛ لأن الأجنَّة - بصورة عامة - قبل الأسبوع الثاني والعشرين لا فرصة لهم في الحياة، نسبة لعدم اكتمال نمو الرئتين والقلب والمخ"، وقد وُلدت "فريدة" بوزن (1) رطل وطولها (11) بوصة. البروفسور يؤكد عدم وجود فرصة للعيش للأطفال الذين يُولدون قبل انقضاء الأسبوع (22)؛ أي: خمسة أشهر وأربعة أيام، حتى لو وضعوا في الحاضنات الصناعية؛ لأن الأعضاء من رئتين وقلب ومخ لم تكتمل أصلًا، والحالة التي سجلها البروفسور ويتحدث عنها كانت (21 أسبوعًا) وخمسة أيام؛ أي: نقصت يومين عن الأسبوع الثاني والعشرين؛ ولذلك وصف بقاء المولودة على قيد الحياة بالمعجزة. أما الحالة الثانية التي تم تسجيلها - وتشترك مع الحالة الأولى في الرقم القياسي - فكانت لمولود كندي بتاريخ 20/ 5/ 1987م، ووُلد الطفل لحمل دام (21) أسبوعًا وخمسة أيام، كما في الحالة الأولى؛ أي: دام لخمسة أشهر ويومين بوزن رطل واحد و(624) جرامًا [10] . هذا الطفل وُلد حيًّا بعد مدة حمل مقدارها 152 يومًا، أي بفارق 28 يومًا عن الستة أشهر، فهل يعني ذلك أن الواقع يكذب الفهم الذي وصل إليه علي بن أبي طالب - ومِن بعده المسلمون - من القرآن الكريم؟! الإجابة: في ظاهرها، نعم، ولكن الأمر ليس كما يبدو، فالقرآن الكريم تحدَّث وأشار إلى أقلِّ مدة حمل بولادة طبيعية في زمن لم يكن يعرف الحاضنات الصناعية، بمعنى أن يولد المولود ويعيش من تلقاء نفسه، فالطفل المولود لستة أشهر يستطيع أن يرضع من أمه ليعيش، أما من يولدوا لأقل من هذا العمر، فلا يستطيعون العيش من تلقاء أنفسهم، وهذا ما حدث مع الأطفال الذين وُلدوا بعد مدة حمل أقل من ستة أشهر، الذين ما كان لهم أن يعيشوا لولا تقدم الطب وابتكاره حاضنات تقوم مقام الرحم، فقد كانوا دومًا يوضعون في حاضنات صناعية، وكأنهم انتقلوا من رحم إلى رحم، فهذه الحاضنات الصناعية تكمل مهمة رحم الأم بالنسبة للجنين، وفيها يكمل الجنين مدة الحمل الطبيعية أو شبه الطبيعية. والآن لنتخيل السيناريو التالي: دعونا نفترض أن العلم الحديث ابتكر أرحامًا صناعية، توضع فيها البويضة المخصَّبة، وتبدأ فيها مسيرة حياة هذه البويضة، وتستمر لتسعة أشهر مدة الحمل الطبيعية، ثم نفترض أن هذه الحاضنة تعطلت والجنين قد بلغ شهره السادس، فهل سيعيش هذا الجنين من تلقاء نفسه؟ الإجابة: نعم. أما لو تعطلت الماكنة (الرحم الصناعي) والجنين لم يبلغ شهره الخامس، فهل سيعيش؟ فإنه - واستنادًا لما ذكره البروفسور آنفًا - يستحيل أن يبقى هذا الطفل على قيد الحياة، لما ثبت لديه من استحالة عيش الجنين المولود قبل الأسبوع 22؛ لأن أعضاءه لا تكون قد اكتملت بعد. ولا يُقال إن المواليد لستة أشهر ولسبعة أشهر مثلهم مثل من يُولدون قبل ذلك يوضعون في هذه الحاضنات الصناعية أيضًا، لا يُقال ذلك؛ لأن هؤلاء يوضعون في الحاضنات عنايةً بهم وحرصًا على حياتهم، كونهم وُلدوا قبل اكتمال فترة الحمل المعتادة، مع وجود احتمال وإمكان العيش من تلقاء أنفسهم دون مساعدة الحاضنات الصناعية، أما المولود لأقل من ستة أشهر فمن المستحيل أن يعيش بدون مساعدة الحاضنات الصناعية. فالفهم المستنبط من الآيتين صحيح ومطابق للواقع، إلا أن ما لم يبيِّنه الفقه، ولم ينتبه له أو ينبِّه إليه، هو وجود اختلاف ما بين المواليد الذين استكملوا التسعة أشهر وبين من ولدوا بعد مدة حمل استغرقت ستة أو سبعة أشهر، ففي الحالة الثانية يولد الطفل غير مكتمل النمو ( Premature )، فإذا ولدت المرأة طفلًا مكتمل النمو بعد ستة أشهر من يوم الدخول بها لا يكون الولد ابنًا للزوج؛ لأن الستة أشهر غير كافية لاكتمال نمو الجنين. وبذلك يرى الدارس أن الله تعالى أعطى الفقهاء الدليل الشرعي من القرآن في بيان مدة أقل الحمل، وهم بذلك قد سبقوا أهل الطب بزمن مديد، وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور/ عبد لله حسين باسلامة، أستاذ أمراض النساء والتوليد: "الجدير بالذكر أنه في الماضي، وأقصد منذ عشر سنوات أو أكثر كنَّا ندرِّس لطلاب الطب أن أقل مدة للحمل - والتي يمكن للجنين بعدها أن يواصل الحياة خارج رحم أمه - هي سبعة أشهر وأكثر (28 أسبوعًا)؛ حيث في تلك الآونة لم تكن لدينا الأجهزة، وأقصد أجهزة العناية المركزة والمعرفة التامة بالعناية بالأطفال الخدج... والرأي العلمي الآن أصبحت أقل مدة للحمل هي ستة أشهر بعد أن كانت سبعة، والواقع أنه إلى الآن لا يزال مذكورًا في دائرة المعارف البريطانية أن أقل الحمل الذي يمكن أن يعيش هو 28 أسبوعًا أو (169) يومًا، ولا أعتقد أنه سوف يجيء يوم من الأيام ويكون في مقدور جنين أن يعيش خارج الرحم ويواصل الحياة إن هو نزل قبل هذه المدة (ستة شهور)" [11] . إذًا نستطيع أن نقول: إن الرأي الشرعي والرأي الطبي قد اجتمعت كلمتهم على أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر، بلا أدنى اختلاف. المبحث الثاني: أكثر مدة الحمل في الفقه والطب: أولًا: أكثر مدة الحمل في الفقه: تعددت آراء الفقهاء في بيان أكثر مدة للحمل، وقالوا: إن كل ما احتاج إلى حدٍّ وتقدير إذا لم يتقدَّر بشرع ولا لغة، كان مقداره بالعرف والوجود، وتفرقت إلى أربعة أقوال. آراء الفقهاء في أقصى مدة الحمل: الرأي الأول: أكثر مدة الحمل سنتان، وذلك عند الحنفية [12] ورواية للحنابلة [13] ، ودليله: قول عائشة رضي الله عنها: "ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين، ولا قدر ما يتحول ظل عود المغزل" [14] ، ولا يخفى أن قول السيدة عائشة رضي الله عنها مما لا يُعرف إلا سماعًا [15] . ويرى البعض أنه ليس بالضرورة للسماع، بل إنه "رأي بناءً على ما شاهدته أو سمعته من أحوال النساء، ولم يكن بناءً على السماع من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المدة - وهي السنتان - وإن كانت لا تُدرك بالعقل، ولكن يمكن معرفتها عن طريق المشاهدة أو الإخبار عنها، وأبعد ما تكون عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام" [16] . الرأي الثاني: أكثر مدة الحمل أربع سنوات، وذلك عند الشافعية [17] ، وظاهر مذهب الحنابلة [18] ، ورأي عند المالكية [19] . ومن أدلتهم: قول الإمام مالك بن أنس بعد أن ذُكر له قول عائشة رضي الله عنها: "ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين، ولا قدر ما يتحوَّل ظل عود المغزل"، فقال: "سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة صدق، وزوجها رجل صدق، وحملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين" [20] . والسؤال أين مدة الرضاع عند هذه المرأة التي ولدت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل أربع سنوات ثم تلد، وهكذا؟ فقد تكون لم تَرَ الحيض خلال فترة الرضاع، أو انقطع عنها الدم لسبب آخر ثم حملت قبل أن تراه، فحكم على كامل المدة أنها مدة حمل، وقد تكون حالة نادرة وليست عامة، والله أعلم بالصواب [21] . الرأي الثالث: أكثر الحمل خمس سنين، وهذا هو المشهور عند المالكية، ورُويَ عن مالك سبع سنين [22] ، ولعل دليلهم هو الاستقراء. الرأي الرابع: أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، وذلك عند الظاهرية وبعض فقهاء المذاهب [23] . ومن أدلتهم: أنه غالب مدة الحمل تسعة أشهر، وندرت الزيادة عليها، ولأن المطلَّقة ذات الأقراء إذا ارتفع حيضها، ولم تَدْرِ ما سببه تعتدُّ سنة، تسعة أشهر منها لتعلن براءة رحمها من الحمل؛ لأن هذه غالب مدته، ثم تعتدُّ عدة الآيسات ثلاثة أشهر، هذا مذهب مالك وأحد قولي الشافعي ومذهب الحنابلة، وقد اختاره ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه ولا مخالف له من المهاجرين والأنصار [24] . الرأي الراجح: وبعد هذا الاستعراض لآراء الفقهاء وأدلتهم في تحديد أقصى مدة الحمل، وقد وجدنا كتبهم مشحونةً بحكايات المولودين لثلاث وأربع وخمس وسبع سنوات، وكلها حكايات لا سند لها من الصحة؛ إذ قد تكون المرأة راغبةً في الحمل فتنتفخ بطنها، وقد تغيب عادتها الشهرية لقوة الوهم وتأثيره النفسي عليها، فتقول إنها حامل ويصدِّقها مَن حولها [25] . لكن الإشكال أن القصص التي ذُكرت في التدليل على نظرية الحمل المستكين، مثل قصة حاملة الفيل تتحدث – خلافًا للنظرية نفسها - عن مواليد وضعتهم أمهاتهم غلمانًا، فالنساء في هذه القصص يلدن أطفالًا بأحجامٍ وأشكالٍ غير معهودة، وهي قصصٌ واضح فيها أن الجنين لم يكن مستكينًا، وإنما كان في حالة نموٍّ دائمٍ؛ أي: إن القصص التي أخذوا منها نظرية الحمل المستكين تناقض النظرية نفسها وتنقضها، وينقل الشنقيطي [26] بعضًا من هذه الروايات : روي أنه بينما مالك بن دينار يومًا جالسٌ، إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى، ادع لامرأتي؛ حُبْلَى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك وأطبق المصحف، ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنَّا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلامًا، فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره [27] . وقد جمع الإمام ابن حزم [28] هذه الأقوال السابقة، ثم شدَّد على كونها لا سند لها، وأنها أقوال فاسدة، قال: "وكل هذه أخبار مكذوبة، راجعة إلى من لا يُصدَّق ولا يُعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا" [29] . والراجح كما تبنَّاه السادة العلماء بعد تمحيص الأقوال، يقول الدكتور البار: "فأنتهي من حيث ابتدأت بأن المتفق عليه أن تحديد هذه المدة لا توقيف فيه ولا اتفاق، وما اعتمده الفقهاء من تحديد استند إلى وقائع جزئية لا تفيد تقديرًا صحيحًا وعامًّا لأقصى مدة الحمل، وكأن ما ارتكزت آراؤهم عليه هو انقطاع حيض المرأة، وهو في الغالب علامة حملها، وقد تطول فترة الانقطاع ثم يحصل بأمر الله الحمل دون أن ترى المرأة الدم، فتبني مدة الحمل على خطأ واشتباه؛ ظنًّا أن مدة الانقطاع مضافًا إليها مدة الحمل الحقيقية كلها مدة للحمل. وتبقى غالب مدة الحمل تسعة أشهر، وإنما بنى فقهاؤنا الأجلَّاء أحكامهم على ما ثبت وجوده، وقد وُجد من تعدَّت بحملها التسعة أشهر، فوجب اعتباره؛ لما يترتب عليه من الأحكام الشرعية، وهذا لا يعني الوقوف عند ما توصلوا إليه وعدم الاستفادة من التسهيلات العلمية والطبية المتاحة، بل إن الرجوع والاستناد إلى أصحاب التخصص في تحديد مدة الحمل أصبح لزامًا، خصوصًا عند الاختلاف والتعارض" [30] . وتقول الدكتورة جميلة الرفاعي: "الرأي المختار: إن الواقع والذي يقبله العقل - كما أرى - هو قول ابن حزم، ويُرَدُّ قول غيره لضعف أدلتهم، وقد قمت باستشارة أهل الطب فأكدوا أن أقصى مدة للحمل هي عشرة أشهر؛ لأن المشيمة بعد الشهر التاسع تبدأ بالشيخوخة، وهي التي تغذي الجنين؛ لذا لا يبقى الجنين أكثر من هذه المدة، وقد أكد هذه المعلومة الأستاذ يحيى الخطيب في رسالة الماجستير التي قدَّمها للجامعة الأردنية، وقد أورد مقابلات مع مجموعة من الأطباء؛ كالدكتور أحمد ترعاني اختصاصي النسائية والتوليد، وكذلك الدكتور محيي الدين كحالة، وكذلك تخصصه في النسائية والتوليد، وقد أثبتا أن الحمل قد يصل إلى عشرة شهور، ولا يزيد على ذلك، وغالبية النساء يصل الحمل عندهن إلى الشهر التاسع، كما أن ما استدل به من آثار عن سعيد بن المسيب وعائشة وعمر لم تثبت [31] . فتقرَّر من هذا أن الغالب فيه هو التسعة أشهر التي جرت بهن العادة والعرف، وإن زادت المدة إلى عشرة فذلك مقبول ووارد، وانتفى غير ذلك لعدم وروده في الشرع الحنيف. ثانيًا: قول الطب في أكثر مدة الحمل: ( overdue pregnancy ) أكثر مدة حمل لمولود استمرَّ حيًّا بعد ولادته سُجِّلت في التاريخ الطبي الحديث من بعد اكتشاف التحاليل المخبرية (الفحص الهرموني) كانت في العام 1945، لسيدة أمريكية اسمها (بولا هنتير) وكان عمرها 25 عامًا، بمستشفى (ميثوداست) بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وكانت مدة الحمل 375 يومًا؛ أي: سنة و10 أيام، وبعض الأطباء كان يرى أن فترة الحمل عند هذه السيدة قد تكون أقل قليلًا من 375 يومًا، بموجب حسابهم لوقت انقطاع الدورة الشهرية عند المرأة آنذاك وإثبات الحمل بالفحص الهرموني، فقد قالت (بولا هنتير) أن دورتها توقفت في 10 فبراير 1944، وثبت الحمل لدى الأطباء في 24 مارس 1944م، وقد ولدت الطفل بوزن يزيد عن 6 أرطل قليلًا، وقبل هذه السيدة كانت تحمل الرقم القياسي سيدة أخرى بمدة بلغت 317 يومًا؛ أي: ما يُعادل عشرة أشهر و17 يومًا (انظر في الرابطين) [32] . هاتان الولادتان موثقتان، ومؤيدتان بالفحص الهرموني، وما عداهما من حوادث مروية لا يمكن اعتماده والأخذ به طبيًّا، لأنها ببساطة كانت قبل اكتشاف الفحص الهرموني الذي اكتُشف في العام 1930م تحديدًا، وبهذا الفحص الهرموني يمكن تحديد بداية الحمل بدقة عالية إلى جانب الموجات الصوتية، ومن يتصفح الموضوع على الإنترنت سيجد من النساء من تدعي استمرار حملها لمدة سنتين أو أكثر، وأمثال هؤلاء لا يُلتفت لادعائهن؛ لأن كلامهن غير مُثبت بالفحوصات. أكثر مدة للحمل رُصدت من قِبَل الأطباء بلغت سنة واحدة، وهو رقم مطابق للاستنتاج الذي وصلنا إليه من تتبُّعنا لآيات القرآن الكريم، علمًا بأن الأطباء - ولأسباب عديدة - حاليًّا لا يسمحون باستمرار الحمل لأكثر من تسعة أشهر؛ لأن المشيمة (التي تغذي الجنين) تبدأ في الضعف تدريجيًّا، فإذا بلغ الحمل نهايته لم تعد قادرة على إمداد الجنين بالغذاء الذي يحتاجه لاستمرار حياته، فإن لم تحصل الولادة عانى الجنين من نقص الغذاء، فإذا طالت المدة ولم تحصل الولادة يموت الجنين في الرحم؛ ولهذا السبب العلمي نعلم أن من المستحيل أن يدوم الحمل لسنوات كما في المدونات الفقهية والفتاوى التي تفتقر إلى تحقيق المناط كما هو مقرر عند الأطباء. ولو ادَّعت امرأة أنها حملت لمدة (12) شهرًا (كحد أقصى للحمل)؛ فلا بد وأن تظهر على الجنين ملامح تدل على مكوثه هذه المدة، تمامًا كالطفل المولود لستة أشهر، فإن مستوى نموه يتناسب مع فترة مكوثه؛ ولذلك يكون الطفل المولود لستة أشهر أقل نموًّا من الطفل المولود لتسعة أشهر، وبنفس المنطق فإن الطفل المولود لسنة يكون نموُّه أكثر من نمو الطفل المولود لتسعة أشهر، لأن نموَّ الجنين لا يتوقف لحظةً واحدةً، هو إنسان، ومن خصائصه النموُّ في سنوات عمره الأولى، ومنها الفترة التي يمضيها جنينًا في بطن أمِّه؛ طالت هذه الفترة أو قصُرت. وكلنا نعلم اليومَ أن الأطباء لا يسمحون باستمرار الحمل بعد المدة المعتادة، ويستخدمون وسائل صناعية لإخراج الجنين بعد انقضاء فترة الحمل الطبيعية، إلا أن يكون هذا الاستمرار الذي يدَّعون حصوله يحصل مع أناس يعيشون في الأدغال، ولو جاءت امرأة للقاضي، وقالت: إن الأطباء يقرُّون باستمرار حملها سنوات فيجب أن يُعرف أنها كاذبة؛ لأنهم لن يسمحوا باستمرار الحمل أكثر من المدة المعهودة، وسوف يستخدمون الوسائل الصناعية أو العملية القيصرية لإنهاء الحمل بسبب خطورته على الأم والجنين معًا. وقد اختلفت تقديرات الأطباء، والتي لم تكن في مجملها بعيدةً ذاك البعد الذي وجدناه بين الفقهاء، فكان كلامهم في أقصى مدة يمكثها الحمل ثم يولد حيًّا، على النحو الآتي: 1 - الرأي الأول: أنها عشرة أشهر. وهو رأي الدكتور أحمد ترعاني، والدكتور محيي الدين كحالة اختصاصي النسائية والتوليد؛ لأن المشيمة التي تغذِّي الجنين تصاب بالشيخوخة بعد الشهر التاسع، وتقل كمية الأكسجين والغذاء المارَّين من المشيمة إلى الجنين، فيموت الجنين. 2 - الرأي الثاني: أنها (310) يومًا. وهو رأي الدكتور محمد علي البار؛ حيث قال: "أما أكثر الحمل عند الأطباء فلا يزيد عن شهر بعد موعده - وقد ذكر أنه (280) يومًا - وإلا لمات في بطن أمه". 3 - الرأي الثالث: أنها (330) يومًا. وهذا رأي الدكتور أحمد محمد كنعان، وقد ورد هذا الرأي في توصيات ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية، حيث جاء في هذه التوصيات: "والاعتبار أن مدة الحمل - بوجه التقريب - مائتان وثمانون يومًا تبدأ من أول أيام الحيضة السوية السابقة للحمل، فإذا تأخر الميلاد عن ذلك، ففي المشيمة بقية رصيد يخدم الجنين بكفاءة لمدة أسبوعين آخرين، ثم يعاني الجنين المجاعة من بعد ذلك، لدرجة ترفع نسبة وفاة الجنين في الأسبوعين الثالث والأربعين والرابع والأربعين، ومن النادر أن ينجو من الموت جنينٌ بقيَ في الرحم خمسة وأربعين أسبوعًا. ولاستيعاب النادر والشاذ تُمَدُّ هذه المدة اعتبارًا من أسبوعين آخرين... لتصبح ثلاثمائة وثلاثين يومًا" [33] . الترجيح: يقول الدكتور أحمد كنعان: "والذي يظهر لي رجحانه: أن أكثر مدة الحمل: ثلاثمائة وثلاثون يومًا؛ إذ هي أقصى ما قيل عند الأطباء في أكثر مدة الحمل، والأحوط كما قال القائلون به للحالات الشاذة والنادرة" [34] . وامتدادًا لهذا الترجيح قالت القوانين كلمتها، فقد جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الأحوال الشخصية الموحَّد للإقليمين المصري والسوري في عهد الوحدة بينهما: "وبعد استفتاء الأطباء الشرعيين جعلت المدة سنة شمسية في التشريعين القائمين في الإقليمين - مصر وسوريا إبان الوحدة بينهما - وهذا تقدير سليم يؤيده رأي محمد بن عبدالحكم، وفيه احتياط كافٍ للحالات النادرة" [35] . المبحث الثالث: الخلاصة والترجيح: أما القول في حكم القرآن في بيان أكثر مدة للحمل، ليكون هو الحكم الفصل، على كل قول تكلم بلسان الشرع، ونصَّ على حكم الشريعة في هذه القضية، التي يترتب عليها كثير من الآثار في حياة الناس. أكثر مدة الحمل من القرآن: من الواضح للعيان أن الآيات التي جاءت في موضوع الحمل والرضاعة إنما جاءت من أجل بيان جملة أحكام؛ كأجرة الرضاعة، والتحريم بالرضاعة، ونسب المولود، ولم تكن في مجملها آيات مباشرة في النطق بأكثر مدة الحمل وأقله، أو أكثر مدة الرضاعة وأقلها، إلا أن الأحكام نفسها اقتضت معرفة هذه الحدود، واقتضت النظر في نفس الآيات من أجل الوصول لهذه المعرفة. يقول الله تعالى في بيان أحكام الرضاعة في سورة الطلاق: ﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6]، فالآية موضوعها الأجرة على الرضاعة، وما دام هناك التزام مالي يترتب على الرضاعة في حالة الطلاق على الأقل، فلا بد وأن يبين الله مدة هذه الرضاعة التي يترتب عليها هذا الالتزام المالي، والحكم الآخر الذي يترتب على الرضاعة هو حكم الرضاعة المحرِّمة الجارية مجرى النسب. ونجد عند مالك والشافعي وكثير ممن تابعوهم في الرأي القول بأن الرضاعة المحرِّمة هي ما كان في الحولين؛ استنادًا لقوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، وهذا التعيين أو التخصيص بحولين كاملين ينسحب على حكم الأجرة للمطلقة على الإرضاع؛ لأن القرآن يبين بعضه بعضًا، فالمطلقات يصِرْنَ بالوضع بائنات، وتنقطع أحكام الزوجية مثل لزوم إرضاع الأم لمولودها، ويُفهم من قوله: ﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ﴾ أن إرضاع الولد بعد الطلاق حقٌّ على الأب، فإن أرادت أمه أن ترضعه فهي أحق بذلك من غيرها، ولها - حسب الآية - أجر الإرضاع... فالحولان هما الأصل، وهما الحد الأعلى، وعند عدم الضرورة ليس على المرأة أن تُتم الحولين، ويجوز لها أن تفطمه قبل ذلك إذا لم يتضرَّر رضيعها بالفطام؛ استنادًا لقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، لكن ليس هناك زيادة على الحولين، ولا أحكام تتصل بما زاد عن الحولين. كما أن أحكام النسب استوجبت معرفة أقل مدة الحمل؛ لأننا بموجب هذا العلم والمعرفة صرنا نحكم بأن من جاءت بولد بعد ستة أشهر من زواجها فإن الولد للزوج. إن آية الأحقاف: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] ظهر منها لعلي بن أبي طالب ومن تبعه دون عناء أقل مدة الحمل، وإذا لم يظهر من الآية أكثره، أو لم يكن بيانه مقصودًا منها؛ فلا غرابة؛ لأن الغالب في أكثره (تسعة شهور) ظاهرٌ للعيان، ولا يحتاج إلى مزيد بيان، لكن ولأن الفقه خاض في أكثر مدة الحمل وقال فيها شططًا، وصار هذا الشطط دينًا متَّبعًا، وترتبت على هذه الأقوال أحكامٌ كما ترتبت على معرفة أقل مدة الحمل - كان لا بد من الرجوع للآيات لنستنطقها بأكثر مدة الحمل. قول الله تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] وضع حدًّا للحمل والرِّضاع معًا، فلا يكون "حمل ورضاع" أكثر من الحد الذي حدَّه الله تعالى في الآية الكريمة محلًّا لاستنباط الأحكام أو لأي بحث شرعي، فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل نقص من مدة الرضاع، فالحمل والرضاع لا يصح أن يتجاوزا معًا مدة ثلاثين شهرًا في أي بحثٍ شرعي، فهل يمكن لنا - من خلال الآية - معرفة مدة الحمل ومدة الرضاع كل على حدة؟ والآية الكريمة: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] صريحةٌ في أن مدة الحمل والرضاع معًا (30) شهرًا مهما كانت مدة الحمل، فالنص يعمُّ أقل الحمل وأكثره، ومن المسلَّمات التي يعرفها كل البشر أن الحمل الطبيعي (9) أشهر وليس (6) أشهر، وصار مسلَّمًا لدينا أيضًا - وبموجب النص من القرآن - أن أقل مدة للحمل هي (6) أشهر، والأشهر الستة مبينة في الآيات، وكأنها مذكورة لفظًا؛ ذلك أن الفرق بين العامين والثلاثين شهرًا هو ستة أشهر، وذكرنا أن النص يحتمل أقل الحمل وما يزيد عنه، وهذا القول ليس اعتباطًا، وبالضرورة ليس باطلًا لمجرد أنه غير ظاهر في الآيات حسابيًّا، ليس اعتباطًا؛ لأن الآية بمجرد ذكرها للحمل سيرد للذهن الحمل الاعتيادي الذي يزيد عن الحمل المستنبط حسابيًّا بثلاثة أشهر، فلا بدَّ وأن نسأل أين ذهبت الثلاثة أشهر التي تُتم الفترة المعتادة للحمل؟ وليس باطلًا؛ لأن الآية كما أن لها منطوق، لها مفهوم، فكون الآية نطقت بالرقم (30) للحمل والرضاع، كان لا بدَّ لمفهومها - بربطها مع غيرها - أن يبين لنا حد الرضاع والحمل كل على حدة بحدهما الأعلى والأدنى. ولأن حد الحمل والرضاعة معًا ثلاثون شهرًا، فإن أي زيادة في الحمل عن ستة أشهر تعني النقصان في الرضاعة (وهو قول ابن عباس أيضًا) بمعنى: (6) أشهر حمل = (24) شهرًا رِضاعة، وهذه رِضاعة مكتملة بنص القرآن. (7) أشهر حمل = (23) شهرًا رِضاعة، هنا نقصت الرضاعة شهرًا واحدًا. (8) أشهر حمل = (22) شهرًا رِضاعة، هنا نقصت الرضاعة شهران. (9) أشهر حمل = (21) شهرًا رِضاعة، هنا نقصت الرضاعة 3 أشهر. والسؤال المهم هُنا: إلى أي حد ستنقص الرضاعة؟ وما هي أكثر مدة ممكنة للحمل؟ والجواب أن الرضاعة ستنقص إلى المقدار الذي لا يختل به معنى الإتمام الوارد في قوله تعالى: ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾، فصار مفهومًا لدينا من الآية الكريمة: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] أن كل طفل يُولَد يجب أن يساوي مجموع مدة حمله ومدة رضاعته ثلاثين شهرًا (حمل + رِضاعة = 30 شهرًا)، فإن طال أمد الحمل قصرت فترة الرضاعة، وإن نقص أمد الحمل زادت فترة الرضاعة، بحيث يبقى المجموع ثلاثين شهرًا، وأقصى مدة للرضاعة عند إتمامها (24) شهرًا؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، وهذه يقابلها طبعًا أقل فترة حمل وهي (6) أشهر حتى لا تختل المعادلة التي تقضي بأن مجموع الحمل والرضاعة (30) شهرًا، والمفهوم هنا أن أقصى مدة رضاعة يقابلها أقل فترة حمل، وأقصى مدة حمل يقابلها أقل فترة رضاعة. وللتعرُّف على أقل فترة للرِضاعة، ومن ثَمَّ معرفة أقصى حد للحمل، لا بد لنا - كما أسلفنا - من فهم معنى الإتمام والوقوف عند كلمة (يُتِمَّ) في قوله تعالى: ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾. أما معنى (تَمَّ يَتِمُّ تَمًّا وتُمًّا وتَمامةً وتَمامًا) في اللغة، فإن تَمامَ الشيء: ما تمَّ به، وأَتمَّ الشيءَ وتَمَّ به يَتِمُّ: جعله تامًّا، وتَتِمَّة كل شيء: ما يكون تَمام غايته، كقولك (هذه الدراهم تمام هذه المائة وتَتِمَّة هذه المائة)، وليلُ التِّمامِ: أَطول ما يكون من ليَالي الشِّتاء، وما ليس تامًّا فإن فيه نقصًا، والإتمام هو: إزالة نقصان الأصل، والتمام: اسم للجزء الذي يتم به الموصوف؛ أي: اسم للجزء الذي يتم به إزالة النقصان [36] . ومن هذه المعاني نعلم أن تمامة الشيء تكون بإضافة القليل (الجزء الناقص عن حد التمام) إلى الكثير، وليس العكس؛ أي: لا نسمي إضافة الكثير إلى القليل إتمامًا، الكثير الغزير يسمى فيضًا وليس تمامةً، والماء حين يأتي بكثرة يسمى فيضانًا. وقد جاءت آيات القرآن الكريم موافقةً لهذا المعنى؛ مثل قوله تعالى في سورة القصص: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ﴾ [القصص: 27]، فالآية جعلت من زيادة الشيء القليل (الخمس) إتمامًا وتمامةً، والآية في سورة الأعراف جعلت من زيادة الربع إتمامًا؛ قال تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، ولو كانت الآية (وواعدنا موسى عشر ليال) وأردنا إضافة ثلاثين عليها، فلا يستقيم أن نقول: (وأتممناها بثلاثين)، فإضافة الثلاثين إلى العشرة ليست إتمامًا ألبتة، بل إضافة العشرة إلى الثلاثين هي الإتمام. الإتمام جاء في الآية الأولى بزيادة اثنين من أصل عشرة (2/ 10)؛ أي: بزيادة الخُمُس (20%)، وفي الآية الثانية جاء الإتمام بزيادة عشرة من أصل أربعين (10/ 40)؛ أي: بزيادة الربع (25%). فأقصى حد للإتمام كما ورد في القرآن الكريم هو الربع، وهو متفق مع معنى الإتمام في اللغة، فإنك لو أضفت نصفًا إلى نصف لا يكون إتمامًا؛ لأنهما تساويا، فلا ينطبق على نصف منهما أنه متمم للآخر بمعنى أنه إزالة للنقص الذي فيه، فتساوي النصفين ينفي معنى النقص في أحدهما بالنسبة للآخر، فيبطل إمكانية استخدام ألفاظ الإتمام عند إضافة النصف إلى النصف، فكان لا بد من جزء أقل من النصف لإعطائه وصف الإتمام والتمامة، وهو الربع كما ورد في سورة الأعراف. فلو أخذنا الربع كحدٍّ أعلى للإتمام، فإن تمامة الرضاعة تقديرًا تساوي ربع فترة الرضاعة القصوى، وفترة الرضاعة القصوى أربعة وعشرون شهرًا، وبذلك يكون أعلى حد للإتمام ستة أشهر؛ أي: ربع الأربعة وعشرين شهرًا، وفقًا للمعادلة التالية: (24 * ¼ = 6). فلو طرحنا أعلى حد الإتمام (التمامة) من الفترة القصوى للرضاعة التامة المعتبرة شرعًا وفقًا للمعادلة التالية: 24 – 6 = 18، نكون قد حصلنا على أقل فترة للرضاعة = 18 شهرًا، وما زاد عن 18 شهرًا، فهو إتمام. ووفقًا للمعادلة المتفق عليها وهي: (أطول فترة للحمل + أقل فترة للرضاعة) = 30، فتكون بذلك الفترة القصوى لأكثر مدة الحمل 12 شهرًا وفقًا للمعادلة التالية: أطول فترة للحمل والرضاعة معًا (30) – أقل فترة للرضاعة (18) = (12) الفترة القصوى لأكثر مدة الحمل. والخلاصة أن أقل مدة الحمل من القرآن (6) أشهر، وأكثرها (12) شهرًا، وأن الحمل الطبيعي - المعلوم لدى كل الناس - هو (9) أشهر، ولم يحدث ولن يحدث أن تحمل امرأة لأكثر من 12 شهرًا؛ فبالدليل من القرآن الكريم نستنج أن أكثر مدة الحمل هي 12 شهرًا. وكل هذا استنادًا لنفس المعادلة الأولى التي استخرج سيدنا عليٌّ منها أقل مدة الحمل، والتي لم يختلف معها أو يخالفها أحد. ولا مناص من قبول هذه النتيجة لكل من يستدل من القرآن على أن أقل مدة الحمل ستة شهور؛ لأن أكثر الحمل - مثله مثل أقل الحمل - جاء في القرآن الكريم، وبنفس المعادلة التي استعملها سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في استنباط أقل مدة الحمل. وعلى كل الأحوال، فإني أجد من الواجب عليَّ أن أقول لمن تُعيي عقله المعادلات الرياضية، ولمن لا يريد أن يقبل أن معادلة أكثر مدة الحمل موجودة في القرآن، مع أنه قَبِل أن معادلة أقل الحمل موجودة فيه!! ويُقال لهؤلاء: إن آيات القرآن، وأحكام الإسلام، جاءت معالجة لمشاكل ووقائع ومسائل واقعية، ليست حلولًا لقضايا افتراضية خيالية مبنية على قصصٍ أقرب ما تكون إلى الخرافة. [1] الفقه الإسلامي وأدلته، أ. د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِي، دار الفكر - سوريَّة – دمشق، ط: 4، (10/ 7250). [2] الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي، تحقيق أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط: 2، 1384هـ (9/ 288). [3] شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم، ابن تيمية، الحراني، الفقيه المفسر الحافظ المحدث، ولد بحران ثم تحول به أبوه إلى دمشق، وتوفي سنة 728 هـ، من تصانيفه: السياسة الشرعية، والفتاوى، والجمع بين النقل والعقل، ومنهاج السنة، والفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان، والواسطة بين الحق والخلق، والصارم المسلول على شاتم الرسول، وشهرته واسعة تغني عن تعريفه؛ [انظر: فوات الوفيات (1/ 74)، الوافي بالوفيات (7/ 11)]. [4] مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1416هـ (34/ 10) . [5] هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين: حافظ مؤرخ فقيه، من كتبه: البداية والنهاية، وطبقات الفقهاء الشافعيين، وتفسير القرآن الكريم، واختصار علوم الحديث رسالة في المصطلح شرحها أحمد محمد شاكر، بكتاب الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث، توفي سنة 774 هـ؛ انظر: [الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (1/ 445، 446)، الأعلام للزركلي (1/ 320)]. [6] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1419هـ (7/ 258). [7] علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي: أقضى قضاة عصره، من العلماء الباحثين، أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة، من كتبه: أدب الدنيا والدين، والأحكام السلطانية، والنكت، والعيون، توفي سنة 450 هـ؛ [انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 282)، الأعلام للزركلي (4/ 327)]. [8] ينظر في نقل الإجماع: الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البغدادي الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1419هـ / 1999م (11/ 204، 205)، تشنيف الأسماع ببعض مسائل الإجماع، وليد بن راشد السعيدان (61). [9] أكثر مدة الحمل، د سعد الخثلان، أ. د. سعد بن تركي الخثلان (1/ 6). [10] صحيفة ديلي تليغراف البريطانية، 23 أبريل 2011. [11] مدة الحمل من الوجهة الشرعية (الفقهية) والطبية، مدة الحمل وأكثرها، (ورقة عمل)، أ. د. عبدالله حسين باسلامة، المجمع الفقهي، الدورة الحادية والعشرون للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة (6). [12] فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبدالواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر (4/ 352). [13] المغني شرح مختصر الخرقي، أبو محمد موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، دار إحياء التراث العربي، ط: 1 (8/ 98). [14] الأثر أخرجه سعيد بن منصور في سننه، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الهند، ط: 1، 1403هـ - 1982م، 2/ 94، حديث رقم (2077)، والدارقطني في السنن، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 1، 1424هـ - 2004م، 4/ 499، حديث رقم (3874)، والبيهقي في السنن الكبرى، تحقيق الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، ط: 1، 1432هـ/ 2011م، 15/ 581، حديث رقم (15644). [15] فتح القدير، ابن الهمام (4/ 362). [16] الآثار المترتبة على الطلاق، مريم أحمد الداغستاني أستاذ الفقه جامعة الأزهر، الأمل للطباعة والنشر (277). [17] بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي، لأبي المحاسن عبدالواحد بن إسماعيل الروياني، دار الكتب العلمية، بيروت (11/ 394). [18] المطلع على دقائق زاد المستقنع (فقه الأسرة)، لعبدالكريم بن محمد اللاحم، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط: 1، 1431هـ - 2010م (5/ 46). [19] الشرح الممتع على زاد المستقنع، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار ابن الجوزي، بيروت، ط: 1، 1422هـ (13/ 338). [20] فتح القدير، ابن الهمام (4/ 362). [21] العدة من الموانع المؤقتة للنكاح، دراسة فقهية، الدكتورة ليلى بنت سراج صدقة أبو العلا، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (84/ 234). [22] جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، شمس الدين محمد بن أحمد بن علي المنهاجي، تحقيق مسعد عبدالحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1417 هـ - 1996م (2/ 153). [23] الفقه الإسلامي وأدلَّته (10/ 7252). [24] العدة من الموانع المؤقتة للنكاح (84/ 237). [25] مدة الحمل أقله وأكثره في الطب والشرع والقانون، د. محمد علي البار، المجمع الفقهي الإسلامي (10). [26] أضواء البيان، لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م (2/ 227 ). [27] الخبر رواه الدارقطني في السنن (4/ 501) برقم (3879)، واللالكائي في كرامات الأولياء، تحقيق أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، السعودية، ط: 8، 1423هـ/ 2003م (9/ 247)، برقم (184)، والبيهقي في الكبرى 15/ 583 برقم (15649) . [28] علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد: عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمة الإسلام، أشهر مصنفاته: الفصل في الملل والأهواء والنحل، وله: المحلى، وجمهرة الأنساب، وديوان شعر، وطوق الحمامة، توفي سنة 456 هـ، سير أعلام النبلاء، الذهبي (18/ 184)، الأعلام للزركلي (4/ 254). [29] المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، دار الفكر – بيروت (10/ 133) . [30] السابق (84/ 239). [31] أحكام الأحوال الشخصية للمرأة الحامل، د. جميلة الرفاعي (21). [32] مجلة "التايم" الأمريكية، 5 مارس 1945. http://content.time.com/time/magazine/article/0,9171,797153,00.html [33] مدة الحمل بين الفقه والطب وبعض قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة، د. محمد سليمان النور (30). [34] الموسوعة الطبية الفقهية، الدكتور أحمد محمد كنعان (376). [35] مدة الحمل بين الفقه والطب وبعض قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة، د. محمد سليمان النور (29). [36] ل سان العرب، محمد بن مكرم بن على ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط: 3، 1414هـ (12/ 67)، تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد بن عبدالرزاق الملقب بمرتضى الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية، الكويت (31/ 332).
قيومية الله عز وجل وقوامة الإنسان أبدأ بوجيز القول في اسمي الله تعالى الحي والقيوم، والتزام قيوميَّته تعالى بحياته، واقتضاء حياته لقيوميته، ثم أفرد بعض الحديث عن علاقة قيومية الله عز وجل بمفهوم القوامة البشرية لفظًا وتعبدًا، وعن انعكاس النسبة بين اسمي الله الحي والقيوم في النسبة بين القوامة والرجل، وأسأل الله عز وجل التوفيق وحسن البيان. إن اسمي الله تعالى "الحي القيوم" أكثر ما وردا مقترنين ببعضهما، وذلك لما بينهما من لزوم واقتضاء؛ قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [طه: 111]. أولًا: الحي: هذا الاسم يثبت لله عز وجل حياته الكاملة، وكمال الحياة في أزليتها: بانتفاء أسبقيتها بالعدم، وفي أبديتها: بألا يلحقها فناء، وفي صفتها: بألا يعتريها نقص أو عيب بشتى صوره، فمثلًا: النوم نقص، والنَّصَب نقص، وضعف السمع والبصر والعلم من العيوب، وكله - لزامًا لكمال حياته تعالى - ينتفي عن الله عز وجل، فالله تعالى كامل السمع والبصر والعلم، والله تعالى لا ينام، ولا يؤوده أو يتعبه شيء، وتتكرر صور النقائص في الحياة البشرية وغيرها، فتنتفي عن الله عز وجل، فالنَّصَب، واللغوب، والمرض النفسي، والكآبة، والغرور، والخمول، وكل النقائص والعيوب المتخيلة في الإنسان وغيره لا تليق بالله عز وجل، ولذلك لما كملت حياة أهل الجنة - على ما يليق بهم - انتفى عنهم الموت، فاتسموا بالخلود، وانتفى عنهم النصب واللغوب فجوزوا بالنعيم، وانتفت عنهم نقائص لا تحصى، وحلت محلها كمالات لا يوفيها ثناء. وبحياته الكاملة سبحانه قد استحق العبادة المطلقة، فلا ند له ولا مثيل في هذا الكمال! ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ [الفرقان: 58]، ﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 65] . ثانيًا: القيوم: هذا الاسم يثبت لله عز وجل قيوميته على عباده، وهي على جزأين: أن الله تعالى قائم بنفسه، وأنه مقيم لغيره، وهذا لا يكون بغير حياة كاملة على النحو المفصل أعلاه، فالنائم أو المريض لا يقوم بنفسه فضلًا على أن يقوم بغيره، ولعل هذا سبب اقتران الاسمين ببعضهما في أكثر مواضع القرآن، ومقتضى اتصاف الله تعالى بالقيومية هو غناه التام عن الخلق، وقدرته الكاملة وتدبيره الدائم لهذه المخلوقات، بما فيها من إمداد لهم بصفة الحياة أصلًا، فهو الغني عن الخلق، والخلق لا غنى له عن ربه : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾ [الروم: 25]، ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الرعد: 33]. وعلى ما سبق، فإن اسم الله تعالى الحي يثبت لله كمال صفاته الذاتية كلها، واسمه القيوم يثبت له كمال صفاته الفعلية كلها، ولا قيام بلا حياة، وحياة بلا قيام حياة ناقصة، وعليه كذلك، فإن الله تعالى استحق بحياته درجة القيومية لا ينازعه فيها غيره، والمخلوقات على أمره قيام. ثالثًا: القوامة: إن القوامة مفهوم مقتبس من قول الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]. وهي في لفظها مشتقة من القيام، مادة اسم الله تعالى القيوم، وإن التعبد بأسماء الله عز وجل له صوره على حسب معانيها، فأسماء كالرحيم والبر والمحسن محل العبادة فيها الاقتداء، وأسماء كالعظيم والمتكبر والجبار محل العبادة فيها التنزيه، وكل يحمد الله عز وجل به، واسم الله تعالى القيوم محل العبادة فيه تنزيه مطلق من ناحية - فهو شامل لمعاني القدرة والغنى - والاقتداء من ناحية أخرى، فإن الله تعالى قد سود الإنسان كله على الأرض، ووضع على المؤمن مسؤولية الاستخلاف، وجعل على عاتقيه دعوة ألا إله إلا الله كلمة خفاقة لا يجوز أن تسقط ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ [التوبة: 40]، وبسط للإنسان بسنته الكونية والشرعية أطر سير الزمان وأشكال آفاق المكان، ثم ينبثق من ذلك المفهوم تفصيلة صغيرة لا تكاد تكون شيئًا أمام هذا التصور المجمل البديع، لكن الله عز وجل جعل لها من الأثر ما قد يعيث في التصور نفسه الفساد طامًّا، وما قد يشكله رقعة وراء رقعة، لبنات حتى يكتمل البناء! القوامة في منظومة الزواج الإسلامي هي فرع عن هذا التصور المجمل، تبدأ بمبتدئه، وهو معرفة الله عز وجل، وتنتهي بمنتهاه، وهو عبادته سبحانه، وقضية القوامة متعلقة بثلاثة نقاشات معاصرة أضعها في شكل أسئلة، فالأول: لمن تكون، ولِمَ؟ والثاني: ما محل السيادة فيها؟ وما محل المسؤولية؟ والثالث: ما أثرها في سير الحياة الزوجية والإنسانية؟ وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد من تأسيس عقَدي لمنظومة الزواج في الإسلام، وإن التصورات التي تشكلها العقيدة الإسلامية لمنظومة الزواج على أربعة محاور: 1- الغاية من العلاقة: هي في الأصل الإعفاف لطرفيها بداية، وإنتاج الأولاد الذين هم صمام دوام الأمة، والمعنى في ذلك إصلاح النفس الحاضرة، وتأهيل نفوس الخلفاء للصلاح. 2- طبيعة العلاقة: تصل بنا إلى أعلى درجات المودة الصادقة، فالعطاء فيها ليس مطلوبًا على حال دون حال، والأصل فيها هو البذل غير المشروط؛ ابتداءً من الفروض التي جعلها الله على الطرفين، إلى ما لا يتناهى من صور التضحية المستمرة عن طيب خاطر ورغبة، على ألا يطوي أحد الطرفين في نفسه على ثقل أو اكتراث، والزواج يزداد في قراره بازدياد المودة، ولذلك كان الملاذ الوحيد للمتحابين كما صرح نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، واللطف هنا أن الزواج في أمنه وقراره وسَعته يطوي على المودة والمشاركة بكافة صنوفهما المتفرقة، فهو دفء للمتحابين في شتاء مشاعرهم، وحياة لغير ذوي الحب، يبث فيهم مواد المودة والرحمة والإخلاص. 3- الأدوار في العلاقة: موزعة على الطرفين بالشكل الذي يحقق الغاية المذكورة في المحور الأول، على النحو الذي يحافظ على طبيعة العلاقة في المحور الثاني، وجعل الله حدودًا في ذلك وأدوارًا واجبة لكل طرف بما يناسب خلقته، ويتماشى مع فطرته بانسجام، وجعل الله تعالى مساحة بعد للتبادل والتشاور والاختيار، والأصل في التربية أن المرأة أصبر على الأطفال صغارًا، والرجل أقدر على الأبناء كبارًا، وبينهما اختلاط لا ينحسر بكل حال، والأصل في التمويل أن الرجل أقدر على مسؤوليته، وأكثر جلدًا على ضغوطه ومشقاته، ولهذا ارتبطت نفقة الأسرة بمسؤولية الرجل صراحة مكشوفة في القرآن. 4- الولاية: فيها حتمية لأن الأسرة كيان لعدة أفراد، وصلاح أمره لا يكون إلا بالولاية الفردية لأحد الأفراد على بقيَّتهم، ومعلوم أن الرجل أقدر على الإدارة على العموم لقلة قفزاته العاطفية، فيندر أن يتغير من رأي إلى رأي، أو أن يتلون من شعور إلى شعور، إلا أن تواجد سبب منطقي مستحق. وعلى هذا الأساس، فإن القوامة قد جعلت للرجل دون المرأة لزيادة فيه عنها، وكما استلزمت قيومية الله عز وجل حياة كاملة، فما قوامة الرجل إلا لزيادة في حياته عن حياة المرأة، فالرجل أقوى جسدًا، وأصلب نفسًا، وأحضر ذهنًا على طبيع الحال، وأيُّما نقصت حياته تنقص قوامته، ومتى زادتْ الحياة فيه فالقوامة تزداد. وبطبيعة الحال كذلك، فإن المرأة تتصف بالحياة، فهي قادرة على القيام بنفسها وعلى غيرها، وإن لها من بعض القيام الخاص ما قد يَعجِزُ عنه الرجل لنقص فيه، كالقيام على حاجات الأطفال رضاعة وعطفًا وعناية. وعلى هذا الأساس، فإن الرجل مسؤول عن قرارات بيته كلها، رأيه كان فيها أو رأي غيره، فهو المسؤول الأول، وغالبًا هو المسؤول الأوحد، وإن الرجل مسؤول على حاجات بيته كلها: حاجات مادية من زاد لعياله، وحاجات نفسية من وداد لصاحبته، وعطف على ولده، وتسوية وتهذيب لشعور رعيته وأحوالهم، وحاجات ربانية من تعريف رعيته بربهم، والأخذ بأياديهم إلى كل خير، وكما أن الله عز وجل لا يظلم، ولا يغفل، ولا ينسى، فإن القائم مطالب على الدوام اقتداءً بألا يظلم، وألا يفرط، وألا يتعمد معاملة بيته بالنسيان، وحتى لا يعامل الولي بالتمرد، جعل الله تعالى لصاحب القوامة نصيبًا من الطاعة فيما لا معصية لله فيه، فإن كانت قيومية الله عز وجل تقتضي خضوعًا تامًّا من مخلوقاته تعبدًا، وإن كان هذا ينعكس في التصور المجمل لقيام الإنسان بدور الخلافة وسلطته على الأرض - كخضوع صنوف الكائنات والموجودات للإنسان - تعبدًا لله، فإن قوامة الرجل تقتضي صورًا من الخضوع القولي والفعلي تعبدًا كذلك لله، فلا يخالف الأمر، ولا يتجاوز النهي، ويؤخذ الإذن من صاحب القوامة في مواضع كثيرة مما يخص شؤون البيت وغيره . وعلى هذا الأساس، فإن أثر استقامة أمر القوامة هو تحقق الغاية المرجوة من الزواج، فالرجل يجد الزوجة البارة، والمرأة تجد الرجل القويم، والأبناء يجدون البيت الرباني الذي يكبرون فيه على سواء فطري سليم، وهذا أدعى لانسجام الأزواج مع اتصافهم بالحياة، وأرجى لصلاح حياة الأبناء تباعًا، والنتيجة: أمة حية قائمة على كلمة الله، يعرف أفرادها أن أدوارهم من الله ولله، وأن درجتهم في أدوارهم عبادٌ لله، وأن حقيقة حياتهم وقيامهم هي الله ..
الإمام ابن عثيمين الفقيه الكبير والزاهد العظيم في كل زمان من الأزمنة، وفي كل عصر من العصور يهيئ الله للأمة علماء ربانيين، وفقهاء وزهادًا، يحفظون للأمة دينها، وينشرون العلم والمنهج الصحيح، الذي يرتضيه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. ومن هؤلاء العلماء الربانيين الكبار بل من أوائلهم وعظمائهم: صاحب الفضيلة والمعالي، بحر العلوم، ومستودع الحكم؛ سماحة الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين؛ المعروف بابن عثيمين رحمة الله عليه. لم يكن ابن عثيمين عالمًا وفقيهًا فحسب، بل كان شمسًا تضيء الدرب وقمرًا ينير الطريق. ابن عثيمين هو إنسان نادر من الربانيين الكبار الذين وصلوا إلى أعلى درجات الولاية، وأعظم درجات الاصطفاء. كان الإمام ابن عثيمين عالمًا وفقيهًا، ومربيًا عظيمًا، ومفسرًا ومحدِّثًا، وبعبارة مختصرة: كان ابن عثيمين موسوعة متنقلة تمشي على الأرض. إن الكلمات تعجز، والعبارات تقف حائرة عندما يأتي الحديث عن إمام الأئمة، وشيخ الشيوخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى. فإذا تحدثت في العقيدة والتوحيد، تجد ابن عثيمين في المرتبة الأولى مقررًا وشارحًا ومصنفًا. وإذا أتيت إلى الحديث والتفسير، تجد ابن عثيمين قد نال من ذلك النصيب الأوفى؛ فهو بعلمه الغزير خليفة أحمد والبخاري، ووريث ابن كثير والطبري. وأما في الفقه والنحو، فمن يدرك ابن عثيمين؟ ومن يستطيع اللحاق به؟ وحسبه أنه مؤلف السفر العظيم المسمى (الشرح الممتع على زاد المستقنع). وأما في الزهد، فابن عثيمين هو الزاهد الكبير الذي ترك الدنيا ومغرياتها ومتعها، ورغب فيما عند الله، وما عند الله خير وأبقى. لقد ضرب سماحة الإمام ابن عثيمين مثلًا رائعًا في الزهد، ذكَّرنا من خلاله بسير أسلافنا، وبطريقة الصالحين الكبار؛ كالثوري، وأحمد بن حنبل. إن ابن عثيمين هو نسيج وحده، وهو أمة وحده، بلغ العلياء في العلم والفقه، والورع والزهد، وحب الخير للناس، ومساعدة الناس، وإرشاد المسلمين وتعليمهم أمور دينهم، واستحق الإمام ابن عثيمين بعلمه وورعه أن يكون من أكابر المجددين والمصلحين، الذين يجددون للناس دينهم ويصلحون أحوالهم. وأنا على تقصيري وعجزي لست أهلًا للتحدث عن إمام الإسلام في زماننا، وشيخ الشيوخ؛ العلامة الفقيه الموسوعي ابن عثيمين رحمه الله تعالى، ولكنه جهد المقل المعترف بالعجز والتقصير، ساعيًا لتوضيح العلامة ابن عثيمين، وتجلية حياته ومواقفه العلمية؛ راجيًا من الله العون والتوفيق والسداد، وأن أنصف هذا الإمام العظيم من خلال بيان سيرته. اسمه ونسبه: هو الإمام الرباني العظيم شيخ الإسلام والمسلمين، إمام أهل السنة في زماننا، العلامة الفقيه المفسر المحدث الأصولي المتفنن الزاهد الورع، أبو عبدالله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي، المعروف بالإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وأجزل له الثواب. مولد الإمام ابن عثيمين: ولد الإمام ابن عثيمين في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم في المملكة العربية السعودية، في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1347هجرية. ومنذ ذلك الحين ما زال الإمام ابن عثيمين منارة علم وهدى يهتدي بها السائرون، ويستضيء بها المسلمون. ولقد ولد الإمام ابن عثيمين في أسرة كريمة معروفة بالدين والاستقامة؛ مما كان له أطيب الأثر في نشأته. أسرة الإمام ابن عثيمين: ولد الإمام في أسرة علمية صالحة، ومن أسرته وشيوخه الذين تتلمذ عليهم جده لأمه الشيخ عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله تعالى. والإمام ابن عثيمين متزوج من امرأة واحدة، وله خمسة أولاد هم: عبدالله، وعبدالرحمن، وإبراهيم، وعبدالعزيز، وعبدالرحيم. وللإمام من الإخوة اثنان؛ هما: الدكتور عبدالله كان رئيسًا لقسم التاريخ في جامعة الملك سعود في الرياض، والأمين العام لجائزة الملك فيصل، وله كذلك أخ اسمه عبدالرحمن. حلية الإمام ابن عثيمين وصفاته: كان الإمام ابن عثيمين ربعة من القوم، كث اللحية، وهي لحية قد اشتعلت شيبًا. أزهر اللون، مليح الوجه، متبلج الأسارير، وضَّاء الجبين، باسم المحيا، أكحل العين، ذكي النظر، خافض البصر، ضليع الفم، براق الثنايا، لطيف الروح، خفيف الجسم، قليل اللحم، قوي العزم، خفيض الصوت، بديع النغمة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم فعليه البهاء، جميل الحديث، فصيح إذا لفظ، نصوح إذا وعظ، لا يقول هجرًا، ولا ينطق هذرًا، كلامه يثمر علمًا، ويبين حكمًا، ويوضح شرعًا. هذا عن صفات الإمام الخلقية والجسدية، وأما عن أخلاقه وشمائله، فقد كان الإمام ابن عثيمين واسع العلم، غزير المعرفة، متبعًا للسنة، إمامًا لأهلها، مجانبًا للبدعة، متصديًا لأهلها. كان عظيم الأخلاق، طيب الشمائل، كريم الروح، سخي النفس، عَلَمًا من أعلام المسلمين، وشيخًا من شيوخ المؤمنين. كان الإمام ابن عثيمين أمة في رجل، نعم كان أمة وحده، جمع الله فيه الفضائل، ووهب له المحاسن، ورفع في العالمين درجته. وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحدِ كان الإمام ابن عثيمين زاهدًا عظيم الزهد، ورعًا شديد الورع، علمًا من أعلام الزهد، ولا أبالغ إن قلت: إنه زاهد الزمان الأوحد. كان الإمام ابن عثيمين رحمه الله رضي الخلق، حسن السمت، لطيف التعامل، خفيف الظل، دائم الابتسامة، حسن الوجه، متهلل الجبين، لين الجانب، مهذب العبارة، لا يستكبر ولا يتعاظم، حفيًّا بالعلماء، متأسيًا بهم، مترحمًا عليهم، تحلى بأجمل الأخلاق، لا يدخر وسعًا، ولا يعرف كللًا، ولا يضن بعلمه، ولا يفتر عن نهجه، ولا يبخل بعونه، ولا يحتفظ بكتبه، ولا يتمسك بحقوق تأليفه. عنصر كريم، ومعدن شرف عظيم، أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، متمكن في علمه، متأنٍّ في كلامه، مدقق في عباراته، موثق لنصوصه، محترم لجمهوره، مهتم بطلابه، معتنٍ بمريديه، مكرم لمجيئيه، مسعد لمسامريه، مؤنس لمجالسيه، عالي الهمة، عظيم الغيرة، ساكن الهيبة، رقيق الحاشية، خفيض الصوت، ذكي الفؤاد. وهبه الله توقد القريحة، ونفاذ البصيرة، وقوة الفهم، ووضوح الحجة، وبيان المحجة، وجمال الروية، وصفاء النية، وسلامة الطوية، مع كريم الخلق، وطيب التعامل، ونقاء السيرة، وحسن الإبانة، وعميق الديانة، وأداء الأمانة، وتألق اللغة، وتأنق العبارة، ودقة الإشارة، وعذوبة اللفظ، وغزارة الحفظ، ومتانة الكلام، وإجادة الإفهام، وجزالة الأسلوب، وكسب القلوب. إلى غير ذلك من الصفات والخصال والشمائل الحميدة الرشيدة؛ فرحمه الله ورضي عنه. وأغلب هذا الكلام نقلناه من كتاب (ابن عثيمين الإمام الزاهد). نشأة الإمام ابن عثيمين وطلبه للعلم: نشأ الإمام ابن عثيمين في بيئة علمية في مدينته عنيزة، وحفظ القرآن الكريم على يد جده لأمه؛ الشيخ عبدالرحمن بن دامغ رحمه الله، ثم توجه إلى طلب العلم، فتعلم الخط والحساب، وبعض فنون الآداب. وكان الإمام ابن عثيمين قد رُزق ذكاء وزكاء وهمة عالية، وحرصًا على التحصيل العلمي، وحضور مجالس العلماء الكبار، وعلى رأسهم العلامة المفسر الكبير عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى، الذي كان يسكن عنيزة، فتوجه الإمام ابن عثيمين إلى مجلسه لينهل من معين علمه. وكان العلامة السعدي قد عين اثنين من طلابه لتعليم الصغار؛ وهما: الشيخ علي الصالحي، والشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع، فدرس الإمام ابن عثيمين في بداية الأمر عليهما، وقرأ عليهما كتبًا عدة؛ منها (مختصر العقيدة الواسطية) للشيخ السعدي، والآجرومية، وألفية ابن مالك، وغيرها من الكتب. وبعدها رحل الإمام ابن عثيمين لطلب العلم في الرياض حين فتحت المعاهد العلمية سنة 1372 هجرية فالتحق الإمام للدراسة فيها. يقول الإمام ابن عثيمين عن تلك الفترة: "دخلت المعهد العلمي في السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي، وبعد أن استأذنت من الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين: خاص، وعام، فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت من شاء أن يقفز بمعنى أنه يدرس السنة المستقبلة له في أثناء الإجازة، ثم يختبرها من أول العام الثاني، فإذا نجح انتقل إلى السنة التي بعدها، وبهذا اختصرت الزمن، ثم التحقت بكلية الشريعة في الرياض منتسبًا، وتخرجت منها). واستغل الإمام ابن عثيمين وجوده في الرياض، فدرس على سماحة الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى، وقرأ عليه من صحيح البخاري، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية. يقول الشيخ ابن عثيمين عن شيخه الإمام ابن باز: (لقد تأثرت بالشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله، من جهة العناية بالحديث، وتأثرت به من جهة الأخلاق أيضًا وبسط نفسه للناس). وبعد وفاة شيخه العلامة عبدالرحمن السعدي سنة 1376 هجرية بفترة استلم الإمام ابن عثيمين إمامة الجامع الكبير في عنيزة خلفًا لشيخه، وحينها تصدر للتدريس مكان شيخه. وقد نقلنا ما سبق من كتاب (ابن عثيمين الإمام الزاهد) للشيخ مسفر الزهراني. شيوخ الإمام ابن عثيمين: درس الإمام ابن عثيمين على يد مشايخ كثيرين في عنيزة ثم في الرياض؛ وإليك أسماء أبرز مشايخه: 1- العلامة الكبير عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى المفسر المشهور والعالم الجليل، صاحب التفسير الشهير باسم: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، في ثمانية مجلدات، وله غيره الكثير من المؤلفات الممتعة. وتخرج على يد الشيخ السعدي علماء كبار، وفقهاء أجلاء، وأكبرهم وأجلهم سماحة الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى. وكانت أكثر استفادة ابن عثيمين وطلبه للعلم على يد الشيخ السعدي، فقد لازمه أحد عشر عامًا، ينهل من معين علمه الصافي، وكان من طلابه البارزين؛ ولذلك كان هو خليفة الشيخ في إمامة الجامع الكبير في عنيزة والتدريس فيه والإفتاء. 2- سماحة الإمام الأجل عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: الإمام الكبير والعلامة الشهير، شيخ الإسلام، ومفتي المسلمين، وهو أحد أشهر علماء الأمة في هذا الزمان. درس عليه الإمام ابن عثيمين في الرياض، كما مر معنا. 3- العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، المفسر الكبير والشيخ الجليل، صاحب التفسير الممتع المشهور باسم: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). درس عليه الإمام ابن عثيمين في المعهد العلمي بالرياض. قال عنه الإمام ابن عثيمين: "استفدنا من علمه وسمته وخلقه وزهده وورعه". 4- الشيخ علي الصالحي رحمه الله تعالى، وهو من كبار تلاميذ العلامة السعدي. 5- الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع رحمه الله تعالى. قرأ عليه الإمام ابن عثيمين كتبًا مختلفة، وهو أيضًا من كبار تلاميذ العلامة السعدي. 6- الشيخ عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله تعالى، وهو جد الإمام لأمه، وقد حفظ على يديه القرآن الكريم. 7- الشيخ عبدالرحمن بن علي بن عودان رحمه الله تعالى. قرأ عليه الإمام بعض كتب الفقه، كما درس عليه علم الفرائض (المواريث). تلاميذ الإمام ابن عثيمين: كان سماحة الإمام ابن عثيمين من العلماء القلة الذين تشد إليهم الرحال، ويتوافد إلى بابهم طلاب العلم من كل مكان؛ رغبة في الاستفادة من معين علمه، والتزود من عظيم معارفه، وللإمام تلاميذ كثر في مختلف العلوم، وسنذكر اثنين من كبار تلاميذه وعلمائهم على سبيل المثال، ولولا خشية الإطالة، لذكرنا الكثير منهم: 1- العلامة الكويتي عثمان الخميس، وهو شيخ معروف، وعالم واسع العلم، اشتهر بمناظراته للرافضة على وسائل الإعلام، واهتم بالرد على الشبهات الرافضية، ومن مؤلفاته كتاب الأحاديث الواردة في شأن السبطين الحسن والحسين رضي الله عنهما. وكتاب حقبة من التاريخ، وكان يشرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، منذ فترة قريبة، حفظه الله تعالى. 2- الشيخ العلامة الأديب ناصر بن مسفر الزهراني، يعود نسبه إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، فهو قرشي نسبًا، زهراني حلفًا، وهو من كبار تلاميذ الإمام ابن عثيمين، والإمام ابن باز، وهو شيخ واسع العلم، وشاعر من أفضل الشعراء في عصرنا، وهو أول من ألف كتابًا عن سيرة الإمام ابن عثيمين بعد وفاته سماه: (ابن عثيمين الإمام الزاهد)، وهو كتاب عظيم ماتع رائق. علوم الإمام ابن عثيمين: كان الإمام ابن عثيمين بحرًا من بحور العلم، واسع الاطلاع، غزير المعرفة، كثير النفع والإفادة للناس عامة، ولطلبة العلم خاصة. ومن الجميل في سماحة الإمام ابن عثيمين أنه عالم موسوعي، برع في مختلف العلوم، وبلغ العلياء في كل الفنون. ففي العقيدة هو الإمام الكبير، والعالم الجليل الذي جمع كبريات المسائل بعلمه، ويبسط أعقد الأمور بفهمه العميق الراسخ، ومن يناظر مؤلفات الإمام في العقيدة - كالقول المفيد - يجد سعة العلم وغزارة الفهم ودقة التعبير وجودة الشرح. وفي الفقه هو الإمام الفقيه الذي لا يشق له غبار، الذي برع في الفقه، ونبغ نبوغًا ما وصل إليه منذ أزمان إلا القلة، ولا أدل على ذلك من كتابه العظيم وسفره الجليل: (الشرح الممتع على زاد المستقنع). وأما في الحديث وفقهه ومعناه ومصطلحه، فهو آية عظيمة في ذلك؛ يبسط المعقد، ويشرح المشكل، ويبين معنى المستغرب، وكل ذلك بأسلوب واضح ماتع رائق. وبالجملة، فقد كان سماحة الإمام ابن عثيمين مجددًا من مجددي الدين، وعلمًا من أعلامه، وإمامًا من أئمته. ولا ريب أن الإمام ابن عثيمين مجدد للدين من سادات المجددين، ولا يوجد ما يمنع تعدد المجددين في الزمان الواحد، فقد يوجد أكثر من مجدد عظيم في زمان واحد، وفي زماننا قد هيأ الله تبارك وتعالى ثلاثة مجددين عظماء، جدد الله بهم الدين، وأيَّده؛ وهم: الإمام الكبير ابن باز، وصاحب الترجمة الإمام الجليل ابن عثيمين، والإمام العظيم الألباني، رحمهم الله جميعًا. فالإمام ابن عثيمين مجدد من خيرة المجددين وساداتهم. قال الشيخ ناصر بن مسفر الزهراني وهو يتحدث عن الإمام ابن عثيمين وعلومه في مقدمة كتابه الممتع (ابن عثيمين الإمام الزاهد): "ألقت إليه رئاسة العلم مقاليدها، وملكته طريفها وتليدها، فأظهر مكنون قديمها، في ثوب جديدها، واختار بذكائه أفضل الآراء وسديدها. طلعت شمس الفقه من أفق أفكاره، وتفجرت ينابيع العلم من خلال آثاره، وجرت في نفوس المحبين روائع أنهاره، جلا بكلامه الأبصار الكليلة، وشحذ بمواعظه الأذهان العليلة، وسلك في طريق العلم خير وسيلة، ولن يهزم من كان الكتاب والسنة دليله. إنه بدر العلوم اللائح، وقطرها الغادي الرائح، وعقال الأفكار عن جامح، وعنوان اللطف والعفو والتسامح. تستخرج الجواهر من بحوره، وتحلى الأوراق بقلائد سطوره. شيخ المعارف وإمامها ومن في يديه زمامها. يحوك الألفاظ على قدر المعاني، ويسوق الكلام حسب الأماني. إذا أذكى سراج الفكر أضاء ظلام الأمر، واستنبط روائع العلوم، وأبان عن بديع الفهوم. لقد كان رحمه الله فيما نحسبه من حزب الله المفلحين وأوليائه الناصحين، ومن أئمة الإسلام المعدودين، الذين حفظوا على الناس روعة الدين ...". وقد أجاد الشيخ ناصر بن مسفر، وأفاد في هذه الفقرة، وعبر فيها بالتعابير الماتعة الرائقة. مؤلفات الإمام ابن عثيمين: كان سماحة الإمام ابن عثيمين غزير العلم، واسع المعرفة، وكان بحق موسوعة علمية كبيرة، وجامعة تخرج على يديها آلاف الطلبة، ومن مظاهر غزارة العلم عند الإمام كثرة مؤلفاته، وتنوعها في مختلف العلوم والفنون، فألف في التفسير، وألف في الفقه والعقيدة والحديث ومصطلحه، وهكذا في جميع الأبواب. وبعض مؤلفات الإمام فرغت من تسجيلات صوتية له، ودروس صوتية، ثم طبعت في كتاب مستقل كشرح الأربعين النووية. وتتميز مؤلفات سماحة الإمام بالتوسع في الشرح، واستيعاب الموضوع من جميع نواحيه، وتتميز كذلك باتباع الدليل، حتى وإن خالف مذهبه الحنبلي، وتتميز بالاهتمام بآثار السلف، وغيرها من المميزات العظيمة التي ميزت كتب الإمام ابن عثيمين عن غيرها، وجعلتها في الذروة العليا من حيث سعة العلم، ورحابة الصدر أثناء الشرح والتوسع والاتباع لنهج طريق السلف الصالح. وقد بلغت مؤلفات الإمام ابن عثيمين عددًا كبيرًا تجاوز المائة، ووصلت إلى 181كتابًا ورسالة، وكلها من المؤلفات العظيمة في مختلف العلوم الشرعية، ولنذكر بعضًا من مؤلفاته وكتبه التي ذاعت شهرتها في الآفاق، وتداولها الخاصة والعامة؛ فمن مؤلفاته: كتاب "الشرح الممتع على زاد المستقنع"، وهو من أهم مؤلفاته وأعظمها، وكتاب "القول المفيد على كتاب التوحيد"، وكتاب "التعليق على صحيح البخاري"، وكتاب "التعليق على صحيح مسلم"، وكتاب "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام"، وكتاب "شرح رياض الصالحين"، وكتاب "شرح الأربعين النووية"، وكتاب "تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام"، وكتاب "شرح مشكاة المصابيح"، وكتاب "شرح نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"، وكتاب "شرح المنظومة البيقونية"، وكتاب "التمسك بالسنة النبوية وآثاره"، وكتاب "شرح العقيدة الواسطية"، وكتاب "فتح رب البرية بتلخيص الحموية"، وهو أول كتاب طبع للإمام. وكتاب "شرح الأصول الثلاثة"، وكتاب "شرح كشف الشبهات، ومعه شرح ستة أصول عظيمة مفيدة". وكتاب "شرح نونية ابن القيم"، وكتاب "تقريب التدمرية"، وكتاب "شرح تقريب التدمرية"، وكتاب "شرح العقيدة التدمرية"، وكتاب "شرح العقيدة السفارينية"، وكتاب "شرح اقتضاء الصراط المستقيم"، وكتاب "مباحث في أصول الدين"، وكتاب "رسالة في القضاء والقدر"، وكتاب "الأدلة على بطلان الاشتراكية"، وكتاب "التعليق على لمعة الاعتقاد"، وكتاب "عقيدة أهل السنة والجماعة"، وكتاب "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى"، وكتاب "الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع"، وكتاب "أصول في التفسير"، وكتاب "شرح أصول في التفسير"، وكتاب "شرح مقدمة في التفسير"، وكتاب "الإلمام ببعض آيات الأحكام"، وكتاب "التعليق على القواعد الحسان في تفسير القرآن"، وكتاب "أحكام من القرآن الكريم"، وكتاب "فوائد التقوى من القرآن الكريم"، وكتاب "تفسير سورة الفاتحة والبقرة"، وكتاب "تفسير سورة آل عمران"، وكتاب "تفسير سورة النساء"، وكتاب "تفسير سورة المائدة"، وكتاب "تفسير سورة الكهف"، وكتاب "تفسير جزء عم"، وكتاب "التعليق على الكافي في فقه الإمام أحمد"، وكتاب "التعليق على الروض المربع"، وكتاب "فقه العبادات"، وكتاب "صفة الصلاة"، وكتاب "مجالس شهر رمضان"، وكتاب "رسالة في زكاة الحلي"، وكتاب "مناسك الحج والعمرة"، وكتاب "فقه الحج"، وكتاب "تلخيص أحكام الفرائض"، وكتاب "مجموعة أسئلة تهم المرأة المسلمة"، وكتاب "الأصول من علم الأصول"، وكتاب "نيل الأرب من قواعد ابن رجب"، وكتاب "شرح نظم الورقات"، وكتاب "شرح مختصر التحرير"، وكتاب "مختارات من إعلام الموقعين"، وكتاب "مختارات من زاد المعاد"، ومن مؤلفات الإمام ابن عثيمين كتاب "التعليق على نور اليقين في سيرة سيد المرسلين"، وكتاب "شرح ألفية ابن مالك"، وكتاب "شرح الآجرومية"، وكتاب "شرح الدرة اليتيمة في النحو"، وكتاب "مكارم الأخلاق"، وكتاب "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة"، وكتاب "من مشكلات الشباب"، وكتاب "دور المرأة في إصلاح المجتمع"، وكتاب "موقف المسلم من الفتن"، وكتاب "العلم"، وكتاب "شرح حلية طالب العلم"، وكتاب "المناهي اللفظية"، وكتاب "فتاوى نور على الدرب"، وكتاب "الضياء اللامع من الخطب الجوامع". وغير ذلك الكثير من الكتب والمؤلفات الجليلة. وأنت ترى هذا العدد الهائل من مؤلفات الإمام، وكل هذا، وما ذكرت إلا قرابة نصف مؤلفاته، فرحمه الله، ورضي عنه، ما أوسع علمه وأكثر نفعه! المناصب التي تولاها الإمام ابن عثيمين: بعد أن تعرفنا على سيرة هذا الإمام العظيم، والشيخ الرباني الجليل، وتعرفنا على صفائه ونقائه، وسعة علمه، واقتران القول بالعمل في سيرته العطرة، فلا بد أنه قد تولى المناصب الرفيعة، ووصل إلى المراتب العالية، ولا عجب، فالإمام ابن عثيمين تتزين به المناصب، وتزداد به جمالًا وبهاء، ولقد التزم سماحة الإمام ابن عثيمين في كل المناصب التي تولاها السيرة الحسنة، والورع والزهد، وإفادة الناس وحب النفع لهم، والحرص على الخير. ولقد كان الإمام زاهدًا في كل المناصب، وما تولى منصبًا إلا لينفع الناس؛ ومن المناصب التي تولاها الإمام: 1- عضوية هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية منذ عام 1407 هجرية وحتى وفاته رحمه الله. 2- بدأ التدريس في الجامع الكبير بعنيزة عام 1370 هجرية في حياة شيخه العلامة السعدي، ثم تم تعيينه مدرسًا في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374 هجرية. 3- تولى إمامة الجامع الكبير في عنيزة والخطابة فيه والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية عام 1376 هجرية، ولما كثر الطلاب وتجاوزوا المئات، انتقل الإمام للتدريس في الجامع الكبير بعنيزة بدل المكتبة. 4- تولى التدريس في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم منذ عام 1398 هجرية وحتى وفاته. 5- أسس جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة عام 1405 هجرية، واستمر رئيسًا لها حتى وفاته. 6- كان عضوًا في المجلس العلمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واستلم رئاسة قسم العقيدة فيها. 7- عضوية لجنة الخطط ومنهاج المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وألف بعض المناهج الدراسية فيها. 8- التدريس في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف في رمضان والحج والعطل الصيفية. فهذه أبرز مناصب الإمام ابن عثيمين رحمه الله تعالى. جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام: في عام 1414 هجرية أعلن فوز الإمام ابن عثيمين بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام من قبل القائمين على الجائزة. وقد ذكرت اللجنة عدة أسباب أدت إلى منح الإمام الجائزة؛ منها: 1- تحليه بأخلاق العلماء الفاضلة. 2- انتفاع الكثيرين بعلمه تدريسًا وإفتاء وتأليفًا. 3- مشاركته المفيدة في مؤتمرات إسلامية كبيرة. ولا يخفى على المطلعين أهمية هذه الجائزة ومكانتها، وسماحة الإمام رحمه الله جدير بكل جائزة وثناء. الزهد في حياة الإمام ابن عثيمين: كان سماحة الإمام ابن عثيمين زاهدًا عظيمًا من كبار الزهاد، ومن أعلام الزهد ليس في عصرنا فحسب، بل في تاريخ الإسلام الطويل. كان زهد الإمام ابن عثيمين زهدًا حقيقيًّا صافيًا نفيًا نابعًا من إيمان عميق ورغبة عظيمة فيما عند الله، وما عند الله خير وأبقى. كان الإمام ابن عثيمين يستطيع أن ينال من زينة الدنيا وزهرتها ما يشاء، وما يحلو له بسبب مكانته العالية وشهرته الذائعة، ولكنه ترك هذا كله، وخلف الدنيا ومتاعها وراء ظهره، غير مبالٍ بها ولا ناظر لها. لقد ارتمت الدنيا بزينتها ومتاعها أمام أقدام الإمام ابن عثيمين، لكنه رفضها، وفضل الزهد والتخفف من الدنيا؛ ليبني داره في الآخرة في جنات النعيم بإذن الله. كان الإمام ابن عثيمين زاهدًا في كل شيء، وكانت ثيابه التي يرتديها لا تساوي إلا ثمنًا زهيدًا، وكان قمة في البساطة، وكان لا ينام على سرير، بل ينام على الأرض أو على حصير يؤثر في جنبه؛ يقول الشيخ عائض القرني: (دخلت مرة على الشيخ ابن عثيمين في مكة المكرمة فوجدت بيده إبرة يخيط بها ثوبة). لقد أهدى أحد الأمراء في المملكة العربية السعودية منزلًا للإمام ابن عثيمين، فاعتذر عن السكن فيه مفضلًا التبرع به. يحدثنا الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي عن موقف من مواقف الزهد في حياة الإمام ابن عثيمين؛ فيقول ضمن كلام له عن الإمام: "والأمر الثاني مفاجأته لي وأنا مدير للجامعة بتقديم ظرف بداخله مبلغ من المال، فسألته عن قصته، فذكر أنه قدم له مقابل محاضرات ألقاها في كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم، وكان وقتها رحمه الله على ملاك معهد عنيزة العلمي، وإن وقت هذه المحاضرات اقتطعه من الوقت المخصص لتأليف المقررات الدراسية للمعاهد العلمية، وبذلك لا أستحق ما صرف لي". فلله در هذا الإمام العظيم ما أحسنه! وما أعظمه! وقد نقلنا هذه التفاصيل من كتاب (ابن عثيمين الإمام الزاهد). وفاة سماحة الإمام ابن عثيمين: لو كُتب الله لأحد الخلود في هذه الدنيا، لكان سيدنا ونبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه أحق الناس به، ولكن الموت لكل إنسان سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. إن هذه الدنيا دار عمل، فلا خلود لأحد فيها، والموافاة يوم القيامة. مرض سماحة الإمام ابن عثيمين في آخر حياته، واكتشف مرضه متأخرًا في مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، ثم أُجريت له فحوصات أخرى في مستشفى الملك فيصل التخصصي، واختلف الأطباء في طريقة العلاج النافعة، ثم سافر سماحته إلى أمريكا للاطمئنان على صحته، وهناك استقر رأي الأطباء على علاج الإمام بالأشعة، وجرعات مخففة من الكيماوي أولًا، ثم بالكيماوي وحده لاحقًا. وعاد الإمام إلى المملكة، وبدأ رحلة العلاج في مستشفى الملك فيصل التخصصي، وعولج بالأشعة فعلًا. ولكن الأطباء رأوا أن سلبيات علاجه بالكيماوي أوضح من إيجابياته ففضلوا عدم علاجه به، وهكذا كان مرض الإمام ابن عثيمين، وجاور الإمام في المسجد الحرام في شهر رمضان سنة 1421 هجرية في أيامه الأخيرة. وفي يوم الأربعاء الخامس عشر من شوال سنة 1421 هجرية، وقبيل صلاة المغرب توفي هذا القمر المنير سماحة الإمام ابن عثيمين في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، وهز نبأ وفاته العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. وصلى على سماحة الإمام في يوم الخميس السادس عشر من شوال في المسجد الحرام، وصلى عليه عشرات الآلاف من الناس قدموا للصلاة عليه من جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، يتقدمهم وزير الداخلية السعودي يومها الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود والعلماء الكبار، وكانت جنازة الإمام جنازة مهيبة عظيمة شهدها عشرات الآلاف، وامتلأت الشوارع والساحات بهم وما وصلت الجنازة إلى السيارة إلا بعد جهد من شدة الزحام، ثم دُفن، رحمه الله تعالى. وفي يوم الجمعة صلى على الإمام ابن عثيمين صلاة الغائب في المسجد الحرام، وفي كل مساجد المملكة العربية السعودية وخارجها. وتوالت برقيات التعزية ومقالات الرثاء، وكلمات الوفاء لهذا الإمام الجليل. وقام الملك فهد بن عبدالعزيز وولي العهد حينها الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتعزية أسرة الإمام. وكتب الأئمة الكبار مقالات رائعة في رثائه، وعلى رأسهم سماحة العلامة المفتي عبدالعزيز آل الشيخ والعلامة عبدالله بن جبرين. وتوالت المقالات الجميلة التي تتحدث عن الإمام بعد وفاته لمدة أسبوعين، وقد جمعها الشيخ ناصر بن مسفر الزهراني في كتابه الممتع (ابن عثيمين الإمام الزاهد). وبلغت أكثر من ستمائة صفحة. وهكذا توفي البدر المنير والشيخ الأجل؛ سماحة الإمام ابن عثيمين، وفقدت الأمة رجلًا يقدر بألف رجل. فقدت الأمة رجلًا، لا أظنه يتكرر، فقدت الفقيه والمفسر والمحدث والزاهد والورع. كان الإمام ابن عثيمين مثالًا رائعًا للعالم الصادق المخلص الذي أفنى حياته في سبيل نشر العلم، ونفع الناس، ونصرة الإسلام والدعوة. قصائد في مدح الإمام ابن عثيمين: قيلت في الثناء على سماحة الإمام ابن عثيمين ورثائه، ومدحه القصائد الكثيرة، وأبدع المحبون في مدح الإمام؛ وسنذكر بعض هذه القصائد الجميلة لنختم بها مقالنا هذا. قال مشعل حمود العتيبي راثيًا الإمام ابن عثيمين: في شهر شوال نصف الشهر ودعنا شيخ جليل إمام عالم ورعُ ابن العثيمين أعلى الله منزله في جنة الخلد لا خوف ولا هلعُ جل المصاب وهال الخطب أمتنا بموت عالمنا قد عمنا الفزعُ بكى القصيم ونجد والحجاز على شيخ العلوم وكل الناس قد فجعوا يبكيه علم وطلاب ومسجده وكل من راية الإسلام قد رفعوا مات الحبيب وكل الناس تعرفه بعلمه الجم بالأخلاق مجتمعُ قد كنت أعرفه والكل يعرفه بالزهد والعلم ليس المال والطمعُ يا شيخ والله إن القلب منفطر على الفراق وجرح القلب يتسعُ يا ناصر السنة الغراء في زمن تكاثرت حولنا الأوهام والبدعُ قال خالد بن علي الدويغري يرثي الإمام ابن عثيمين: خبر وربي للفؤاد يقطع دمعت له عيني وعز المضجعُ خبر وربي لا يزال مدويًا من هوله صم الجبال تصدعُ خبر أتى من حول مكة ناعيًا الشيخ مات وكل أذن تسمعُ خبر أتى ينعى العثيمين الذي كل القلوب له تجل وترفعُ ينعى الإمام الفذ عالم عصرنا شيخ جليل زاهد متورعُ تلك المصيبة إنها لكبيرة صبرًا فلله العظيم المرجعُ ولقد فجعنا بابن باز قبله إن المصائب خرقها لا يرقعُ فالأرض تبكي والسماء حزينة والله يفعل ما يشاء ويصنعُ والفقه يرثي والصحاح عليلة والروض يبكي والضياء اللامعُ يوم الخميس ويا لها من لحظة إذ كفنوا الشيخ الجليل وأسرعوا في مكة قد قال مقلة عينها إذ قدموه عليه كبر أربعُ حملوه نحو العدل كان مسيره حضر الجميع وشاهدوه وودعوا يا لحد مهلًا فيك شمس زماننا قد غيبت والنور باقٍ يسطعُ هذه هي سيرة شيخ الأئمة وإمام الشيوخ وفقيه الزمان وزاهد العصر والأوان. هذه سيرة القمر المنير والشيخ الجليل والسيد الكبير والفقيه الألمعي. إن الإمام ابن عثيمين هو شعلة أضاءت الطريق للكثير والكثير، وما زالت تضيئه، وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها. إنني أعرف وأعترف أنني لست بأهل للتحدث عن الإمام ابن عثيمين، ومن أنا حتى أتحدث عن شيخ الإسلام، وإمام الأعلام، وفقيه الأمة، وعالم العصر. ولكنه محاولة لخدمة تراث الإمام وعلمه من خلال تبيان سيرته العطرة وحياته الزاهرة. وبهذا أرجو أن أكون قد بينت سيرة سماحة الإمام الجليل العظيم ابن عثيمين بصورتها الناصعة المشرقة. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الميامين، ومن تبعهم إلى يوم الدين. المصادر والمراجع: 1- كتاب ابن عثيمين الإمام الزاهد؛ ناصر بن مسفر الزهراني. 2- مجموعة مقالات عن حياة الإمام منشورة في الصحف والمواقع الإلكترونية.
أصل الإنسان ونظرية الصٌدفة في فكر علي عزت بيجوفيتش طرَح المفكرُ المسلم علي عزت بيجوفيتش الذي وُلد في دولة أوروبية، وعاش فيها تحت نظام سياسي قمعي قائمٌ على عقيدة الإلحاد ومحاربة الدين، وقمع المتدينين - فكرةَ أصل الإنسان من خلال تمييزه بين النموذج المجرد والتجربة المعيشية في صياغة سؤال معرفي: ( ما الإنسان؟ ). يقول: إن قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأيةُ مناقشة تدور كيف ينبغي أن يحيا الإنسان؟ تأخذنا إلى الوراء؛ حيث مسألة أصل الإنسان. وهو ما يُجبرنا على طرح السؤال المعرفي بطريقة مباشرة تدور حول إشكالية وجودية متعينة النقاش، وبدلًا من أن يناقش هذه الإشكالية وَفق الرؤية المادية المتمثلة في نظرية ( التطور ) النظرية ( الداروينية ) التي تُنسب إلى عالم الأحياء البريطاني المشهور "تشارلز روبرت داروين (1809 - 1882)، وبدلًا من أن يدفعَ إلى تفنيدها من خلال علم البيولوجيا الذي قامت عليه هذه النظرية، فإنه يبدع في استخدام إستراتيجية علمية جديدة مبتكرة ومختلفة تمامًا عما هو متوقع، من خلال استخدام منهج تفسير البعد الإنساني المطبوع في الإنسان؛ مبينًا من خلالها قصور بل عجز النظريات المادية جميعًا، بما فيها نظرية التطور الداروينية التي يعتمدها الفكرُ الغربي المعاصر. قام بيجوفيتش في معرض طرْحه للإنسان الدارويني ( المادي ) لتحليل أصل الإنسان، فيري فيه ( الإنسان المادي الدارويني )، ما هو إلا شكل بدائي للحياة ظهر نتيجة عملية طبيعية كيمائية ( مادية )، وبهذا يكون الإنسان من هذا المنظور حيوانًا تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطوَّرت إلى مرحلة القردة العليا! ومنها إلى الإنسان الذي تطور إلى أن وصل إلى مرحلة الكمال الجسمي والفكري، ومنه إلى أعلى مرحلة وهي مرحلة الذكاء الخارق! يرى "بيجوفيتش" أن هذا التطورَ لم يستطع أن ينتج إنسانًا، وإنما مجرد حيوان مثالي قادر على التحرك داخل الجماعة بكفاءة عالية لتحقيق هدف البقاء، وليس في الإنسان شيء لا يوجد في المستويات العليا من الحيوانات الفقارية والحشرات، والفرق بين الإنسان والحيوان حتى بعد تطور ( كمال ) الإنسان، إنما هو فرق في الدرجة والمستوى والتنظيم، وليس هناك جوهر إنساني بحسب نظرية التطور الدارويني. يرد علي عزت بيجوفيتش وفق نظريته القائمة على "البُعد الإنساني في الظاهرة الإنسانية" بأن الإنسان في واقع الأمر مختلف بشكل جوهري عن هذا الإنسان الطبيعي المادي، فهو ليس مجرد وظائف بيولوجية مجردة، بل يوجد في صميم حقيقة تركيبته شيء ينقله من عالم الضرورات والحتميات الطبيعية والسببية المطلقة والمنفعة المادية... إلى عالم الحرية والاختيار والقلق والتركيب والتضحية. ويرى بيجوفيتش أن شيئًا ما للإنسان " الفطرة " جعله لا يقنع بجانبه الطبيعي المادي الحيواني، ودفعه إلى أن يبحث دائمًا عن شيء آخرَ غير السطح المادي الذي تدركه الأسماع والأبصار، وصولًا إلى ما لا تُدركه الأسماع والأبصار، وقد أطلق عليه اسم "المقدَّس"، بحيث يفكر في معنى حياته وفيما بعد الحياة، والوجود، وإلى أين؟ إن إنسان بيجوفيتش مختلف عن الحيوان وعن إنسان داروين الطبيعي، فهو إنسان عاقل وذو خيال ووِجدان، يُحس بأنه جزء من الطبيعة وغريبٌ عنها في ذات الوقت - المحسوس والملموس - إذ توجد مسافات طويلة تبعده عنها، لذا فهو يشعر بأن ثمة عالَمًا آخر يحتاج للتعبير عنه والتواصل معه، فميلُ الإنسان إلى الرسم والغناء وتقديم القرابين، فهو يشعر بأن هناك في داخله ما يُميزه عن الحيوانات التي قد تستطيع أن تصنعَ وتستخدم الآلات مثل القردة التي تستخدم العصا للوصول إلى الموز في أعلى الشجرة، أو الدب الذي يستخدم الحجر لقتل أعدائه، ولكنها لا يمكن أن تقدم أيَّ قرابين، أو ترسم أية لوحات، ولا تشعُر بوخز الضمير، فهذه خصائص الإنسان التي تميز بها عن غيره. ومن هنا نشأت ثنائيةُ الطبيعي المادي من جهة، والإنساني الروحي من جهة أخرى، ومن هنا نُدرك أن السؤال المعرفي الذي طرحه بيجوفيتش بأصل الإنسان تناوله الإيمانيون بالهجوم على نظرية التطور الدارويني التي تؤكد الأصل المادي للإنسان، محاولين تفنيدها وإثبات عدم علميَّتها، ووجود ثغرات كبيرة فيها، من خلال الاعتماد على الإشارات المادية ذات الدلالة المادية، ورغم أهمية هذا الأسلوب إلا أنه ليس بحاسمٍ؛ لأن دعاة النظرية المادية الداروينية عادة ما يتقدمون هم أيضًا بأدلة مادية لإثبات نظريتهم؛ مما يجعل من حسم القضية مستحيلًا، ويوسع دائرة السِّجال إلى ما لا نهاية. أما الأستاذ علي عزت بيجوفيتش فيلجأ إلى أسلوب ومنهج مختلف تمامًا، فهو يحاول أن يثبت عجزَ المنهج الدارويني في التطور عن تفسير الظاهرة الإنسانية في سياق الثنائية الجوهرية ( الإنساني، والطبيعي )؛ أي الروح والجسد، وهو ما يقرِّره القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو ما قرَّ في عقيدة المسلمين دون الحاجة إلى اللجوء إلى النظرية الداروينية؛ لأن قضية أصل الإنسان في الثقافة الإسلامية قضية محسومة بنصوص شرعية قطية الدلالة والثبوت، يتوافق فيها النص الصريح مع العقل الصحيح.
المبدع شرح المقنع لابن مفلح نشر دار ركائز صدر حديثًا كتاب "المبدع شرح المقنع"، للعلامة قاضي الحنابلة "برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي الصالحي الحنبلي"، تحقيق: أ.د. "خالد بن علي المشيقح"، د. "عبد العزيز بن عدنان العيدان"، ود. "أنس بن عادل اليتامى"، في عشرة مجلدات، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع". ويمثل هذا الكتاب ركيزة من ركائز مصنفات كتب الحنابلة، وأبدعها تأليفًا، وأعظمها تحريرًا، وأحسنها تقريرًا، فـ"المبدع" من المصادر المعتبرة في الفقه الحنبلي، في شرح كتاب " المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل "، وهو متن مختصر في الفقه الإسلامي على المذهب الحنبلي للعلامة "ابن قدامة"، وهو من أهم شروح "المقنع" وأكثرها حشدًا للأدلة، حيث قام بشرحه، وبين حقائقه ووضح دقائقه، وزاد في إيضاح مسائله وأحكامه، وأتى بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة عليها، وأورد فيه آراء أصحاب المذهب الحنبلي وجاء متوسطًا بين التطويل والإيجاز. قال العلامة "ابن مفلح" في مقدمة "المبدع شرح المقنع": "وكنت قرأت فيه كتاب المقنع لشيخ الإسلام العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته. وهو من أجلها تصنيفًا، وأجملها ترصيفًا، وأغزرها علمًا، وأعظمها تحريرًا، وأحسنها ترتيبًا وتقريرًا. فتصديت لأن أشرحه شرحًا يبين حقائقه، ويوضح دقائقه، ويذلل من اللفظ صعابه، ويكشف عن وجه المعاني نقابه، أُنبه فيه على ترجيح ما أطلق، وتصحيح ما أُغلق. واجتهدت في الاختصار خوف الملل والإضجار، ورسمته بـ: المبدع في شرح المقنع، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، إنه غفور رحيم". وقد شرح "ابن مفلح" كتاب "المقنع" شرحًا مزجيًا، حيث بين فيه حقائقه، وأوضح دقائقه، مع جمع الروايات والأوجه من كتب الأصحاب، وبين الضعيف منها والأولى بالصواب. ونظرًا لقيمته فقد عوَّل عليه المحققون من المتأخرين، وحذوا حذوه في شروحهم حتى صار هذا النمط من التأليف جادةً في المذهب مسلوكة، وطريقة معروفة مألوفة. وتمتاز هذا الطبعة الجديدة المحققة المنقحة بالبعد عما ابتلت به الطبعات السابقة لهذا السفر النفيس من أخطاء في نسخه المخطوطة، والذي تابعتها فيه جميع نسخه المطبوعة، من تحريف وتصحيف، ولعل السبب في ذلك خط المؤلف - رحمه الله - الذي كان سببًا في وقوع النساخ في مثل تلك الأخطاء. وتمتاز هذه النسخة الجديدة من تحقيق "المبدع" بعدة ميزات منها: • تحقيق الكتاب على إحدى عشر نسخة خطية، واحدة منها بخط المؤلف رحمه الله، وهي عبارة عن الجزء الأول من الكتاب، من أوله إلى نهاية كتاب الحج، ونسخ أخرى بعضها منقول عن نسخة المؤلف، وما من موطن في الكتاب إلا وعثر المحققون على أكثر من نسخة خطية له ولله الحمد. • الوقوف على جميع نسخ الكتاب المذكورة في الفهارس بالكتاب تقريبًا، ومقابلتها وإثبات الفروق بينها في هامش الكتاب. • تقويم نص الكتاب قدر المستطاع، والرجوع إلى كتب المذهب للترجيح بين النسخ الخطية عند التردد. • مقارنة كتاب "المبدع" بالكتب التي اعتمد المؤلف عليها في شرحه؛ كـ"المغني" و"الشرح الكبير" و"الممتع" و"الفروع" و"شرح الزركشي" وغيرها؛ وذلك للتأكد من صحة العبارة، خاصة فيما يشكل منها. • تصحيح أكثر من (300) موطن من الكتاب، إما ببيان سقط، أو زيادة، أو خطأ في عبارة، أو تصحيف في كلمة أو أكثر، وكان ذلك في الأجزاء التي لم توجد فيها نسخة المؤلف، وتمثل هذه الأجزاء ثلاثة أرباع الكتاب، ويتضح ذلك أكثر بمطالعة ما ذكره المحققون في (فصل الأخطاء والأوهام في النسخ الخطية). • إذا أشكلت كلمة في الجزء الذي وقف عليه المحققون من نسخة المؤلف، ولم تبينها النسخ الأخرى، أو كانت الكلمة في النسخ الأخرى مشكلة أيضًا، رجعوا إلى كتب المذهب وعرفوا مراده منها غالبًا. • تخريج الأحاديث والآثار تخريجًا متوسطًا، ببيان مصدر الحديث والأثر، وذكر كلام بعض المحققين من المحدثين، من حيث التصحيح والتضعيف، وبيان العلة في بعض الأحيان، بصورة مختصرة. • ضبط جميع كلمات متن "المقنع" بالشَّكْل، وضبط ما يحتاج إلى ضبط من كلمات الشرح، صرفًا وإعرابًا. • العناية بتفقير الكتاب بما يناسبه؛ تسهيلًا على القارئ، وتمييزًا للكلام بعضه عن بعض. وصاحب "المبدع" هو أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح الراميني المقدسي الصالحي الحنبلي (816 - 884 هـ / 1413 - 1479م) قاضي ومن كبار علماء الحنابلة، وعلم بارز من أسرة بني مفلح، بيت الرئاسة والعلم في الشام، وهو من قرية رامين في محافظة طولكرم الفلسطينية، وقد ولد في دمشق. ويعرف كأسلافه بابن مفلح، وهم جميعًا يعرفون بالمقادسة. نشأ ابن المفلح بدمشق، فحفظ القرآن، وكتبًا منها المقنع في المذاهب، وألفية بن مالك، والشاطبية والرائية، وسمع على جماعة من العلماء منهم فقيه الشافعية تقي الدين الأسدي الشهير بابن قاضي شهبة، وقاضي الحنابلة عز الدين البغدادي، وروى عن جماعة. برع في الفقه وأصوله، وانتفع به الفضلاء. عمل في التدريس والقضاء والتأليف، فدرس بمدرسة الشيخ أبي عمر بالصالحية شرقي دير الحنابلة، ودار الحديث الأشرفية بسفح قاسيون، والحنبلية والمسمارية في محلة القيمرية، والجوزية بالقرب من الجامع الأموي، والجامع المظفري أو جامع الحنابلة بسفح قاسيون في حي الأكراد. وولي قضاء دمشق غير مرة، فأقام بمهامه خير قيام. وطُلِبَ لقضاء مصر فاعتذر. وانتهت إليه رياسة الحنابلة، وصار مرجع الفقهاء والناس والمعول عليه في الأمور. وقد اشتغل بالتأليف فوضع مصنفات في الفقه والأصول والطبقات منها: • "شرح المقنع في الفقه الحنبلي": وسماه "المبدع". • "الآداب الشرعية لمصالح الرعية": في مجلدين. • "النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر". • "مرقاة الوصول إلى علم الأصول". • "المقصد الأرشد في ترجمة أصحاب الإمام أحمد": في طبقات الحنابلة، وهو مرتب على حروف المعجم. وتوفي القاضي برهان الدين بمنزله بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وحضر جنازته نائب الشام وخلق كثير، ودفن بالروضة في الصالحية، عند أبيه وأجداده.