text
stringlengths
0
254k
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الحروب - الإرغام) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب تلك الحروب التي قامت بين المسلمين وغير المسلمين على مر العصور الإسلامية؛ ولذا نجد من التهم التي توجه إلى الإسلام أنه انتشر بالسيف، وأجبر الناس على القبول به بالقوة؛ أي إن الإسلام صنع الناس مسلمين رغمًا عنهم،وتزعَّم هذه التهمةَ نفرٌ من المستشرقين، وجعلوا الجهاد في أحد مفهوماته في الإسلام دليلًا صارخًا على انتشار الإسلام بالسيف، ووجدوا في القرآن الكريم آيات بينات تدعو إلى القتال، بالإضافة إلى آيات الجهاد، فانبرى نفرٌ من المسلمين الاعتذاريين المدافعين يؤكدون على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بالإقناع، ويستدلون على ذلك بانتشار الإسلام في شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، وإفريقيا. الواقع أن الحروب بين المسلمين والغرب تشكل حقبةً تاريخية واضحة المعالم في العلاقة بين الشرق والغرب؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ ينشر الإسلام بالدعوة، وإرسال الوفود إلى قيادات العالم القديم، ثم لما لم يستجيبوا لجأ إلى الغزوات، التي انطلقت إلى شمال الجزيرة العربية؛ أي إلى الغرب، أو الروم، ثم تلاه خلفاؤه من بعده؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم الخلافة الأموية فالعباسية فالعثمانية،وكانت هناك غزوات، قاتل فيها المسلمون الكفارَ والمشركين، ولم يجبروا أحدًا على الدخول في الإسلام، بل إنهم حموا أولئك الذين آثروا البقاء على دينهم؛ اليهودية أو النصرانية مقابل الجزية، التي تؤخذ من القادرين منهم؛ ذلك أنهم دخلوا في حمى الإسلام، وإن لم يدخلوا فيه مسلمين،فصارت لهم أحكامٌ خاصة بهم تعارف أهل العلم على تسميتها بأحكام أهل الذمة الآتي ذكرها، وعاملهم المسلمون على أنهم جزء من المجتمع المسلم [1] . ثم يأتي ختام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي لتبدأ سلسلة من الحروب الهجومية القادمة من الغرب وقد حملت الصليب شعارًا لها، ودغدغت فيه عواطف العامة قبل الخاصة، ووعَدَت الجميع بالنعيم في أرض فلسطين، أرض الميعاد،وكانت تحمل شعارات الإغراء الديني قبل الدنيوي، وتحمل الصليب، مما يؤكد على أن الدافع الأول لهذه الحملات المتتابعة كان دينيًّا، ثم تأتي الدوافع الاقتصادية والسياسية بعد ذلك،وهي دوافع غير مغفَلة، ولكنها ليست الدوافعَ الأساسية لهذه الحملات، وإن استغل الحكام السياسيون رجال الدين في حروب الفرنجة "الحروب الصليبية"، فإن رجال الدين أيضًا قد استغلوا الحكام السياسيين [2] . والتقى الجميع مع التجار في تأجيج هذه الحملات، وصاحبَتْها نوعيةٌ خاصة من الناس ممن لفظهم المجتمع الغربي، فبحثوا عن البديل في أرض السمن والعسل في أرض الميعاد، ولكن هذه الفئة كانت قليلة، ذكرتها تفصيلًا بعض كتب التاريخ التي عاصرت هذه الحملات،وهناك نصوص تاريخية عجيبة ذات صلة بأبعاد اجتماعية وسلوكية ومعرفية كانت من حصيلة الاحتكاك بالفرنجة، قد لا تسمح طبيعة هذا الكتاب بذكرها على الملأ، فيرجع إليها في مظانها [3] . ولدينا باحثون مؤرخون معاصرون تخصصوا في التاريخ لحروب الفرنجة، التي سماها الغرب بالحروب الصليبية، ليس لمجرد السرد التاريخي، فقد سُبقوا إلى ذلك ممن عاصروا حملات من هذه الحروب من المسلمين وغير المسلمين، ولكن متخصصي اليوم يدرسون هذا التاريخ المهم ويفسرونه ويحللون الأحداث ويقفون عند النصوص،وعن هؤلاء المتخصصين نأخذ الحكم على هذه الحروب ونوازن بينها؛ ذلك أنه تحكُمُ هؤلاء المعاصرين انتماءاتهم التي لا بد أن تنعكس على أحكامهم، رغم علميتهم ونزعتهم الموضوعية،ويهمنا منهم المنصفون الذين تتبعوا هذه الحروب ففطنوا إلى منطلقاتها وبواعثها، وأدركوا غاياتها وأهدافها، ومزجوا بين الدافع الديني والدوافع الأخرى الاقتصادية والسياسية، ولم يعتذروا للآخر بطمس دافع على حساب دافع آخر [4] . وعلى أي حال، استمرت هذه الحروب قرنين من الزمان (495 - 692هـ/ 1095 - 1290م) لم يتهيأ فيها النصر للصليبيين، بل وفَّق الله تعالى المسلمين إلى إجلائهم وإعادتهم إلى حيث أتوا، على يد القيادات الإسلامية من أبناء المسلمين، من أمثال عماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي من القيادات السياسية، وأمثال عدد كبير من القيادات العلمية الإسلامية المعاصرة لتلك الحملات. ومع انتهاء هذه الحروب الصليبية لم ينته الشعور بها، فلا تزال تذكر وتردد، سواء بسواء بين المسلمين والنصارى،فمن القيادات النصرانية الحديثة الجنرال الفرنسي غورو الذي قدمه على قبر صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله تعالى - في دمشق قال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين" [5] ،ومنهم من دخل بيت المقدس، وهو الجنرال اللنبي، إبان الاحتلال البريطاني فقال: "الآن انتهت الحروب الصليبية" [6] . ومن المسلمين من يردد أن الحروب الصليبية لا تزال قائمة، ووضحت وضوحًا قويًّا إبان حروب البوسنة والهرسك مع الصرب، إلى درجة أن قائد صرب البوسنة الملاحق قضائيًّا رادوفان كاراديتش قال فيما نقل عنه: "لو كان الأمر لي لما توقفت إلا في مكة"! كما صرح وزير الإعلام الصربي بقوله: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة" [7] ، وكذا الحال في الحرب ضد المسلمين في كوسوفا،كما أن الكلمة "الصليبية" قد خرجت من لسان الرئيس الأمريكي يوم الاعتداء على مركز التجارة العالمي بنيويورك وعلى مبنى وزارة الدفاع بواشنطن في 11/ 9/ 2001م الموافق 22/ 6/ 1433هـ، واضطر للاعتذار بعد ذلك، وقام بزيارة للمركز الإسلامي في واشنطن تعبيرًا عن أسفه عن الإساءة لمشاعر المسلمين، وتهدئة لهذه المشاعر [8] . على أن سيجموند فرويد يؤكد على عدم صحة القول بسبق اللسان؛ إذ إن ما يخرج بالنطق - كما ينظر - يعبر عن المكنون. وعلى أي حال، فإن الحروب التي دارت رحاها بين المسلمين والغرب قرونًا طويلة لا تزال محددًا قويًّا من محددات العلاقة بين المسلمين والغرب، وستظل كذلك ما اعتقد الغرب أن الإسلام يهدد وجوده، وأنه خطر داهم، وأنه العدو الجديد [9] ، أو التحدي الجديد [10] ، الذي سيقضي على المكتسبات الحضارية التي نعم بها الغرب وسعى إلى تصديرها إلى العالم الآخر ردَحًا من الزمان، لا سيما بعد زوال الخطر الأحمر [11] . ويؤجج ذلك الشعور عناصر تستفيد ماديًّا من هذا التأجيج، وتسعى إلى الإعانة على طمس الحقائق بالتشويه لهذا الدين الذي يحتاج إلى أشخاص يواجهون حملات التشويه ببيان الحقيقة لهذا الدين، فإذا قامت الحجة على الآخرين برئت ذمة المسلمين، سواء قَبِل الآخرون بالإسلام أم لم يقبلوا به،وسواء توقفت هذه الحروب أم استمرت [12] ،وفي هذا يقول المستشرق الألماني فريتس شتيبات (1923 - 2006م): "لست أضيف جديدًا إذا قلت: إننا نلاحظ منذ سنوات قليلة ميلًا شديدًا ومفاجئًا في الغرب إلى اعتبار الإسلام خطرًا يهدد العالم الحر، بل اعتباره مصدر الإزعاج الباقي للسلام على الأرض، لقد بدأت هذه الظاهرة مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية" [13] . ويضيف شتيبات القول: "وتفسير هذه الظاهرة يفرض نفسه بنفسه، فمن الناس من يشعر، ببساطة، بالحاجة الدائمة لمواجهة خطر أو عدو يهدده، وإذا كان الخطر الشيوعي قد انحسر، فإن الإسلام والمد الإسلامي هما البديل المناسب،ولديَّ يقين مؤكد بأن الدوافع الكامنة وراء هذا الموقف دوافع غير عقلانية؛ولهذا أعتقد أنه لا ينبغي أن تترك هذه الظاهرة بغير تفسير وتعليق، لا سيما إذا تبنتها جهات محترمةٌ، أو ارتفعت بها أصوات مؤثرةٌ" [14] . [1] مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخٌ كبيرٌ ضرير البصر، فضرب عمر عضده من خلفه وقال: مِن أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي ، قال له: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسن ، فأخذ رضي الله عنه بيده، وذهب إلى بيته فأعطاه ما يكفيه يومه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال له: "انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرَمِ" ،﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60]، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب"، ووضَع عنه وأمثالِه الجزيةَ ، انظر: أبو يوسف ، القاضي يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ت 182هـ/ 798م ، كتاب الخراج - بيروت: دار المعرفة، د ، ت - ص 126. [2] انظر: أيوب أبو دية ، حروب الفرنج حروب لا صليبية - مرجع سابق - ص 182. [3] انظر على سبيل المثال: سهيل زكار ، الحروب الصليبية - 2 مج - دمشق: دار حسان، 1401هـ/ 1984 ، وانظر أيضًا: سعيد عبدالفتاح عاشور ، الحركة الصليبية: صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي في العصور الوسطى - 2 مج - ط 6.- القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1994م ، وانظر كذلك: أمين معلوف ، الحروب الصليبية كما رآها العرب/ ترجمة عفيف دمشقية - ط2 - بيروت: دار الفارابي، 1998م - ص 352 ، وانظر كذلك: كلود كاهن ، الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية/ ترجمة أحمد الشيخ - القاهرة: دار سينا للنشر، 1995م - ص384 ، وانظر كذلك: فوشيه الشارتري ، تاريخ الحملة إلى القدس/ ترجمة: زياد العسلي - عمان: دار الشروق، 1990م - ص 267 ، وانظر كذلك: حسن حبشي/ مترجم ومعلق ومحقق ، الحرب الصليبية الثالثة: صلاح الدين وريتشارد - 2 ج - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م - (سلسلة: تاريخ المصريين: 181 - 182) ، وانظر كذلك: جوناثان رلي - سميث ، الحملة الصليبية الأولى وفكرة الحروب الصليبية/ ترجمة محمد فتحي الشاعر - ط 2 - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م - ص 295. [4] انظر: فيليب فارج ويوسف كرباج ، المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي/ ترجمة بشير السباعي - القاهرة: سينا للنشر، 1994م - 220ص ، وانظر كذلك: أليكسي جوارفكسي ، الإسلام والمسيحية/ ترجمة خلف محمد الجراد، راجَع المادة العلمية وقدم له: محمود حمدي زقزوق - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1417هـ/ 1996م - ص 236 - (سلسلة: عالم المعرفة: 215). [5] انظر: جلال العالم ، قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله - ط 9 - القاهرة: دار السلام، 1399هـ/ 1979م - ص 33. [6] انظر: صالح مسعد أبو نصير ، جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن - بيروت: دار الفتح، د ، ت - ص 65. [7] انظر: مهدي رزق الله أحمد ، الحملات التنصيرية في العالم الإسلامي: أهدافها وبرامجها (خاصة العالم العربي: السودان ومصر والعراق والجزائر، نماذج) - ص 317 - 388 - في: مجلة البيان ومبرة الأعمال الخيرية بالكويت ، مؤتمر تعظيم حرمات الإسلام - مرجع سابق - ص809. [8] انظر: جون ل . غسبوزيتو ، الإسلام والغرب عقب 11 أيلول/ سبتمبر: حوار أم صراع حضاري؟ - أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003م - ص 17. [9] انظر: فريتز شتيبات ، المنظومة الإبراهيمية للحوار - ص 183 - 196 - في: صاموئيل هانتنغتون وآخرون ، الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها - بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000م - ؟؟؟ ص . [10] انظر: في تفسير دعاة التصدي: الإسلام هو "العدو الجديد"، وانظر كذلك: في تفسير دعاة التراضي: الإسلام هو "التحدي الجديد" - ص 41 - 54 - في: فواز جرجس ، أمريكا والإسلام السياسي/ ترجمة غسان غصن - بيروت: دار النهار، 1998م - ص 363. [11] انظر: جون ل . غسبوزيتو ، التهديد الإسلامي: خرافة أم حقيقة؟/ ترجمة قاسم عبده قاسم - ط2 - القاهرة: دار الشروق، 1422هـ/ 2002م - ص 424 . [12] انظر الفصل الرابع: الإسلام والغرب: خطر الإسلام أم خطر على الإسلام؟ - ص 111 - 135 - في: فريد هاليداي ، الإسلام والغرب: خرافة المواجهة، الدين والسياسة في الشرق الأوسط/ ترجمة عبدالإله النعيمي - بيروت: دار الساقي، 1997م ، ص259 ، وتكرر الكتاب تحت عنوان: الإسلام وخرافة المواجهة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط/ ترجمة محمد مستجير - القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997م - (القسم الرابع، الجزء الثاني: الإسلام والغرب: خطر الإسلام أم خطر على الإسلام) - ص 128 - 156 - ص 260. [13] انظر: الفصل الثاني: ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان؟ - ص 64 - 65 - في: فريتس شتيبات ، الإسلام شريكًا: دراسات عن الإسلام والمسلمين - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004م - ص 206 - (سلسلة عالم المعرفة: 302). [14] انظر: الفصل الثاني: ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان؟ - ص 64 - 65 - في: فريتس شتيبات ، الإسلام شريكًا: دراسات عن الإسلام والمسلمين - المرجع السابق - ص206.
أصحاب الجنة بستان جميل جمع كل أصناف الزروع والثمار، نما وأينع ثمره، وقد نماه رجل صالح عرف ما حقُّه فأداه، أطعم من بستانه الفقير واليتيم والأرملة والمسكين، كانوا في كل فترة نضج وحصاد يتفاءلون ويستبشرون برزق كريم يأتيهم من بستان هذا الرجل الصالح، وكان ظنهم لا يخيب، فكان يختار لهم من طيب الثمار ما يملأ لهم أوعيتهم، فيعودون إلى أُسَرهم محملين بالثمر، فرحين بإطعام ما يعيلون من الأبناء، والله تعالى يبارك لصاحب هذا البستان، ويزيده من نعيمه، يحفظ عليه بستانه من الآفات، ويحفظ عليه الماء لريِّها، لقد سمعنا بالحديث الشريف الذي يروي لنا الصوت القائل: ((اسقِ حديقة فلان))، لسحابة في الجو، فتنحى ذلك السحاب وأفرغ ماءه في حرة وجرى الماء، ولما تتبع الذي سمع الصوت مجراه وجد رجلًا يسقي حديقته، فسأله عن اسمه، فوافق ما سمع، ولما سأله: ماذا تصنع بمحصول الحديقة؟ أخبره أنه يقسم محصوله أثلاثًا، ثلثًا للصدقة، وثلثًا له ولأولاده، وثلثًا يعيده في الأرض بذرًا ليزرعها من جديد "الحديث في صحيح مسلم" [1] . عاش هذا الرجل الصالح وهو على هذا المنوال إلى أن توفاه الله، وورث أبناؤه البستان، ولم يكن الأولاد كلهم على منهج أبيهم؛ فقد تنوَّعت آراؤهم واختلفت ما بين محب للسير على منهج الوالد، ومعارض بشدة ذلك المنهج، وقاد أولئك المعارضين أكبرُهم، وكانوا بعيدين عن التقوى، وغير ملتزمين بما عليهم من حق السائل والمحروم، معللين المنع بكثرة الولد وقلة المحصول، وأنها أصبحت لا تسد حاجتهم، وكان صوت المحافظين - وهو أوسطهم - لا يقوى على المعارضة، فانتصر قول الممانعين، ولقد صور القُرْآن حالة أولئك الإخوة وتصرفهم الذي يدل على إقدامهم على عمل غير لائق؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 17]، كان حال قريش حيث جاءهم رسول منهم فكذبوه، فامتحنهم الله بالقحط والجوع كحال هؤلاء الأبناء أصحاب الجنة وما جرى بينهم، ولعل قريشًا كانت تعرف خبر هؤلاء الأبناء؛ فقد ورد أن جنتهم كان قرب صنعاء، وقيل: هم من ثقيف، كانوا باليمن، فوصل خبرهم إلى قريش عن طريق جيرانهم الثقيفيين، فقد اتفقوا وأقسموا على أن يخرفوا ثمرها في الصباح الباكر قبل أن ينتبه إليهم الفقراء، ﴿ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ﴾ [القلم: 18] لم يقولوا عند القسم: إن شاء الله؛ لأنهم كانوا عازمين على تنفيذ ما خططوا له دون تراجع، ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾ [القلم: 19]، خططوا لحرمان المساكين من حقهم الذي جعله الله في مال الأغنياء، والله تعالى مراقب أفعالهم، ومطلع على ما في قلوبهم، فبادلهم لقاء شُحهم وبخلهم بأن سلَّط عليهم جائحة أتتهم تحت جنح الظلام، كانت أحلامهم وهم نائمون ينتظرون الصباح بما خططوا له من حيلة للتهرب من الفقراء، وكانوا يحلمون بكيفية جني المحصول بسرعة فائقة فلا يطلع النهار إلا وقد انتهوا منه، فإذا ما أتى المساكين ليطلبوا صدقتهم، وجدوا الأشجار خاوية لا ثمر فيها، فيخيب أملهم، ويرجعون كما أتوا خفافًا ليس معهم من الطعام لأولادهم شيء، فكان كبيرهم الذي خطط لهذا المنع يقهقه في نومه كلما مرَّ الحلم بخاطره وهو يرى الفقراء يعودون بخُفي حنين، ولكن الله يسمع ويرى، أمرُه الأمرُ، وتدبيره التدبير، فكما خططوا لإحداث مفاجأة للفقراء غير مسبوقة، فقد دبر الله لهم أمرًا غير معهود لهم، لقد أحالها الله تحت جنح الظلام خرابًا يبابًا كأنما عبث بها الشقاء، أو جاس بها جيش من الأعداء؛ فأحالها أرضًا مواتًا ﴿ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 20]؛ أي: سوداء كالليل المظلم، وقيل: احترقت فتحولت فحمًا ورمادًا، وأتى الصباح ﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 21]؛ أي: أيقظ بعضهم بعضًا عند الصباح لكي يسرعوا خفافًا إلى بستانهم ﴿ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ﴾ [القلم: 22]، تصوير بليغ لحالهم وهم يستيقظون ويتنادَوْن فيما بينهم للذهاب إلى بستانهم للصرام وجني المحصول بحذر، كأنما يقومون بفعل شيء غير مستحبٍّ، ﴿ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾ [القلم: 23]، ومشَوْا في غاية الحذر والتستر والانسلال بعيدًا عن أعين الرقباء من الفقراء، مشوا باتجاه البستان بلا ضجة، حتى إن كلامهم فيما بينهم كان خافت الصوت زيادة في الحذر والتخفي، ممن؟ ﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴾ [القلم: 24]؛ فكل هذه السرية في الخروج إلى البستان كانت من أجل أن يمنعوا المساكين من دخول بستانهم وأخذ الصدقة المعهودة كما كانت في أيام والدهم، ﴿ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾ [القلم: 25]، لقد أحكموا الخطة ضد المساكين، واطمأنوا إلى دقة تنفيذها من قِبل الجميع، فوزعوا المهمات، وأخذ كل واحد منهم مهمته، وحفظ الدور المطلوب منه، ثم انطلقوا إلى الجنة، فلما وصلوا أنكروا ما رأت أعينهم، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴾ [القلم: 26]، لما رأوها في حالتها المحترقة لم يعرفوها؛ لأنهم تركوها قبل يوم سليمة خضراء تزدهي بنضرتها، فقالوا: ليست هي، قد ضللنا الطريق، فتعالوا نبحث عن مزرعتنا، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا بغرباء عن المكان؛ فهم يعرفونه تمام المعرفة، ولكنهم يحاولون التخفيف من الصدمة وعدم تصديق ما رأوه، فإن الذي رأوه مخيف، لقد عوقبوا بذهاب ثمارها وزروعها، ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [القلم: 27] إن المؤكد لنا أننا حُرمنا من جنى جنتنا وخيرها وثمارها بسبب ما عزمنا عليه من حرمان الفقراء من نصيبهم منها، ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 28]، وعنى هنا بالأوسط صاحب الرأي الصائب الذي نصحهم بالسير على منهج أبيهم، لقد قلت لكم: اتقوا الله وسبَّحوه، ولا تُقدموا على فعل الشر، مثلما يحصل بين الناس في أحيان كثيرة حين ينوي إنسان فعل الظلم، فيقول له المصلحون: قل: لا إله إلا الله، ويكررونها لكي يذكروه بالله، فلا يقدم على الظلم، وهكذا فعل أوسطهم، وقيل: لما أقسموا ليصرمنها مصبحين، طلب منهم أن يستثنوا بقول: إن شاء الله، فلو فعلوا لما حصل هذا لجنتهم، وهذا ضعيف، بل لا يجوز الاستثناء عند نية الشر؛ أي: لا يصح أن يقول: سأسرق غدًا إن شاء الله، ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [القلم: 29]، ذهبت السَّكْرة، وعادت الفكرة، كما يقال، كان لا بد لهم من صدمة توقظهم مما هم فيه من ضلال، فكان احتراق الجنة؛ لذلك - وهم أبناء الرجل الصالح - عادوا إلى المسار الصحيح، فسبَّحوا الله واستغفروه، واتهموا أنفسهم بالتقصير وظلم الفقراء بمنعهم حقهم، والفشل عادة يجعل الشركاء في خلاف وتلاوم، ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴾ [القلم: 30]؛ فأصبح كل منهم يلوم الآخر بإظهار ما اقترح من سداد الرأي مقابل المقترح الفاشل من المتنفذين الذين تسببوا في هذه الكارثة، ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾ [القلم: 31]، اعتراف آخر وندامة أخرى وأمل بالتوبة ورجاء، ﴿ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ [القلم: 32]، وانقلبت توبتهم إلى الرجاء من ربهم ليعوضهم عن هذه الخسارة وأنهم سيسيرون على منهج والدهم من حفظ لحق السائل والمحروم، وأنهم راغبون طالبون العفو والخير من ربهم، مستسلمين لمشيئته سبحانه، وبعد هذا الإعلان والتوبة فإن الله بالناس غفور رحيم، وهو الجوَاد الكريم، فقد عوضهم خيرًا مما ذهب، وبعد هذه القصة التي عرضت لتتذكر قريش وتعتبر، ﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [القلم: 33]، هذا نموذج من عقاب من يريد الإفساد في الأرض، وفي الآخرة ينتظره عذاب أشد وأنكى، فليتنبه للعاقبة من يريد السير في طريق الضلال. [1] ليس في الحديث ما يدل على أن هذا الرجل هو صاحب القصة التي في سورة القلم، ولم يذكر ذلك -فيما أعلم- أحد من المفسرين. [إدارة تحرير الألوكة].
تنبيه على تحقيق كتاب (الموجز في إيضاح الشعر الملغز) كلية الإمام الأعظم - بجامعة بغداد (أُسست عام 150 هـ / 767م). القسم: اللغة العربية. المرحلة: الدكتوراه. ربيع الآخرة 1442هـ - تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 م. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فبادئ ذي بدء، نُهنئ شبكة الألوكة على هذا الانتشار الواسع والجهد المتميز خدمةً للإسلام والمسلمين، ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وكل مَن شارك وقرأ مِن طلبة العلم، آمين. أنا من طلبة كلية الإمام الأعظم مرحلة الدكتوراه، قسم اللغة العربية، بدأتُ بعون الله، تحقيق مخطوطة في النحو (الموجز في إيضاح الشعر الملغز)، لمؤلفها (أبي البقاء العكبري، المتوفى سنة (616هـ)؛ لذا اقتضى التنويه بأنني قد بدأتُ في التحقيق؛ حتى يتجنَّب طلبةُ العلم تحقيقَها بوصفِها رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه، ولكي لا يتكرَّر ذلك عنده فيقع في إشكال، والله ولي التوفيق، وشكرًا لمنصة الألوكة مع التقدير.
حاجة الأمة إلى التقاء العلم والسياسة (العلماء والأمراء) (1) هناك مخطَّط ماسوني صليبي لطمس هُويَّة الأمة الإسلامية، وفصلها عن ماضيها؛ لكي لا تستيقظ، وإن فترات اليقظة كان للعلماء المخلصين دورٌ كبير فيها، وإن الانتصارات التي حققتها الأمَّة الاسلامية كانت بتلاحم العلماء والأمراء. ويقول أبو حامد الغزالي: ) فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلِّم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم؛ لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا). إحياء علوم الدين للغزالي ج 1 ص 17 طبعة دار المعرفة بيروت. ولعل من أوضح النماذج على هذا الفهم: نور الدين محمود يعتبر نفسه جنديًّا في خدمة الدين، وروي عنه قوله: نحن شحنٌ لها (للشريعة) نمضي أوامرها . الروضتين في أخبار النورية والصلاحية - أبو شامة المقدسي وهذا القول ينطبق مع تفسير أبي حامد الغزالي للعلاقة بين المُلك والدِّين، حيث يقول : ( والملك والدين توءمان؛ فالدِّين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريقُ الضبط في فصل الحكومات بالفقه). إحياء علوم الدين ج 1 ص 11 طبعة دار المعرفة بيروت. ويقول أيضًا: (ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حبِّ المال والجاه، ومن استولى عليه حبُّ الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال) . إحياء علوم الدين ج 2 ص 751 طبعة دار المعرفة بيروت. ومن الفساد ينشأ علماء السوء؛ ليكونوا أدوات السلطان لنزع الدين من قلوب الخلق، كما يقول الغزالي: (احترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء؛ فإن شرَّهم على الدين أعظمُ من شر الشياطين؛ إذ الشيطان بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق) . إحياء علوم الدين ج 1ص 73 طبعة دار المعرفة بيروت. وبصلاح العلماء يصلح الأمراء، فيهاب الأمراء العلماء؛ فقد أورد السبكي أن الملك الظاهر بيبرس لم يبايع واحدًا من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم إلا بعد أنْ تقدَّمه الشيخ عز الدين للمبايعة، ثم بعده السلطان ثم القضاة، ولما مرَّت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر كثرةَ الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه، لانتزع الملك مني. • طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع 8 / 215. ويقال: إنه لما حضر بيعة الملك الظاهر قال له: يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار، فما بايعه حتى جاء من شهد له بالخروج عن ملكه إلى الملك الصالح، وعتقه، رحمه الله تعالى ورضي عنه. - فوات الوفَيَات محمد بن شاكر الكتبي 2/ 352. وهدف التغريب فصل الإسلام عن الحكم والسياسة: وهدف التغريب: الغزو الفكري للمسلمين، وإقامة النظام العلماني، وإثبات أن الإسلام دين روحي لا دين حكم. والله تعالى يقول: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]. يجمعكم بنظامه، ويشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه.. إنه هو صاحب الخلق والأمر.. وكما أنه لا خالق معه، فكذلك لا آمر معه . تفسير في ظلال القرآن دار الشروق بيروت ج 3 ص 1297. ويقول الأستاذ أنور الجندي: (من أهداف التغريب في العالم الإسلامي إنكار الدين واعتباره طورًا متخلفًا من أطوار التقدم الاجتماعي، وفصل الإسلام عن السياسة وعن الأخلاق، والحملة على العقائد والقيم) . ) من كتاب/ أهداف التغريب في العالم الإسلامي ص 16)، أنور الجندي. العلماء والأمراء هم ولاة أمور المسلمين: ذكر أهل العلم أن ولاة الأمور قسمان: العلماء والأمراء. أما العلماء فهم ولاة أمور المسلمين في بيان الشرع، وتعليم الشرع، وهداية الخلق إلى الحق، فهم ولاة أمور في هذا الجانب. وأما الأمراء فهم ولاة الأمور في ضبط الأمن وحماية الشريعة وإلزام الناس بها. والأصل: العلماء؛ لأن العلماء هم الذين يبيِّنون الشرع، ويقولون للأمراء: هذا شرع الله فاعملوا به، ويلزم الأمراء بذلك، فإذا علم الأمراء الشرع نفذوه على الخلق. والعلماء ينصاع لهم من في قلبه إيمانٌ ودين؛ والأمراء ينصاع لهم من خاف من سطوتهم وكان عنده ضعف إيمان. فلذلك كان لا بد للأمة الإسلامية من علماء وأمراء، وكان واجبًا على الأمة الإسلامية أن يطيعوا العلماء وأن يطيعوا الأمراء، ولكن طاعة هؤلاء وهؤلاء تابعة لطاعة الله؛ لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، ولم يقل: أطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن طاعة ولاة الأمر تابعة لا مستقلة، أما طاعة الله ورسوله فهي مستقلة؛ ولهذا أعاد فيها الفعل فقال: أطيعوا وأطيعوا، أما طاعة ولاة الأمور فإنها تابعة ليست مستقلة. وعلى هذا إذا أمَر ولاةُ الأمور بمعصية الله، فلا سمع لهم ولا طاعة؛ لأن ولاة الأمور فوقهم وليُّ الأمر الأعلى، وهو الله، فإذا أمروا بمخالفته فلا سمع لهم ولا طاعة، وحديث عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على المرء المسلم السمعُ والطاعة فيما أحَبَّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإنْ أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) )؛ متفقٌ عليه. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، باب وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية، دار الوطن للنشر، الرياض ج 7ص 151. حين تسلم الأمَّة أمرها لربِّها، وتدير مجالات حياتها على منهجه، ويلتقي العلماء والأمراء على ذلك، تكون قد فقهت ماضيَها المشرق، وأحسنت قيادة حاضرها، وصياغة مستقبلها.
ظاهرة انهيار الأمم والحضارات تعرَّضت الأمة الإسلامية على مرِّ التاريخ لنموذجين من الصراعات: صراع الباطل ضد القيم والحضارة الإسلامية، وصراع دول للهيمنة والسيطرة على بلاد المسلمين وخيراتهم ومواردهم، وقد كانت الدولة العثمانية آخر القوى التي احتلت دورًا بارزًا بوصفها أحدَ المراكز في النظام الدولي، ومع انهيارها تفكَّك آخر الرموز ولو الشكلية للوحدة السياسية الإسلامية الذي أدى إلى التقسيم والتجزئة، وفي المقابل تقوَّى الطرف الآخر وهيمن، وانتهى الدور المؤثر للدولة الإسلامية في التفاعلات الدولية. ابتداءً من القرن التاسع أخذت وَحدة الإسلام السياسية تتفكك، أو على الأقل تتغير في شكلها، وأخذت تظهر في الأقاليم أُسرٌ حاكمة جديدة بقيت تعترف مبدئيًّا بسيادة الخليفة، وتحكم باسمه، إلا أنها كانت عمليًّا مستقلة في حكم دويلات محدودة المساحة، في هذه الظروف اضطر المسلمون القائلون بوجوب سلطة الخليفة إلى أن يشرحوا للمرة الأولى حقيقة الخلافة ودواعي وجودها، وكان أشهر هذه الشروح شرح الماوردي (991 ـ 1031) في كتابه الأحكام السلطانية، وما إن أعرب عن هذه العقيدة في السلطة، حتى جاءت حركة التاريخ تتخطاها؛ ذلك أن انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي كان قد أصبح أمرًا نهائيًّا لا مردَّ له، كما لم يكن من مردٍّ لانتقال الحكم من بغداد إلى عواصم أخرى، وكان حكم الأتراك والقوقازيين ضروريًّا للأمة، ذلك أنهم حموه من الأخطار الداخلية والخارجية، لذلك تعذر إدانة ذلك النظام كليًّا؛ (الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 21 ـ 22، 25). وكان قد انتهى من زمن بعيد دور الحماس الديني بوصفه عنصرًا لتجميع وتوحيد الجند، وضمان طاعتهم للأمير، بسبب الانقسامات الداخلية والصراعات الدامية التي شهِدها المجتمع، كما لم يعد للفتوحات البعيدة نفس الوهج والإغراء بعد أن استقر العرب في الأمصار التي فتحت، ومالوا إلى حياة أكثر استقرارًا وأكثر رفاهية ونعيمًا، وعشية السيطرة البويهية كانت أحوال الخلافة العباسية قد وصلت إلى درجة كبيرة من التدهور والانحطاط، فسلطة الخليفة لم تتوقف عن التقلص التدريجي والفوضى الداخلية تعم، وحركات التمرد والاستقلال تنتشر في مقاطعات الدولة، وأطماع البيزنطيين لا تجد مَن يقف في وجهها، ويرافق كل ذلك موجات من الغلاء وتدهور للأوضاع الاقتصادية؛ ( تاريخ الدولة البويهية، د. حسن منيمنة، ص 79، 58 ). وعندما بدأت الحروب الصليبية (1096 ـ 1291م)، كان واقع المسلمين سيئًا مليئًا بالمعاصي والبدع والانحرافات والتشتت والفرقة، وجاءت نكبة الأندلس عقابًا ربانيًّا للمسلمين على تفرُّقهم وتشتُّتهم، وحرب بعضهم بعضًا، وكان المسلمون قد شُغِلُوا عن الإسلام الصحيح بالبدع والخرافات، وفي الحروب الصليبية الأخيرة كان المسلمون قد انحرفوا انحرافًا شديدًا عن حقيقة الإسلام لا في السلوك وحده، ولكن في التصور كذلك، وكانت العقيدة قد توارت وراء الركام، فكان حقًّا على الناس أن ينتهوا إلى الهزيمة والاستسلام. وأما الهجمات التي قامت بها جماعات المغول على العالم الإسلامي، فقد كانت هجمات بدائية جذَبتها روائح الخلافة الميتة والمجتمع الإسلامي الميت، فقاموا بدور دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان المتوفَّى، وأسقطت جثته على الأرض؛ (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، د. ماجد عرسان الكيلاني، ص 409). استلم العثمانيون قيادة الخلافة الإسلامية من العباسيين رسميًّا في سنة 1517م وبقيت الخلافة في إسطنبول حتى سنة 1924م، حين ألغاها أتاتورك رسميًّا، وجرت عدة محاولات لإحياء الخلافة بعد ذلك، لكنها فشِلت. تولت بريطانيا مسؤولية إقامة الوطن اليهودي في فلسطين، إلا أن العقبة الرئيسة أمام استيلاء اليهود على فلسطين كانت الدولة العثمانية؛ إذ كانت فلسطين تحت الحكم العثماني آنذاك، وقد حاول هرتزل عام 1901م إغراء الخليفة العثماني عبدالحميد ببيع فلسطين لليهود، ولكن السلطان رفض التنازل عنها بأي ثمن، وأصدر أمرًا يحظر دخول اليهود إلى فلسطين، فقرَّر اليهود العمل على تجزئة الدولة العثمانية؛ لكي يستولوا على فلسطين، ولقد أوضح هذه المؤامرة الضابط البريطاني لورنس صديق العرب؛ حيث ذكر في تقاريره السرية التي نشرت في الستينيات من هذا القرن أن المخططين الاستعماريين ومنهم لورنس نفسه، أعطوا وعد بلفور عام 1906م وليس في عام 1917م كما هو مشهور؛ حيث قرروا أنه من الشروط التي يجب توفيرها لتحقيق هذا الوعد، هو تقسيم بلاد الشام إلى دويلات ضعيفة تشكِّل جدرًا واقية لإسرائيل من الشرق والشمال، حتى يكتمل قيام إسرائيل على رقعة فلسطين كاملة، ثم تبتلع هذه الدويلات واحدة بعد الأخرى؛ (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص411، وأساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، ص 162، والأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، ص 33). وبعد استيلاء اليهود على الحكومة العثمانية في انقلاب سنة 1909م، دخلت الخطة اليهودية مرحلتها الثانية، وهي تمرُّد القوميات وتجزئة الدولة العثمانية، وبنشوب الحرب العالمية الأولى تهيَّأت الظروف لدخول الاستعمار إلى المنطقة؛ (أسرار الأشرار قبالى اليهود والسعي للسيطرة على العالم، ص180 ـ 181). انهارت الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم برزت ظاهرتان في تاريخ الأمة الإسلامية، هما ظاهرة القومية العربية، وظاهرة الصحوة الإسلامية، ففي ظل انحسار التدين وانتشار الأفكار القومية والعلمانية في الخمسينيات والستينيات، ظنت الشعوب أنها وجدت ضالتها في المشروع القومي العربي، ولكن هذا المشروع الذي دفعت الشعوب العربية لإنجاحه أجيالًا شابة تلقَّى ضربة قاصمة في 1967م بعد هزيمة عسكرية مدوية من الصهاينة، فقد تحطم مشروع الوحدة العربية العلمانية عقب هزيمة مصر عام 1967م على يد إسرائيل، وكانت تلك الحقبة القومية مع انحرافاتها الكبرى على الصعيد الشرعي، واستبداد نُظمها وقمعها على الصعيد السياسي، ذات زخمٍ ثوري ومخزون قومي، وقد أوجدت لدى الأجيال العربية آنذاك قدرًا من الممانعة والخصومة تجاه الطموحات والمخططات الاستعمارية للمنطقة العربية؛ (الدين والهوية إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص17، والعلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات، ص 118). وكان إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958م قمة انتصارات القومية العربية، ولكنها كانت تثير مخاوف الغرب الذي وقف دائمًا في وجه المحاولات الوحدوية تحت راية إسلامية أو عربية، وكل حركة نحو الوحدة قاومها الغرب في الماضي والحاضر، وكان من أثر الثروة النفطية المقترنة بالقطرية مزيد من دمج اقتصاد عددٍ من الأقطار العربية بالنظام الرأسمالي العالمي، وتعاظم المصالح الاقتصادية الغربية في البلاد النفطية؛ ( أوراق في التاريخ والحضارة، عبدالعزيز الدوري، 4 / 186 ـ 187 ). عندما ارتكبت إسرائيل عدوانها على مصر عام 1967م، كانت علاقات مصر مع الدول الغربية ( عدا فرنسا في عهد ديجول )، ومعظم الدول العربية - متوترة أو فاترة، لذلك اختارت مصر لأسبابها أن تعقد صلحًا منفردًا مع إسرائيل، وبتوقيع معاهدة كامب ديفيد، كانت مصر في جانب، بينما وقفت معظم شعوب الأمة في جانب آخر؛ ( اللعبة الكبرى الشرق العربي المعاصر والصراعات الدولية، ص 206ـ 207، وحرب الخليج أوهام القوة والنصر، ص 11 ). ثم برزت ظاهرة الصحوة ردَّ فعلٍ على هزيمة القومية العربية، وسببًا ضمن أسباب أخرى، ومفهوم الصحوة مرتبط بعملية الانبعاث الإسلامي الشامل التي توطدت في العالم الإسلامي منذ الستينيات، وهذه الظاهرة كانت وثيقة الصلة في العالم العربي ببروز الحركات الإسلامية. عندما حدث صراع بين الحضارة الغربية وبين بقايا حضارة إسلامية آفلة، كانت الغلبة للحضارة المادية الغربية، فأدى هذا إلى شيوع روح الانهزامية في نفوس المسلمين لما بهرتهم المنجزات الحضارية الغربية في وجهها المادي على وجه الخصوص، ومنه الانبهار الذي أحدثته الحملة الفرنسية في نفوس الملايين: (انبهار بقوة السلاح أولًا، وانبهار بالعلم الغربي الذي حمله رجال البعثة المرافقة للحملة، الانبهار بكل ما جاء من الغرب، وكانت هذه هي الهزيمة الحقيقية الكاملة التي مهدت لكل ما أحدثه الاستعمار بعد ذلك من تدمير مخرب في حياة المسلمين، وعقيدتهم وأفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم في واقع الحياة، لذلك لم يكن طرد الفرنسيين من مصر أو انسحابهم حدثًا حقيقيًّا في عالم الواقع بعد هذه الهزيمة الداخلية التي خلَّفتها الحملة في نفوس المسلمين؛ (هل نحن مسلمون، ص 117 ـ 118). وعلى الرغم من المحاولات التي بُذلت لإصلاح حال الأمة، فإنه كلما ابتعد المسلمون عن روح الإسلام، وتشتَّتوا، واستبدلوا بالإسلام الصحيح البدع والخرافات، اشتدت عليهم المحن وانتهى بهم الحال إلى الهزيمة والاستسلام، وفقدوا دورهم الحضاري الريادي: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [ آل عمران: 110].
جزيرة موريشيوس (لؤلؤة المحيط الهندي) تقع جزيرة موريشيوس في المحيط الهندي، على بعد 2000 كيلومتر من الشواطئ الجنوبية الشرقية للقارة الإفريقية، وإلى الشرق من مدغشقر، ولا تبعد كثيرًا عن شمال مدار الجدي ومساحتها تبلغ 2040 كيلومتر مربع، و40 % من مساحتها مغطى بحقول قصب السكر التي هي مصدر الدخل القومي للبلد، فالزراعة فيها جيدة لتوافر المياه وخصوبة أرضها، ولا تَملك موريشيوس موارد طبيعية ولا مواد خام، وتتأثر بالعواصف الاستوائية التي قد تدمر المحاصيل والممتلكات، وبرغم تلك السلبيات، تعد موريشيوس من أجمل الدول في العالم، والذين زاروها قديمًا طالَما وصفوها بأوصاف شاعرية جميلة، ففي سنة 1629م عندما زارها الكاتب الإنجليزي ( Addison,and Hazareesingh,1993,p.11 ) Thomas Herbert [1] وصفها بأنها " An island of paradise " جزيرة من الفردوس. قال عنها: Mark Twain [2] واصفًا إياها مبالغًا في ذلك على طريقة الأدباء في المبالغة فقال:" God made Mauritius first then modeled heaven on the island ". ( Addison,and Hazareesingh,1993,p.11 ) بمعنى: "إن الله خلق موريشيوس أولًا، ثم حاكى الجنة على منوالها". ويذكر Hazareesing أن العرب أول من نزلوا موريشيوس حين مروا بها في أثناء رحلتهم بين الهند والبحر الأحمر في القرن الرابع عشر. وقد عثر على خريطة للشريف الإدريسي موجودة حاليًّا في متحف موريشيوس يرجع تاريخها إلى عام 1153م، وفيها يذكر الإدريسي موقع موريشيوس باسم " Dina Arobi " [3] ؛ أي: الجزيرة الخالية. وأول من حاول الاستيطان في موريشيوس هم الهولنديون، وذلك في القرن السابع عشر، ثم دخلها البرتغاليون، ولم يظهروا أي رغبة في استيطانها، وفي زمنهم انقرض طائر يسمى [4] الدودو، وكان لا يوجد إلا في موريشيوس. وفي عام 1725م استعمرتها فرنسا واستمر ذلك حتى عام 1810م وفي تلك الفترة جعلتها فرنسا بلدا مزدهرا، وجيء بالعمال من الخارج للعمل في الحقول والمزارع والعمل في الميناء، وشقوا الطرق وبنوا مصانع ومستشفيات ومدارس. وفي عام 1810م هاجم البريطانيون الفرنسيين في موقعة View GrandPort جنوب موريشيوس حيث كان ذلك ميناء موريشيوس آنذاك، وبعد معركة شرسة انتهت بانتصار البريطانيين وانسحب الفرنسيون تاركين وراءهم موريشيوس في أيدي البريطانيين، واصل الاستعمار البريطاني عمل الفرنسيين في بناء البلد وتعميره، وأتوا بمحاصيل كثيرة لزراعتها في موريشيوس. وفي عهدهم ازداد عدد العمال والتجار وحرص سكانها - ومن بينهم المسلمون- على التعليم،وعلى اكتساب جميع حقوقهم الدينية والسياسية، ونالت البلاد استقلالها عام 1968م. يبلغ عدد سكان موريشيوس حسب إحصائيات عام 2009 1,275,323 نسمة، [5] وعاصمتها بورت لويس. "الأديان الموجودة في جزيرة موريشيوس هي الهندوسية، والنصرانية، والإسلام والبوذية، وهذه الديانات الأربعة الكبرى هي التي أقر بها الدستور عام 1968م، ويتكفل الدستور بحماية الحريات الدينية للجميع في الجزيرة. وقد لاحظت أثناء إقامتي في موريشيوس أن المجتمع الموريشيوسي متعدد الأعراق، فأصولهم أغلبها من الهند ثم إفريقية، ثم الصين وأوروبا، وكل فئة تحتفظ بتاريخها وثقافتها ولغتها ودينها وعاداتها الخاصة، إضافة إلى العادات واللغة العامة التي تجمعهم، كما تتميز الجزيرة باختلاف تضاريسها من وديان وجبال ومرتفعات ومنخفضات، وشواطئ وغابات وشلالات غاية في الروعة والجمال، حتى أطلق عليها لقب (لؤلؤة المحيط الهندي) ، واختلاف تضاريسها أدى إلى اختلاف الطقس فيها ما بين مناطق حارة ومناطق لطيفة، ومناطق ممطرة يسقى فيها الزرع بالمطر، وأخرى جافة يسقى فيها بالآلة، كما يتميز الشعب الموريشي بمعرفته لأكثر من لغة، فهم يتكلمون باللغة الكريولية، وهي لهجة من الفرنسية، ثم اللغة الرسمية، وهي الإنجليزية مع الفرنسية وكبار السن يعرفون الأردية، والبشبورية، وبعضهم يتكلمون بلغات أخرى ورثوها عن الآباء، كما زادت أعداد المتكلمين بالعربية والدارسين لها في الآونة الأخيرة، بعد أن أدخلت الحكومة اللغة العربية مادةً اختيارية للمسلمين وغيرهم في المدارس الحكومية، وكأن موريشيوس بهذا التنوع العجيب في أصول وعرقيات سكانها وتنوع تضاريسها، وتعدُّد الألسنة فيها، وتعدُّد الديانات بكل مذاهبها - عالم صغير متكامل في دولة صغيرة محاطة بالمياه من كل الجوانب. وشعب موريشيوس شعب لطيف جدًّا يتحلى بالهدوء الشديد، وسعة الصدر، وكرم النفس، وقد مرت عليَّ سنوات ما شاهدت فيها شِجارًا بين اثنين ولا صياحًا ولا سرقة، ولا اعتداءً ولا ما يثير الغضب بين أحد من أهلها الطيبين إلا فيما ندر، فهي من أكثر دول العالم حرية وأمنًا وأمانًا، والحمد لله رب العالمين. وسوف أتكلم عن أهلها الطيبين فيما بعد إن شاء الله تعالى. [1] يعد من الأوائل الذين زاروا موريشيوس Addison, J. and Hazareesingh, K, 1993, “New History of Mauritius”, Rose-Hill: Edition de L’Ocean Indien. Pg 11 [2] Samuel Langhorne Clemens مشهور بكنيته Mark Twain كاتب وأديب أمريكي من أشهر أعماله The adventure of Tom Sawyer [3] Mauritiusencylopedia.com/history of Mauritius . [4] طائر جميل ذو شكل غريب بشكل الوزة طوله تقريبًا متر بجناحين صغيرين جدًّا، وطائر منقرض كان موجودًا في موريشيوس فقط. [5] رسالة ماجستير بعنوان "اللغة العربية في موريشيوس .. قضية الثقافة واللغة"؛ للأستاذ/ عبدالعظيم جومن، ص 1ــ4، وقد نوقشت في الكويت في كلية الآداب قسم اللغة العربية.
الحوار الإسلامي – المسيحي وإشكالية التواصل بين الجماعات الدينية، القضايا والصعوبات والآفاق (دراسة نماذج تونسية معاصرة) تأليف: د. علي بن مبارك [1] يعد الولوج إلى عالم حوار الأديان من عوالم البحث الحساسة لأسباب عدة، كونه يعمل على التداخل مع الأمور العقائدية والمساس بها، وأن المتلقي لهذا الحوار ينتابه شعور بعدم جدواه؛ لأن كلا الطرفين لن يقر أحدهما للآخر بصحة أفكاره أو سلامتها، لكن باحثنا د. علي بن مبارك قد خاض غمار هذه التجربة الصعبة، محاولًا التأصيل لأسس هذا الحوار، وكيفية التعامل مع هذا الموضوع. ورغم هذه الصعاب، فإن ما أنجزه الباحث يحسب من الأعمال الرصينة؛ إذ أحسن التعاطي مع هذا المجال، وخوض غماره وتحليل نصوصه وتفكيكها، بدءًا من متابعته الدقيقة لتاريخ هذا الحوار في تونس عبر فعالياته الثلاث وهي: ملتقى تونس للحوار الإسلامي المسيحي، وندوة الزيتونة وأعمال فريق البحث الإسلامي المسيحي، وما التزم به من منهجية بحثية دقيقة من بدء البحث إلى منتهاه، فقد جعل أوراق الحوارات الثلاث ميدانا لبحثه، تحليلًا واستقصاء لمراميها، إيجابًا وسلبًا بعد تفكيك النصوص لاستجلاء ما خلفها، ومن الأمور المنهجية الوضاءة في البحث اعتماد الباحث على المقابلات الشخصية لبعض المشاركين في هذه الحوارات، تلك التي أضافت للبحث بعدًا نوعيًّا مما أثرى المنهجية. يُعد هذا العمل من الأعمال الجيدة في مجاله؛ إذ أحسن الباحث التعاطي مع الموضوع كونه عرض قضايا حوار الأديان، وسعى للتأصيل لها، عن طريق تحليل الخـطاب الإسلامي المسيحي، ولعلَّ أهمَّ ما مكنه من حسن التناول، وجودة المعالجة تمكنه من أدوات بحثه، إذ امتلك الباحث أدوات بحثية أعانته على التعاطي معه، وذلك بتوظيف أدواته البحثية المكتنزة لديه خاصة عمق تحليله للخطاب، توظيفه لغة رصينة غاصت في الأعماق مع تميزها بالسهولة والوضوح في الوقت ذاته، لقد أعانته تلك الأدوات في التأصيل لهذا الحوار بتحليل مفرداته وتفكيك ألغازه، وهذا ما أعان الباحث على عرض ما توصل إليه من أفكار ورؤى بصورة واضحة. ومما يحسب للباحث أيضًا، ناهيك عن عدم تعرضه لنصوص القرآن الكريم والحديث الشريف، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم عن عمدٍ وقصدٍ، وقد أجاد فيما فعل، وإنما جاء تعرُّضه لأقوال الرجال من التابعين ممن حاوروا بعض النصارى في زمانهم، والأمر ذاته في الجانب المسيحي، ومما أثرى البحث دقة استخدام الباحث للمصادر الإسلامية الموثوقة لتوجيه بحثه الوجهة الصحيحة خدمة لفكرته البحثية. ولعل من أهم الصعوبات التي واجهت الباحث تَمثلت في تحديد المنطلقات الحوارية عند كل طرف وآلية عرض وجهات نظرهم، فهذا المحاور المسيحي تُميز بامتلاكه للخطة الحوارية المرسومة له بدقة، والمنهجية البحثية، وتحديد الغايات من الحوار مع الآخر والمتمثلة بالتعرف إليه، ومحاولة التخلص من الصورة التي رسمها الاستعمار الغربي عن المسيحية في العالمين الإسلامي والعربي على السواء. ومن سلبيات العمل أن الباحث لم يُشر في ثنايا بحثه إلى شروط المحاور الإسلامي مع الجانب المسيحي من إلمام بالشريعة وعلومها المتنوعة؛ كالعقائد والتفسير والحديث..، والاطلاع على الديانات الأخرى، ومع معرفته بفقه الواقع. ولم يشر أيضًا إلى هدف الحوار من وجهة نظر علماء المسلمين الربانيين ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [المؤمنون: 96]؛ أي التعارف والدعوة وإقامة الحجة، مقارنةً بما أشار إليه من غايات المحاور المسيحي هو نشر فكرة الخلاص من وجهة نظرهم، ويمكن أن ينضاف إليها أن الغاية من الحوار لديه هو وسيلة من وسائل التبشير بالدين المسيحي لدى بيئات المسلمين الهشة. وأعلن الباحث أن المحاور المسيحي يفضل التعامل مع الفكر الصوفي والاستئناس بآرائهم، دون أن يفرِّق بين صنفين من الصوفية، فهناك الصوفية السنية، تلك التي لا تحبذ الحوار مع غير المسلمين من أصحاب الكتب السماوية، والصوفية الفلسفية والتي يمثلها ابن عربي وأتباعه المؤمنة بالتعددية الدينية سماوية وغير سماوية، وتؤمن بالحوار معهم. وأشار الباحث إلى أهمية الحوار كونه ثمرة من ثمار الحوار الإسلامي المسيحي في الواقع المعيشي، من ضرورة التأسيس لثقافة الحوار في الذهنية الإسلامية للشباب المسلم. ولفت النظر إلى أهمية الحوار البيني بين المسلمين أنفسهم من سنة وشيعة وإباضية، وتساءل عن عدم إشراك الشيعة والإباضية في الحوار الإسلامي المسيحي، ولكن ما فات الباحث أن المحاور المسيحي معني بأهل السنة أيَّما عناية كونهم محور الإسلام، لِما يمتلكونه من خبرة ثرة في الحوار معهم منذ القدم، ولهم نقاط تماس ثرة معهم عبر حوارات الأديان المتعددة. وأما الآخرون فهم على الهامش في هذا الموضوع، نظرًا لعدم وجود احتكاكات لهم مع الجانب المسيحي. وأثار الباحث في ذات القارئ التساؤل الآتي: ما الغاية من الحوار الإسلامي المسيحي في تونس؟ مع أن نسبة المسيحيين واليهود لا تتجاوز 1% مقابل 99% للمسلمين، وقد أفاد الباحث بأن هذه الحوارات تعقد بدعم رسمي، وبعيدة عن القطاع الأهلي. وأما عن خلفية المتحاورين المعرفية بموضوع الحوار، فقد وجد الباحث بونًا شاسعًا بين الطرفين؛ إذ إن المحاور المسيحي قد تسلَّح بأدوات حوارية عالية تقف خلفها مؤسسات بحثية كثيرة، فهم قد أعدوا أنفسهم جيدًا في المعرفتين المسيحية والإسلامية، وفي المقابل فإن المحاور الإسلامي والذي أسند إليه أمر الحوار، فقد جاءت أدواته متواضعة تميل نحو البساطة والارتجالية في طرح أفكاره، وجاء حواره عاطفيًّا بعيدًا عن المعرفة العميقة، كون مَن أُسند لهم أمر الحوار هم من الأكاديميين، ومن أصحاب الفكر العلماني، والذين يغلب عليهم عدم التعمق في البعد الإسلامي، وأيضًا رغبتهم بإظهار وجودهم عبر ملتقيات حوار الأديان، لذا قد تنبَّه الباحث بأن أوراقهم البحثية قد اتَّسمت بالسطحية وعدم التعمق، وهذا يثير تساؤلًا لدى القارئ مؤداه: لماذا جرى استبعاد أصحاب الحوار الشرعي الأصيل الذين تتوفر فيهم خصائص عدة من إلمام بالشريعة وعلومها المتنوعة؛ كعلم العقائد، ومعرفة بالديانات السماوية، مع فقه الواقع؟ وتحضرني في هذا الجانب وجهة نظر العالم مصطفى الزرقا - رحمه الله- والذي سئل عن وجهة نظره بحوار الأديان، فأجاب بأن المسيحيين واليهود وغيرهم عند التوجه لمحاورة المسلمين، فإنهم يأتون بأعظم القساوسة والرهبان والأحبار لديهم، وأما المسلمون فيسندون الأمر للفئة الفقيرة بالعلوم الشرعية وغيرها، وهذا ما أثبته الباحث ابن مبارك أن المحاور المسيحي تقف خلفه مؤسسات ضخمة، وعلى رأسها الفاتيكان ومؤسسات بحثية متخصصة بهذا الجانب. ومن المآخذ التي تؤخذ على هذا العمل، إشارة الباحث في العنوان إلى إشكالية التواصل بين الجماعات الدينية، لكن المتابع للعمل لا يلحظ وجود إشارات لهذه الجماعات، أو تحديد لها عبر ثنايا العمل، ويلاحظ القارئ للعمل أن هناك تسرعًا في إصدار الأحكام في قضية الحقيقة الدينية المطلقة؛ إذ عدها الباحث وهمًا، وهذا الأمر يحتاج إلى توقف، فهناك حقائق دينية مطلقة؛ كالذات الإلهية، والكتب السماوية، والقرآن والبعث والجنة والنار.. الخ. والمتابع للعمل يلحظ أن لدى الباحث تعاطفًا مع قطاع الحوار المسيحي في مقابل القطاع المقابل وهو الحوار الإسلامي، وظهر ذلك في مواقف معينة في الكتاب، كتحميل المسلمين مسؤولية تعثر الحوار مع المسيحيين، وظهر ذلك على سبيل المثال ص 204؛ إذ يقول: "لقد تبيَّن من خلال تناول الصعوبات المتعلقة بالحوار الإسلامي المسيحي أن جهل المسلمين بالآخر المسيحي، وجهلهم أحيانًا بتقاليد دينهم حال في أغلب الأحيان دون تواصل حقيقي بين المتحاورين من المنظومتين الدينيتين"، دون أن نجد من الباحث تحميلًا للطرف الآخر أدنى مسؤولية، بل أوقع المسؤولية غالبًا على الجانب المسلم، ولربما تثير قراءة هذا الكتاب لدى المعنيين ضرورة المتابعة البحثية لموضوع العراقيل الموضوعة من قبل المحاور المسيحي أمام المحاور المسلم، لإظهار فشله في إدارة الحوار مع الآخر. ولتأكيد فكرة التعاطف آنفة الذكر، جرى تقديم الكتاب المقدس على القرآن الكريم في قائمة المصادر والمراجع، علمًا أن الباحث قد رتَّب المصادر والمراجع حسب الحروف الهجائية، وبناءً عليه فمن المفترض أن يتقدم القرآن الكريم على الكتاب المقدس، فحرف القاف يتقدم على حرف الكاف. ومن العتب الذي يسجل على الباحث عدم إردافه اسم الرسول محمد بالجملة الدُّعائية (صلى الله عليه وسلم). وختامًا، فإن هذا العمل يحسب من الأعمال الجريئة والرصينة في موضوعها، وقد فتح الباحث الباب للآخرين للمتابعة فيه، وإشباعه بحثًا، ومع تميُّز شخصية الباحث بسَعة الأفق والأناة في متابعة الفكرة من مظانها المتعددة. [1] علي بن المبارك: الحوار الإسلامي- المسيحي وإشكالية التواصل بين الجماعات الدينية: القضايا والصعوبات والآفاق: (دراسة نماذج تونسية معاصرة)، مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس،2021م.
أعجبني في موريشيوس جزيرة موريشيوس درة المحيط الهندي ولؤلؤته المكنونة، ننظر إليها نحن العرب بإكبار واحترام شديدين لِما تتميز به من هبات وهبَها الرحمن سبحانه وتعالى إياها، فهي رغم صغر حجمها، فإنها جمعت بين ثقافات وعرقيات ولغات وأديان مختلفة، وكانت مع ذلك الاختلاف نموذجًا رائعًا في التعايش والتفاهم والتعاون، كما تنوعت فيها مشاهد الطبيعة والجمال، بحيث إنك يمكن أن تشاهد فيها خلال ثلاث أو أربع ساعات ما يمكن أن تشاهده في قارة بأكملها من حدائق وغابات وشلالات وشواطئ وجبال ووديان، وعيون وأنهار ومعارض ومطاعم غاية في الجمال والمتعة، كما أنك ستسمع فيها الألسنة العربية والإنجليزية والفرنسية والأردية والهندية والصينية والكريولية. كنت أقرأ عن أثر البيئة في طباع أهلها وأخلاق سكانها، حتى أقمت في موريشيوس فرأيت حقيقة ذلك في رقة أهلها ولطف سكانها، ذلك اللطف الذي يتناغم وينبع من جمال أرضها وعذوبة مائها. تلك الجزيرة الإفريقية الخلابة الواقعة في المحيط الهندي، يكمُن سرُّ قوتها ونهضتها في الاهتمام الشديد بالإنسان كإنسان، بغض النظر عن أصله أو لونه أو دينه، كما يبدو سر قوتها في التعايش والتمازج بين سكانها، ومن ثم فإن اختلاف الأجناس والثقافات المختلفة فيها كان عامل قوة في النهوض بها، فتراها وقد تمازجت الثقافات لتتلاقح في تناغم بعيدًا عن المذهبية والعصبية للدين أو الجنس. ورغم أن مساحتها صغيرة جدًّا، ومصادر دخلها محدود جدًّا، فإنها توفر التعليم مجانًا حتى نهاية المرحلة الجامعية، كما أن نقل الطلاب إلى المدارس تكفله الدولة، فالتعليم بكافة تخصصاته خدمة مجانية في موريشيوس وليست سلعة للبيع. والتعليم في جزيرة موريشيوس إلزامي من سن 6 إلى 16 سنة، وهذا يسد باب الأمية من منابعها، ومن ثم لا أمية في موريشيوس إلا فيما ندر. كما أنها توفر العلاج والرعاية الصحية مجانًا لجميع مَن على أرضها من مواطنيها وغيرهم، ويشمل ذلك العمليات الجراحية ذات التكاليف الباهظة، فلا تجارة في صحة المواطنين. موريشيوس تكفل كبار السن، وتوفِّر لهم معاشًا يكفيهم لعيش حياة كريمة، كما أنها بها دورًا لرعاية المسنين واليتامى تكفلها الدولة وترعاها بعناية شديدة. والدولة تبذل جهودًا جبارة في مكافحة الجرائم والمخدرات، ومن العجيب أن الدولة توفر للمدمنين جرعات دوائية آمنة تساعد على التعافي والعلاج وتعطي مِن قِبَل الشرطة، خوفًا على حياة المدمنين من أخذ جرعات زائدة تودي بحياتهم من قبل المجرمين، وحتى تقيهم الحكومة من اللجوء للسرقة واقتراف الجريمة، واعتبرت الحكومة بموافقة البرلمان أن القيام بهذا العمل مع المدمنين هو ارتكاب لأخف الضررين. وقد أثمر اهتمام الدولة بالمواطنين حالة قوية جدًّا من الانتماء والأمن، قلما تجد له نظيرًا في دولة أخرى. المواطنون في جمهورية موريشيوس من أغنى موطني دول إفريقيا، رغم انعدام الموارد الطبيعية فيها من زيوت أو معادن، وإنما اعتمادها اقتصاديًّا على الإنسان، ثم الزراعة والسياحة وصناعة المنسوجات، وتكنولوجيا المعلومات. المواطن يعامل من قبل موظفي الحكومة بلطف شديد، وتلبي احتياجاته، ويرد على شكواه بعناية واهتمام. الإنفاق العسكري يأتي في هامش الميزانية والتركيز في الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات، وتحقيق العدل والأمن والمساواة في الحقوق والواجبات، وقد أثمر هذا في المواطن احترام القوانين، والالتزام الشديد في تطبيقها حتى يخيل إليك أنهم فطروا عليها. المسلمون في موريشيوس شعارهم قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"، لذلك تراهم رغم أنهم أقلية إلا أنهم نشيطون جدًّا ومتفاعلون جدًّا في خدمة المجتمع والمشاركة الفعالة مع كل أطياف المجتمع قدر ما لديهم من إمكانات، وقد ظهر ذلك جليًّا حال نازلة كرونا؛ حيث كان التعاون والتكافل وتوزيع الطعام وسد حاجة المحتاجين والفقراء.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها (العِرقية) نظرة الغرب إلى الآخر غير الغربي محدد أساسي من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، بل إن الشخص الأوروبي ينظر إلى غير الأوروبي نظرة قائمة على الفوقية [1] ، بغَضِّ النظر عن الخلفية الثقافية لهذا الشخص، فيستوي في ذلك الشرقي وغير الشرقي، سواء أكان هذا الشرقي مسلمًا، أم كان من ذوي الثقافات الأخرى؛ كالهندوس والبوذيين والزرادشت والمجوس والوثنيين الآخرين؛ ولذا لم يتحمل الغرب أن ينظر إلى الإسلام على أنه دين شامل، بل نظر إليه على أنه دين آتٍ من الشرق، ومن العرب تحديدًا؛ ولذا يُستخدم المصطلحان الإسلام والعرب تبادليًّا، بل إن مصطلح العرب عند الغرب طاغٍ على مصطلح الإسلام،ويندر ذكر مصطلح الإسلام في مقابل مصطلح العرب، إلا لدى المستشرقين الذين تمكنوا من التفريق بين المصطلحين. أما العامة من الغربيين فإن العرب عندهم تعني الإسلام والمسلمين؛ ولذا فإنه من الغريب عندهم أن يوجد من بين العرب نصارى أو يهود، ويستغرب الغربي أن يتحول الأوروبي إلى الإسلام، وكأنهم ينظرون إليه على أنه تحول عرقًا من الجنس الأنجلوساكسوني أو الجنس الآري إلى الجنس العربي، ولم يتحول من النصرانية أو اليهودية إلى الإسلام دينًا. والإصرار على تغليب العرب مصطلحًا على الإسلام ناتج، فيما يظهر، عن الرغبة في التوكيد على محلية الإسلام، وأنه مقصور على العرب الذين كانت لهم نظرة خاصة عن غيرهم، مبنية على ما كانوا عليه قبل الإسلام، في مقابل الأمم الأوروبية المتحضرة، من رومان ويونان (إغريق) وبيزنطيين قبل النصرانية وبعدها. وهم يدركون بحماسهم العرقي أنهم يتنازلون هنا عن الحماس الديني، من حيث التوزيع الجغرافي؛ ذلك أنهم برغم كونهم في الغالبية نصارى كاثوليك أو بروتستانت أو أرثوذوكس، يدركون أن النصرانية إنما جاءت من الشرق، ولا يزالون يقصِدون "يحجُّون" بيت المقدس، وأعظم قداس عندهم عند الاحتفال بمولد عيسى ابن مريم - عليهما السلام - هو ذلك القداس الذي يقام في بيت لحم ليل الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر من التقويم الميلادي، على اعتبار أن بيت لحم في فلسطين المحتلة هي المكان الذي ولد فيه عيسى ابن مريم - عليهما السلام - تلك الليلة أو ذلك اليوم [2] . وكذا الحال يقال عند اليهود؛ إذ إن جغرافية اليهودية انطلقت من الشرق موطن العرب الآن،ولدينا في هذه المواطن مواطنون عربٌ لا يزالون يحتفظون بديانتهم النصرانية الأرثوذوكسية غالبًا، واليهودية،ويدرك هؤلاء أهمية الفصل بين المصطلحين الإسلام والعرب؛ لأنهم عربٌ، ولكنهم غير مسلمين، ويفتخرون بعروبتهم كما يفتخرون بنصرانيتهم ويهوديتهم، وإن قدموا إحداهما على الأخرى في التفضيل من منطلق الولاء والبراء، بل إن منهم من يفتخر بأن ثقافته إسلامية رغم أنه غير مسلم؛ وذلك لِما لقِيَه وبني عقيدته من تعايُش ودي بين المسلمين. وتأسيسًا على ذلك يمكن الزعم بأن هذه النظرية العرقية الفوقية قد حالت دون تقبل الأوروبيين (الغرب) للإسلام، وحالت دون قبوله دينًا شاملًا، رغم تزايد أعداد المسلمين في المجتمعات الغربية من المهاجرين ومن المقيمين. ولا تزال بعض المجتمعات الغربية لا تعترف بالإسلام دينًا يمنح أتباعه ميزاتٍ رسمية في العمل والدراسة، وتراعي سلوكياتهم المبنية على ما يمليه عليهم الإسلام؛ كالذبح الحلال، واللباس المحتشم للرجال والنساء، والأعياد، لا سيما عيدي الفطر المبارك والأضحى، وصلاة الجمعة، وإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وغير ذلك؛ كالمدارس والمقابر. في حين أن المسلمين قد تخلَّوْا عن العرقية المؤدية إلى التفاضل الجنسي، منذ أن أبدلهم الله الإسلام نسبًا عن أي انتماء آخر؛ فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وأصبحت التقوى هي معيار التفاضل، ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]،وإنما هي فورة عربية ظهرت عندما بزغ التوجه إلى القومية العربية، فحاول القوميون التوكيد على العروبة أولًا، ثم الدين أيًّا كان ثانيًا، حتى ليقول عمر فروخ - رحمه الله -: إنه كان من العيب التعرُّف على دين العربي على حساب الوحدة والقومية العربية [3] . وإنما جاءت هذه الفورة في وقت خفَتَ فيه نجمُ المسلمين،وعندما عاد الإسلام إلى الإشعاع تقهقرت الدعوة إلى القومية العربية، ونُظِر إلى العرب بقدر ما يحملون رسالة الإسلام إلى الآخر، الأمر الذي سيؤثر إيجابًا على تقهقر الفوقية العرقية لدى الغرب لمصلحة الإسلام، الذي لم يفرق بين أبيض وأسود؛ أي لم ينظر إلى العرق أو الجنس على أنه عامل من عوامل الانتماء لدى الناس. وعليه، فإن العِرقية في كونها محددًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، لا سيما الإسلام، هي عامل موقَّت، يزول مع وضوح الرؤية نحو الإسلام بانتشاره في المجتمع الغربي على الصورة الصحيحة، التي يراد له الانتشار بها دينًا قيمًا صافيًا نقيًّا خالصًا من أي شائبة تنفِّر الناس منه،ويزول كذلك مع التخلي التدرجي للغرب عن عرقيته وشعوره بالفوقية تجاه الأمم والشعوب الأخرى التي يراها من أنصاف البشر،وسيزول بذلك شعور الغربي بأنه نصف إله. [1] انظر: إدوارد سعيد ، الآلهة التي تفشل دائمًا/ ترجمة حسام الدين مصطفى - بيروت: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، 2003م - ص 7 - 8. [2] وعند المحققين كلام حول هذه النظرية له علاقة بوجود النخلة في موسم الرطب، مما يعين على الدقة في تحديد مكان الميلاد وزمانه، سيأتي مجال التعرض إليه ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]. [3] انظر: عمر فروخ ، الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة - ص 125 - 143 - في: الإسلام والمستشرقون/ تأليف نخبة من الكتَّاب المسلمين - جدة: عالم المعرفة، 1405هـ/ 1985م - ص 511.
عشرة أسباب تجعلك لا تغامر بأموالك في العملات الرقمية المشفّرة 1- مثل هذه المسألة الجديدة تحتاج إلى اجتهادات شرعية جماعية، ومعظم دور الإفتاء واللجان الشرعية ترى حرمة التعامل بالعملات الرقمية المشفّرة، لأنها تفتقر إلى المحدّدات والضوابط الشرعية للنقود، فلا ينبغي الاعتماد على رأي فردي في مثل هذه النازلة. 2- تردّد الدول وبنوكها المركزية في اعتماد هذه العملات يعطي مؤشرًا واضحًا لشبهتها وعدم الثقة بها، فمن باب أولى أن يتردّد الأفراد وألّا يغامروا فيما هو ليس بشرعي ولا قانوني. 3- عدم وجود رأي اقتصادي معتبر لجدوى الاستثمار في هذه العملات بيعًا وشراءً وادخارًا، بل أهل الخبرة يؤكدون بأن هذه العملات مجرد فقاعات وقتية، والعاقل لا يغتر بالفقاعات لأنها حتمًا ستنفجر وتتلاشى. 4- الغموض الذي يدور حول معظم هذه العملات الرقمية مِنْ حيث مَنْ يقف وراءها وحجمها ودوافع إصدارها، ويكفي البحث عن حقيقة شخصية مخترع عملة بيتكوين (ساتوشي ناكاموتو) ! 5- هذه العملات لا تُمثِّل أصولًا حقيقية، بل هي مجرد أرقام إلكترونية في فضاء الشبكة العنكبوتية تدار من جهات مجهولة لأغراض مجهولة. 6- عدم وجود سلطات رقابية ولا قانونية تحمي المتعاملين بهذه العملات، مما يُعرّض المتعاملين بها للمخاطرة الكبيرة والنصب والاحتيال. 7- التذبذب الشديد في أسعار هذه العملات، فعملة (بيتكوين) مثلًا كان سعرها في ديسمبر ٢٠٢٠م (٢٨٠٠٠ دولار) ، ثم ارتفعت في مارس ٢٠٢١م إلى (٦٠٠٠٠ دولار) ، ثم انخفضت في يونيو ٢٠٢١م إلى قرابة (٣٤٠٠٠ دولار) ، ثم عاودت الارتفاع في أكتوبر ٢٠٢١م متجاوزة (٦٠٠٠٠ دولار) ، وهذا التذبذب الجنوني ارتفاعًا وانخفاضًا ليس له تفسير منطقي أو تحليل اقتصادي مقبول، إلا أنه أشبه بنادٍ للقمار كبير. 8- التأثير السلبي للمتاجرة بهذه العملات على اقتصادات الدول خصوصًا في جانب التضخم، فكما هو معلوم أن زيادة المعروض النقدي من الأسباب الرئيسة للتضخم، ومزاحمة هذه العملات الرقمية للعملات القانونية من شأنها إحداث هزات تضخمية. 9- هذه العملات لها دور في عمليات غسيل الأموال المشبوهة والمعاملات غير المشروعة، ويكفي تتبع أخبار المداهمات الأمنية في الدول الغربية لمن تورطوا في ذلك. 10- التأثير السلبي على الجانب النفسي، فنجد أن الذي يدخل في عالَم هذه العملات ينتابه القلق والخوف، ويبني أحلامه على الأماني الزائفة، وقديمًا قيل: إياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النَّوْكَى (أي: الحمقى) !
غزوة بني النضير أحداث ودلالات إن أحداث التاريخ متعلقة بعضها ببعض، ومنه مطالبته صلى الله عليه وسلم يهودَ بني النضير دِيَةَ رجلين قتلهما الصحابي عمرو بن أمية الضمري العامري، لحلف كان بين بني عامر ويهود. وإذ مكرت يهود بني النضير بنبينا صلى الله عليه وسلم، حين طالبها بدية ذين الرجلين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وبمقتضى ذلكم العهد الذي كان مبرمًا بينهما، ورأتها فرصة لقتله صلى الله عليه وسلم، فهو برهان عمل نقض عهدهم فيهم أبدًا. إن يهودَ هكذا جِبلتهم، لا تنهض تستريح إلا بنقضٍ، وإن طبيعتهم لا تستكين إلا بكيد، وخبيئتهم لا تطمئن إلا بخلف، وحين أجمعت أمرها لقتله صلى الله عليه وسلم! إن يهودَ ومن رحمته تعالى أن كانوا عددًا قليلًا – ولا يزالون - لأن هذه القلة عاثت في أرضه تعالى فسادًا، ولربما كان من فعلهم ما يصير به مثل ماء المحيط مِلحًا، فما بالهم لو كانوا كثرة؟ فأي ماء كان سوف يصير من فعلهم ملحًا أجاجًا؟! إن مسلمًا لا يُستراح له بال إلا بعفو وبذل وتجاوز وإحسان، وإن يهود لا يهدأ لها بال إلا بخلف ونقض وبغي وعدوان، وتبارك بارئ هذا! وسبحان خالق ذاك! (نعم يا أبا القاسم نُعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه) [1] ؛ هذا رد يهود بني النضير عليه صلى الله عليه وسلم، وحين طالبهم بدية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، لعهد بينهما، وإنما هم قد أخفوا أمرهم، ولا يعلمون أنه تعالى كاشفُ سرِّهم ونجواهم ومخزيهم معًا. إن قلبًا متصلًا بالله تعالى ما كان لله ليذره، وما بالنا بنبينا صلى الله عليه وسلم؟! وحين أطلعه تعالى على كيد يهود بني النضير به، أو كيد غيرهم أيضًا، وإذ إنه تعالى مانع نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكنه الشَّطط حين يملي لصاحبه أضغاث أحلام، تكون بيئة ملائمة لإسقاطه في مستنقع كيده، ومن ثَم َّيكون هلاكه به، والله المستعان. إن غشاوة وضعها بنو النضير على أعينهم، وكيما تستميت جاهدة استغفال أنفسها، لا غيرها! أنه تعالى ليس مانعًا نبيه منهم، أو من غيرهم، وهكذا يؤدي بهم خداعهم أنفسهم، ولينفذ أمره تعالى فيهم، إجلاء وذلًّا وخَسارًا، وإذ ها هم يجرون أذيال خيبتهم معهم، وليكون تطهير المدينة منهم، ومن رجسهم معًا! ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]: هذا نص القرآن فيمن يتطاول على منهجه تعالى، وهذا برهان وضع أحدنا يده على ذات فؤاده، وليشمر عن ساعدي جدِّ إخلاصه لله تعالى وخشيته. من ذا الذي تغيب له خافية عن مولاه تعالى؟ وحتى ذهبت ببني النضير الأمانيُّ، وأنه تعالى لا يعلم ما تكِنُّ صدورهم ببغض نبينا صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون طاعته في دية القتيلين؟! مفارقة (1): وإذ قالت يهود: (نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه) [2] ، هذا وجه يهود الأول، وإذ قالت يهود أيضًا: (فمن رجل يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟) [3] ، وهذا وجههم الآخر، فخرجوا لنا بوجهين مختلفين، ولسانين متباينين، وفي مجلس واحد، وما تفرقوا عنه بعد، والله المستعان. وإنه لا تنطلي خفية يزعمها ذو الوجهين، ولأن الله تعالى كاشف خبيئته، وانظر كيف كان صنيعه يوم فعلت ذلك بنو النضير، وليكونوا آية للعالمين، وإلى يوم الدين؟! وإذ لو عقلت يهود، لدفعت دية العامرِيَّين! وإذ لو استيقظت لم تكن لتتعدى أصول المواثيق، وحين أمعنت في خطة قتل نبيٍّ جاءهم بالهدى ودين الحق، وليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن ثمن نقضهم كان فادحًا، فأظهر الله سوأتهم، وحين حاولوا طمس خبيئتهم، وكأنما تنطلي عليه تعالى قريحتهم، وهكذا يزعمون، وفي غَيِّهم يعمهون، وهذا جهل بربٍّ قادر قهار، وإله غالب جبار، سبحانه! وإنه لا مساغَ لاستدراكٍ عليه تعالى، وأنه لم خلق خلقًا كيهود، وإذ هي قريحتهم، ولأنه ابتلاء، كيما يتجدد في العالمين حركة دائبة، يتتبعونهم وراء كل جحر، دفنوا رؤوسهم فيه، وبه تتحقق سنة التدافع الربانية، والتي كانت من أخص خصائص حركة التاريخ في الكون، وفي التصور الإسلامي بوجه أخصَّ. وليرجع عمرو بن جحاش بخُفِيِّ حُنين، وليردَّ الله كيده ويهود في نحورهم، وحين تنبئ السماء نبينا صلى الله عليه وسلم، أن قُمْ - يا رسول الله - من ها هنا مكانٍ، تُدَسُّ لك فيه سموم يهود وغيظهم! أنا لذلك: هذا قول عمرو بن جحاش، وحين عرضت يهود من يقتل محمدًا! ثم تستل عناية ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم من بينهم، وينقذه وينجيه، لينكفئوا جميعًا، خزايا حيارى، أمام تحدي السماء. وإذ يقوم نبينا صلى الله عليه وسلم ناهضًا من مكان رجس يهود، ومن بين أيديهم، وها هو نبأ السماء، أنه تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال! وجه المسألة الأولى: وإذ أجمعت يهود غيظها إسقاط حجر على نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي عقر دارهم، وبلا قيد مروءة، هي ألف باء التعامل البشري، وإذ جرت العادات حماية حِمى ضيف حلَّ، وذلك فضلًا عن إكرامه جائزته وضيافته. مَنْ أسرَعُ؟! هذا سؤال لا محل له، وإذ خُيِّل ليهود أن تسابق زمنًا، خلقه رب الزمن، وليفحمهم حين يصعد أجيرُ عمرو بن جحاش بحجره، لتنزل السماء إخباره صلى الله عليه وسلم أمرها أن: قُمْ، وإنما تصحبك رعاية مولاك وحفظه، وإكلاؤه وعنايته، وإنما أنت رسوله، وإنما أنت نبيه، وإنما أنت صفيه! مفارقة (2): وبَونٌ شاسع، وفرق واسع بين رؤيتين: رؤية عمرو ين جحاش وإذ غرته جهالته، وحين أعمى الله تعالى بصيرته، وأنه يمكنه نفاذ أمره، وبين أمر الله، وحين قال: أنا لذلك [4] ، ورؤية سلام بن مشكم، وحين كان ذا عقل راجح - ولا يمنع – وإذ قال: لا تفعلوا، والله ليخبرنَّ بما هممتم به أنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه [5] . إنني وغيري ولا شك تغمرهم الدهشة كلها، وفي سائر معانيها ومراميها، ولِمَ لَمْ يُسلم عمرو بن جحاش، وحين رأَى رأْيَ عينِ أمِّ رأسه استلاله صلى الله عليه وسلم من بينهم سالمًا منصورًا، ولأن هذا فوق التصور البشري، وأن قدرة أخرى من ورائه كانت سبب الإنقاذ، مما شكل تحديًا، كان في حدِّ ذاته برهانًا على الإعجاز الرباني والتحدي الإلهي اللذين طالما رفرفا وهيمنا على سماء الموقف كله، تفردًا وقيمة وسلطانًا، وعظمة لله تعالى العلي الأعلى سبحانه! وجه آخر للمسألة: وليس يمنع من خبر عمرو بن جحاش خبرًا آخر مقتضاه أن امرأة من يهود أخبرت أخاها، الذي كان يهوديًّا فأسلم، أنهم أجمعوا أمرهم لقتله صلى الله عليه وسلم، وحين ((أرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حَبْرًا، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنا بك، فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه، قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون، كلٌّ يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير لأخٍ لها مسلم تُعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع) ) [6] . إن الله تعالى الذي قال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، وما كان ليهود، وإذ عرفت ذلك، أنه يمكنها نَيلٌ - ولو من ثقب - من نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أيضًا معصوم بأمر ربه؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، وإنه لو كان قد نزل قول الله تعالى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39] في غير موسى عليه السلام، لكان ليهود شبهُ عذر، وحين استغفلت أنفسها، وأنه يمكنها زعم - فقط زعم – نَيْلٍ - ولو ما أسمي في القاموس نيلًا - منه صلى الله عليه وسلم! وعلى أي وجه كانت المسألة: فماذا هي قائلة يهود، وحين يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم، من بين أيديهم سالمًا منصورًا، وإذ لم تمس شعرة واحدة منه؟! ولربما لو كان غيرها لأسلمت وجهها لله، وعن آخرها، لكنه الصرف والختم؛ وحين قال الله سبحانه: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146]. حين خذل ربُّنا تعالى يهود بخروجه صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم سالمًا منصورًا، وليعلم الناس أنه لا تغني الآيات والنذر، ومن حيث كان علمه تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون! مفارقة (3): وإذ يرى عامر بن الطفيل العامري خبيب بن عدي شهيدًا، ترفعه الملائكة، وأمام عينه، وترى يهود استلاله صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم سالمًا منصورًا، ولا يؤمن عامر! ولا تؤمن يهود! إن يومًا أشبه البارحة، وحين توافق العامريون أحلاف يهود ومع يهود ألَّا يؤمنوا، ومن بعد الآيات والنذر: ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]! وإذ تصحب نبينا صلى الله عليه وسلم عنايةُ ربه تعالى، وإذ خرج من بين يهود سالمًا آمنًا، وكان يمكن تتبعه وظفر به، لكن ما يحكم معادلة بيننا وبين أغيار معاندين هو قول الله تعالى سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]، وإذ إن حرمان التوفيق إنما يتأتي، وحين يتقمص أحدهم ثوبًا ليس له، وحين يؤدي به طغيانه وكِبره أنه فوق مستوى المقدورات الربانية الحكيمة الكريمة، والتي لا يتسنَّى لأحدهم خروج عنها شيئًا، وفضلًا عن أن يكون خاضعًا لسلطانها، ومهيمنة عليه أجمعه، وكل حين! نتيجة التآمر: وإذ بعث نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة، يأمر يهود بالخروج من جواره وبلده، وحين هموا بقتله خيانة عظمى، ويقول أسلافهم: سنعود إلى المدينة، ولو كان غيرهم لاستحيَوا! أي عَودٍ إلى المدينة يزعمه يهود، وهم أولاء الذين أخرجوا أنفسهم، بنقضهم عهدًا، ونبذهم وعدًا، وخلفهم عقدًا، وإجماعهم كذبًا، وبهتانهم زيفًا؟! إنه لو عقلت يهود، لغارت بهم أرضهم من تحت أرجلهم خجلًا، ولانحاشوا من بلادهم، إلى حيث لا بلاد، فتتلقفهم طيور طاوية جائعة، وتفترسهم دواب جارحة، تقتات بلحومهم، ظامئة ترتوي بدمائهم. وهكذا وبعد موافقة يهود على خروجهم من يثرب؛ تطهيرًا لها منهم، دبت فيهم داعية الخلف، وبسبب تحريض المرجفين، وما هم بمغنين عنهم شيئًا. كان نبينا صلى الله عليه وسلم حليمًا مع يهود، حين حاصرهم، بعد خُلفهم وتآمرهم على مقام نبوته الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا فن عسكري: اسلك دروبًا عدة قبل رفع السلاح. شبهة انتشار الإسلام بحد السيف: إن قراءة الناس لتاريخنا مشوبة، وحين زعموا انتشار الإسلام بالسيف، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم، يحلُم بيهود، وإذ لم يفتك بهم ابتداء، رغم خيانة عظمى، تُجيز ضرب الرقاب، وإذ قد حاصرهم؛ للفتِّ في عضدهم، فيسلمون أو يستسلمون، أو يجلون أو يخرجون. وإذ كان نبينا صلى الله عليه وسلم صابرًا غاية صبر نبي - فضلًا عن صبره صلى الله عليه وسلم - مع يهود، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، من بعد غدرهم، ولما حاصرهم؛ لدفْعِهم إلى النزول، ودون إراقة دماء، ما كان إلى ذلك سبيل! مفارقة (4): إن مفارقة بين فعل يهود في فلسطين، وبين حلمه صلى الله عليه وسلم معهم، وإذ يداديهم ليخرجوا من يثرب سالمين، وبعد خيانة عظمى، سنَّت لها القوانين الدولية عقوبة الإعدام، وإذ كان حصاره صلى الله عليه وسلم يهود عملًا عسكريًّا ممتازًا؛ لأن فيه محاولة إجبار الخصم، نزولًا على الحق، دون إراقة دماء، وفيه قطع خطوط إمداده لذلك السبب نفسه، ويوم اللقاء إذا فُرض، فلا يلومن أحد حينها إلا نفسه! وإذ حاصر نبينا صلى الله عليه وسلم يهود خمس عشرة ليلة كاملة، قطعًا لخطوط إمدادهم، ومحاولة إرغامهم أن يتوبوا، أو أن يخرجوا، وبأقل خسائر ممكنة للطرفين، وهذا فن عسكري أيضًا! كان قطع نخيل يهود وتحريقه خيرًا، وبدل أن يقتلوا، وهذا فن عسكري باهر، إذ كلما أمكن حقن الدماء، فكل ما دونه يسير، ولا اعتبار لاعتراض الخصم هنا، ولأن كل خصم شديد الحساسية تجاه خصمه، وفيما يتخذه من إجراءات. تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة: ولا زال عبدالله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه حاضرًا، إذ أمَّره صلى الله عليه وسلم على المدينة يوم بني النضير، وبعد إذ عاتبه ربه فيه، برهان جبرِ خواطرِ المنكسرين وتأهيلهم، عملًا إيجابيًّا حميدًا. أثر الحصار على الخصم: يهود بني النضير نموذجًا: وحقًّا قد عمل حصار يهود فيهم عمله، حتى سألوه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويتجاوز عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحَلْقة؛ أي: السلاح! وإذ أجلى صلى الله عليه وسلم بني النضير، ودون سلاح، وفيه جواز نزع سلاح الخصم؛ لتجريده، وإضعاف شوكته، وهذا خير لطرفي النزاع، وقطعًا لمادة المحاربة، وهذا فن عسكري! ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، وإذ سأل يهود جلاءهم، وتجاوزوا عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدم الرجل بيته، فيضعه على ظهر بعيره ويفر. وهكذا حين تخطئ الحسابات العسكرية فينحدر سيلها جارفًا، وهذا ما حدث ليهود، وحين تآمروا، وحين لم يعلنوا توبتهم، وحين خربوا بيوتهم وبأيديهم. إن المرء ليقف حاسرًا حائرًا، وماذا كان سوف يضير يهود لو آمنوا، أو تابوا من خيانتهم، ليعيشوا في بيوتهم آمنين، ودونما هكذا ذل إجلاء مهين؟! إن الإسلام يحترم حقوق الملكية الخاصة، وحين خرب يهود بيوتهم بأيديهم، ودون عمل يقيد هذا الحق، على أنهم دهاة، وإذ خربوها، لا أن يفيد مسلم بها، وهذا كشف عن خبيئة قوم. بنو النضير غلاظ القلوب جفاة الأفئدة: وإذ "لم يسلم من بني النضير إلا رجلان؛ وهما: يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما" [7] . ولأحدنا أن يذْهَلَ وكيف يسلم اثنان وحسب من قوم كان عددهم ألفًا وخمسمائة؟! وهو عدد في قياسات زمانهم كان كبيرًا كثيرًا، وهو وإن دل فإنما يدل على قسوة قد انقطع نظيرها، ويبين عن جفاء عزَّ وجود مثله، إلا في يهود، ومن سلك سبيلهم. وإذ قال صلى الله عليه وسلم ليامين: ((ألم تَرَ ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني؟ فجعل يامين لرجل جُعلًا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله) ) [8] . إن عجبًا وحين لم يسلم من بني النضير إلا رجلان، والأعجب أن منهما يامين بن عمير، ابن عم عمرو بن جحاش، ذلك الذي كان قد راح ليقتل نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان الأولَى بإعلان إسلامه هو ذلك العمرو؛ لأنه رأى ما رأى من آيات ربه الكبرى. وإذ شكا نبينا صلى الله عليه وسلم عمرو بن جحاش لابن أخيه يامين، وحين أسلم؛ حفزًا له، فقتله أجيره لذلكم، ولأنه خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إصرارًا، وسبق ترصد، سببًا مشددًا للعقوبة الجنائية. تقسيم الفيء: حين أُجليَ بنو النضير، وزَّع نبينا صلى الله عليه وسلم أموالهم فيئًا، وخص بها أنصاريين فقيرين، وكذا المهاجرين الأولين؛ لأنهم تركوا ديارهم وأموالهم، وهذا رزق ربهم سِيق إليهم. وإذ كان الفقر هو مقياس توزيع الفيء يوم بني النضير، ولأنه صلى الله عليه وسلم قسمه على المهاجرين الأولين لفقرهم، وكذا أنصاريين ولفقرهما أيضًا، وهذا عمل سيادي باهر، وإذ به يحافظ القائد على سلامة الأمن الاجتماعي لجبهته الداخلية. بين سورتي الأنفال الحشر: وإذ نزلت سورة الأنفال علاجًا ليوم بدر، ونزلت سورة الحشر، خصوصًا في بني النضير، وهذا برهان أنهما حدثان عظيمان، ولا غرو، فهذه قريش بعدائها، وأولاء يهود بجفائها ونقضها ميثاقها. واستهلت سورة الأنفال بسؤال عن الأنفال، ولأنه موضوعها، وبدأت سورة الحشر بالتسبيح، ولتوفيقه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إخراج بني النضير، دون قطرة دم، ولعلهم يذكرون. وإذ قُسمت الأنفال في سورة الأنفال، ووُزِّع الفيء في سورة الحشر، وهذه مشابهة بينهما، وحدة موضوعية لكل سورة، تظهر بهاءها، وتتبدى حللها زينةً وحسنًا. وأن تظفر بعدوك إجلاءً وعن آخره، ودون سفك دماء لأحد الطرفين، فهذا سبق عسكري، وتفرد نبوي، ناسبه تسبيحه تعالى مستهل سورة الحشر. وحَسَنٌ أن يعيش قادة الأمم وسط ميدانهم - كما نبينا صلى الله عليه وسلم في أحداثها العظام - وهذا ما ظهر جليًّا واضحًا يوم بني النضير، يدًا بيد مع جنوده، وليعملوا عملًا دائبًا. ﴿ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الحشر: 4]: إن تآمرًا على نبينا صلى الله عليه وسلم جعله تعالى مشاقة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، موجبَين لأشد العقاب، وإنزال العذاب، وكان هذا يوم النضير، هديًا قرآنيًّا، وسَنَنًا نبويًّا أبدًا؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 4]. كانت السماء ترقب عن كثب سير المؤمنين يوم بني النضير، وأن الله معهم ولن يَتِرَهم، وإذ ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، و ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]. مفارقة (5): وإذ يتمنى أحدنا أن لو كان قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هم أولاء يهود يزايلون نبيًّا، جاءهم بالهدى ودين الحق، نورًا وسلامًا، وأمنًا للعالمين. ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]: وفيه جواز القطع أو عدمه، حسبما تمليه طبيعة الميدان، سلطة تقديرية لقائده. وإذ لا يكون في كونه تعالى إلا ما أذِن به، وإنكاء لفاسق، وإثخانًا لمعاند. ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16]: وهذا درس من دروس يوم بني النضير، أودعه الله كتابه، وليكون دليلًا للسالكين أبدًا، وحين أبرم المنافقون زعمًا أنهم عون لإخوانهم من بني النضير، ولأنهم سيتركونهم وحيدي ميدانهم، وقد تركوهم! مراجعة واعتبار: إننا نقصص كثيرًا، أنه حدث أن ...، وأنه جرى هناك ... وكأنما نحن بعيدون ألا يحدث ذلكم فينا، وحين تحكم السنة الماضية أن جعلت بيوتًا خاوية على عروشها، وحين أدبرت عن هدي السماء الأعلى، وحين تصرمت من قيد الحنيفية الأسمى. عظة عمرو بن سعد القرظي فيما حل ببني النضير: رأيت اليوم عِبرًا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية، بعد ذلك العز والجلد، والشرف الفاضل، والعقل البارع، قد تركوا أموالهم، وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذلٍّ. ولا والتوراة ما سُلِّط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، ثم بيَّته في بيته أمنًا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب. يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدًا، والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش، وهما أعلم يهود جاءانا، يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفناهما بحرتنا هذه [9] . وهذا تذكير بسنن الله الماضية، وإذ إن ما حدث ببني النضير، أخرج هذا الشعور الباطني الهائل، بتعبيرات تندُّ وصفًا، وتخلع قلبًا، وتخشع لبًّا، وتطأطئ رأسًا، وتخفض هامة! ولتجأر ألسنةٌ، ولتهفو نفوس، ولتخضع قلوب، ولتؤوب جوارح، وحين رأت بأبصارها، لا سمعت بآذانها سنة الله الماضية، وحين لا تحابي، ويوم ألَّا تغمض طرفًا، وأن ليس أحد بمعزل عن سنن رباني ماضٍ، ولربما تقاذفته ريح قاصفة عاتية ليست ماطرة، ولتراه في بحر هائج متلاطم، وإذ ليس يملك من أمره شيئًا، وحين أمسك بشراع سفينته موج هكذا يصادم بعضه بعضًا. وإنما المنهج غاية يحكمها سلوك، وكلاهما من معيننا الأول؛ ألا وهو: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. [1] إمتاع الأسماع، المقريزي: ج: ٨/ ٣٥٩. [2] المرجع السابق: ج: ٨/ ٣٥٩. [3] تاريخ الطبري، الطبري: ج: ٢/ 224. [4] السيرة الحلبية، الحلبي: ج: ٢/ ٥٦٠. [5] المرجع السابق: ج: ٢/ ٥٦٠. [6] المرجع السابق: ج: ٢/ ٥٦٠. [7] البداية والنهاية، ابن كثير: ج: ٤/ ٨٧. [8] المرجع السابق: ج: ٤/ ٨٧. [9] السيرة النبوية، ابن كثير: ج: ٣/ ١٥٥.
قصة صاحب الجنتين سورة الكهف غنية بالقصص والعبر، ومنها قصة صاحب الجنتين، قصة فيها صراع بين الإيمان والكفر بين التسليم لله تعالى؛ فهو المقدِّر الرزاق الوهاب، وبين المعترض المعاند، بين من يعتقد أن العطاء والمنع من الله تعالى ومن يعتقد أن ما يأتي من رزق وولد هو بالجهد والعمل، وليس بالتوكل على الله والرجاء منه، صراع بين من يعتقد باليوم الآخر والحساب وبين من يعتقد بأن الدنيا للأقوى، وليس فيها آخرة ولا حساب، وكان بينهما نوع من التحدي، وأن المستكبر منهما يراهن على صدق زعمه. وقد صور القُرْآن هذا الجدال أصدق تصوير، وأظهر خبيئات النفس لكل منهما، وانتصار كل منهما لمذهبه ومعتقده؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴾ [الكهف: 32] صورة رائعة لرجلين يتلاحيان، أحدهما يملِك جنتين من أعناب قد حُفَّتا بأشجار النخيل، وما بين شجر الأعناب والنخيل استغلت مساحاتهما لأنواع أخرى من الزروع، وهذا ما نشاهده في مزارع كثيرة في المدينة المنورة والرياض والقصيم، حيث المزرعة مشابهة لهذا الوصف، مع زراعة أصناف الخضراوات والبرسيم في الفراغات بين أشجار النخيل والأعناب، هذا النمط يكثر في المناطق الحارة التي تحتاج إلى ظل أشجار النخيل لتعيش تحتها الخضروات، فالنخيل يظلل على الأعناب، والأعناب تظلل على الخضروات، فهذه هي المزرعة المثالية في تلك المناطق، ورد أنها كانت في منطقة القدس " في اللد ". ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]، وزاد من الوصف لهاتين الجنتين أنهما جادتا بالعطاء والثمار على أحسن ما يكون هذا العطاء، ولم تقصرا في الجود والثمر الشهي الناضج، كل في وقته وأوانه من التمور والأعناب والخضروات، فجادتا بالعطاء الرخي الوفير، فقد توفر لهما الماء، وهو عصب الزراعة، ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]؛ فالجنتان على هذا الوصف نموذجيتان متكاملتان، لا ينقصهما شيء من حيث الأخذ بالأسباب الدنيوية، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، وكان ناتج هاتين الجنتين من الثمار والغلال كبيرًا، يدران عليه دخلًا من الخيرات والمال جعلاه في هناء وبحبوحة من العيش، ومن مبدأ: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]؛ فإن صاحب الجنتين بدأ يدل ويفخر بغناه ووفرة ماله وأولاده وحسن جنتيه على صاحبه الفقير، ومن هذا الفخر والافتتان بجنتيه يتبين أن الفقير كان فقير المال والأولاد، فليس له عزوة أو قبيلة قوية، بخلاف الغني المشمخر الشامخ بما عنده من مال وجاه، وتعلق قلبه بما ملك، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35]، ومعه صاحبه الفقير وهو يريه عظمة هذه الجنة وما فيها من نضرة وخضرة وتنسيق وثمار وخضار، وهي في أبهى حلة وأينع ثمرة، تتمايس أشجارها النضرة عند هبات النسيم وتتبارى أطيارها في الغناء والنشيد طربًا لسكناها وافتتانًا بزهورها وأشجارها، فقد اتخذت على أغصانها وأفنانها وكثافة أيكها أوكارًا آمنة وأعشاشًا فارهة، فعظمة المكان تعكس على ساكنيه أبهة الرياش وسيما الدلال، وكأن زميله الفقير - الذي آتاه الله إيمانًا صادقًا ومعتقدًا راسخًا ورضًا بما وهب الله من رزق - قد نصحه بألا يفاخر بها كثيرًا وأن يتواضع لله الذي منحه إياها وأعانه على تثميرها وتحسينها، فقد يذهب عدمُ الشكر بما فيها بطرفة عين، بأن يسلط الله عليها جائحة أو آفة أو جفافًا لماء، لكن ما فيها من حسن وجمال جعل صاحبها يتمادى في الغي، ويحسب أن نضارها لن يبيد أبدًا، ونسي أو غفل عن قانون الله في الكون أنه لا شيء يبقى على ما كان؛ حياة وفتوة وشبابًا وكهولة وهرمًا وفناء، قانون يطال الجميع، لقد أودى به افتتانه بجنتيه إلى أن وقف على باب الكفر بما قال، ثم زاد في الغي أكثر فدخل في الكفر من أوسع أبوابه، ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ [الكهف: 36] فأنكر يوم البعث والمعاد يوم الحساب وعرض الأعمال، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ثم قال من باب الاستهزاء لا اليقين ردًّا على زميله الفقير: ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 36] حتى وإن سلم بوجود يوم الحساب، فإنه إذا رد إليه سيجد خيرًا من هذه الجنة، فهو منعم في كافة الأحوال، وزميله بائس في كافة الأحوال، وهذا مقياس الضالين المخدوعين بزخرف الدنيا، وأنها ابتسمت لهم استدراجًا فغرتهم بهذا الاستدراج، وأنسَتْهم المنعِم المانح للخير، ﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 35]، ألم يقُلِ العاص بن وائل السهمي: إنه إن رُدَّ إلى ربه فسيؤتيه المال والولد: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ﴾ [مريم: 77 - 79]. ورُوي أن رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبونه بدَين، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالًا وولدًا، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، وهذا مثل لمنكري البعث - ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37]، فعندما أنكر البعث وبدأ يتكلم كلامًا يهوي به في النار، بدأ نصحه وتنبيهه عن المنزلق الذي يهوي به، وهو الكفر بالخالق العظيم، فقد حوَّله المال والغنى والاغترار بما أوتي من النعم إلى الجحود وإنكار يوم الحساب، وهذا نموذج لأرباب الثراء الذين جنَوا مالهم بالطرق الملتوية، فعندما يشكوهم المظلوم ويقول لهم: هناك يوم ستحاسبون فيه على ظلمكم لنا، فيكون الجواب منهم: إلى أن يأتي ذلك اليوم، باستخفاف وعدم مبالاة، كأنهم يشكُّون في مجيئه. إن هذا الصاحب الفقير القانع بعطاء الله له كان وفيًّا لصاحبه الغني فلم يتركه على ضلاله بدافع الحقد عليه، وإنما رأى أن مسؤولية المؤمن الدعوة والتوعية وبيان الحق؛ لذلك ذكره بأن الله خلقه ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37]، أهكذا يكون تصرفك تجاه الخالق بالجحود والنكران؟ ثم بين له موقفه من ربه، وقوة الإيمان التي تملأ قلبه؛ لأنه لا ينظر إلى الحياة من منظور المادة والغنى، وإنما من منظور الإيمان الذي يعلو كل شيء عند المؤمن؛ لأن الحياة عنده مرحلة عابرة ودار عمل صالح وجد يدخر للآخرة، فقال له ليعلِّمه الموقف الإيماني: ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 38]، أما أنا فأقول: إن الله ربي واحد لا شريك له؛ فقد نوَّر الله بصيرتي وهداني إلى توحيده، أما أنت فكان ينبغي أن يكون لك موقف فيه اعتراف بمن أولاك النعم، ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، فكان ينبغي عليك كلما دخلت جنتك أن توحِّدَ الله، وتهلل، وتسبح، وتقول]: ﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39] اتقاء شر الحاسدين؛ فالله هو الحافظ لهذه النعم، لكن ﴿ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [الكهف: 39]، فلا تشمخ علي، ولا تعيرني بقلة مالي وولدي، فكان عليك لما أنت فيه من النعم التي فُقْتَ بها غيرك أن تحمد الله وتؤدي شكر هذه النعم، لا أن تتفاخر بما عندك وتتعالى على عباد الله، ألا تعلم أن الذي أعطاك هذه النعم قادرٌ على سلبها منك، وإعطائها غيرك، وأنا أرجو من ربي أن يعطيني خيرًا مما أعطاك؛ ﴿ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ﴾ [الكهف: 40] من المال والولد والثواب، وأن يعاقبك على الجحود ﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴾ [الكهف: 40]، وهناك قراءة بالتثنية: ﴿ عَلَيْهِمَا ﴾، فما هو الحسبان الذي توقعه الرجل المؤمن؟ فُسِّر بمعانٍ متعددة، والموافق للنص أنه الصواعق المتدافعة، أو البرد الذي يحطم الزروع، أو الحصى والحجارة، أو أية جائحة تنزل من السماء؛ كالجراد مثلًا، وأما الصعيد الزلق: فالأرض الجرداء التي لا نبات فيها، تزلق الأقدام فيها؛ لانعدام النبات، فكأنه يقول له: ألا تخشى أيها الجاحد للنعم أن يذهب الله عنك ما أنت فيه من خير؟ فأنت تفخر بهاتين الجنتين كأنهما من صنعك وتنسى الخالق الواهب؛ ألا تخشى أن يرسل عليهما جوائح مهلكة؟ ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴾ [الكهف: 41]، أو أن يغور ماء النهر الذي يسقي أرضك فلا يصل إليها؛ فتموت عطشًا؟! وما أسرع ما يموت الزرع والخضار من العطش، يصيبه الجفاف وحر الشمس فيصبح هشيمًا تَذْرُوه الرياح! إنك بجحودك ونكرانك لفضل ربك لا تستحق هذه النعمة، فهاتان الجنتان بالنسبة لك كانتا امتحانًا وابتلاء ﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]، لقد سقطت في الامتحان أيها المسكين، فانظر إلى عقاب الله الأليم، ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ [الكهف: 42] تدمير الثمر أبلغ في النكاية، حتى إذا ما استعد لجني الثمر بعد انتظار لم يطعمه؛ فقد أحيط به ودُمِّر الثمر والشجر والزرع، وغار الماء، وغدت جنتاه خرابًا بلقعًا لا زرع فيها ولا حياة، ولما رآها قد انقلبت بهذه السرعة كاد يذهب عقله ويجن، وكما قال الشاعر: ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها *** يُغيِّر اللهُ مِن حالٍ إلى حالِ ﴿ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]، فما كان منه بعد هول ما حدث إلا أن أخذ يقلب كفيه؛ دليل الإفلاس والعجز والاستسلام، فأسقط في يده، وليس له من حول ولا قوة، ذهبت وذهب معها كل ماله الذي أنفقه عليها، يا لها من خسارة مضاعفة، أمهله الله حتى إذا ظن أن الربح سيأتيه مضاعفًا جاءها الدمار فأخذ كل شيء، فأصبحت خاويةً على عروشها، جذوع النخيل وجذوع الأعناب محطمة مكسرة كأن لهبًا قد مسها فتركها حطبًا لا حياة فيه، وهنا صحا من هول الصدمة، وأفاق مما كان فيه من ضلال، فندم بعد أن رأى آية ربه في جنته التي انقلبت خرابًا بين عشية وضحاها، وقال: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]، فندم أشد الندم، ولعله عاد إلى ربه وعمل بنصح صاحبه فاستنقذ نفسه من العذاب بعد هذه التجربة في حياته، ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 43]، فمَن يجرؤ على نصرته إذا حاق به عذاب الله أو نزلت به قارعة، فأين ماله وولده ومكاثرته بهما؟ لن ينتصر أبدًا مَن حادَّ اللهَ، وستكون نهايته أليمة في الدنيا والآخرة، الآيات من سورة الكهف 43 - 62.
شيخي شُعيب لن أقولَ لك وداعًا [1] في كتابي عن شيخيَ العلَّامة المحدِّث شُعيب الأرنؤوط، كان همِّي أن أسرد سيرته العلمية، بعيدًا عن مواقفه مع أصحابه، لتكون قُدْوة لطَلَبة العلم في اقتحام الصِّعاب، والمثابرة على تحصيله، فالطَّريق التي قطعَها شيخُنا من أجيرٍ في محلِّ بقالة في حارةٍ منسيَّةٍ من حارات دمشق، إلى عالمٍ كبير في الحديث النَّبوي الشَّريف وتحقيقِ المخطوطات تستحقُّ أن تُروى. ففي بيتٍ من بيوتِ حيِّ مسجد الأقصاب بدمشق نشأ، وتفتَّح وعيُه المبكِّر في مجالس أبيه التي كان يعقِدُها في بيته، وهي تضمُّ أولئك المهاجرين من أتراكٍ وألبان، الفارِّين بدينهم من اضطهادٍ لا يرحم، مخلِّفين وراءهم الأهلَ والمالَ والوطن، نحو دمشق الشَّام، تلك المدينة التي عُرفت على مدى تاريخِها بحنوِّها على كلِّ غريب. وكانت خطواتُهُ الأولى في طريق العلم، وهو في ريق الصِّبا، مع الشيخ عارف الدُّوَجي، وهو شيخٌ تقيٌّ وَرِع؛ من تلاميذ الشَّيخ المحدِّث بدر الدِّين الحسني، فأخذ بيدِ الفتى نحو مبادئ النَّحْو والفِقْه، ومسَّتْ دُرُوسُه في قلبه جذوة َالعلم، فاتَّقدتْ، فراح يستزيدُ منه. وآثر والدُه، وهو الغريبُ عن مشايخ دمشق، أن يطلب ابنُه العلم على مشايخ بلده الألبان، فعكفَ على دروس الشَّيخ سليمان الغاوجي، وصَحِبَ الشيخ نوح نجاتي. بيد أن عقل الفتى شعيب المتوثِّب، لم يركُنْ إلى الاقتصار عليهما، ودمشق تعجُّ وقتئذٍ بالعُلماء، فقادته قدماه ذاتَ يومٍ إلى الجامع الأموي، والتقى فيه الشيخ أديب الكلَّاس ـ وهو من أترابه ـ فسمع منه درسًا في النَّحْو غير الذي اعتاد سماعه، درسًا يفيضُ بالعلم والفهم، ثم عَرَف فيما عرف أن يَنْبوع هذا العلم هو العلَّامة الشيخ محمد صالح فرفور، فانتظمَ بين طلَّابه في جامع فتحي في حيِّ القيمرية العريق، لتبدأ مرحلةٌ مهمَّةٌ من حياته. فهو الآن يدرُسُ العلوم الإسلامية من فِقْهٍ وتفسير ونحو وعقيدة وَفْق منهجٍ محدَّد، فتتسع مدارُكه، ويتنامى مع الأيام عِلْمُه، ومع تناميه يبزُغُ في عقله السُّؤال، والسُّؤال قرينُ العلم لا يفارقه، فينتقل شعيبٌ من التلقِّي إلى الحوار والتفكير فيما يتلقَّاه، وهنا يصطدمُ بصخرة التَّقليد، وتبدأ مأساتُه، وهي مأساةُ كلِّ طالب علمٍ نابه يسعى في العلم إلى منتهاه، أنْ يصبحَ منهجًا للتفكير، لا وعاءً للحِفْظ، فيتمرَّد، متسلِّحًا بغلوِّ الشباب وغُلَوائه، ويُفْضي به تمرُّدُه إلى الانفصال عن شيخه، فإذا به في العَرَاء مع الحياة وجهًا لوجه، ولا مُعينَ له. في تلك الأيام تبدأُ رحلتُه الطويلة وحيدًا نحو الصَّواب والفهم السَّليم، ويعزِّزُ هذا الفهم عملُهُ في مجال التَّعليم، ثم عملُهُ في المكتب الإسلامي لتحقيق التُّراث. في خريف تلك السِّنين قُدِّر لنا اللِّقاء في رِحاب المكتبة الظَّاهرية، هو باحثٌ يرتادُها، وأنا موظفٌ جديدٌ من موظَّفِيها. كان رُبْعُ قرنٍ من السِّنين يفصلُ بين عُمْرَينا، فهو في السَّادسة والأربعين، وكنتُ في الواحدة والعشرين، وقد رجعتُ من الدَّرْب الذي سار هو به في شبابه، محطمَ القلب، ضائعَ الخُطُوات. وبلهفةِ الأبِ تلقَّفَني، وحنى عليَّ، وفتح لعقلي بابَ السُّؤال الذي طالما كان مغلقًا في وجهي، فعشتُ معه أجملَ أيَّام حياتي، يُفيضُ عليَّ بها من علمه الواسع، وحواره الهادئ أحيانًا، الصَّاخب أحيانًا، وعلى ما بيننا من فارقٍ في العلم والسِّنِّ كان يخاطبني وكأني نِدٌّ له، أو من أقرانه، خطابٌ لا جرحَ فيه لإحساس، ولا تَسْفيه فيه لفِكْرة. ومن أوائل ما سمعتُ منه، في تلك الحوارات الماتعة، كلمةٌ أثَّرت في تفكيري، وطبعتني بطابَعِها؛ وهي: لا تبعْ عقلك لأحد، فشعرتُ لأوَّل مرة في حياتي أن لي رأيًا يُحترم، فأشرعتُ حينئذٍ أبوابَ عقلي للتفكير المستقل. ثم إنَّه فتح لي فيما فتح من آفاق التفكير الاهتمام بتراثنا العربي الإسلامي، وهو تراثٌ تفنى الأعمار دون خِدْمته، وكان قلمي وقتذاك في نَأْنأته، أخطُّ به أسطرًا في الأدب والنقد، فقال لي يومًا: لقد آتاك الله قلمًا وهو سائلكَ يوم القيامة عمَّا كتبت، فلمن نترك تراث علمائنا إن لم يخدمه أبناؤهم؟ وكنتُ أتأبَّى بعض التأبي لشعوري بجسامة هذه المُهِمَّة الخطيرة لطالب علمٍ صغير مثلي. ولم يكن اهتمامُه بالتراث هذا الاهتمام الكبير إلا لتحقيق الشَّخصية العلمية المتوازنة التي تجيد التعامل مع التُّراث، ولا تقطع صلتها بالحياة المعاصرة. وما أذكره تمام الذِّكرى يوم نَهَدَ لتحقيق "سير أعلام النبلاء"، هذا السِّفْر العظيم، فقد دعاني كما دعا غيري من الشَّباب الملتفين حوله حينئذٍ ـ وهم كثرٌ ـ لمشاركته في تحمُّل عِبْءِ تحقيقه، يومئذ اعتذرتُ بأعذارٍ شتَّى، منها أن أدواتي في التحقيق لم تكتملْ بعد، فلم يقبل عذري، وأصرَّ على مشاركتي قائلًا لي بتصميم: خُذْ جزءًا من السِّيَر، واذهب به إلى المكتبة الظاهرية، ولا تأت إليَّ إلا بعد شهر، فإن عَجَزْتَ بعد شهر عن العمل فيه، فسأُقِيلك منه. وكذلك كان، ولكن حين عُدْتُ بعد شهر كان حبُّ التُّراث قد مَلَك عليَّ عقلي وقلبي، وانفتح لي من مغاليق التحقيق ما كان مُسْتبهمًا بفضل توجيهه وإرشاده، فهل أكونُ مبالغًا إنْ قلت: لولاه لما كنتُ في عداد المحقِّقين؟ ومن أهم وصاياه لي في هذا الفن الصَّعيب؛ فنِّ تحقيق المخطوطات، قوله لي: إياك أن تعتمدْ على ذاكرتك في ضبط اسمٍ أو كلمة، فالذاكرة خَؤُون، ارجعْ دائمًا إلى المصدر، وتأكد ممَّا تكتب. هذه الوصية الذَّهبية ما زالتْ ديدني فيما أنشر من كُتُب. وما زلتُ حتى الآن أتعجَّب من طلبه مني ذات يوم أن أكتب ترجمة للإمام الذَّهبي تكون في مقدِّمة تحقيق كتابه " سير أعلام النبلاء " على ضآلة تجربتي وقتئذٍ، طبعًا اعتذرت في مرَّتي هذه عُذْرًا لا رُجْعى عنه، وما كان له من غاية يتغيَّاها من وراء ذلك إلا أن يبُثَّ الثقة بنفسي، إذ لم يكن لتشجيعه لي من حدود. ومِلْتُ إلى كُتُب التَّراجم والتَّاريخ أحقِّقُها، وفي غمرة اشتغالي بتحقيق " كتاب الرَّوْضتين " لأبي شامة، آثرني على غيري حين أصرَّ كذلك على أن أشاركه في خدمة ديوان السُّنَّة المطهَّرة؛ "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، ومرَّة أخرى تهيَّبْتُ من خوض هذه التجربة، كما تهيبت من تجربتي تلك، ورأيتُني أتأبَّى أشدَّ الإباء لجسامة المُهِمَّة، ولا سيَّما في الحُكْم على الحديث، وبضاعتي مُزْجاة، فما زال بي ترغيبًا وتشجيعًا حتى صغوتُ أخيرًا إلى رغبته، واستقام لي بفضله ـ ولله الحمد ـ هذا العلم الشريف، فهل عليَّ من بأسٍ لو قلتُ: لولاه لما كنتُ في عِدَاد المشتغلين بخدمة الحديث النَّبوي الشَّريف؟ ونأيًا بالنفس عن شواغلها كان يصحبنا في الصَّيف ـ نحن المقرَّبين منه ـ كلَّ ثلاثاء إلى الرَّبوة أو وادي بردى، فما شئتَ من أطايب الطَّعام يحملها معه، ويقومُ على الخدمة واحدًا منا، كحالِهِ دائمًا في اطِّراحِهِ للتكلُّف. ويمضي بنا الحديثُ مع نُسيمات الأصيل في منعرجاته ودروبه، في حوار علمي ممتع، لا سطوة فيه لأحد ولا جدال، وتتخلله أناشيدُ في المدائح النَّبوية، يصدَحُ فيها من أُوتي منا رِقَّة الصَّوت وعُذوبتَه، ولا يقطعُها إلا إذا رأى في بعض معانيها ما يشي بشططٍ أو غُلُو، فينبِّه عليه برفقٍ ومودَّة. وكم كان ـ رحمه الله ـ يهتزُّ طَرَبًا للمعنى البليغ، وللحن الجميل. ولن أنسى ما حييتُ نُزْهة كانت لي معه في جمرايا؛ قرب الهامة، رافقَنا فيها بعضُ موظفي المكتبة الظَّاهرية، يومها انطلقنا مع تفتُّح أزهار الرَّبيع نركض كالأطفال بين أشجار الزَّيتون في ذلك التَّلِّ المُعْشِب، وهو معنا، فسوَّلتْ لي نفسي مُداعبته، فأعثرته بقدمي ـ وما كنتُ أظن أنه سيقع ـ فوقع أرضًا، وآلمته السَّقْطة، وشعرتُ بالخجل لِمَا بَدَر مني، وحين نهض لم يكن في وجهه إلا تلك الابتسامة الصَّافية، وتلك النَّظرةُ الحانية التي رَمَقني بها، وتابعنا عَدْوَنا، كأنَّ شيئًا لم يكن. وماذا أقول بعدُ عن سجاياه، في هذه السَّاعات الحزينة بُعيد وفاته رحمه الله، وقد برَّح بي الشَّوق إلى لُقْياه على جفاءِ السِّنين. آه يا سيِّدي، لم تكن لي شيخًا فحسب، بل كنتَ أخًا وصديقًا وأبًا، فأيُّ معانيك الجميلة هذه أَوْلى بالرِّثاء؟ [1] في ذكرى وفاته رحمه الله تعالى مساء يوم الخميس 26 المحرم الحرام 1438هـ/ 27 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2016م.
فتحان في رمضان! فأما الفتح الأول: فقد كان غزوة بدر الكبرى، ولأنها كانت فتحا، فتح الله تعالى به على الإسلام، وحين بدت شوكته، وقويت شكيمته، وبسطت كلمته، وظهرت قوته. وأما الفتح الثاني: وكذا فتح مكة الفتح الأعظم، وحين أسماه الله تعالى الفتح المبين، وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح:1]، ولأنه كان ختمًا لعمل من جملة أعمال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مدار العهدين المكي والمدني تقريبًا، وليتوج بهذا الفتح المبين! وإهداءً للعالمين، أن كان ها هنا نبي! وإذ ها هو قد أرسى قواعد العدل، وإذ ها هو قد قعَّد علائق التوحيد، وإذ ها هو قد أصَّل نبذ الشرك، وإذ ها هو قد ابتنى أعمدة إحقاق رب العالمين بما هو أهله، ربًّا وإلهًا ذا السلطان الأعظم، وذا الحكم والشرع الأقوم، وإذ ها هي دولة أرساها، وإذ يأتي يوم عليها، وإذ ليس بها فقير واحد! وبعد أن أكلوا الخبط يومًا! وحين أسموا إحدى سراياهم سرية الخبط! عنوانًا على بذلهم، وبرهانا على كم كان من الجهاد والصبر في ربهم نصيبهم! وإذ ها هي دولة بناها تعمها سحائب الغمام، وليقول هارون الرشيد خليفة خلفائه الأمجاد: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك!! لكنك تدهش وأية دهشة! وحين عقد مقارنة بسيطة بين أعداد صف يوم بدر، وإذ بلغ ثلاث مائة وأربعة عشر مقاتلا، وإذ دكت أنوف الكفر يومها دكًّا! وإذ أردتهم طرحاءَ باطن الأرض! ومن بعد نصر بهيج توجه المسلمون يومهم ذلك. لكن يوم الفتح الأعظم، وحين دخل نبينا صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأً وخشوعًا، ومتواضعًا وخضوعًا، وإذ كان مصطحبًا ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر مجاهدًا، وهذه حصيلة عمله الدائب دعوةً، وعلى مدار إحدى وعشرين سنة ونصف تقريبًا، وليكون المعدل هو إعداد خمسمائة باذل في العام! وهذا يشي باهتمام الإسلام النوعي لا الكمي، في تربية قاعدة إيمانية صلبة، تكون أساسًا لقلب موازين القوى في جزيرة العرب، وفي غير جزيرة العرب أيضًا! وما بين بدر، وإذ كان من خبرها وقصدها وهدفها ومعناها ومرماها، أنه سيبسطُ وسينشرُ وسيعمُّ الإسلام سناه، وما بين الفتح المبين وإذ ها هو الإسلام قد بسطَ ونشرَ وعمَ هداه! ويكأننا أمام فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، وبإذن الله تعالى، وهذا ما قد تحصل في يومي بدر والفتح المبين فتح مكة البلد الحرام الأمين، وقياسًا على موازين القوى، والتي كانت ماثلة أمام العيون، في مكة، وهرقل الروم، وكسرى بلاد فارس، وإذ كانت لصالحهم راجحة الكفة، وإذ أضحت يومها للمؤمنين نائية الدفة! وإذ كانت غزوة بدر من أوائل الظهور العسكري الحاسم للمسلمين، وما اكتنفه يومه ذلك من مخاطر، ولتفاوت ميزان القوى بين الفريقين، وكما أنف، وما قد صاحبه من مآثر، ورغم ذلكم، حتى أضحت مثل السائرين، وحكاية المؤرخين! بيد أن يوم بدر كان يومًا حافلًا، وحين كان يقين هذا الصحب الكريم في ربهم، وأنه تعالى ناصرهم، ولئن كانوا أقل عددًا، وهذه ثقة عظيمة، كانت ثمرة فطرية ليقينهم في ربهم الحق المبين، وحين مكَّن الله تعالى لفئة قليلة أن تغلب فئة كثيرة، وبإذن الله تعالى، وكيما تتعلق القلوب بربها أكثر، وكيما يكون اعتمادها عليه وتوكلها أوفر! وحين اتخذت من الأسباب ما يصدق عليهم إخلاصهم في توكلهم على ربهم الحق المبين، في منظومة توكل عمادها التفويض، وركنها أخذ بالسبب الموجب. وإذ كان فتح مكة مؤذنًا بميلاد عهد جديد، أتى على قريش سلطانها، وحين استلبت من ربها حكمه، وحين اشترعت من لدنها ظلما، وأسمته عدلًا! في تعد مكشوفة ستائره، وفي تغيير للحقائق، وفي تبديل للوقائع، وما كان ظلم أوقعت نفسها في وحاله أعظم من ذلكم شرك، وحين اتخذت الأصنام أندادًا، وحين حكمت الأهواء، وحين قضت بأقوال رجال، وإذ كان من نعتهم وأنهم لا يكادون يرون ما تحت أقدامهم! وليقضوا في المسائل العظام، بجرة قلم واحدة من ظلم، وبتوقيع حسبوه حكمًا من إفك! وليجيء الإسلام لذلكم ناقضًا، وليأتي الإسلام على ذلكم مبطلًا، ويوم كان فتح مكة البلد الحرام، وليعود إلى الدين الحق الإسلام مجده، وليرجع إليه إرثه وعهده! ومن بعد عمل البطولات، لذلكم جيل لم يتمالك التاريخ نفسه، وإذ أرسى وسجل لهم فرائد الموروثات الخالدات! وإذ لسنا ننسى ذلكم الأثر الجميل، ولا نغض طرفًا عن ذلكم العمل الجليل، وحين دخل الناس في دين الله أفواجًا، ومن بعد فك الأغلال، ومن بعد وضع الأكبال! وإذ كان فتح مكة بلد الله تعالى الحرام الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده، وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجًا [1] . وست سنوات فارقٌ بين العهدين، وليس بفارق! ومن حيث عمر الزمان! ولكنه ذلكم الفارق في القوى الهائلة التي تمتع بها المسلمون فضلًا منه تعالى، وها هم وقد أصبحوا عنوان عزة وإباء، ومنه فلا يستعجلن أصحاب الدعوات من أمرهم عن فتحهم، وإذ إنه لقريب، وإذ لا تقنط لهم شعرة واحدة! وإن نصرهم غير بعيد! وإذ إنه لمن أسفل قدم أحدهم، لو نظر إليه لرآه! وكما أن فيه اختزالًا لعامل الزمان؛ إذ لم يحدثنا التاريخ أن دولًا أسست أركانها، وثبتت أقدامها، في مثل ذلكم زمن قصير كهذا، وفى غضون ست سنوات! كانت هي ذلكم الفارق الزمني بين بدر والفتح المبين، غير دولة كان نبينا قد أقامها، وغير حضارة كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد أعلى بنيانها! وأقام للناس دولة راج سوقها، ووحين أخلص لله جنود الدعوة وأتباعُها! وحين استوى في عقدهم ونظرهم تراب البسيطة ومدرها! وإذ لم ينس نبينا صلى الله عليه وسلم محادة المشركين، ويوم أن أرجعوه وصحبه مكسوري الخواطر، وها هو يوم الحديبية خير شاهد وماثل! وليأذن الله تعالى بميلاد يوم حلول الأنوار الجوابر، وحين يشرق نور فجر الدعوة الجديدة، وليبسط سنا وسنن وهدى الملة التليدة، وها هم قد عات إليهم مكة المجيدة، وليعلم أعداؤها أن موعدهم الصبح، ﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ [هود:81]؟! وحين عاد إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وليريهم حميد الأخلاق، ودماثة المناقب، وشيم المثل، وإذ ها هم كانوا قد أذاقوه وصحبه مر العذاب، وفي تاريخ طويل مرير، امتد ثلاثة عشر عامًا كاملة! لكنه وهذا هو الفضل الرباني العظيم، وحين رجع نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صحبة ألف وخمسمائة، وليعود ومن بعدها بعامين اثنين ومصطحبا معه عشرة ألاف مجاهد، وكحد أدنى، أو اثني عشر فاتحًا، وكحد أعلى! وليبسط سناه، وينشر هداه في مكة المكرمة، بلد الله الحرام! ولعل قاسمًا مشتركًا آخر بين فتحي بدر العظمى ومكة الفتح الأعظم، وحين كان وقوع كل من الحدثين في شهر رمضان! في إشارة إلى أهمية هذا الشهر، حاملا بين جنباته أحداث الإسلام العظام! ثم إننا أيضًا أمام تشريع الإفطار في رمضان، وحين أفطر صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم فتح مكة البلد الحرام، وفي توقيع ممهور بيسر ديننا، ورفعه العنت، وحين مكابدة أعمال السفر، لجهاد يوم الفتح المبين، فتح مكة البلد الأمين، ويبدو هذا التيسير واضحًا حين تبدَّى به نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، قدوة تُقتدى، وأسوة تُحتذى، وهو إذ يتولى تفعيلًا لقول ربنا الرحمن الرحيم سبحانه: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. غير أن ما يلفت النظر أن قومًا أفطروا، وكما نبيهم صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك، وأن قومًا صاموا! وذلك ليس قصد المخالفة، بقدر ما نعده التماس عذر، ولعله لم يصل إليهم الخبر يومهم ذلك، أو لعلها نفوس لم تطق الإفطار يومًا واحدًا من رمضان! ولقيمة شهر رمضان في القلوب، وحين أرسلت رسائلها إلى جوارح طيعة، وحين استقبلتها تيكم أبدان خاشعة قانتة! يتأبى عليها ضميرها ألا تفوز بعوائد وبركات شهرها، أو ألا تكون من عداد من كانوا ينتظرون صيحة التأذين؛ انتظارًا لفرحة الصائم يوم فطره! وكما إخوانهم ونساؤهم وشيوخهم، وحين قد كان ذا هو عذرهم المانع من لحاقهم بهم، ويوم خرجوا يوم الفتح المبين! أو لعلهم حسبوا ذلك رخصة لا عزيمة، فقدموا العزيمة على الرخصة، ولأنه تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ومعه يستوي الطرفان، أو هكذا كان حسابهم الميمون، أو هكذا كان من عقدهم المبرور في رب رحيم رؤوف غفور! لكن ربًّا رحيمًا، وإذ كان من رحمته تعالى، ألا يجمع على عبيده مشقتي السفر والصيام معًا، وإذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم بيان هذه الرحمة، واستشراف هذه الرأفة، وكيما يعلم الناس عن ربهم بعضًا مما علمه هو صلى الله عليه وسلم عنه تعالى، ربًّا رحيمًا كريمًا عفوًّا حسن التجاوز سبحانه! وإذ كان صلى الله عليه وسلم أعلم به مما سواه، وإذ كان أدرك وأوعى لربه عمن هو غيره صلى الله عليه وسلم، وإذ قال صلى الله عليه وسلم:...أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي [2] . أقول: ومرة أخرى إن فضلًا من ربنا علينا كان عظيمًا، وحين كتب سبحانه لأولاء عبيد كانوا يقومون ليلًا، أو يصومون نهارًا، وإذ كانوا حضرًا، وإذ أصبحوا سفرًا، وليظل الكتبة الكرام عنهم يكتبون! ولهم يسجلون! في استمطار دائم للرحمات، واستدعاء دائب للمنن والمنح والنعمات! وإذ حدَّثَ أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سَمِعْتُ أبَا بُرْدَةَ، واصْطَحَبَ هو ويَزِيدُ بنُ أبِي كَبْشَةَ في سَفَرٍ، فَكانَ يَزِيدُ يَصُومُ في السَّفَرِ، فَقالَ له أبو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أبَا مُوسَى مِرَارًا يقولُ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا [3] . وإذ لا نغادر موقعنا هذا، إلا وحين نسجل لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان قد استخلف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة. وفي تنويع إداري، وفي سبق تربوي؛ لإعداد قاعدة نقباء مهرة، ولتقويم سادة أكفاء بررة. ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس قال: سَافَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في رَمَضَانَ، فَصَامَ حتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بإنَاءٍ مِن مَاءٍ، فَشَرِبَ نَهَارًا لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فأفْطَرَ حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ قالَ: وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: صَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في السَّفَرِ، وأَفْطَرَ فمَن شَاءَ صَامَ ومَن شَاءَ أفْطَرَ [4] . وكذا ما رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن جابر بن عبدالله أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إلى مَكَّةَ في رَمَضَانَ فَصَامَ حتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بقَدَحٍ مِن مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فقِيلَ له بَعْدَ ذلكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قدْ صَامَ، فَقالَ: أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ، [وفي رواية]: وَزَادَ فقِيلَ له: إنَّ النَّاسَ قدْ شَقَّ عليهمِ الصِّيَامُ، وإنَّما يَنْظُرُونَ فِيما فَعَلْتَ، فَدَعَا بقَدَحٍ مِن مَاءٍ بَعْدَ العَصْرِ [5] . [1] [زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم الجوزية: ج2 /160]. [2] [صحيح البخاري: 5063]. [3] [صحيح البخاري: 2996]. [4] [صحيح البخاري: 4279]. [5] [صحيح مسلم: 1114].
رأي العلامة ابن القيم في كتب ومصنفات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد: فمن العلماء المتقدمين المحبين للعلم: العلامة ابن القيم، قال تلميذه العلامة ابن رجب رحمهما الله: كان شديد المحبة للعلم وكتابته وتصنيفه. ومُحب العلم لا بد أن يقتني الكتب الكثيرة التي تعينه على طلب العلم، وهذا ما كان من العلامة ابن القيم، يقول تلميذه الحافظ ابن كثير رحمهما الله: واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشر معشاره من كتب السلف والخلف. وكثرة مطالعة العالم للكتب توجد لديه معرفة بها، مما يمكنه من الحكم عليها، وهذا ما وجد عند العلامة ابن القيم رحمه الله، فقد تكلم في بعض مصنفاته عن بعض الكتب، وذكر رأيه فيها، ثناءً أو قدحًا، ولأهمية معرفة رأي العلامة ابن القيم في هذه الكتب لطالب العلم، فقد جمعتُ بتوفيق الله وعونه ما ذكره من آراء له فيها في بعض كتبه، وقد ذكرت اسم كل كتاب نقلت منه، علمًا أن جميع الإحالات على كتب ابن القيم على طبعة مجمع الفقه الإسلامي، ما عدا كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، فعلى الطبعة الثالثة لدار العاصمة بالرياض، وكتاب "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"، فعلى الطبعة الثانية لدار العاصمة بالرياض، هذا وقد استفدت من كتاب "ابن القيم الجوزية حياته آثاره موارده"، للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله في بعض المواضع. أسأل الله أن ينفعني وجميع المسلمين بما جمعت، وأن يجزل الثواب والأجر للعلامة ابن القيم عمَّا قدم للإسلام والمسلمين خيرًا. كتاب العقل لداود بن المحبر بن قحذم بن سليمان (ت 206): كتاب العقل لداود المُحترق الكذاب؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف:58]. تفسير سنيد بن داود المصيصي (ت 226): تفسيره المشهور؛ [اعلام الموقعين عن رب العالمين:4/574]. المصنف، والمسند، لعبدالله بن محمد إبراهيم بن أبي شيبة (ت 235): وأقرأ كتاب العرش للعبسي وهو محمد المولد من عثمان. واقرأ لمسند عمه ومُصَّنف = أتراهُما نجمين بل شمسان [الكافية الشافية، البيت رقم (1419) و (1420) ]. مصنفات الإمام أحمد بن حنبل (ت 241) : غالب تصانيفه بل كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين؛ [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى:293]. لم يشترط في مسنده الصحيح ولا التزمه، وفي مسنده عدَّة أحاديث سُئل هو عنها، فضعَّفها بعينها، أو أنكرها، وبهذا يعرف وهم الحافظ المديني في قوله: إن ما خرجه الإمام أحمد في مسنده، فهو صحيح عنده؛ [الفروسية المحمدية:188-201]. له كتاب مفرد سماه: كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/186]، ردَّ على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها؛ [اعلام الموقعين:3/189،190]. النوح على البهائم لمحمد بن هارون الوراق (ت 247): صنف كتابًا سماه "النوح على البهائم"، فأقام عليها المآتم وناح، وباح بالزندقة الصراح؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين:1/333]. مصنفات الإمام البخاري (ت 256): وانظر إلى ما في صحيح محمد = ذاك البخاري العـظيم الشأن من رده ما قاله الجهمي بالنـ = ـقل الصحيح الواضح البرهان وانظر إلى تلك التراجم ما الذي = في ضمنها إن كنت ذا عرفان [الكافية الشافية: البيت رقم (1434) و (1435) و (1436) ]. خلق أفعال العباد والرد على الجهمية من أجلِّ كتبه الصغار؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، جزء: 4/1433]. سير الفقهاء ليحيى بن إبراهيم الطليطلي (ت 259): كتاب جليل غزير العلم؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة:202]. السنن، للإمام أبي داود السجستاني (ت 278): لما كان كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني رحمه الله من الإسلام بالموضع الذي خصَّه الله به، بحيث صار حَكَمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتَّبها أحسن ترتيب، ونظَمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء؛ [تهذيب سنن أبي داود:1/6]. الرد على الجهمية والنقض على بشر المريسي، للدارمي (ت 280): من أجلِّ الكتب المصنَّفة في السنة وأنفعهما، وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظهما جدًّا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما؛ [اجتماع الجيوش المعطلة على حرب المعطلة والجهمية:347_348]. وانظر إلى ما قاله عَلَمُ الهُدى عُثمانُ ذاك الدَّرامي الرَّباني في نقضه والرِّدِّ يا لهما كتا با سنةٍ وهما لنا علمان هدمت قواعد فرقة جهميةٍ فخرت سقوفهم على الحيطانٍ [الكافية الشافية: البيت رقم (1431) و (1432) و (1433) ]. مسائل حرب الكرماني (ت 280): صاحب أحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى له مسائل جليلة عنهما؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية: 352]. مصنفات محمد بن علي الحسين الحكيم الترمذي (ت بعد 280): قال عمر بن أبي الحسن بن هبة الله بن أبي جردة: الترمذي الحكيم لم يكن من أهل الحديث، ولا علم له بطرقه وصناعته، ملأ كتبه بالأحاديث الموضوعة، وحشاها بالأخبار التي ليست مسموعة، وعلل فيها بخفي الأمور الشرعية التي لا يعقل معناها، بعلل ما أضعفها وما أوهاه. ومما ذكره في كتابه "الفروق": إن الاحتياط أن يسجد عقب كل صلاة يصليها سجدتي السهو، وإن لم يكن سها فيها... وهذا مما لا يجوز فعله بالإجماع، وفاعلهُ منسوب إلى الغلو والابتداع؛ [تحفة المودود بأحكام المولود:300_301]. السنة لأحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك (ابن النيل) (ت 287): وأقرأ كتاب السنة الأُولى الذي أبداه مضطلع من الإيمان ذاك النبيل ابن النبيل كتابه أيضًا نبيل واضح البرهان [الكافية الشافية، البيت: رقم (1427) و (1428) ]. السنة لأحمد بن محمد بن هانئ الطائي، ويقال: الكلبي الأثرم (ت273): وأقرأ كتاب الأثرم العدل الرضا = في السنة الأولى إمام زمان [الكافية الشافية، البيت رقم (1424) ]. السنة لعبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 290): وأقرأ كتاب الحافظ الثقة الرضا = في السنة العليا الفتى الشيباني [الكافية الشافية، البيت رقم (1422) ]. العرش لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي (ت 297): وأقرأ كتاب العرش للعبسي وهــ = ــو محمد المولد من عثمان [الكافية الشافية، البيت رقم (1419) ]. التفسير للإمام النسائي (ت 303): وانظر إلى النسائي في تفسيره = هو عندنا سفر جليلُ معاني [الكافية الشافية، البيت رقم (1418) ]. مصنفات محمد بن جرير بن رستم الطبري (ت 310): رأيتُ له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم؛ [تهذيب سنن أبي داود: 1/94]. مصنفات محمد بن جرير بن يزيد الطبري (ت310): تفسيره الكبير؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:294]. قال أبو حامد الإسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير، لم يكن كثيرًا؛ [اجتماع الجيوش المعطلة على حرب المعطلة والجهمية:294، 297]. وانظر ما قاله الطبري في التـــــ = ـتفسير والتهذيب قول معان [الكافية الشافية، البيت رقم (1452) ]. تاريخه الكبير؛ [الفروسية المحمدية: 388]. السنة للخلال (ت 311) وجامع النصوص للبيهقي (ت458): جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، وعلى منواله جمع البيهقي كتابه الذي سماه "جامع النصوص من كلام الشافعي، وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:306]. التوحيد للإمام ابن خزيمة (ت312): كتابه في السنة كتاب جليل؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية:293]. مصنفات عبدالله بن الحافظ أبي داود السجستاني (ت 316): كذا الإمام ابن الإمام المرتضى حقًّا أبي داود ذي العرفان تصنيفه نثرًا ونظمًا واضح في السنة المثلى هما نجمان [الكافية الشافية، البيت رقم (1425) و (1426) ]. التفسير لعبدالرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت 327): وانظر إلى تفسير ذاك الفاضل الث بت الرضا المتضلع الرباني ذاك الإمام ابنُ الإمام وشيخهُ وأبوه سفيان فرازيان (26) [الكافية الشافية، البيت رقم (1416) و (1417) ]. مصنفات علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري (ت 330): كتبه أشهرها الإبانة؛ [ (27) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: جزء:4/1281]. كتابه: الموجز، من أجلِّ كتبه المتوسطات؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: جزء، 4/1243]. وكذا عليُّ الأشعري فإنه في كُتبه قد جاء بالبيان من موجزٍ وإبانةٍ ومقالةٍ ورسائل للثغر ذات بيان وأتى بتقرير استواء الرب فو ق العرش بالإيضاح والبيان وأتى بتقرير العلو بأحسن الت قرير فانظر كُتُبه بعيان [الكافية الشافية، البيت رقم (1401-1402-1403-1404) ]. السنة، للإمام الطبراني (ت 360): وأنظر ما قاله في السنة الـ = ـبكري سليمان هو الطبراني [ الكافية الشافية، البيت رقم (1441) ]. الرسالة لعبدالله بن أبي زيد بن عبدالرحمن القيرواني (ت 386): رسالته المشهورة؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلى:4/ 1303]. وانظر ما قال عبدالله في تلك الرسالة مُفصحًا ببيان من أنه سبحانه وبحمده بالذات فوق العرش والأكوان [ الكافية الشافية، البيت رقم (1411) و (1412) ]. رسالة في الرد على المنجمين لعيسى بن علي بن عيسى (ت 391): المنجمين، رأيت لبعض فضلائهم، وهو أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، رسالة بليغة في الرد عليهم، وإبداء تناقضهم، كتبها لما بصره الله رشده، وأراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال، كتبها نصيحة لبعض إخوانه؛ [مفتاح دار السعادة:3/1237]. مصنفات محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر الباقلاني (ت 403): كتابه "التمهيد في أصول الدين" من أشهر كتبه؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب الجهمية والمعطلة: 459]. وكذلك القاضي أبو بكر هو اب ن الباقلاني قائد الفرسان قد قال في تمهيده ورسائل والشرح ما فيه جلي بيان [الكافية الشافية، البيت رقم (1444) و (1445) ]. المستدرك، للحاكم (ت 405): له في مستدركه مما شاء الله من الأحاديث الموضوعة التي صححها، فتصحيح الحاكم لا يستفاد منه حُسن الحديث البته فضلًا عن صحته؛ [الفروسية المحمدية:213-214]. حقائق التفسير لمحمد بن الحسين بن محمد بن موسى السلمي (ت412): من التفاسير المستنكرة المستكرهة التي قصد بها الإغراب، والإتيان بخلاف ما يتعارفه الناس "كحقائق السلمي"؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: 2/ 696]. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي (ت 418): من أجل الكتب؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب الجهمية والمعطلة:301]. وانظر ما قاله الطبري في الش رح الذي هو عنكم سفران أعنى الفقيه الشافعي اللالكا ئي المسدد ناصر الإيمان [الكافية الشافية، البيت رقم (1437) و (1438) ]. مصنفات أحمد بن عبدالله بن أحمد إسحاق الأصبهاني (ت430): صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: حزء:4/1286]. عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام الصابوني (ت449): رسالته المشهورة في السنة؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية: 376]. التمهيد والاستذكار للإمام ابن عبدالبر (ت 463): وحكى ابن عبدالبر في تمهيده وكتاب الاستذكار غير جبان إجماع أهل العلم أن الله فو ق العرش لم ينكره ذو إيمان وأتى هناك بما شفى أهل الهدى لكنه مرض على العميان [الكافية الشافية، البيت رقم (1398) و (1399) و (1400) ]. مصنفات إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (ت476): قال ابن عقيل: اشتهرت تصانيفه شرقًا وغربًا هذه بركات الإخلاص؛ [بدائع الفوائد: 3/1122]. الرسالة النظامية لأبي المعالي الجويني (ت 478): رجع عن التأويل في "الرسالة النظامية"، وحرَّمه؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:437]. مصنفات الإمام الهروي (ت 481): من أراد صلابته في السنة والإثبات، فليطالع كتابيه: الفاروق، وذم الكلام؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:427]. كان راسخًا في إثبات الصفات ونفي التعطيل، ومعاداة أهله، وله في ذلك كتب مثل كتاب الفروق، وكتاب ذم الكلام؛ [مدارج السالكين في منازل السائرين: 4/ 553]. له كتاب الفاروق استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها، ولم يسبق إلى مثله، وكتاب ذم الكلام وأهله، طريقته فيه أحسن طريقة، وله كتاب لطيف في أصول الدين يسلك فيه طريقة الإثبات ويقررها؛ [مدارج السالكين في منازل السائرين:1/409]. معالم التنزيل وشرح السنة، للإمام البغوي (ت 516): أجمعت الأمة على تلقى تفسيره بالقبول، وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:406]. تفسيره شجي في حُلوق الجهمية والمعطلة؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:301]. وانظر ما قاله البغوي في تفسيره والشرح والإحسان في سورة الأعراف عند الاستوا فيها وفي الأولى من القرآن [الكافية الشافية، البيت رقم (1454) و (1455) ]. الحجة في بيان المحجة والترغيب والترهيب، للإمام للأصفهاني (ت535): وانظر إلى ما قاله علم الهدى الت يمي في إيضاحه وبيان ذاك هو الذي هو صاحب الترغيب والت ترهيب ممدوح بكل لسان [الكافية الشافية، البيت رقم (1439) و (1440) ]. الانتصار في الرد على المعتزلة، والبيان، ليحيى بن سالم العمراني (ت558): له كتاب لطيف في السنة على مذهب أهل الحديث؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:281]. وانظر ما قاله علم الهدى أعنى أبا الخير الرضا العمراني كتابه في الفقه وهو بيانه يُبدى مكانته من الإيمان [الكافية الشافية البيت رقم (1459) و (1460) ]. الوثائق الكبير لعلي بن عبدالله بن إبراهيم اللخمي المتيطي (ت 570): لم يصنف في الوثائق مثله؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان: 1/564]. السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم للرازي (ت 606): في هذا الكتاب من مخاطبة الشمس والقمر والكواكب بالخطاب الذي لا يليق إلا بالله عز وجل، ولا ينبغي لأحد سواه، ومن الخضوع والذل والعبادة التي لم يكن عباد الأصنام يبلغونها من آلهتهم؛ [مفتاح دار السعادة:3/1366]. أقسام اللذات، للرازي، المعروف بابن الخطيب (ت 606): صنفه في آخر عمره... كتاب مفيد؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:468]. مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام، للأزدي (ت606): كتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك كثير الفوائد جدًّا؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان:1/566]. قرع الصفات في تقريع نفاة الصفات، لأحمد محمد المظفر الرازي (ت 631): على صغر حجمه، كتاب جليل، غزير العلم؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:471]. الأحاديث المختارة لمحمد بن عبدالواحد المقدسي (ت643): مختارته... أصحُّ من "صحيح الحاكم"؛ [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان:1/507]. مختصر سنن أبي داود، للمنذري (ت 656): أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعًا، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعًا؛ [تهذيب سنن أبي داود: 1/6]. الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي (ت 671): التفسير المشهور؛ [اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية:406]. مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728): فأقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني أعنى أبا العباس أحمد ذلك ال بحر المحيط بسائر الخلجان واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثانِ وكذاك منهاج له في ردِّه قول الروافض شيعة الشيطان وكذاك أهل الاعتزال فإنه أرداهم في حفرة الجبان وكذلك التأسيس أصبح نقضُه أُعجوبةً للعالم الرباني وكذلك أجوبة له مصرية في ست أسفا كتبن سمان وكذا جواب للنصارى فيه ما يشفى الصدور وإنه سفران وكذاك شرح عقيدة للأرصبها ني شارح المحصول شرح بيان فيها النبوات التي إثباتها في غاية التقرير والتبيان والله ما لأُولى الكلام نظيره أبدًا وكتبهم بكل مكان وكذا حدوث العالم العلوي والس فلي فيه بأتم بيان وكذا قواعد الاستقامة إنها سفران فيما بيننا ضخمان وكذاك توحيد الفلاسفة الأُلى توحيدهم هو غاية الكفران سفر لطيف فيه نقض أصولهم بحقيقة المعقول والبرهان وكذاك تسعينية فيها له رد على من قال بالنفساني تسعون وجهًا بينت بطلانه أعنى كلام النفس ذا الوحداني وكذا قواعده الكبار وإنها أوفى من المائتين في الحسبان لم يتسع نظمي لها فأسوقها فأشرت بعض إشارة لبيان وكذا رسائله إلى البلدان وال أطراف والأصحاب والإخوان وهي في الورى مبثوثة معلومة تُباع بالغالي من الأثمان وكذا فتاواه فأخبرني الذي أضحى عليها دائم الطوفان بلغ الذي ألفاه منها عدَّة ال أيام من شهر بلا نقصان سفر يقابل كل يوم والذي قد فاتني منها بلا حسبان هذا وليس يُقصر التفسير عن عشر كبار لسن ذا نقصان [الكافية الشافية، البيت رقم (3653) وما بعده]. الرد على المنطق، ونقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية: المنطق... رأيت من استشكالات فضلائهم ورؤسائهم لمواضع الإشكال ومخالفتها للعقل، ما كان ينقدح لي كثير منه، ورأيت آخر من تجرد للرد عليهم شيخ الإسلام - قدَّس الله روحه - فإنه أتى في كتابيه الكبير، والصغير، بالعجب العجاب، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم؛ [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة:1/447-448]. در تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية: الطاغوت الثاني: قولهم: إن تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل... وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه، وبيَّن بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت في كتابه الكبير؛ [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: جزء: 3/796]. كتاب شيخنا... كتاب لم يطرق العالم له نظير في بابه، فإنه هدم قواعد أهل الباطل من أُسها، فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيَّد فيه قواعد أهل السنة والحديث وأحكمها، ورفع أعلامها بمجامع الطرق التي تقرر بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار، فجاء كتابًا لا يستغني من نصح نفسه من أهل العلم عنه، فجزاه الله عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاء؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين:1/328]. وجزى الله تلميذه العلامة ابن القيم خير الجزاء، على ما قدم هو وشيخه: شيخ الإسلام ابن تيمية للإسلام والمسلمين من مصنفات نافعة مفيدة مباركة، لا زالت الأمة بحمد الله تنهل من معينها الصافي النقي. كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ المراجع من كتب الإمام ابن القيم: • المنار المنيف في الصحيح والضعيف. • تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته وعلله. • هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى. • الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. • اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية. • الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (النونية) . • تحفة المودود بأحكام المولود. • الفروسية المحمدية. • إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان. • الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. • طريق الهجرتين وباب السعادتين. • إعلام الموقعين عن رب العالمين.
حتى لا تنحرف المصرفية الإسلامية عن مقاصدها يدرك الجميع المقاصد النبيلة التي قامت عليها المصرفية الإسلامية التي مثَّلت امتدادًا للصناعة المالية الإسلامية بشقيها الربحي والخيري، بمقوماتها الرئيسة الثلاث الآتية: 1- حرمة التعامل بالربا. 2- حرمة التعامل بالغرر. 3- حرمة أكل أموال الناس بالباطل. وقد أدت المؤسسات المالية الإسلامية دورًا فعالًا مهمًّا، إذ رفعت الحرج الشديد عن الأمة من خلال إيجاد البديل الشرعي للتعاملات المالية غير المشروعة، وبعد النجاحات التي حقَّقتها هذه المؤسسات في مدة زمنية لا تتجاوز نصف قرن من الزمن، في وقت تزعزعت فيه مؤسسات مالية ربوية عملاقة على مستوى العالم؛ فَتَهَيْكَلت بعضها واندمجت بعضها الآخر مع غيرها، في ظل أشرس تجربة شهدتها الساحة المالية على مستوى العالم، تمثلت في حدوث الأزمة المالية العالمية التي نتجت عن أزمة الرهن العقاري في أواخر 2008م، ثبتت المؤسسات المالية الإسلامية، واستطاعت الخروج منها بأقل الخسائر، مقابل مثيلاتها الربوية. واليوم وبعد ما يقارب من عقد ونصف من الزمن على حدوث الأزمة المالية العالمية يرصد المراقب تدهور واقع بعض المؤسسات المالية الإسلامية نسبيًّا، ويؤشر تراجعًا في بعض المجالات التي كانت رائدة بها، وقبل ذكر وتشخيص الأسباب الداعية لذلك؛ فمن الضروري إثبات أن المؤسسات المالية الاسلامية متمثلة (بالمصارف وشركات الاستثمار وشركات التأمين التكافلي، وأسواق المال القائمة على تجارة الأسهم والصكوك)، مؤسسات ربحية في المقام الأول، مختلفة بذلك عن طبيعة عمل الجمعيات الخيرية، فلا شك أن طبيعة عملها يحدَّد على أساس الزيادة والتوسع قدر الإمكان، ومن خلال الاتفاق على هذا التوسع المشروع يمكن تأشير الأمور الآتية: 1- التوسع المبالغ في عقود الائتمان والدخول في متاهات الاقتصاد الوهمي، وهو الذي يوجد فيه فقاعة أو أكثر؛ إذ تمثل الفقاعة زيادة أو ارتفاع في قيمة الأصول، من دون زيادة حقيقية في قيمة الإنتاج. 2- محاكاة البنوك التقليدية والسير حذْوها، ومحاولة السير في نهجها، مع بُعد منهج وفلسفة ومنطلقات كل منهما عن الآخر. 3- انتقال الكثير من موظفي البنوك التقليدية إلى المؤسسات المالية الإسلامية بما يحملونه من فكر وثقافة مصرفية رأسمالية بحتة، (وتحديدًا المديرين الماليين) الذين كانت لهم حصة الأسد في التسهيلات الائتمانية وتقديمها للجمهور، تلك التي أسهمت بشكل أو بآخر في حدوث أزمة الرهن العقاري 2008 م. 4- حدوث فجوة بين النظرية والتطبيق، والواقع والمأمول، بسبب تغليب النظرة الربحية المادية الضيقة على حساب الدور الاجتماعي والإنساني الداعم الذي قامت عليه فكرة المالية الإسلامية. 5- انقراض الجيل الأول المؤسس والداعم الأقوى للفكرة، وتوسع المؤسسات ودخولها في منافسات السوق، وأيلولة الأمر إلى مجالس إدارة من خلفيات ومدارس اقتصادية متعددة. وقد تعذَر المؤسسات المالية الإسلامية بمختلف تشكيلاتها المذكورة أعلاه عن تحقيق الأهداف الاجتماعية والإنسانية التي كان ينتظر منها؛ كونها مؤسسات ربحية لديها مسهمون، وهي في النهاية مؤتمنة على تحقيق أرباح عادلة لهم، باعتبارهم شاركوا بها ودعموها بما رفعته من شعار: تحري الحلال في عملها. أما الدور الاجتماعي والإنساني في شتى مجالات مكافحة الفقر والتخلف والمرض، ونشر العلم والصحة، وغيرها من الأدوار المنتظرة لتعديل أوضاع الأمة وانتشالها من واقعها المزري، فيمكن أن تسهم فيه المؤسسات المالية الإسلامية الربحية بجزء منه، أما الدور الاجتماعي والإنساني الأكبر، فيمكن أن يتحقق في تفعيل قطاعي (الزكاة والوقف) المؤسسي، باعتبارهما يشكلان الطرف الآخر في مفهوم الصناعة المالية الإسلامية بشقيها (الربحي والخيري). ولذلك ينبغي أن تتم دراسة كيفية تفعيل مؤسسات الوقف والزكاة؛ لاعتباراتهما التشريعية في نهضة الأمة، وما يمكن أن تلعبه من دور مؤسسي منشود فعال، أما انتظار النتائج من المؤسسات المالية الإسلامية الربحية وحدها، فهو ضرب من الخيال، كحال من يزرع زرعًا في أرض مالحة سبخة، وينتظر ثمرًا يانعًا طبيًا. والله تعالى أعلم.
أصحاب الفيل آخرُ الحوادث التي ذكرها القُرْآن الكريم قبل بَدْء الرسالة المحمدية؛ فأحداثها حصلت - كما أرَّخ المؤرخون - قبل بدء الدعوة الإسلامية بأربعين سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد عام الفيل. مقدمة تاريخية: أدى عمل ذي نواس الطاغية بالمؤمنين من أهل نجران إلى أن خرج من اليمن رجل اسمه دوس ذو ثعلبان وقد نجا من الأخدود وتوجه إلى قيصر الروم في الشام وأخبره خبر ذي نواس، وطلب منه نصرة أهل اليمن والثأر من ذي نواس، فقال ملك الروم: طلبك حق، ونصرة واجبة، ولكن بعُدت المسافة بيننا وبينكم، ثم كتب إلى ملك الحبشة كتابًا طلب منه نصرة دوس والثأر من ذي نواس، فلبى ملك الحبشة وأرسل جيشًا عبر البحر قوامه سبعون ألفًا، وعلى رأسه قائده أرياط ومعه أبرهة، فالتقى بجيش ذي نواس وهزموه وغرق ذو نواس في البحر، ودخلت جيوش الحبشة أرض اليمن وعملت على نشر الديانة النصرانية، وبعد فترة اختلف أرياط مع أبرهة، فقتل أبرهةُ أرياطَ، وشج أرياطُ أبرهةَ عند عينه وحاجبه وفمه في مبارزة بينهما، ومن هنا سمي أبرهة الأشرم، وأراد أبرهة أن يظهر دين النصرانية في اليمن فبنى كنيسة كبيرة جعلها آية في الفن والجمال، واستعان بما في قصور بلقيس من رخام وأحجار فخمة في بنائها، وطعَّم أبوابها بالذهب، ورسم الصلبان بالذهب والفضة، ولما انتهى منها، كتب أبرهة إلى النجاشي ملك الحبشة كتابًا يقول فيه: إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبْنَ مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب، فلما سمع أحد العرب وهو من كنانة بهذا أخذته العزة فدخل الكنيسة وتغوط فيها احتقارًا لها إذا ما قورنت بالكعبة، وهنا بلغ ما صنع هذا العربيُّ أبرهةَ، فغضب وأقسم أن يهدم الكعبة، وأعد جيشه وانطلق باتجاه مكة، وتجمعت عدد من القبائل في الطريق وأرادت قتل أبرهة وصده عن البيت وبذلت الجهد، لكنها هُزمت أمام جيوش أبرهة، وكان معه الفيل الذي يقدمه في القتال أمام الجيش فتنفِر منه الخيل، وظل يتقدم ويقضي على كل مقاومة حتى اقترب من مكة، وكانت مقدمة لجيش أبرهة قد أغارت على إبل أهل مكة وساقتها إلى أبرهة، وكان منها مائتا بعير لعبدالمطلب، وهنا خرج عبدالمطلب للقاء أبرهة، ولما سمح له بمقابلة معه سأله أبرهة عن طلبه - وكان يظن أنه سيكلمه بشأن العودة عن هدم الكعبة - فقال عبدالمطلب: إن جنودك أخذوا مائتي بعير من إبلي، وطلب ردها، فقال له أبرهة: تسألني إبلًا وتترك الأمر الأهم الذي أتيت من أجله، فرد عبدالمطلب: أما الإبل فإبلي، وأما البيت فله ربٌّ يحميه، واسترد عبدالمطلب إبله، واستمر أبرهة في إعداد الجيش لدخول مكة، حيث قدم من جهة الطائف ونزل في وادي محسر ما بين منًى ومزدلفة، وأما عبدالمطلب، فقد أمر أهل مكة بالتفرق في الشعاب والجبال، وأمسك هو بحلقة باب الكعبة ودعا ربه أن لا يغلبن صليبهم أبدًا محالك؛ أي: قوتك، وانطلق مع قومه إلى أحد الشعاب بعيدًا عن التصدي للجيش، وفي هذه الأثناء برك الفيل في مكانه ولم يتقدم باتجاه مكة، وحركوه وضربوه فلم يُجدِ نفعًا، ثم وجهوه في غير وجهة مكة فقام وهرول، في هذه الأثناء أرسل الله طيرًا من جهة البحر، غطى بأعداده السماء وقد حمل كل طير منها ثلاث حصوات بمنقاره ومخالبه، فألقاها على جيش أبرهة، فدمره تدميرًا، وقد ورد في القُرْآن الكريم ذكر هذه الحادثة التي رآها أهل مكة رأيَ عين؛ فدلت على قدرة الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [الفيل: 1] وهم جيش أبرهة، ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾ [الفيل: 2]؛ فقد جعل الله كيدهم ومكرهم لا يصل إلى مكة؛ فقد حرسها الله ورد عليهم بتدميرهم، ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴾ [الفيل: 3] طيورًا غريبة تحمل حجارة حامية، فكانت تغير عليهم جماعات إثر جماعات، وموجات إثر موجات، كما يفعل الطيران الحربي في حروب هذه الأيام، ﴿ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ [الفيل: 4] حجارة طبخت بنار جهنم، كتب عليها أسماء القوم الذين سيقتلون بها، وهي عندما تصيب الفرد تؤلمه وتحرق أمعاءه، فيتلظى ألمًا، ويسقط ميتًا متهالكًا أو أشلاء ممزقة، ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 5] مثل الزرع وأوراق الشجر الذي تأكله الدواب فتقضمه قضمًا، وتترك منه بقايا متناثرة، وذكر أن الحصاة كانت تقع على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه، ويبقى عظامًا خاوية، لا لحم عليها ولا جلد ولا دم. فكانت هذه السورة المختصرة أبلغَ وصف لما حصل لأصحاب الفيل.
سجن العقل يعيش الكثيرون منَّا على مستويات مختلفة داخل ما يُمكن تسميته " السجن العقلي "، وهو أن هناك مَن يعيش حياة مريحة فيها الحرية التي يريدها، لكن تجده من الداخل مقيدًا بقيود عقلية ونفسية وعاطفية، والشيء المؤلم أن هذه القيود يتم تعزيزُها مع مُضي الوقت، وهو يعزِّزها بوسائل كثيرة، نذكر منها ثلاثًا. أولًا: من خلال العادات، بعضُ العادات التي يتبناها الإنسان تعمل على تقييد الإنسان، وتُسهم بشكل قوي في عدم انطلاقه وتحرره مِن كثيرٍ مِن الأوهام. فالعادات لها تأثيرٌ قوي على الفكر والسلوك، فالإنسان يمارس شيئًا ويكرره دائمًا، وهو في أصله خطأ، ولكن لغياب الوعي والمتابعة الذاتية لا يدرك هذا الخطأ وأثره السلبي على عقله ونفسيته، وإنها تجعله أسيرًا داخله سجنه العقلي. ثانيًا: التركيز: إن حياتنا ببساطة هي ردة فعل على الأحداث التي تحدث في حياتنا، فهذه الأحداث التي تحدث في حياتنا تجعلنا نركِّز فيها، ولا نخرج منها، فنكون ضحايا لأحداث حياتنا، فيأسِرنا عقلنا في هذه الأحداث، فاستجابتنا لما حدث يكون فيه مبالغة، فالإنسان لا تخلو حياته من تحديات، ولكن أن يبقى تركيزه متوقفًا في ذلك الحدث زمانًا ومكانًا، هو نوع من الأسر العقلي المرهق. فمن الخطأ القاتل التي نرتكبه ويُبقينا مسجونين - أننا نميل إلى التركيز على ماضينا على الجزء السلبي في ماضينا، وفي الحقيقة بهذه الطريقة يكون الإنسان أسيرًا للأحداث السلبية التي مرت عليه، وغالبًا أنها ستكون عائقا له عن التقدم للأمام. علينا أن نتذكر أن الماضي هو مكان مرجعي، وليس مكان إقامة، ولك أن تتخيل وأنت تقود سيارتك حيث يجب أن ننظر أمامك جيدًا، ماذا سيحدث إذا كنت بدلًا من النظر أمامك تركز على ما كان وراءك، قطعًا سترتكب حادثًا، وأنت ترى عندما نقود سيارتك هناك مرآة للرؤية الخلفية، تظهر لنا فقط جزءًا يسيرًا للخلف، فما كان خلفك انظر فقط إلى جزء يسير منه، لكن بقية تركيزك يجب أن يبقى نحو الأمام، ولو عكس الإنسان الرؤية، وجعل رؤيته للخلف أكبر من رؤية ما أمامه، فإنه لن يتمكن من المسير قدمًا. ثالثًا: ضيق الرؤية، هناك من يعيش ولا يرى في حياته إلا جانبًا واحدًا، فهو أشبه براكب في القطار يرى جانبًا واحدًا، ولا يرى الجانب الآخر، وقد يكون هذا الجانب الذي يراه مظلمًا لا حياة فيه، فيبقى أسير هذه الرؤية الخاطئة، وهذه ليست الحياة، الحياة مسار طويل به قمم ووديان، فحينًا يرتقي للقمة، وحينًا يهبط للوادي، فرؤية المرء للحياة يجب أن تكون أوسع وأشمل؛ كي يقترب من فهم الحياة، ويتحرَّر مِن وهم رؤيته الخاطئة، نحن نميل أحيانًا إلى التفكير في اللحظات السيئة في حياتنا، ونضخِّم تلك اللحظات، ونجعلها كأنها هي حياتنا، ولا يمكن تجاوزها، ونتجاهل وننسى اللحظات الجميلة في حياتنا، هذا التضخيم للأمر السلبي والتغافل عن الأمر الإيجابي في حياتنا، ينعكس أثره على الذهن؛ حيث يصبح المرء تفكيره سوداويًّا لا أمل يرجوه، فإذا سقط فيصعب عليه النهوض؛ لأنه لا يرى الحياة إلا حُفرًا. من حقائق هذه الحياة أنها مزيج من الخير والشر، فالدنيا صعود وهبوط، وإذا كانت شبيهة بمسار السكة الحديدية، فإن اختيارك أيَّ جانب من مسار السكة الحديدية هو الأمر المهم، فإن الأشياء التي تختار التركيز عليها ستصبح في الحقيقة بارزة في حياتك، وستصبح مؤثرة في عقلك، فالأشخاص الذين يركزون على المشاكل دائمًا، فإنهم لن يروا إلا المشاكل في حياتهم، وبمجرد أن يحل هذه المشكلة، سيجد مشكلة جديدة يجب التركيز عليها، فكل ما يراه هو المشاكل، وتكون هذه حياته؛ لأنه اختار أن يركِّز على هذا الجانب، ثم يلوم الحياة، والحقيقة عليه أن يلوم نفسه؛ لأن هناك نِعمًا في حياته لم يلتفت إليها، لكنه اختار التركيز على المشاكل، ولم يختر التركيز على الخير الذي لديه، فهو قد يكون محاطًا بنعمٍ لا تُحصى، لكنه لا يراها بسبب تركيزه على المشاكل. الإسلام يعطينا عدسة جميلة لرؤية الأشياء، وهي الصبر والشكر: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له"، هذه استجابة المؤمن لأي حدث، وهذا الحال فقط للمؤمن، فإذا حصل للمؤمن شيء لا يريده، فهو يستجيب له بصبر، وإن كان أمرًا جميلًا، استجاب له بشكر، هذه العدسة التي يجب أن يرتديها المؤمن لرؤية الحياة، وللتحرر من قيد اللحظة، فيكون قادرًا على العيش مع كل وضع في الحياة، ويكون قادرًا على مواجهة مصاعب الحياة دون أن يبقى أسيرًا من الداخل.
تعليقات مهمة على زيارة لمكتبة الدكتور: مصطفى الشكعة تمهيد: المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة [1] «موسوعي الثقافة»... لديه مكتبة بها أكثر من (35) ألف مجلد في شتى فروع المعرفة: (الدين- الأدب- الطب- التراث- المعاصرة- الفرق والمذاهب - التراجم - الاستشراق - السياسة - مخطوطات نادرة للسيوطي والقاضي عياض)، وفيها نسخة فريدة من «مصحف الدروز» [2] الذي جعله الله دليل براءته من تهمة إثارة الفتنة الطائفية في لبنان، ويؤكد أن الكتاب لا يزال في الصدارة رغم كثرة الدخلاء على الكتابة، وتنوع مصادر المعرفة، وغلاء أسعار الكتب. أقسام المكتبة: في البداية تحدث الدكتور «الشكعة» عن مكتبته وتقسيماتها، فقال: تضم مكتبتي قرابة (35) ألف كتاب موجودة في كل مكان في الشقة حتى في غرفة نومي، وهي مقسمة إلى أكثر من عشرة أركان هي: 1- ركن القرآن وتفاسيره، ويضم كل تفاسير القرآن القديمة والحديثة. 2- ركن الحديث والسنة والسيرة. 3- ركن الأدب الأندلسي والمغربي. 4- ركن كتابات المستشرقين حول الإسلام والردود عليها سواء بالعربية أو اللغات الأجنبية. 5- كن العبادات والشريعة. 6- ركن التاريخ والحضارة الإسلامية. 7- ركن الفرق والمذاهب الإسلامية وغير الإسلامية. 8- ركن الموسوعات العربية والأجنبية. 9- ركن التراث الأدبي أكثره قديم وقليل من المحدثين. 10- ركن الكتب العلمية والسياسية كالطب والجغرافيا والسياسة وغيرها. 11- ركن الكتب الأجنبية، وأهمها تراجم معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري بالإنجليزية. 12- ركن التراجم والسير والحماسات والأمالي. كتب نادرة: وعن أهم الكتب النادرة التي تنفرد بها مكتبته، قال الدكتور الشكعة: أشهرها (مصحف الدروز) المسمى «المصحف المنفرد بذاته»، وهو لا يوجد إلا لدى كبار "علماء الدروز"، الذين يعتبرونه من الكتب السريَّة في عقيدتهم. قصة عجيبة: يقول د. الشكعة: "ولحصولي عليه قصة غريبة مختصرها أنني كنت معارًا للتدريس في «جامعة بيروت» عام 1974م، وكنت أعمل في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والتصدي للفرق الضالة التي تدَّعي أنها إسلامية، وهي ليست كذلك، وأهمها الدروز، وقابل أحد تلامذتي الزعيم الدرزي «كمال جنبلاط» [3] . فقال له: هل أنت مسلم؟ فقال له جنبلاط: نعم، فقال له تلميذي: بل أنتم لستم مسلمين، وإنما أنتم أصحاب دين مستقل، وهذا كلامك في كتاب الدكتور الشكعة «إسلام بلا مذاهب». فما كان من جنبلاط إلا أن وجه إليَّ تهمة إثارة الفتنة الطائفية في لبنان، وقدموني للمحاكمة، واحتج تلامذتي من السنة والشيعة وبعض الدروز الذين اهتدوا على يدي، وكان القاضي «جورج أبو مراد» أكثر مما يسألني لما وجده من صدق حديثي الذي حصلت عليه من جنبلاط من قصره في «قرية المختارة»، وبعد انتهاء التحقيقات رجعت إلى منزلي فوجدت مظروفًا فيه مصحف الدروز، وفتحته فوقع نظري على عبارة: "أولئك المرتدون الذين يتجهون إلى بيت من الحجارة بقلوبهم خمس مرات كل يوم، فبشرهم بعذاب أليم"، وعبارات أخرى كثيرة تعد هجومًا صريحًا على الإسلام، فما كان مني إلا أن أخذت المصحف واتجهت به للقاضي الذي أعلن براءتي، وألحق الاتهام بالدروز الذين بدأوا يساومونني لحفظ القضية، وقتها قلت حقًّا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: 38]، وعندي كتاب «النقط والدوائر في العقيدة الدرزية» [4] ، وهو لا يوجد لدى سني غيري؛ لأنَّه من الكتب السرية، وعندي مخطوطات للسيوطي والقاضي عياض، فضلًا عن المراسلات مع عدد كبير من المستشرقين وعلى رأسهم «جال بيرك» بخصوص ترجمته، والدراسة الملحقة بها الكثير من الأخطاء والطعن في الإسلام. كتب أتمنى اقتناءها: عن الكتب التي كان يتمنى اقتناءَها، ولكنه لم يعثر عليها قال الدكتور الشكعة: هناك بعض الكتب للإمام الماوردي وابن النفيس والإمام الباقلاني، وبعض كتب المبرد صاحب كتاب (الكامل) الذي هو أحد أربعة كتب قال عنها ابن خلدون: «من قرأ هذه الكتب الأربعة ولم يتأدب فلا أشب له قرنًا»، وهي البيان والتبيان للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والأمالي لأبي علي القالي، والكامل للمبرد ". كتب أُهديت إليَّ: وعن أهم الكتب التي أُهديت إليه، قال: معزة الكتاب المهدي إلى بقيمة من أهداه، فقد أهدى لي أستاذي (أحمد أمين) كلَّ كتبه وأنا طالب كاتبًا عليها: "إهداء إلى تلميذي مصطفى لنباهة شأنه مستقبلًا"، وأعتز كذلك بكتب شيخي وأستاذي الدكتور "عبدالوهاب عزام" الذي تأثرت به كثيرًا رغم إنني تتلمذت على يد طه حسين وأمين الخولي وغيرهما، وأعتز كذلك بالمصحف المكتوب بالخط المغربي الذي أهداه لي "الملك الحسن"، وكذلك بعض كتب المستشرقين الذين أهدوها لي على سبيل التقدير أكثر منها صداقةً. تراجم معاني القرآن: وعن أهم تراجم معاني القرآن الموجودة في مكتبته باعتبار أنه من كبار المهتمين بهذه القضية، قال الدكتور الشكعة: أفضل ترجمة بالإنجليزية لمعاني القرآن قام بها «مار مردوك بيكيت هول»، وهو إنجليزي أسلم عن قناعة تامة بالإسلام، وأما التراجم الفرنسية، فأفضلها على الإطلاق ترجمة السيدة الفرنسية المسلمة «دي ميسون» التي أسلمت وعمرها أربعون عامًا، وعاشت حتى الثمانين، وهي تقدم خدمات علمية جليلة في خدمة القرآن والسنة، أما الترجمة الفرنسية لـ«جاك بيرك»، فلنا عليها ملاحظات، وسيقوم الأزهر بإصدار تصويبات وردود على ما في هذه الترجمة، وترجمة أحاديث البخاري ومعجم ألفاظ الحديث لمجموعة من المستشرقين. حياتي في القراءة والكتابة: وعن عاداته في القراءة والكتابة، قال: أبدأ القراءة من بعد صلاة الفجر حتى خروجي للجامعة، وأكتُب من بعد الحادية عشرة مساءً حتى قبيل الفجر، وقسطي من النوم قليل. أرفض الإعارة: وعن تبادُله للكتب مع الآخرين أو إعارته لكُتبه، قال: كنت قديمًا أعير كتبي لمن يحتاجها، إلا أنني فوجئت بأن كل من يأخذ كتابًا لا يرده؛ مما جعل مجموعة من الكتب النفيسة تخرج ولا تعود، وأنا خجول بطبعي، لهذا قررتُ ألا أعير أحدًا أيَّ كتاب، وإذا كان يرغب في الاطلاع فليأت إلى منزلي ويجلس ليقرأ على راحته. المصادر: 1- القرآن الكريم. 2- جريدة " عقيدتي" الثلاثاء 5 رمضان 1417هـ /الموافق 14 يناير 1997م، ص 15. قام بزيارة الدكتور/ مصطفى الشكعة الصُحفي في جريدة عقيدتي: جمال سالم، والمصور: مصطفى حامد. 3- ذيل الأعلام، أحمد العلاونة. 4- إسلام بلا مذاهب، مصطفى الشكعة. 5- فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي. [1] مصطفى محمد الشكعة: (.../8/1917م-20/4/2011م)، مفكر وأستاذ جامعي، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، والعميد الأسبق لكلية الآداب، جامعة عين شمس ولد في قرية «محلة مرحوم» التابعة لمدينة ( طنطا) في شهر8 / سنة 1917م، وتدرج في التعليم حتى حصل على الثانوية العامة، وارتحل إلى القاهرة، والتحق بكلية الآداب، جامعة عين شمس، و أقام عند أخيه بالقاهرة، وحصل على الليسانس في الآداب سنة 1944م، ثُمَّ الماجستير في الآداب سنة 1951م، وحصل على العالمية " الدكتوراه سنة 1954 من نفس الجامعة، وتولى عدة مناصب حيث عمل رئيس لجنة التعريف بالإسلام بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية، وعضو لجنة الحوار الإسلامي المسيحي، وله عدة مؤلفات من أشهرها «إسلام بلا مذاهب» توفي في 20/4/2011م. [2] مصحف الدروز: ألف هذا الكتاب (كمال فؤاد جنبلاط)، بالتعاون مع شخص يدعى (عاطف العجمي) وكمال جنبلاط من كبار الدروز، ومن أشد المتعصبين لمذهبه الدرزي، وقد أقدم على جريمة كبيرة في هذا العصر؛ حيث بدأ هو وشخص آخر اسمه (عاطف العجمي) بتأليف كلام يحاكيان به القرآن الكريم، زاعمين أنه كلام مقدس تحت اسم «المصحف المنفرد بذاته»، أو مصحف الدروز مملوء من شتى الأفكار ومن شتى السور من القرآن الكريم.ومن حِكَمِ الهند - التي يميل إليها كمال جنبلاط كثيرًا، بل هي قبلة حجهم إلى وقتنا الحاضر- ومن كلام زعمائهم، فأصبح خليطًا فاسدًا يدور كله حول تأليه الحاكم، والثبات على العقيدة الدرزية، ومع أنه هذا المصحف –كما يسمونه –قد نسب إلى حمزة بن علي إلا أن الدكتور الخطيب يرى أنه من صنع كمال جنبلاط بدليل ما جاء فيه من ألفاظ وأسلوب عصري، وقد أنكر جنبلاط في مصحفه هذا القرآن الكريم، واعتبره فرية، وشنَّع على الذين يلتزمون به. انظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب عواجي (2/633). [3] كمال بن فؤاد جنبلاط: (1335-1397هـ / 1917-1977م)، من زعماء لبنان السياسيين، ولد «بالمختارة بالشوف»، ودرس في المدارس التبشيرية اليسوعية، وتخرج حقوقيًّا في (الجامعة اليسوعية ببيروت)، وأسس الحزب التقدمي الاشتراكي سنة (1949م)، وشارك في الثورة المسلحة على «كميل شمعون» سنة 1958م، وأيد السياسة «الناصرية»، وبادر بالصداقة مع الاتحاد السوفيتي، وساند حركة المقاومة الفلسطينية أحيانًا، وعين وزيرًا مرات، قام بتأليف "المصحف المنفرد بذاته" مع المدعو "عاطف العجمي"، واغتيل (كمال جنبلاط) في كمين نُصب له سنة (1977م)، له ترجمة في (ذيل الأعلام / ص 157) أحمد العلاونة، (معجم المؤلفين) (2/670-671)، معجم أعلام المورد/ 159، موسوعة السياسة (5/139)، المستدرك على معجم المؤلفين (ص 564)، المائة الأولون (93-96)، عرب معاصرون (259 - 274)، وغيرها، رجال من بلادي (351-374)، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (210، 217، 281، 314). [4] الدروز: ا لدروز فرقة مارقة خارجة عن دين الإسلام، ليس لهم في الإسلام نصيب، كيف وهم لا يؤمنون بأي نبي أو رسول من رسل الله، وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام، لكنهم يتعمدون مخالفة المسلمين ويكرهونهم، ويعبدون ربهم في إيذائهم، فلا يوجد في محالهم ومناطقهم مساجد، وهم يعبدون الله عز وجل، بالكذب على المسلمين والتقيا، ويعتقدون أن الرسل هم أبالسة، وهذا يذكر في كتبهم، والدروز يعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله، وهو أبو علي المنصور بن العزير بالله الفاطمي، المتوفى سنة 375هـ 985م، والمؤسس الفعلي للدروز هو «حمزة بن علي الزوزني» المتوفى سنة 430هـ، فهو الذي ألف كتاب «عقائد الدروز»، وهو مقدَّس عندهم، بل هو عندهم كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند المسلمين، وكان معه رجل اسمه «محمد بن إسماعيل الدرزي»، ومعروف بـ: ((نشتكن))، كان مع حمزة في تأسيس عقائد الدروز، إلا أنه تسرع في إعلان ألوهية الحاكم، وكان ذلك سنة 407هـ، مما أغضب حمزة عليه، وأثار الناس ضده، وكاد أن يقتل، فتحول إلى دمشق ودعا هناك إلى مذهبه، وظهرت الفرقة الدرزية التي ارتبطت باسمه، ثم دُبِّر له وقُتِلَ.
بلال بن رباح رضي الله عنه وإنسانية الحضارة الإسلامية الخطبة الأولى أما بعد: أيها الإخوة الأحباب، حديثنا اليوم عن إنسانية الحضارة الإسلامية حيث إن الإسلام دين عالمي إنساني جاء ليخرج البشرية من غياهب الجهل والكفر، إلى نور العلم والإيمان بالله تعالى، جاء الإسلام ليعلن أنه لا فرق بين عربي أو أعجمي، ولا فرق بين أبيض ولا أسود، الكل في ميزان الله سواء، يتفاضلون بالإيمان والتقوى ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل ‌لعربي ‌على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلَّغتُ؟) )، قالوا: بلغ رسول الله [1] . يقول شيخ الأزهر حفظه الله (علمانية أمريكا بعد مائة عام لم تستطع أن تقنع أبيض أن الأسود إنسان، أما إسلامنا وخلال سنوات فعلمنا أن ننادي للعبد الحبشي: بسيدنا بلال) ! لذا: عباد الله، سنقف مع سيدنا بلال الحبشي لنتعرف على سيرته، ونستلهم منها الدروس والعبر؛ ليعلم العالم أنه لا يوجد دين على وجه الأرض أعلى من قيمة الإنسان وكرَّمه كما كرم الإسلام الإنسان مهما كان وضعه أو جنسه أو لونه؛ فأعيروني القلوب والأسماع لنشنفها بتلك السيرة العطرة. بطاقة تعريف وتشريف: هو بلال بن رباح الحبشي القرشي التيمي، مولى سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، وقد ذكروا في ترجمته عدة كنى له؛ فهو أبو عبدالله، ويقال: أبو عبدالكريم، ويقال: أبو عبدالرحمن، ويقال: أبو عمرو. كان حبشيًّا من الأرقاء الذين يعيشون في مكة، وقد وُلد فيها، وأمه حمامة مولاة لبني جمح. كنية بلال: أبو عبدالله. بلال رضي الله عنه أول من أسلم من العبيد: أحباب الحبيب صلى الله عليه وسلم: ومن أوسمة الشرف التي نالها بلال رضي الله عنه أنه أول من أسلم من العبيد ليتحرر بذلك من رق العبودية للبشر لينال شرف العبودية لله الواحد الأحد. روى مسلم عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرآء عليه قومُه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبي»، فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله»، فقلت: وبأي شيء أرسلك، قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء»، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر، وعبد»، قال: ومعه يومئذٍ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك [2] . صبر بلال رضي الله عنه على الابتلاء: لم يكن إسلام بلال رضي الله عنه أمرًا هينًا على الكافرين، بل كان صفعة قوية للظلَمة الذين استعبدوا الناس وساموهم سوء العذاب، لقد شعر بلال رضي الله عنه أنه انطلق إلى أفق رحب لا يعرف الحدود ولا يعرف الأحساب والأنساب، فلا نسب ولا حسب إلا الإسلام. أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه: لذا وقف بلال رضي الله عنه كالجبل الأشم في وجه عاصفة الكفر والتعذيب والعنصرية، فلم يهن عزمه ولم يضعف إيمانه.... عن مجاهد قال: "أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنَعَه عمُّه، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأُخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فأعطوهم ما سألوا، فجاء كل رجل منهم قومه بأنطاع الأدم فيها الماء فألقوهم فيه، وحملوا بجوانبه إلا بلالًا، فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية ويرفث، ثم طعنها فقتلها، فهي أول شهيد استشهد في الإسلام، إلا بلالًا فإنه هانت عليه نفسه في الله حتى ملوه، فجعلوا في عنقه حبلًا، ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشبي مكة، فجعل بلال يقول: أحدٌ أحدٌ" [3] . روى ابن سعد عن عروة بن الزبير قال: كان بلال بن رباح من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه، فما أعطاهم قط كلمةً مما يريدون، وكان الذي يعذِّبه أمية بن خلف [4] . روى ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال: كان بلال إذا اشتدوا عليه في العذاب قال: أحد أحد، فيقولون له: قل كما نقول، فيقول: إن لساني لا يحسنه [5] . أين نحن من بلال؟ بلال يتعرض للعذاب والقتل حتى يترك الإسلام، وله في ذلك دليل من كتاب الله، لكنه يصبر على الأذى والعذاب في سبيل الله تعالى، نعم يتقرب إلى الله بالصبر على العذاب، ولا يترك دينه. ومنا اليوم من يفسد ويفسق ويفعل المعاصي، ويقترف الإثم، ويأتي الذنوب، وهو يتنعم بنعم الله عليه، فشتان بين الاثنين. الرعيل الأول يتقربون إلى الله بفعل الطاعات، والخير والبر والقربات، ومنا اليوم من يتقرب إلى الله بالمعاصي؛ لأنه واقع فيها لا محالة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. جزى الله خيرًا عن بلال وصحبه عتيقًا وأخزى فاكهًا وأبا جهلِ عشية همَّا في بلال بسوءة ولم يحذروا ما يحذر المرء ذو العقلِ بتوحيده ربَّ الأنام وقوله شهدت بأن الله ربي على مهلِ فإنْ تقتُلوني تقتُلوني ولم أكن لأشركَ بالرحمن من خيفة القتلِ نزول القران الكريم في شأن بلال رضي الله عنه وأصحابه الفقراء: وها هو الإسلام يعلي من الشأن الضعفاء والفقراء، يقدمهم على الأحساب والأنساب والأعراق، فلا عز إلا عز الطاعة، ولا شرف إلا شرف الإيمان، وإن كان صاحبه عبدًا عربيًّا أو حبشيًّا أو روميًّا، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان - لست أسميهما - فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه - لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطمع في إسلام صناديد قريش - فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 52] [6] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ [الأنعام: 51] إلى قوله: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53] [7] . إن هؤلاء الفقراء والمساكين المنكسرين خيرٌ من أولئك العظماء المتكبرين، إن أقفية هؤلاء المؤمنين أشرف من وجوه أولئك الكفرة، إن أقدام هؤلاء خير من رؤوس أولئك؛ لأن هؤلاء مؤمنون، موحدون، طائعون، وأولئك مكذبون، متكبرون، محادُّون لله ورسوله. جهاد بلال رضي الله عنه: انطلق بلال رضي الله عنه يحمل سيفه ويحمل روحه على كفه يجاهد في سبيل الله، وليردع هؤلاء الكفار الذين يصدون عن سبيل الله، يقول ابن سعد رحمه الله: (شهد بلال بن رباح بدرًا وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [8] . بلال رضي الله عنه خازن رسول الله الأمين: إخوة الإسلام: لقد نال بلال رضي الله عنه ثقة رسول الله صل الله عليه وسلم؛ وذلك لصدقه وأمانته، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب الخازن وأتمنه رسول الله على خزائن الطعام. عن عبدالله الهوزني، قال: لقيت بلالًا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت له: يا بلال ‌حدثني ‌كيف ‌كانت ‌نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "ما كان له شيء، أنا كنت الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله عز وجل حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فيراه عاريًا يأمرني به فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة أو غيرها فأكسوه وأطعمه" [9] . ولقد تحمل بلال رضي الله عنه مع الحبيب صلى الله عليه وسلم الشدائد والمشاق، تحمل الجوع والفقر، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ‌أوذيت ‌في ‌الله، وما يؤذى أحد، ولقد أُخفتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثالثة ما بين يوم وليلة ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما واراه إبط بلال» [10] . بمَ سبقتني إلى الجنة البارحة؟! هل تتخيل تلك المكانة والمنزلة التي بلغها بلال رضي الله عنه؟ كان سباقًا إلى كل خير، وضع الجنة نصب عينيه ورضا ربه ومولاه، وطاعة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم؛ لذا نال تلك المكرمة، اسمعوا إلى هذا الموقف أيها الأحباب: قال ابن بريدة، عن أبيه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت الجنة البارحة ‌فسمعتُ ‌خشخشتك ‌أمامي، فأتيت على قصر من ذهب مربع، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب، قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب" [11] . (خشخشتك) : الخشخشة حركة لها صوت كصوت السلاح؛ أي: صوت مشيتك. فهذا بلال الحبشيُّ ينال تلك المنزلة الرفيعة بخبر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى والذي لا يخرج من لسانه إلا الحق، فليتق الله من يسيرونها جاهلية فيناضلون بين الناس على أساس عروقهم وأجناسهم وقبائلهم، وليعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه سببٌ إلا سبب التقوى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية أما بعد: بلال رضي الله عنه يتوقف عن الأذان: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قرَّر بلال ألا يؤذِّن لأحد بعده صلى الله عليه وسلم، فتوقف عن الأذان، قال الإمام ابن كثير (رحمه الله) : أذَّن بلال بن رباح يوم فتح مكة على ظهر الكعبة، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بلال الأذان [12] . قال محمد بن إبراهيم التيمي: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن بلال ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبر. فكان إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ انتحب الناس في المسجد. قال: فلما دُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له أبو بكر: أذِّن. فقال: إن كنت إنما أعتقتني لأن أكون معك فسبيل ذلك. وإن كنت أعتقتني لله فخلِّني ومن أعتقتني له. فقال: ما أعتقتك إلا لله. قال: فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذاك إليك. قال: فأقام حتى خرجتْ بعوث الشام فسار معهم حتى انتهى إليها [13] . وفاة بلال رضي الله عنه: كانت سيرته رضي الله عنه نبراسًا يستضاء به، ودليلًا واضحًا على عظمة الإسلام الذي رفع من قدره وشأنه وأعلى من منزلته وكرمه ومنحه أوسمة كثيرة، منها أنه مبشر بالجنة..... حياة كلها طاعة وجهاد، بذل وعطاء، صدق ووفاء، أمانة وإخلاص، ومن عاش على شيء مات عليه..... قال سعيد بن عبدالعزيز: لما احتضر بلال بن رباح قال: غدًا نلقى الأحبه * محمدًا وحزبه. قال: تقول امرأته: واويلاه! فقال بلال: وافرحاه! [14] . توفي بلال بن رباح بدمشق سنة عشرين ودفن عند الباب الصغير في مقبرة دمشق وهو ابن بضع وستين سنةً [15] . وتأتي لحظة الرحيل التي لا بد لكل حيٍّ منها؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، ويموت بلال رضي الله عنه، ويدفن في الشام، سنة عشرين بدمشق، وهو ابن بضع وستين سنة. ويلحق بالرفيق الأعلى، ليتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما كان يتقدم بين يديه في الدنيا يفسح له الطريق، ويسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خشخشة نعليه في الجنة، فرضي الله عن بلال، وعن سائر الصحب والآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. وأخيرًا عباد الله: بعد هذا البيان تبين لنا أن القيمة الإنسانية واحدة للجميع، يقول القرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. فالعربي إنسان، والعجمي إنسان، والأبيض إنسان، والأسود إنسان، والحاكم إنسان، والمحكوم إنسان، والغني إنسان، والفقير إنسان، ورب العمل إنسان، والعامل إنسان، والرجل إنسان، والمرأة إنسان، والحر إنسان، والعبد إنسان، وما دام الكل إنسانًا فهم إذًا سواسية كأسنان المشط الواحد. لقد سوى الإسلام بين بلال الحبشي وأبي بكر القرشي. لقد سوى الإسلام بين صهيب الرومي وعمر بن الخطاب القرشي. لقد سوى الإسلام بين سلمان الفارسي وعثمان بن عفان القرشي. إنها عظمة الإسلام في إنسانيته التي تنبثق عن عقيدة إن ربك واحد، ودينك واحد، وأباكم واحد، وحِّدوا الواحد. الدعاء....................................... [1] أخرجه أحمد (5/411، رقم 23536). [2] (مسلم/ حديث: 832). [3] (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ3صـ176). [4] «الطبقات الكبير» (3/ 213 ط الخانجي). [5] (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ3صـ175). [6] أخرجه الإمام مسلم في فضائل الصحابة برقم (46). [7] مسند الإمام أحمد: 1/420. [8] (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ3صـ180). [9] «سنن أبي داود» (4/ 661 ت الأرنؤوط): «إسناده صحيح». [10] «مسند أحمد» (19/ 245 ط الرسالة) «وأخرجه ابن أبي شيبة 11/464 و14/300، وابن ماجه (151)». [11] «مسند أحمد» (38/ 148 ط الرسالة): «صحيح لغيره». [12] (البداية والنهاية لابن كثير جـ7صـ104). [13] (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ3صـ178). [14] (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ10صـ475). [15] (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ3صـ180).
الإمام الشافعي ناصر السنة (3) تحدثنا في مقالين سابقين عن حياة الشافعي منذ ولادته حتى وفاته رحمه الله، وفي هذا المقال سنتحدث عن حياته العلميَّة من فقهٍ وعلم واجتهاد وعقيدة وغير ذلك، ولا بد من ذكر شيء عن العصر الذي عاش فيه الشافعيُّ من الناحية السياسية والدينية؛ لأنه بلا ريب أسهم في تكوين شخصية الشافعي العلمية. عصره : عاش الشافعي في العصر العباسي الأول، أو ما يسمى العصر الذهبي للدولة العباسية، وهو من أنضر عصور الإسلام ثقافة وعلمًا؛ فقد ظهرت فيه قوة الخليفة العباسي، وبسط نفوذه على أرجاء الدولة الواسعة، واستتبَّ الأمن فلم تحدث فيه كثيرٌ من النزاعات الداخلية سوى ما كان في موقعة فخ سنة 169 للهجرة وفتنة الأمين والمأمون، وبصورة عامة أسهمت قوة الخلافة واستقرار الأمن في جعل هذا العصر من أفضل العصور ثقافة وعلمًا وحضارة. وكان للفقهاء والعلماء مكانتهم عند الخلفاء وعند الناس، سوى ما حدث في محنة خلق القرآن، التي حدثت بعد وفاة الشافعي بأربع عشرة سنة، هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية الدينية، فالكثرة من المسلمين كانت على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان جمهور الفقهاء يلتزمون إما مدرسة الرأي كالإمام أبي حنيفة، أو مدرسة الحديث كالإمام أحمد، ونستطيع أن نقول بأن الشافعي أتى بمدرسة جديدة توسَّطت بين أهل الحديث وأهل الرأي، وهي إلى أهل الحديث أقرب، يقول القاضي عياض في ترتيب المدارك عن الشافعي: (علم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع للأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلا بعد الأصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولًا). وكان هناك فِرَقٌ مبتدعة كالمعتزلة والشيعة والخوارج، ولم يكن لها كبير تأثير طيلة حياة الشافعي، فلا حاجة للكلام عنها. علم الشافعي : كان الشافعي شغوفًا بالعلم، مقبلًا بوجوده كلِّه على العلم والعمل به، ونال من العلم مالم ينله إلا النزر اليسير من الناس، ولقد طلب العلم على يد علماء كبار كالإمام مالك وسفيان بن عيينة كما مر في المقالين السابقين، والشافعي متنوع العلوم، فهو بحر في الشريعة، حجة في اللغة، ناهيك عن أنه واضع علم أصول الفقه، وسنتحدث عن علومه بشيء من التفصيل؛ لعله يقتدي به المقتدون، ويهتدي به المهتدون. القرآن وعلومه : لا شك أن حفظ كتاب الله وفهمه ومعرفة علومه هو الركن الأول في فهم الشريعة، ولا شك أن فهم كتاب الله يحتاج إلى علمٍ بلغة العرب وأساليبها وبلاغتها، والشافعي حفظ القرآن مبكرًا في السابعة، وذهب إلى هُذيل أفصح العرب فتعلم عندهم العربية الفصيحة، وهو في الأصل قرشي والقرآن نزل بلغة قريش، فجاءت رحلته إلى هذيل مع قرشيته الأصلية نورًا على نور، فهذا الحفظ للقرآن وهذه الملَكة في العربية جعلت الشافعيَّ من أكابر الذين فهموا كتاب الله، ومنحته مكانة عظيمة في تفسير القرآن والاستنباط منه، جاء في توالي التأسيس عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال: (كان الشافعي إذا ذكر التفسير كأنه شَهِد التنزيل)، وقال إسحاق بن راهويه: (أعلَمَني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه -يعني الشافعي- كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن). وأما التفسير بالمأثور فكان الإمام الشافعي يعتمد الرواية الثابتة الموثوقة فقط، وكان يعتمد رواية الإمام مجاهد تلميذ حبر الأمَّة عبدالله بن العباس رضي الله عنهما؛ لأن مجاهدًا من أوثق المفسرين على الإطلاق. وأما قراءته، فقد كانت على قراءة ابن كثير، أخذها عن شيخه المكي إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين بسنده المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العزة جل في علاه. الحديث وعلومه : سلف أن الشافعيَّ حفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، وأخذ الحديث عن محدِّث مكة الأكبر سفيان بن عيينة وغيره، ولقد كان حفظه للحديث لا يباريه فيه إلا أهل الصناعة فيه، فقد كان يحفظ عددًا كبيرًا جدًّا من الأحاديث، حتى إن الإمام ابن خزيمة سئل: هل يُعرَف للنبي صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة لم يودعها الشافعُّي كتبه؟ قال: (لا)، وهذا ورد في تهذيب الأسماء واللغات. وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل عن الشافعي: (كان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان يكفيه قليلُ الطلب في الحديث). فأنت ترى أن كبار الأئمة المحدِّثين شهدوا للشافعي بكثرة حفظه للحديث، فهو كان يمتلك ثروة ضخمة من الأحاديث ساعدته على الاستنباط، وجعلها أساسًا لاجتهاده، ولكنه مع ذلك كان يحرص على صحة الحديث، فقد وجَّه همَّتَه وحافظته إلى الأحاديث الصحيحة، وكان شديد الحرص على صحة الحديث، يقول النووي في التهذيب: (ومن ذلك -يعني من فضائل الشافعي- تمسُّكُه بالأحاديث الصحيحة، وإعراضه عن الأخبار الواهية والضعيفة، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف كاعتنائه ولا قريبًا منه، فرضي الله عنه، وهذا واضح جلي في كتبه، وإن كان أكثر أصحابنا لم يسلكوا طريقته في هذا). هذا عن روايته للسُّنة، أما درايته وفهمه لها، فهو في ذلك منقطع النظير، فقد بلغ الغاية في فهم السنة وشرحها ومعرفة غريب الحديث، وكان شيخ شيوخ مكة سفيان بن عيينة إذا حدَّث بحديث يسأل الشافعيَّ عن فقهه، فينشرح صدر سفيان لإجابة تلميذه البار، ومن أراد الاطلاع على شيء من هذه البراعة في فهم الحديث، فليراجع الرسالة وتوالي التأسيس وغيرهما. ومما يخفى على كثير أن الشافعيَّ وضع أساسات كثيرة في علم مصطلح الحديث اعتمدها العلماء من بعده، بل يرى عبدالغني الدقر أن الشافعي هو واضع علم مصطلح الحديث كما أنه واضع علم الأصول، والمسلَّم به أن الشافعي وضع في هذا الفن مصطلحاتٍ كثيرة لم يُسبق إليها، منها ما رواه ابن أبي حاتم عن الشافعي قال: (إذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو سنة)، وقال الشافعي: (ليس الشاذ من الحديث أن يرويَ الثقةُ حديثًا لم يروه غيرُه، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثًا فيشذ عنهم واحدٌ فيخالفهم)، وله غير ذلك من الأقوال التي اعتُمدت في هذا العلم العظيم. عدالة الشافعي : من فضول الكلام أن يتحدث أحدٌ عن عدالة الشافعي أو أحدٍ من الأئمة الأربعة، ولكن الجرح والتعديل ركن من أركان العلم به عُرف الصحيح من الضعيف، والثابت من الموضوع، ولقد فتَّش علماء الحديث جزاهم الله خيرًا عن كل راوٍ أو عالم وأوغلوا في ذلك؛ حتى لا يدخل في السنة النبوية ما ليس منها، وأقوالُ العلماء في تعديل الشافعي كثيرة تدلُّ على مكانة هذا الإمام الرفيعة، يقول ابن خلكان في وفَيَات الأعيان: (اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته، وزهده وورعه، ونزاهة عرضه وعفة نفسه، وحسن سيرته وعلوِّ قدره وسخائه). ويقول الإمام أبو داود صاحب السنن: (ما أعلم للشافعيِّ حديثًا خطأ) كما في شذرات الذهب. اتباع الشافعي للسنة : جعل الشافعيُّ اتباع السنة منهجًا لحياته، فهو مهما يؤصل من أصل أو يفرع من فرع يطرحه كلَّه عندما تثبت السنة الصحيحة بخلافه، فإذا جاء الحديث الصحيح الذي لا ناسخ له، فهو الشرع لا شرع سواه، فليس لأحد أن يسمع السنة الثابتة ويُعرِض عن العمل بها، ورد في توالي التأسيس عن الشافعي قال: (إذا وجدتم سنة صحيحة فاتَّبِعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد)، وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط). ويقول فيما رواه ابن أبي حاتم: (كلُّ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني)، وقد شهد له بنصرة السنة واتباعها كبار الأئمة والعلماء، ورد في توالي التأسيس عن الإمام أحمد قال: (ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أَتْبع للسُّنة من الشافعي)، وفي الطبقات قال عبدالرحمن بن مهدي: (مات الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد وتظهر البدع). عقيدته : كان الشافعي من أجلِّ من دافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة بما أوتيه من علم غزير، وحجة بيِّنة، وكان رحمه الله شأنه شأن علماء السلف يؤمن بما ورد في الكتاب والسنة من العقيدة بعيدًا عن التعطيل أو التشبيه أو التأويل، سواء في الأسماء والصفات أو بقية مناحي العقيدة، وكان يحرص على سلامة عقيدته، وهذه سنة السلف جميعًا، وكان رحمه الله كالأئمة كلهم يبغض علم الكلام وينفر من أهله، يقول الشافعي كما في الشذرات: (ما شيء أبغض إليَّ من الكلام وأهله)، وقال الشافعي: (ما تردى أحد بالكلام فأفلح)، وقال كما في مفتاح السعادة: (لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لَفَرُّوا منه فرارهم من الأسد). وكان الشافعي كسائر أهل السنة يعتقد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة كثيرة متظاهرة على ذلك، ذكر بعضها الإمام البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، قال الشافعي كما في الانتقاء: (الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب)، وقال الشافعي: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص). فهذا مثال يبيِّن لك حسن عقيدة الإمام الشافعي وصحتها، ومن أراد الاستزادة فليراجع الطبقات والانتقاء والتهذيب وغيرها، ولقد بيَّن حسنَ عقيدته وصحتها أقوالُه وكتبه وأفعاله العظيمة، وشهد له بذلك كبار أهل العلم، قال داود بن علي الظاهري: (ومنها -يعني من فضائل الشافعي- صحة الدين وسلامة المعتقد من الأهواء والبدع). الفقه وأصوله : الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، كما في الورقات، والإمام الشافعي هو إمام مذهب من المذاهب الأربعة كما هو معلوم، ولقد كان تأثير الشافعي في الفقه الإسلامي تأثيرًا عظيمًا، فالرجل جاء في عصر جمهور الفقهاء ملتزمون إما بمدرسة الحديث أو مدرسة الرأي، وأخذ الشافعي علم هؤلاء وهؤلاء ثم وازن بينهما، فخرج على الناس بمدرسة جديدة جمعت خيرَ ما في الطريقتين وتوسطت بينهما، وهي إلى أهل الحديث أقرب، فهو علم الناس أن صحيح الرأي فرع للأصل، وأنه لا فرع إلا بعد الأصل، والأصول الكبرى التي قام عليها مذهب الشافعي أربعة، هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والإجماع، والقياس، ولم يحتج الشافعي بالحديث المرسل إلا مراسيل التابعي الجليل سعيد بن المسيب؛ لأنه عدل ولا يروي إلا عن عدل. على عكس الإمامين مالك وأبي حنيفة اللذين احتجا بالحديث المرسل وأوجبا العمل به، وأما الإمام أحمد فقد احتج بالمرسل إذا لم يكن في الباب شيء، وقدَّمه على القياس. فالأصول الأربعة السالفة الذكر هي الأصول الكبرى للمذهب الشافعي، وبيان خصائص المذهب يحتاج إلى بحث مستقل، فلعله يتيسر لنا ذلك في غير هذه المناسبة. وأما أصول الفقه، فقد تقدم في المقالة السابقة أن الشافعي هو من أنشأ علم الأصول، وأن كتابه الرسالة هو أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، فالشافعي له قصب السبق في هذا العلم العظيم، ولا داعي لإعادة الكلام هنا. الشافعي واللغة : لو لم يكن الشافعي إمامًا مجتهدًا لكان من أعظم أدباء العربية وكتابها، فالشافعي قرشيٌّ، وحسْبُه ذلك ليكون صحيح اللغة فصيحها، ورحل صغيرًا إلى هذيل أفصح العرب -كما يقول الدقر- فتعلم فصاحتها، وتلقن بلاغتها، كل ذلك جعل فاه عندما يتكلم كأنه ينظم درًّا إلى در، قال يونس بن عبدالأعلى -كما في معجم الأدباء-: (كان الشافعي إذا أخذ في العربية قلتَ: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه قلت: هو بهذا أعلم)، بل لقد وصل إلى مرحلة جعلت كلامه في اللغة حجة عند علماء الشريعة واللغة، يقول الإمام أحمد: (كلام الشافعي في اللغة حجة)، ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام: (كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة)، وزاره مرةً علامة مصر عبدالملك بن هشام فقال: (ما ظننت أن الله خلَقَ مثل الشافعي)، ثم اتخذ قوله حجة في اللغة، وكذلك اتخذ إمام اللغة الأزهري قول الشافعي في اللغة حجة؛ لأنه فصيح اللسان كما قال الأزهري. وأما النحو فما درسه الشافعي على أحد، ولكن ملكته وفصاحته العربية جعلته أستاذًا في النحو، فما سمعت منه لحنة قط كما قال الزعفراني، ولا سمعت منه كلمة غيرها أحسن منها كما قال ابن هشام، ولقد اعتبر كبار النحاة كلام الشافعي في النحو حجة، قال المازني -وهو في النحو من هو-: (الشافعي حجة عندنا في النحو)، بل لقد كان يحتج بالشافعي في اللغة والنحو كما يحتج بالبطن من العرب كما في الطبقات. الشافعي والشعر : كان حظ الشافعي من الشعر كثيرًا؛ فقد كان يحفظ لمئات الشعراء، ناهيك عن حفظه لأشعار هذيل كلها، كما في معجم الأدباء، والشافعي لم يكن يحفظ الشعر فقط بل كان يحفظه ويفهمه ويشرحه ويستشهد به، ورد في التهذيب عن الشافعي قال: (أروي لثلاثمائة شاعر مجنون)، وهذا يدلك على غزارة المادة الشعرية التي كان يحفظها الشافعي، ولأجل هذا الحفظ والفهم قصده كبار علماء العربية لقراءة الشعر وتصحيحه عليه، ومنهم الأصمعي راوية العرب الذي قرأ شعر هذيل وصححه على الشافعي، كما في معجم الأدباء وتوالي التأسيس، هذا عن حفظه للشعر، أما شعره فقد كان الشافعي ينظم الشعر أحيانًا وترك شعرًا جيدًا ارتفع عن شعر الفقهاء، يقول القفطي في كتابه المحمدون: (وكان له شعر أجل من شعر الفقهاء)، ولم يؤثر عن الشافعي قصائدُ طوال، ولكنه كان ينظم الأبيات التي قد تصل أحيانًا إلى العشرة، ولقد قال المبرد يمدح شعر الشافعي: (رحم الله الشافعي؛ فإنه كان من آدب الناس، وأشعر الناس، وأعلمهم بالقرآن). ولقد ذكرت الكتب التي ترجمت للشافعي كمعجم الأدباء وطبقات الشافعية شعرًا كثيرًا له، منها قوله يحن إلى أرض مولده غزة: وإني لمشتاقٌ إلى أرضِ غزةٍ وإن خانني بعد التفرُّقِ كِتماني سقى اللهُ أرضًا لو ظفرتُ بتُرْبِها كحلتُ به من شدة الشوقِ أجفاني مؤلفات الشافعي : ما عُرف لإمام قبل الشافعي من التصانيف ما عُرف للشافعي عددًا ونوعًا، والشافعي أكثر الأئمة الأربعة تصنيفًا، وقد صنف الشافعي 134 كتابًا، ومعظمها اشتمل عليها كتاب الأم المشهور، وإليك أسماء بعض كتبه نقلًا عن معجم الأدباء: كتاب الطهارة وكتاب صلاة الاستسقاء وكتاب المناسك الكبير وكتاب الزكاة الكبير وكتاب الصيام الكبير وكتاب الرسالة وكتاب أحكام القرآن وكتاب اختلاف الحديث وكتاب جماع العلم وكتاب العدة وكتاب أدب القاضي وكتاب الجزية وكتاب قتال أهل البغي وكتاب الساحر والساحرة وكتاب فضائل قريش والأنصار وكتاب الجهاد، إضافة إلى كتاب الحجة وكتاب السنن والمبسوط، وهذه الكتب من رواية الربيع بن سليمان المرادي، باستثناء الحجة والسنن والمبسوط، وأول كتاب ألفه الشافعي هو كتاب الرسالة، ألفه في مكة، ثم كتاب الحجة في العراق، وباقي كتبه كلها ألفها في مصر على ما به من العلة الشديدة، ولكن عزيمته غلبت مرضه، ولقد اعتنى العلماء بمؤلفاته عناية كبيرة تدل عل مكانة هذا الإمام الرفيعة، يقول الإمام أحمد: (لم أنظر في كتب أحد ممن وضع كتب الفقه غير الشافعي). وقال قتيبة بن سعيد: (لو وصلتني كتب الشافعي لكتبتها، ما رأت عيني أكيس منها). ومن أراد معرفة كتب الشافعي كاملة فليراجع معجم الأدباء لياقوت الحموي. شيوخ الشافعي : سلف القول أن الشافعي تلقى علم المكيِّين والمدنيِّين والعراقيِّين وعلم اليمن في رحلته إليها، ولقد تلقى الشافعي رحمه الله العلم عن مشايخ كثر من مكة والمدينة والعراق واليمن وغيرها، وبلغ عدد شيوخه ثمانين شيخًا، أجلُّهم الإمام مالك والإمامان سفيان بن عيينة ومحمد بن الحسن الشيباني، ومعظم شيوخه ثقات، وهاك أسماء بعض شيوخه كما وردت في توالي التأسيس: إبراهيم بن سعد الزهري وأسامة بن زيد بن أسلم وإسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين والحارث البصري وحماد بن أسامة والإمام عبدالله بن المبارك والفضيل بن عياض وعبدالعزيز الدراوردي ومروان بن معاوية الفزاري ومسلم بن خالد الزنجي وغيرهم كثير، وإليك تعريفًا باثنين منهم ليكون كالدلالة على الباقي: الإمام مالك: هو الإمام الكبير مالك بن أنس الأصبحي أبو عبدالله، من أئمة الإسلام الأجلاء وأحد الأئمة الأربعة، كان مهيبًا عظيمًا صلبًا في دينه، له كتاب الموطأ المشهور توفي في المدينة سنة 179 للهجرة رحمه الله تعالى. سفيان بن عيينة: هو الإمام الجليل والمحدث الكبير سفيان بن عيينة الهلالي، ولد بالكوفة وسكن مكة، فكان كبير علمائها، كان حافظًا واسع العلم، توفي في مكة سنة 198 للهجرة رحمه الله. تلاميذ الشافعي : لم يُعرف لإمام قبل الشافعي من التلاميذ ما عُرف للشافعي نوعًا وعددًا، يقول داود الظاهري كما في توالي التأسيس: (ومنها-يعني من فضائل الشافعي-ما اتفق له من الأصحاب؛ مثل أبي عبدالله أحمد في علمه وزهده وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي والحميدي...)، إلى أن قال: (ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء ما اتفق له من ذلك)، ولقد بلغ عدد تلاميذ الشافعي وأصحابه 164 تلميذًا، منهم من عرف بالتبعية له في مذهبه كالمزني، ومنهم من أخذ عنه واستفاد منه كثيرًا من دون تبعية له في المذهب ومنهم الإمام أحمد، وإليك أسماء بعضهم كما وردت في توالي التأسيس: الإمام أحمد بن حنبل وأحمد بن الحجاج المروزي وأبو ثور إبراهيم بن خالد والحسن الزعفراني والربيع المرادي ويوسف بن يحيى البويطي وإسماعيل بن يحيى المزني والحسين بن علي الكرابيسي ومحمد بن عبدالحكم وعبدالله بن الزبير الحميدي والأصمعي وعبدالملك بن هشام صاحب السيرة وسليمان بن داود الهاشمي العباسي وقحزم الأسواني، وهو آخر أصحابه وفاة، ويونس بن عبدالأعلى وحرملة بن يحيى، وغيرهم كثير، وهاك ترجمة لبعض تلاميذه ممن أثر فيهم الإمام الشافعي: أحمد بن حنبل: هو الإمام الجليل العظيم إمام السنة وإمام الدنيا أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي أبو عبدالله، أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب وإليه ينتسب السادة الحنابلة، كان إمامًا جليلًا عظيمًا ثبَت وحيدًا في محنة خلق القرآن، فثبَّت الله به السنة وأهلها، كان يحفظ معظم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومسنده المشهور أحد أهم كتب الحديث، توفي في بغداد سنة 241 للهجرة رحمه الله ورضي عنه. ومن أراد معرفة كل تلاميذ الشافعي فليراجع توالي التأسيس وكتاب الشافعي لعبدالغني الدقر. ثناء العلماء على الشافعي : لقد أثنى العلماء والفقهاء والمحدثون على الشافعي بمختلف العبارات وكثير الكلمات، وأقروا بفضله عليهم بمختصر الثناءات ومطولها، قال الإمام أحمد: (ما تكلم في العلم أقل خطأ ولا أشد أخذًا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الشافعي)، وقد مضى في المقالتين السابقتين وهذه المقالة كلمات مختلفة للإمام أحمد في الثناء على الشافعي. وقال إسحاق بن راهويه: (الشافعي إمام العلماء)، وقال الحميدي: (سيد علماء زمانه الشافعي)، وقال عبدالرحمن بن مهدي عن الشافعي: (ما ظننت أن الله خلَقَ مثل هذا الرجل)، وقال أبو زرعة: (ما أعلم أحدًا أعظم منَّةً على الإسلام من الشافعي)، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي)، وقال هارون بن سعيد الأيلي: (ما رأيت مثل الشافعي)، وقال هلال بن العلاء: (أصحاب الحديث عيال على الشافعي، فتح لهم الأقفال)، وقال داود بن علي الظاهري: (كان الشافعي رضي الله عنه سراجًا لحملة الآثار ونقلة الأخبار، ومن تعلق بشيء من بيانه صار محجاجًا)، وغير ذلك الكثير من أقوالهم، وكلها تدل على عظمة الإمام الشافعي ورفعته. ثناء الشافعي على علماء : كان الشافعي يقر بالفضل لأصحابه من العلماء والفقهاء فيثني عليهم، ولا يعرف الفضلَ لأهل الفضل إلا ذووه، وما عظم الشافعي أحدًا قدر تعظيمه للإمامين مالك وأحمد وسفيان بن عيينة، وكان الشافعي يطلق كلمات الثناء على من يستحقها من شيوخه وأصحابه ومن تقدم عصره، يقول الشافعي عن الإمام أحمد بن حنبل: (خرجت من العراق وما خلفت بالعراق أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد). وقال الشافعي عن مالك: (إذا ذُكر العلماء فمالكٌ النجم)، وقال الشافعي: (جعلت مالكًا حجة فيما بيني وبين الله)، وقال الشافعي عن سفيان بن عيينة: (ما رأيت أحدًا من الناس فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أحدًا أحسن لتفسير الحديث منه)، وقال الشافعي عن مسلم الزنجي أول شيخ له في الفقه: (كان مسلم بن خالد الزنجي فقيه زمانه)، ويقول الشافعي عن الإمام أبي حنيفة: (من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة)، وقال الشافعي عن محمد بن الحسن الشيباني: (ما رأيت أحدًا سئل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن)، وقال الشافعي عن الشعبي: (الشعبي في كثرة الرواية مثل عروة بن الزبير)، وقال الشافعي عن الأصمعي: (ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي)، وله غير ذلك من الثناءات على علماء عصره ومن تقدمه من أهل الفضل تجدها في كتب من ترجم له وفي كتب الطبقات. حِكَمُ الشافعي وأدعيته : الشافعي رجل غزير العلم كبير العقل خبير بالناس وأصنافهم والحياة وألوانها، ومِن مثل هذه الصفات تتفجر الحكمة، والحكمة تحتاج إلى العلم والتجربة والشافعي أخذ منهما بحظ وافر، وقد أُثِر عن الشافعي حِكَمٌ كثيرة لو جُمعت لكان منها جزء كبير كما يقول الإمام ابن حجر، وإليك بعضًا من حكمه لتطلع على جمال الألفاظ وروعة المعاني، قال الشافعي: (من تعلم القرآن جل في عيون الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هِيبَ، ومن تعلم العربية رقَّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم الفقه نبل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمُه، وملاك ذلك كلِّه التقوى). وقال: (رتبة العلماء التقوى، وحليتهم حسن الخلق، وجمالهم كرم النفس)، وقال الشافعي: (أشد الأعمال ثلاثة: الجود في قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف). وقال: (لا يكمل الرجل في الدنيا إلا بأربع: الديانة والأمانة والصيانة والرزانة). وقال: (لا خير في صحبة من تحتاج إلى مداراته)، وقال: (اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل). وقال الشافعي: (صحبة من لا يخاف العارَ عارٌ يوم القيامة)، وقال لابنه أبي عثمان يعظه: (يا بني، والله لو علمت أن الماء البارد يثلم من مروءتي شيئًا ما شربت الماء إلا حارًّا)، وقال الشافعي: (وددت أن الناس تعلَّموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ)، وهذه الكلمة العظيمة تدل على عظيم إخلاصه وعميق ورعه، فالرجل لا يريد ثناء ولا شهرة، إنما همه رضا الله عز وجل. ولقد كان للشافعي بعض الأدعية التي اشتهرت عنه شأنه شأن المؤمن الموقن الذي يعلم أن له ربًّا لن يضيعه، ومما اشتهر من أدعيته قوله كما في وفَيَات الأعيان: (اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير)، ودعا مرة لميت فقال: (اللهم بغِناك عنه وفقرِه إليك اغفر له)، وله غير ذلك من الأدعية تجدها في كتب من ترجم له، وكلها تدل على عظيم إيمانه ودوام التجائه إلى الله عند كل مناسبة. وبهذا ينتهي ما أردناه من عرض حياة الإمام الشافعي، ثم بيان جوانب من علمه في هذه السلسلة من المقالات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين، وأصحابه الميامين أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا. المصادر والمراجع: • الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، لعبدالغني الدقر. • الشافعي آراؤه وفقهه، لمحمد أبو زهرة. • توالي التأسيس، للحافظ ابن حجر. • معجم البلدان، لياقوت الحموي. • صفة الصفوة، لابن الجوزي. • الانتقاء، لابن عبدالبر. • وفيات الأعيان، ابن خلكان. • تهذيب الأسماء واللغات، للنووي. • طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي. • آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم. • الوافي بالوفيات، الصفدي. • شذرات الذهب، لابن العماد. • ترتيب المدارك، القاضي عياض. • متن الورقات، الجويني. • الفقه المنهجي على المذهب الشافعي، لمجموعة من العلماء. • المحمدون من الشعراء، القفطي. • معجم الأدباء، لياقوت الحموي. • نزهة الألباء، ابن الأنباري. • الجواهر المضية في طبقات الحنفية، عبدالقادر القرشي.
مَقتل عَبيد بن الأبرص وعجائب أمثاله في زمن الجاهلية الكثير من القصص التي تُنبئ عن جهالة أهلها وطيْشهم، ومن القصص المدوَّنة في كتب الأدب العربي قصةُ مقتل عَبِيد بن الأبرص، وعبيدٌ هذا هو أحد شعراء المعلقات، وقد قاده قدره لحتفه، وأضحت قصته مثلًا يُضرب به فيما بعد لِمن عثرت به رجلاه فهلك، فيقولون كـ(يوم بؤس عَبيد). وكان الشاعر عَبيد بن الأبرص رحل إلى الحيرة للقاء المنذر، وكان الشعراء من قبل يفِدون على الملوك بغية إكرامهم، فطلع عليه في يوم بؤسه - الذي كان لا ينجو منه أحدٌ طلع عليه فيه، وبالمقابل فقد كان يُغدق بالكرمِ والنِّعم من لقيه في يوم نعيمه. والمنذر هو ابن امرئ القيس بن ماء السماء (وهو جد النُّعمان بن المنذر): "وكان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجُلان من بني أسد، أحدُهُما خالد بن المضلل، والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة، فأغْضباه في بعض المنطق عند ما ثَمِل، فأمر بأن يُحْفَر لكل واحد حفيرة بظهر الحِيرة، ثم يُجعلا في تابوتين، ويدفنا في الحفرتين، ففُعِل ذلك بهما، حتَّى إذا أصبح سأل عنهُما، فأُخْبِر بهلاكهما، فندم على ذلك وغمَّه. ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما، فأمر ببناء الغرِيَّين عليهما، فبُنِيا عليهما، وجعل لنفسه يومَين في السَّنة يجلس فيهما عند الغرِيَّين، يُسمي أحدهما يوم نعيم، والآخر يوم بؤس، فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شومًا؛ أي: سودًا، وأول مَن يطلع عليه يوم بؤْسِه يعطيه رأس ظِربان أسود، ثم يأمر به، فيذبح ويُغْرى بدمه الغرِيَّان، فلبث بذلك برهةً من دهْرِه، يقتل في يوم بؤسه مَن يطلع عليه [1] . • والغَرِيَّان: هما بناءان عاليان أقامهما المنذر على نديميه اللذين قتَلهما، وسُمِّيا الغريين؛ لأنه كان يغريهما بدم من يقتله، والظَّرِبان: أصغر من السنور منتن الرائحة. ويظهر لنا جليًّا فيما سبق ما اشتَهر به العصر الجاهلي من الخضوع لقوة العاطفة وسطوة الانفعال دون الاحتكام إلى العقل والمنطق.. وكان الظلم في العلاقات الاجتماعية من أسباب الجهل العام في الحياة الجاهلية، لذا جاء الإسلام ليحتكم إلى العقل وينفي الظلم والجهل، ويقضي على مظاهر الزيغ والقهر والطيش والبغي، وفي قصتنا هذه ما يمكننا من الاستدلال به على بعض مظاهر العصر الجاهلي وقسوته وغياب القوانين والنُّظُم، وكيف أن القوي هو الذي يأمر وينهى ويقتل ويعدم، دون أن يعترض عليه أحد زمن الجاهلية. لنتأمل سويًّا هذه القصة المؤلمة التي رسمت فيها نهاية هذا الشاعر الأسطورة من كتاب البغدادي: "خزانة الأدب" وغيره من كتب الأدب: ثُمَّ إنَّ عَبيد بن الأبرص كان أوَّل مَن أشرف على المنذر في يوم بؤسِه، فقال: هلاَّ كان الذَّبح لغيرِك يا عبيد؟ فقال: أتتْك بحائنٍ رِجْلاه، (والحائن الهالك، فأرْسلها مثلًا)، فقال له المنذر: أو أجلٌ بلَغ إِناه (أي موعده)، فقال له المنذر: أنشِدْني، فقد كان شِعْرك يُعْجبني، فقال عَبيد: "حال الجَريض دون القريض"، فأرسلها مثلًا، والمعنى أن الغصة تحول دون الشعر؛ لأني أرى الموت أحمرًا يقطر أمامي، و"بلغ الحِزام الطِّبْيين"، فأرْسلها مثلًا، والمعنى أن الأمر تفاقم؛ أي بلغ السيل الزُّبى، والطِّـبْي حلَمة الضَّرع)، فقال له النعمان: أسْمِعني! فقال: "المنايا على الحوايا"، فأرْسلها مثلًا، والمعنى أن الموت يخيم على ما يحويه في بطنه، ونرى هنا كيف أن المنذر مُصرٌّ على الاستمتاع بشعر عبيد الذي كان رائجًا ذائعًا قبل أن يستمتع بذبحه، وهذا ما يدعوك إلى العجب، فقال له: ما أشدَّ جزعَك مَن الموت! فقال: "لا يرْحل رَحلك مَن ليس معك"، فأرْسلها مثلًا؛ أي الأمور هي التي تجري معك، وأنت صاحبها لا يشعر بها من ليس راحلًا معك. فقال له المنذر: قد أمللْتني، فأرحني قبل أن آمر بك! فقال عَبيد: "من عزَّ بَـزَّ"، فأرْسلها مثلًا، وبزَّ: غلب، ومعناها من قويَ غلبَ، وصار له القرار والغلبة. ومما يلاحظ هنا قدرته العقلية على حباكة الأمثال البليغة التي استلهمها ساعة قتْله؛ مما جعل العرب ترددها في الحوادث والروايات، وجعلها مثلًا واعتبارًا لإيجازها البديع وثرائها بالمعاني.. فقال المنذر: أنشدني قولك: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ (يقصد معلقته الشهيرة)، فقال عَبيد: أقفرَ من أهله عَبيدُ فَلَيْسَ يُبْدِي وَلا يُعِيدُ عَنَّتْ لهُ عنَّة نكودُ وحانَ منها له ورودُ فقال له المُنذر: يا عَبيد، ويْحَك، أنشِدْني قبل أن أذبَحك: فقال عبيد: وَاللَّهِ إِنْ مِتُّ لَمَا ضَرَّنِي وَإِنْ أَعِشْ مَا عِشْتُ فِي وَاحِدَهْ فأبلغ بَنِيَّ وَأَعمامَهُم بِأَنَّ المَنايا هي الواردهْ لها مُدَّةٌ فَنُفوسُ العِبادِ إِلَيها وَإِن جَهَدوا قاصِدَهْ فلا تَجْزَعُوا لِحِمَامٍ دَنَا فَلِلْمَوتُ ما تَلِدُ الوَالِدَهْ فقال المنذِر: إنَّه لا بدَّ من الموت، ولو أنَّ النعمان عرضَ لي في هذا اليَوم لذبحتُه، فاخترْ إن شئت الأكحل (وريد في وسط الذراع)، وإن شئت الأبجل (وريد في الرجل)، وإن شئت الوريد (وهو في العنق)، فقال عَبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد، وارِدُها شرُّ ورَّاد (أي هاطلها)، وحاديها شرُّ حاد، ومَعادها شر معاد، ولا خيْر فيه لمرتاد، فإن كنت لا مَحالة قاتلي، فاسْقِني الخَمْر، حتَّى إذا ماتت مفاصلي، وذهلتْ لها ذواهلي (غبت عن إدراكي)، فشأنك وما تريد. فأمر المنذر بِحاجته من الخمر، حتى إذا أخذتْ منه مأخذها، وجرت في عروقه، دعا به المنذر، ليقتُله، فلمَّا مثَل بين يديْه أنشأ يقول: وَخَيَّرَني ذو البُؤسِ في يَومِ بُؤسِهِ خِصالًا أَرى في كُلِّها المَوتَ قَد بَرَق كَما خُيِّرَت عادٌ مِنَ الدَهرِ مَرَّةً سَحائِبَ ما فيها لِذي خيرَةٍ أَنَق سَحائِبَ ريحٍ لَم تُوَكَّل بِبَلدَةٍ فَتَترُكَها إِلَّا كَما لَيلَةِ الطَلَق فأمر به المنذر، ففُصِد (شُقَّ وريده لاستخراج دمه)، فلمَّا مات غُرِّي بدمه الغريان" [2] . نعم، لم تشفع لعَبيد الحكيم الشاعر قصائده الذائعة الصيت، ولم يشفع له نبوغه ورفعة منزلته، وكونه أحد عشرة كانت تفتخرُ العرب بقصائِدهم، ولم تُثنِ المنذر أمثال عَبيد وحكمه، فلجَّ في بطشه وجهالته ليذبح أحد شعراء المعلقات بدمٍ بارد دون أي ذنبٍ، فقط لحبه سفك الدم واستمتاعه بمنظرِ مشهد الإعدام، ليجد عبيد نفسه وجهًا لوجه أمام مقصلة الذبح مستقبلًا الإعدام، وقد كان يرجو الإكرام، فقط ما يقدر عليه هو اختيار نوعية نهايته هذا غاية ما يمكن أن يصل إليه، ليستقبل طغيان المنذر بقدح خمر يَكرعه حتى يَثمَل؛ ليغيب عن عقله وحواسه قبل أن يودِّع الحياة. [1] الأصفهاني: الأغاني، ج 22، ص 91؛ التذكرة الحمدونية، ج2، ص ٤٣١. [2] خزانة الأدب، ج2، ص 217- الشاهد (116).
صالونات الإلحاد في الغرب لا شك أن الإلحاد بمفهومه المعاصر الذي يتضمَّن إنكار وجود الخالق والإله، لم يكن مشتهرًا عند الأقدمين، ولم يُعرف عن أمة من الأمم في القديم أنها أنكرت وجود الخالق إلا فئة قليلة لا يعبأ بها، ولا يلتفت إليها، ومن هنا لم يعتنِ القرآن الكريم عناية كبيرة بمن أنكروا وجود الله تعالى؛ لأن أمثال هؤلاء من القلة في العدد والسفاهة في الرأي بحيث لا يؤبه لهم، ولذلك نجد أن دعوة القرآن الكريم توجهت نحو الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة. ويمكن القول: إن الإلحاد المتمثل بإنكار وجود الله تعالى، والقول بمادية الكون لم يعرف خلال تاريخ البشرية بوصفه ظاهرة عامة، بل هو سمة من سمات هذا العصر الحديث وثمرة للمقولات التي انتشرت إبان الثورة الفرنسية، ومنها مقولة: "لن يعم السلام إلا إذا شُنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين". تُنسب هذه المقولة أحيانًا عن طريق الخطأ إلى فولتير، ولكن صاحبها هو جان ميسليير الذي مات قبل الثورة الفرنسية بـ ٦٠ سنة، والمقولة الأصلية هي: "عندي أمنية، ربما آخر وأهم أمنية في حياتي، وهي أن يُشنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين"، مع أن ميسليير نفسه كان رجل دين، ولكنه يعرف الفساد الذي أدخله رجال الكهنوت الديني النصراني للسياسة والعكس، وهكذا بدأ الإلحاد يتسرب للحياة العامة بعد أن بدأت الصالونات المغلقة للتأسيس له نظريًّا وعمليًّا. نشير هنا إلى أن معظم نزعات الإلحاد التي ظهرت في التاريخ البشري، وعند بعض الأفراد، إنما كانت عرضًا طارئًا على نفوسهم وأفكارهم، ونزغات غير مستقرة، ظهرت في بعض مراحل حياتهم، ولأسباب نفسية أو اجتماعيةٍ مروا بها، ثم خَبَتْ هذه النزعات والنزغات، ثم انطفأت نيرانها، وعلى هذا فإن إنكار وجود الله تعالى على الوجه الذي تتبجح به الجاهلية المعاصرة، وبالسعة الذي تمارس بها ذلك التبجح، أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية، وكثير من هؤلاء صحا من سكراته ورعوناته، وعاد إلى حظيرة الإيمان، ولم يصبح الإلحاد ظاهرة وبائية في كتل بشرية وتجمعات إنسانية ثقيلة وخطيرة. ومع ظهور بوادر الإلحاد، نشأت العديد من المدارس والمذاهب الفكرية والاجتماعية، والتي تصب في مصب الإلحاد، وتستلهم منه مادتها، وهناك العديد من المدارس وكذلك النظريات، سواءً ما كان منها علميًّا بحتًا، أو اجتماعيًّا، أثرتْ أو تأثرتْ بالإلحاد، وقامت بترسيخ مفاهيمه، ودعتْ إليه، وينقسم الملحدون عبر تاريخ الإلحاد الى أربع مجموعات رئيسة هم: 1- نخب علمية وفلاسفة تبنَّوا الإلحاد بناءً على قناعاتهم، معتمدين على نظريات علمية، أو أطروحات فلسفية. 2- حركات سياسية، كما حصل مع الشيوعيين الذي استولوا على السلطة في روسيا بعد الثورة البلشفية، ونشروا الإلحاد بالقوة والعنف في العديد من الشعوب التي ضموها إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وحولوها إلى مستعمرات. 3- أفراد غير متخصصين، أو مُؤدلجين، وجدوا القول في الإلحاد هروبًا من قيود الدين، أو إثباتًا لذواتهم، أو تحقيقًا لمصالح أخرى. 4- عدد لا بأس به من الصامتين من كل الديانات والمجتمعات والأجناس، ممن لديهم شك، لكنهم لا يطرحونه للنقاش، إما تأثرًا بالمظهر العلمي والفلسفي الذي يطرح به أصحاب الفكر الإلحادي أفكارهم وشبهاتهم، أو نتيجةً للأسلوب المنغلق الذي تعلموا به دياناتهم؛ حيث يرفض معلموهم أيَّ منطق، أو علمًا يخالف ما يفهمون، وهو ما يسمى بأسلوب (هو هكذا Just- so ) ، كما يدعي هؤلاء المعلمون الانفراد بالفهم عن الإله، وأن على الآخرين أن يسلِّموا بذلك [1] . وفي كتاب القوانين لأفلاطون يذكر أن للإلحاد ثلاثة أضرب: الضرب الأول: إنكار الإله (الفلاسفة الطبيعيون قبل سقراط) ، الضرب الثاني: إنكار العناية الإلهية؛ أي اثبات الإله، وإنكار عنايته بالعالم، وهذا يستلزم إنكار النبوات والشرائع، فهذا ضرب من ضروب الإلحاد كما يقول أفلاطون، (وهؤلاء يُدعون بالربوبيين) ، الضرب الثالث: وهو الاعتقاد أن الإله، أو الإلهة يستجلب رضاها، ويدفع ضررها عن طريق تقديم القرابين كالقضاة المرتشين. ويمكن الإشارة هنا إلى أن الملحدين المعاصرين يتنوعون ما بين ملحد قوي، أو متصلب ( Atheist ) ، وهو اللون الغالب من الإلحاد في الوقت الحاضر، وهناك اللاأدري ( Agonistic ) ، وهو المتوقف في مسألة وجود الله، ويرى أن أدلة إثبات وجود الله تتكافأ مع أدلة نفي وجوده، وبالتالي لا يمكن إعطاء حكم عقلي في هذه القضية، وصنف ثالث وهو الربوبي ( Diest ) ، وهو المعتقد بوجود إله خالق، لكنه يرى أن هذا الإله خلق الكون ثم تركه يعمل كالساعة الزنبركية التي أُدير مفتاحها، ثم تركت لتعمل وحدَها بدون توجيه ولا تدبير، والصنف الرابع هو اللاديني ( Irreligious ) ، وهو المنكر للأديان عامة، ومما تنبغي الإشارة إليه هنا هو أن هناك من يتبنى الإلحاد بوصفه عقيدة يدافع عنها بشراسة، وآخرون يتبنونه فكرًا مبتنًى على بحث وقراءة أدت به إلى هذا الموقف، وآخر ثالث تبنى الإلحاد من باب التقليد الأعمى دون تعمُّق أو تفكير. وقد كان لصالونات الإلحاد في الغرب التي تعرف بـ (الصالونات الأدبية) - الأثرُ الكبير في تثقيف العامة بالإلحاد، ولعل أقدم صالون عرفته الوثائق التاريخية هو "فندق رومبيو" القريب من قصر اللوفر في باريس، وكانت مضيفته الرومانية الأصل مركيزة دو رومبيو، واسمها كاترين دو فيفون (1588-1665) ، وقد أدارت جلساته منذ عام 1607 حتى وفاتها، وكانت هي من أسست لقواعد وأصول الصالونات الفرنسية بالاستناد إلى قواعد وقوانين الفروسية الإيطالية. ومن الصالونات المهمة في فرنسا صالون البارون دي هولباخ الذي عُرف بوجوده في الصالونات الأدبية وبإلحاده؛ حيث كانت له كتابات غزيرة ضد الدين، ومن أشهرها مؤلفه "نظام الطبيعة"، وكانت فلسفته مادية وإلحادية صريحة، وتُصنف ضمن حركة فلسفية تدعى المادية الفرنسية، وقد نشر كتاب (كشف النقاب عن المسيحية) في عام 1761 الذي هاجم فيه الديانة المسيحية بشكل عام، واعتبرها عائقًا أمام التقدم الأخلاقي للإنسانية، وقد استخدمَ بارون دولباخ ثروته من عام 1750 وحتى عام 1780 لرعاية واحدة من أكثر صالونات باريس شهرة وبذخًا، التي سَرعان ما أصبحت ملتقًى مهمًّا للمسهمين في موسوعة إنسيكلوبيديا العلمية؛ حيث كان يأتيه كل الملاحدة من كل مكان، ويجمعون حججهم في النفي وإنكار الإله، ويؤسِّسون لها. ووفقًا لبعض الإحصاءات، فإن انتشار الإلحاد في العالم يتنامى بصورة خطيرة، ومن هذه الإحصاءات ما قامت به مؤسسة (يوربا روميتر) ، وهي من كبريات المؤسسات الإحصائية في أوروبا، فقد ذكرت أن 18% من سكان أوروبا في عام 2005م أصبحوا ملاحدة لا يؤمنون بوجود خالق، و27% منهم لا يؤمنون بخالق، وإنما يؤمنون بعالم روحاني أو قوة وراء الحياة. وفي الدول الإسكندنافية نجد أن غالبية السكان من الملحدين واللا دينيين، وفي ألمانيا 30% من السكان ملاحدة، وفي فرنسا 40%، وهكذا، فلم يعد الإلحاد حالة نخبوية ضيقة، بل صار لها وجود شعبي وقاعدة عريضة بين أمم من الخلق. وكذلك ما ذكرته مجلة (فاينانشال تايمز) ، فإنها ذكرت أن 65% من اليابانيين أصبحوا في عام 2006م ملاحدة، وكذا إحصائية مؤسسة (إينجو) التي ذكرت أن عدد الملاحدة يزداد في المكسيك بنسبة 5،2%، وقد ذكرت إحصائيات أخرى أن نسبة الملاحدة في الصين ما بين 8-14%، ناهيك عن أن كثيرًا من البوذيين - وهم أعداد هائلة - هم في حقيقة أمرهم ملاحدة، ومنها أيضًا إحصائية مؤسسة (إبسوس ريد) ، وهي مؤسسة شهيرة مختصة في استطلاعات الرأي، ذكرت أن أعداد الملاحدة في كندا عام 2011م وصلت إلى 43%، أما قناة BBC فقد ذكرت في تحقيق أن 9% من الأمريكيين ملاحدة، كما ذكرت إحصاءات أخرى رسمية وشبه رسمية أن الإلحاد في الولايات المتحدة ينمو بوتيرة سريعة، وأن 55% من الملاحدة واللا دينيين تقل أعمارهم عن 35 عامًا، وأن الجامعات الأمريكية مرتع خصب لانتشار هذا التيار. ما نريد قوله: إن الالحاد يشق طريقه اليوم وبقوة ويعمل عمله في العالم الغربي، وهذا يعني أن الموجات الإلحادية توشك أن تبتلع الحضارة الغربية لتلبس لبوسها، وتتقنع بأقنعة المدنية فيها، وصولًا إلى تصديرها إلى أذنابهم في عالمنا العربي والإسلامي؛ مما يتطلب منا اليقظة والحذر الشديد خلال السنوات العشر القادمة. [1] يُنظر: خرافة الإلحاد، عمرو شريف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2014م: 26-27.
محطات من مسيرة حياة أستاذنا العلامة محمد أحمد الدالي [1] • وُلد في بلدة مِصْياف من محافظة حماةَ السُّورية في العشرين من ذي القَعدة 1372هـ = 1/ 8/ 1953م. • حفظ جُلَّ القرآن الكريم في نعومة أظفاره. • درس المرحلة الابتدائية في مدرستَي بلدته سيف الدولة الحَمْداني، والمأمون. • نال شهادة الدراسة الابتدائية، الأول على مدرسته، عام 1966م. • درس المرحلة الإعدادية في مدرسة مصياف الرسميَّة. • نال شهادة الدراسة الإعدادية عام 1969م. • درس المرحلة الثانوية في مدرسة زكي الأرسوزي ببلدته. • نال شهادة الدراسة الثانوية (الفرع العلمي) عام 1972م. • انتسب إلى كلية العلوم (فرع العلوم الطبيعية) بجامعة دمشق. على غير رغبة منه، ولم يتمَّ دراسته. • نال شهادة الدراسة الثانوية (الفرع الأدبي) في دراسة حرة، عام 1973م. • التحق بكلية الآداب في جامعة دمشق، قسم اللغة العربية وآدابها عام 1974م. • نال الإجازة في الآداب بتقدير ممتاز، ومجموع عام قدره 81.81%، عام 1978م. (كان الأول في جميع سِني دراسته). • نال دبلوم الدراسات العُليا اللغوية من جامعة دمشق، بتقدير جيد جدًّا، عام 1980م. • نال شهادة الماجستير من جامعة دمشق، بتقدير ممتاز ودرجة 86 من مئة، عام 1982م. • عنوان الرسالة: (سِفْر السَّعادة وسَفير الإفادة، لعلم الدين السَّخاوي- تحقيق ودراسة). • المشرف على الرسالة: د. شاكر الفحَّام. • نال شهادة الدكتوراه من جامعة دمشق، بتقدير شرف ودرجة 95 من مئة، عام 1988م. • عنوان الرسالة: (الكشف، لجامع العلوم علي بن الحسين الأصبهاني- تحقيق ودراسة). المشرف على الرسالة: د. عبد الحفيظ السَّطلي. • أبعدُ الأساتذة فيه أثرًا: الأستاذ أحمد راتب النفَّاخ، د. شاكر الفحَّام، د. عبد الحفيظ السَّطلي، الأستاذ محمد علي حمد الله. • عُيِّن معيدًا في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام 1984م. • عُيِّن مدرِّسًا للنحو والصرف في القسم نفسه عام 1989م. • رقِّيَ إلى مرتبة أستاذ مساعد عام 1994م. • رقِّيَ إلى مرتبة أستاذ (بروفيسور) عام 2000م. • أُعيرَ إلى جامعة قطر من عام 1992 إلى 1997م. • انتُخب عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية بدمشق في 25/ 1/ 1998م، خلفًا للأستاذ عبد الهادي هاشم، وصدر المرسوم الجمهوري بذلك في 10/ 8/ 2000م، وأُقيم حفلُ استقباله في 5/ 9/ 2001م. • عمل أستاذًا في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت عام 2001م. • قدَّم استقالته من عضوية مجمع اللغة العربية بدمشق؛ لانشغاله في التدريس بالكويت في 4/ 8/ 2008م، وصدر مرسوم قَبول استقالته في 5/ 11/ 2008م. • استقال وترك العمل في جامعة الكويت عام 2020م. • عاد إلى بلدته مِصياف في 15/ 10/ 2020م. • لقيَ وجه ربِّه في بلدته مِصياف في 21/ 11/ 2021م. • نشر عشرات النصوص بين كتب محقَّقة ودراسات علمية وبحوث رصينة. • يُعَدُّ أحدَ أساطين علماء العربية وتحقيق التراث الأدبي واللغوي في عصرنا. جزاه الله عن العربية وأهلها خيرًا، وتغمَّده بعفوه ورحمته، وأخلف على الأمَّة من أمثاله. ۞۞۞۞۞ • تزوَّج أستاذنا عام 1983م السيدةَ الفاضلة سامرة بنت محمد وحيد بازو (من مِصياف). • وله ابنان: د. أحمد الدالي، طبيب مخبري يعمل في ألمانيا، من مواليد سنة 1990م. والمهندس إياد الدالي، مهندس حواسيب يعمل في الكويت، من مواليد سنة 1995م. • وله ابنتان: سارة الدالي، حاصلة على إجازة في اللغة العربية من جامعة الكويت، من مواليد عام 1984م، متزوجة. وهدى الدالي، حاصلة على إجازة في اللغة الإنكليزية قسم اللغويات من جامعة الكويت، وماجستير في الترجمة من جامعة بورتسموث ببريطانيا، تعمل مدرِّسة في الكويت، من مواليد عام 1986م. ۞۞۞۞۞ كتبها: أبو أحمد الميداني أيمن بن أحمد ذو الغنى الرياض 23 من ربيع الآخِر 1443هـ [1] المصادر: • سيرة ذاتية بخطِّ يد أستاذنا رحمه الله، أرسلها إليَّ قبل سُنيَّات، وأرسلتها إلى أستاذنا الفاضل مروان البوَّاب فاعتمدها في ترجمة الأستاذ الدالي في كتابه (أعلام مجمع اللغة العربية بدمشق في مئة عام) ص293- 296. • كتاب أستاذنا البوَّاب المذكور، استفدتُّ منه ضبطَ تاريخ انتخاب أستاذنا الدالي عضوًا في المجمع ثم تاريخ استقالته. • التواصل مع ولد أستاذنا الأخ الطبيب د. أحمد الدالي، شكر الله له.
أبا الفرزدق! في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي حانَ الرَّحيلُ فقِيلَ اليومَ مَنْ راقِ والتفَّتِ السَّاقُ يا لَلهَولِ بالسَّاقِ طَودٌ أشَمُّ هَوَى يا عُظْمَ فاجِعَتي ويا خُسُوفَ الضُّحى مِن بَعدِ إشراقِ ويا شُحوبَ خَريفِ العُمْرِ قد طُوِيَت أيَّامُ صَيفِ المُنَى مَعْ خُضْرِ أوراقِ إنِّي أُردِّدُ ما قد قالهُ دَنِفٌ: (يا عِيدُ ما لكَ مِن شَوقٍ وإيراقِ) قَضَى الإمامُ ولمَّا نَقْضِ نَهْمَتَنا مِن عِلمِهِ الجَمِّ مُزدانًا بأَخلاقِ إليهِ يَرجِعُ تحقِيقُ النُّصُوصِ وتَمْ حِيصُ الخِلافِ بِفَرْيٍ منهُ ذَوَّاقِ فالمُشكِلاتُ تَولَّى كَشْفَها وسَما للمُعضِلاتِ بإيضاحٍ وإغلاقِ تَبكِي الحُروفُ حروفُ الضَّادِ إذ فَقَدَت ذاكَ الهُمامَ بدَمعٍ جِدِّ مُهْراقِ (دالِيُّنا) كَمْ سَقَيتَ الفِكرَ مِن مُلَحٍ رَوَّتْ عُقولًا فَطابَ الكأسُ والسَّاقي وكنتَ قِبلةَ وَجْدِ النَّاسِكينَ بمِحْ رابِ العُلومِ ومَيدانًا لعُشَّاقِ أبا الفَرَزدَقِ، يا صَرحَ العُلا عَرَجَت بطُهْرِ رُوحِكَ أملاكٌ لآفاقِ إلى الجِنانِ إلى ظِلٍّ ومَكرُمةٍ وحُورِ عِينٍ وما لم يَلْقَهُ لاقِ كذاكَ نحسَبُ، واللهُ الحَسِيبُ ولن يُخزِيكَ مِن جِهْبِذٍ للمَجدِ سَبَّاقِ مَرْثِيَتي في أستاذنا الدكتور محمد الدَّالي رحمه الله تعالى تمَّت في مكَّة المكرَّمة ٢٢ من ربيع الآخِر ١٤٤٣هـ القصيدة بخطِّ الشاعر
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الحروب - الاعتذار) يشهد العالم اليوم محاولات لتصحيح التاريخ،ويتمثل التصحيح من خلال جملة من الاعتذارات التي يقدمها مَن جَنَوْا على غيرهم في الزمن الماضي، وقد رصد عددًا كبيرًا منها الأستاذ/ محمد السماك في كتابه مقدمة للحوار الإسلامي - المسيحي [1] ،ومن هذه الاعتذارات الآتي: ارتكبت اليابان مجازر ضد الصين في الحرب المعروفة بالحرب الصينية - اليابانية قبل الحرب العالمية وأثناءها، فاعتذرت اليابان على لسان الإمبراطور عندما زار بكين سنة 1412هـ / 1992م، وأبدى استعداد بلاده لتعويض الصينيين بتمويل مشروعات تنموية ضخمة. ونتيجة لما ارتكبته اليابان كذلك في حق الصين والفلبين وكوريا، لا سيما النساء منهم، اعتذرت عن ذلك، وتعهدت بتقديم تعويضات لأسر آلاف النسوة اللاتي أسيء التعامل معهن خلال الحرب العالمية الثانية. وتعرض المواطنون الأمريكيون المتحدرون من أصول يابانية للإهانة من بني وطنهم الجديد، عندما ضربت اليابان بيرل هاربر، فجمعوا في معسكرات (محميات) اعتقال إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، فاعتذرت الولايات المتحدة لهم عن ذلك، وعوَّضتهم ماديًّا. وتعرض الأمريكيون المتحدرون من أصول إفريقية للتمييز العنصري والاضطهاد لأجيال عديدة، وتطرح الآن قضية الاعتذار لهم من مواطنيهم البِيض، وتعويضهم بالمشروعات التنموية الاجتماعية والاقتصادية، ولعل في اختيار رئيس للبلاد تتحدر أصوله منهم [باراك حسين أوباما] ضربًا من الاعتذار المبطن، والملبس بلباس الديموقراطية. وأساءت روسيا معاملة الأسرى اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد قتل جميع الأسرى في الجبهة الشرقية، فاعتذرت روسيا لليابان، وكان هذا الاعتذار مدخلًا لمناقشة وضع الجزر اليابانية التي احتلتها روسيا. وارتكبت النازية جرائم بحق العالم، فاعتذرت لليهود فقط، وقدمت ألمانيا لهم تعويضات مالية ضخمة وما تزال، كان لها أثرٌ كبيرٌ في بناء الاقتصاد اليهودي في فلسطين المحتلة. وقد كفَّر الفاتيكان العالم الإيطالي الشهير جاليليو سنة 1042هـ/ 1633م، عندما قال بكروية الأرض، فصدر الاعتذار من الفاتيكان في وثيقة سنة 1412هـ/ 1992م تبرئ جاليليو من تهمة الكفر. ويعتقد النصارى أن الذين صلبوا المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - هم اليهود، وكانت الإدانة قد صدرت رسميًّا سنة 906هـ/ 1581م، فجاء الاعتذار في الثمانينيات الهجرية/ الستينيات الميلادية (1385هـ/ 1965م) ، ببراءة اليهود من صلب المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام [2] . واعتذر الفاتيكان مرة أخرى لليهود سنة 1413هـ/ 1993م، بسبب سكوته عن المجازر التي ارتكبتها النازية بحق اليهود، وأوقف بناء دير قرب معسكر أوشوفتز في بولندا؛ لأن بناءه يُعَد إجراءً مدنسًا لأرواح اليهود الذين قتلوا في المعسكر. واعتذرت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية لليهود بعد موافقة المرجعية الدينية العليا للكنيسة في الفاتيكان، وجاء الاعتذار بسبب الدور السلبي الذي مارسته الكنيسة إزاء الاعتقالات التي تعرض لها اليهود الفرنسيون أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا. وتعرضت الشعوب الأصلية "الهنود الحمر" في أمريكا اللاتينية للاضطهاد وأعمال السخرة من قِبل الحملات الاحتلالية "الاستعمارية" البرتغالية والإسبانية التي سارت تحت راية التنصير الكاثوليكي، فاعتذر الفاتيكان عن ذلك. هذه سلسلة من الاعتذارات أريد منها "براءة الذمة"، وتصحيح مسار التاريخ،وينتظر المسلمون جملة من الاعتذارات كذلك منذ الحروب الصليبية إلى حروب البوسنة والهرسك وكوسوفا وفلسطين المحتلة وغزو أفغانستان والعراق، وما يجري الآن تجاه المسلمين في أصقاع متعددة، يستدعي الاعتذار تصحيحًا لمسار التاريخ. ولن يتم ذلك إلا بتغيير الصورة النمطية السائدة عن العرب والمسلمين في مناهج التعليم والإعلام والسينما في الدول الغربية، التي تصور الإسلام على أنه همجيةٌ وأصولية وما إلى ذلك من النعوت، التي يوسم بها الإسلام والمسلمون،ولعل هذا هو شكل من أشكال الحوار الذي قدم له الأستاذ محمد السماك في كتابه المذكورِ عنوانُه في مقدمة هذه الوقفة [3] . ولن يحصل الاعتذار الذي يصحح مسار التاريخ حتى يقوى هذا الحوار ويأخذ أشكالًا بناءة قائمة على الحجة؛ فالفكر يقارَع بالفكر ليس إلا. [1] انظر: محمد السماك ، مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي - بيروت: دار النفائس، 1418هـ/ 1998م - ص 199. [2] ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]. [3] انظر: محمد السماك ، مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي - مرجع سابق - ص 199.
أفكار للطالب نبتغي من خلال هذا المقال إسداءُ أفكار للطالب، علَّها تكون المصباح المنير لطريقه في سبيل اكتساب المعرفة: • تَحَلَّ بالصبر الطويل، فلن تستقيَ المعلومة بسهولة، بل ستبحث بحثًا مضنيًا عن جوهرتك النادرة في بطون الكتب. • نظِّم وقتك بشكل جيد، واغتنِم الفترة الصباحية؛ لأنك تكون فيها نشيطًا، وقادرًا على البحث والتحليل والاستنتاج. • لا تسأَم من المطالعة، فهي مُغذية للعقل، وتمدك دومًا بالأفكار الجديدة، ونوِّع من قراءاتك؛ حتى لا تشعر بالسأم والملل، فعقلُك يحتاج إلى تنشيط وتفعيل قدراته المبدعة. • دوِّن أفكارك على ورقة حتى لا تنساها، وخصِّص دفترًا لأجل ذلك، فتدوين الفكرة يرسِّخها في الذهن، ويسهِّل عليك العودة إليها عند الحاجة. • لا تخجل من سؤال من هو أفضل منك مرتبة علمية، ولا تبتئس إذا لم تلقَ جوابًا، وكرِّر المحاولة؛ لأنها مصلحتك الذاتية، وأنت المستفيد من هذا التواصل المثري. • كن متفائلًا في بحثك، ربما لن تأتيك الفكرة اليوم، لكنها حتمًا ستطرق بابك غدًا، فقط ابقَ على تواصل مع بحثك ودراستك، ولكل وقتٍ أجلُه المناسب. البحث مُتعة ومحنة، وكلاهما مفيد إليك كطالب؛ لأنك تصقل شخصيتك وتُكوِّن معرفتك، وتخوض غمار مغامرة غاية في الروعة.
العلَّامة محمَّد أحمد الدَّالي والكامِل للمُبرِّد كلَّما مَرَّ بي كِتاب (الكامِل) للإمام أبي العبَّاس محمَّد بن يزيد المُبَرِّد = أتذكَّر المحقِّقَ الجليل الدُّكتور محمَّد أحمد الدَّالي رحمه الله. حُقِّقَ (الكامِل) غيرَ مرَّة، ولكنَّني لم أُقبِلْ إلَّا على النَّشرة التي حقَّقَها العلَّامةُ الجَليلُ محمَّد أحمد الدَّالي وعلَّقَ حواشيَها وصنعَ فهارسَها! شيءٌ ما شدَّني إلى تلك النَّشرة! أَرُدُّهُ، اليومَ، إلى تحيُّري كلَّما طالعتُ نشرةً قديمةً لذلك الكِتابِ الذي عَدَّه ابنُ خَلدون مِن أُصُول فنِّ الأدبِ وأركانه عند العرب. راعَني جمالُ الطَّبعة وأناقتُها، وتلك مَزِيَّةٌ في الكُتُب التي تنشُرها مؤسَّسة الرِّسالة، ولا تزال الطَّبعة الثَّانية على تقادُمها (١٤١٣هـ = ١٩٩٣م) أنيقةً جميلة! فاقتنيتُها، ولَذَّ لي ما في الكِتاب مِن أدبٍ، ولُغةٍ، ونَحْوٍ، ونوادرَ، وأخبارٍ، هي جِماعُ عُلُوم العرب، ومَجْلَى عَبقريَّتهم. وأدركتُ أنَّني إزاءَ محقِّقٍ جليل، وعالِمٍ مقتدِر، وداخَلَني شُعُورٌ أنَّني أُطالِع لونًا طريفًا مِنَ التَّحقيق؛ ذلك أنَّ الأصلَ في تحقيق التُّراث هو صِحَّة القراءة - ما أمكنَ - لا كثرة الشُّرُوح والتَّعليقات، مهما كانت مهمَّةً، لكنَّ المحقِّقَ، وما كُنْتُ أعرف اسْمَه، مِن قَبلُ جَمَعَ الحُسنَيَين؛ سلامةَ المَتن، ما استطاعَ إلى ذلك سبيلًا، وجودةَ الشَّرح والتَّحشية، حتَّى كأنَّه مُحَشٍّ، فكانت عيني تقرأُ المَتْنَ، ثُمَّ لا تلبَثُ أن تطالعَ الحاشِية، فأفهَم، وأذوق، وأتلذَّذ! واستجلبَ نظري - أوَّلَ اتِّصالي بهذه النَّشرة القَشِيبة - حِرصُ المحقِّق الدَّالي على أسانيد الكِتاب، ولم أُدرِكْ غايتَه إلَّا بعد سنواتٍ تعقُبها سنوات، عَناني مِن أمرِ الكُتُب العربيَّة اتِّصالُها بمؤلِّفيها، وتَحَوُّلها مِن ناحيةٍ إلى أُخرى، وقادَني ذلك إلى ثقافةٍ بديعةٍ تَحُفُّ بالكِتاب وتُحيطُ به، وكُنتُ مَشغوفًا، وما زِلتُ، بأصُول التَّأليف في ثقافتنا، وتَعَرُّف شَجَرَة الكُتُب؛ فللكُتُبِ أنسابٌ مثلما للبشَرِ مشجَّراتٌ وأنساب! وفي الكُتُب ما يُعَدُّ رأسَ قبيلةٍ، ولها أصلٌ وفَصْل؛ فاتَّخذتُ مِن شجَرة رُواة (الكامل) تلك التي صَنَعَها العلَّامة الجليل محمَّد الدَّالي سَبيلي لفَهْم كلامٍ متشعِّبٍ طويلٍ كُنتُ ألقاه في كُتُب الشُّيوخ والفهارس والبرامج والأثبات. كان كِتاب (الكامِل) طريقي إلى هذا المحقِّق الكبير، وبِتُّ أتتبَّعُ محقَّقاته، وظَفِرتُ مِنهنَّ بـ (أدب الكاتِب) لابن قُتَيبة - وهو مِنْ أصُول فنِّ الأدبِ عند ابن خَلدون - ثُمَّ مجموعِه الطَّريف (الحصائل في عُلُوم العربيَّة وتراثها) في ثلاثة أجزاء. كان العلَّامة محمَّد أحمد الدَّالي رحمه الله، مَجْلَى العبقريَّة الشَّاميَّة في حُبِّ العربيَّة وعُلُومها. كان خُلاصةَ أشياخها الكِبار، أولئك الذين جادَ الزَّمانُ بهم ثُمَّ أمسك؛ (طاهر الجزائريّ، محمَّد كُرْد عَليّ، عِزّ الدِّين التَّنوخيّ، سعيد الأفغانيّ، أحمد راتب النَّفَّاخ، شاكر الفحَّام، مازن المبارك) . قرأتُ، اليومَ، كلمتَه الفخمة في شيخه الجليل العلَّامة أحمد راتب النَّفَّاخ رحمهما الله، فغبطتُه ورُبَّما حَسَدتُّه؛ فلا حَسَدَ إلَّا في اثنتَين....! قرأ الدَّالي على شيخه النَّفَّاخ، في السَّنة الأُولى بكُلِّيَّة الآداب بجامِعة دِمَشق: عِلْم العَروض، والمكتبة العربيَّة، والأدب القديم. ودَرَّسَهُم في السَّنة الثَّانية نُصوصًا مِن كِتاب (الكامل) لأبي العبَّاس المُبَرِّد "ولم يكنْ في محاضَراته دُونَ صاحِبه المُبرِّد عِلمًا باللُّغة والعربيَّة والأخبار وغيرها… ولم تكُنْ مادَّةُ النُّصوص عنده غايةً في ذاتها بل كانت وسيلةً إلى بيان أصُول النَّظَر في كلام المتقدِّمين وأمَّهات مصادر التُّراث العربيّ الإسلاميّ". ثُمَّ دَرَّسَهُم في السَّنة الثَّالثة (مغني اللَّبيب) لابن هشام الأنصاريّ "وما كانت مادَّةُ المُغْني وحدَها هي ما عُنِيَ به الأستاذ، بل كان أَعْنَى ببيان منهج فَهْم كلام المتقدِّمين، والقراءة النَّاقدة البصيرة بكلامِهم، وعدَم الاطمِئنان إلى النَّظْرة العَجْلَى فيه، ولا إلى الرَّأي الذي يبدو لك مِنْ قراءته أوَّلَ مَرَّة". ودرَّسهم في الدِّراسات العُليا أبوابًا مِنَ (الخصائص) لابن جِنِّي، وأملَى "عليهم شيئًا مِمَّا انتَهَى إليه في القِراءات القُرآنيَّة. وبسَطَ خلالَ ذلك أصُولًا مِن أصُول عِلْم العربيَّة وعِلم القِراءات... وبسَطَ لنا أصُولَ تحقيق نُصُوص التُّراث العربيّ الإسلاميّ"! رحم الله محمَّد أحمد الدَّالي وغفر له!
مات الغالي العالم محمد أحمد الدالي البقاءُ لله تعالى، تلك هي الحقيقةُ فَـ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، و ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]. كثُرَ الموتُ من حولي، وما هزَّني نعيُ أحدٍ كما هزَّتني فُجاءة نَعي الدكتور الدالي رحمهُ الله؛ لقد جمَّد عيني، ولجَمَ لساني، وشَلَّ حركتي، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، لقد لبثتُ زمنًا حتى وَعَيتُه! كانت آخرُ صِلتي به قبلَ أسبوع أو أقلَّ، وكان يُخبرني على (الواتساب) عن الطبعة الجديدة لكتاب المشكلات [ (كشف المشكلات وإيضاح المعضلات) لجامع العلوم الأصبهاني]، وعن استغراق (ديوان الفرزدق) وشرحه لمعظم أوقاته، وعن كتابٍ آخرَ كبير يريد العمل فيه [ (المخصَّص) لابن سِيده]! إنها آمالٌ طُوِيَت، وثمراتٌ جفَّت قبلَ قِطافها. رحمكَ الله يا أبا أحمد، فما حزِنتُ لفَقد أحدٍ في هذه الأيام حُزني لفَقدك؛ فقد فقَدَتِ العربيةُ بفَقدك فارسَها المجلِّي، وجوهرتَها النادرة، وخسِرَت الأمَّةُ العِلمَ الذي انطَوى، والعَلَمَ الذي هَوَى، وخسِرَت الخُلقَ والنُّبلَ والوفاء، وكلَّ ما عُرِفتَ به من شمائلِ العُلماء، وصفاتِ الفُضَلاء. رحمكَ ربِّي وأحسنَ إليك، وجمَّلَ صبرَنا على فَقدك، فأنت اليومَ لا يُعزَّى بكَ أهلُك وحدَهم، ولكن يُعزَّى بكَ العربيةُ ومحبُّوها، ويُعزَّى بكَ الإخلاصُ للعِلم، والصِّدقُ في العمل، والأمانةُ في السُّلوك، والرَّزانةُ في العقل، والرَّصانةُ في المواقف، والرُّجولة في الرِّجال. وأينَ ذلك كلُّه مجتمعًا في أحدٍ من علماء هذه الأيام؟! لقد فقَدنا عالمًا لم يُطغِه الغُرور، ولم يخدَعهُ حبُّ الظُّهور، ولم تُغرِه المناصب، ولم تستعبِدهُ الدُّنيا. وأينَ من يجمعُ اليومَ الخُلقَ القويمَ إلى العلم وسَعَته وعُمقه ودقَّته وصِدقه وأمانتِه؟ اللهُمَّ ارحَم عبدَك الدَّالي بما تحلَّى بهِ من عِلم وخُلق، وزِدهُ منكَ إحسانًا وفضلًا. اللهُمَّ أدخِلهُ جنَّتك، واغمُره برحمتِك، وأسعِدهُ برضاك. اللهُمَّ اجمَعنا به تحتَ ظلِّ عَرشِك. وإنا لله وإنا إليه راجعون. دمشق 20 ربيع الآخِر 1443هـ من كلمة د. المبارك بخطِّ يده
من فضائل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جعل الله تعالى ‌لأمهات ‌المؤمنين من الفضل الكبير، والشرف ‌الأسمى، والتكريم الأعلى، والأجر العظيم - ما لا يسامهنَّ أحدٌ من أهل الأرض، إلا ما ورد الشرع الحنيف بذكرهنَّ لغيرهن تفضيلًا لهنَّ على سائر نساء الأمة. وقبل البدء بسرد فضلهنَّ يَطيب لي أن أعرِّج على عدد زوجاته، والحكمة من تعدُّدهن. عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم: جاء في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه، قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ [الأحزاب: 50]. وعن كثرة نسائه صلى الله عليه وسلم، قال قتادة: إن أنس بن مالك حدثهم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان: «يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ» [1] . والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلنْها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب، ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات" [2] . وقد اختلف العلماء في عدة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي ترتيبهنَّ، وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عنهن، ومن دخل بها، ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه... إلا أن المتفق عليه أنهن إحدى عشرة امرأة: خديجة [3] ، وسودة [4] ، وعائشة [5] ، وحفصة [6] . وزينب بنت خزيمة [7] ، وأم سلمة [8] ، وزينب بنت جحش [9] ، وأم حبيبة [10] . وجويرية [11] ، وميمونة [12] ، وصفية [13] . مات منهن في حياته: خديجة، وزينب بنت خزيمة، ومات عن الباقيات وهن تسع، هذا لا خلاف فيه" [14] . إنَ مِمَّا ‌خَصَّ الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم دون المؤمنين وهو أن جمع في عصمته تسع نسوة، وكان لذلك لحكم وأهداف دينية، ومصالح دعوية كبرى منها: نشر الدعوة كزواجه من أم المؤمنين خديجة، ومنها تأليف قلوب أصحابه وتشرفيهم بنسبه صلى الله عليه وسلم، كزواجه من راوية الأحاديث أم المؤمنين عائشة الصديقة، بنت أبي بكر الصديق، وزواجه من الصوامة القوامة حفصة بنت الفاروق عمر بن الخطاب، ومنها لتوثيق الصلات بينه وبين مختلف القبائل بالمصاهرات، كزواجه من أم المؤمنين جويرية بنت سيد بني المُصْطَلَق، وأم المؤمنين صفية ‌سيدة ‌قريظة ‌والنَّضِير، أو كفالة الأرامل المؤمنات السابقات المهاجرات، كزواجه من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: السيدة سودة ‌بنت ‌زمعة، وأم سلمة، وأم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) ، أو بسبب موت أزواجهنَّ كزواجه من أم المساكين زينب بنت خزيمة، وميمونة ‌بنت ‌الحارث، أو لإبطال التبني وأحكامه الضارة كزواجه من أم المؤمنين زينب بنت جحش، ‌وغير ‌ذلك ‌الكثير من أسباب ‌تعدد ‌أزواج ‌النبي صلى الله عليه وسلم. فصائل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم (‌أمهات ‌المؤمنين): الفضيلة الأولى: أن ‌جعلهن ‌أمهات ‌المؤمنين: إن مما يدل على فضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى وصفهن بأنهن أمهات المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]. فقوله تعالى: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ شرف الله تعالى أزواج نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثًا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس" [15] . فأزواجه صلى الله عليه وسلم ‌أمهات ‌المؤمنين "أزواجه ‌أمهات ‌المؤمنين، سواء من ماتت تحته -صلى الله عليه وسلم- ومن مات عنها وهي تحته، وذلك في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن، لا في النظر والخلوة، ولا يقال: بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات المؤمنين، ولا إخوتهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم" [16] . والجدير بالذكر أن أزواج ‌النبي -صلى الله عليه وسلم- فضلن على نساء العالمين بأن اصطفاهن الله تعالى ليكن ‌زوجات ‌لرسوله وأضافهنَّ إليه، قال تعالى: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾، فحري بكل مؤمن أن يتدبر عظم شأن أمهاته رضي الله عنهن، وما يترتب عليها من أحكام وحقوق من الاحترام والتقدير والتأدب معهن، والنظر بعين التقدير والفخر بالانتساب إليهن، وما يترتب على ذلك من الفوائد والمنافع وعظيم الثواب في الدنيا والآخرة. الفضيلة الثانية : خَيَّرَ ‌النبي صلى الله عليه وسلم ‌نساءَهُ، فاختَرْن الله ورسوله والدار الآخرة: إن من فضائل أمهات المؤمنين أن الله تعالى أنزل في شأنهن آيات التخيير؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]. وعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين ‌أمره ‌الله ‌أن ‌يخير ‌أزواجه، فبدأ بي، فقال: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ» [17] . ففي الحديث من الفقه: أنه ‌خير ‌نساءه ‌فاخترنَه، ولم يكن ذلك طلاقًا، وقد اختلف ثلاثة من الصحابة في مسألة التخيير: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، أخبرنا ابن الأعرابي، قال: حدثنا الزعفراني، قال: حدثنا أبو عباد، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا عيسى بن عاصم، عن زاذان، قال: كنا عند علي فذكر الخيار، قال: كان عمر يقول: إن اختارت زوجها فليس بشيء، وإن اختارت نفسها فواحدة وهو أحق بها" [18] . ولعل من المناسب القول: إن الله تعالى أنزل ‌آيات ‌التخيير في شان أمهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة مع الرسول صلى الله عليه وسلم مع الفقر وقلة النفقة، ولهن على ذلك اكتساب ‌شرف ‌قربه صلى الله عليه وسلم، ‌وجزيل ‌الثواب وحسن المآب من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وبين بحبوحة ورغد ‌العيش، ووفرة المال، وترف الحياة بدون الرسول صلى الله عليه وسلم، فاخترن رضا الله وصحبة نبيه، فجمع الله لهن بين خيري الدنيا الآخرة. وفي التخيير ما يدل على حسن عشرته -صلى الله عليه وسلم- وسعة فقه، ودقة فهم وحصافة عقل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. الفضيلة الثالثة: تكرار ‌‌نِدَاؤُهُنَّ في القرآن تشريفاً لهن وإظهاراً لفضلهن: ‌فضَّل الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سائر نساء العالمين، فأعاد نداؤهن واضافهن إليه؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: 30]. وقال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]. فدل عموم هذا اللفظ على: "فضل أزواجه على كل من قبلهنَّ وبعدهنَّ، وأجمعت الأمة أن نبينا محمدًا أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك ‌نساؤه لهن من الفضل على سائر نساء الدنيا ما للنبي على سائر الأنبياء" [19] . فالخطاب ‌لأزواج ‌النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لَمَّا تبيَّن ما في هذا من المنفعة التي تعمهنَّ، وتعم غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره، وليس مختصًّا بأزواجه، بل هو متناول لأهل البيت كلهم [20] . والمراد بنسائه: غير أزواجه صلى الله عليه وسلم من بنات وقريبات وسرية ومارية، وأن ‌النساء ‌أعم ‌من ‌الزوجات لدخول البنات وسائر القرابات تحت ذلك [21] . فكثرة ذكرهنَّ وندائهنَّ دلالة على فضلهن، وعلو قدرهنَّ، ولكل نداء فائدة زائدة في الفصاحة والبلاغة والإفادة: يلزمهنَّ تقوى الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومضاعف ثوابهن وعقابهنَّ، وهذا من باب الاحتياط، والتشديد في الورع. الفضيلة الرابعة: مُضاعفة ‌الأجرِ لهُنَّ: إن من فضائل أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ أن أجورهنَّ مُضاعفة مرتين، ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 31]. "‌‌وليس ‌لأحد ‌من ‌النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل... والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف ‌أجرهنَّ لطلبهنَّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة والقناعة، وتوفرهنَّ على عبادة الله والتقوى [22] . خصَّ الله تعالى أمهات المؤمنين بضِعفي ثواب غيرهنَّ، فأمرهن بأفضل الأقوال والأعمال طاعةً لله تعالى، ورضا ‌رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعِظم مقامهنَّ، وشرَّفهنَّ على غيرهنَّ من النساء، ثم وعدهنَّ برزق مقرون بالإكرام والتعظيم يكرمهنَّ الله سبحانه وتعالى به. الفضيلة الخامسة: وجَّه الله سبحانه الخطاب إليهن، وأمرهن بالتزام الفضائل، وباجتناب الرذائل: أمر الله عز وجل الطيبات الطاهرات (أمهات المؤمنين) بلزوم بيوتهن إلا إذا اقتضت الضرورة خروجهن، ونهاهن عن التبرج، وحثهن على مداومة الطاعة لله ولرسوله، قال الله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]. وورد أن عكرمة كان ينادي في السوق ويقول: هذه الآية نزلت في نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة" [23] . قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾؛ أي: الْزَمْنَ بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة... وقوله تعالى: ﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ﴾، والتبرج: أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقِرطها وعُنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج، وقوله: ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، نهاهنَّ أولًا عن الشر ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة - وهي: عبادة الله، وحده لا شريك له - وإيتاء الزكاة، وهي: الإحسان إلى المخلوقين، وقوله: ﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، وهذا من باب عطف العام على الخاص، وقوله: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾، وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل النبي؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولًا واحدًا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح" [24] . وينبغي التنويه إلى أن ما أُمر به أمهات المؤمنين رضي الله عنهن من الستر والعفاف والقرار في البيوت، ومداومة العبادة لله بأداء الصلاة التي هي حق الله تعالى، وإيتاء الزكاة التي هي حق العباد، وغيرهما من العبادات، ثم وجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع قوله وفعله، هو أمر عام لهن ولغيرهنَّ من نساء المؤمنين، ووجه الحديث إليهن مع إيمانهن وعفافهنَّ وصلاحهن؛ لأنهن القدوة لغيرهن من النساء. الفضيلة السادسة: أن الوحي تنزل في بيوتهن: إن مما يدل على فضلهنَّ أن الله تعالى جعل بيوتهنَّ منزل ‌للوحي ونور الحكم، وأمرهن بتلاوة ما يتلى عليهن في بيوتهن، ‌لتعليم المؤمنين الخير من الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام، وإرشادهم إلى فعْله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34]. القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا‌‌ ﴾، يقول تعالى ذكره لأزواج نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكنَّ في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله على ذلك، واحمدنه عليه، وعني بالحكمة ما أُوحي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السنة، وقوله: ﴿ إن اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾، يقول تعالى ذكره: إن الله كان ذا لطف بكن إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة، خبيرًا بكن إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجا" [25] . والجدير بالذكر أن مما يدل على جلالة قدر أمهات المؤمنين ورفعتهن، أن أنعم الله تعالى عليهن واختارهن لإقامة دينه، وخصهنَّ بنزول الوحي في بيوتهن، وأضاف إليهنَّ البيوت إضافة قرار ولزوم، وأمرهنَّ بالعمل بالفرائض والحدود، والأوامر والنواهي، والأحكام والسنن، وتعليم الناس ما ينفعهم من الخير وهذا يحتاج إلى جهد وتحمُّل وصبرٍ. الفضيلة السابعة: خَيَّرَهُنَّ -صلى الله عليه وسلم- فاخترنهُ، ‌فقصرهُ ‌الله ‌عليهنَّ مجازاة لهنَّ: بعد أن نزلت آيات التخيير، كان يقرأ صلى الله عليه وسلم على أزواجه رضي الله عنهن، التخيير، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فكرمهن الله، بمنع الرسول من الزواج عليهن، أو تطليق ‌أيًّا ‌منهن؛ قال الله تعالى: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52]. فقد ذكر غير واحد من العلماء "كابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم -أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن، على حسن صنيعهنَّ في اختيارهنَّ الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جزاؤهنَّ أن الله قصره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهنَّ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهنَّ، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري، فلا حجر عليه فيهن" [26] . ومن العلماء من قال: "إنها منسوخة بالسنة، نسخها حديث، عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ" [27] . قالت عائشة، وأبي بن كعب: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‌حتى ‌أبيح ‌له ‌النساء، وهما بذلك أعرف، ولأن علة الحظر الضيق والشدة، فإذا زالت زال موجبها، وقد فتح الله تعالى على رسوله حتى وسع على نسائه، وأجرى لكل واحد منهن ثمانين صاعا من تمر وأربعين صاعًا من شعير سوى الهدايا والألطاف، وأما الاستدلال بالآية فمنسوخة، وأما الجزاء وهو مشروط بحال الضيق والشدة، وأما الطلاق فالفرق بينه وبين التزويج عليهنَّ أن في طلاقهنَّ قطعا لعصمتهن، ويخرجن به أن يكون من أزواجه في الآخرة، وليس في التزويج عليهن قطع لعصمتهن فافترقا، والله أعلم" [28] . ونتيجة لحسن هذا الاختيار إكرام الله أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وجازاهن، إذ اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولم يرضين بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، خاطبه الله سبحانه وتعالى بأنه لا يحل له النساء، من بعد هذا الاختيار، فلا يزيد عليهنَّ، ولا يبدل أزواجه بغيرهنَّ. الفضيلة الثامنة: جمعن مع شرف الصحبة فضل الزوجية: عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: مَاتَتْ فُلَانَةُ - بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقِيلَ لَهُ: أَتَسْجُدُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا»، وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ‌ذَهَابِ ‌أَزْوَاجِ ‌النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» [29] . قوله: إذا رأيتم آية: أي علامة تنذر بنزول بلاء ومنه انقراض العلماء ‌وأزواجهم ‌الآخذات ‌عنهم، فاسجدوا لله التجاء إليه ولياذًا به في دفع ما عساه يحصل من عذاب عند انقطاع بركتهم، فالسجود لدفع الخلل الحاصل" [30] . فأي آية أعظم من أن يذهبن أمهات المؤمنين، فلهنَّ ‌فضل الصحبة مع ‌شرف خاص ثابت للزوجية، وبموتهنَّ يذهب ما تفردن من ذكر أحواله -صلى الله عليه وسلم- في بيته. الفضيلة التاسعة: بُشِّرنَ بالجنة: فأمهات المؤمنين رضي الله عنهن في الجنة، في منزلة ‌النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 31]. قوله تعالى: ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾؛ أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى عليين، ‌فوق ‌منازل ‌جميع ‌الخلائق، ‌في ‌الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش" [31] . فأم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - التي واست رسول صلى الله عليه وسلم بمالها، وفؤادها، وشاطرته آماله وآلامه، فكفأها الله تعالى بالجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ» [32] . فأم المؤمنين خديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلِّي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وتثبته وتسكنه، فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في اللَّه ورسوله، وكانت نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها" [33] . وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بشارات متتالية لأهله، فعن عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ فَاطِمَةَ، قَالَتْ: فَتَكَلَّمْتُ أَنَا، فَقَالُ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟»، قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَ: «فَأَنْتِ زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» [34] . فهذا الحديث من أعظم ‌فضائل عائشة رضي الله عنه، فعائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وفي هذا ‌فضل عظيم لها [35] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير البشارة لنسائه، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا»، قَالَتْ: فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، قَالَتْ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ» [36] . وعن عائشة قالت: يرحم الله زينب بنت جحش، لقد نالت في هذه الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها نبيَّه في الدنيا، ونطق به القرآن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه ونحن حوله: أسرعكنَّ بي لحوقًا أطولكنَّ باعًا، فبشَّرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة" [37] . والحديث:" خطاب منه لزوجاته خاصة، ألا ترى أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: أنت أوَّل أهل بيتي لحوقًا بي، وكانت زينب أوَّل أزواجه وفاة بعده، وفاطمة أوَّل أهل بيته وفاة، ‌ولم ‌يرد ‌باللحاق ‌به ‌الموت فقط، بل: الموت والكون معه في الجنة والكرامة، وتطاول أزواجه بأيديهنَّ مقايسة أيديهنَّ بعضهنَّ ببعض؛ لأنَّهن حملن الطول على أصله وحقيقته، ولم يكن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنَّما كان مقصوده: طول اليد بإعطاء الصدقات، وفعل المعروف، وبيَّن ذلك أنه: لما كانت زينب أكثر أزواجه فعلًا للمعروف والصدقات كانت أولهن موتًا، فظهر صدقه، وصح قوله صلى الله عليه وسلم" [38] . ‌وقد أكَّد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كثيرًا ما يبشر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، رضي عنهنَّ فقبل أعمالهنَّ وأقوالهنَّ وحسناتهنَّ‌، ورضين عنه بما أعطاهم من جزيل ‌الثواب وعظم المنزلة، وأن من فضائل أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم بشرهم بأنواع ‌البشارات المختلفة الدنيوية والأخروية، فبشَّرهم بالإكرام والإنعام في الدنيا، وبالجنة والرحمة والرضوان من الله تعالى في الآخرة. [1] صحيح البخاري: كتاب النكاح - باب كثرة النساء. ج7 ص3 رقم ح5078. [2] فتح الباري شرح صحيح البخاري، المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي. ج1 ص379، الناشر: دار المعرفة - بيروت، ١٣٧٩ه. [3] هي خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، وكانت خديجة ابنة خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعند العودة أخبرها ميسرة عما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالًا، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له قبل أن ينزل عليه الوحي ولده كلهم: زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة والقاسم، والطاهر والطيب، فأما القاسم، والطاهر والطيب فهلكوا قبل الإسلام، وبالقاسم كان يكنى صلى الله عليه وسلم، فأما بناته فأدركن الإسلام، وهاجرن معه، واتبعنه، وآمن به عليه السّلام.[ ينظر: سيرة ابن إسحاق، المؤلف: محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني (ت ١٥١هـ) ص81-82، تحقيق: سهيل زكار، الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة: الأولى ١٣٩٨هـ /١٩٧٨م]؛ بتصرف. [4] سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر. تزوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وأسلمت بمكة قديما وبايعت، وأسلم زوجها، وخرجا مهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ولما قدما مكة توفي عنها، فلما حلت أرسل إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخطبها فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله: مري رجلا من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بعد خديجة. ينظر:[ الطبقات الكبرى، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (ت ٢٣٠ه). ج8 ص42، تحقيق: محمد عطا، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، ١٩٩٠ م]. بتصرف. [5] عائشة بنت أبي بكر الصديق الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأشهر نسائه، وأمها أم رومان، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بكر، قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وقال الزبير: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة بثلاث سنين، وكان عمرها لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، وقيل: سبع سنين؛ [ينظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة، المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (ت ٦٣٠هـ)، ج7، ص186، المحقق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: ١٤١٥هـ - ١٩٩٤ م]. بتصرف. [6] حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهما زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح. كانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس ابن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، فلما تأيَّمت تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أكثرهم في سنة ثلاث من الهجرة؛ [الاستيعاب في معرفة الأصحاب، المؤلف: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت ٤٦٣هـ)، ج4، ص1811، المحقق: علي محمد البجاوي، الناشر: دار الجيل، بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م]. [7] زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف. زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال لها: أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين وصدقتها عليهم، وكانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد، وقيل: كانت عند الطفيل بن الحارث، وتزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد حفصة، ولم تلبث عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت، وكانت وفاتها في حياته.[ أسد الغابة في معرفة الصحابة، المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (ت ٦٣٠هـ). ج7 ص130، المحقق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: ١٤١٥هـ - ١٩٩٤ م]. [8] ‌أم ‌سلمة، واسمها ‌هند ‌بنت ‌أبي ‌أمية واسمه سهيل زاد الركب. وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة. تزوجها أبو سلمة واسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال، وهاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعا وولدت زينب وسلمة وعمر ودرة، ومات أبو سلمة سنة أربع من الهجرة. قالت أم سلمة: لما انقضت عدتي من أبي سلمة أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمني بيني وبينه حجاب فخطب إلي نفسي فقلت: أي رسول الله وما تريد إلي. ما أقول هذا إلا رغبة لك عن نفسي. إني امرأة قد أدبر مني سني وإني أم أيتام وأنا امرأة شديدة الغيرة وأنت يا رسول الله تجمع النساء. فقال رسول الله: فلا يمنعك ذلك. أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله. وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سنا. وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله. فأذنت له في نفسي فتزوجني؛ [ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد. ج8 ص69، وما بعدها]. [9] ‌زينب ‌بنت ‌جحش بن رياب أم المؤمنين، ‌وابنة ‌عمة ‌رسول ‌الله -‌صلى ‌الله ‌عليه ‌وسلم-، ‌أمها: ‌أميمة ‌بنت عبد المطلب بن هاشم. من المهاجرات الأول، زوجها الله -تعالى- بنبيه بنص كتابه، بلا ولي ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق عرشه وكانت من سادة النساء دينا، وورعا، وجودا، ومعروفا - رضي الله عنها - وحديثها في الكتب الستة، عن عائشة، قالت: يرحم الله زينب، لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول الله قال لنا: (أسرعكن بي لحوقا: أطولكن باعا)، فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة، توفيت في سنة عشرين، وصلى عليها عمر؛ [ينظر: سير أعلام النبلاء، المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: ٧٤٨هـ)، ج2 ص211، وما بعدها، المحقق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، ١٤٠٥ هـ / ١٩٨٥ م]. [10] أم حبيبة أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان الأموية، وهي من بنات عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس في أزواجه من هي أقرب نسبا (2) إليه منها، ولا في نسائه من هي أكثر صداقا منها، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له -صلى الله عليه وسلم- بالحبشة، وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء، وعن عوف بن الحارث: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله، وحللك من ذلك، فقالت: سررتني - سرك الله -، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك ماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين [ينظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (المتوفى: ٧٤٨هـ). ج2 ص281، وما بعدها]. [11] جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة بن المصطلق من خزاعة، تزوجها مسافع بن صفوان ذي الشفر ابن سرح بن مالك بن جذيمة فقتل يوم المريسيع، وعن الشعبي قال: كانت جويرية من ملك اليمين فأعتقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتزوجها. وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترقون! فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق فبلغ عتقهم مائة أهل بيت بتزويجه إياها. فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها، قالت جويرية: يا رسول الله إن نساءك يفخرن علي يقلن لم يتزوجك رسول الله، فقال رسول الله: ألم أعظم صداقك. ألم أعتق أربعين من قومك؟ وعن ابن عباس قال: كانت جويرية بنت الحارث اسمها برة فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمها فسماها جويرية، توفيت جويرية سنة خمسين وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة؛ [ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد. ج8 ص92، وما بعدها]. [12] ‌‌ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهدم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، خالة عبد الله بن عباس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء سنة سبع بمكة، وبنى بها بسرف من مكة على عشرة أميال، وصدرت معه إلى المدينة، ولي أمرها عباس، فزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أختها أم الفضل، كانت تحت العباس، وقيل: هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيها نزلت: ﴿ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 50] أمها هند الجرشية، ولدت بنات من رجلين، منهن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم الفضل بنت الحارث كانت تحت العباس، وزينب بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة، وسلمى بنت عميس، وكانت تحت شداد بن الهاد، وأسماء بنت عميس، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، كلهن بنات هند الجرشية، توفيت سنة إحدى وستين في خلافة يزيد بن معاوية وهي آخر من مات من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفنت في قبتها بسرف سنة ثلاث وستين؛ [ينظر: معرفة الصحابة، المؤلف: أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (ت ٤٣٠هـ). ج6 ص3234، تحقيق: عادل العزازي، الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة: الأولى ١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م]. [13] صفية بنت حيي بن أخطب بن شعبة بن ثعلبة، من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران، وأمها برة بنت سموأل، وعن أنس، فقال فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع سبي خيبر جاءه دحية، فقال: أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فقيل: يا رسول الله، إنها سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ جارية من السبي غيرها، قال ابن شهاب: كانت مما أفاء الله عليه، فحجبها وأو لم عليها بتمر وسويق، وقسم لها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، قال أبو عمر: استصفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في سهمه، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على صفية وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: ألا قلت لهن: كيف تكن خيرا مني، وأبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة، وتوفيت صفية في شهر رمضان في زمن معاوية سنة خمسين؛ [ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، المؤلف: ابن عبد البر، ج4 ص1871]. [14] جامع الأصول في أحاديث الرسول، المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: ٦٠٦هـ)، ج12، ص95، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - بشير عيون، الطبعة الأولى، دار الفكر، ١٤٣١ه. [15] الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج4 ص123؛ تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، ١٣٨٤ هـ - ١٩٦٤ م. [16] روضة الطالبين وعمدة المفتين، المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت ٦٧٦هـ)، ج7 ص11، تحقيق: زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الثالثة، ١٤١٢هـ / ١٩٩١م. [17] صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾، ج 6، ص117، رقم ح4785، صحيح مسلم: كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية. ج2 ص1103، رقم ح 1475. [18] أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)، المؤلف: أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت ٣٨٨ هـ). ج2 ص1231، المحقق: د. محمد بن سعد، الناشر: جامعة أم القرى، الطبعة: الأولى، ١٤٠٩ هـ - ١٩٨٨ م. [19] شرح صحيح البخاري، المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (ت ٤٤٩هـ). ج9 ص486، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية، الرياض، الطبعة: الثانية، ١٤٢٣هـ - ٢٠٠٣م. [20] منهاج السنة النبوية، المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (ت ٧٢٨هـ). ج7 ص74، المحقق: محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م. [21] عون المعبود وحاشية ابن القيم، المؤلف: محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي، العظيم آبادي (ت ١٣٢٩هـ). ج1 ص345، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الثانية، ١٤١٥ هـ. [22] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت ٥٣٨هـ)، ج3 ص538، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثالثة - ١٤٠٧ هـ. [23] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (ت ٣١٠هـ)، ج19 ص107، تحقيق: د. عبدالله التركي، الناشر: دار هجر، الطبعة الأولى، ١٤٢٢ ه - ٢٠٠١ م. [24] تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت ٧٧٤هـ). ج6 ص409، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر، الطبعة: الثانية ١٤٢٠هـ - ١٩٩٩ م. [25] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري. ج19 ص108. [26] تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج6، ص447. [27] سنن الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب تفسير سورة الأحزاب، ج5 ص209، رقم ح 3261، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [28] الحاوي الكبير، المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت ٤٥٠هـ)، ج9 ص14، المحقق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، ١٤١٩ هـ -١٩٩٩م. [29] سنن أبي داود: ‌‌كتاب الصلاة، باب السجود عند الآيات. ج2 ص398، رقم ح1197، سنن الترمذي: أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ج6 ص191، رقم ح3891، وقال الترمذي، هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. [30] التيسير بشرح الجامع الصغير، المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (ت ١٠٣١هـ). ج1 ص100، الناشر: مكتبة الإمام الشافعي – الرياض، الطبعة: الثالثة، ١٤٠٨هـ - ١٩٨٨م. [31] تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج6، ص 408. [32] البخاري: كتاب مناقب الأنصار- باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها. ج5 ص39 رقم الحديث3820. وفي صحيح مسلم: كتاب الفضائل- باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. ج4 ص1887 رقم الحديث2432. [33] إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، المؤلف: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (ت ٨٤٥هـ)، ج10، ص272، المحقق: محمد عبد الحميد النميسي، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م. [34] صحيح ابن حبان: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن عائشة زوجة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا لا في الآخرة. ج16 ص4 رقم ح7095. وفي مستدرك الحاكم: كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر الصحابيات من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهن. ج4 ص11 رقم ح6729. [35] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، المؤلف: أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي بدر الدين العيني (ت ٨٥٥هـ)، ج16 ص251، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت. [36] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل زينب أم المؤمنين، رضي الله عنها. ج4 ص1907 رقم الحديث2452. [37] الخصائص الكبرى: عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)، ج2 ص429، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت (د-ت، د- ن). [38] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، المؤلف: أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي (٥٧٨ - ٦٥٦ هـ) ج6 ص360، حققه وعلق عليه وقدم له: محيي الدين ديب ميستو - أحمد محمد السيد - يوسف علي بديوي - محمود إبراهيم بزال، الناشر: دار ابن كثير، دمشق - بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٧ هـ - ١٩٩٦ م.
الأمة العربية المجيدة المباركة • اليوم العالَم كله تأهب لمحاربة أمتنا العربية المجيدة، وكشَّر عن أنيابه لتمزيقها ومحوها، لأنَّها حملت قرونًا متوالية على كاهلها لواء الدين الحنيف، وصانته من كل سوء ومكروه، ولا تزال الأمة الإسلامية تعتز بها وتباهي بها، أنها أمةٌ مباركةٌ محببةٌ، تستحق الاحترام والتقدير والحب والحنان، الإساءة إليها تؤدي إلى الإساءة بالإسلام والقرآن. • اليوم الشبكات والقنوات الفضائية والعنكبوتية، كلها تغزو أمتنا العربية المجيدة، اليوم إخواننا العرب يُقتلون ويُعذبون ويُشردون من أوطانهم، الأعداء الألداء يقصفونهم بالبراميل المتفجرة والصواريخ، صارت هذه الأمة المباركة حاملة لواء الإسلام مستهدفة من كل حدب وصوب، الأعداء يسفكون دماءهم وينتهكون أعراضهم، فأين المسلمون من قضية أمتنا العرب؟ لماذا تخاذلت الأمة عن حقيقتها وقادتها وحاملي لواء الإسلام؟ اليوم الأمة العربية المجيدة جريحة، وتتربص بها الأمراض والجراثيم الخبيثة من الداخل والخارج، وتمرضها وتعصف بها الرياح الهوجاء المبيدة. • الحروب الدامية الشعواء تندلع كل يوم في الوطن العربي، تضرمها أمريكا والناتو للإطاحة بالإسلام والمسلمين، وتقصفهم وتدمر ديارهم وتنهب ثرواتهم، وصارت البطالة والأزمات الاقتصادية تطيح بالوطن العربي والشعوب العربية المباركة، للأسف الشديد فإن البطالة تفوح منها الجراثيم الخطيرة في المجتمع، وتستغلها الجراثيم الخارجية لتضر الأمة من داخلها، وكل هذا وذاك نتيجة مؤامرات ودسائس الأعداء والصهاينة الماسونية. • الفوضى العارمة والحازمة والزاحفة التي تجتاح أمتنا العربية هذه الأيام بعثرت الأوراق وقطعت - أو تكاد - حبال التواصل التي ربطت إلى حد ما هذه الأمة إبان حكم بعض ما ساد وباد من القادة، اليوم أمتنا العربية المجيدة الخالدة، غارقة حتى الأذقان في دماء أفلاذ أكبادها، تسيل الدماء في الوطن العربي، إراقة الدماء الباردة ليل نهار، والإساءة إلى أمتنا العربية بمجرد أنها عرب وحامل لواء الإسلام أنها نتيجة مؤامرة الأعداء، الأعداء أدركوا هذه الحقيقة ما دام العرب يتنفسون، الإسلام باقٍ والقرآن باقٍ. اليوم صارت أمتنا العربية مظلومة وضحية، تدوسها الأقدام الخبيثة وتعيث بها، وتمزقها الأيادي الآثمة القذرة الخرقاء، وتلوث أرضها أقدام الأعداء، يفترسونها ويهجمون عليها ليلَ نهار، فيا أخي، على الأقل أنت لا تلوث لسانك بالطعن في العرب، لا تملك القنوات العميلة والعنتريات التي تفوح بها ألسنة الغرب الماكرة، لا تهلك نفسك ولا تكن عونًا لأعداء العرب، لا تتيه في دياجير الجهل والغباء، بل احترم العرب وآزَرَهم ووقرهم. • قد آن الأوان أن تصحو الشعوب الإسلامية كلها، وتتأهب للدفاع عن أمتنا العربية، وتضحي بالنفس والنفيس لها، وترغم بالتراب أنوف الحاقدين وتذلهم وتحطمهم، كيف تحلو لنا الحياةُ وأمتنا تبكي وترثي أفلاذ أكبادها؟
أصحاب الأخدود وردت الإشارةُ إلى هذه القصة في سورة البروج؛ حيث ورد: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 4]؛ فمَن هم أصحاب الأخدود؟ ذكر أن أحد ملوك اليمن كان يدعي الألوهية، وكان يخدمه في دعواه ساحر كبير يقوم بخداع الناس ليظهر لهم خوارق للملك، وحدث أن قال الساحر للملك: إني كبرت، فاختر غلامًا ذكيًّا أعلمه السحر؛ ليقوم مقامي في خدمتك، فاختار الملك غلامًا بارع الذكاء، ثم دفعه إلى الساحر، وبدأ تعليمه السحر، وفي أحد الأيام خرج الغلام إلى أطراف البلدة فوجد كهفًا، فدفعه فضوله إلى دخول الكهف، فسمع صوتًا يناجي ويتعبد الله الواحد الأحد بكلمات استرعت انتباهه، فاقترب أكثر، فإذا رجل مهيب جالس يتلو هذه الأدعية، فاقترب منه الغلام وسأله: مَن يناجي؟ فقال العابد: إنه يناجي الله الواحد خالق هذا الكون وخالق الناس، فقال الغلام: والملك! قال العابد: إنه مخلوق مثلي ومثلك، كلنا من خلق الله الواحد القوي الأبدي الحي الدائم، الذي لا يفنى ولا يموت، وما الملك إلا مخلوق يكبر ويهرم ويموت، سُرَّ الغلام لكلام العابد وطلب المزيد؛ فقد أعجبه كلامه ودخل شغاف قلبه، وقال: كيف لي أن أتعلم علمك هذا؟ قال: تأتي إلي في أي وقت تشاء، ولكن دون أن تخبر أحدًا عني؛ فالملك ظالم يقتل كل من يحمل هذه العقيدة، فوعده الغلام بكتمان الأمر، وانصرف على أن يعود فيما بعد، فكان الغلام يزور العابد قبل ذهابه إلى الملك، وكان إذا تأخر عن الموعد يزجره الساحر، فيتعلل بأن أهله أخروه، وأحيانًا يزور العابد قبل عودته إلى البيت، فإذا سأله أهله عن سبب تأخره تعلل بأن الساحر أخره، واستمر الغلام على هذه الحال فترة، وتعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى، ثم إنه في عبوره الطريق مرة رأى جمهرة من الناس في حالة اضطراب وخوف، فلما سأل عن السبب ذكروا له أن أفعى كبيرة مخيفة قد اعترضت الطريق فمنعت الناس من العبور، فتقدم إليها وقال: الآن أختبر الأفضل لي؛ الساحر أم العابد، فقال: اللهم إن كان العابد على حق فاقتل هذه الأفعى، ثم رماها بحجر فقتلها وسر الناس، وقالوا: هذا الغلام أنقذنا من الأفعى، وعاد الغلام إلى العابد وقص عليه خبر الأفعى، فقال له: بني، أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى فاصبِرْ ولا تدُلَّ عليَّ، ثم إنه أصبح يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ودخل ديوان الملك فالتقاه جليس الملك - وكان أعمى - وقال له: لقد بلغ من علمك أنك قتلتَ الأفعى، فهل لعينيَّ من شفاء عندك؟ قال: نعم إذا آمنت بالله الواحد دعوته ورجوته شفاءك، فقال: أفعل، فدعا الله باسمه الأعظم، فشفي الأعمى وأبصر، ودخل الأعمى إلى الملك مبصرًا، فقال له: ها قد عدت مبصرًا! فكيف عاد بصرك؟ قال: ربي رد عليَّ بصري، قال: أنا، قال: لا، ربي وربك الله، قال: ألك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فأمر بتعذيبه، ولم يزل يعذبه ليعرف من أين له هذه الأفكار الدخيلة على بلده؟ فاعترف تحت التعذيب بما عليه الغلام، وأحضر الغلام، وامتدحه الملك أولًا، وقال له: لقد بلغ من علمك ما بلغ حتى شفيت الأعمى والأبرص، قال: لم أفعل ذلك، وإنما الله تعالى هو الشافي، فغضب الملك وأمر بتعذيب الغلام، فاعترف على الراهب، فأتي به وعذب بشتى ألوان العذاب؛ لأن الملك عده رأس الفتنة، فثبت على دينه، فأحضر الملك المنشار فأمر بشقه نصفين، وعاد إلى الغلام يغريه بتغيير رأيه وأن يعمل لحساب الملك، فامتنع، فأمر الملك بإلقائه من أعلى الجبل ليقتله، فعندما أُخذ إلى الجبل دعا الله أن ينجيه من القوم الظالمين فاهتز الجبل وسقط الجنود وسلِم الفتى، وعاد إلى الملك يطلب منه الإيمان بالله، وترك ما هو فيه من الباطل، لكن الملك أصر على الكفر وأمسك الغلام وطلب إلقاءه في البحر ليموت غرقًا، ونجاه الله من الغرق، فعاد إلى الملك، فقال الغلام: لن تستطيع قتلي إلا إذا عملت بما أقوله لك، فتلهف الملك لقوله وأصغى إليه، فقال: تجمَع أهل البلد كلهم في ساحة عامة وتصلبني، ثم تأخذ سهمًا من كنانتي وتصوبه نحوي وتقول: باسم الله رب الغلام، فتقتلني. فرح الملك الطاغية لاقتراح الغلام، ثم نفذه أمام حشد من الناس، وأخذ سهمًا من كنانة الغلام، وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغ الغلام، ومات شهيدًا رحمه الله، لكنه ترك خلفه شعبًا مؤمنًا، قال بصوت واحد: آمنا برب هذا الغلام، وعلموا أن الملك الذي استعان برب الغلام لم يكن إلهًا كما يدعي، وهكذا قامت ثورة ضد الطاغية، فما كان من الملك الطاغية إلا أن خفر خندقًا وملأه نارًا، أحرق به المعارضين المؤمنين الكافرين بربوبيته الكاذبة، ومما يروى أيضًا: أن امرأة كانت تحمل ولدها الرضيع ممن آمنت بالله ترددت في قذف نفسها في الخندق، وكادت أن ترتد؛ خشية على رضيعها، فأنطقه الله، وقال لها: أنت على حق يا أماه، فثبتت وألقت نفسها مع رضيعها في الخندق. لنستعرِضْ بعد هذه المقدمة الشارحة آيات سورة البروج؛ قال الله تعالى بعد القسم الرباني العظيم: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 1 - 4]، فهذا أول ذِكر لهم في القُرْآن الكريم، وقد ذُكروا بعد قسم مغلظ من الله تعالى، أقسم بالسماء ذات البروج: وهي السماء الدنيا التي لها اثنا عشر برجًا بعدد شهور السنة، وهي مجموعات من النجوم، لكل مجموعة شكل مميز يحصى بها الشهور الشمسية، وأسماؤها معروفة - برج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت - واليوم الموعود: وهو يوم القيامة الذي لا شك في مجيئه، وأقسم بالشاهد والمشهود وهما يومان؛ يوم الجمعة ويوم عرفات، بأن أصحاب الأخدود قد قُتلوا بغير ذنب جنَوْه إلا أن قالوا: ربُّنا الله، وإذا كان المعنيَّ بأصحاب الأخدود هم الملك الطاغية وأعوانه الذي حفروا الأخدود فتكون قُتِل بمعنى: لُعن وطُرد من رحمة الله، ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾ [البروج: 5]، وهنا وصف للنار التي زِيدَ ضرامها من الحطب وأشباهه وألقيت في الأخدود، ثم طرح فيه المؤمنون ليموتوا حرقًا، وهذا منتهى الظلم الذي مارسه هذا الطاغية ليوحي إلى الناس أنه إله يحرق خصومه وغير المؤمنين به في النار، ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴾ [البروج: 6]؛ أي: هؤلاء الزبانية كانوا يتحلقون حول النار ويُعرَض عليهم المؤمنون، فإذا تمسكوا بدينهم ألقوهم في الأخدود، وإذا ما ضعفوا وارتدوا تركوهم، وهكذا عرض أهل البلد التي جرت فيها هذه الواقعة، وهي نجران، فكان أن أحدث الطاغية فيها مقتلة عظيمة، أوردها القُرْآن الكريم؛ لعظمها وأهميتها، وذكَّر بها أهل مكة ليريهم الله مثلًا للمؤمنين الصابرين، وآخر للطغاة المجرمين الذين سيشقَوْن خالدين في النار، ﴿ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 7]، وأن الملك الطاغية وأعوانه شهود على فعلهم القبيح بالتحريق، ولن يستطيعوا إنكار ما فعلوه يوم الحساب، ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8] لم يرتكبوا إثمًا، ولم يقوموا بعمل إجرامي، إن كل ما فعلوه هو الإيمان بالله العزيز الحميد، هذا هو ذنبهم، وهذه هي جنايتهم، قاتَلَ اللهُ أهلَ الباطل، يغضُّون الطرف عن فاعلي المنكرات والقبائح والمجرمين والسفاحين، ولا يتحملون أن يروا في مجتمعهم أهل الخير والبر والرحمة والطهر والعفاف، فيعملون على تعذيبهم وقتلهم وتصفيتهم جسديًّا بكل وسائل البطش والإرهاب؛ لتسلَمَ لهم الكراسيُّ بالدجل والزور وادعاء الربوبية، إن وجود مثل هذه العقول النيرة لا يناسبهم ويكشف زيفهم ودجَلهم، ويفضح باطلهم، يريدون شعبًا لا يرون إلا ما يُريهم ملوكهم، كما قال فرعون لشعبه: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وكان سبيل رشاده أن قادهم إلى جهنم: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98]. ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9] تذكير بقدرة الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، مالك السموات والأرض؛ فالكل خاضعٌ لمشيئته وإرادته، فلن يعجزه أحد في الأرض هربًا، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، وهم الملك الطاغية وأعوانه الذين وقفوا على شفير الخندق وكانوا يعملون على إغواء الناس بردهم عن دينهم ليكونوا على دين الملك الضال، فهؤلاء الفاتنون الفاسدون إن لم يؤمنوا ويتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق؛ جزاء بمثل ما عذبوا به المؤمنين، وشتان بين حريق جهنم وحريقهم في الدنيا، فأقوى نار في الدنيا لا تبلغ إلا جزءًا من سبعين جزءًا من نار جهنم، وهذا الخطاب وإن كان خاصًّا بأصحاب الأخدود فإنه عام يشمل كل طاغية، وكل مَن فتن المؤمنين عن دينهم الحق في كل عصر وزمان. ذكر أن صاحب الأخدود كان يدَّعي الألوهية، وأن عقيدة الغلام كانت على دين موسى، كما ورد في رواية أخرى: أنه كان صراعًا بين اليهودية والنصرانية، فكان الأخدود لتحريق النصارى، وهذه الحادثة مهدت للغزو الحبشي.
جانبٌ من حياة الشيخ محمد بن طه آل نديم-رحمه الله- في الدعوة والتعليم ابتدأ شيخنا الحبيب محمد بن طه بن شعبان آل نديم -رحمه الله- التدريسَ في مكتبة أهل السنة بالعبودي في محافظة الفيوم بعد عصر الجمعة سابع عشر ذي الحجة ١٤٣٨، وكان آخر دروسه فيها يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر سنة ١٤٤١، فكانت سنتين وأربعة أشهر تقريبًا، شرح خلالها الكثير من الكتب والمتون، منها: 1- كتاب العقيدة أولًا 2- ثلاثة الأصول وأدلتها. 3- القواعد الأربع. 4- أصول السنة للحميدي. 5- أصول السنة للإمام أحمد. 6- صريح السنة للطبري. 7- حائية ابن أبي داود. 8- عقيدة الرازيين. 9- بداية المتفقه. 10- المختصر في القواعد الفقهية. 11- البداية في أصول الفقه. 12- البداية في علم مصطلح الحديث. 13- المختصر في أحكام الصيام. 14- المختصر في فقه الحج والعمرة. 15- المظاهرات والثورات في ميزان الشريعة. وقد شرح -رحمه الله- بعضها أكثر من مرة... وخلال المدة نفسها كان يرتحل إلى أماكن متعددة (في محافظات الصعيد، والقاهرة، والجيزة، وأماكن من القليوبية...، وغيرها) ، دَرَّسَ فيها الكثير من المتون والكتب العلمية. فشرح لامية شيخ الإسلام مرات في أماكن مختلفة، وشرح منظومة ابن سعدي في القواعد الفقهية أكثر من مرة، وكذلك البيقونية، وكتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد، وثلاثة الأصول، والقواعد الأربع، وقواعد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، والبداية في العقيدة وأصول السنة للإمام أحمد، وأصول السنة للحميدي، وصريح السنة للطبري. وألقى دروسًا في التاريخ الإسلامي، ودروسًا في علوم الحديث، ودروسًا في التفسير ودروسا في الآداب، ودروسًا في المنهج، وشرح كتابه «المختصر في أحكام الصيام» مرات عديدة، وشرح أصله كذلك، وشرح كتابه «العقيدة أولًا» مرات عديدة. كل هذا وغيره في خلال هذه المدة (من ذي الحجة ١٤٣٨ إلى ربيع الآخر ١٤٤١) ، هذا إلى جانب اشتغاله بالتصنيف والتحقيق والدراسة النظامية... ومع هذا فكان يُقرئ عددًا من الإخوة بشكل خاص بحسب ما يناسب كل واحد منهم، ويتفقد أحوالهم العلمية، والسلوكية، والمادية، والاجتماعية... وأعجب ذلك أنه رغم جميع ما سبق، فإنه كان سريع الرد على الاتصالات والمراسلات كأنه ينتظرها، حتى ليظن كلُّ واحدٍ أنه المقدَّم عنده والمفضل لديه... رحمه الله برحمته الواسعة، وأكرم منزله، وأعلى درجته، وبارَك ذريته، وجزاه عنا خير الجزاء والإحسان... صبيحة الأربعاء خامس ربيع الآخر سنة ١٤٤٣
السيرة الذاتية للشيخ (فاروق الرحماني) مؤسس مدارس الأندلس بالخليج رحمه الله تعالى الميلاد والنشأة: هو الشيخ المربي وفارس المنابر «أبو عمر فاروق بن محمد بن عبدالعزيز بن فتح الله الرحماني المصري»، وُلد في قرية «ديبي» [1] ، مركز رشيد محافظة البحيرة في يوم 5/ 11/ 1962 م، الموافق يوم الاثنين 8 جمادى الآخرة سنة 1382 هـ. وهو أحد ثلاثة أبناء ذكور: المترجم، والدكتور محمد الرحماني، وهو طبيب أعصاب مشهور بالإسكندرية، ودكتور مجدي طبيب بيطري يعمل في دولة (قطر) الشقيقة. التدرج في التعليم: التحق بالتعليم المدني، وتدرج فيه حتى حصل على الشهادة الثانوية العامة في سنة 1980م، ثم التحق بكلية التربية، جامعة الإسكندرية، ومكث فيها قليلًا، ثم حوَّل أوراقه إلى كلية التربية بجامعة كفر الشيخ، قسم اللغة العربية، وفي عام 1984م حصل على ليسانس الآداب واللغة العربية من جامعة كفر الشيخ. عمله بالدعوة إلى الله: وفي عام 1985م التحق خطيبًا، ومدرسًا بالمدرسة السلفيَّة بالإسكندرية، وكان من المؤسسين لها مع العلامة الدكتور محمد بن إسماعيل المقدم، والدكتور سعيد عبد العظيم، والدكتور أحمد حطيبة، والدكتور أحمد فريد، وغيرهم من العلماء والمشايخ. وفي عام 1405 هـ / 1985م، اشترك مع شيوخ (الدعوة السلفية ) في تأسيس «معهد الفرقان» لإعداد الدعاة، وتولى إدارة المعهد، وأُسند إليه تدريس اللغة العربية، فقام بتدريس كتاب « شذور الذهب» لابن هشام المصري في (معهد الفرقان) [2] ، وألف كتابًا في «النحو» للمبتدئين، وكان في تلك الفترة يخطب الجمعة بالمساجد التابعة للدعوة السلفيّة بالإسكندرية، واشتهر في هذه الفترة ولمع نجمه وذاع صيته كأحد فرسان المنابر، فقد تميَّز رحمه الله تعالى بالفصاحة والبلاغة، وعذوبة اللسان وروعة المنطق، ولا يلحن في الخطبة حرفًا واحدًا، وكان رحمه الله خطيبًا مِصْقع لا يُشق له غبار، بل استطاع أن يكون نجم الدعوة الأول في ذلك الوقت؛ حيث لا يباريه في الخطابة أحد من علماء وقته، وترك تراثًا حافلًا من مئات الخطب في شتى الموضوعات. زواجه وأولاده: وقد تزوج من إحدى العائلات الطيبة المباركة بقرية «زمزم»، بمركز شبراخيت محافظة البحيرة، وهذه القرية كانت تمتاز بكثرة شيوخ ومحفظي القرآن الكريم، وقد رزقه الله ابنه عمر وثلاث بنات. مناقبه وأخلاقه: كان حسن الصوت بالقرآن و«كأنَّه خلق للقرآن» [3] ، وكان يؤم المصلين في صلاة التراويح، وكان لطيف المعشر، حلو المنطق، طيب النفس، هادئ الطبع، وقد اعتقل سنة 1987م مع الدكتور أحمد فريد والشيخ ياسر برهامي، وقد أثنى عليه من صحبه رحمه الله رحمة واسعة ومكث 34 يومًا في الحبس وأفرج عنه بعدها. سِفْرته إلى الدوحة: وفي عام 1987م سافر إلى الدوحة إمامًا وخطيبًا، وهناك صار « نجمًا في السماء يُرى لمعانه في الماء»، واتصل بالعلماء والدعاة، ونظرًا لسمعه الطيبة ونجاحه المبهر في إدارة معهد الفرقان بالإسكندرية، أَسند إليه وزير الداخلية القطري إنشاء «مدارس الأندلس الخاصة »، سنة 1992م. وفي تلك الفترة عمل الشيخ مديرًا لهذه المدارس، واستقدم لها المدرسين، والعلماء الممتازين، حتى أصبحت المدارس التعليمية الأولى في قطر، وطارت شهرتها في كل دول الخليج العربي، وفي تلك الفترة المباركة استضاف الشيخ عددًا من العلماء والدعاة خلال فترة إدارته للمدرسة، وأسس فيها نظامًا فريدًا لم يكن معهودًا آنذاك شرحه يطول، كل ذلك مع أنَّه إمام وخطيب، وأقام عددًا من الدروس الدورية، وذاعت شهرته حتى صار أشهر خطيب في «دولة قطر». خطبه ودروسه وآثاره العلمية: الموسوعة الصوتية وتحتوي على مئات الخطب والدروس المسجلة على مواقع (طريق الإسلام)، وموقع (أنا السلفي)، وغيرها من المواقع على شبكة الإنترنت. وتحتوي على أكثر من (39) مادة من الدروس والمحاضرات، ومنها بالترتيب الأبجدي: 1- العبودية لله. 2- حقيقة الحياة. 3- أمية المسلمين بدينهم. 4- السفر إلى الخارج. 5- الشباب أمل الأمة. 6- الشباب والصبوة. 7- إصلاح وعلاج القلوب القاسية. 8- تربية الأولاد. 9- حقوق الزوج. 10- حقوق الزوجة. 11- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 12- الحث على الزواج. 13- الحث على صلاة الجماعة. 14- الشرف بالتقوى لا بالنسب. 15- العبودية. 16- المسارعة إلى الطاعات. 17- المسجد الأقصى ودعوة الإسلام. 18- النية والإخلاص. 19- المرأة في الإسلام. 20- حرب الحجاب (جزء أول) [4] . 21- حرب الحجاب (جزء ثان). 22- حرب الحجاب (جزء ثالث). 23- الأصالة. 24- علماء الدنيا وعلماء الدين. 25- مبادرة الأيام وأعمال الوقت. 26- شغلنا التكاثر في الأموال والأولاد. 27- عبرة من الأمم السابقة. 28- الصدق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. 29- اتباع الصحابة. 30- فضل رمضان وفضل القرآن. 31- رمضان وفضل الصيام. 32- رمضان وفضل الدعاء. 33- رمضان وفضل الاعتكاف. 34- وإنا لفراقك يا رمضان لمحزنون. 35- وداع رمضان. 36- ملاحظات على فهمي هويدي. 37- أبغض الناس إلى الله. 38- متى سيعود الإسلام. وفاته رحمه الله تعالى وطيب ثراه: وفي أثناء سفره إلى «المملكة العربية السعودية» لأداء العمرة مع زوجته وأولاده، وفي يوم الجمعة / 8/ 1998م، (الموافق/ 15 ربيع الثاني/ 1419 هـ)، وأثناء سفره بالسيارة، وفي الساعة الثالثة ظهرًا من ذلك اليوم بمنطقة تُسمى (ظُلَم) تبعد عن الطائف (150كم) - وقعت له حادثة مروعة، تُوفي على إثرها هو وزوجته، ونجا منها أولاده، «رحمه الله تعالى رحمة واسعة»، وغفر له وجزاه خير عما قدم لأمته وللإسلام والمسلمين. المصادر والمراجع: توثيق الترجمة وأهم مصادرها، ومراجعها. 1- لقاء الكاتب مع الشيخ فاروق الرحماني (رحمه الله تعالى)، عام 1987م. 2- حوار مع الشيخ/ حازم المسلماني (ابن أخت الشيخ فاروق الرحماني)، وهو إمام وخطيب بدولة قطر. وذلك عبر محادثات عبر تطبيق «الواتساب» بتاريخ 10/ 11/ 2021م / وحتى 18/ 11/ 2021م. 3- موقع (الفرقان) https:/ / www.elforqan.org ، اطلعت عليه في يوم الأربعاء 17/ 11/ 2021م. 4- موقع (أنا السلفي) https:/ / anasalafy.com/ ar/ category ، وعليه الموسوعة الصوتية للشيخ. 5- موقع (طريق الاسلام) https:/ / ar.islamway.net/ scholar/ 182 ، وعليه بعض خطبه ودروسه. [1] قرية ديبي: قرية قديمة، وردت في قوانين ابن مماتي باسم «ديبة» من أعمال فوة والمزاحمتين، وفي التحفة " ديبي"، وهي ديبة من الأعمال المذكورة، وذكر «جوتييه» في «قاموسه» أن اسمها القديم Dbi أو Db ، ومنه اسمها الحالي، ووردت في الخطط التوفيقية، (ص 120/ ج5)، ديبة بولاية البحيرة، وفي " تاريع" سنة 1228 ه، برسمها الحالي؛ انظر: القاموس الجغرافي (الجزء الثاني/ ص 299) للعلامة محمد رمزي. [2] https:/ / www.elforqan.org اطلعت عليه في يوم الأربعاء 17/ 11/ 2021. تم افتتاح «معهد الفرقان» التابع للمدرسة السلفية بالإسكندرية، سنة 1405 هـ الموافق سنة 1985 م. • وكانت الدعوة قبل ذلك تهتم بتدريس كتب العقيدة والفقه والحديث (خاصة الصحيحين)، والتفسير بالمساجد عقب صلاة الفجر، وعقب صلاة العشاء يوميًّا، واهتم الناس بهذه الدروس، فكان لإقبالهم عليها تشجيع للدعوة أن تؤسس معهدا علميًّا أهليًّا متخصصًا لتخريج دعاة مؤهلين. • تم تحديد عدد من العلوم يحتاجها الداعي ليدرسها خلال سنين المعهد التي كانت في البداية ثلاث سنوات، ثم زيدت إلى أربع سنوات – كانت هذه العلوم هي: القرآن العظيم وتجويده، والعقيدة، والفقه، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والمصطلح، واللغة العربية، والسيرة والخطابة، وأصول الدعوة، والفكر. • كان من شروط القبول بالمعهد أن يكون المتقدم قد أنهى الدراسة الثانوية، وألا يقل عدد ما يحفظ من أجزاء القرآن عن عشرة أجزاء، حتى يتخرج وقد أتم حفظ القرآن مع تعلمه التجويد. • وكان المقرر في علم العقيدة كتاب فتح المجيد مع كتاب معارج القبول، وفي الفقه كتاب منار السبيل، وفي الأصول قررت عدة كتب واستقر الأمر على مذكرة الشنقيطي، ثم كتاب الأصول لعبد الكريم زيدان، وفي التفسير قررت أجزاء من القرآن من تفسير ابن كثير، مع حفظ معاني الكلمات من الجلالين، وفي المصطلح كان المقرر تدريب الراوي، وفي السيرة كتاب الرحيق المختوم، وفي اللغة كتاب القواعد في النحو والصرف، وفي الفكر كتاب محاضرات في الفكر. • كان الإقبال على المعهد بالنسبة للقائمين عليه كبيرًا ( حوالي 500 في العام )، وكان مبنى المعهد بمسجد الفرقان لا يتسع للعدد الكبير المتقدم، فكان ينتقى من المتقدمين حوالي مائتين. • في عام (1407 م ) تخرجت أول دفعة من المعهد، ثم تتابعت الدفعات في كل سنة حتى سنة ( 1994 م) التي أغلق فيها المعهد لظروف أمنية، كان متوسط عدد الخرجين حوالي الخمسين. • في سنة 1994 تمت مصادرة المعهد وأبنيته، وتحولت الدراسة إلى مسجد نور الإسلام بنفس المناهج حتى سنة 1998، ثم هدد الأمن بأخذ المسجد، فتوقفت الدراسة لأغلب المواد ما عدا الفقه والأصول اللذان استمرا حتى الثورة 2011م. • بعد الثورة تم استعادة مقر المعهد ( مسجد الفرقان وقاعاته )، وتم إرجاع المعهد بفضل الله مرة أخرى. • بلغ عدد المتقدمين للدراسة في المعهد الرئيسي بالإسكندرية ألفين من الرجال، وسبعمائة من النساء، ومن ضمن المتقدمين حوالي مائتين من الأجانب. • صار للمعهد فروع بالإسكندرية ( عدة فروع )، وبالمحافظات ( في البحيرة، والإسماعيلية، وكفر الشيخ، ومرسى مطروح، والغربية، وغيرها ) حوالي 25 فرعًا. • عدد الطلاب المنتظمين حاليًّا على مستوى المعاهد حوالي ستة آلاف. • المتوقع أن يبلغ العدد ضعف ذلك، وخاصة مع فتح الدراسة على شبكة الإنترنت ( Online ). • حاليا يؤخذ من كل طالب مصاريف رمزية ( مائتان جنيها في العام ). • يتم تسجيل الدروس مع بثها مباشرة على شبكة الإنترنت. [3] هذه الكلمة للدكتور/ أحمد فريد، في مذكراته المنشورة على شبكة الإنترنت، وهي مفرغة من شريط مسجل بصوته. [4] هناك خطأ في تصنيف المادة من الموقع، فالدرس يتحدث عن موضوع (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)، ومكتوب على الشريط (حرب الحجاب1)، وهناك أخطاء أخرى كثيرة، يبدو أنها كتبت على عُجالة بدون أن يسمعها من صنَّفها.
صرنا كما الأيتام بعد رحيله في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي يا قلبُ صَبرًا في لَظَى الأهوالِ فظهورُنا تعِبَتْ منَ الأحمالِ فاليومَ فارقَنا وصَدَّعَ صبرَنا أستاذُنا شيخُ العُلومِ الدَّالي مَن للتُّراثِ يفُكُّ قَيدَ رُموزِه ويُجيرُه مِن سَطوَةِ الإهمالِ مَن للعُلومِ يهُزُّ جِذعَ نخيلِها لتُساقِطَ الرُّطَبَ النَّفيسَ الغالي مَن للمَسائلِ إن تَباعدَ فهمُها واستَمنعَتْ بالحُجْبِ والأقفالِ مَن للعُروبةِ إن عَرَتْها عُجمةٌ وغَدَتْ على أبوابِ الاضمِحْلالِ صِرنا كما الأيتامِ بعدَ رحيلِه غَرقَى بوَحلِ التِّيهِ والبَلبالِ
ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك ومفتي المدينة ( ما يسرني أن أمي ولدت لي أخًا ممن ترون من أهل المدينة إلا ربيعة الرأي ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق هو التابعي الجليل ربيعة بن أبي عبدالرحمن فَرُّوخ، عالم عصره ومفتي المدينة الإمام مالك، جمع بين العلم والعمل ورجاحة العقل وبصيرة الرأي حتى لقب بربيعة الرأي. أدرك بعض أصحاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وسعيد بن المسيب وطائفة. وروى عنه: السفيانان وشعبة وحماد بن سلمة، وسليمان بن بلال، ومالك بن أنس ومسعر والليث بن سعد، وخلق سواهم، ممن كان علمهم نواة الفقه والعلم والاجتهاد، ومصدر ثراء الحضارة الإسلامية إلى الآن. ميلاده ونشأته: وُلد ونشأ في المدينة المنورة، وأقبل منذ صغره على طلب العلم وسماعه، فلزِم من تبقى من الصحابة في المدينة مثل أنس بن مالك رضي الله عنه كما لزم مشاهير العلماء من التابعين؛ أمثال: عروة بن الزبير، وابن شهاب الزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، حتى صار وعاء العلم ومقصد طلابه، حتى قيل: إن مجلسه يُحصى فيه أربعون معتمًا، ممن تفرغوا لطلب العلم، ووهبوا حياتهم له، مثل مالك بن أنس رحمهم الله جميعًا. وبلغ من أثره في الحياة العلمية والفقهية في عصره أن قال مالك فيه: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبدالرحمن. وساعد على ذلك أنه كان يجمع مع العلم رجاحة العقل والغيرة على الدين، والورع والعبادة، وحسن الأدب والخلق، حتى إن أمَّ الإمام مالك ـ وكانت امرأة صالحة ـ لَما هيَّأته لطلب العلم، قالت له: اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلَّم مِن أدبه قبل علمه؛ مما يعني أنه قد اشتَهر بأدبه الواسع بين سكان المدينة، وتميز به على غيره من علماء عصره. وبالفعل فقد صار الرجل ذا فضل كبير في تكوين فكر الإمام مالك، وتفوُّقه على أقرانه، وعلى فكره الراجح، وقد ظهر ذلك جليًّا في كتابه الموطأ الذي أراد المنصور أن يجعله مرجعًا عامًّا لعامة الرعية في أمور الفقه والمعاملات وقضاياهم الحياتية. إجلال العلماء له وثناؤهم عليه: وكان رحمه الله ينال إعجاب وتقدير علماء عصره وما بعد عصره، يقول عبيدالله بن عمر: كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالًا لربيعة وإعظامًا له، وليس ربيعة بأسن منه، وكان كل واحد منهما مُجِلًّا لصاحبه، وكان ربيعة يقول له وهو يمازحه في الشيء من الفتيا: هذا خير لك مما تحوز من الدنيا. وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدًا أسدَّ (من السداد) عقلًا من ربيعة. وقال الليث: كان صاحب معضلات أهل المدينة، ورئيسهم في الفُتيا. وقال سوار بن عبدالله العنبري: ما رأيت أحدًا قط مثل ربيعة الرأي، قيل: ولا الحسن؟ قال: ولا الحسن، ولا ابن سيرين. وقال مالك: قدِم ابن شهاب المدينة، فأخذ بيد ربيعة ودخلا إلى بيت الديوان، فما خرجا إلى العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت بالمدينة مثل ربيعة، وخرج ربيعة وهو يقول: ما ظننت أن أحدًا بلغ من العلم ما يلغ ابن شهاب. وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يقول: ما يسرني أن أمي ولدت لي أخًا ممن ترون من أهل المدينة إلا ربيعة الرأي. وقال يونس بن يزيد: شهِدت أبا حنيفة في مجلس ربيعة، فكان مجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول ربيعة. وقال أيضًا: وصار ربيعة إِلى فقه وفضلٍ، وما كان بالمدينة رجل واحد أسخى نفسًا بما فِي يديه لصديق، أَو لابن صديق، أَو لباغ يبتغيه منه، كان يستصحبه القوم، فيأبى صحبة أحد إِلا أحدًا لا يتزوَّد معه، ولم يكن في يده ما يحمل ذاك. وقال عبدالعزيز بن أبي سلمة: لما جئت العراق جاءني أهل العراق، فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق، تقولون: ربيعة الرأي، لا والله، ما رأيت أحدًا أحوط لسنة منه. وقال ابن الماجشون: ما رأيت أحدًا أحفظ لسنة من ربيعة. قال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدًا أفطن من ربيعة بن أَبي عبدالرحمن. وقال عبد العزيز الدراوردي: كان فقيهُا عالِمًا حافظًا للفقه. وقال مالك: لَما مات القاسم وسالم، أفضى الأمر إلى ربيعة. وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدًا أفطن من ربيعة. وقال عبدالرحمن بن زيد: وصار ربيعة إلى فقه وفضل وعفاف. وقال محمد بن عمر الواقدي: كانت له مروءة وسخاء، مع فقهه وعلمه، وكانت له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ربما اجتمع هو وأبو الزناد في حلقة, ثم افترقا بعد فجلس هذا في حلقة وهذا في حلقة. تحذيره من إسناد العلم إلى غير أهله وعاقبة ذلك الوخيمة على الأمة: وكان شديد الغيرة على الإسلام وتشريعاته، يتألم عندما يتصدر له من ليس بأهل للصدارة، فعن ابن عيينة قال: بكى ربيعة يومًا، فقيل: ما يبكيك؟ قال: رياء حاضر وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كصبيان في حجور أمهاتهم، إن أمروهم ائتمروا، وإن نهوهم انتهوا. وعن إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي ربيعة الرأي، وكان أستاذ مالك: يا مالك من السفلة؟ قال: قلت: من أكل بدينه، فقال: من سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه، قال: فصدرني. تصديه للمبتدعة والقدرية: وكان رحمه الله من أوائل من تصدوا للمبتدعة والقدرية الذين تأثروا بأفكار المندسين بين المسلمين من أبناء الملل الأخرى لخلخة عقول الموحدين، ومظاهر ذلك ما ذكره سفيان بن عيينة أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وقال أبو ضمرة: وقف ربيعة على قوم يتذاكرون القدر، فقال ما معناه: إن كنتم صادقين، فلما في أيديكم أعظم مما في يدي ربكم إن كان الخير والشر بأيديكم. • وجاء في أصول الاعتقاد أن غيلان القدري قال له: يا أبا عثمان، أيرضى الله عز وجل أن يعصى؟ قال له ربيعة: أفيعصى قسرًا؟ وفي رواية أخرى ذكرها ابن عبدالبر أن غيلان القدري وقف به، فقال له: يا أبا عثمان، أرأيت الذي منعني الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إلي أم أساء؟ فقال ربيعة: إن كان منعك شيئًا هو لك، فقد ظلمك، وإن كان فضله يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئًا. وكان يقول: إنما أخشى على هذه الأمة ثلاثًا: العصبية والقدرية والرواية، فإني أراها تزيد. تحذيره من التكلم أو الإفتاء بغير علم: وكان يحذِّر من التكلم بغير علم؛ لأن في ذلك افتراء على الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]، وحرَص على غرس ذلك في قلوب تلامذته حتى قبيل مماته، ذكر عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة أنه قال له في مرضه الذي مات فيه: يا أبا عثمان، إنا قد تعلمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئًا، فنرى أن رأينا له خير من رأيه لنفسه فنُفتيه؟ فقال ربيعة: أجلسوني، فجلس ثم قال: ويحك يا عبدالعزيز، لأن تموت جاهلًا خير لك من أن تقول في شيء بغير علم، لا، لا، لا، ثلاث مرات. من أقواله الحكيمية: • رأينا لمن بعدنا خير لهم من رأيهم لأنفسهم. • العلم وسيلة كل فضيلة. • الْمُرُوءَة سِتُّ خِصَال: ثَلَاثَة فِي الْحَضَر، وَثَلَاثَة فِي السَّفر، فَفِي الْحَضَر تِلَاوَة الْقُرْآن، وَعمارَة مَسَاجِد اللَّه، واتخاذ الْقرى فِي اللَّه، وَالَّتِي فِي السَّفر، فبذل الزَّاد، وَحسن الْخلق، وَكَثْرَة المزاح فِي غير مَعْصِيَّة. • مُنْتَهى الصَّبْر أن يكون يَوْم تصيبه الْمُصِيبَة مثله قبل أَن تصيبه. • من إخواننا من نرجو بركة دعائه، ولو شهد عندنا بشهادة ما قبلناها. عبادته وإقباله على الله عز وجل في بداية أمره: وكان رحمه الله مقبلًا على ربه مجتهدًا في عبادته، حتى قبل أن يعلو شأنه في العلم، بل إن ذلك ربما كان سبب سطوع نجمه، قال ابن زيد: مكث ربيعة بن أبي عبدالرحمن دهرًا طويلًا عابدًا، يصلي الليل والنهار، صاحب عبادة، ثم نزع عن ذلك إلى أن جالس القوم، فجالس القاسم فنطق بلُبٍّ وعقلٍ. رجاحة عقله وقدرته على استنباط الأحكام الفقهية: واشتَهر رحمه الله كما ذكرت من قبل برجاحة عقله، والقدرة على استنباط الأحكام الفقهية، وهي الحكمة التي قال عنها الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]؛ يقول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان القاسم إذا سئل عن شيء، قال: سلوا هذا لربيعة، قال: فإن كان شيء في كتاب الله أخبرهم به القاسم، أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلا قال: سلوا هذا لربيعة أو سالم. نصحه لتلامذته بالورع عند التحدث: وكان ينصح تلامذته بالورع عند التكلم عند الله عز وجل، فها هو يقول لمالك وهو يعده: مثل الذي يعجل بالفتيا قبل أن يتثبت، كمثل الذي يأخذ شيئًا من الأرض لا يدري ما هو. ويقول له أيضًا: قال لي ابن خلدة وكان نعم القاضي: يا ربيعة، أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك، فلا تكن هِمَّتُك أن تُخرجه مما وقع فيه، ولتكن هِمَّتُك أن تتخلص مما سألك عنه. ويردِّد على مسامع طلابه أن إياس بن معاوية قال له: إن البناء إذا بني على غير أُسٍّ، لم يكد أن يعتدل، يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على غير أصل يبني عليه كلامه. ويذكر لهم ما ينبغي أن يكون عليه طلاب العلم، فيقول: لقد رأيت مشيخة المدينة وإن لهم لغدائر وعليهم الممصر والمورد في أيديهم مخاصر، وفي أيديهم آثار الحناء في هيئة الفتيان، ودين أحدهم أبعد من الثريا إذا أريد على دينه. وقد سنَّ بذلك للعلماء بعده منهجًا عظيمًا ألا وهو نقل الخبرة لمن بعدهم مع نقل العلم ليتوارث الاثنان معًا. ويقول للزهري: إن حالي ليست تُشبه حالك، قال: وكيف، قال: أنا أقول برأيي، من شاء أخذه ومن شاء تركه، وأنت تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحفَظ. كرمه وسخاؤه: وكان رحمه الله كريمًا سخيًّا، وصار مضربَ المثل في ذلك، يقول ابن زيد: "وما كان بالمدينة رجل واحد كان أسخى نفسًا بما في يده لصديق أو لابن صديق، أو لباغ يبتغيه منه، كان يستصحبه القوم، فيأبى صحبة أحد إلا أحدًا لا يتزود معه، ولم يكن في يده ما يحمل ذلك. وكان من الأجواد، أنفق على إخوانه أربعين ألف دينار، وهذا مبلغ هائل؛ إذ يقدر في العصر الحديث بحوالي 150 ألف جرام ذهب؛ أي: 15 كيلو ذهبًا. يقول ابن وهب: أنفَق ربيعة على إخوانه أربعين ألف دينار، ثُمَّ جعل يسأل إخوانه فِي إخوانه، فقال أهله: أذهبت مالك وأنت دائب تخلق جاهك؟ قال: فقال: لا يزال هذا دأبي ودأبهم، ما وجدت أحدًا يعطيني على جاهي. وكان إذا مرِض فجلس في بيته وضع المائدة لعوَّاده، فلا تزال موضوعة، فكلما دخل إليه قوم يعودونه قال: أصيبوا أصيبوا، فلا يزال كذلك حتى يخرج، وذلك بكلفة. وقال سليمان بن بلال: دخلت منزل ربيعة وهو يريد الحج، فهو يتجهز لذلك، فرأيت رَحَّاءين يطحنان السكر. فراره من القضاء: كان شديد الورع لدرجة جعلته يفِر من القضاء وصحبة السلطان، ويمتنع عن عطائه وجوائزه، فقد طلبه المنصور، فذهب إليه من باب طاعة ولي الأمر، وهناك عرض عليه القضاء، ولكنه رفضه، فأمر له بعطية فلم يَقبلها، يقول مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبدالرحمن على أمير المؤمنين أَبي العباس، أمر له بجائزة، فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم يشتري بها جارية حين أبى أن يقبلها، فأبى أن يَقبلها. فعل ذلك وهو يعلم أن اتصاله بالأمراء قد يجلب له الصيت، ويكثر من أتباعه الذين يتتلمذون على يديه، ومن النوادر في ذلك أن بكر بن عبدالله الصنعاني قال: أتينا مالكًا فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال نعم، فقلنا: كيف حظي بك مالك وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما علِمتُم أن مثقالًا من دولة خيرٌ من حمل بعير من علمٍ. قدرته الفائقة على دحض أهل البدعة: وكان له قدرة فائقة على دحض الخصم، يقول أنس بن عياض: إن غيلان وقف على ربيعة، فقال: يا ربيعة، أنت الذي يزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال: ويلك يا غيلان، أفأنت الذي يزعم أن الله يعصى قسرًا؟ فهبت بعد ذلك غيلان، وانتهت - كما قال بعض العلماء - أقصر مناظرة في التاريخ. حرصه على الالتزام بالسنة: ورغم ما اشتَهر عنه من أخذ بالرأي، إلا أنه كان حريصًا على اتباع السنة والعمل بها، والتقيد بها في فقه؛ قال عبدالعزيز بن أبي سلمة: والله ما رأيت أحدًا أحوط لسنةٍ منه. اهتمامه بالسنة العملية المتواترة بالتناقل: وبجانب أخذه بالسنة النبوية، كان يأخذ بأعمال أهل المدينة المتوارثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويقول: ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد؛ لأن واحدًا عن واحد ينزع السنَّة من أيديكم. وفي رواية لمالك أنه كان يرى أن عمل أهل المدينة في أمر ديني هو رواية ألف عن ألف حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفها خبر آحاد كان ضعيف النسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فتقدم عليه. التقدير المتبادل بينه وبين العلماء: قال ابن القاسم عن مالك: قدِم الزهري فأخذ بيد ربيعة، ودخلا المنزل، فما خرجا إلى العصر، وخرج ابن شهاب يقول: ما ظننت أن بالمدينة مثل ربيعة. اعتزازه بالعلم وللعلم: وكان لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في مجلس يحمل وقار العلم، فقد ذكر أنه دخل على الوليد بن يزيد وهو خليفة، فقال الوليد: يا ربيعة، حدثنا، وربيعة هو شيخ الإمام مالك بن أنس، وهو مفتي المدينة قبل مالك، فقال ربيعة: ما أحدث شيئًا، فلما خرج من عنده قال ربيعة لأصحابه: أما سمعتم هذا الذي يقول: يا ربيعة حدثنا كأنه يقول: يا ربيعة غنِّنا. وعن مالك قال: قال لي ربيعة حين أراد الخروج إلى العراق: إن سمعت أني حدثتهم شيئًا أو أفتيتهم، فلا تعدني شيئًا، فكان كما قال لَما قدِمها لزِم بيته، فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى رجع. روايته من الأحاديث ما يدلل به آراءه الفقهية: ورغم ما شِيع عنه أنه من أهل الرأي، إلا أنه كان يستدل بالأحاديث على آرائه الفقهية، فعند حديثه عن قتْل المسلم بالمعاهد، يروي عَنِ ابنِ عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ. ويروي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد. كما كان يرجح في دلالة الحديث الفقهية، فهو يقول في حديث إرضاع الكبير: هذا الحديث مخصوص في سالم؛ مما يعني أنه لا يجوز تعميم حكمه. ويقول في حديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، إنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءًا للصلاة، ولا غسلًا للجنابة. أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: وكان ينصح كل مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ولو كان مقصرًا، ويقول: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء! استفاؤه لقلبه فيما يشك فيه: وكان يضع ميزانًا لقَبوله الأخبار التي يشك في صحتها قائم على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سَمِعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتَنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه»؛ الحديث في صحيح ابن حبان ومسند أحمد. نماذج من تفسيراته القرآنية: وكان في تفسيره للآيات القرآنية يقتصر على بيان ما يستخلص من الآيات من معانٍ فقهية ودلالية، فهو يقول في قوله تعالى: ﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا ﴾ [النور: 60]، هُنَّ العُجَّز اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية، ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾ [النور: 60] عند الرجال، يعني: يضعن بعض ثيابهنَّ، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار فلا يجوز وضْعُه. ويقول في تفسير قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [الأنعام: 152]، الأشُد: الحُلُم. وفاته: وقد توفِّي بالمدينة سنة ست وثلاثين ومائة، وقيل: سنة ثلاث ومائة، وقيل: توفِّي بالأنبار في رحلته إلى المنصور.
صاحبَ الفرزدق وداعًا في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي هناك عرفتُه، وفي ديوان الشيخ علي الصباح حزتُ شرفَ الجلوس بين يديه، وفي طريقةِ كلامِه عاينتُ النفَّاخ ( على ما حُكيَ لنا من ذلك )، وفي تحقيقه تبيَّنتُ كيف يكون التحقيقُ على أصولِه، وفي تعليقاته على أبيات الحماسة وشرحها للمرزوقيِّ أدركت أيَّ علمٍ وفهمٍ كبيرين وراءَه. إنه أستاذُنا الدكتور العلَّامة المَجْمَعي ( عضو مجمع اللغة العربية بدمشق ) صاحبُ الفرزدق محمد أحمد الدالي الذي وفَدَ على ربِّه صبيحةَ هذا اليوم بعد مُنازَلةٍ قصيرةٍ مع داء كورونا، عافانا الله وإياكم. أرى الموتَ يَعتامُ الكِرامَ ويَصطَفي عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّد في يوم الأحد 7 / 12/ 2014م اصطفاني أستاذي ووالدي الدكتور محمد حسان الطيان فاصطحبَني إلى ديوان الشيخ علي الصباح الأدبي في مِنطقة الدعية على شارع الخليج العربي الذي كان يُقام مساء كل يوم أحد، فيُقرأ فيه شرحُ المرزوقيِّ على أبيات الحماسةِ لأبي تمام. دلفتُ على وجَل، وتجوَّلتُ بنظري في أرجاء الديوان، وتأمَّلت وجوه الحاضرين أبحث عنه بكل سرور، فرأيت رجلًا عظيم الكتف، شَثْنَ الكفَّين والقدمين، خشِنَ الصوت، حانيَ النظرة، بشوشَ الوجه، دائمَ البِشْر، فقلت لشيخنا الطيان: هو ذاك؟ قال: نعم، إنه الدالي الذي طالما حدثتكم عنه. وبدأ المجلس فورًا، وراح يُعَلِّقُ، وفي المجلس أكابرُ القوم من أمثال الدكتور عدنان غزال، والدكتور محمد فؤاد نعناع، وحضر مرَّة أستاذنا الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية بالقاهرة سابقًا، ثم في اصطنبولَ الآن، فالكلُّ يقيِّد عنه، والكلُّ يسأله، والكلُّ يناقِلُه الرأيَ، وهو في كل ذلك مبتسم، يتقبَّل القولَ الآخرَ، ولا يتعصَّب لرأيه، ويستعين بمخطوطٍ يحملُه الدكتورُ عدنان غزال، في صورة قلَّ أن تجدَ لها مثيلًا اليومَ في عالم التعليم الخاصِّ أو العامِّ. ولما ألقيتُ في عام 2019م محاضرةً بعنوان ( هلمُّوا نختَلِفْ ) في كلِّية الآداب من جامعة الكويت طلبتُ التجوُّلَ في أقسام الكلِّية، وما القصدُ إلا زيارةَ الدكتور محمد الدالي والسلام عليه، ولا تسَلْ عن حسرتي إذ وجدتُّ بابَه مُوصَدًا، فقلت: قدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَلَ. ترك رحمه الله الكويتَ وجامعتَها في أوائلِ شهرِ آب (أغسطس) من عام 2020م، وعادَ السيفُ إلى قِرابِه، وحلَّ الليثُ منيعَ غابِه، في مِصيافَ التابعةِ لمحافظةِ حَماةَ، حيث ألقى عَصا التَّسْيار، وأقبلَ على صاحبِه الفرزدق، يجالسه ثانية، ويجاذبُه أطرافَ الحديث، فقد طالَ انتظارُ الطَّلَبة لهذا العملِ العظيم. وبعدها وفي كلِّ مناسبة كان أستاذنا الدكتور الطيان حفظه الله، يحدِّثنا عنه وعن عمله على ديوان الفرزدق، وأنه أمضى فيه خمسةَ عشرَ عامًا أو تزيد، وأنه أمسى في الأمتار الأخيرة منه، في الفهارس العلمية. وكنا نترقَّب مِثلَه إخراجَه إياه، ولكنَّ الموت اغتاله والمنيَّة اخترمَته. ولما سمعنا باقتحام الدَّاء عليه حَوْزَتَه، دعَونا ربَّ السماء له أن يَبَلَّ من مرضه، ويَتَعافى من هذا الضيف الثقيل، ولكن! .....................ولكن إذا جاءَ القَضا ضاقَ الفَضاءُ **** وإذا المنيَّة أنشَبَتْ أظفارَها ألفَيتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنفَعُ إن من يقرأ مقدِّماتِ كتب الدَّالي التي حقَّقها يعلمُ أيَّ رجلٍ كان؛ علمًا وفهمًا، وإخلاصًا لدينه ولغتِه وتراثِه، ووفاءً لأشياخِه. يقولُ في مقدِّمة تحقيقه لكتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة: "ولم آلُ جُهدًا في إخراج الكتاب على نحوٍ قريبٍ ممَّا وضعَه عليه المؤلفُ، وأرجو أن أكونَ وُفِّقتُ في إخراجِه على نحوٍ يرضاه العلماءُ وتَقَرُّ به عينُ مؤلِّفه رحمَه الله". وقال: "وبعدُ: فإن كان لا يُرادُ من الشُّكر توفيةُ حقٍّ أو قضاءُ دَينٍ؛ فإنني أتوجَّه بالشُّكر لمن شرَّفني الله بالتَّلمذةِ لهُ أستاذي إمام العربيةِ، علَّامة الشامِ أحمد راتب النفَّاخ الذي كان ولا يزال المَفزَع الذي أفزَعُ إليه، والجبلَ الذي آوي إليه، ولا أطمَعُ أن أفيَه حقَّه، فذلك ما إليه سبيل، شَكَرَ الله له، وأثابه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم حفظه الله. وليس شُكري له بِمُحَمِّلٍ إيَّاه وِزرَ ما اقترفتُ من خطأٍ في الكتاب، فأنا المسؤولُ عمَّا قد يقعُ فيه، والإنسانُ خطَّاء". (أدب الكاتب) لابن قتيبة، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1982م، بتحقيقه رحمه الله، ص 5، 6. وقال في مقدِّمته على (كتاب الكامل): "وقد لقيَتْ الطبعةُ الأولى التي صدرَت عام 1986م قَبولًا حسنًا، أثنى عليها جماعةٌ من أهل العلم والفضل، ورضيَ عن عمَلي فيها أستاذايَ الكريمان الفاضِلانِ العلَّامةُ الأستاذُ أحمد راتب النفاخ ، والعلَّامة الدكتور شاكر الفحَّام ، اللذان تولَّياني بالرعاية والتوجيه والتشجيع، وأستاذي الذي تتَّلمذتُ عليه في كتُبه ولمَّا أحظَ بلقائه فخرُ أهل العلم في مصرَ العلَّامة الشيخ محمود محمد شاكر ، ولا يُحيط شُكري لهم بفضلهم وكرمهم، ولكنِّي لا أملكُ لهم إلا الشُّكرَ والوفاء، شكر الله لهم وأثابهم وجزاهم خيرَ الجزاء. ولستُ أملكُ وقد اختارَ الله لجواره أستاذي علَّامةَ الشام وريحانتَها وخزانةَ علمها أحمد راتب النفاخ يوم الجمعة 11 شعبان ١٤١٢هـ / ١٤ شُباط ١٩٩٢م = إلا أن أدعوَ الله أن يتغمَّدَه برحمته ويرحمَه رحمةً واسعةً ويجزيَهُ الجزاءَ الأوفى، إنه سميعٌ مجيب". محمد أحمد الدالي مِصياف ۱ حَزیران ۱۹۹۲م، 1 ذو الحِجَّة ١٤١٢هـ. قال عنه أستاذُنا الدكتور محمد حسان الطيَّان حفظه الله، وهو العليمُ به الخبير: "هذا العلَم لا نظيرَ له في دنيا العربيَّة، ولو كنتُ أعلم له نظيرًا لدللتكُم عليه، فإليه المنتهى في علم التحقيق والتدقيق، لم أرَ عبقريًّا يَفْري فَرْيَه، ولم أرَ قارئًا للغة العرب يفهَمُ فهمَه، ولم أرَ محقِّقًا في مخطوطات العربيَّة يبلغ مَبلغَه، رَضِيَ بذلك من رَضِي، وسَخِطَ بذلك من سَخِط". وقال فيه الأستاذُ الدكتور محمد عبد المجيد الطويل عميدُ كلِّية دار العلوم بالقاهرة في تقديمه لكتابه (الحصائل): "هذا السِّفرُ الجليل الذي يشرِّفني أن أقدِّمَه لعشَّاق العربيَّة عملٌ قلَّ أن نجدَ له نظيرًا في هذا العصر، هذا العصرِ الذي فشَت فيه الرَّطانة، واستَشرَتِ العُجمة، وطغَت العولمة بلغتها وثقافتها محاوِلةً طَمسَ عُروبتنا وهُويَّتنا. هذا العصرِ الذي صارَ فيه القابضُ على لغته كالقابضِ على الجمر، يَفجَؤُكَ صُدورُ هذا العمل، وهو جبلٌ ضخمٌ من جبال العلم العربيِّ نحوًا ولغةً وأدبًا وثقافةً وبصرًا بأساليبها... إنه يذكِّرُنا بعصور العربيَّة الخالدة، وشُيوخها الكبار، ولا يبعد أن تقولَ: هذا نفَسٌ من أبي عليٍّ الفارسي، وهذا مثَلٌ من ثقافة ابن جنِّي، مرورًا بشُيوخ العلم في العصر الحديث". رحمك الله أبا أحمد ، وجزاك عن العربيَّة وآدابها خيرَ الجزاء وأتمَّه وأفضلَه. وأمَّا أنت سيِّدي أبا عمَّار الطيَّان، فلا أدري كيف أَجزيكَ هذه اليدَ البيضاء؛ لقد جعلتَني أقولُ عن الدالي دونَ تردُّد: ( أستاذي الدالي )، هكذا بمِلْء فمي. ونُنكِرُ إن شِئنا على النَّاسِ قولَهُم ولا يُنكِرُونَ القَولَ حينَ نَقُولُ الكويت 21 / 11 / 2021م
الإمام الشافعي ناصر السنة (2) رحلته إلى المدينة: قال عبدالغني الدقر في كتابه (الشافعي) ص67: (التهم الشافعي معظم ما في مكة من علم فأخذ عن الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وروى عن سفيان بن عيينة علم الحجا) الى آخر كلامه. إذًا لقد نال الشافعي علم مكة وعليه أن يرحل إلى المدينة موئل الفضلاء ومنزل العلماء، والمدينة أجل بلد حافظ على الطابع الإسلامي، ولم تصدر منه بدعة قط؛ يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها مَن هو مُضمر لذلك، فكان عندهم مهانًا مذمومًا). رحل الشافعي إلى المدينة لأخذ العلم على الإمام مالك بن أنس وعمره ثلاث عشرة سنة على الراجح، وكان مع الشافعي كتاب من والي مكة إلى والي المدينة، ثم إلى مالك يوصي بالشافعي، وكان مالك مهيبًا يهابه الأمراء، فلما رأى والي المدينة الكتاب قال: (إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيًا راجلًا، أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف ببابه). ولَما قرأ مالك الكتاب غضب وقال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالرسائل، فكلَّمه الشافعي كلامًا حسنًا، وكان لمالك فراسة، فقال للشافعي: (يا محمد، اتَّق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن)، ثم وافق مالك وقرأ الشافعي الموطأ على مالك في أيام يسيرة، وأعجب مالك بقراءته وإعرابه، وبَقِيَ الشافعي في المدينة حتى توفِّي مالك سنة 179 للهجرة، وهذا يعني أنه بقي ستة عشر عامًا عند مالك، وجمع ما عنده من حديث وفقه واجتهاد، بل جمع كل ما في المدينة من علم؛ يقول مصعب الزبيري عن الشافعي: (فما ترك عند مالك بن أنس من العلم إلا الأقل، ولا عند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمَعه)، وهذا القول ورد في معجم الأدباء لياقوت الحموي. وعندما نقرأ هذه الرحلة لا نكتفي بالسرد التاريخي، بل لا بد من التدبر والتمعن، وحينها نستفيد أشياء عظيمة؛ منها: مكانة علماء المدينة، وأن العلم لا يأتي إلا بالجهد والمثابرة والتعب، ومنها عدم التعصب للمذاهب الفقهية؛ لأن الشافعي كان يستطيع أن يكتفي بكونه فقيهًا مكيَّ المذهب، ولكنه تعِب واجتهد، وبقِي ستة عشر عامًا في المدينة يتعلم ويصابر ليصل إلى الحق؛ لأن الحق والصواب واحد لا يتعدد، كما نص على ذلك الأئمة رحمهم الله. رحلته إلى اليمن: عاد الشافعي من المدينة سنة 179 للهجرة، والظاهر أنه بقي فترة في مكة، ثم قدم حماد البربري والي اليمن إلى مكة، فكلمه بعض القرشيين في أن يصطحب الشافعي معه إلى اليمن، لعله يجد له عملًا، ويظهر من مجموع الروايات أن الذي كلم الوالي هو مصعب الزبيري، وبالفعل اصطحب الوالي الشافعي إلى اليمن، وعمل في البداية عملًا صغيرًا، فأُعجب الناس بإتقانه وحمدوه وشُهِر بينهم، حتى وصل الثناء عليه إلى مكة، وهكذا يجب أن يكون التقي المستقيم لا يستهين بمصالح الناس مهما كانت صغيرة، بل يقوم بعمله على أكمل وجه وأحسن أداء، وبعد هذا الإتقان زاد له الوالي فولاه نجران كما في توالي التأسيس، وهنا وقع أول اختبار لتقوى الشافعي، فقد كان في نجران قوم من أهل الظلم والتعدي على حقوق الناس، فأرادوا أن يصانعوه كما صانَعوا من قبله، فرفض ورد جميع المظالم إلى أهلها، فبدأ القوم في التآمر مع الوالي حماد البربري، وكان ظالِمًا على الشافعي حتى دبَّروا له مكيدة كادت تودي به لولا حفظُ الله، وأرسل الوالي إلى الرشيد يتهم الشافعي بمحاولة الخروج على الرشيد مع تسعة من العلوية (أحفاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وهنا درس جديد نتعلمه من حياة الشافعي، وهو أن المسلم يجب ألا يخاف في الله لومة لائم، ويجب أن يقيم العدل والقسط، رضِي مَن رضي، وسخِط مَن سخط كما فعل الشافعي، فهو حكم بالتقوى والعدل بلا خوف من أحد؛ لأنه يعلم أن من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس. مِحنته : حُمل الشافعي سنة 184 للهجرة إلى بغداد مكبلًا بالحديد بتهمة الخروج على الرشيد - وقل من ينجو إذا اتهم بهذه التهمة - ولَما وصل لزم باب الخليفة - يعني بقي ببغداد رهن الطلب - ولكنه ما رضي بالانتظار فقط، بل راح يتزود من العلم ويطلع على علم أهل الرأي، وفي هذه الفترة العصيبة لزم محمد بن الحسن - إمام أهل الرأي كما نعته الخطيب البغدادي - وكتب كتبه، فأي روح هذه! وأي صبر هذا! رجل متهم بتُهمة مصيرها القتل، ومع ذلك انصرف يتزود من العلوم وهو واثق من أن الله لن يضيِّعه. فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم ♦♦♦ إن التشبه بالكرام صلاح وبفضل صدقه وعلمه، فرَّج الله عنه محنته، روى أبو نعيم أن الشافعي تناظر مع محمد بن الحسن في بحث اليمين والشاهد ومباحث كثيرة، فعلت حجة الشافعي ومدح أهل المدينة بأسلوب جميل، وكان الرشيد قد عيَّن رجلًا يكتب ألفاظ الشافعي؛ ليرى مدى علمه، فأعجب الرشيد بعلمه وقال: (ما أنكر أن يكون محمد بن إدريس أعلم من محمد بن الحسن). ورضِي عنه وأمَر له بخمسمائة دينار، وزاد له هرثمة بن أعين - أحد القادة الشجعان - خمسمائة أخرة، فصارت ألفًا، وهكذا نجا الشافعي من هذه المحنة التي كادت تودي بحياته، وهنا نتعلم درسًا جديدًا هو فضل العلم، وكيف أن علم الشافعي أنجاه من هذه المحنة التي قلَّ مَن ينجو منها، وكفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح إذا نُسب إليه؛ كما قال الشافعي؛ (انظر مقدمة الديوان المجموع للشافعي). وبقي الشافعي في العراق بعد نجاته يتزود من العلم مدة طويلة، قدَّرها عبدالغني الدقر بخمس سنوات، جمع خلالها علم العراق وقفل عائدًا إلى مكة ينشُر ما في جَعبته من علم الحرمين والعراق واليمن، وراح ينظر فيها ليستخلص منها الحق والصواب، وهنا اتَّجه إلى الاجتهاد المطلق مقارنًا بين علم الأمصار، مختارًا أقواه حجةً، وأقربه إلى الكتاب والسنة بعقل فذٍّ وتعصُّب للحق وحده، لا للمذاهب والآراء. عودته إلى مكة : عاد الشافعي إلى مكة سنة 189 للهجرة إلى مكة جامعًا علم الأولين والآخرين من الفقهاء والمحدثين، وراح يؤصل الأصول ويقعِّد القواعد، ويتجه إلى الاجتهاد المطلق كما سلف، واتخذ حلقة في المسجد الحرام ينشر فيه فيها علمه واجتهاده، فجلس إليه كثيرٌ من ذوي المكانة الرفيعة يستمعون منه ويصغون إليه، ويأتيهم بجديد من علم الأصول والكليات، حتى شهِدوا له بالتفوق العلمي والعقلي، ومن هؤلاء إمام السنة أحمد بن حنبل الذي كان يترك مجالس الرواية، ويأتي إلى العالم الجديد الشافعي يسمع منه أصولًا وقواعدَ تدل على سَعة علم وعميق فَهمٍ، جاء في صفة الصفوة عن إسحاق بن راهويه قال: (كنت مع أحمد بمكة فقال لي: تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي)، بل حتى أعداء السنة شهدوا للشافعي بالتفوق والعقل، ومنهم الجهمي القدري بشر المريسي الذي قال عن الشافعي فيما رواه معجم الأدباء: (معه نصف عقل أهل الدنيا)، وهكذا ذاع صيت الشافعي وحلقته، وما يثار فيها من مباحث جديدة وعلوم مفيدة، حتى وصل إلى العراق، فكلف الحافظ الكبير عبدالرحمن بن مهدي من الشافعي الشاب أن يؤلِّف له كتابًا فيه معاني القرآن وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، فألف الشافعي الرسالة كما في معجم الأدباء. فانظر إلى هذه المكانة العلمية التي وصل إليها الشافعي وهو شاب، وكيف وضع الرسالة أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، وكيف استنبط هذه الأصول العظيمة وهو شاب، وبطلب من أحد أكابر الحفاظ، وشباب اليوم تجده في الأربعين وما يزال يندمج مع أفلام الكرتون؟ تأليفه للرسالة: تقدم أن عبدالرحمن بن مهدي طلب من الشافعي كتابًا في الأصول، فألف له الشافعي كتاب الرسالة، ورد في الانتقاء عن علي بن المديني أنه قال: (قلت للشافعي أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابك، فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك)، قال فأجابه الشافعي وكتب كتاب الرسالة وهو لم يسمِّه بهذا الاسم، وإنما سُمِّي كذلك؛ لأنه أرسلها إلى ابن مهدي ونقلها الحارث بن سريج، فسُمي النقال والرسالة، وبلا شك هو أول كتاب في تاريخ أصول الفقه، فالشافعي هو أول من أنشأ علم الأصول ودوَّنه بوصفه علمًا مستقلًّا، ولقد أجمع العلماء والفقهاء -كما يقول الدقر - على أن الشافعي أول من أنشأ علم الأصول. يقول الزركشي في البحر المحيط: (الشافعي أول مَن صنَّف في أصول الفقه، صنَّف فيه كتاب الرسالة وكتاب أحكام القرآن) إلى آخر كلامه. ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان: (الشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه). ويقول الإسنوي: (الشافعي أول من صنف في أصول الفقه بإجماع، وأول من قرر ناسخ الحديث من منسوخه). وجاء في معجم الأدباء عن الإمام أحمد أنه قال: (ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي). ويقول ابن عثيمين في الأصول من علم الأصول: (أول مَن جمعه كفنٍّ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله، ثم تابعه العلماء في ذلك). فأنت ترى بإجماع أن الشافعي أول من وضع علم أصول الفقه، وألَّف فيه كتابه العظيم الرسالة الذي ما زال الناس ينتفعون به في كل عصر ومصر، والرسالة أُلِّفت مرتين، الأولى في مكة وهي العراقية أو القديمة، والثانية في مصر وهي المصرية أو الجديدة، وهي المطبوعة والموجودة اليوم، وأما القديمة ففُقدت منذ زمن كما يقول الدقر، وتجد منها نصوصًا في كتب ابن القيم وابن الصلاح وغيرهما. فانظر رحمك الله كيف استنبط الشافعي هذا العلم العظيم الذي هو حاكم كل فن وهو شاب، وكيف ألَّف الرسالة وهو في سن مبكرة، واجعلوا يا شباب الأمة الشافعي وأمثاله قدوة لكم في العلم والعمل، وابتعدوا عن اللغو والباطل وعن كل ما لا يفيد، واهتموا رحمكم الله بمعالي الأمور واتركوا سفسافها. رحلته الثانية إلى العراق : رحل الشافعي مختارًا إلى بغداد سنة 195 للهجرة، والغالب كما يقول الدقر أن سبب الرحلة سبب علمي، فالشافعي يعرف بغداد وما فيها من علم، ويعرف المناظرات الدائمة ببن أهل الحديث وأهل الرأي، وقد أتى هذه المرة؛ ليعلن اجتهاده والطريق ممهدة له من جهة المحدثين، فقد جاء ينصر السنة ويدعم أهلها، ونزل حين أتى بغداد على أبي حسان الزيادي، وقيل: على الزعفراني كما في توالي التأسيس، ثم توجه الشافعي إلى الجامع الغربي، وفيه تعقد مجالس العلم، وراح يعرض أصوله وقواعده وموارد فقهه، فجلس إليه العلماء والمتعلمون بعضهم ممتحنًا لعلمه وبعضهم ساخرًا من المتفقه الجديد على حد زعمه، ورجع كثيرٌ من الناس عن مذاهبهم، وأذعنوا لقول الشافعي المؤيد بقوة الدليل وحسن البيان، ومن هؤلاء أبو ثور الذي قال: (كنت أنا وإسحاق بن راهويه وجماعة من العراقيين - ما تركتنا بدعتنا حتى جالسنا الشافعي)، وهذا القول رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، واستمر الشافعي يبهر الناس كلَّ يوم بجديد من فَهْم الكتاب والسنة، حتى أقر العلماء بفضله، وظهر أمره بين الناس، وانفكت أكثر حلقات المخالفين كما يقول إبراهيم الحربي، ولا ريب أن أكثر الناس استفادة منه في هذه الرحلة هم أهل الحديث، فقد ترك فيهم أثرًا عظيمًا جعلهم يثنون عليه بمختلف العبارات ولقبوه ناصر الحديث؛ كما في شذرات الذهب، فهم رأوا في الشافعي رجلًا واسع الفهم لكتاب الله، عميق الفهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذها من كبار المحدثين كالإمام مالك، والأهم أنه مهما يؤصل من أصل، أو يفرع من فرع يطرحه كله عندما تثبت السنة بخلافه، ولقد أثنى عليه أهل الحديث بكلمات كثيرة؛ منها ما قاله إمام السنة أحمد بن حنبل: (لولا الشافعي ما عرَفنا فقه الحديث)، وقال أحمد: (كان الفقه قفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي)، وقال الحسن الزعفراني: (كان أصحاب الحديث رقودًا، فأيقظهم الشافعي فتيقظوا). وبالجملة فقد أقبل المحدثون والفقهاء المنصفون على الشافعي إقبالًا منقطع النظير وأحبوه حبًّا، لم ينل بعضه عالم كما يقول الدقر، وعكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم؛ كما يقول النووي في التهذيب. وألَّف في هذه الفترة كتاب الحجة وهو كما في كشف الظنون: (مجلد ضخم ألفه بالعراق، وإذا أطلق القديم في مذهبه يراد به هذا التصنيف)، وهكذا بقي عامين في العراق ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله المخالف والموافق، ثم قفل عائدًا إلى مكة سنة 197 للهجرة، ولزم حلقته في المسجد الحرام يبث علمه وينشر أصوله، ومن هذه الرحلة نتعلم فوائد عديدة؛ منها: أهمية التمحيص في المسائل والأدلة حتى الوصول إلى الحق الموافق للسنة، فالشافعي ما ارتفع قدره إلا باتباعه للسنة وطرحه ما خالفها، ومنها الإقرار بالفضل لصاحبه، فأنت ترى كيف أقر أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد بفضل الشافعي عليهم، وفتحه لهم الأقفال، وبالفعل كانت هذه الرحلة أنفع رحلة وأجداها على الشافعي وعلى الناس؛ كما قال الشيخ عبدالغني الدقر. رحلته إلى مصر : عاد الشافعي إلى مكة وبقِي فيها فترة تجاوز السنة تخلَّلتها رحلة قصيرة إلى العراق دامت أشهرًا؛ كما في توالي التأسيس، وليس فيها جديد على الساحة العلمية، وفي عام 199 للهجرة رحل الشافعي إلى مصر بعد دعوة وجَّهها له العباس بن عبدالله بن العباس والي مصر؛ كما في معجم الأدباء، ونزل أولًا على أخواله الأزد، ثم على الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم الذي بلغ الغاية في إكرامه، وظل الإمام عنده حتى توفي، وفي هذه الرحلة أعاد النظر في كتبه، فجدد تأليف الرسالة، وألَّف كتاب الأم بدل الحجة، وإذا قيل: القديم في المذهب الشافعي، فإنما يراد به الحجة، وإذا قيل: الجديد، فالمقصود الأم، والمذهب الجديد المجموع في كتاب الأم، هو المعتمد عند السادة الشافعية، إلا في بضع عشرة مسألة اعتمدوا فيها القديم، وألَّف في مصر كتبًا لم يُسبق إليها كما يقول النووي؛ منها: كتاب الجزية وقتال أهل البغي وغيرها، ولم يبدل في مصر جميع أقواله، وإنما بدَّل بعضها ولا ضير عليه في ذلك، فالعالم المجتهد يدور مع الدليل حيث دار، والأئمة الثلاثة أحمد ومالك وأبو حنيفة كثيرًا ما بدلوا آراءهم عندما ثبت لهم سنة بخلافها. ولقد كانت حلقته في مصر من العجائب في تنوُّع علومها، فقد كان يجلس في الحلقة بعد صلاة الفجر، فيختلف إليه التلاميذ من كل صنفٍ، يتقدمهم أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس جاء أهل الحديث، فإذا ارتفعت جاء أهل المذاكرة، وانظر فإذا ارتفع الضحى جاء أهل العربية والشعر، ثم ينصرف الشافعي؛ كما جاء في معجم الأدباء نقلًا عن الربيع المرادي. ولقد ظل الشافعي ينشر علمه واجتهاده، حتى اعترف بفضله العلماء، وأخذوا عنه علمه، وأثنوْا عليه بما هو أهله؛ يقول الفقيه المالكي عبدالله بن عبدالحكم: (ما رأيت مثل الشافعي، وما رأيت رجلًا أحسن استنباطًا منه). ويقول النووي في التهذيب عن رحلته هذه: (وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من سائر النواحي والأقطار للتفقه عليه، وساد أهل مصر وغيرهم). ولقد ترك الشافعي في مصر تلاميذَ كُثرًا نشروا علمه ومذهبه؛ منهم الربيع راوية كتبه والمزني والبويطي، وفي مرض موته استخلف على حلقته يوسف بن يحيى البويطي معلمًا وناشرًا للمذهب، وقال كما في طبقات السبكي: (ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف - هو البويطي - وليس أحد من أصحابي أعلم منه). ولقد كان البويطي إمامًا جليلًا توفِّي في محنة خلق القرآن سنة 231 للهجرة كما في طبقات السبكي، وفي هذه الرحلة رابط الشافعي في ثغر الإسنكدرية، فقد كان يصلي الصلوات الخمس، ثم يخرج إلى المحرس، فيستقبل البحر بوجهه وهو جالس يقرأ القرآن؛ كما في توالي التأسيس، ومن هذه الرحلة نتعلم أشياءَ كثيرة؛ منها: أن التقي لا يرى حرجًا في تبديل بعض أقواله إذا خالفت الأدلة؛ كما فعل الشافعي حين أعاد النظر في كتبه، ومنها أن العلم لا يُمكن أن ينفك عن العمل، فالشافعي لم يكتف بإملاء الوعظ على الناس فقظ، بل خرج بنفسه ورابَط في الثغر، بالرغم من أوجاعه، ولقد أحسن القائل: وعالم بعلمه لم يَعمَلنْ ♦♦♦ معذَّبٌ مِن قبلُ عبَّاد الوَثَنْ مرضه ووفاته : ظهرت علة البواسير في الشافعي خلال فترة إقامته في مصر، والباسور ورم في باطن المقعدة؛ كما في فتح الباري، وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف، وكان لا يبرح الطست تحته من شدة النزيف، ورد في التهذيب عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال: (ما رأيت أحدًا لَقِيَ مِن السقم ما لقي الشافعي)، ومن العجائب أن الشافعي كان يعاني من هذه البواسير بهذه الشدة، ومع ذلك ترك كل هذه الحصيلة العلمية في مصر وترك من اجتهاده ما ملأ عشرات المجلدات، مع عدم انقطاعه عن الدروس والأبحاث، أفليس في هذه القدوة العظيمة ما يبهر الألباب ويدهش العقول؟! وفي عام 204 للهجرة ألح على الشافعي المرض، واشتد عليه النزيفُ ووقف الموت ببابه ينتظر انتهاء الأجل، وفي حال احتضاره، دخل عليه تلميذه المزني، فقال له: كيف أصبحت؟ قال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلًا وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله جل ذكره واردًا، ثم أنشد: ولَما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّمَا تعاظَمَني ذنبي فلما قرَنته بعفوك ربي كان عفوك أعظمَا وفي توالي التأسيس قال الشافعي لحرملة وهو يحتضر: (اذهب إلى إدريس العابد، فقل له: يدعو الله عز وجل لي). وبعد صلاة العشاء في آخر يوم من رجب سنة 204 للهجرة توفِّي الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن أربعة وخمسين سنة بالتمام والكمال، وحُمل يوم الجمعة على الأعناق من الفسطاط حتى مقبرة بني زهرة؛ حيث دفن هناك كما في تاج العروس، وقبره هناك مشهور معروف، وبجانبه قبر عبدالله بن عبدالحكم الفقيه المالكي؛ كما في معجم الأدباء، ولقد حزن الناس حزنًا شديدًا على وفاته، وخيَّمت الكآبة على وجوه العلماء وطلبة العلم، ورثاه الكثير بروائع الأبيات؛ منها ما ورد في تاج العروس عن أحد الشعراء قال: أكرِم به رجلًا ما مثله رجل مشارك لرسول الله في نسبه أضحى بمصر دفينًا في مُقَطَّمها نعم المقطم والمدفون في تربه وبذلك طُويت صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، وغاب قمر من الأقمار الساطعة، فرحم الله الشافعي، ورضي عنه، وجزاه كل الخير على ما قدَّمه للإسلام والمسلمين. وفي مقال قادم إن شاء الله، نتحدث عن حياة الشافعي العلمية وفقهه واجتهاده وعقيدته، وغير ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. المصادر والمراجع: الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر، عبدالغني الدقر. الشافعي آراؤه وفقهه، محمد أبي زهرة. آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم. توالي التأسيس، الحافظ ابن حجر. طبقات الشافعية الكبرى، التاج السبكي. معجم الأدباء، ياقوت الحموي. حلية الأولياء، أبي نعيم الأصفهاني. الانتقاء، ابن عبدالبر. صفة الصفوة، ابن الجوزي. وفيات الأعيان، ابن خلكان. المجموع، شرح المهذب النووي. تهذيب الأسماء واللغات، النووي. تاج العروس، الزبيدي. مجموع الفتاوى، شيخ الاسلام ابن تيمية. كشف الظنون، حاجي خليفة. الأصول من علم الأصول، محمد بن صالح العثيمين.
سياسة النفوس من درر السلوك للإمام الماوردي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فلا يخفى أهمية مجاهدة الإنسان لنفسه؛ لأنه إن لم يفعل ذلك فإنها قد تورده المهالك، فالإنسان إذا غفل عن مجاهدة نفسه زيَّنت له فعل الأعمال السيئة، فلا بد من دوام المراقبة، وعدم الغفلة عنها، ولذلك وسائلُ متعددة، منها: القراءة في كتب أهل العلم الذين تكلموا عن سياسة النفس، وممن تكلم عن ذلك الإمام الماورديُّ، رحمه الله، فله كتاب بعنوان "درر السلوك في سياسة الملوك"، ضمَّنه فصلًا نافعًا عن سياسة النفس، وقد يسَّر الله الكريم لي فانتقيت بعضًا مما ذكره، أسأل الله أن ينفعني والجميع بما جمعت وانتقيت. إصلاح الأخلاق المذمومة بالتأديب والتدرج: اعلم أن الإنسان مطبوع على أخلاق قلَّ ما حُمد جميعها، أو ذُم سائرُها، وإنما الغالب أن بعضها محمود، وبعضها مذموم، قال الشاعر: وما هذه الأخلاقُ إلا طبائعٌ *** فمنهنَّ محمودٌ ومنها مُذَمَّـــمُ وليس يُمكن صلاح مذمومها بالتسليم إلى الطبيعة، إلا أن يرتاض لها رياضة تأديب وتدرُّج، فيستقيم له الجميع. البداية تكون بسياسة الإنسان نفسه: إذا بدأ الإنسان بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر، وإذا أهمل مراعاة نفسه كان بإهمال غيره أجدر؛ قال بعض الحكماء: "من بدأ بسياسة نفسه، أدرَك سياسة الناس". وقد قيل في منثور الحكم: لا ينبغي للعاقل أن يطلب غيره، وطاعةُ نفسه ممتنعة. عدم إحسان الظن بالنفس، والرضا عنها: ربما حَسُن ظن الإنسان بنفسه فأغفل مراعاة أخلاقه، فدعَاهُ حُسنُ الظن بها إلى الرضا عنها، فكان الرضا عنها داعيًا إلى الانقياد لها، ففسد منه ما كان صالحًا، ولم يصلُحْ منها ما كان فاسدًا؛ لأن الهوى أغلبُ من الآراء، والنفس أجور من الأعداء؛ لأنها بالسوء أمَّارة، وإلى الشهوات مائلة. ولحسن الظن بها أسبابٌ؛ فمن أقوى أسبابه الكِبرُ والإعجاب، وهو بكل أحد قبيح؛ لأنه دالٌّ على صغر الهمة مخبر بعلو المنزلة، وكفى بالمرء ذمًّا أن تكون همته دون منزلته. الفرق بين الكبر والإعجاب: فأما الكِبر والإعجاب فقد يجتمعان في الذم، ويفترقان في المعن؛ فالإعجاب يكون في النفس، وما تظنه من فضائلها، والكبر يكون بالمنزلة، وما تظنه من علوِّها. أسباب الكبر والإعجاب: للكبر أسباب، فمن أقوى أسبابه: علوُّ اليد ونفوذ الأمر، وقلة مخالطة الأكْفاء. وللإعجاب أسباب، فمن أقوى أسبابه: كثرة مديح المقرَّبين... فحكم الممدوح بكذب قولهم على صدق عمله. كتمان السر: كتمان السر من أقوى أسباب الظفر، وأبلغ في كيد العدو، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استعينوا على الحاجات بالكتمان) [1] ، وقال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: سِرُّك أسيرُك، فإذا تكلَّمتَ به صرتَ أسيرَه. وليعلم أن من الأسرار ما لا يستغني فيها عن مطالعة وليٍّ مخلص، واستشارة ناصح، فليتحفظ فيها، وليختر لها أمناءها. دلائل الوقار: إذا كان الوقار محمودًا، وكان الإنسان به مأمورًا، فواجبٌ أن نصف منه فصولًا دالة. فمن ذلك: قلة التسرع إلى الشهوات، والتثبت عند الشبهات، واجتناب سرعة الحركات، وخفة الإشارات، ثم إطراق الطرْف، ولزوم الصمت فإنه أبلغ في الوقار. قال بعض البلغاء: الزم الصمت؛ فإنه يكسوك صفو المحبة، ويؤمنك سوء المغبة، ويُلبسكُ ثوب الوقار، ويكفيك مؤنة الاعتذار. قال ملك الفرس: إذا تكلَّمتُ بالكلمة ملَكتْني ولم أملكها. وقال ملك الهند: أنا على رد ما لم أقُل أقدَرُ مني على ردِّ ما قلتُ. وقال ملك الصين: ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت. وليعلم أن الحاجة إلى الصمت أكثر من الحاجة إلى الكلام؛ لأن الحاجة إلى الصمت عامة، والحاجة إلى الكلام عارضة؛ فلذلك وجب أن يكون صمتُ العاقل في الأحوال أكثرَ من كلامه في كل حال. حُكي أن بعض الحكماء رأى رجلًا يكثر الكلام، ويقلُّ الصمت، فقال له: إن الله تعالى إنما جعل لك أذنين ولسانًا واحدًا؛ ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به. وقلَّ مَن كثر كلامه إلا كثر ندمه، وقد قيل: من كثر كلامه كثرت آثامه، ولا ينبغي أن يعجب بجيد كلامه، ولا بصواب منطقه؛ فإن الإعجاب به سبب الإكثار منه. وقد قيل: من أُعجب بقوله أصيب بعقله. الحذر من الغضب: يحذر الغضب ويتجنبه؛ فإنه شرٌّ قاهر، وأضرُّ معاند، وليس يفسد الأمور وينتقص التدبير إلا عند غلبته، وشدة فورته، فإنْ مُنِيَ به فلا يُمضِ فعلًا، ولا ينفذ حكمًا حتى يزول. الصبر وأقسامه: أول أقسامه: الصبر على ما فات إدراكه من نيل الرغائب، أو نقصت أوقاته من نزول المصائب، وبالصبر في هذا تستفاد راحة القلوب، وهدوء الحواس، وفقدُ الصبر فيه منسوب إلى شدة الأسى، وإفراط الحزن، فإنْ صبر طائعًا، وإلا احتمل كارهًا همًّا لازمًا، وصار إثمه لعمله راغمًا. وثاني أقسامه: الصبر على ما نزل من مكروه أو حلَّ من أمر مَخُوف... وفي مثله قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]. وثالث أقسامه: الصبر في ما ينتظر ورودَه من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثَه من رهبة يخافها، وبالصبر والتلطف في هذا يدفع عادية ما يخافه من الشر، وينال نفعَ ما يرجوه من الخير. وفي مثله قالت الحكماء: من استعان بالصبر نال جسيماتِ الأمور. المشورة: قال بعض الحكماء: الاستشارةُ عينُ الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه. وقال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمع إلى عقله عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفردُ ربما ضلَّ. وتكثر من استشارة ذوي الألباب، لا سيما في الأمر الجليل؛ فإن لكل عقل ذخيرة من الصواب، ومسكنًا من التدبير، ولقلما يضل عن الجماعة رأيٌ، ويذهب عنهم الصواب. وقال بعض الحكماء: الاستسلام لرأي المشير هو العزل الخفي، فإذا أظهروا من مكنون آرائهم سبرها برأيه، واختبرها بعقله، وسألهم عن أصولها وفروعها، وباحَثَهم عن أسبابها ونتائجها. فإذا تقرر له الرأي أمضاه. تجنب الحسد: ظاهر الحسد أقبح من باطنه، وباطنه أضرُّ من ظاهره؛ لأنه في الظاهر شدة الأسى على الخير أن يكون للناس الأفاضل، وهذا قبيح في الظاهر... وباطنه أنه مغم للنفس، كدود للجسد، غير جالب لنفع، ولا دافع لضرر، ولا مؤثِّر في عدو. المنافسة: فأما المنافسة فهي غيرُ الحسد، فلا بأس أن يتنافس الأكْفاء في فضائلهم، وربما غلط قوم فظنوا أن المنافسة في الخير هي الحسد، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن المنافسة طلبُ التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر على الفاضل، والحسد مصروف إلى الضرر؛ لأن غايته أن يعدم الفاضل فضله، فهذا هو الفرق بين المنافسة والحسد. تصفح الأعمال: ليكن من رأيه أن يتصفح في ليلته ما فعله في نهاره، فإن الليل أجمع للفكر، وأحضر للخاطر، فإن كان صوابًا أحكمه وأمضاه، وإن كان قد مال فيه عن الصواب بادَر إلى استدراكه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل. وليكن مع ذلك متصفحًا لأفعال غيره، فما أعجَبَه من جميلها، واستحسنه من فضائلها، بادَر إلى فعله، وزيَّن نفسه بالعمل به؛ فإن السعيد من تصفَّح أفعال غيره فانتهى عن سيئها، واقتدى بأحسنها، فنال هنيء المنافع، وأمن خطر التجارب. الناس في الخير أربعة: الناس في الخير أربعة: منهم: من يفعله ابتداءً، ومنهم: من يفعله اقتداءً، ومنهم: من يتركه حرمانًا، ومنهم: من يتركه استحسانًا. فمن يفعله ابتداءً فهو كريم، ومن يفعله اقتداءً فهو حكيم، ومن يتركه حرمانًا فهو شقي، ومن يتركه استحسانًا فهو رديء. فوائد مختصرة: • قال بعض الحكماء: من رضي عن نفسه، أسخط عليه الناس. • لقد أصاب من كانت عقوبته للأدب، وأخطأ من كانت عقوبته للغضب. • على الناصح الاجتهاد، وليس عليه ضمان النجاح. • الامتنان على الإحسان من ضيق النفس، وتابع لفساد الأخلاق. • الفأل محمود؛ لأن فيه تقوية للعزم، وباعثًا على الجد. • لا تفتح بابًا يُعييك سدُّه، ولا ترمِ سهمًا يُعجزك ردُّه، ولا تُفسد أمرًا يعييك إصلاحه، ولا تغلق بابًا يُعجزك افتتاحه. • الرجوع إلى الحق أولى من المُقام على ما سواه، لمن علم وضوح حجتِه. [1] الحديث: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود))؛ أخرجه العقيلي في الضعفاء، والطبراني في معاجمه الثلاثة، والبيهقي في شعب الإيمان، وغيرهم، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الثالث، رقم الحديث:1453، وكذا صححه في صحيح الجامع برقم: 943.
جَبَلٌ آخَرُ يَنْهَدُّ في رحيل العلامة محمّد أحمد الدّالي جَبَلٌ آخَرُ يَنهَدُّ مِن جبالِ العِلْمِ مُمتَدُّ شامخٌ صَلْدٌ يُلاذُ بهِ كيفَ مالَ الشَّامِخُ الصَّلْدُ؟ كان دَوْحًا يُستَظَلُّ بهِ عِندَهُ الرَّيحانُ والوَردُ عندَهُ ما شِئتَ مِن كرَمٍ عندَهُ الإخلاصُ والجِدُّ وله وَجْدٌ بكلِّ عُلا ولَدى العَلْيا بهِ وَجْدُ سيِّدٌ والعِلْمُ قِبلَتُهُ فَهْوَ في مِحرابِهِ عَبدُ ناسِكٌ للهِ مُجتَهِدٌ ساكِنٌ في خَلْوةٍ فَرْدُ أُنسُهُ في مَعشَرٍ سَبَقُوا شَرعُهُم في اللَّذَّةِ الزُّهدُ والْتِذاذٌ بِاجتِناءِ هُدًى واجْتِنابٍ لِلهَوى بَعدُ أَخلَصُوا للهِ واحتَسَبُوا والرِّضا المَطْلوبُ والقَصْدُ فَهْوَ يَجزيهِمْ جَزاءَهُمُ والدَّليلُ الحُبُّ والوُدُّ حُبُّهُمْ والوُدُّ يَغْرِسُهُ والثَّناءُ الحَقُّ والحَمْدُ ربَّنا فاقبَلْ تَنَسُّكَهُ ما لِما قَدَّرْتَهُ رَدُّ وعَلى (مِصيافَ) صَوْبُ حَيًا لِفَقيدٍ فَقْدُهُ الفَقْدُ
جبَلُ العربيَّة الأشمُّ انصَدَع في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي يقولون حِصنٌ ثم تأبى نفوسُهم وكيف بحِصنٍ والجبالُ جُنوحُ ولم تَلفِظِ الأرضُ القبورَ ولم تَزُلْ نجومُ السَّماء والأديمُ صَحيحُ فعمَّا قليلٍ ثمَّ جاش نَعِيُّه فباتَ ندِيُّ القوم وَهْوَ يَنوحُ [1] أيُّ دمعٍ ينسكِبُ يُبرِدُ غُلَّة قلبيَ الحرَّان الذي أضناه فَقدُك؟ وأيُّ نصوصِ العربيَّة التي أوقَدتَّ حُبَّها فيَّ تنهَضُ لرثائك؟ وأيُّ جِراحٍ نافذةٍ تركَ رحيلُك في جسَدي؟ وكيف أكتبُ عنك ودمعي يسبِقُ قلمي، وقلبي يوشِكُ أن ينفَطِرَ أسًى على فَقدِك، وعقلي ذاهلٌ لا يُصدِّقُ أن يدَ المنون اختطفَتك؟ وكيف لبَقْلٍ أن ينهدَ لوصف نخلٍ طِوالٍ؟! ومَن أعزِّي فيكَ وأنا المُعزَّى بي؟ أأُعزِّي العربيةَ وكتابَها الباقيَ، وأشعارَ فرسانها، وكنوزَ ألفاظها؟ ماذا أكتبُ عنك وفمي مرٌّ وقد ظفِرَ الحزنُ بالسُّرور؟ وبِمَ أبكيكَ وقد تقَرَّحَت مُقلتايَ أسفًا عليكَ وعلى العربية التي اربَدَّ وجهُها وترمَّلَت بعدَ ترجُّلِ فارسِها؟ مَن يُشبِهُكَ يا زينةَ العلماء؟ مَن يدنو من نفسِكَ التي لا سماءَ لها شَممًا وكبرياء؟ قد رأيتُك وعرفتُك ثلاثةً وعشرينَ عامًا ما اختلفتَ عليَّ يومًا، وقد كنتَ تأَنُف أن تضعَ قدمَكَ في الموضع الذي مَرَّغ غيرُك فيه الجِباه؟ أنَّى لعَجْزي الآنَ أن يكتبَ عنكَ، والكتابةُ عنكَ إنما هي كتابةٌ عن تاريخ هذه الأمَّة بقِيَمِها ورِجالها الكبار، وعن كِتابها وعُلومه المختلفات؟ أيُّ غُولٍ غالكَ أزهَى ما كانت أحلامُكَ العِتاقُ في خِدمة هذا اللِّسان متألِّقةً واثبةً لا تعرفُ إلا الرَّصانةَ والهمَّة الحَذَّاءَ الماضية؟ أيُّ موتٍ هذا الذي يَعتامُ كرامَ الناس ويُخطِئُ طَغامَهُم؟ لا دَرَّ دَرُّ نباتِ الأرضِ إذ فُجِعَت بالأَلمعِيِّ لقَد أبقَت لنا أسَفا عِشْ ما بَدا لكَ في الدُّنيا فلستَ تَرى في النَّاسِ منهُ ولا في عِلمِه خَلَفا عرَفتُه في أيلولَ من عام 1998 أيام كنت طالبًا في دبلوم الدِّراسات العُليا، وكان قد اسَّاقطَ إليَّ بعضٌ من خبره وعلمه، وفُتِنتُ بتلك الكلمةِ الغرَّاء التي حبَّرها في رثاء أستاذه العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ ريحانةِ الشَّام وخزانة علمها، كما كان يحبُّ دائمًا أن يذكُرَه. شامَ فيَّ خيرًا فأزلفَني منه، وما زال يُتحفُني بما حقَّقه من أصول العربية الجِياد: (سِفر السَّعادة وسَفير الإفادة) للسَّخاوي، و (الإقناع) للمُطَرِّزي، و (أخبار في النحو) ، و (كشف المشكلات وإيضاح المعضلات) لجامع العلوم، وسِواها ممَّا أخرجَ من أصول العربية العِتاق الأُوَل. ثم دَعاني أن أمشيَ معه عَقِبَ محاضرة السنة الأولى التي كانت يومَ الاثنين الساعة الثانية، وسألني كيف أنتَ في المشي؟ فقلتُ: لا بأسَ. فقال: أمَّا أنا فما من أحدٍ ماشَيتُه إلا مَشَيتُه! وكان رحمهَ الله ذا بسطة في الجسم. وكان أن مَشَينا معًا من كلِّية الآداب إلى دار البشائر دوحةِ الباحثين والعلماء في شارع 29 أيَّار، ولقِينا من صاحبِها الأستاذ عادل حسين عسَّاف أجملَ تَرحيب. وتتوالى الأيَّامُ ويستَحكِمُ الحبُّ بيني وبينه، فكان إن أرادَ أن يُصيبَ طعامًا في مَطعَم شعبي في الحلبوني سُوق الكتب والورَّاقين اصطَحَبَني معه بنفسٍ تسُحُّ وُدًّا، وتقطُر سماحةً، فإذا أمَّ مكتبةً يتفقَّد فيها ما طُبع جعلَ يشتري نسختَين ممَّا يختارُ واحدةً له وواحدةً لي، وكم من أثرٍ نفيس يقبَعُ في مكتبَتي دلَّني عليه أو اشتراه لي، أو أهداه إليَّ ممَّا تكرَّر عندَه من الأصول. ثم شرَّفَني الله في مرحلة الماجستير، فكنتُ أوَّلَ طالب يتولَّى الإشرافَ عليه في حياته الأكاديمية، وكان يُؤثِرُني بقراءة ما يكتبُه من مقالاتٍ أو تحقيقات. ثم كانت استقالتُه من الجامعة في 14 أيلول 2001م، ولذلك وما إليه أسبابٌ ما له منها مِن سبب، وكان يُنشِدُني قولَ أبي سُليمان الخطَّابيِّ: وإنِّي غَريبٌ بينَ بُسْتَ وأهلِها وإن كانَ فيها أُسرَتي وبها أَهلي وما غُربةُ الإنسانِ من شُقَّةِ النَّوى ولكِنَّها، واللهِ، في عَدَمِ الشَّكْلِ فأيقَنتُ أنَّه كان يَضيقُ ذَرعًا بمَن حوله، ويُنكر انصرافَهُم إلى غير العلم، وابتغاءَهُم غيرَ العربية سبيلًا. ثم اتَّفَقَ سفرُه إلى الكويت، ولم تنقطِع أسبابُ الرَّحِم بيننا، وكان يُراوِدُني حنينٌ إلى مَجلِسه الرَّصين في بيته في المِنطَقة الصِّناعية أو غُرفته التي كان قد استأجرَها في الشَّعْلان سنينَ عددًا، وأتذكَّرُ قولَ الدكتور شاكر الفحَّام فيه: ولقد أُعجِبتُ بهذا الشابِّ المُكتَهِل في شَبيبته جِدًّا ورَصانةً وانصرافًا إلى العلم، جَذَعَ البصيرة قارِحَ الإقدام. كان - ولا زالَ رَيحانٌ على مُنتهاه - لا يخلو حديثُه من فائدةٍ حتى لو حدَّثك عن نمَطٍ من الثياب، أو ضَربٍ من الطعام، أو شيءٍ من القِرطاسيَّة التي كان مِفَنًّا بها وله بها كلَفٌ، يتأتَّى في كلِّ ذلك، وكان فيه أنيقًا غايةَ الأناقة. أنتظرُ عُطلةَ منتصَف العام، فما إن يُغادر مِصيافَ إلى دمشقَ حتى يُخبِرَني باللِّقاء في دوحة البشائر التي كانت آثرَ موضعٍ له بالشَّام، حتى إذا انعقدَ المجلسُ لا يفتأُ يحدِّثُك بالدُّرَر والغُرَر التي اتفقَت له سَحابةَ عمله الدَّؤوب، وذلك من ثمار النظَر الدَّائم في الجديد من المصادر، وكان من أوَّل الأشياء التي نبَّهَني عليها: العلمُ اليومَ هو علمُ المصادر . وقد قالَ لي حينَ وقفَ على رسالة الماجستير: أعرفُ عملَكَ قبل أن أرى آثارَهُ على الوَرَق. حتى إذا أطلَّ الصَّيفُ وانقلبَ من الكويت إلى مِصياف جعلَ لدمشقَ حِصَّة، وكانت حِصَّتي منها أوفَى الحِصَص. يبسُط بين يدَيَّ كنوزَ العربية، ويحنو عليَّ كما تحنُو على الولد الأمُّ؛ يشتري ليَ الثَّوبَ كما يشتريه لنفسه، ويخُصُّني بما يحبُّ من الطعام. أيُّ رجلٍ أنتَ يا سيِّدي؟ يا من صَنعَني على عينيه! من نحو أُسبوعَين جرَت بيننا مُكالمةٌ مرئيَّة استمرَّت ساعةً لم يُفسِدها إلا انقطاعُ الكهرَباء، ذكرَ لي فيها أنه يفرُغ فراغًا من تحقيق ديوان الفرزدق بشرح السُّكَّريِّ في آذارَ القادم بإذن الله، ثم سيضَعُ قلمَهُ في تحقيق المخصَّص هذه المدَوَّنة اللُّغَوية الضَّخمة التي أتمَّ تنضيدَها وتصحيحَها واجتلابَ أُصولها. وما قولُكَ في عالم يُسدِّد أقوالَ الفرزدق ويُناقشها ويُفاتشها، وينصُّ على (فرزدقيَّاتها) التي تمرَّد فيها على مقاييس العربية، ويقوِّمُ ما اضطرَبَ فيه ابنُ حبيب، ويصحِّح أوهامَ السُّكَّري في الأنساب والرِّجال وتحلية المواضع؟ أنت تقفُ أمام طَودٍ شامخٍ من رَعيل الصَّدر الأوَّل، وكأنِّي بالخليل لو رآه لسُرَّ به، وأَدنى مجلسَه، وآثرَه على صاحبِه سيبويه، وتطلَّق وجهُه حُبورًا لما يسمعُه منه. هذا إلى سَماحةِ نفسٍ وجودِ طَبعٍ وشرفِ أصل، وكم من مرَّة غَرِمَ عنِّي، وحملَ ما آدَني حَمْلُه، لأبقى ماضيًا كالشِّهاب. أشهَدُ أنَّه واحدٌ من أفذاذ الرِّجال في تاريخ هذه الأمَّة، وأنَّه غُرَّةٌ شادِخةٌ على جَبينها، وأنَّه إمامُ المحقِّقينَ في عَصرنا؛ اجتمعَ فيه من قوَّة النظر وحدَّة الذَّكاء واكتِناه أسرار هذا اللِّسان ما لم يجتمع لأحدٍ عرَفتُه. وفي عُنقي أن أضعَ سيرتَكَ العاطرةَ في كتابٍ أقيِّدُ فيه ما عرَفتُه عنكَ، وما تعلَّمتُه على يدَيك الطَّاهِرَتَين، وإن أنا إلا صَنيعَتُك، وبَضعةٌ منك يا والدي. مَضَى طاهِرَ الأثوابِ لم تَبْقَ رَوضَةٌ غَداةَ ثَوى إلا اشتَهَتْ أنَّها قَبرُ الدكتور الدالي رحمه الله في دار البشائر بدمشق، وعن يمينه الأستاذ عادل عساف صاحب الدار وعن يساره طلَّابه: محمد عبد الله قاسم، وعماد بيازيد، ومحمد ماجد الحمَوي، وضياء الدين القالش [1] قال ابن السِّيْد البَطَلْيَوسي في (الحُلَل في شرح أبيات الجُمَل): "أراد [أي النابغة الذُّبياني] أنهم يقولون: ماتَ حصنٌ [حصنُ بن حذيفة بن بدر]، ثم يستعظِمون أن ينطِقُوا بذلك، ويقولون: كيف يجوزُ أن يموتَ والجبالُ لم تُنسَف، والنجومُ لم تنكَدِر، والقبورُ لم تخرُج مَوتاها، وجِرمُ العالم صحيحٌ لم يحدُث فيه حادث؟!". فلم يلبث أن صحَّ الخبرُ بارتفاع نعيه، فناحَ عليه القومُ في ناديهم نُواحًا.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الحروب - البغضاء) أجرت مجلة التسامح مقابلة مع برنارد لويس المستشرق البريطاني الأصل والأمريكي الجنسية [1] ، وهي مجلة علمية إسلامية فكرية تصدر عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بسلطنة عُمان، أكد فيها هذا المستشرق المعروف جدًّا لدى المهتمين بهذا الجانب من جوانب المعرفة، أنه لا يؤمن بهذا المصطلح "الاستشراق"، وأنه يرى أنه استخدم في حقبة من حقب التاريخ، وبالتالي فلا بد من وضع هذا المصطلح "الاستشراق" في "زبالة التاريخ"؛ هكذا في نص المقابلة التي أجريت معه في المجلة. وليس الحديث بصدد مناقشة زبالة التاريخ؛ لأن لذلك متخصصيه، إلا أن الذي يقول ذلك شخص مؤثر اليوم في السياسة الخارجية للمعسكر الغربي، هكذا كان يعبر عنه، وللولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، وذلك فيما له علاقة بالإسلام والمنطقة التي نسميها الآن الشرق الأوسط، ويستشار بكثافة في ذلك. وقد استشير في مسألة احتلال العراق، ويستشار في مسألة العلاقة بين اليهود في فلسطين المحتلة والعرب أو المسلمين المحيطين بها،وقد تكون له رؤى مطبقة الآن على الساحة، لا سيما أن هذا المستشرق، وهو مؤرخ كذلك حسب رغبته، يهوديٌّ قد أعلن انتماءه في أكثرَ من موقف إلى الصهيونية [2] . ومن هنا يستحضر ما كتبه روبرت مكنمارا ونقلته عنه صحية الحياة، وقد كان هذا الرجل وزيرًا للدفاع إبان الحرب الأمريكية في فيتنام، ثم صار يدير البنك الدولي، فقد ذكر أن الحرب في فيتنام كما الحرب في العراق مصحوبةٌ بالكره والبغض للفيتناميين وللعرب المسلمين في العراق، وليست كالحرب مع دولة أوروبية، تشارك في الهوية الدينية والثقافية والفكرية؛ولذلك فإن هذا العامل ظاهر في التعامل مع العراقيين، ومن ذلك من وقعوا في الأسر، أو تعرضوا للاستجواب [3] ، كما حصل في معتقل جوانتانامو بكوبا، وفي سجون العراق التي برز منها سجن أبو غريب، وفي السجون السرية في أفغانستان وأوروبا. وليس هذا موضع اختلاف أو اتفاق، سوى أن ماكنمارا رسخه في مقالته في صحيفة الحياة، وسوى أنه لكونه وزير دفاع سابقًا ينتظر أنه ترك له بصمات فكريةً في الوزارة قد لا تختلف عما وضعه المستشرق المؤرخ برنارد لويس، ويضعه الآن من أفكار لا يستبعد أن تكون البغضاء والكره دافعًا من دوافعها،وقد تكون لهذا الدافع بصمات كذلك فيما يحدث في المنطقة بعامة من عمليات إرهابية، مما هو محير فعلًا، ويحتاج إلى المزيد من التأمل مع التصدي وسد المنابع، والعمل على اقتلاع الفتنة من جذورها. ولقد شاعت مقولةٌ تحمِّل اليهود كل ما يجري في المنطقة، ثم أضحت هذه المقولة طُرفة تتداول،ويبدو أنها عادت الآن تطرق أبواب النظرة الجدية بعيدًا عن الطرفة؛ إذ يعود السبب الرئيسي لما تشهده المنطقة من قلاقلَ متلاحقةٍ إلى الاحتلال وسياسات القمع التي تمارسها الدولة العبرية تجاه الفلسطينيين، حتى إنه ليقال بأن الحرب على العراق كانت في أساسها تأمينًا وضمانًا وحمايةً للدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة، وإن أخطأت الطريق إلى العراق بدلًا من جارتها الشرقية (!) طبقًا للوثائق التي ظهرت مؤخرًا عن جماعات المسيحيين المحافظين الجدد، الذين يسيطرون على الإدارة الأمريكية [4] . وكان من الممكن أن يكون الحال على غير ما هو عليه على مختلف الصُّعُد لو لم يكن هذا العامل قد فرض نفسه بهذه القوة غير الذاتية لليهود في فلسطين المحتلة، حتى من قِبل أهل المنطقة نفسها، بحيث أضفى على الكيان الصهيوني، لا في فلسطين المحتلة فحسب بل على مستوى عالمي، هالةً من القوة ليست لها، ومن الرهبة منها ما لا تستحقه، فجعلها هذا الموقف تكسب معارك سياسية وحربية لم تخضها قط [5] ،ولعل هذا الشعور لا يُلغي أننا أمام طريق طويل لا بد أنه بدأ بخطوة أو خطوات، مما يعني أن الوصول إلى نهاية الطريق مهما طالت - بإذن الله تعالى - متحقق،فكان الله في عون السائرين على طريق الحق. [1] انظر: أسرة تحرير التسامح ، العرب والإسلام والغرب والظروف الراهنة: مقابلة مع برنارد لويس - التسامح - ع 5 (شتاء 1425هـ/ 2003م) - ص 263 - 272. [2] انظر في إشكالية العلاقة بين الصهيونية واليهودية في إسرائيل: رشاد عبدالله الشامي ، القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1414هـ/ 1994م - ص 13 - 44 ، (سلسلة عالم المعرفة؛ 186). [3] وهذه كلمة من خبير ممارس يقول عنه جيري ماندر، نقلًا عن الدكتور جان زيغلر في كتابه الأخير بعنوان سادة العالم الجدد: قتل ماكنمارا من الناس، وهو على رأس البنك الدولي، أكثر مما فعل عندما كان وزيرًا للدفاع في الولايات المتحدة مسؤولًا عن مذابح فيتنام ، انظر: جان زيجلر ، سادة العالم الجدد: العولمة، النهابون، المرتزقة، الفجر/ ترجمة محمد زكريا إسماعيل - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003م - ص 159. [4] انظر: Stephen J.Sniegoski،The War on Iraq conceived in Israel - WTM Enterprises، 2003 -www.thronwalker.com/ dith / sneg concl htm ). [5] انظر: عبدالوهاب المسيري ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - ط 2 - القاهرة: دار الشروق، 2005م - 1: ص 156 - 158.
تبكيكَ حروفُ العربية في رحيل العلامة محمد أحمد الدالي ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ فَقَدناهُ فِقدانَ الرَّبيعِ ولَيتَنا فَدَيناهُ مِن ساداتِنا بِأُلُوفِ عليكَ سلامُ اللهِ وَقْفًا فإنَّني أرى الموتَ وَقَّاعًا بِكُلِّ شَرِيفِ رحم الله أخانا الدالي أيُّ ركنٍ بموتهِ قد تهدَّم؟! وأيُّ جبلٍ برحيله قد هوَى؟! وأيُّ عقدٍ بفَقده قد انفصَم؟! ما أشدَّ حزنَ العربية اليوم! وما أشدَّ حزنَ أهلها ومحبِّيها! بعد أن ماتَ فارسُها الذي لا يُجارى وعَلَمُها الذي لا يُضاهَى وخَدينُها الذي لا يُسامَى. وقد فارقها اليوم... فبكَت عليه حروفُها وبكَت له مخطوطاتُها وبكَت عليه أعلامُها! وكأنِّي بجامع العلوم الأصبهاني يقول له: ترفَّقْ واتَّئِدْ ولا تَبْعَدْ، فما عرَفتُ بين من قرأ كتُبي من يَفْرِي فَرْيَكَ فيها، ويَصُولُ ويجولُ في أرجائها، ويُخرج للناس الطيِّبَ المفيد من نشَراتها. وكأنِّي بالفرزدق يطوي القرونَ مُناديًا: ما زلتُ أرقُب عملَكَ في ديواني، هذا الذي كلَّت دونه هممُ الرجال، وتقطَّعَت دونه أعناقُهم، ووقفَ الجميعُ ينتظرون هل في دنيا العربية من ينهَدُ له، أو ينهضُ به؟! عرَفتُ أخانا الدالي منذُ نحوٍ من نصف قرن، فما عرَفتُ أحدًا في مثل دأَبِه ونشاطِه، ونهَله من علوم العربية وتضلُّعه منها، وعُكوفه على نصُوصها ومخطوطاتها. وكان أحصفَ منَّا رأيًا حين اعتزلَنا في مركز البحوث بدمشق، فلم ينضمَّ إلينا على الرغم من ترشيح شيخنا العلَّامة النفَّاخ رحمه الله له، في إثر نيله درجةَ دبلوم الدراسات العُليا، ذلك أنه أقام مركزًا للبحث في صَومعَته، تلك التي كان يأوي إليها في حيِّ الشَّعْلان، ونأوي إليه فيها فما نجدُ إلا العلمَ والأدبَ والفهم والجِدَّ والحفاوة والتكريم، وقد كتبَ في صدرها بخطٍّ مشرقٍ سَلسال، كلمةَ الحسن البصريِّ رحمه الله: ( ابنَ آدم، إنما أنت أيام؛ كلَّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك ). أكتبُ هذا الكلام، والفجيعةُ تجتاحُني، والحزنُ يهزُّ كِياني، والمرضُ ينخر في عظمي، وما أشبهَ حالي بحال الشيخ محمد بشير الإبراهيمي حين قال: إن بين جَنبيَّ ألمًا يتَنَزَّى، وإن في جوانحي نارًا تتلظَّى، وإن بين أناملي قلمًا سمتُه أن يجريَ فجَمَح، وأن يسمَحَ فما سَمَح، وإن في ذهني معانيَ أنحى عليها الهمُّ فتهافتَت، وإن على لساني كلماتٍ حبسَها الغمُّ فتخافتَت. وأنا أردِّد بيتَي الشَّريف الرضيِّ اللذَين طالما قرأناهما معًا (أنا والدالي): ما أَسرَعَ الأيَّامَ في طَيِّنا تَمضِي عَلَينا ثم تَمضِي بِنا في كلِّ يومٍ أمَلٌ قد نأى مَرامُهُ عن أجَلٍ قد دَنا وبعدُ أيضًا؛ فقد صحِبتُ الأخ الحبيب العلَّامة الدالي نحوًا من خمسين عامًا، في الِحلِّ والتَّرحال، وفي الإقامة والغُربة، فما سمعتُ منه إلا خيرًا، وما علمتُ عنه إلا خيرًا، بل ما علمتُ عليه من سُوء، ولا رابَني منه شيء؛ يحضُر صلاةَ الجمعة معنا، وكثيرًا ما صلَّينا فروضَنا معًا، وما كان أحرصَه على قراءة آية الكُرسيِّ بعد كلِّ صلاة، وما كان أحرصَه على صلاة الليل، يستيقظُ لها قبل الفجر، كما حدَّثَني مِرارًا، ثم يأخذ في عمله فلا يقوم عنه إلا لصلاة الفجر، ثم للتوجُّه إلى الجامعة. وإذا ما كنَّا في سهرة، وتجاوز الأمرُ حدَّه، رأيتَ عيونه قد ذبُلت، والوَسَن قد داخلَها، والنُّعاسَ قد اعتراها، فيمضي أمامنا لا يلوي على شيء. أحسَبه - ولا أزكِّي على الله أحدًا - من الذين صَدَقوا اللهَ ما عاهَدوه، فأدَّوا الأمانةَ على حقِّها، ونهَضوا بلغة القرآن على وجهها، وكانوا خيرَ الأوصياء عليها. رحمه الله وجزاهُ عن العربية وأهلها خيرَ ما جزى عالمًا عن لغته، ومُصلحًا عن أمَّته. وأخلفَ على الأمَّة فيه خيرًا. الكويت 16 ربيع الآخِر 1443ه 21/ 11/ 2021م في مدرَّج شفيق جبري بكلية الآداب جامعة دمشق، عام 2000م من اليمين: ضياء الدين القالش، د. الطيان، أيمن بن أحمد ذوالغنى، د. أيمن الشوَّا، الأستاذ عاصم بن محمد بهجة البَيطار، هاشم الشاطر، الأستاذ محمد علي حمد الله، د. الدالي، محمد بونجة، خليل عبد الله من اليمين: د. محمد طاهر الحِمصي، د. فيصل الحفيان، د. الدالي، د. الطيان في الكويت
عَنْ رِوَايَةِ مُذَكِّرَاتِ رَجُلٍ أَخْرَق الرواية تشكل محاولةً للغوص بالنفس البشرية، تبحث عن ماهية الضعف المتمكن منها، عن التوزع والتشتت، الضياع والتيه، المنحنيات الخفية، التي تخلق التبريرات والسراب كي تتبعها الرؤى الكسيحة، والبصائر المشلولة، التي تسيطر على بنية الوعي المغلول بقوة نحو اعتقادات تتقاذف الذات وتقسمها إلى مجموعة من الذوات التي تصطدم ببعضها، فهي جزء أصيل من الرذيلة، وكذلك جزء أصيل من الفضيلة، باختيار وحرية، وقسر وجبر، وهي خليط من الحب والكراهية، مزيج من العدل والظلم، مركب من الضعف والقوة، دمج بين التناقض والتناقض، مركب من التضاد والتضاد، تضع بكل ذواتها بيوضًا تنتظر أن تفقس، تنقسم وتنشطر، مخلفةً بأعماق الذوات المتولدة المتناقضة والمتضادة جذوات يغطيها الرماد، لكنها رغم ما عليها من رماد تبقى كامنةً لتشتعل من جديد فتكوى المشاعر والأحاسيس، وتنقل الذوات كلها إلى مربعات الحيرة والارتباك والشدة والدهشة، لتكون رغمًا عنه وعاء للتيه والضياع والغموض. تحاول الرواية بشكل عميق تأصيل فكرة الغرابة، الذهول، العجب، التبدد، التصدع والتفرق، التي تتمكن من كل المشاعر والأحاسيس التي تلتهب فتشعل الجذوات التي تكوي الذوات وتلدغها، فتنقل كل التفرق المتمكن من الذوات إلى الرؤى والبصائر التي تغرق في الانفصال والتناثر والانفكاك عن الفطرة التي هي البوصلة الحقيقية لإنسانية الإنسان. الصراع الداخلي المغذى بالغرور والصلف والعلو والعتو والخيلاء والزهو، الذي يعطي الأشياء المتخيلة والمصاغة من وهم الثقة المفرطة باللاشيء، باللاهدف، إلا بشيء وهدف ترتضيه النفس الأمارة بالخديعة التي تتبدى كحقيقة لا يمكن مقاومتها والشك فيها، وهنا يتم التعامل مع الفطرة والوجدان والضمير كأعداء، فتكون المعركة بين الوهم والحقيقة حامية، كبركان ينفجر بعد زلزال، ثم يخمد، ولما كانت النفس تستعذب مذ خلقت الركون إلى الملذات صاحبة السطوة على الغريزة التي تغل الفطرة وتصفد الضمير، فإن الإنسان سيبقى بدائرة المراوحة بين ما تستعذبه الذوات بكل الغرائز المتمكنة منها، وبين صيحات الضمير التي تنبعث فجأة لتفجر وتتناسل وتتوالد ذوات جديدة تتصادم وتتقلقل وتتقضقض، صراع حتمي يبدأ من حبة الخردل وينتهي بفكرة السيطرة على الحياة والوجود، لكن يبقى اليقين، الموت، هو الحاسم حين يمر من أمام النفوس التي تغلي وتفور على مراجل الشك والتردد والتطاحن والاقتتال بين كل خلجة وخلجةً، سكنة وسكنة، رؤيا ورؤيا، وهم ووهم، سراب وسراب، وهذا هو الإنسان، الذي لا يمكن إصلاحه أو حتى التفكير بمحاولة إصلاحه، هو الإنسان الذي يريد من الشمس أن تشرق من الغرب، وتغرب في الشرق، وهو يعتقد بأنه صاحب حق مطلق بهذا الطلب، كما هو صاحب حق في قطرة ندى أو شعاع شمس، لكنه حين تثور عاصفةً لتحجب عنه الرؤية يقف مغلولاً، لا يملك من أمره سوى انتظار انحسار العاصفة، هو يريد بكل بساطة الحصول على معادلة الخلود والبقاء، لكنه يصبح متهاويًا متهالكًا، يغمره الجبن ويغطيه الرعب، ويستوطنه العجز إثر شوكة سامة تخزه من سمكة أو غصن يتدلى.
الجهر بالدعوة استمرَّتِ الدعوة السرية واللقاء الفردي بمن يتوسم به الخير مدة ثلاث سنين، بعدها أمَر الله نبيه بالجهر بالدعوة بقوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 94، 95]، والصدع بالدعوة معناه الجهر بها وتبليغ أمر الله علانية؛ لذلك نهض النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر بعد أن كفاه الله العتاة من قريش، المستهزئين بدين الله، وكانوا مسموعي الكلمة في قومهم، وهم: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبديغوث وغيرهم، فكيف كفاه الله شر هؤلاء؟ وهل أخذهم أخذة واحدة؟ لنعرض حال كل واحد من هؤلاء: - أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مِن أشد المعارضين للنبي ودعوته، وقف ضده بكل قوة، وكان الأجدر به مناصرته، لكنه فعل ما لم يفعله قريب بقريبه، وضيق عليه، فأمر ابنيه بتطليق بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم - ليضيِّق عليه وليشغَله ببنتيه، وكان معارضًا عندما دعا عشيرته، وهو القائل له: تبًّا لك سائر يومك؛ ألهذا دعوتنا؟ فنزلت فيه سورة المسد وفي زوجه التي كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم برمي القمامة والشوك في طريقه، وكان جاره؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّ جوار هذا يا بني عبدالمطلب؟! وكان يسير خلفه في الموسم بمنى، فكلما دعا قبيلة أو شخصًا قال: يا بني فلان، إنما يدعوكم لكي تسلخوا اللات والعزى؛ فلا تطيعوه ولا تسمعوا له؛ إنه مجنون، وهكذا كان دأبه محاربة الدعوة، وفي غزوة بدر أرسل من ينوب عنه في قتال المسلمين، ولما وردت هزيمة قريش أصيب بالهذيان ومرض بمرض العدسة فمات. • الوليد بن المغيرة من بني مخزوم، وكنيته أبو عبدشمس، وهو العدل؛ لأنه كان عدل قريش كلها؛ فقريش كان تشترك في كسوة البيت، وكان وحده يكسو البيت، وقد تكلمنا عنه بإفاضة، أما سبب موته، فقد كان رجل من خزاعة يَرِيش نبلًا، فوطئ على أحدها فخدشته وتسببت في موته، كان ذلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، مات وعمره فوق الخامسة والتسعين. • النضر بن الحارث بن علقمة، يكنى أبا قائد، وكان من أشد قريش تكذيبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأذيَّةً له ولأصحابه، كان ينظر في كتب الفُرس ويخالط اليهود والنصارى، وسمع بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقُرب مبعثه، فقال: إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم؛ فنزلت: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [فاطر: 42]، لكنه خالف ما كان أقسم عليه، فكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين، أسره المقداد في غزوة بدر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب عنقه، فضرَب عنقَه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه. • الأسود بن عبديغوث من بني زهرة، وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم، كان من المستهزئين، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد؟! فخرج يومًا من أهله فأصابه السموم، فاسودَّ وجهه، فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه، فرجع متحيرًا حتى مات عطشًا، وقيل: إن جبريل أومأ إلى السماء فأصابته الأكلة فامتلأ قيحًا فمات. • الحارث بن قيس بن عدي السهمي كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن الغيطلة - اسم أمه - وكان يأخذ حجرًا يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، وكان يقول: قد غر محمدٌ أصحابَه ووعدهم أن يحيَوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، وفيه نزلت: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]، وقيل في موته: أنه أكل حوتًا مملوحًا فلم يزل يشرب الماء حتى مات، وروي: أخذته الذبحة، وقل: امتلأ رأسه قيحًا فمات. • أمية بن خلف كان من رؤوس الكفر، يؤذي المسلمين، وله في إيذاء بلال أيام مشهودة من التعذيب والتنكيل، رُوي أن عقبة بن أبي معيط صنع طعامًا ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: لا أحضر حتى تشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فقام معه، فقال له أمية: أقلت كذا وكذا؟ قال: إنما قلته لطعمنا - ويعني الاستهزاء - فنزلت: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [الفرقان: 27، 28]، شارك أمية بن خلف مع قومه في غزوة بدر، وكان أحدَ رؤوس الكفر الذين قتلوا فيها، قتله بلال وخُبيب. • أُبَيُّ بن خلف أخو أمية، وهو أكثر عنفًا وحنقًا على الإسلام والمسلمين، وكان شديد الإيذاء لمن أسلم، أتى يومًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عَظْم فخِذ، ففتّه في يده وقال: زعمت أن ربك يحيي هذا العظم؟ قال: ((نعم))، فنزلت: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]، بلغت به الجرأة في غزوة أُحدٍ أن هاجَمَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوتُ إن نجا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ابتعدوا، وأخذ حربة فطعنه بها في ترقوته، فكانت كالنار تحرقه، وحمله قومه فمات في الطريق. • العاص بن وائل السهمي هو والد عمرو بن العاص، كان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من المستهزئين بالإسلام، وهو القائل عندما مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم: إن محمدًا أبتر لا يعيش له ولد ذكَر، فأنزل الله سورة الكوثر وقال فيه: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]، ركب حمارًا فلما صار في شِعب من شعاب مكة ربض به الحمار فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير، فمات منها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمره خمس وثمانون سنة. • أبو جهل بن هشام المخزومي اسمه عمرو، وكان من أشد كفار قريش حقدًا وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدعوته، وله مواقف في الأذى كثيرة، كان يؤذي النبي والمسلمين ويحرض أهل مكة على استئصال المسلمين، وقد كناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل، فنُسي اسمه وعرف بها، شجع قومه على حرب المسلمين في بدر وقادها ضد المسلمين، لكنه كان أحد قتلاها، قتله ابنا عفراء، وأجهز عليه عبدالله بن مسعود، كان طاغية جبارًا. • عقبة بن أبي معيط يكنى أبا الوليد، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، كان يرمي الأقذار في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى باب داره، ورمى فوق رأسه وهو يصلي مرَّةً سلا شاة، فأسرعت فاطمة فأزالتها، وعمد مرة إلى مكتل وضع فيه عذرة وجعله على باب النبي صلى الله عليه وسلم، فبصر به طليب بن عمير وهو ابن عمة النبي، فأخذ المكتل منه وضرب به رأسه وشد أذنيه، فشكاه عقبة إلى أمه وقال لها: قد صار ابنك ينصر محمدًا، فقالت: ومَن أولى به منا؟! أموالنا وأنفسنا دون محمد. أُسِر عقبة بن أبي معيط في غزوة بدر، فأعطاه النبيُّ عاصم بن ثابت الأنصاري ليقتله، فقال: مَن للصبية يا محمد؟ قال: ((النار))، ضرب عنقَه عاصمٌ في وادي الصفراء، وصلب، وهو أول مصلوب صلبه المسلمون لقاء جرائمه. • الأسود بن المطلب بن أسد ، كنيته: أبو زمعة، كان من المستهزئين، وكان إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم بالقوم يتغامز بالنبي مع أصحابه، ويقولون استهزاء: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلِب على كنوز كسرى وقيصر، ويصفرون به ويصفقون، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمى ويثكل ولده، فجلس في ظل شجرة فضرب الله بورقها وشوكها عينيه حتى عمي، فشغل بما أصابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل ابنه في بدر، كما قتل اثنان من أحفاده، مات بعد غزوة بدر. هؤلاء مجموعة من الطغاة الذين عاندوا الدعوة وجدوا في الأذى، عاقبهم الله وأزالهم من طريق الدعوة، وفي الآخرة عقابهم أشد وأنكى. ولما صدَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام، فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد، فلما ذكر آلهتهم وعابها أجمعوا على خلافه، إلا من عصمهم الله بالإسلام، وهم قليل مستخفُون، غير أن عمه أبا طالب وقف إلى جانبه بقوة، وصد عنه عادية قريش، فلم تصل إليه بأذى يحبطه أو يوقف دعوته، وجاءه الأمر أيضًا بإنذار عشيرته الأقربين: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 214 - 216]، وهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: "لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] وقَف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي))، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتَكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟!))، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإني نذير لكم بين يدَيْ عذاب شديد))، فقال: أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5]، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، قال: "لما نزلت هذه السورة: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم مِن النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدشمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدمناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمةُ، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملِك لكم من الله شيئًا، غيرَ أن لكم رحِمًا سأبُلُّها ببِلالِها))". ومِن هذا الاجتماع تكون الدعوة قد خرجت إلى حيز العلن، وبدأ الصراع الفعلي مع المعارضين من قريش، وهم القوة الكبيرة الطاغية؛ لذلك بدؤوا خطة لا رحمة فيها ولا مهادنة، وهي تنطوي على الوحشية والقسوة والتنكيل بكل وسيلة رادعة، وبقلوب لا تشفق ولا ترحم، وكان يتزعم هؤلاء القساة أبو جهل وأمية بن خلف وابن أبي معيط وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وآخرون غيرهم، يغذِّيهم الحقد والمصالح والحفاظ على الزعامة خوف الانتقال إلى غيرهم، لكن الغريب في الأمر أن يقف مع هؤلاء الطغاة أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، بينما أخذ أبو طالب الجانب الآخر، وهو الوقوف مع محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلف الأمر من تحمل ومشقة وصراع مع الطغاة، وكان لأبي طالب نصيب من الهيبة والاحترام عند قومه، خصوصًا وأنه على دينهم ومعتقدهم، ولو أسلم لفقد هذه الميزة، ولكان الاعتداء عليه من السهولة بمكان، فما هو إلا فرد - مهما بلغ من القوة - ضعيف أمام الكثرة الطاغية من قريش، لكن بثباته على معتقده معهم ظل يتمتع بالحصانة والاحترام؛ لذلك وسَّطوه في أكثر من مرة ليكلم ابن أخيه؛ كي يغير موقفه ويقلع عن دعوته، تارة بالتهديد وتارة بالإغراء الدنيوي، قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء - لا يرضيهم - أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري العاص بن هشام، والأسود بن المطلب، وأبو جهل الحكم بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى - استفحل - الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه - أغرى بعضهم بعضًا في إيذائه - وحض بعضهم بعضًا عليه. كانت هذه هي المرة الأولى التي يكلمون فيها أبا طالب ثم يقنعهم بالرد الجميل، ولعل أبا طالب كان يتمتع بدبلوماسية فائقة حين أطفأ ثورة هؤلاء العتاة وأوقف هيجانهم إلى حين، لكن كان لا بد من الاستمرار في الدعوة؛ إنها أمر من الله محتم على نبيه، وينبغي أن تؤدى الرسالة كما هي: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، فإذا أرضَتْهم دبلوماسية أبي طالب لأجل محدود، فإن الصدع بأمر الله تكليف لا محيد عنه، وفيه الدعوة إلى التوحيد، وبالتالي ذم الأصنام وعبَّادها أمر محتم سيصطدم لا محالة مع المشركين المقدسين لها؛ ولهذا أتاه القوم مرة أخرى وهم غِضَاب منزعجون من الحط بقيمة آلهتهم، وقد رفعوا وتيرة الاحتجاج إلى حد التهديد بالعدوان وإظهار الشر، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلِك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فعظُم ذلك على أبي طالب ووقع بين أمرين أحلاهما مر، فهو محب لقومه ولا يريد معاداتهم، ومحب لابن أخيه ويحب نصرته والوقوف إلى جانبه في تبليغ دعوته، وكان يتمنى ألا يكون صدامٌ بين الطرفين، وتكون هناك حرية للدعوة يدخل فيها من يرغب ويبقى من أراد على دينه الوثني، ولكن قريشًا أرادت أن تفرض ديكتاتوريتها وتمنع أي صوت إلا صوتها، فهي وريثة التراث الجاهلي ولن تفرط فيه، وستمنع كل من يحاول تغيير هذا الواقع. وانطلق أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل معه غضبة قريش وما ألمحت إليه من الشر؛ لعله يجد في الأمر حلًّا وسطًا يرضي الطرفين، ولكن هيهات أن ينزل الحق إلى ترهات الباطل؛ فالخطان متقاطعان، شرك ظاهر وضلال أعمى، وتوحيد يأبى الشرك أو أي شكل من أشكاله، نور وضَّاء يريد أن يمحو ظلمة الجهل والاعتقاد؛ فينير أرجاء مكة والعالم أجمع، فيَئِد الظلام وحلكته إلى أبد الآبدين، فلا يمكن أن يكون بين هذين المنهجين أدنى نقاط للقاء؛ لذلك لما عرض أبو طالب مطالب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظن النبي أن أبا طالب سيتخلى عنه أمام ضغط قريش، فوقف يخبره بحقيقة الدعوة بأنها لا تقبل المساومة ولا التخلي عن المبادئ الأساسية فقال لعمه: ((والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِك دونه))، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وغادر المكان، فقال له أبو طالب: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببتَ؛ فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، ورُوي أن كبار قريش - منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن عبدالمطلب - استأذنوا على أبي طالب ليكلموه في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم، فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه، فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب: يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك النَّصَف، أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وآلهتك، قال: ((أي عمِّ، أولَا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟))، قال: وإلام تدعوهم؟ قال: ((أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملِكون بها العجم))، فقال أبو جهل: ما هي وأبيك؟ لنعطينكها وعشرًا أمثالها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قولوا: لا إله إلا الله))، فنفر القوم، وقالوا: سلنا غير هذه، فقال: ((لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها))، فغضبوا وقاموا من عنده، وقالوا: والله لنشتمنَّك وإلهك الذي يأمرك بهذا، فسجل القُرْآن قولهم: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 6 - 8]؛ فهذه الآياتُ تُبيِّن أن تمسكهم بالأصنام لم يكن بدافع الحب الخالص لها كما يزعمون - فهم أهل مصالح - وإنما لما ملئت قلوبهم من الحسد أيضًا؛ لأن الرسالة لم تكن فيهم، وإنما كانت من نصيب محمد صلى الله عليه وسلم اليتيم الفقير. وجاءت محاولة أخرى من عتبة بن ربيعة ليوقف الدعوة بطريقته الخاصة؛ فقد كان في نادٍ لقريش، فقال لهم: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا؛ لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلِّمْه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة - الشرف - في العشيرة والمكان والنسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعِبْت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسمع))، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك به؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟))، قال: نعم، قال: ((فاستمع مني))، قال: أفعل، فقال: (( بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [فصلت: 1 - 8]، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك))، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلِف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكُه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي، فافعلوا ما بدا لكم. ولقد علمَتْ قريش بعد هذا أن أبا طالب مانع ابن أخيه ولن يتخلى عنه، وأنه سيستمر في الدعوة؛ لذلك كانت لهم مع أبي طالب محاولة ثالثة، وكانت من نوع آخر، أنتجها عقلهم الجاهلي القاصر - وعقل الكافرين دومًا في تباب - أتوا إلى أبي طالب ومعهم الفتى عمارة بن الوليد، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقلُه - أي: لو قتله أحد فدِيَتُه لك لا لأبيه - ونصره، واتخذه ولدًا، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، قال أبو طالب - مسفهًا عقلهم وضعف تفكيرهم -: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدًا، قال: فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فرد عليه أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنعوا ما بدا لكم. لقد فقدت قريش كل منطق، وإن كل ما يهمها هو التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم بأية وسيلة مهما كانت؛ خلقية أو غير خلقية، منطقية أو غير منطقية، فيها مؤاخذة لهم من القبائل الأخرى بأنهم خالفوا الأعراف أو موافقة، كل هذا لا يهم، منطقهم - على اعوجاجه - هو القانون، وهو الحل الأمثل، وهو الذي ينبغي أن يسود.
مختارات من كتاب: "المداخل إلى آثار شيخ الإسلام"، للعلامة بكر أبو زيد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد: فمن مصنفات العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد، رحمه الله، كتاب: " المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية"، وقد يسر الله الكريم لي فقرأت الكتاب، واخترت بعضًا مما ذكره الشيخ، أسأل الله أن ينفع بها. أسباب قوة شيخ الإسلام ابن تيمية: من نظر في ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وجد أن الله سبحانه قد منحه أسباب القوة التي تُبنى عليها قُبةُ النصر، وهي: الثبات واللهج بذكر الله تعالى وطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتفاق مع أنصار الإسلام والسنة والصبر، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45 - 46]. [ص: 20] الزهد في المناصب والولايات: من أعظم أسباب الفوز والنصر الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها، وكما كان شيخ الإسلام كذلك، فقد كان أئمة الإسلام على هذه الجادة منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ولهذا قيل في ترجمته أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها، فمسكين من يتطلع إليها ويقول أنا لها ومغبون والله من دقع ثمنها مُقدمًا بالتنازل عن شيء من دينه والملاينة على حساب علمه ويقينه وكل امرئ حسيب نفسه. [ص: 28] العصامية لا العظامية: إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي فسحقًا لعشاق العصبية - الطبقية - الذين يتغنون بأمجاد أسلافهم وقد تسفلوا، ويستعلون على الناس بأهليهم وأذوائهم وقد تقذروا، ليُقال لهم: نعم الآباء، ولكن بئس ما خلفوا، وإن افتخار المرء بوصف أبيه، مثل افتخار الكوسج بلحية أخية، أما من جمع بين الحسنيين، وفاز بالفضلتين، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. [ص:28] السجنة الثانية لشيخ الإسلام أسبابها وآثارها: السجنة الثانية: في القاهرة لمدة عام وستة شهور... ومعه أخواه الشرف عبدالله والزين عبدالرحمن... وهي بسبب مسألة العرش ومسألة الكلام ومسألة النزول، وفيها من المواقف البطولية، والصدق في ذات الله ما يملأ النفس بالإيمان والجد في العمل. وكان مما جرى فيها أن أخاه الشرف، ابتهل، ودعا عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: " اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق ". فلله ما أعظمه من أدب جمّ، وما أعظمه من خُلُق رفيع، وهضمٍ للنفس، وبحث عن الحق، وإن هذه - وأيم الله - فائدة تساوي رحلة، وأين هذه من حالنا، إذا نيل من واحد منا عضب وسخِط، وجلب أنواع الدعاء على عدوه، فاللهم اجعل لنا ولمن آذانًا فيك نورًا نهتدي به إلى الحق. [ص: 34] التجديد: قفو الأثر، واتباع السنن: من حياة هذا الإمام التجديدية، ودعوته الإصلاحية، تعرف معنى التجديد، وأنه قفو الأثر، وإحياء السنن، والتوجه مع الدليل، وإصلاح ما رثّ من حال اللأمة بالعودة بها إلى الكتاب والسنة، ولهذا صارت دعوته، ومؤلفاته منارًا لأهل الإسلام. ومن هنا نعرف زيوف الدعوات التجديدية المعاصرة من بعض من شابتهم لوثة في الفكر والاعتقاد. الدعوة إلى التجديد في الفقه، والتجديد في الأصول، والتجديد في موازين قبول السنة، وهكذا من دعوات تهدم الدين، وتضر بالمسلمين. [ص: 38]. طريق الإصلاح شاق وطويل: طريق الإصلاح شاق وطويل، ومحفوف بالمخاطر والأذايا، والمكاره، فلا بد للداعي من الصبر والتحمل، ولكن ليس معنى هذا أن يشحن امرؤ نفسه بالمشاقة، وليس له رصيد من علم، ولا حصانة من إخلاص، ولا لسان صدق في الأمة، ثم يقول: لي قدوة بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى!! فإن هذا من التعرض للبلاء بما لا يطاق، وله من المردودات السالبة على مسيرة الدعوة والعلم ما لا يخفى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. [ص: 37]. مقتطفات من سيرته: • من مظاهر قوته... قوته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها، وهذه وحدها تعطى طالب العلم دفعة إلى إدامة النظر في كتبه وقراءتها مرة بعد أخرى. [23]. • البذاذة من الإيمان، والاقتصاد في أُمور المعاش من وظائف أهل الإسلام، وهكذا كان شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مجتنبًا التَّرفُّه في المعاش، وتطلب الملاذ، فما أحلاه من أدب. [ص: 28]. • لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال به، ولا تكل من البحث فيه. [ص: 29]. • كتب "العقيدة الواسطية" وهو قاعد بعد العصر وكتب كتاب: السياسية الشرعية" في ليلة واحدة، وأملى الحموية بين الظهرين. [ص: 70]. • كان يكتب جُلّ مؤلفاته من حفظه... وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع، وقوة الحجة، وحسن التصنيف والترتيب، غير مشوبة بكدرٍ بل خالصة من الشَّبه والشُّبه. [24] فوائد مختصرة: • قال الباجي رحمه الله تعالى، في وصيته لولديه: " العلم ولاية لا يعزل صاحبها، ولا يعرى من جمالها لابسها". [ص:19] • حب العلم وإشغال القلب والبدن بالمال وجمعه وتنميته، والمكاثرة فيه لا يجتمعان، فكلما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع من ذاك، فلنبكِ على حالنا. [ص: 30] • المُحتسب إذا نصح بأمر، فلم يقبل منه، وناله في سبيله بعض الأذى فليتحمل ذلك بنفس رضية، ولن يخلو قيامه بالحق من أثر بإحسان. [ص: 33]
الرشاد في شرح الإرشاد لعلاء الدين البسطامي الشهير بمصنفك صدر حديثًا "الرشاد في شرح الإرشاد"، تصنيف العلامة "علاء الدين علي البسطامي" (مُصَنَّفَك)، المتوفى سنة (875 هـ)، دراسة وتحقيق: "عبد الحميد هاشم العيساوي"، نشر "دار الرياحين" بالتعاون مع "مشروع النبراس العلمي- دولة الكويت". وهذا الكتاب (الرَّشادُ في شرحِ الإرشادِ) في علم النَّحو، وهو من أفضل ما صُنِّفَ في هذا الفن، وهو لعالمَيْنِ عُرفا بكثرة تصنيفاتهم المقبولة المتداولة، فالمتن واسمه (إرشاد الهادي) للإمام سعد الدِّين التَّفتازاني، والشرح واسمه (الرَّشاد في شرح الإرشاد) لعلاء الدِّين البسطامي الشهير بمصنَّفك. والكتابُ في مُجمَلِه شارحٌ لِعبارةِ الْمَتنِ شرحًا يبين فيه عن مقصوده، مختصِرًا ما أَمْكنَهُ ذلك، مُفصِّلًا في بعض المواضع التي تحتاج إلى تفصيل. وقد كان هذا الكتاب أول ما صنف علاء الدين البسطامي والذي اشتهر بلقب (مصنفك) وذلك لاشتغاله بالتصنيف في حداثة سنه، والكاف للتصغير في لغة العجم، وقد ألفه: سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، وسنه عشرون سنة. ويتضح في هذا الشرح الأُسلوب الواضح لِلبِسطاميِّ، وتَعمّقُه في بَسطِ عبارةِ صاحبِ المتنِ، والتّدقيقِ فيها، وتوجيهِهَا التوجيهَ الأمثلَ، وإيرادِ ما يَرِدُ عليها، ومقارنتِها بعباراتِ النُّحاةِ في بابها، والتمييزِ بينَها وبينَ غيرِها، وتصويبِ ما يستحسنُه بعدَ ذلك العَرْضِ الوافي في كثيرٍ مِنَ المَواطِنِ. والكتاب في مجمله يعتني بإيراد الحكم النحوي مقرونًا بعلته، وهو يجمع مهمات المباحث النحوية التي لا غنى عنها في دراسة النحو العربي، غير مستفيض في عرض الآراء والخلافات، فهو شرح لطيف، يعتني بتحقيق كثير من الوجهات النحوية في صفحات قليلة، و(كتاب الرشاد) يحتوي على ثلاث أقسام القسم الأول: (في الاسم): وشرح الإعراب والمعرب والعدل، وتحدث عن المرفوعات، وعن المنصوبات. ثم عن المجرورات، أما القسم الثاني: سرد الحديث المؤلف عن (الفعل): الفعل المضارع، والمضارع المرفوع والمضارع المنصوب، أما القسم الثالث: في الحروف العاملة ومنها: حروف الجر والحروف المشبهة بالفعل. وأما سبب تسميته بـ (الرشاد في شرح الإرشاد) ففيه محاولة الاحتذاء بوصف صاحب المتن لما سيحصل عليه دارس "إرشاد الهادي"؛ حيث نصَّ على أنه ألفه لولده، ولكل مَن يحاول الرشاد؛ مع أن هذا الاسم يطابق تمامًا اسم شرح "الشريف الجرجاني"، وهو شرحٌ آخرُ لإرشاد التفتازاني. وقد سلك البسطامي نهجًا سهلًا مختصرًا في كتابه، أبان عنه بقوله في أكثر من موطن في هذا الشرح؛ منها قوله: ((ونحن لو اشتغلنا بترجيح الراجح، وتزييف المزيَّف لَطَالَ الكلام، ولَفاتَ الإيجاز والاختصار، الذي هو المرام))، ومنها قوله - أيضًا -: ((والمباحث المتعلقة بهما كثيرة، إلاّ أنها لا تليق بهذا المختصر؛ لأن الملتزم فيه الاختصار، فلا يناسبه الاستيفاء في الأسرار، والله أعلم بحقيقة الأحوال)) إلا أنه لم يكن على وتيرة واحدة في جميع كتابه، بل حفل في بعض أقسامه باهتمام كبير، ومناقشة واضحة، ومَرّ على بعضها الآخر مرور الكرام. وقد سار الشارح في ترتيبه على ترتيب المتن، حيث قسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام (الاسم، والفعل، والحرف) إلا أنه لم يَسِر على نَفَس واحد في تناوله لكل قسم، فاستفاض في باب الاسم، وظفر هذا الباب بالجزء الأكبر من الكتاب، ثم دَلَف إلى باب الفعل وقد فترت هِمتُّهُ فأوجز، ثم عرَّج على باب الحرف وقد كلَّ الكتابةَ وملّها فاختصره اختصارًا شديدًا. وقد استخدم البسطامي في عرضه المادة العلمية أسلوبًا يعتمد على تفسير عبارة المتن تفسيرًا لُغَويًّا نَحْويًّا بَلاغيًّا. كما يضيف الشارح على عبارات المتن؛ ما يجعلها دقيقة في أداء المعاني، دالّة دِلالة تامة على المقصود منها، مبيِّنًا الإشارات والإيماءات الواردة فيها، كما يعتذر عن صاحب المتن في عدم تفصيله في مسألة ما، بأنَّ ذلك من الاختصار، وأن ما أشار إليه في الأمثلة كافٍ. وقد حفل كتاب (الرشاد في شرح الإرشاد) بآراء أرباب الصناعة النحوية، أمثالَ الخليل، وأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، وسيبويه، والفراء، والمازني، والمبرد، والأخفش، وابن السراج، والزجاج، وأبي علي الفارسي، وابن جني، وعبدالقاهر، والمرزوقي، والزمخشري، وابن عصفور، وابن الحاجب، وابن مالك، والإسفرايني، والرضي، وغيرهم. وقد قام بتحقيق الكتاب الأستاذ "عبد الحميد العيساوي"، على نسخه الخطية التي توافرت له، ومنها نسخة خطية محفوظة في مكتبة "عارف حكمت" بالمدينة المنورة في قسم النحو تحت رقم (97 /415)، والنسخة التيمورية ، وهي محفوظة في دار الكتب والوثائق القومية المصرية تحت رقم (62 نحو تيمور). والماتن هو السعد التفتازاني (712 - 792 هـ = 1312 - 1390 م) هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازانى، سعد الدين: من أئمة العربية والبيان والمنطق. ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس، وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند، فتوفى فيها، ودفن في سرخس، وكانت في لسانه لكنة. أخذ العلم على عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756 هـ قاضي قضاة المشرق وشيخ الشافعية ببلاد ما وراء النهر، وقد لازمه السعد ملازمة تامة وعليه تخرج في علم الكلام والأصول والمنطق والبلاغة وكان كثير الثناء عليه، وأخذ العلم أيضًا على قطب الدين الرازي التحتاني، وبهاء الدين السمرقندي الحنفي، وضياء الدين القرمي المتوفى سنة 780 هـ. وأخذ عنه العلم خلق كثير منهم: حسام الدين الأبيوردي الخطيبي، و محمد بن عطاء الله بن محمد الرازي الشافعي قاضي القضاة، وحيدر بن أحمد بن إبراهيم الرومي الحنفي المعروف بشيخ التاج.. وغيرهم. من كتبه: • شرح تصريف الزنجاني: وهو شرح لمتن التصريف المشهور بالعزي والذي وضعه عز الدين إبراهيم بن عبد الوهّاب بن عماد الدين بن إبراهيم الزنجاني (ت: 655هـ). • إرشاد الهادي: وهو كتاب في النحو فرغ منه في خوارزم سنة 774هـ وهو متن مختصر على غرار الكافية لابن الحاجب. • الشرح المطول على تلخيص المفتاح: ويعرف بـ"المطول" وهو شرح على كتاب "تلخيص المفتاح" لجلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني (ت: 739هـ) والذي هو تلخيص للقسم الثالث من كتاب "مفتاح العلوم" لسراج الدين يوسف السكاكي (ت: 626هـ) والمتعلق بعلم المعاني والبيان. • الشرح المختصر على تلخيص المفتاح: ويعرف بمختصر المعاني، وهو اختصار لكتابه المطول السابق ذكره كما قال السعد في خطبته. • شرح القسم الثالث من مفتاح العلوم: وهو شرح مباشر للقسم الخاص بعلم المعاني والبيان من مفتاح السكاكي ، وهو من أواخر كتبه وقد فرغ منه قبيل وفاته بسنوات. • التلويح إلى كشف حقائق التنقيح: وهو حاشية على كتاب التوضيح شرح متن التنقيح، وكلا الشرح والمتن لصدر الشريعة عبد الله بن مسعود المحبوبي (ت: 747 هـ). • الحاشية على شرح عضد الدين الإيجي على مختصر المنتهى لابن الحاجب: وهو شرح على "مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" للإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب (ت: 646هـ) وقد شرح هذا المختصر عدة شروح من أفضلها شرح عضد الدين الإيجي شيخ السعد فحشاه السعد بهذه الحاشية الرائقة الفائقة. • المفتاح: وهو في فروع الشافعية ويسمى أيضًا "مفتاح الفقه". • مختصر شرح تلخيص الجامع الكبير: والجامع الكبير في الفروع ألفه محمد بن الحسن الشيباني (ت: 187هـ) ولخصه جملة من العلماء منهم كمال الدين محمد الخلاطي (ت: 652هـ) وعلى هذا التلخيص عدة شروح منها شرح الإمام مسعود الغجدواني فعمد السعد إلى هذا الشرح وشرع في اختصاره وتلخيصه فتوفي قبل أن يتمه. • الحاشية على الكشاف: وهي حاشية على تفسير الكشاف للزمخشري وهي غير تامة. • شرح الرسالة الشمسية: وهو شرح على رسالة مختصرة في المنطق ألفها نجم الدين علي بن عمر الكاتبي القزويني (ت:675هـ) وقد ألفها للخواجة شمس الدين الجويني ولذا سميت بالشمسية، وشرح السعد من أهم شروح متن الشمسية. • غاية تهذيب الكلام في تحرير المنطق والكلام: وهو متن متين مختصر العبارة كثير المعاني والفوائد، وجعله على قسمين: قسم في المنطق وقسم في علم الكلام. • شرح العقائد النسفية: وهو شرح على متن العقائد الذي وضعه الإمام نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي (ت: 537هـ). • المقاصد: وهو متن مختصر في علم الكلام متين العبارة جيد السبك. • شرح المقاصد: وهو شرح على المتن السابق. • النعم السوابغ في شرح الكلم النوابغ: كتاب في فقه اللغة شرح فيه كتاب الزمخشري "نوابغ الكلم". أما صاحب الشرح فهو مصنفك (803 - 875 هـ‍ = 1400 - 1370 م) علي بن محمد (مجلد الدين) بن مسعود الشاهرودي البسطامي، علاء الدين والملة، المعروف بمصنفك: باحث، له مصنفات عربية وفارسية، أكثرها حواش وشروح. ولد بخراسان ونشأ في هراة، ثم انتقل إلى قونية معلمًا، فالآستانة، وتوفي بها. وهو من سلالة فخر الدين الرازي. من كتبه "الإرشاد"، و"شرح المصباح" في النحو، و"شرح آداب البحث" و"حل الرموز" شرح مختصر للسهرودي في التصوف، و"الحدود والأحكام" في فقه الحنفية، و"حاشية على المطول"، و"شرح الهداية"، و"شرح المصابيح" للبغوي، و"حاشية على الكشاف"، و"مختصر المنتظم وملتقط الملتزم"، اختصر به "المنتظم" لابن الجوزي.
الشيخ الدريعي وميادين الدعوة دائمًا ما تحمِل رسائل وسائل التواصل الاجتماعي أنباء مؤلمة على نفوس المحبين، فكيف وقد حملت خبر وفاة عالم جليل وداعية نبيل كالشيخ محمد بن حسن الدريعي - رحمه اللّـه وأسكَنه فسيح جناته - الذي ودَّعه أهله ومحبوه في مشهد مهيب، وجمعٍ غفير من علماء ومشايخ وفضلاء، تقدمهم للصلاة عليه سماحةُ المفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ - حفظه الله - ودُفن في مقبرة الشمال بمدينة الرياض بعد صلاة عصر يوم الاثنين٢١ /٦/ ١٤٤٣هـ بجامع البابطين ودفن في مدينة الرياض، بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء في ميادين العلم والدعوة. تلك الحياة التي ابتدأت بولادته بمحافظة المجمعة عام 1358هـ لتجمع في صفحاتها صور الكفاح والأمل والعطاء والبذل والعديد من المواقف والدروس، وقد دبَّجها ابنه البار د/ حسن في كتاب "ميادين الدعوة"، وهي بحق ميادين صدق وخير في رحاب العقيدة والإيمان والعلم والدعوة من خطب وندوات، واطلالات إذاعية وتلفزيونية لافتة ومؤثرة.. إن أبرز ما يميز الشيخ الدريعي رحمه الله منهجه السلفي وسلوكه الوسطي في أداء حقوق جماعة المسلمين وإمامهم بالسمع والطاعة في المعروف والنصح والدعاء، وعنايته بالعقيدة الصحيحة وتثبيتها في نفوس العامة، وعدم إشغالهم بالقضايا السياسية عن ركيزة التوحيد وحقائق الإيمان، كما كان له دورٌ مؤثر في تحذير الشباب من المزالق الفكرية والدعوات الهدامة، منفرًا من الغلاة، دامغًا لأفكارهم، مستلهمًا في ذلك هدايات القرآن الكريم والسنة النبوية ومنهج السلف الصالح. نعم لقد كان هَمُّه الدعوة إلى التوحيد، فكرَّس معظم حياته للدعوة والتعليم، مسافرًا إلى المدن والقرى في نهاية الأسبوع والإجازة، مشاركًا في التوعية الإسلامية في الحج وفي ندوات الجامع الكبير التي يعلق عليها سماحة المفتي العام، إضافة إلى المحاضرات في المساجد التي لاقت صدى وقبولًا.. والشيخ من العلماء الذين بذلوا أنفسهم في الدعوة إلى الله تعالى عبر الوسائل المتاحة والحديثة، فكان من أوائل مَنْ شارك في وسائل الإعلام واستثمارها في الدعوة، رغم تورُّع العلماء والدعاة في ذلك الوقت من ولوج هذا الباب، إلا أنه بتشجيع ‏من سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله خاض غمار هذا البحر الخضم بما يَمتلكه من إمكانات وقدرة على إيصال الأفكار للمتلقي، فكان سابقًا لوقته وجيله في هذا المضمار الهام برفقة عديد من المشايخ الفضلاء؛ من أمثال الشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ صالح السدلان، والشيخ صالح اللحيدان - رحمهم الله - وغيرهم إدراكًا منهم لأهمية الإعلام، والاستفادة من شمولية وصوله لأكبر قدر من الناس، ينضاف إلى ذلك كونه - رحمه الله - من فرسان المنابر خطيبًا مفوَّهًا، وداعية مسددًا، ذا فصاحة وبيان، وصوت ندي بقراءة القرآن يهز المنابر بكلماته ويؤثر بثاقب بصيرته رغم فقد بصره.. ‏درسَ الشيخ في كلية المعلمين، ومِن ثَم في جامعة الإمام، فكان أنموذجًا في حسن الخلق والورع مع أسلوب فريد في التعليم، وذو عناية بعلم التفسير يجمع بين دقة المعلومة وترتيب الأفكار، وسرعة البديهة. مجلسه لا يُمَلُّ، ولا يخلو من فائدة علمية، وطرفة جميلة، فضلًا عن تواضع ولطافة ولسان عذب وتبسط مع الجميع عامة وخاصة، وجيرانًا وطلابًا يأنسون بلقياه، كريمًا مفضالًا يستقبل الضيوف والوفود، ويحنو على الطلاب والفقراء يقضي حاجاتهم ويشفع لهم، ويجيب الدعوة، وَصولًا للرحم مكرمًا للجيران. هكذا كانت حياته - رحمه الله - دروسًا في الثبات على العقيدة واليقين وحسن الظن بالله، وفي مشهد مرئي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي قبل زمن عندما زاره عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح فوزان الفوزان - حفظه الله - لعيادته في المستشفى والسؤال عن حاله، فكان جواب الشيخ - رحمه الله -: أنا مطمئن إلى ما عند ربِّي، وأرجو أن نبقى على العقيدة حتى نلقى الله! فرحم الله الشيخ محمد الدريعي رحمة واسعة، وغفر له وحقق فيه ظنَّه بربِّه، وأسكنه فسيح جناته وجزاه خير ما يجزي عباده الصالحين.
العمدة في الأحكام لعبد الغني المقدسي تحقيق عبد المحسن بن محمد القاسم صدر حديثًا كتاب "العمدة في الأحكام"، تأليف: الحافظ "عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي" (ت 600 هـ)، تحقيق: د. "عبد المحسن بن محمد القاسم"، سلسلة "متون طالب العلم"، توزيع: "دار التدمرية للنشر والتوزيع". وهذا التحقيق الجديد يتميز بأنه محقق على (12) نسخة خطية نفيسة؛ منها نسخة رئيسة عليها إجازة إلى المصنف. وبعض هذه النسخ عليها خطوط عدد من كبار العلماء وإجازاتهم؛ كمحمد ابن سماك العاملي، وابن خلدون، وابن الحاج البلفيقي، وابن لُب، وأحمد بن جزي الكلبي، وأبو بكر ابن العجمي، وغيرهم، وقيود العرض والقراءة عليهم، ومنها ما هو منقول من نسخ متصلة بالمصنف أو تلاميذه أو تلاميذهم. إلى جانب عزو أحاديث الكتاب عزوًا دقيقًا، ونسبة الألفاظ إلى من أخرجها. مع الترجيح بين فروق تلك النسخ الخطية، وإثباتها في الحواشي. وامتاز هذا التحقيق بشرح الغريب من الألفاظ، مع بيان الأمكنة والمقادير والاطوال والأوزان وتحويلها إلى المقادير المعاصرة. وحسن الاعتناء بعلامات الترقيم، وتقسيم المتن. إلى جانب ذكر المحقق نُكَتًا مفيدة من كلام العلماء على المتن. وامتاز هذا الإصدار لكتاب "عمدة الأحكام" بوجود نسختان من الكتاب: (1) نسخة مجردة من حواشي التحقيق مناسبة للحفظ. (2) نسخة كبيرة تتضمن حواشي التحقيق. ويعتبر كتاب "عمدة الأحكام" للإِمام الحافظ تقي الدين، أبي محمد عبد الغني المقْدِسِيِّ الجُماعيليِّ الحنبليِّ من أَجود الكتب التي صنفت في أحاديث الأحكام، حيث انتقى المؤلف أحاديثه مما اتفق عليه الإِمامانِ البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما إلا في القليل منها ممن انفرد به أحدهما، وأَلفه استجابة لطلب بعض طلبة العلم في اختصار جملة من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل الله لهذا الكتاب قبولًا من أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم، ونفع الله به نفعًا عظيمًا وذلك من أمارات حسن قصد المؤلف - رحمه الله تعالى - وسلامة منهجه وعظيم توفيق الله له، ولذا اعتنى به أهل العلم حفظًا وتدريسًا، وشرحًا وتعليقًا، وتَميّز به الكتاب بِأمرين هامّين. الأمر الأول: صحة الأحاديث الواردة فيه. حيث اشترط مصنّفه الاقتصار على ما اتفق عليه الشيخان رحمهما الله. الأمر الثاني: اختصاره وشموله لجميع كتب الفقه. قال الزركشي: "وقد طار - كتابه - في الخافِقَين ذكرُه، وذاع بين الأئمة نشرُه، واعتنى الناس بحفظه وتفهمه، وأكبوا على تعليمه وتعلمه، لا جرم اعتنى الأئمة بشرحه، وانتدبوا لإبراز معانيه عن سهام قَدْحِه" "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 2). وعبد الغني المقدسي هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجمَاعيلي ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي. وُلِدَ بجمَاعيل من أرض نابلس سنة541 هـ، ونُسِب لبيت المقدس لقُرب جمّاعيل منه ولأن نابلس وأعمالها جميعًا من مضافات البيت المقدس، ثم انتقل مع أسرته من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي لمدينة دمشق أوَلًا، ثم انتقلت أسرتُه إلى سفح جبل قاسيون فبنوا دارًا تحتوي على عدد كبير الحجرات دُعِيَتْ بدار الحنابلة، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون وهي المعروفة بالمدرسة العمرية، وقد عُرِفَتْ تلك الضاحية التي سكنوها بالصالحية فيما بعد نسبةً إليهم لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح. اتَّجه الحافظ عبد الغني إلى طلب العلم في سن مبكرة، فتتلْمَذ في صغره على عميد أسرته العلامة الفاضل الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم. كانت له رحلات علمية جابَ خلالها كثيرًا من البقاع، وسمع فيها بدمشق والإسكندرية وبيت المقدس ومصر وبغداد وحرَان والموصل وأصبهان وهمذان وغيرها. امتحن الحافظ عبد الغني الحنبلي لمهاجمته عقيدة الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري (ت: 324 هـ)، إذ تبنى الوزير السلجوقي نظام الملك (ت: 485 هـ) المذهب الأشعري وفتح للأشعرية المدارس في بغداد وأرجاء العراق، فتعرض الحافظ عبد الغني لحملة كبيرة وقاسية من جانب الأشاعرة في كل موطن وبقعة زارها، نظرًا لعلمه الواسع واجتماع طلبة العلم عليه وأيضًا نظرًا لحدته وصرامته عند النقاش. أثنى عليه الذهبي فقال: "الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق العابد الأثري المتبِع". قال ابن النجار عنه: "حدَّث بالكثير وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة، وكان غزير الحفظ من أهل الإتقان والتجويد، قيِّمًا بجميع فنون الحديث، عارفًا بقوانينه وأصوله وعلله وصحيحه وسقيمه وناسخه ومنسوخه وغريبه وشكله وفقهه ومعانيه وضبط أسماء رواته ومعرفة أحوالهم، وكان كثير العبادة ورعًا متمسِّكًا بالسنة على قانون السلف..". وقال سبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة ويقوم الليل ويصوم عامة السنَة، وكان كريمًا جوادًا لا يدخِر شيئًا، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقِّع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضَعُف بصرُه من كثرة المطالعة والبكاء، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ". توفاه الله في يوم الاثنين 23 من شهر ربيع الأول سنة 600 للهجرة، وله 59 سنة. ودفن بمقبرة القرافة بمصر. وقد رثاه غير واحد من الأئمة منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن سعد المقدسي الأديب بقصيدة طويلة مطلعها: هذا الذي كنتُ يومَ البَيْنِ أحتسبُ فَلْيَقْضِ دمعي عنكَ بعضَ ما يجبُ وقد خلّف من الولد عزَ الدين أبو الفتح محمد، وجمال الدين أبو موسى، وأبو سليمان عبد الرحمن، ثلاثتهم من العلماء رحمهم الله. وأورد "عبد الله البصيري" 56 عنوانًا للكتب التي صنفها الحافظ المقدسي، منها: 1- الكمال في أسماء الرجال. وهو أول مؤلف في رجال الكتب الستة، قال عنه المزي: "هو كتاب نفيس، كبير الفائدة". 2- تبين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نعيم في معرفة الصحابة. يقع في جزأين، يدل على براعة الحافظ وحفظه، وقد مدحه الحافظ أبو موسى المديني لما سمع منه هذا الكتاب. 3- الجامع الصغير لأحكام البشير النذير. 4- الصفات. 5- ذم الرياء. 6- ذم الغيبة. 7- فضل الصدقة. 8- الأحكام الصغرى. 9- الأحكام الكبرى. 10- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمحقق هو د. "عبد المحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن قاسم" إمام وخطيب المسجد النبوي من عام 1418 هـ الموافق 1997م. ولد بمكة المكرمة عام 1388 هجري، الموافق 1967م. والده هو الشيخ العابد محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم، جامع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وهو من ألزم طلاب الشيخ به، فلازمه اثنين وثلاثين (32) عامًا، وكتب عنه أكثر من ثلاثين ألف (30,000) ورقة، في أكثر من ألف (1,000) دفتر، ومنها خرج شروحات الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مثل: شرح آداب المشي إلى الصلاة، وشرح كشف الشبهات، وجدُّه هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، جامع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية مع ابنه محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم. حصل على ماجستير في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام. حصل على دكتوراه في الفقه الإسلامي من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام. له عدة مؤلفات منها: 1. الخطب المنبرية في خمسة (5) مجلدات، أربعة (4) منها مطبوع. 2. تيسير الوصول شرح ثلاثة الأصول. 3. المسبوك حاشية تحفة الملوك - في الفقه الحنفي - في أربع مجلدات (4) وأصله رسالة دكتوراه في ستة (6) مجلدات. 4. خطوات إلى السعادة. 5. طريقة لترك التدخين. 6. شروط حد السرقة على المذاهب الأربعة - رسالة ماجستير. القواعد الواضحات في الأسماء والصفات - لم يطبع. 7. المدينة المنورة "فضائلها - المسجد النبوي - الحجرة النبوية". 8. فضائل الحرمين الشريفين. 9. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - أصل من أصول الدين. 10. كيفية حل السحر. 11. الوصية والوقف "خطوات عملية لكتابتهما". 12. إخراج شرح العقيدة الواسطية من تقريرات الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، كتبه وجمعه والده الشيخ محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم. 13. متون طالب العلم: في ستة مستويات إضافة إلى مستوى تمهيدي، يتضمن اثنين وعشرين (22) متنًا من أصول العلوم، محققة على أكثر من مئة وعشرين (120) مخطوطة. 14. البيان في غريب القرآن - لم يطبع... وغيرها.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق- الاستشراق الصحفي ) منذ انطلاقة الاستشراق من الأديرة والمعابد في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي على يد الباب سلفستر الثاني، كما يفضل الدكتور محمد ياسين عريبي، والحوار بين الشرق والغرب لا يزال مستمرًّا،إلا أن انطلاقة الاستشراق هذه جاءت تعضيدًا لحملات التنصير [1] . يقول محمد ياسين عريبي في كتابه المهم: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي: "وبغض النظر عن التفاصيل والخوض في شتى العلوم العربية التي نقلت إلى الغرب عن طريق مدارس جنوب إيطاليا، كالطب والصيدلة والزراعة والكيمياء والميكانيكا والعلوم الطبيعية بصورة عامة والصناعة والفلسفة بفروعها، فإن الدافع الأساسي لنقل هذا التراث هو التبشير الذي اتخذ من الاستشراق وسيلةً تحقق الغاية؛ إذ إن معرفة الحضارة الإسلامية هي الأساس لانتصار الصليب على الهلال،وإذا كان الصليبيون قد ولوا الأدبار بعد صراع دامَ أكثر من مائتي سنة فإن الغرب قد انتصر بالفعل في هذا الصراع من خلال سلبه لحضارة الشرق،وهذا ما يفسر نشاط الترجمة في القرنين الثاني والثالث عشر" [2] . ثم يقول في الصفحة التالية: "وإذا كانت الأفكار أسبق من الظواهر، فإن استعمار البلاد العربية الإسلامية في (ق 19 - 20م) في طرف الغرب لم يكن إلا نتيجة لاستلاب الفكر العربي الإسلامي في القرنين السابقين، من ديكارت إلى كانط،وقد خطط التبشير والاستشراق لمثل هذا الاستعمار منذ البداية،ولعل أوضح صورة لهذا التخطيط ما نلمسه في مدارس الترجمة بالجناح الشمالي الغربي من الزاوية المنعكسة، وخاصة في مدرسة طليطلة" [3] . بقراءة هذا الكتاب يجد القارئ مادة علمية غنية جديرة بالمتابعة،على أن الكاتب مثل غيره لا يخلو من ملحوظات في طرحه من حيث انطلاقته الفكرية،هذا الطرح ما هو إلا امتداد للحوار بين الشرق والغرب، وإن هذا الحوار يصطبغ اليوم بقدر لا يستهان به من السطحية، حتى في مفهوم الاستشراق الذي يعتقد على نطاق واسع أنه سيعود إلى الأضواء بعد الذي حل بالعالم العام 1422هـ/ 2001م، ومن ذلك زيادة التحامل على العرب والمسلمين وعلى الإسلام نفسه بطريقة تناسب الزمان إلى درجة التدخل في فهم الإسلام وإفهامه للأجيال القادمة، كما تفعل بعض مراكز البحوث الغربية مثل مؤسسة راند بالولايات المتحدة الأمريكية،وهذا شيء خطر ينبغي التنبه له وإعداد العدة الفكرية لمواجهته من المختصين في الاستشراق. من هذا الطرح السريع ما ظهرت به الكاتبة والصحفية الإيطالية أوريانا فلاتشي في كتابها "الغضب والاعتزاز"،والكاتبة فلاتشي ليست مستشرقة بالمفهوم الدقيق للاستشراق، ولكنها روائية وصحفية تجسد تحول الاستشراق إلى الإعلام والصحافة،وهي كانت مقيمة في نيويورك،ومع هذا صدر كتابها بالإيطالية، وترجم إلى الفرنسية [4] ،وركزت فيه على الجالية العربية المسلمة في الغرب، ووصفتهم بأنهم قوم يلوِّثون القارة، فهم نفايات مغتصبون، وعهرة حاملون لمرض الإيدز، أينما حلوا ورحلوا،وهم يقومون بالتكاثر بيننا كالجرذان،وتنصح صويحباتها الأوروبيات برفس المهاجرين بالأقدام على قفاهم، كما قامت به هي، وتهين الإسلام إهانة مباشرة، وترى أنه هو سبب هذا الوضع للجالية [5] . وكانت فلاتشي تنشر مقالاتها هذه التي جمعتها في هذا الكتاب "الغضب والاعتزاز" في صحيفة بانوراما الإيطالية الواسعة الانتشار لمالكها برلسكوني، كما تذكر صحيفة الشرق الأوسط. تذكر صحيفة الشرق الأوسط (الاثنين 22/ 3/ 1422هـ الموافق 3/ 6/ 2002م) أنه بِيعَ من هذا الكتاب، في إيطاليا وحدها مائة ألف (100،000) نسخة في أقل من شهرين، ومثل هذا الرقم بالفرنسية،وعملت الكاتبة على ترجمته إلى اللغة الإنجليزية. تُذكِّر هذه الصحافيةُ بتلك الممثلة الفرنسية بريجيت باردو التي أطلقت كلماتٍ ووصفًا مقيتًا للمسلمين وطالبت بإخراج المهاجرين المسلمين من فرنسا، باعتبارهم ملوثين للثقافة الفرنسية، فأقامت الجالية المسلمة دعوى ضدها اضطرت معها للاعتذار. أعان الله العرب والمسلمين على التعامل الموضوعي تجاه هذه الأوصاف التي تكالبت عليهم، فمرة هم ثعابين، واليوم هم جرذان،وأعان الله المعنيين في التصدي العلمي لمثل هذه الاتهامات التي لا تخلو من فائدة، لا سيما أنها أظهرت قدرًا واضحًا من الجناية على العرب والمسلمين، جعلت غيرهم ينظر إليهم نظرة أخرى فيها خير للناظر والمنظور؛ إذ تأثر بعض من قرأ قراءة موضوعية لفلاتشي، واستخف بها وبفكرها هذا الذي يعيد نبش التاريخ الذي تسعى حضارة اليوم إلى تجاوزه؛ لأن في نبشه مضرةً للغرب أكثر من كونه مضرة للشرق. [1] انظر: محمد ياسين عريبي ، الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي: نقد العقل التاريخي - الرباط: المجلس القومي للثقافة العربية، 199م - ص 142. [2] انظر: محمد ياسين عريبي ، الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي: نقد العقل التاريخي - المرجع السابق - ص 142 ، وانظر في مجال تأثير النقل والترجمة: علي بن إبراهيم الحمد النملة ، النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية - ط 3 - الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1427هـ/ 2006م ، ص 204. [3] انظر: محمد ياسين عريبي ، الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي - مرجع سابق ، ص 143. [4] انظر: فنسان جيسير ، الإسلاموفوبيا - مرجع سابق - ص 66 - 73. [5] ستكون هناك وقفة أخرى مع الكاتبة الصحفية الروائية أرويانا فلاتشي، عند الحديث عن المحدد السادس عشر: الإعلام.
«الإجازات الهندية وتراجم علمائها» جمع واعتناء الشيخ عمر بن محمد سِرَاج حبيب الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. أما بعد: إن من نفائس ما صَدَر مؤخرًّا كتاب « الإجازات الهندية وتراجم علمائها »، وهي موسوعة حافلة من جمع وتأليف صاحبنا الشيخ البحّاثة المحقِّق أبي سراج عمر بن محمد سِرَاج حبيب الله، حفظه الله ورعاه وسدَّده، وقد طُبعتْ في سبع مجلَّدات (قرابة 5 آلاف صفحة) في دار المحدِّث بالرياض، ضمن مطبوعات شيخنا الـمُحْسِن نِظَام بن محمد اليَعْقُوبي البَحْريني، وبتقديمه، ودعمه في طباعته بسعرٍ مخفَّض ميسور، جزى الله الجميع خيرًا. وكنتُ أترقب صدور هذه الموسوعة بفارغ الصَّبر لِما أعلُمه شخصيًّا من تَعَب مؤلِّفها في الجمع والتحرير، وما بَذَله من أسفار وتنقيبٍ مضنٍ و (مُكْلِف) لسَنَوات، ولِـما رأيتُه له من نفائس التحقيقات والتدقيقات في التراجم والأسانيد المتأخرة، مما لا يُحْسِن مثله اليوم -فيما أعلم- إلا أفراد، ويُرجى له مستقبلٌ زاهر في خدمة السنّة النبوية عبر فنّ الرواية، وتراجم العلماء، فالله يحفظه ذُخرًا ويسدّده ويقوّيه ويبارك فيه، ويُخلف عليه أضعاف ما أنفق وبَذَل من عُمُرٍ ومالٍ جزيل؛ تحصيلًا وسفرًا وتصويرًا وترجمة إلى العربية وصفًّا وفهرسة، ثم حِرْصِه على خروجه دون مردودٍ يُذكر! لن أتكلَّم عن صِلَتي الشخصية معه، فشهادةُ المحبِّ مجروحة، وترافقتُ معه في عدة بلدان على الشيوخ، وتبادلنا الإفادات لسنوات، ولكن ما قد يهمُّ القارئ هو وَصْفُ الكتاب وبيان بعض مزاياه، وما راءٍ كمن سَمِعا. • اختار المؤلِفُ شِبْهَ القارة الهِنْدِيَّة مجالًا لعَمَله، وقد أحسنَ في ذلك أيَّما إحسان، لأنها البلادُ التي صارت مدار الرواية الحديثية السَّماعية المجوَّدة عند المحدِّثين، وسَبَقَتْ سِوَاها في مجال خدمة الحديث وحفظ أصوله وطباعتها وشروحها، ولكنَّ هذا المجال مرتقًى صَعْبٌ! لاتِّساع البلاد، وترامي أطرافها، وتعدّي آثارها إلى خارِجها، وكثرة مدارسها وأعلامها، مع شُحِّ مصادرها -ولا سيما بالعربية- وتناثر مكتباتها، وعُسر التعامل مع بعضها، سوى أن المدة التي غطّاها امتدت لأربعة قرون ونصف. فما كان ليتصدى لمشروعٍ كهذا إلا صاحب عزيمةٍ (عُمَرِيَّة) وهِمَّةٍ (طَبَريَّة) ، فالحمد لله الذي هداه ووفّقه لهذه المهمّة الجليلة والشاقّة التي طالما احتاج لها الباحثون. وأُلخّص عَمَل الأخ المؤلّف في التالي: 1- قام بنَشْر وتحقيق ما تحصَّل عليه من جمعٍ دَؤوبٍ لنصوص الإجازات الحديثية -لا غيرها- في شبه القارة الهندية، ووسَّع الشَّرطَ بحيث أدخل فيه مَنْ كان أحد طرفي الإجازة (المجيز أو المجاز) منسوبًا للهند الكبرى، أو متوطنًا فيها، واستثنى من ذلك بلاد السِّند. 2- رتَّب الكتاب على تواريخ الإجازات نزولًا من سنة 1399 إلى سنة 999، وهذا الترتيب وإن كان غير معتاد في كتب التراجم؛ ولكن مؤلّفه تقصّده ليُدخل طبقة كبار المشايخ المعاصرين في شرط الكتاب، وهذا من كمال الإفادة والنُّصح، لأن فيه الدلالة على كثيرٍ من الروايات المعاصرة، الباقية والموازية، ليستفيد منها الطلبةُ والباحثون. وما كان شيئًا معاصرًا الآن، فهو غدًا تاريخٌ يحتاج لمن يدوّنه ويحفظه ويحرُّره، وما دام من المتعذر استيعاب الإجازات قريبة العهد: كان في صنيعه الحفظُ لأهمِّها وعيونها، وتَبَعًا لذلك التراجم لأصحابها، فبذلك زاد مجال الكتاب عمليًا على 440 سنة، فيهم أعيان المعاصرين، ومع هذا الشَّرط فقد أتى على أشياء وفوائد متصلة خارجه دون التزامٍ، ويأتي بعضُ ذلك. 3- قام جزاه الله خيرًا بالتعليق على كثيرٍ من الإجازات، والتنبيه على كمٍّ هائل من الأخطاء والأوهام، لِـما هو معلومٌ لأهل العناية من حال الرواية المتأخرة، وأَجْمَل في مقدِّمته البراءةَ مما فيه مخالفةٌ للهَدْي النَّبوي القَويم، لما يحصل من تفاوتِ آراءِ أهل الرواية ومدارسهم وخلفياتهم. 4- قام بتحرير تراجم كلٍّ من المُجيز والمُجاز من الهنود، تراجم متوسطة غالبًا، ولكن فيها عنايةُ تامّةٌ بأمر تحرير الرواية، والتفريق بين شيوخ الدراية والرواية، والحرص على ضَبْط المسموعات، وهذا أمرٌ قَلَّ من يهتم به من أهل التراجم المتأخرة. وفي أثناء ذلك ترجم لكثيرين في الهوامش أثناء التراجم الرئيسة، ويلحظ الباحثُ مقدار تَعَبه في التراجم بحيث صار الكتاب من أهمِّ المراجع لتلك البِلَاد، وفيه من التَّحريرات والتَّحقيقات ما لا تجدُه في غيره. وأمرٌ يُشكر عليه كثيرًا: هو سعيُه في تحصيل تواريخِ تخرُّج المترجَمين من مَدَارسهم، مع تحصيل قائمة المدرِّسين للكتب في المدارس الكبرى على التواريخ، فتحرَّر بذلك بشكلٍ دقيقٍ معرفةُ المسموعات على المشايخ، ودُفعتْ كثيرٌ من الأوهام التي تحصُل في هذا، وحُفظتْ أيضًا مسموعاتٌ كثيرة ربما ضاعتْ واختلطتْ على بعض أصحابها أنفسهم، وهو أمرٌ رأيناه في بعض المسنّين من مشايخنا هناك، فهذا تثبُّتٌ بالغٌ لا يستغني عنه مشتغلٌ في تحرير المسموعات والتراجم هناك. 5- خَتَم التراجم بالاتصال الإسنادي إلى صاحبها، وهو أمرٌ يسهّل الوصل لغير المختصّ، ويدرأ الأخطاء في الاتصالات: مما هو شائعٌ عند غير المتقنين، ومنهم بعضُ المسارعين للتخريج والكتابة والرواية من غير أهليَّة أو دُربةٍ ولا احترام للتخصُّص، فعَمَلُ الأخ الشيخ المؤلّف فيه نصيحةٌ عامة، وتوطئةٌ لقَطْفِ ثَمَرة هذا الجهد الكبير في الجَمْع والتَّحرير. 6- مَلَأ الكتاب بمئات الوثائق النَّفيسة، ومن أهمِّها صُوَر الإجازات التي نَسَخها وحقَّقها، وصُوَر كثيرٍ من المشايخ، والمدارس، والأبنية والشواهد التاريخية، والخطوط، وفوائد أخرى متَّصلة، مما يهمّ الباحث في التراجم والأسانيد، وكثيرٌ من هذه الوثائق تُنشر للمرة الأولى، وممّا لا يعلمه كثيرون أنه سافر إلى بعض المكتبات والأشخاص -في الهند وخارجها- لتصوير ورقةٍ أو وثيقةٍ واحدة، ومن هذه الوثائق أشياء من أفراد ومكتبات شخصية مما هو غير مشهور ولا مبذول، فرحم الله من قدَّر وشَكَر. 7- بَدَأ الكتاب بتمهيدٍ سَرَد فيه تاريخيًّا مناهج التدريس والكتب المعتمدة في التدريس غالبًا في الهند، إلى وقت انتشار «الدَّرْس النِّظامي» الذي ساد البلاد. وأورد أيضًا مَسْرَد المناهج وأنصبة التدريس في كبريات الجامعات والمدارس الهندية (ديُوبَنْد، سَهَارنْفُور، دابهيل، الرحمانية، نَدْوة العلماء، الجامعة السَّلَفية في بَنَارس) ، ليتُعرف عَبْرَها على المسموعات، وأشار لموضوع تضمُّن الدراسة مع شهادة التخرُّج لأمر الرواية العامّة بحسب كلِّ جامعة، فمنها ما فيه إجازة رواية عامّة -مثل ديوبند وسهارنفور وغيرهما- ومنها ما لا يُفيد ذلك، وفي تمهيده تنبيهاتٌ دَقيقة حول ذلك يحسُن الوقوف عليها. 8- ألحق المؤلف كتابه بعَمَل جليل نبيل، وهو سرد 150 صفحة من استدعاءاته الهندية التي حصّلها خلال رحلاته المتتابعة للهند وغيرها، وذَكَر أثناء ذلك تراجم هؤلاء المجيزين المعاصرين، وحرَّر مرويّاتهم، فأسدى بذلك من المعروف والإحسان إلى إخوانه وأهليهم شيئًا لا يُقدّر بثمن، ونَفَع الناس -روايةً وتراجم أصلية- عن عشرات الشيوخ المعاصرين، وتعدَّى ذلك علماء الهند إلى كثيرٍ سواهم، رحم الله الأموات منهم وبارك في الاحياء. وأمرٌ آخر يُذكر ويُشكر عليه: ترى عنده الحرص على نسبة الفوائد لأصحابها من المعاصرين والأصحاب، وقلّ من يفعل ذلك؛ خصوصًا من بعض من يعمل في هذا الفنِّ مع الأسف. 9- بقي المؤلف يُضيف وينقِّح ويزيد لغاية التجربة الأخيرة للطباعة، فترى فيه وفيات من سنة 1442 لشيخنا الحافظ المفتي ثَنَاء الله بن عيسى خان الـمَدَني، والشيخ محمد عمر الطُّوْنْكي، رحمهما الله وسائر مشايخنا والمسلمين، وأخبرني أنه مستمرٌّ في جمع ما يستجد ويتحصّل له إن شاء الله، لعلّه يخرجه إذا استوى على سُوقه في ذيلٍ على الموسوعة، ولعلّ خروج هذا الجهد يفتح أبوابًا لإفادات المعتَنين وأهل البلد للمؤلِّف، فيتعاونون معه ويرسلون له ما يكمِّل عمَلَه. 10- عاشرًا وأخيرًا- ختم الكتاب بسَرْدٍ لأشهر المصادر العربية التي اعتمدها (وعددها 302 كتابًا) وأشهر المصادر الأردية والفارسية (وعددها 135 كتابًا) ، ثم سَرَد فهارس للآيات، وللأحاديث والآثار، والأشعار، والكُتُب، والتراجم، ثم عمل فهرسًا للأعلام الواردين في الكتاب، إضافة لفهرس المواضيع العامة، فبهذه الفهارس المتنوَّعة والمهمَّة صار البحث ميسَّرًا في هذه الموسوعة. • فيحق لي أن أجدِّد القولَ بأن هذا الكتاب والمجهود لا يقدَّران بثَمَن، فالله يجزُل لصاحبه الأجر والمثوبة، ويتقبّله منه، فقد بَرّ قطاعًا كبيرًا ومهمًّا من علماء المسلمين في التاريخ والتراجم والرواية، ولا ينبغي أن تخلو منه مكتبةُ المعتني بهذه الفنون، ولعلّ من يقرأ كلامي يظنُّني بالغتُ في وصفه، ولكنّ المعاصرة والمعرفة تمنعاني من الإفاضة، ومن يمارس البحث في هذه المجالات سيُدرك أنّني قصرتُ معه. وقد قلتُ لعددٍ من المشتغلين من الأصحاب: هذا العَمَل رُكْنٌ من أركان كتب الرواية المتأخرة، وينبغي أن يوضع بجانب «فِهْرِس الفهارس» لشيخ الفنِّ عبد الحي الكَتّاني، وهو الموصوف بأنه «وِرْد أهل الرواية» كما وصفه صاحبنا الـمُفيد الشيخ أحمد بن عبد الملك عاشُور. وأيضًا بجانب «نُزهة الخواطر» للعلامة عبد الحي الحَسَني. وأقول صادقًا: لو تقدّم خروجُ هذا العَمَل لأفادني جملةً في أعمالي الإسنادية في باب السَّماعات والتَّحريرات. • وأنبِّه على أمرٍ مهمّ، وإن كان من المعلومات: لن يخلو أيّ عملٍ بَشَريّ من أخطاء وقُصور، فكيف إذا كان العَمَل بهذه الضخامة، وقام به فردٌ واحد، مع عُسْر الموارد وحواجز اللغة وغيرها؟ فمع الجودة الظاهرة والإتقان الكبير ولكن ثمّة ملاحظاتٌ مغمورةٌ في بحر الصواب، وتطبيعاتٌ من الطبيعيّات، واختلافٌ لبعض وجهات النَّظر علميًّا، مما يدور بين الأجر والأجرَين، وهذا أمرٌ معتاد في الأعمال العلمية، فأما الـمُنْصف والعاقل فيَشْكُر ويعذُر، ويَبْني ويَنْصَح ويُصحِّح، ويَصِلُ رَحِمَ العِلْم، مستفيدًا داعيًا، وأما غيرُه فيُهدي الحَسَنات -رُغمًا عنه- ويهدم ويتعالم ويتمرَّد! والمؤّلفُ فيما أعلم يرحِّب بالنَّقد العلميّ ويفرح بالإفادة والنُّصح، أقولُه لأنّي أوصلتُ له بعض ما لاحظتُه لينظر فيه، وبعضه مما هو تابعٌ لغيره، مثل ما وقع في إجازة تقي الدين الهِلَالي لشيخنا ثناء الله المدني -رحمهما الله- حيث حَصَل سقطٌ في ثَبَت شيخنا «تذكرة الجهابذة الدُّرَري» المطبوع؛ فصارت الإجازةُ كأنها من الشيح حمّاد الأنصاري لشيخنا، والأمرُ كما شرحتُ، فالعهدة ليست على أخينا المؤلِّف، وبكلِّ حالٍ فنسبة الملاحظات قليلة، و«إذا بَلَغَ الماء قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِل الخَبَث». • وختامًا: أسأل الله أن يجزي خيرًا الأخ الشيخ المؤلِّف، ويُكثر من أمثاله من أهل التجويد والتحرير، وأن يُكثروا من أمثال هذه العمل الرائد. وأسأله تعالى أن يجزي خيرًا من طَبَعه، وناصر العلم وناشره الشيخ نظام اليَعْقوبي، وكلَّ من ساهم في خُروجه، من الجنود المعروفين والمجهولين، وأن يكون محفِّزًا وقدوةً لأهالي البلدان الأخرى بعَمَل نظائر له، فيَبَرُّون ويَنْفَعون ويُؤجَرون. والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين. كتبه: محمد زياد بن عمر التُّكْلَة، في دارْبي بإنجلترا، 4 شعبان 1443 هـ
بداية التبليغ وبعد فترة الوحي ومرحلة تثبيت الفؤاد للنبي صلى الله عليه وسلم نزلت سورة المدثر، وفيها الأمر بالدعوة: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، ثم أمَره بالصلاة، وكانت على طريقة إبراهيم عليه السلام، ركعتين ركعتين في الصباح والمساء، ورُوي أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه؛ ليُريَه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريلَ توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل، ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ [المدثر: 3]، وكان الأمر بتطهير الثياب، ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]؛ لأن الصلاة لا تصحُّ إلا بالطهارة، طهارة الثوب والبدن، والبعد عن الأصنام وهجرها، وهجر كل ما يوصِّل إليها، ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، وقد كان عليه الصلاة والسلام يكرهها منذ الصغر، وهذا الأمر تأكيد لنبذِها، وتعليم لنا أيضًا بكرهها وعدم محبتها أبد الآبدين، وبعد هذا قام يدعو من يتوسم فيه الخير، فكانت خديجة أول من آمن به وصدقه، قال ابن هشام في السيرة: وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاء منه، فخفَّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع شيئًا مما يكرهه مِن ردٍّ عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبِّته وتخفِّف عنه، وتصدِّقه وتهوِّن عليه أمرَ الناس، وكانت أول من صلى معه، فقد رجع إليها وأخبرها بتعليم جبريل له الصلاة، فعلمها خديجة رحمها الله تعالى ورضي عنها. وتبِع خديجةَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأكرَمه الله بالإيمان؛ حيث كان يعيش في كنف النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمره عشر سنين، وبذا يكون أول من آمن من الأولاد، فقد كان ذا عقل نيِّر متفتح، وفي فترة مكثه عند النبي صلى الله عليه وسلم، رأى محمدًا الإنسان العطوف الرحيم الكريم الصادق الأمين، فأحبَّه، وتعلَّق قلبُه به، لذلك ما إن أظهر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته حتى لبَّى وآمن، قال ابن إسحاق: كان إذا حضرت الصلاة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى شعاب مكة، وخرج معه علي رضي الله عنه مستخفيًا من أبيه وأعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، ولَما رآه أبوه يصلي سأله عن هذا الدِّين الذي عليه، فقال علي: يا أبت، آمنت بالله وبرسول الله، وصدقتُه بما جاء به، وصليت معه لله واتَّبعته، فقال أبو طالب: إنه لم يدعُك إلا إلى خير، فالزَمه، وأسلَم من الفتيان بعد عليٍّ زيدُ بن حارثة رضي الله عنه، فكان أول من أسلم من الموالي، وكان أولَ الرجال إيمانًا أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (( ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم عنه - تأخر عنه - حين ذكرته له، وما تردَّد فيه ))، فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان أبو بكر رجلًا مؤلَّفًا إلى قومه، محببًا سهلًا، وكان أنسبَ قريش لقريش - أي عالِمًا بالنسب - وكان رجلًا تاجرًا ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لتجارته وعلمه، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام كل من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو وقاص اسمه مالك، فيذكر أحيانًا باسم سعد بن مالك، وطلحة بن عبيدالله، فجاء بهم حين استجابوا له، فأسلموا وصلَّوْا، ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، ثم أبو سلمة وهو عبدالله بن عبدالأسد، وذكر الواقدي إسلام أبي ذر، وكان رابعًا أو خامسًا، وكذلك عمرو بن عَبَسة السلمي، وأسلم خالد بن سعيد بن العاص، وأسلمت زوجته أمينة بنت خلف من خزاعة، وكان ممن أسلم الأرقم بن أبي الأرقم، وسعيد بن زيد، وعبدالله بن قرط، وزوجته فاطمة بنت الخطاب. قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدَّث به الناس، وكان المسلمون إذا أرادوا الصلاة خرجوا إلى الشعاب، فصلَّوْا هناك، وحدث أن كان نفر منهم يصلون - وهم سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود - في أحد الشعاب بمكة، فطلع عليهم نفرٌ من المشركين، منهم: الأخنس بن شريق وأبو سفيان بن حرب، وعدد غيرهم، فسبوا المسلمين وعابوهم وتضاربوا، فحمل سعد بن أبي وقاص لَحْيَ - فك - بعير وضرب به أحد المشركين فشجَّه، ثم تحاجز القوم، وكان أول دمٍ أُريق في الإسلام.
التفكير والتفكر في الإسلام يسود تصور خاطئ عند البعض - وبخاصة المثقفون والمتعلمون - بأن الإسلام يعد عائقًا أمام التفكير، وبأن الدين مانع للتفكر، وقد يكون هذا التصور ناتجًا عن موقف سياسي، أو تبنٍّ فكري، أو لأحداث تاريخية قديمة لا علاقة لها بالإسلام. الإسلام باعتباره خاتم الأديان قد جاء بما يدفع الإنسان للعمل والإبداع، والفكر والتفكير؛ قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]. بل لقد جعل الإسلام في النظر في الكون ونشأته، وكذلك من مخلوقات الله في الأرض مجالاتِ التفكر؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20] ، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3] . وقد أدرك الأستاذ محمود عباس العقاد رحمه الله هذه الحقيقة الإسلامية، فأعد بحثه: "التفكير فريضة إسلامية"، وقدمه للمؤتمر الإسلامي في ستينيات القرن العشرين الميلادي، ونُشر في كتاب بواسطة دار العلم بالقاهرة؛ قال فيه: "القرآن لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يُلام فيها المنكِر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه، ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يُناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة" [1] . مفهوم التفكير: مفهوم التفكير لغويًّا: جاء في لسان العرب لابن منظور أن التفكير اسم، ومن العرب من يقول الفكر والفكرة والفكري. ومفهوم التفكير اصطلاحًا: كل نشاط ذهني أو عقلي يختلف عن الإحساس والإدراك الحسي، أو يتجاوز الاثنين إلى الأفكار المجردة، أو هو البحث عن المعنى، سواء كان هذا المعنى موجودًا بالفعل، ونحاول العثور عليه والكشف عنه، أو استخلاص المعنى من أمور لا يبدو فيها المعنى ظاهرًا، ونحن نستخلصه أو نعيد تشكيله من متفرقات موجودة [2] . إن عملية التفكير عملية إنسانية تتطلب مجودات من أطراف عديدة خلال مراحل النمو، ويؤثر فيها كثير من العوامل الوراثية والبيئية والثقافية، ويولد الإنسان وهو مزود بآلة التفكير؛ وهي العقل [3] . التفكير والتفكر في القرآن الكريم: يعد التفكير أرقى سمة يتسم بها الإنسان الذي كرمه سبحانه وتعالى، وميزه عن غيره من سائر الكائنات الحية، ولقد حث الله سبحانه وتعالى البشر على التفكير في كثير من الآيات القرآنية، وكرم العقل والعلم والعلماء، وإن الأديان السماوية حثت على التفكير، والإسلام أحد هذه الأديان، الذي اعتبر التفكير فريضة إسلامية، وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكامل ما احتواه من الوظائف بخصائصها جميعًا [4] . ورد في القرآن الكريم: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 18 - 20]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]. وردت كلمة "يتفكرون" في القرآن ثماني عشرة مرة؛ في سورة البقرة مرتين: الآية: 219، والآية: 266، الأنعام: الآية: 50، بالياء، الأعراف مرتين: الآية: 176، والآية: 184، بلفظ "يتفكرون"، والثانية بلفظ "يتفكروا"، يونس: الآية: 24 بالياء، النحل: الآية: 11، والآية: 44، والآية: 69، ثلاث مرات في سورة النحل كلها بالياء، الروم مرتين: الآية: 8، والآية: 21، الأولى بلفظ "يتفكروا"، والثانية "يتفكرون"، سبأ: الآية: 46 بلفظ "تتفكروا"، الزمر: الآية: 42 بالياء "يتفكرون"، الجاثية: الآية: 13 بالياء "يتفكرون"، الحشر: الآية: 21 بالياء "يتفكرون"، وأخيرًا في سورة المدثر الآية: 18 بلفظ "فكر ". أهمية التفكير: 1- يساهم التفكير في إعداد الإنسان للتعامل مع ظروف الحياة، وتحديد ما ينفعه وما يضره. 2- إنشاء الفكر لدى المجتمع، واستغلال طاقات ومقدرات المجتمع بحيث تحدث النهضة والتنمية المنشودة. 3- امتلاك مقومات القوة، سواء المادية أو المعنوية، وسواء كان ذلك للأفراد أو المجتمع أو الدولة. 4- صنع فرد صالح قادر على البناء والمساهمة في التنمية. 5- مواكبة ما يحدث في العالم من تغيرات سريعة ومتلاحقة، بل والمساهمة في هذه التغيرات. أساليب التفكير: التحليلي الخرافي النمطي الجانبي العلمي المزدوج البصري التأملي المطلق المثالي ما وراء المعرفة الرياضي الإبداعي المادي العاطفي المنطقي الوظيفي الناقد التجميعي الواقعي العلمي السمعي المركب التركيبي التفكير والعلم: لا شك أن التفكير والعقلانية والتدبر لا يمكن أن يتحقق لإنسان جاهل لا يعلم من الحياة شيئًا، ويخطئ من يظن أن إطلاق لفظ العلم والتعلم في الإسلام مقصور على تعلم الأمور الدينية الشرعية فقط، بل المقصود بذلك - إلى جانب العلم الشرعي - كل ما يخدم الأمة والإنسانية، ويحقق أهدافها بالخير والسعادة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) )، وهكذا تتضح المنزلة التي وصفها الإسلام للعلم والعلماء؛ حيث فضلهم وقدمهم على العبادات النافلة، وعن ابن مسعود قال: "الدراسة صلاة"؛ أي: العلم والدراسة عبادة مثل الصلاة، كما يولي الإسلام عناية خاصة بالعلم التطبيقي التجريبي؛ إذ يسعى الإسلام إلى إيجاد العقلية العلمية العملية الواعية [5] . الكاتب الماركسي مكسيم رودنسون يقول في حديثه عن العقيدة القرآنية: "القرآن الكريم كتاب مقدس تحتل فيه العقلانية مكانًا كبيرًا، فالله لا ينفك فيه يناقش ويقيم البراهين، بل إن أكثرنا يلفت النظر: إن الوحي نفسه - هذه الظاهرة الأقل اتسامًا بالعقلانية في أي دين، الوحي الذي أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور وعلى خاتمهم محمد - يعتبره القرآن هو نفسه أداة للبرهان، فهو في مناسبات عديدة يكرر لنا أن الرسل قد جاؤوا بـ (البينات) ، وهو لا يألو يتحدى معارضيه أن يأتوا بوحي مثله. تنمية الفكر: إن تنمية الفكر تقوم على ثلاثة أسس رئيسية؛ هي: 1- التعرف على المبادئ والمنطلقات الصحيحة التي تستخدم في التفكير. 2- معرفة بعض التقنيات التي تساعدنا على استخدام إمكاناتنا العقلية على نحو صحيح. 3- تسليط الضوء على بعض الانحرافات على سبيل التفكير المنهجي [6] . التفكير والمعلومات: في التفكير استقصاء وبحث، وهذا يحتاج إلى توفير المعلومات، بل قد يكون التفكير مستحيلًا في حال عدم توفر المعلومات أو إن كانت المعلومات منقوصة غير كاملة. كما أن توفر معلومات زائدة عن الحاجة تُشتِّت التفكير، وقد تُعيق العقل وتضيعه. أما الأخطر في موضوع التفكير والمعلومات هو توفير معلومات خاطئة غير صحيحة ولا سليمة، مما يجعل من التفكير غير دقيق، ومن ثَمَّ الحصول على نتائج خاطئة ليست ذات أي فائدة. متفرقات في التفكر والتفكير: • كلف الله الإنسان بعمارة الأرض، وهذا تكليف لا يحتاج تكاسلًا أو تجاهلًا، إنما يحتاج لتفكير نشط واعٍ قادر على إعمار الأرض الإعمار الصحيح. • لا بد من التفكير بالمستقبل، فالأمم البائسة أمم بلا مستقبل؛ لذا مطلوب التفكير بالمستقبل وتطوير هذا التفكير، وفتح المجال أمام الإبداع. • مطلوب الخروج من النمطية بالتفكير، والخروج من الأنماط السائدة، وهذا يحتاج لتنوع معرفي، وسعة اطلاع، وخروج من الصندوق الضيق بالتفكير. • الخروج من التصلب الذهني، ويقول الدكتور عبدالكريم البكار في كتابه: "مدخل إلى التنمية المتكاملة": إن المرونة الذهنية هي قدرة العقل البشري على إدراك الفروق الدقيقة بين الأشياء، والمراوحة المستمرة بين الأمس والأصول، وبين المسائل الفرعية التخصصية، وتعرية الألفاظ والمصطلحات مما يعلق بها من شوائب الاستعمال والتقليد، من أجل بعث حيويتها في الدلالة والإيحاء، إلى جانب قدرته على التفلت من القولبة والنماذج الثابتة". • إطلاق حرية التفكير والترحيب بكل الأفكار، وتشذيبها فيما بعد. [1] موسى، نظمي: العقل نعمة إلهية والتفكير فريضة إسلامية: https://2u.pw/ooqwS. [2] بركات، زياد: التفكير الإيجابي والتفكير السلبي، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى، 2018، ص 108. [3] بركات، زياد - المصدر السابق - ص 107. [4] بركات، زياد - المصدر السابق - ص 23. [5] حلاوة، جمال: مدخل إلى علم التنمية، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى، 2009، ص61-62. [6] بكار، عبدالكريم: مدخل إلى التنمية المتكاملة، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1999، ص51.
علم المصطلح النقدي بالمغرب من حيث إرهاصات نشأته، ومفاهيمه الأساسية، وقضاياه الإشكالية، ومناهج درسه عرفت المكتبة المغربية والعربية صدور عمل أكاديمي جديد أغنى رصيدها النقدي والمصطلحي، والحديث هنا خاص بكتاب "النقد المصطلحي المغربي الحديث (1977 - 2010م) : دراسة في الإرهاصات والمفاهيم والقضايا والمناهج" (558 صفحة) ، لمؤلفه الدكتور محمد برحو؛ والصادر عن منشورات دار الأمان - الرباط. ويهدف هذا العمل النقدي إلى صياغة نظرية تفكر في "النقد المصطلحي" بوصفه مجالا معرفيا خاصا من خلال الاقتراب من مستوياته النظرية والعملية، وتمثل عميق له واستيعاب لكل تفاصيله وخلفياته النظرية وسياقاته المرجعية، ومستوياته المفاهيمية والإشكالية والمنهجية، لتقديم معادل موضوعي ومنهجي شامل لمختلف الدراسات النظرية والتطبيقية المنجزة حول المصطلح النقدي بالمغرب. ويتكوّن المحتوى العام لهذا الكتاب من العناصر الآتية: مقدمة، ومدخل، وأربعة أبواب، وخاتمة. تناول المدخل عدة محاور أبرزها: مفهوم النقد المصطلحي؛ وعلاقته بالمفاهيم والنظريات المجاورة ( علم المصطلح - والدراسة المصطلحية - ونقد النقد) ... وقُسّم الباب الأول [النقد المصطلحي المغربي الحديث: دراسة في الإرهاصات والمرجعيات] إلى فصلين تتفرع عنهما عدة مباحث، تمّ تسليط الضوء في الفصل الأول على إرهاصات نشأة النقد المصطلحي المغربي وتكوّنه، بَحث فيه صاحبه العوامل المباشرة التي وفرت له إمكانية الظهور، والدواعي الذاتية والموضوعية التي أسهمت في إقامة كيانه وتحديد أهدافه، وأثر الدراسة المصطلحية الخاص والمتميّز في تشكّله وبروزه. أما الفصل الثاني فخص بدراسة المرجعيات والروافد، وإبراز القضايا الجوهرية والفرعية لمجموعة من العلوم والمعارف التراثية والحديثة التي تلتقي فيها مع النقد المصطلحي وتشكل جانبا من جوانبه النظرية. وخُص الباب الثاني [النقد المصطلحي المغربي الحديث: دراسة في المفاهيم] ببحث لغة النقد المصطلحي والتدقيق فيها لكشف التصورات النظرية والجوانب المنهجية والعلمية وتحديدها، انطلاقا من تمظهرها على مستوى المفاهيم الإجرائية، واستقراء جزئياتها وقراءتها من وجهة نظر كلية، سواء منها تلك الموظفة بشكل مُعلن أو تلك الموظفة بشكل مضمر. وقد تم التركيز فيه على بعض المفاهيم الجوهرية التي هي عماد هذه النظرية؛ ومن أهمها المفاهيم الثمانية التي شكلت فصول هذا الباب وهي: الدراسة المعجمية، والدراسة النصية، والسياق، والتراتبية الاصطلاحية، والتطور المصطلحي، وأصول المصطلح النقدي ومرجعياته، والتواصل المصطلحي، والتداخل المصطلحي. وشَكل الباب الثالث [النقد المصطلحي المغربي الحديث: دراسة في القضايا والإشكالات] المجالَ المختار لدراسة القضايا المركزية للنقد المصطلحي وتدقيق النظر في تمفصلاتها الكبرى والصغرى. عالج فيه مؤلِّفه الإشكالات الجوهرية وطبيعة التصورات الافتراضية الضابطة لها في سياقها ضمن القضايا. وقُسّم إلى ثمانية فصول، اشتمل كل واحد منها على مباحث ومطالب، تم الوقوف فيها على القضايا الآتية: التعدد الاصطلاحي، ووضع المصطلح النقدي وتسميته، والتعدد الدلالي، والتضخم المصطلحي، والتعريف المصطلحي، والمصطلح التراثي، وترجمة المصطلح النقدي، وقراءة في ثنائية المصطلح والنقد. واحتاج مؤلِّفه - انسجاما مع طبيعة التنظير- إلى استكمال إجراءات البحث ببعض المستفادات، تمّ الانطلاق فيها من إشارات عابرة دقيقة للتعليق والتفسير والتحليل. وتمّ الوقوف في الباب الرابع [النقد المصطلحي المغربي الحديث:دراسة في المناهج] على أهم مناهج دراسة المصطلح النقدي التي فرضت نفسها على الساحة النقدية المصطلحية، والبحث عن منطلقاتها بالنظر إلى علاقتها بالموقع الفكري الذي تبناه كل دارس. بحث فيه صاحبه أبرز الخطوات المنهجية لكل منهج على حدة وملامحه الإجرائية؛ وحدّد المقولات النقدية التي تلتقي حولها أهم هذه المناهج في ارتباط وانسجام مع المفاهيم والمبادئ النظرية التي تمّ استنباطها. واشتمل هذا الباب على ستة فصول، خُصت الفصول الأربعة الأولى بدراسة المناهج الآتية: المناهج الوصفية في النقد المصطلحي المغربي، والمناهج الوصفية التاريخية فيه، والمنهج المقارن، والمناهج النقدية. وعقد الفصل الخامس للحديث عن أهم اتجاه فيه وهو منهج الدراسة المصطلحية، وإيضاح عناصره الفنية. أما الفصل الأخير فقد أُثبت فيه بعض المآخذ والملاحظات المنهجية التي سُجلت على هذه المناهج. وما يميّز الكتاب - عموما - جدّة الموضوع، إذ حاول أن يقدّم قراءة نقدية لتجربة "النقد المصطلحي" وفق تصور جديد لم يُسبق إليه، وعمد إلى متابعة زوايا وجوانب عدة لم تحظ بالدرس بعد والتحليل. كما أن منهجه العلمي يقوم على المساءلة والنقد، والاستقراء والتقصي، والدقة في التحليل، والموضوعية في الأحكام، عارضا لجزئيات الأمور، مع الإكثار من الشواهد، والتعقيب على كل فكرة ببيان أوجه القصور أو التميز فيها وتعليل ذلك كله، نزوعا إلى تأسيس الخلاصات والنتائج على أكبر قاعدة من المعطيات النصية. ولا تزال خلفَ صفحات الكتاب أشياء تُقال؛ نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة...
التوضيح في شرح التنقيح لحلولو المالكي صدر حديثًا كتاب "التوضيح في شرح التنقيح" (شرح تنقيح الفصول للقرافي)، تأليف: "أحمد بن عبدالرحمن القيرواني" المعروف بـ حلولو المالكي (ت 898 هـ)، تحقيق: د. "بلقاسم الزبيدي"، وأ.د. "غازي العتيبي"، وأ.د. "عبدالوهاب الأحمدي"، وذلك في ثلاثة مجلدات. وقد طُبعَ هذا الكتاب ضمن مشروع إصدارات "دار أسفار" لنشر نفيس الكتب والرسائل العلمية بدولة الكويت. وهو شرح على كتاب "شهاب الدين القرافي" في علم الأصول المسمى بـ""تنقيح الفصول في علم الأصول"، وضعه الفقيه "حلولو" القيرواني المالكي، والذي تميز في شرحه: بسهولة في الأسلوب، ووضوح في العبارة، مع العناية بنقل مذاهب العلماء والمناقشة بشيء من الاقتصاد، إلى جانب كون الماتن والشارح كليهما من المالكية. إلى جانب الاعتناء بتخريج الفروع الفقهية عند المالكية على القواعد الأصولية، خاصةً أن "حلولو" كان من أشهر فقهاء المالكية المحققين في القرن التاسع الهجري. إلى جانب التدقيق في تراجم أشهر المسائل الأصولية وصياغتها بعبارات محررة. ونجد في هذا السفر أن "حلولو" يستدرك على شرح "شهاب الدين القرافي" للمختصر، سواء كان ذلك في التعريفات أو نسبة الأقوال والمذاهب أو في تخريج الفروع ونحو ذلك. وبالجملة يعد شرح "حلولو" لا يستغنى عنه من تصدى لشرح متن "التنقيح"، وتحقيق ألفاظه، وتحرير عباراته، وتحقيق مسائله، وتخريج فروعه على مذهب المالكية. وأصل هذا العمل العلمي: رسالتان علميتان من "جامعة أم القرى" بمكة، كان نصيب د. "بلقاسم بن ذاكر الزبيدي" منها (أول الكتاب إلى نهاية الباب الخامس)، ونصيب د. "غازي بن مرشد العتيبي من (الباب السابع إلى آخر الكتاب)، ثم أتم د. "عبدالوهاب بن عايد الأحمدي" تحقيق الباب الباقي وهو (السادس) في بحث محكم، أضيف لمادة الكتاب العلمية. والشارح هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عبد الحقِّ المغربي القيرواني المالكي، المعروف بـ "حلولو" القروي، فقيه أصولي، ولد بالقيروان سنة 815 هـ الموافق لسنة 1412م، درس على يد عدد من الشيوخ الأجلاء الذين كان يعج بهم عصره مثل الإمام البرزلي، وعمر القلشاني، وقاسم العقباني، وابن ناجي، والشيخ أحمد زروق، والشيخ أحمد ابن حاتم، وعبد الرحمان الثعالبي الجزائري، والشيخ القلصادي، وقد اشتهر بين معاصريه بسعة الاطلاع على الجزئيات الفقهية ومواطن الاختلاف وقوة الحفظ وسلامة المنطق والحجة، قال عنه الإمام السخاوي: "هو أحد الأئمة الحافظين لفروع المذهب وغيره في التحقيق". وقد اشتهر الشيخ حلولو عند أمراء عصره فولوه القضاء بمدينة طرابلس، وكان يدرس بها، وتتلمذ على يديه بها شيوخ أجلاء مثل: أحمد بن حاتم بن محمد النبطي الصنهاجي الفاسي، وبقي سنوات في مدينة طرابلس، ثم عاد الى تونس فتولى مشيخة عدد من المدارس العلمية. ترك الشيخ حلولو جملة من المؤلفات القيمة في الفقه المالكي، واعتبر من بين من دوَّن المذهب ومسائله بشكل متميز، وساهم في الحفاظ عليه وصونه، وتعتبر أهمها: • كتاب "شرح على إشارات الباجي في علم أصول الفقه" وهو كتاب جليل بسط به كتاب الباجي وأوضح صعوباته ورد على بعض مسائله. • كتاب "شرح على جمع الجوامع" لتاج الدين السبكي في الأصول، ويسمى "الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع". • كتاب "شرح عقيدة الرسالة". • كتاب شرح على مختصر خليل يسمى "البيان والتكميل في شرح مختصر خليل". • ولعل من أهم الكتب التي تركها حلولو مختصر لنوازل شيخه البرزلي، وفيها مسائل لا تحصى من الجزئيات الفقهية التي يعجز المرء عن حفظها.
الاستثمار في الموهوبين قلّة قليلة من البشر يتمتّعون بقدرات غير عادية، وآفاق فكرية غير محدودة، وتظهر عليهم علامات النجابة والذكاء، والعبقرية والنباهة، وسعة الخيال وسرعة البديهة، وحُبّ الاستطلاع، والنظرة الثاقبة منذ الصغر. هؤلاء يُطلق عليهم الموهوبون أو النوابغ، ويشكّلون صفوة العلماء والمفكّرين والقادة والمبتكرين، ويعتبرون رأس مال الدول والمؤسسات العلميّة، بل الثروة الوطنية الغالية التي يجبُ الحفاظ عليها ورعايتها؛ حيث إنّه من المحتمل جدًّا أن يفتحوا نوافذ الأمل والمُستقبل للأمّة، ويحقّقوا الإنجازات والابتكارات، والريادة والتَّميُّز في ميادينَ علميةٍ وفكريةٍ عديدةٍ ومتنوّعةٍ إن شاء الله تعالى. ولقد حثَّ الإسلام على احتضان النابهين؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعزّز قدرات أصحابه ويحتفي بهم، فها هو صلى الله عليه وسلم يثني على تلاوة أبي موسى الأشعري بقوله: « يا أبا مُوسَى لقَدْ أُوتِيتَ مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ »؛ (أخرجه البخاري). ويمدح موهبة أبي قتادة وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما في الجرأة والشجاعة والفروسية والنزال يوم الحديبية قائلا: « خيرُ فُرسانِنا اليومَ أبو قَتادةَ، وخيرُ رجَّالتِنا اليومَ سلَمةُ بنُ الأكوعِ »؛ (أخرجه ابن حبان في صحيحه). وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشير الفتيان ويتّبع حِدّة رأيهم في الأمور المعضلة، ويُدخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -وهو غلام صغير- مع أشياخ بدر؛ ويرجعُ إليه في المسائل الكبيرة؛ لما عرف من نجابته وذكائه وفقهه وبصيرته في مسائل الشرع. وفي العصر العباسي نجد الخليفة هارون الرشيد يهتمّ بأهل القرآن ويغدق عليهم العطايا والصلات، حتى لقد كان الغلام يحفظ القرآن وعمره ثمان سنين، ويستنجز في الفقه والفهم وعلم الحديث ويجمع الدواوين، وهو ابن إحدى عشرة سنة. الموهوبون ثروة غنية ونعمة كبيرة، يحتاجون إلى رعاية ومعاملة خاصة، بدءًا من الأهل والأسرة، ومرورًا بالمدرسة والتعليم، ووصولًا إلى احتواء الدول بتوفير البرامج الملائمة لهم؛ للحفاظ على توقّد أذهانهم وتنشيط عقولهم وصقل مواهبهم؛ فلربّما أنجز أحدُهم خلال مُدّةٍ وجيزةٍ ما يعجزُ الآخرون عنه في سنوات، ولربّما ارتقى أحدهم إلى منابر العلا ولم ينبت له شارب، ولربّما سجّل براءة الاختراع وهو في ريعان الشباب. والناظر إلى الدول المتقدّمة صناعيا -كاليابان وكوريا الشمالية وأخواتها- يدرك مدى اهتمامهم بوضع برامج لكشف المبدعين، وتخصيص فصول الشرف لاحتواء اللامعين، واستهدافهم ببرامج نوعية، وتسريع عملية تعليمهم بواسطة الاختبارات الخاصة تمهيدًا لقبولهم في الجامعات، ودمجهم في البحث العلمي، واستثمار قدراتهم وطاقاتهم. وممّا يندى له الجبين أنّ الدول الأوروبية ترحّب بمثل هذه العقول من دول العالم الإسلامي، وتوفّر لهم اللجوء والهجرة لا لحبّها ورغبتها فيهم، بل طمعا في الاستفادة منهم في عجلة التنمية والبناء، والأمن السيبراني والشبكات الرقمية، والأبحاث الطبّية والاكتشافات، وتمكينهم من أداء دورهم الحضاري والإيجابي في تقدُّم ورقي تلك الدول. لولا العقولُ لكان أدنى ضَيغمٍ أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ شمعة أخيرة: إن رحلة البناء والتّطور، ومسيرة التّمدن والتّحضر لكلّ دولة تنطلق من الاحتفاء بالعلماء والمخترعين، والمبدعين وذوي المواهب، وبهم ترتقي الدول، وتتحقق الرؤى، وينمو الاقتصاد، ويزدهر البحث العلمي، والأمة التي لا تقدّر نوابغها ولا تحافظ على ثرواتها الوطنية من الضياع والهجرة، لا يمكنها أن ترسم لنفسها المستقبل المشرق في ظلّ الظروف والتحديات العالمية.
ورقات حول الأرض المقدسة الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين؛ أما بعد: فهذه ورقة تحاول الإجابة قدر الإمكان عن سؤال يتبادر إلى الأذهان، ومن خلالها نحاول بإذن الله تعالى كشف الغطاء وإماطة اللثام عن موضوع جَلَل؛ ألا وهو الدفاع عن الأقصى، لماذا الأقصى وفلسطين بالذات؟ أية خصوصية لهما؟ وما مكانة كل منهما في دين الإسلام؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سنحاول بإذن علام الغيوب نفضَ شيء من الغبار عنها؛ حتى يتسنى للجميع - بما في ذلك النشء الصاعد - معرفة الأمر والحقائق حول الموضوع الذي يشغل بال الجميع. ما خصائص بيت المقدس والأرض المقدسة؟ جوابًا عن هذا السؤال نضع بين أيديكم جملة من الخصائص والمميزات حول الأرض المقدسة وبيت المقدس: ♦ المسجد الأقصى هو أولَى القبلتين، ثاني مسجد وُضع للعبادة في الأرض، وثالث الحرمين الشريفين. ♦ فلسطين وبيت المقدس كلاهما معظَّم، مقدَّس، مبارك. ♦ الأرض المقدسة وبيت المقدس مُهاجَر الأنبياء ومقرهم. ♦ المسجد الأقصى مسجد مبارك، وكل ما حوله مبارك. ♦ الصلاة في المسجد الأقصى تعدل 500 صلاة فيما سواه غير الحرمين الشريفين. ♦ المسجد الأقصى المبارك مسرى النبي عليه الصلاة والسلام. ♦ المسجد الأقصى هو ثاني مسجد وُضع في الأرض. ♦ المسجد الأقصى من المساجد الثلاثة التي لا تُشَدُّ الرحال إلا إليها. ♦ أن موسى عليه السلام سأل ربه عند احتضاره أن يقربه من الأرض المقدسة. ♦ هلاك يأجوج ومأجوج ببيت المقدس. فهاته الورقة تسلط الضوء، وترتكز على ذكر هاته الفضائل والمميزات العشرة، التي يحظى بها كل من بيت المقدس والأرض المقدسة. أولًا: المسجد الأقصى هو أولى القبلتين للمسلمين، ثاني مسجد وُضع للعبادة في الأرض، وثالث الحرمين: قال تعالى حاكيًا عن هذا الأمر قبل تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 143، 144]. ثانيًا: المسجد الأقصى وفلسطين، كلاهما معظم من لدن الرب عز وجل، مقدس، مبارك: قال تعالى على لسان كليمه موسى عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21] [1] . قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71] [2] . قال جل شأنه: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81] [3] . قال عز وجل: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]. ثالثًا: الأرض المقدسة والأقصى مهاجر الأنبياء ومقرهم: قال تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]. قال جل ذكره: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]. قال عز من قائل: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81]. قال الملك الحق المبين: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]. رابعًا: المسجد الأقصى ذُكر بأنه مبارك؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. خامسًا: فضل الصلاة في المسجد الأقصى، مسجد بيت المقدس: الصلاة في المسجد الأقصى تعدل 500 صلاة فيما سواه من المساجد، غير المسجد النبوي، والمسجد الحرام. عن أبي الدرداء؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة)) [4] . وعن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة)) [5] . سادسًا: أنه مسرى النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]. عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت البراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت... إلى آخر الحديث)) [6] . سابعًا: المسجد الأقصى ثاني مسجد وُضع في الأرض: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: ثم قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلِّه، فإن الفضل فيه)) [7] . ثامنًا: المسجد الأقصى ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)) [8] . تاسعًا: أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يقربه من الأرض المقدسة عند موته واحتضاره: عن أبي هريرة أنه قال: ((أُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم مَه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثَمَّ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر)) [9] . هلاك يأجوج ومأجوج ببيت المقدس: عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، إلى أن قال: ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرَّةً ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا مَن في الأرض، هلم فلنقتل مَن في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا))، وفي رواية ابن حجر: ((فإني قد أنزلت عبادًا لي، لا يَدَيْ لأحدٍ بقتالهم)) [10] . من خلال ذكر هاته الفضائل التي حظِيَ بها كل من بيت المقدس والأرض المقدسة، يتضح بوضوح ويقين قدسيتهما وعظمة حرمتها في دين الإسلام، كما يظهر أيضًا بجلاء الأدوار التي لعبها مسجد بيت المقدس؛ بحيث لك أن تتخيل ذلك؛ إذ إنه ثاني مسجد وُجد في الأرض بعد المسجد الحرام، ولو كانت هاته الخصيصة له وحده من بين سائر الخصائص، لكَفَتْ؛ فالمسجد الأقصى المبارك له من المميزات ما لم تحظَ بها غيره من البقاع والأماكن على العموم، والمساجد على وجه الخصوص، إلا الحرمين الشريفين، ناهيك عن أنه ذُكر في كتاب الله بأنه مبارك، كما أنه حظي بشرف الزمان والمكان، وصفوة خلق الله؛ أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وبأشرف البرية منقذ البشرية، وهادي الإنسانية؛ محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام، بتعاقب الليل والنهار، وبدوام ملك الملك الديان، وكذا كون المسجد الأقصى أولى القبلتين لدى المسلمين، وأكرم بها من منقبة! فضلًا عما سلف أن صفوة خلق الله وطئوا البقعة المباركة، بما فيهم السيدة العظيمة الزكية، القانتة الصائمة، الزاهدة الورعة الذاكرة؛ مريم عليها السلام الطاهرة والمعجزة الكبرى، أما عن ابنها المعجزة الباهرة فحدِّث ولا حرج؛ لؤلؤ الأنبياء والصالحين؛ كما أخبر بذلك نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؛ إذ حج وهاجر هؤلاء الأنبياء حول المسجد الأقصى ونحوه، كما أمَّهُم النبي صلى الله عليه وسلم فيه، بالإضافة إلى كون مسجد الإسراء من المساجد التي تشد إليه الرحال مع الحرمين الشريفين، ولو وقفنا عند هاته المزية العظيمة، وأنخنا بها مطايانا، وأبحرنا في أجوائها، لفنيَ الزاد والراحلة، ولخرجنا بالنزر اليسير، ليس مجاملة بل حقيقة، هل استوقفكم يومًا حديث سيد المرسلين عن الأقصى، وهو يقول عن المسجد الأقصى أنه لا تشد الرحال إلا صوبه، مبينًا رفعة وعظمة البقعة، وشرفها وقدسيتها، مَن دخلها نال الرضا والغفران، والبركات والرحمات، وعُرِج بروحه إلى ملكوت ذي العرش، وهذا كليم الله موسى عليه السلام يطلب من ربه عند احتضاره أن يقربه من الأرض المقدسة؛ لكونه عليه السلام يعلم مكانتها ومميزاتها، هذا وإنَّ لمسجد بيت المقدس من الفضائل والرغائب ما لا يعد ولا يحصى، قد تقدم ذكر بعضها آنفًا؛ فمسجد بيت المقدس والأرض المقدسة عقيدة كل مسلم، فلسطين هي لكل المسلمين، وهي أرض كل مسلم حر، ودفاعه عنها دفاع عن الحق، ومعركة الحق ضد الباطل والشرك، كما هو معلوم لدى الجميع أن المسجد الأقصى حرره القائد صلاح الدين الأيوبي من قبضة الرومان الصليبيين المعتدين، وأرجعه لحظيرة المسلمين كما كان، والدفاع عن الأقصى والأرض المقدسة آكد وأوجب؛ وهي الملحمة الكبرى التي أخبر عنها الحق سبحانه ضد المعتدين في الأرض " الصهاينة "، في سورة أفردها لهذا الموضوع بالذات؛ وهي تسمى سورة بني إسرائيل (سورة الإسراء )، كما أخبر بذلك نبي الهدى عليه الصلاة والسلام عن المعركة التي ستدور بين المسلمين واليهود في آخر الزمان بالأرض المقدسة. وهكذا - إذًا - يظهر جليًّا ومما لا يدع للشك مجالًا مكانة وأهمية الأقصى وفلسطين لدى الخالق عز وجل، ولدى المسلمين أيضًا، ومن هنا نشيد بالجميع إلى التعرف عليها وإلى تعليمها للنشء الصاعد؛ إذ إن المسجد الأقصى وفلسطين عقيدة كل مسلم موحد، وأرض كل عبد صالح مؤمن، ينتسب لهاته الأمة المحمدية العظيمة، والأرض المقدسة، ومسجد بيت المقدس من مقدسات هاته الأمة العظيمة، وإرثها التاريخي الممجد، نستشف مما سبق أن قضية فلسطين هي قضية كل أهل الإسلام قاطبة، لا هوادة في ذلك. وفي الختام نصلي ونسلم على حامل لواء رسالة الإسلام، وخاتم الأنبياء، وإمام المتقين، السراج المنير، بدر التمام، ومسك الختام، وخير سيد ولد آدم، أعلم الله بالله، وأخشاه له، خليل الرحمن ومجتباه، سيد الأولين والآخرين، خير من دأب على الأرض، وقائد الفاتحين، ورحمة الله في أرضه للثقلين، وقائد الغر المحجلين، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود المشهود، صاحب الشفاعة؛ سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات، اللهم صلِّ على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، وصلِّ عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين. صلى الله عليك وملائكته يا سيدي يا رسول الله، والحمد لله قاطع دابر الكافرين، الحمد لله رب العالمين، سائلين المولى عز وجل أن يلهمنا الرشد والسداد والتوفيق، هذا، وما كان من توفيق، فمن المنان الكريم وحده، وما كان غير ذلك، فمن نفسي والشيطان، والحمد لله رب العالمين. [1] الآية كما تقدم جاءت بلسان موسى وهو يخاطب قومه بالدخول إلى الأرض المقدسة. [2] الآية تتحدث عن إبراهيم عليه السلام ولوط وعن الأرض المباركة التي هي فلسطين. [3] الأرض المباركة هي فلسطين. [4] أخرجه البزار 4142 (قال البزار: هذا إسناد حسن)، صححه الألباني في صحيح الجامع وخرجه البيهقي كذلك في شعب الإيمان (3\485) رقم 4140، والطحاوي في مشكل الآثار 609، وابن عدي في الكامل (الكامل في الضعفاء) (398\3). [5] أخرجه البيهقي في السنن الصغرى رقم 1821، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4211، وفي الإرواء 1130، وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))؛ [البخاري 1190، مسلم 1394]، وروى مسلم من حديث ابن عمر أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))؛ [مسلم 1395]، ورواه أيضًا من حديث ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة))؛ [مسلم 1396]. [6] صحيح مسلم، 162، رواه البخاري بأرقام: (349، 3207، 3342، 3570). [7] صحيح البخاري (3666، 3425) مسلم (520) واللفظ للبخاري، حديث 3425 ورد فيه: ((حيثما أدركتك الصلاة فصلِّ، والأرض لك مسجد. [8] صحيح البخاري 1189، مسلم 1397. [9] البخاري 1339، 3407، مسلم 2372، وفي رواية أخرى لمسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملَك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة، فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن من قريب، ربِّ أمتْني من الأرض المقدسة، رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)). [10] صحيح مسلم 2937، رواه الترمذي 2240، 4001، وأبو داود 4321، وابن ماجه 4075. نُشاب: مفرده نُشابة، والجمع نشاشيب، والنشاب هو النبل أو السهم؛ أي: السهام، قوم نشَّابة: يرمون بالنُّشَّاب.
من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق- المفهوم المشؤوم ) لعل المستشرقة ناديا أنجيليسكو قد أجابت على التساؤلات التي طرحت في مطلع هذه الوقفة؛ إذ إن القدرة على التمييز والتمحيص، التي اتسم بها الفكر العربي والإسلامي، قد وفِّقت إلى تعرية الاستشراق وبيان ما حمل من ضرر على الفكر في إجماله، وبالتالي كانت هناك أطروحات قوية وقفت في وجه الاستشراق والمستشرقين، كان من ضمنها المناظرات والمحاورات، مما أدى في ضوء ذلك إلى تقليص النفوذ الاستشراقي، ثم توجه المستشرقين إلى العلوم الأخرى بجانبها الإعلامي، والرغبة في الظهور الإعلامي تعليقًا على الأحداث المتتالية التي تعصف بالمنطقة من وجهة نظر تظل استشراقية، مما يولد مصطلحًا جديدًا، قد يصدق عليه الاستشراق الإعلامي أو الصحفي، وربما الإعلام الاستشراقي. وفي هذا التوجه الأخير خروج قد لا يكون مرغوبًا فيه من قبل المستشرقين الذين لا يزالون يتمسكون بالمصطلح المطلق "الاستشراق"، دونما تقييده بأي صفة، حتى تلك الصفة التي يراد منها الإبقاء عليه متميزًا عن أي طرح سطحي للحاضر، بما يكتنفه من أحداث متسارعة طغى عليها البعد السياسي، وإن تكن في أصلها موجهة إلى البعد العَقَدي. فقد ظهر من ينعت الاستشراق الأصيل بالاستشراق التقليدي، أو ربما يعبر عنه بالاستشراق الكلاسيكي [1] ، ويرى أنه "لا يزال الكثير من المستشرقين سجناء الاستشراق،إنهم منغلقون على أنفسهم داخل غيتو، وهم سعداء في ذلك غالبًا! بل إن مفهوم الاستشراق نفسه ناتج عن ضرورات عملية عابرة، التقى عندها العلماء الأوروبيون المتمرسون بدراسة الثقافات الأخرى،وقد تدعم هذا المفهوم بواسطة هيمنة مجتمعهم على المجتمعات الأخرى، وشوهت هذه الحالة بقوة رؤيتهم للأشياء" [2] . وكذا التوجه إلى تحوير المصطلح إلى أي مصطلح آخر قد يكون مقبولًا في هذا الزمان بديلًا عن مصطلح الاستشراق، ولكنه قد يتحول إلى أن يكون العاملون فيه شخصياتٍ مشؤومةً في الوطن العربي والعالم الإسلامي فيما يأتي من الزمان. والتهرب من المصطلح لا يعفي من استمرار التمسك بالمضمون، وهو، أو منه، النظر إلى ثقافةٍ بعيون ثقافيةٍ أخرى، وعدم القدرة على تلبس الثقافة المنظور إليها، في ضوء التمسك بالثقافة الناظرة، بما تحمله هذه الثقافة المنظور منها تجاه الثقافة المنظور إليها من منطلقات دينية وتاريخية وسياسة واقتصادية، ثم أخيرًا اجتماعية وأنثروبولوجية [3] . على أنه من المهم هنا ألا يفهم هذا الطرح على أنه توجه أو رغبة في وصد الباب أمام الآخر، ليتعاطى الثقافة الإسلامية والعربية، فهذه رغبة لا تحصل ولم تحصل ولن تحصل؛ إذ إن هذه الثقافة مثار جدل ونقاش طويل عريض، طويل من حيث المدى التاريخي والمستقبلي [4] ، وعريض من حيث الاهتمامات وتفرُّع هذه الثقافة مع ترابطها. وإذا كان الاستشراق من محددات العلاقة بين الشرق والغرب فإن الملحوظ هو تقهقر وجود المستشرقين في المحافل الفكرية والأدبية والثقافية في العالمين الغربي والشرقي الإسلامي، بينما كانوا من قبل محط الاهتمام المبني على الانبهار بما أتقنوه من الثقافة الإسلامية واللغة العربية، حتى لقد قال أحدهم عنهم: إنهم فهموا هذا الدين أفضل من فهم أهله له [5] ، وقال أحدهم عنهم عند النقاش عن النفع والضرر: إن نفعهم أكثر من ضررهم [6] ، فرد عليه من قال عنهم: إن ضررهم أكثر من نفعهم [7] . [1] انظر: مكسيم رودنسون ، وضع الاستشراق المختص بالإسلاميات: مكتسباته ومشاكله - ص 85 - 87 - في: هاشم صالح، معد ومترجم ، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه ، مرجع سابق - ص 261. [2] انظر: مكسيم رودنسون ، الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا - ص 39 - 83 ، في: هاشم صالح/ معد ومترجم ، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه - المرجع السابق - ص 261. [3] انظر: رضوان السيد ، الصراع على الإسلام من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا - التسامح - مرجع سابق - ص 71 - 81. [4] انظر: محمد محفوظ ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998م - ص 230. [5] انظر: محمود محمد شاكر ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا - القاهرة: دار الهلال، 1408هـ/ 1987م - ص 258 - (سلسلة: كتاب الهلال: 422). [6] انظر: زكي مبارك ، نفعهم أكثر من ضررهم - الهلال - ع 2 مج 42 (12/ 1933م/ 8/ 1352هـ) - ص 325 - 328. [7] انظر: حسين الهواري ، ضررهم أكثر من نفعهم - الهلال - ع 2 مج 42 (12/ 1933م/ 8/ 1352هـ) - ص 324 .
الحَرِيْرِيّ (حَيَاتُهُ، وَرَسَائِلُهُ، وَمَقَامَاتُه) الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا، والصلاة على مَن أُوتي جوامع الكلم، خير مَن نطق بالضاد، أفصح العرب لغة، وأعظمهم بيانًا وحجة، سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد: فهذه جملة سطور حاولت فيها جمع وتلخيص حياة وأعمال واحد من أبرز كُتَّاب العصر العباسي، وأحد أضلُع هرم فن المقامات؛ القاسم بن علي الحريري. وقد قسَّمت مادة المقالة على ثلاثة محاور رئيسة: أولًا: حياته [1] . هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريريّ البصريّ، صاحب المقامات؛ كان أحد أئمة عصره، وكانت ولادته بالبصرة سنة 446هـ، ووفاته سنة 516هـ بها أيضًا. والحريري نسبة إلى الحرير، عمله أو بيعه، وكان ميسور الحال. وللحريري أعمال حِسان، منها: "دُرَّة الغوَّاص في أوهام الخواص" [2] ، ومنها "ملحة الأعراب في صناعة الإعراب" [3] المنظومة في النحو، وله شعر كثير غير الذي في المقامات [4] . وقد رُزِق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها، وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومَن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطّلاعه وغزارة مادته، وكان سبب وضعه لها ما حاكاه ولده: كان أبي جالسًا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ عليه أهبة السفر رثّ (بالي) الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سَرُوج (مدينة تركية) ، فاستخبروه عن كُنيته، فقال: أبو زيد. فعمل أبي المقامةَ المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتُهِرَت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلمّا وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضمَّ إليها غيرها، فأتمّها خمسين مقامة.. وقد اعتنى بمقاماته خلقٌ كثير، فمنهم مَن طوَّل ومنهم مَن اختصر. وقد روى ابن خلّكان حكايات غير هذه. وأمّا تسمية الرّاوي بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروحات المقامات، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلّكم حارث، وكلّكم همام"، فالحارث: الكاسب، والهمام: الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام؛ لأن كل واحد كاسب ومهتم بأموره. وكان الحريري طريفًا، حاد الذكاء، مولعًا بنتف لحيته عند التفكير، ويُحكى أنه كان دميمًا قبيح المنظر، ومنه أن شخصًا غريبًا جاء يزوره فلمّا استزرى (استقبح) شكله، ففهم الحريري ذلك منه فأنشده: ما أنتَ أوّلُ سارِ غَرَّهُ قمرٌ ورائدٍ أعجبته خضرةُ الدِّمَنِ فاختَرْ لنفسكَ غيري إنني رجلٌ مثل المُعيديّ فاسمع بي ولا تَرَنِي ثانيًا: رسائله [5] وضع الحريري رسائل عدة، لكن المُطالِع لترجمته وأعماله لا يقف إلا على رسالتين اثنتين فقط، أما البقية فقد ذهب الزمان بهم، وإن مَن يرجع إلى ما اقتبسه العماد الأصبهاني في "خريدته" وياقوت في "معجمه" من رسائله يجد ظاهرة التعقيد واضحة فيهما، وقد رويا له جميعًا الرسالتين الغريبتين. وقد بناهما جميعًا على حرف واحد؛ أما الأولى فبناها على حرف السين، ولذلك سُمِّيَت بالرسالة السينية؛ وهي على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له أخَلَّ به في دعوة دعا غيرَه إليها، ويستهلُّها على هذا النمط: "باسمِ القدُّوسِ أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيفِ السُّلطانِ... السيد النفيس سيد الرؤساء حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبَسَقَ غرسُه، واتَّسَق أُنسُه، استمالةُ الجليس، ومساهمةُ الأنيس، ومواساةُ السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السُّنن، والاحتفاظ بالرسم الحَسَن.. وحسبُنا السلام وسلامه على رسول الإسلام". وأما الثانية فبناها على حرف الشين، ولذلك سُمِّيَت بالرسالة الشينية، وقد كتبها إلى طلحة بن محمد النّعماني الشاعر لمّا قصده في البصرة يمدحه ويشكره ويأسف على فراقه: "شغفي بالشيخ شمس الشعراء، رِيشَ معاشه، وفشا رياشه [6] ، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغفي المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشَبِم الشراب، وشكري لتجشّمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمترشّد للمرشد، والمستبشر للمبشّر..". ولا يخفى على المتأمل لمُستَهَلِّ هاتين الرسالتين ظواهر التعقيد، والجناس، والتكلُّف والتَّصنُّع، والسجع، واعتماده على الغريب الوحشي من المفردات. ولعلَّ هذا التعقيد المُتعَمَّد الذي لا نستسيغه في عصرنا كان هو الوجه الأدبي والفنّي السائد والمرغوب في عصر الحريري، وحتى قبله منذ ظهور أبي العلاء المعرّي (ت 449هـ) ، وقد استمر بعده فترة من الزمن على يد العماد الأصبهاني (ت 597هـ) وغيره. ثالثًا: مقاماته للحريري -كما تقدّم- خمسون مقامة جمعها في كتاب يحمل ذات العنوان. والمقامة فن عربي مشرقي النشأة على يد ابن دُرَيد الأزدي (ت 321هـ) ، والنضج على يد بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ) ، وتعني المجلس أو الجماعة ثم أُطلِقَت مجازًا على ما يدور في المجلس من حديث. فهي "حكاية قصيرة أنيقة الأسلوب تشتمل على عِظَة أو مِلحة.. وهي قطعة أدبية يُقصَد بها الفنّ، وتجمع شوارد اللغة ونوادر التركيب في أسلوب مسجوع أنيق الوَشي يعجب أكثر مما يؤثر، ويلذ أكثر مما يفيد.." [7] . ومحور مقامات الحريري "يدور على الاحتيال بالطرق المتنوعة، وقد انتشرت في زمنه وعُرفت بالكُدية أو الاستعطاء [8] ، ونراه قد جرى فيها جريًا حديثًا بين ديني وخُلُقي كما نلمس ذلك في المقامة الصّنعانية، أو شكلًا أدبيًّا فُكاهيًّا كما في المقامة القطيعية والنّحْويّة ضمّنها إلقاء أبي زيد على جُلسائه مسائل مُلغزة في النحو، وذهب أحيانًا مذهبًا مُجُونيًّا [9] كما في المقامة الكَرجية وقد ضمّنها الشتاء وطلبه ثيابًا يكتسي بها، وآخر مقاماته المقامة البصرية ضمَّنها توبة أبي زيد ولُزُومه المسجد" [10] . نسب الحريريُّ حوالي ثلاثين من مقاماته إلى مدنٍ مشهورة، منها: صنعاء، الكوفة، الإسكندرية، دمشق، مكة، سَمَرقند، عمان. وأما العشرون البقية فتحمل أسماء مختلفة، يدل اسم كل مقامة - غالبًا- على موضوعها. ولم تَحمِل مقامتان نفس الاسم إلا المقامة الحادية والثلاثون (31) والمقامة الخامسة والأربعون (45) فهما بنفس الاسم: "المقامة الرَّملية". أما الأولى منهما فتتضمّن وعظ أبي زيد للحُجَّاج في حال مَسِيرهم وحجّه في ذلك العام ماشيًا، وأما الثانية فتتضمن مخاصمة أبي زيد مع زوجه. [1] انظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - أبو العباس شمس الدين أحمد بن خلكان - تحقيق: الدكتور إحسان عباس - دار صادر، بيروت 1398هـ/1978م- المجلد الرابع ص63-69. [2] وهو كتاب في التصحيفات اللُّغَوِيّة، نشرته دار الجيل (بيروت) بتحقيق عبد الحفيظ فرغلي، سنة 1417هـ/1996م بعنوان "دُرّةُ الغوّاص، شرحها وحواشيها وتكملتها" في 968 صفحة. [3] وهي أبيات منظومة في علم النحو، مطبوعات أسعد الحبال وأولاده (جدة) بلا تاريخ أو تحقيق، في 48 صفحة. [4] لم أقف عليه في مُصَنَّف مستقل منشور. [5] انظر: الفن ومذاهبه في النثر العربي - الدكتور شوقي ضيف - دار المعارف، القاهرة - الطبعة الثالثة 1960م - ص294-296. [6] الرياش: الثياب الفاخرة. [7] تاريخ الأدب العربي - أحمد حسن الزيات - دار الصحوة - الطبعة الأولى 1438هـ/2018م - ص386. [8] ما يعرفه العوامّ بالشِّحاذة. [9] المجون: خلط الجدّ بالهزل، أو العبث وقلة الحياء (المعجم الوسيط ص855). [10] مقامات الحريري - دار بيروت، بيروت 1398هـ/1978م - ص6.
دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب تجديد وإصلاح في زمن استحكمت فيه غربة الإسلام وجهل المسلمين بعقيدتهم، وانتشرت البدع بل والشركيات، وعبدت القبور وشيدت القباب، وعكف الجهلة على قبور الأولياء، واتبعوا سبل النصارى واليهود الذين بنوا على القبور مساجد وانتشر التخلف وعم الجهل. وفي ظل هذه الأجواء القاتمة ظهر الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب ليجدد ما اندرس من معالم التوحيد ويعيد ما دفن من أعمال السلف ويكون من أعظم مجددي الإسلام. إن الإمام محمد بن عبدالوهاب جاء بدعوة صافية وطريقة سلفية نقية دعا إلى الاتباع ونهى عن الابتداع وتمسك بهدي السلف الصالحين، وهذا سفره العظيم وكتابه الكبير "كتاب التوحيد" لم يذكر فيه رأيه ألبتة بل جميع أبوابه مبنية على آيات من القرآن وأحاديث من سنة سيد الإنس والجان، وأحيانا يذكر قولَ واحد من السلف، فشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رجلُ دليلٍ يدور مع الدليل حيث دار ولا يمنعه من ذلك كون الآباء والأجداد والمجتمع على خلافه؛ فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا ». ولما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين تشتاق إليه النفوس الزكية وترتاح له القلوب ويحب سماعه كل غيور على الدين وراغب في الإصلاح - كما قال الإمام ابن باز في كتابه (محمد بن عبدالوهاب) - فإني رأيت كتابة هذا المقال المختصر عن الإمام محمد بن عبدالوهاب وجهوده العظيمة في تجديد الدين وتنبيه الغافلين والرد على المشركين؛ ونبدأ أولًا بذكر شيء من سيرته رحمه الله: اسمه ونسبه: هو الإمام الجليل المجدد الكبير شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الدعوة والمجددين محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي الحنبلي مجدد الملة وناصر السنة وقامع البدعة، قال عنه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على "فتح المجيد": (هو زعيم النهضة الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب نهج نهج السلف الصالح ودعا إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع) . وكان الإمام محمد بن عبدالوهاب عالي الهمة لا يخاف في الله لومة لائم نشر دعوة التوحيد على رغم أنوف الحاقدين وبين الحق في وجه المشركين ومن كان متمسكا بمنهج السلف فمن أي شيءٍ يخاف؟ مولده: ولد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في بلدة العيينة سنة 1115 هجرية، ونشأ في بيت علم وصلاح وفقه، فأبوه عبدالوهاب بن سليمان عالم كبير، وجده سليمان بن علي فقيه نجد في زمانه. حفظ الشيخ القرآن العظيم قبل بلوغ العاشرة ودرس الفقه حتى نال حظًّا وافرًا وكان موضع إعجاب والده لقوة حفظه وكان مكبًّا على مطالعة كتب التفسير والحديث شديد العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ونسخ بخط يده كثيرًا من كتبهما يحفظ المتون في شتى العلوم كما نقل فهد بن ناصر السليمان وغيره. شيوخ الإمام: رحل شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب إلى ضواحي نجد ثم إلى مكة فقرأ على علمائها ثم إلى المدينة فقرأ على علمائها، ومن أشهر شيوخه: والده الشيخ عبدالوهاب بن سليمان وكان فقيهًا كبيرًا وعالمًا خطيرًا، كما يصف الإمام ابن باز. العلامة عبدالله بن إبراهيم الشمري وابنه العلامة الشهير إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم الشمري. والعلامة المحدث محمد حياة السندي الذي أجازه بأمهات كتب الحديث. ثم رحل إلى البصرة في العراق وأخذ عن علمائها، ومن شيوخه في البصرة: الشيخ محمد المجموعي وفي البصرة دعا إلى التوحيد والسنة وأرشد الناس إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، ثم خرج من البصرة وكان من نيته الخروج إلى الشام، لكن لم تتوفر النفقة الكافية فخرج إلى مدينة الزبير - مدينة عراقية -ومنها إلى الأحساء، واجتمع بعلمائها وناظرهم في العقيدة ثم انتقل إلى حريملاء واشتغل بالعلم والتعليم، وقد نقلنا هذا من كلام الإمام ابن باز في رسالته: (محمد بن عبدالوهاب) . مؤلفات الإمام محمد بن عبدالوهاب: لقد كان الإمام المجدد بحرًا زاخرًا وعلمًا فاضلا امتاز بسهولة العبارة والاعتماد على الدليل من الكتاب والسنة في كل مسألة، ولقد ترك من المؤلفات الشيءَ الكثير، وكلها على طريقة السلف الصالح وكيف لا وهو مجدد الدين وحامل راية التوحيد والموحدين، وكتبه رحمه الله كثيرة أوصلها بعضهم إلى أربعين، منها: • "كتاب التوحيد ": وهو قاصمة ظهر المشركين وقرة عيون الموحدين وتنبيه وموعظة للجاهلين المسرفين، ألفه رحمه الله في بيان أوجب الواجبات وأهم المهمات، وهو التوحيد وافراد الله بالعبادة، وقد جعله على ستة وستين بابًا، يحتوي كل باب على آيات من القرآن وأحاديث من السنة وأحيانا يضيف واحدًا من السلف، ولم يذكر رأيًا من عنده أبدًا؛ لأن هذه عقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، والإمام محمد بن عبدالوهاب يسير مع الدليل ولذلك وفقه الله وسدده. وكتاب التوحيد من أعظم ما صنف في بيان التوحيد وما يتعلق به؛ كما قال عدد من العلماء، وقد شرحه كثير من العلماء منهم العلامة عبدالرحمن بن حسن، والعلامة سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في كتابه "تيسير العزيز الحميد"، لكنه لم يكمله كما ذكر العلامة عبدالرحمن بن حسن. وممن شرح هذا الكتاب الجليل العلامة عبدالرحمن السعدي صاحب التفسير، والإمام ابن باز، والعلامة محمد بن صالح العثيمين في كتابه "القول المفيد"، والعلامة صالح الفوزان في كتابه "إغاثة المستفيد"، والعلامة صالح آل الشيخ وغيرهم من أهل العلم قديمًا وحديثًا. ومن كتب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: • "كشف الشبهات"، و"الأصول الثلاثة"، و"مختصر سيرة الرسول"، و"رسالة في الرد على الرافضة"، و"مسائل الجاهلية"، و"أحاديث الفتن والحوادث"، و"فضل الإسلام"، و"ستة أصول عظيمة مفيدة"، و"نواقض الإسلام"، و"فضائل القرآن"، و"تفسير سورة الأنفال"، و"مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد" وغير ذلك الكثير. صفات الإمام المجدد: كان رحمه الله تعالى إمام الدعوة السلفية علَمًا من الأعلام ناصرًا للسنة قامعًا للبدعة، لا يفتر لسانه عن التسبيح والتهليل والأذكار، جواد كريم يتحمل الدين لأضيافه وسائليه، كثير التدريس والتصنيف لا يبخل على طالب العلم بفائدة أو معلومة بل يعلمه ويساعده في طلب العلم. ينتهج العقيدة السلفية الصافية الصحيحة ويتبع مذهب أمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وبالجملة فقد جمع الله فيه الأخلاق الحسنة والفضائل الحميدة، وأبعد عنه الأخلاق السيئة التي لا ترضي الله ورسوله وكانت صفاته صفات المصلحين المجددين العلماء العاملين. وفاته: توفي رضي الله عنه بالدرعية سنة (1206هجرية) بعد واحد وتسعين سنة قضاها في خدمة الإسلام ونفع المسلمين وتنبيه الغافلين وإفحام المشركين والرد على الزنادقة الملحدين، وبعد أن أصلح الله على يديه كثيرًا من الأمور وهدم القباب التي على القبور التي عبدت من دون الله ومحا الشركيات والبدع والمحدثات في جزيرة العرب وغبرها، وتأثر به المصلحون واقتدى به المقتدون وبعث في الأمة روح النهضة والرجوع إلى السنة بعد أن خيم عليها الجمود والبدعة فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، وجمعنا وإياه والمسلمين في جنات النعيم. دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب هي إصلاح وتجديد: كانت حالة نجد عندما ظهر الشيخ هي اسوء حالة من حيث انتشار الشرك وتفشي الخرافات وظهور البدع والبعد عن الكتاب والسنة قال الإمام ابن باز رحمه الله تعالى في كتابه (محمد بن عبدالوهاب) : (كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن كان الشرك الأكبر قد فشا في نجد حتى عبدت القباب وعبدت الأشجار وعبد من يدعي الولاية وهو من المعتوهين وانتشر السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلا من شاء الله وقل القائم بالله والناصر لدينه وهكذا في الحرمين الشريفين وفي اليمن انتشر الشرك وبناء القباب على القبور ودعاء الأولياء والاستغاثة به وفي اليمن من ذلك الشيء الكثير وفي بلدان تجد من ذلك ما لا يحصى). ثم قال الإمام ابن باز: (فلما رأى الشيخ ذلك الشرك وظهوره في الناس وعدم وجود منكرٍ لذلك، شمر عن ساعد الجد وصبر على الدعوة وعرف أنه لابد من جهاد وصبر وتحمل الأذى) . بدأ الإمام المجدد دعوته في عام1153هجرية، وبدأ يدعو الناس إلى الاتباع ونبذ الابتداع والتخلص من الشركيات التي كانت منتشرة بكثرة والعودة إلى ما كان عليه سلفنا الصالح بأبلغ حجة وخير مقالة فحاول بعض سفهاء حريملاء أن يقتله ولكن الله نجاه ثم سار إلى العيينة فرحب به أميرها وأظهر له الخير فبدأ الشيخ بالدعوة والتعليم وأبعاد الناس عن الشرك والبدع وسار مع أمير العيينة لهدم قبة قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه وكانت هذه القبة قد عبدت من الله الواحد القهار وأشركت مع الله الملك الجبار وحاول بعض أهل تلك المنطقة منعه لكن لما ﻻ أو الأمير عثمان بن معمر كفوا عن ذلك فهدمها الله عز وجل على يده وحصل بذلك الخير الكثير وكف الناس عن عبادتها من دون الله، وهذا هو ما يرضاه الله ورسوله فإن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي صالح. واشتهر دعوته في العيينة وإقامته الحدود وهدمه القباب فأرسل أمير الإحساء يتوعد أمير العيينة إن لم يقتل الإمام المجدد؛ لأن هذا الجاهل لا تعجبه دعوة التوحيد فطلب أمير العيينة من الشيخ المغادرة، وفي أول النهار خرج الشيخ إلى بلاد الدرعية ماشيًا على قدميه ووصل إلى الدرعية ونزل على محمد بن سويلم العريني، ويقال أن هذا الرجل خاف من أمير الدرعية فطمأنه الشيخ وأخبره بدعوته وبلغ الأمير محمد بن سعود خبر الشيخ فحثته امرأته على مساعدة الإمام المجدد وقالت له: (أبشر بهذه الغنيمة العظيمة، رجل يدعو إلى دين الله يدعو إلى كتاب الله يدعو إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يا لها من غنيمة بادر بقبوله وبادر بنصرته ولا تقف في ذلك أبدًا) . فقبل الأمير محمد بن سعود كلامها وكتب الله له السعادة والخير رحمة الله تعالى وتوجه الأمير محمد بن سعود بنفسه إلى الإمام محمد بن عبدالوهاب تعظيمًا للعلم وتحدث معه، وقال للشيخ: (يا شيخ محمد أبشر بالنصرة وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة) . فقال له الشيخ: (وأنت أبشر بالنصرة والتمكين والعاقبة الحميدة هذا دين الله من نصره نصره الله ومن أيده أيده الله وسوف تجد آثار ذلك سريعًا) . فبايعه على النصرة وعلى الجهاد حتى يظهر دين الله وأن يبقى الإمام محمد بن عبدالوهاب في البلد ويبقى عند الأمير يساعده، وتمت البيعة على ذلك، وبذلك كتبت السعادة والأجر الكثير بإذن الله للأمير محمد بن سعود ونصر دعوة التوحيد بينما كان آخرون يطوفون حول القبور. وبدأت الهجرات تتوافد إلى الدرعية من كل حدب وصوب للدراسة على يد الشيخ الإمام وانتشرت دعوته العظيمة وعاش في الدرعية معظمًا معززًا محبوبًا منصورًا، ثم بدأ بالجهاد وكاتب الأمراء والعلماء للدخول في هذا الميدان وإزالة الشرك الذي وقع في بلادهم وكاتب الأمراء والعلماء في مختلف المناطق في جزيرة العرب وكاتب علماء الشام والعراق واليمن ومصر وبلاط الهند، ولم يزل يكاتب العلماء وينصح وينشر دعوته إلى الكتاب والسنة حتى تأثر بها جمع غفير من إندونيسيا والهند واليمن والشام والعراق ومصر وغيرها وتشجع الدعاة وانتشرت الروح الإصلاحية الداعية إلى نبذ الشركيات والبدع. وأما دعوة الشيخ فكانت دعوة إلى الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة الصالح وهذه كتبه وكتب أحفاده وأئمة الدعوة ما فيها إلا الخير والمنهج السلفي الصافي واتباع الكتاب والسنة ونبذ البدع والشركيات والخرافات التي كان متفشية وقد عبر هو عن عقيدته السلفية الصافية برسالة نجتزئ منها بعضها: (أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أنني أعتقد ما اعتقدَتْه الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره. ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تعطيل ولا تحريف، وأعتقد أن الله ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. واعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكن لا تكون إلا بعد الإذن والرضى. وأؤمن بأن نبينا محمد خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته وأفضل أمته بعده أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي المرتضى ثم بقية للعشرة. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم واترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساوئهم وأسكت عما شجر بينهم وأعتقد فضلهم. وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية). ومن أراد تمام الرسالة فليراجع الدرر السنية. فهذه نماذج من عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ودعوته التي دعا إليها الناس والجميع يعلم أن هذه هي عقيدة أهل السنة وما مضى عليه السلف الصالح. إضافة إلى أنه دعا إلى اتباع الكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات والشركيات والبعد عن عبادة القبور والأموات والأشجار والأحجار. وليس في الإسلام عبادة للقبور ولا دعاء الأموات ولا استغاثة بالأولياء بل إن الدعاء والاستغاثة والاستعاذة والنذر والذبح كلها حق لله لا يحوز صرف شيءٍ منها لغير الله لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح وليس في الإسلام طواف حول القبور أو دعاء لأصحابها أو بناء للقباب عليها بل قد أمر رسول صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور كما في حديث سيدنا علي ولعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كما في حديث السيدة عائشة. والشيخ محمد بن عبدالوهاب ما خالف أصلا من أصول السلف وعقائدهم. والإمام المجدد ما أتى بمذهب جديد ولا اخترع شيئا جديدًا بل هو في الأصول على منهج السلف الصالح متبع غير مبتدع محارب للبدعة والشرك وأهله. وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. وقد بين الإمام المجدد أصول دعوته التجديدية الإصلاحية فقال: (أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام، وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد، وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك ونقاتلهم عليه، وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله، وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره إلا العقل. نقاتل عباد الأوثان بعد ما نقيم الحجة عليهم كما قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقاتلهم على ترك الصلاة ومنع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا الذي أكفره أنا، وأكثر الأمة والحمد لله ليسوا كذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحدًا إلا دون النفس والحرمة فإننا نقاتلهم على سبيل المقابلة. وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات). وهذا كله ورد في الدرر السنية. فلله در هذه الدعوة ما أطيبها وما أحسنها وقد بعثت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب الرغبة في الإصلاح وشجعت العلماء على التنديد بالبدع والخرافات، وتأثر المقتدون والمهتدون واقتفوا آثارها ومدحوا الإمام محمد بن عبدالوهاب أحسن المدح ومنهم: الإمامين الصنعاني والشوكاني في اليمن، ومحمد رشيد رضا في الشام ومصر، وصديق حسن خان في بلاد الهند وغيرهم كثير. ومازال كثير ممن هداهم الله في السعودية وخارجها وفي كل بلد من بلاد الإسلام يتبعون دعوة الشيخ المجدد ويسيرون على منهجه وقد أثمرت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب أطيب الثمار واهتدى بها ناس كثيرون وعرف الناس خطورة ما يصنعونه عند القبور من الشرك الأكبر والبدع وما زال كثير من المسلمين هذه الدعوة المباركة العظيمة الجليلة ولله الحمد ورحم الله الإمام الصنعاني صاحب سبل السلام إذ قال يمدح الإمام ودعوته: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرًا ما طوى كل جاهل ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادمًا مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى يغوث ومثله يغوث وود بئس ذلك من ود وكم طائف حول القبور مقبل ومستلم الأركان منهن باليد فهذه هي دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب دعوة تجديدية إصلاحية سلفية صافية، قصمت ظهر المشركين وكدرت صفو المبتدعين وحاربت الملحدين والخرافيين. رحم الله الإمام المجدد المصلح محمد بن عبدالوهاب الحنبلي النجدي ورضي عنه وأرضاه وأدام هذه الدعوة منارة عزٍّ وشعاع هدى وصلى الله على سيدنا محمد أشرف الأولين والآخرين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين وسلم تسليمًا كثيرًا. المصادر والمراجع: 1- كتاب التوحيد، شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. 2- الدرر السنية، جمع عبدالرحمن بن قاسم. 3- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، العلامة عبدالرحمن بن حسن. 4- كتاب محمد بن عبدالوهاب دعوته وسيرته، الإمام عبدالعزيز بن باز. 5- كتاب من أعلام المجددين، العلامة صالح الفوزان. 6- شرح الأصول الثلاثة، محمد بن صالح العثيمين. 7- مجموع فتاوى ومقالات الإمام عبدالعزيز بن باز. 8- صحيح البخاري، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري. 9- صحيح مسلم، الإمام مسلم بن الحجاج.
الإيضاح (في الفقه الحنبلي) لأبي الفرج الشيرازي صدر حديثًا كتاب "الإيضاح (في الفقه الحنبلي)"، تأليف: الإمام "أبي الفرج عبدالواحد بن محمد بن علي الشيرازي المقدسي" (ت 486 هـ)، دراسة وتحقيق: "يوسف بن محمد مروان الأوزبكي المقدسي"، نشر: "دار الرياحين للنشر والتوزيع". وهو نص ينشر لأول مرة مقابلًا على نسخة مقدسية نفيسة من كنوز المسجد الأقصى المبارك فك الله أسره ورده لأيدي المسلمين، والكتاب عبارة عن متن فقهي على ترتيب الحنابلة، يشتمل على أدلة بعض المسائل، كما أنه يشير إلى الاختلاف مع الشافعي في بعض المسائل الكبار، كما أنه يشير إلى اختلاف الروايات في المسائل المشكلة، وفي بعض المواضع يقوم المؤلف بشرح عبارته. وهذا المتن هو أول متن فقهي حنبلي مختصر ظهر في بلاد الشام، وقد كان عمدة الطلبة أواخر القرن الخامس والقرن السادس الهجري إلى ظهور مصنفات الموفق ابن قدامة الجماعيلي المقدسي (ت 620 هـ). استفاد منه الحنابلة في مصنفاتهم كالموفق ابن قدامة الجماعيلي (ت 620 هـ)، وابن مفلح (ت 763 هـ)، وابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ)، وعلاء الدين المرداوي (ت 885 هـ)، وغيرهم، وكان له دور في الترجيح داخل المذهب. وهو من تصنيف شيخ الإسلام في زمانه " أبي الفرج المقدسي " (ت 486 هـ) تلميذ القاضي أبي يعلى ابن الفراء رحمه الله، ناشر المذهب الحنبلي ببيت المقدس وبلاد الشام، وأول شامي يُتَرجَم في الحنابلة. والمُصنِّف: هو عبدالواحد بن محمد بن علي الشيرازيُّ ثم المقدسيُّ ثم الدمشقيُّ، أبو الفرج الأنصاريُّ، شيخ الشام في وقته. ولِد في شيراز، وتفقَّه ببغداد على القاضي أبي يعلى مدةً، وقدم الشام فسكَن بيت المقدس، فنشَر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق فنشر المذهب، وتَخرج به الأصحاب، فكان أول من نشر المذهب الحنبلي في بلاد الشام. قال ابن رجب الحنبلي: "وكان إمامًا عارفًا بالفقه والأصول، شديدًا في السنة، زاهدًا عارفًا، عابدًا متألهًا، ذا أحوال وكرامات، وكان "تُتش" صاحب دمشق يعظِّمه"؛ (ذيل طبقات الحنابلة)، (1/ 157). قال أبو الحسين بن أبي يعلى: "صحِب الوالد السعيد - ابن الفراء - من سنة نيِّف وأربعين، وتردَّد إلى مجلسه سنين عدة، وعلق عنه أشياء في الأصول والفروع، ونسخ واستنسخ من مصنفاته، وسافر إلى الرحبة والشام، وحصل له الأصحاب والأتباع والتلامذة والغلمان، وكانت له كرامات ظاهرة ووقعات مع الأشاعرة، وظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد الشام"؛ (طبقات الحنابلة)، (2/ 248). وقال أيضًا: "وكان أبو الفرج ناصرًا لاعتقادنا، متجردًا فِي نشره، مبطلًا لتأويلات أخبار الصفات". وكان صاحب بركات وكرامات ظاهرة؛ قال الشيخ الموفق ابن قدامة: "كلُّنا في بركات الشيخ أبي الفرج"، وقَالَ: "لَمَّا قدِم الشيخ أبو الفرج إلى بلادهم من أرض بيت المقدس، تسامع الناس به فزارُوه من أقطار تلك البلاد، قَالَ: فقال جدِّي قدامة لأخيه: تعالَ نَمشي إلى زيارة هذا الشيخ لعله يدعو لنا، قَالَ: فزاروه، فتقدم إليه قدامة، فقال له: يا سيدي، ادعُ لي أن يَرزقني الله حفظَ القرآن، قَالَ: فدعا له بذلك، وأخوه لم يَسأله شيئًا، فبقِي على حاله، وحَفِظَ قدامة القرآن، وانتشر الخبر منهم ببركات دعوة الشيخ أبي الفرج. قال الذهبي: "الإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو الفرج عبدالواحد بن محمد بن علي بن أحمد الأنصاري، الشيرازي الأصل، الحرَّاني المولد، الدمشقي المقر، الفقيه الحنبلي الواعظ، وكان يُعرف في العراق بالمقدسي، من كبار أئمة الإسلام"؛ (سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة)، (19/ 52). ومن تصانيفه التي يَنصُر فيها مذهبَ أهل السنة: "الإيضاح"، و"التبصرة في أصول الدين علي مذهب الإمام أحمد بن حنبل"، و"مختصر في الحدود"، و"في أصول الفقه"، و"جزء فيه امتحان السني من البدعي"، و"المبهج" في الفقه الحنبلي، ويقال: إن له كتاب "الجواهر" في التفسير في ثلاثين مجلدًا. توفِّي سنة ست وثمانين وأربعمائة، وخلَّف ذرية مباركة من العلماء تُعرف ببيت ابن الحنبلي.
ثلاثون عامًا على رحيلِه العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ معلِّم الإتقان أودُّ وقد مضَى ثلاثون عامًا على رحيلِ شيخنا العلَّامة الأستاذ أحمد راتب النفَّاخ رحمه الله وغفر له، أودُّ أن أعيدَ نشر إحدى مقالاتي عنه، وكنتُ قد كتبتُ عنه أربعَ مقالات، إحداها لابنه الحبيب الأستاذ عبد الله، وخصَصتُ أستاذنا بما لا أُحصي من المحاضرات والندَوات واللقاءات والحوارات، كان آخرَها تسجيلُ مَساقٍ كامل في برنامج مَسارات الذي يعِدُّه معهد المخطوطات العربية بالقاهرة. وما أظنُّ أحدًا من أصحابه أو أصحابنا كتبَ ما كتبتُ أو ذكرَ ما ذكرت؛ إذ ما يكاد مجلسٌ من مجالسي العلمية يخلو من ذِكر الشيخ والدعاء له، جزاه الله عنَّا خيرَ الجزاء، ومعاذَ الله أن أمُنَّ بهذا فهو جزءٌ من حقِّه علينا معشرَ تلامذته. **** العلَّامة أحمد راتب النفَّاخ معلِّم الإتقان إن كنتَ لستَ معي فالذِّكرُ منكَ معي يراكَ قلبي وإن غُيِّبتَ عن بصَري العينُ تُبصِرُ مَن تَهوى وتَفقِدُه وناظِرُ القلبِ لا يخلو مِنَ النَّظَرِ [1] جبَلُ علم هوى كلَّما ذكَرتُ أستاذنا النفَّاخ عادت بي الذاكرةُ إلى أوَّل عهدي بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق. كنت أتحسَّسُ طريقي إلى ذلك القسم حين قال لي قائل: عليك بالأستاذ النفَّاخ فإنه مكتبةٌ متنقِّلة، وقال آخرُ: إياك أن تفوتكَ محاضرةٌ من محاضرات النفَّاخ فإنه جبَلُ علم، وقال ثالث: النفَّاخ نادرةٌ من نوادر العصر في علوم العربية، وهو بقيَّة السَّلف من علمائها. ورُحت أرقُب محاضرته؛ محاضرةَ المكتبة العربية - كذا كان اسمها - وجاء الموعد، ودخل الشيخ. قامة نحيلة.. طَلعة بدا فيها أثرُ السنين.. شعر وَخَطَ الشَّيبُ سوادَه.. عينان زرقاوان لم أرَ أحَددَّ منهما ذكاءً ومَضاءً.. صوتٌ أجشُّ ما إن بدأ بالهدير حتى رانَ الصَّمتُ علينا.. وتيبَّسْنا وأصَخْنا، فكأنَّ على رؤوسنا الطير! وانطلق الشيخُ يحدِّثنا عن طريقته في المحاضرة؛ ما يأخذُ به نفسَه، وما يأخذ به طلبَتَه، ما يسمح به وما لا يسمح، ما يرغبُ فيه وما يرغب عنه! ثم أخذ في الكلام على مادَّة المحاضرة؛ المكتبةِ العربية. كان حقًّا مكتبة! تدفَّقَ كالسَّيل الأتيِّ؛ يحدِّثنا عن الخليل وسيبويه، والمبرِّد وثعلب، وينتقَّل بنا من نوادر القالي إلى أغاني الأصفهاني، ومن كتب الأدب والأخبار إلى كتب التراجم والرجال. يجلو لنا أمرَ التراث الغابر كأنه العِيانُ الحاضر! حاولتُ تتبُّعَ كلماته.. فاتَتني بعضُ الكلمات.. كلماتٍ ليست كالكلمات! إمَّا لغرابةٍ فيها، وإما للَجلَجةٍ في نُطقها تبدو جليَّةً لمن يستمع إلى النفَّاخ أولَ وهلة، ثم ما تلبَثُ الأذُن؛ أذُنُ المحبِّ أن تألفَها بل تعشقَها، برغم ما فيها من لُكنة وحُكلة. أما الجزالةُ في تركيب العبارة فأمرٌ عَجَب، حدِّث فيه ولاحرج! إذ لا تكاد تجدُ في كلام النفَّاخ كلمةً زائدة أو مُقحَمة، أو هي حشوٌ في الكلام، ولعلَّ هذا مما يزيدُ الأمر عُسرًا باديَ الرأي، ثم ما يلبَثُ أن يتحوَّلَ في أذُن السَّامع الأديب أو المتأدِّب إلى نمط من البلاغة والبيان قلَّ من يُحسِنه! تألفُه نفسُ المتذوِّق، فيحاول أن يحاكيَه أو يُدانيَه، ولكن هيهاتَ هيهات! ما كلُّ ما يُسمَع يُحاكى، ولا كلُّ من قلَّدَ يُفلح! في نظامٍ من البلاغةِ ما شَكْ كَ امرُؤٌ أنهُ نظامُ فريدِ انقضَت المحاضرةُ الأولى، وبدأ الهمسُ والتعليق، وسَرت بين الطلَبة أقاويلُ لا تخلو من بعض التهاويل! فمنهم من قال: إن النفَّاخ أعلمُ من عليها! ومنهم من قال: هذا الذي طاولَ عميدَ الأدب العربي الأستاذَ الدكتور طه حسين، وردَّ عليه وأفحمَه، وغالبَه فغلبه! ومنهم من قال: إنه الراهبُ في مِحراب اللغة، عَزَفَ عن الزواج من أجلها، ووهبَها كلَّ وقتِه وجُهدِه، بل وهَبَها كلَّ عُمُره! ومنهم من قال: إن أساتذةَ القسم يخشَون صَولتَه، ويحسُبون له ألفَ حساب! ومنهم من ذهب إلى أبعدَ من ذلك، فجعلَ يسرُد القَصَص، ويَحِيك الطُّرَف عن مواقفَ للنفَّاخ من بعض رجالات عصره، وأساتذة قسمه، وتلامذة فصله! كلُّ ذلك جعلني أشدَّ شوقًا إلى لقاء الرجل، وأكثرَ عزمًا على الإفادة منه. وكان لي بفضل الله ما أردتُّ، فقد نعَمتُ بصحبة شيخنا النفَّاخ نحوًا من خمسةَ عشرَ عامًا؛ كنت فيها التلميذَ والمريد، والطالبَ والتابع، والجليسَ والأنيس، والمتتبِّعَ الحريصَ على كلِّ ما يصدُر عن الشيخ، إلى أن نَزَغَ الشيطانُ بيني وبينه! فأُقصِيتُ عنه على كُرهٍ مني، وقلبي مطمئنٌّ بحبِّه، وعقلي مُستنيرٌ بعلمه، وخيالي هائمٌ بطَيفه. حتَّى توفَّاه الله بعد فجر يوم الجمعة 11 من شعبان سنة 1412 (22 من شُباط / فبراير 1992)، رحمه الله وغفر له. **** مدرسة في الإتقان تعلَّمتُ من أستاذنا النفَّاخ إتقانَ العمل العلمي، والصبرَ على تجويده، ومحاولةَ الوصول إلى الكمال في إعداده وترتيبه، وكأنَّه المثَلُ الحيُّ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملًا أن يُتقِنَه". فقد كان يُعِدُّ لكلِّ عمل عُدَّته، بدءًا من تحضير الأوراق، وانتقاء أجود أنواع الأقلام والأحبار، ومرورًا بالاستقصاء والتقصِّي لكلِّ مسألة علمية، واستقراء ما جاء فيها وعنها وحولها في كلِّ كتب التراث، وانتهاءً بصياغة العبارة صياغةً أين منها صياغةُ الذهب؟! لقد كان يَتَنَوَّقُ في عبارته، وينفي عنها كلَّ حشو، فلا تكادُ تقع فيما يكتبُ على كلمة زائدة أو مُقحَمة. وما يزال يُبدي ويُعيد فيما يكتب حتى يبلغَ حدَّ الرضا، لا يهمُّه في سبيل ذلك ما مزَّقَ من ورق، أو ما أنفقَ من وقت، أو ما بذلَ من جهد، أو ما أكَدَّ من ذهن، أو ما أتعبَ من جسَد. أذكر أن الدكتور محمد مراياتي - وهو من كبار المهتمِّين بالدراسات الصَّوتية، وله فيها نظرياتٌ وبراءاتُ اختراع - طلبَ إليه حين كان يُشرف علينا في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشقَ، أن يوافيَه بوصف الأصوات العربية من وجهة نظر القُدماء من علماء اللغة والتجويد والقراءات. فلم يدَع مصدرًا أو مرجعًا إلا رجع إليه، ولم يدَع لونًا من ألوان الأحبار إلا استعمله. ثم صاغَ ذلك الوصف بأدقِّ عبارة، وأوجز إشارة، على نحوٍ لا أعلمُ له مثيلًا فيما وقفتُ عليه من وصف. وإن أنسَ لا أنسَ الذُّهولَ الذي اعتَرى الدكتور نبيل حرفوش - وكان قد كُلِّف تجهيزَ غرفةٍ لعملنا في مركز البحوث بإشراف أستاذنا النفَّاخ - عندما استَصغَر النفَّاخُ المكتبَ الكبير الذي خُصِّصَ له، طالبًا أن يوضعَ في الغرفة طاولةٌ تتَّسعُ لفتح ثلاثين مجلَّدًا في وقت واحد، ففَغَرَ الرجلُ فاه، ولمَّا يُغلِقه! وكلَّفَته مرَّةً جامعةٌ في الأردُنِّ أن ينظرَ في كتابٍ لأحد أساتذتها، فكان أن نظر، وأمعَنَ النظر، ثم استمرَّ به ذاك النظرُ شهورًا؛ يُراجع ويدقِّق، ويصحِّح ويحقِّق؛ ليُخرجَ تقريرًا يكاد لا يقلُّ حجمًا عن ذلك الكتاب! على أن أطولَ مدَّة شهدتُّها في حياتي لمراجعة كتاب، كانت في مراجعة شيخنا النفَّاخ كتابَ "الصَّاهِل والشَّاحِج" للمعرِّي؛ بطلَبٍ من أستاذه الدكتور أمجد الطرابُلُسي محقِّق الكتاب، فماذا كان؟ كان أن مكَثَ في تلك المراجعةِ سبعةَ عشرَ عامًا، وهو يُبدي ويُعيد، ويدقِّق ويحقِّق، ويُراجع ويتساءل، إلى أن مات رحمه الله دون أن تَنجُزَ المراجعةُ على النحو الذي كان يؤمِّل! وأنا على يقين أن الذي حالَ بينه وبين مناقشة أُطروحة الدكتواره التي عَكَفَ عليها نحوًا من ثلاثين عامًا، في الأحرف السَّبعة والقراءات القرآنية، إنما هو الإتقانُ ومحاولة بلوغ الكمال، وأنَّى يُبلَغُ هذا الكمال؟! وهو لله وحدَه سبحانه. ومع كلِّ هذا التوخِّي للإتقان، والتأنِّي في العمل، والتدبُّر في الرأي، وجَدناه يقول - بعد ذلك كلِّه - في تقديمه لديوان ابن الدُّمَينة الذي صَنَعَه فأتقنَ صُنعَه: "وبعدُ، فما أشكُّ أن بين عمَلي وبين ما أُريدُ له بَونًا بعيدًا، وإني لآمُلُ أن أجدَ من آراء الزُّملاء الدَّارسينَ ممَّن ينظُرون في هذا الدِّيوان ما يُعين على استكمال أسبابِ التحقيق من تقويم عِوَج، أو تصحيح خطأ، أو تَلافي نقص". ولم يكن أستاذُنا النفَّاخ يَقصِرُ هذا الإتقانَ على نفسه، وإنما كان يأخذُ به مَن حوله، فلا يرضى بالعمل المتعجِّل، ولا يقبل بالتحقيق المتسرِّع، وما أكثرَ ما كان ينعَتُ عملَ المحقِّقين غير المجوِّدين بالمَسْخ والإفساد، والعبَث بتراث الأمَّة! وكان أحبَّ إليه أن يُصوَّرَ المخطوطُ تصويرًا على هيئته التي وصلت إلينا من أن تعبثَ به يدُ محقِّق جاهل، أو أن يُفسدَه ناسخٌ أو ماسخ! ولهذا ما كنتَ تراه يعلِّقُ على كلِّ كتاب يقتنيه، يصحِّحُ ما فيه من خطأ، ويراجع ما اعتُمدَ عليه من أصول، ويُقيم ما انآدَ من عباراته، ويُحيل إلى مصادره ومراجعه. وقلَّما يخلو كتابٌ في مكتبته من تعليقاته، فإذا ضاقت الهوامشُ بها عمَدَ إلى دَسِّ أوراقٍ بين صفَحاتها، يستكملُ فيها ما كان بدأه في الهوامش. فيا تِربَ العُلومِ ومَن إذا ما دُعِيْ للعِلمِ بادرَ بارتياحِ لقَد قلَّدتَّ جِيدَ العِلمِ عِقدًا يَروقُ نَضارةَ المُقَلِ الصِّحاحِ إذا العُلماءُ أقعَدَها كِفاحٌ لنَيلِ العِلمِ قُمتَ بلا كِفاحِ فحُزتَ الجُلَّ منهُ بلا سِلاحٍ فكيفَ وأنتَ شاكٍ بالسِّلاحِ **** بين التراث والمعاصَرة لقد عاشَ النفَّاخُ في زماننا هذا بجسمِه، وعاش مع الأوائل بعقلِه وعلمه ومنهجه وفكره، فكان من هؤلاء الذين قال فيهم أميرُ الشعراء: هُم في الأواخرِ مَولِدًا وعُقولُهم في الأوَّلين وأنا لا أعني بذلك أنه انصرفَ عن هموم عصره وقضايا أمَّته، وإنما أعني السُّلوكَ الذي أخذَ به نفسَه، والطريقةَ التي اختطَّها لحياته، والنَّمطَ الذي ارتضاه لدَرْبه، والكلامَ الذي ألزمَ به لسانه. وأمَّا قضايا أمَّته وهمومُ عصره فقد كان منها في الصَّميم، ما يخلو مجلسٌ من مجالسه من الكلام فيها، ومناقشة ما استجدَّ من أمورها. ومعَ كلِّ ما أشَرتُ إليه من سلفيَّته - إن جازَ التعبيرُ - وعَيشِه مع الأوائل، فإنه كان يتطلَّعُ نحو التطوُّر، ويستشرف التجديد، ويؤمن بالإفادة من الدراسات اللسانية الحديثة في رَفْد لغتنا بكلِّ مفيد وجديد. ولا أدلَّ على ذلك من صَداقته الوَطيدة وتواصُله الدائم مع الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح رائدِ اللِّسانيات العربية في عصرنا، آيةُ ذلك إلحاحُه على استضافته كلَّ عامٍ ليحاضرَ على طلَبة الدراسات العُليا في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، حيثُ عرفناه أستاذًا كبيرًا وعالمًا جليلًا، ونهَلنا من علمه، وعَلَلْنا من فَضله. وإن تعجَب فعجَبٌ أن النفَّاخ كان يحضُر معَنا محاضراتِ الحاج صالح، ويوافقه في كثير من آرائه وهو - أي الحاج صالح - اللِّسانيُّ الذي درس سبعةَ عشرَ عامًا في جامعة السُّوربون بفرنسا! ولكنَّه - والإنصافُ شريعةٌ - بنى دراساتِه اللِّسانيةَ الحديثة على قاعدةٍ عربية أصيلة، ومعرفةٍ لغوية واسعة، لا تلتوي بها ريحُ الحداثة الهَوجاء، ولا تُضِلُّها أو تُزيغها الآراءُ الفَطيرة والأهواء الفاسدة. وإنما تُفيد من الأواخر دون أن تنسى فضلَ الأوائل. ولعلَّ خيرَ ما يجلو هذا المعنى في شخصية شيخنا النفَّاخ، كلمةُ الأستاذ الدكتور حُسني سَبَح رئيسِ مجمع اللغة العربية بدمشق فيه، وهي الكلمةُ التي استهَلَّ بها حفلَ استقبال أستاذنا النفَّاخ عضوًا عاملًا في المجمع، وقد جاء فيها: "فالأستاذُ النفَّاخ سلَفيُّ المَنبِت، عَصريُّ المنهج، ويُتَوَسَّمُ فيه أن يسُدَّ ثُلمةً طالما تراءت منذُ افتقاد المجمع الأساتذةَ الأعلامَ طيَّبَ الله ثَراهُم؛ من أمثال [عبد القادر] المغربيِّ و[عزِّ الدين] التَّنُوخيِّ وغيرهما. ولا غَروَ إن عُدَّ الأستاذُ ثَبْتًا من الأثبات في علوم اللغة العربية، لا في قُطرنا فحَسبُ، بل في الوطن العربي الكبير أيضًا". **** مفتاح شخصية النفَّاخ وجُملة القول: إن شخصية الأستاذ النفَّاخ - رحمه الله تعالى - تتلخَّصُ في ظنِّي بثلاث نِقاط: الأول ى : حبٌّ للعربية أورثَه التمكُّنَ منها، بل جعله واحدًا من نوادر الزَّمان في معرفتها. والثانية: إتقانٌ للعمل بلغَ حدَّ الوسوسة، في كلِّ ما نهَدَ له من أعمالٍ وتحقيقاتٍ وتآليفَ، حتَّى لقد حالَ دون إصدار كثير منها؛ لنُزوعه فيها نحو الكمال. والثالثة: استقامةٌ في الحياة أخذ بها نفسَه أخذًا حازمًا صارمًا، وحاول أن يأخذَ بها مَن حوله، فلم تدَع له صاحبًا إلا مَن رحم ربُّك، وقليلٌ ما هم! ولمَّا كان الأسلوبُ هو الرجل - كما قالوا - فإنني سأختِمُ كلمتي بقطعةٍ فريدة من كتابات أستاذنا النفَّاخ أحسَبُ أنها خيرُ معبِّر عن شخصيَّته ومَكِنَتِه وإتقانه، وهو يصفُ فيها أسلوبَ شيخه الشيخ محمد بهجة البَيطار فيقول: "وإذا كان لا بدَّ لي أن أُعقِّبَ على ما قدَّمتُ بكلمة في لغة الشيخ وأسلوبه، فمُجمَل القول في ذلك أنه جَرى في الفصاحة والبيان على عِرقٍ من سَلفَيه: أبيه وجَدِّه، فكان يَصدُر في كتابته وخَطابته عن طبعٍ مُواتٍ، ترفِدُه معرفةٌ بأحكام العربية وأساليبها مُحكَمة. وقد كان في أوَّل أمره يجنَحُ فيما يكتب إلى التزام السَّجْع، ثم أخذ يتخفَّفُ منه إلا ما أطَفَّ له من غير ما تعَمُّل، وخَلَصَ في كتابته وخَطابته وأحاديثه إلى أسلوبٍ سهل عذب، له من إشراق ذِهنه إشراق، وفيه من صفاء نفسه صفاء. وكان - رحمه الله - قد راضَ لسانَه على الفُصحى منذ حَداثته، حتى صارت له طبعًا فما يُحسن الكلامَ بغيرها، وكان إذا ما ارتجلَ - وما كان أكثرَ ما يرتجلُ - لا يكاد يُتعلَّقُ عليه مهما امتدَّ به نفَسُ الكلام بسَقْطة، ولا يَطُوعُ لسانُه بلَحْنة، وهو أمرٌ تفرَّدَ به من بين أقرانه أو كاد". **** رحمَكَ الله يا شيخَنا، وغفرَ لك، وأعلى مقامَك، وجزاك عن العربية وأهلها خيرَ ما جزى عالمًا عن قومه ولغته. وأما أنا فلا أزالُ أردِّد فيك قولَ الشاعر: وكيفَ أنساكَ لا أَيديكَ واحِدةٌ عِندي ولا بِالَّذي أَسدَيتَ مِن قِدَمِ رئيس المجمع الدمشقي يقلِّد العلامة النفاخ وسام العضوية في المجمع العلامة النفاخ في حديث مع تلميذه الطيَّان يوم انتخابه عضوًا في مجمع دمشق بتاريخ 19 أيار 1977 م [1] البيتان على الراجح لشيخ العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ)، نسبَهُما إليه ياقوت الحمَوي (ت 626هـ) في "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" المعروف بمعجم الأدباء، 2/ 324، (في ترجمة ابن البنَّاء أبي علي المقرئ الحسن بن أحمد بن عبد الله). قال: قال السَّمعاني: أنبأنا أبو عثمان العصائدي، أنبأنا أبو علي ابن البنَّاء قال: كتب إليَّ بعضُ إخواني من أهل الأدب كتابًا وضمَّنه قولَ الخليل بن أحمد. والرواية فيه: (العينُ تُبصِرُ ما تَهوى) و(وباطنُ القلبِ لا يخلو). ونسبَهُما إلى الخليل أيضًا المستعصميُّ محمد بن أيدمر (ت 710هـ) في كتابه "الدر الفريد، وبيت القصيد" 4/ 390، وقال: ويُروى للحَكيم بن قَنْبَر. كذا بصيغة التضعيف. ونسبَهُما ياقوت في 6/ 547 إلى قُطرُب محمد بن المُستَنير أبي علي (ت 206هـ) في ترجمته له. قال: ومن شعره. والرواية فيه: (يراكَ قلبي إذا ما غِبتَ عن بصَري) و(والعينُ تُبصِرُ) بزيادة الواو في أوله. ويغلب على الظنِّ أن قُطرُبًا تمثَّل بشعر شيخه الخليل، والله أعلم. (كتبه: أيمن بن أحمد ذو الغنى).
عقلنة المعلوماتية أن يكون المصير الثقافي للفرد تابعًا مباشرة للتنمية الاقتصادية، وأن تكون إدارة هذه التنمية قضية سياسية في جوهرها، فإن هذا نوع من الإشكالية يسلِّم به الاقتصاديون وعلماء الاجتماع والفلاسفة. بيد أنه كذلك حقيقة تبقى وسائل تحقيقها محصورة؛ إما في الدائرة التقنية، وإما في منطقة العموميات. والمراد في الحالة الأولى رفع التناقضات التي يمكن أن توجد بين الغايات الفردية، والغايات الجماعية من خطة التنمية؛ من أجل عقلنة العلاقة بين الأهداف، والوسائل الواجب استخدامها. والمراد في الحالة الثانية أن نؤيد بحرارة أهداف الأنسنة التي ينبغي على كل خطة تنمويةٍ اقتصادية واجتماعية أن توضحها كبيان عن مبادئ، وتؤكد هذه العموميات على أن تكاليف الإنسان لا يمكن أن تقتصر على نفقات صيانة قوة العمل، بل ينبغي أن تأخذ بالحسبان حاجات الفراغ والإعلام والثقافة. إذ أن الفراغ يظل في المجتمع الصناعي عملًا استهلاكيًّا والإعلام تكييفًا دعائيًّا، والثقافة نثارًا مؤذيًا من بيوت أو ندوات. إن كلفة الإنسان لا تبنى عليها قيمة الإنسان، إلا إذا كان المقصود قيمته التجارية أو الاقتصادية. ومن الأسئلة المهمة في هذا المجال، كيف يمكن للنظام الاقتصادي أن يهتم بسد الحاجات الأنفع؟ وهل من العقلانية أن التسلُّح والمخدرات والكحول، أو السلع البدائية والحيوية أصبحت اقتصادية في حساب موجودات الإنتاج؟ فلو طُبق المفهوم الاقتصادي للاستهلاك على الإنسان والبيئة، لرأينا أن هناك أُممًا وفئات اجتماعية دخلها سالب؛ أي إن طاقتها الكامنة البشرية والتقنية تستنفذ بأكثر مما تنمو مواردها الظاهرة. كتب بول فاليري يقول: إن العالم الحديث منهمك في استغلال الطاقات الطبيعية استغلالًا يزداد على الدوام فعالية وعُمْقًا. ويقول أوزيريس سيكوني في كتابه "التنمية الاقتصادية والتخلف الثقافي": إن الإنسان الحديث في نشوة من التبذير؛ من إسراف في السرعة، وإسراف في الإنارة، وإسراف في المخدرات والمنشطات، وإسراف في كثرة المطبوعات، وإسراف في التسهيلات وإسراف في العجائب، إن كل عيش حالي لا ينفصل عن هذا الإسراف. لا ريب في أن جميع الناس لا يعرفون أنه قد قدر لكلِّ فرد منهم أكثر من طن من المتفجرات، إن مؤلفات التخيُّل تغدي من آن لآخر ذهان الرعب والعجب، إنه تعارض يقويه المحللون النفسيون، ولكنه يدل على استخدام القوة لا على معنى النزعة. إن المعرفة العلمية التقنية يمكن أن تصنع من الكرة الأرضية جنة عدن، وهذا مدعاة للعجب، ويمكنها أن تسبب كارثة أرضية هائلة لا تُرد وهذا مبعث الرعب. إن الوسائل الإعلامية المختلفة من صحافة وتلفزيون وسينما، وقنوات فضائية وبث مباشر تُحدث في جهازنا العقلي والأخلاقي قلقًا يفسد نمط العيش؛ فلا ثقافة تحت التهديد المباشر للحرب، بل بالعكس شعور منتش بالقلق، ومن هنا كانت الحاجة إلى التناسي في اللذة. إن عالمًا بدون ثقة تنذر فيه القوة بموت المستهلك المفاجئ، وإذا قلنا قلق لا خوف، فذلك لأن غرض التهديد وموعده وأسبابه ونتائجه كلها ليست معينة ومحددة بوضوح، إنه خطر مادي، اجتماعي، حياتي. فبعد سنين من قنبلة هيروشيما، بقي سرطان الذرّة يفتك بالناس، هذا بشأن الخطر المادي الذي لا يزال قائمًا، رغم أنه يبدو في طريق الاضمحلال منذ أن قلَّ عددُ التجارب النووية، والخطر البيولوجي يصعب حصره كذلك، قد يتعدى الماديات إلى نفس الكائنات الحية بحيث تَنسِف مستقبل الجنس. كتب روستان يقول: إذا لم تؤثر البيئة والظروف البتة في عناصر الوراثة، وإذا بقيت طريقة عيش الفرد وفاعليته وتجربته دون أثر في الإرث، فإنه يمكن أن يحدث تحول يؤثر بصورة عامة في اتجاه الانحسار: عمى الألوان نزق المزاج، زيادة عدد الأصابع، فقدان البصر، الصمم والبكم، البلاهة الولادية. والحال أن شروط العيش الحالية تتيح أن يبقى على قيد الحياة أفراد كان سيقضي عليهم نمط العيش القديم. وفي الوقت الذي تزيد فيه الحضارة دون توقف من كمية الحياة البشرية، ومن كمية البروتوبلازما البشرية الموجودة على الكرة الأرضية، فإنها تقلص من نوعيتها البيولوجية. إن الكرة الأرضية في وقتنا الحاضر تتميز قبل كل شيء بالفارق الذي يتزايد خطره بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، والحال أن خبراء الأمم المتحدة يسلِّمون على ما يبدو بأن معيار التخلُّف سكاني. وربما كان هناك مجال لبحث ما إذا كان الانفجار السكاني سببًا للبؤس أم نتيجة له، أو ما إذا كان يقيم مع التخلُّف علاقة سلبية. وبعد هذا فإن مجموع العلاقات بين المجتمعات الصناعية والعالم الثالث يتركز على الانتقال الضروري من الإحسان إلى العدالة. إن العالم الثالث يؤلف، من الناحية الكمية ثلثي العالم، إن لم نقل ثلاثة أرباعه، والعالم الثالث من الناحية النوعية العالم المقصي عن التنمية الاقتصادية، والخاضع لسيطرة الغرب، وللأشكال المتعددة من الاستعمار الجديد أو الاستعمار الخفي الاقتصادي والسياسي. والازدحام السكاني: هو تلوث ولده التخلف الذي به تضمن البلدان المصنعة لنفسها قسطًا كبيرًا من وفرتها، وازدحام المدن ينتج هو أيضًا عن نمو اقتصادي نموًّا عشوائيًّا. والازدحامان، الأول بسبب نمط العيش البائس، والثاني بسبب نمط العيش المترف، ليسا من طبيعة واحدة، فهما يعكسان سبيبتين متنافرتين، سبيبة الفاقة، وسبيبة الأنانية. إن جميع تحليلاتنا تتجه آخر الأمر نحو المعنى الثلاثي لانحطاط نمط العيش الصناعي: انحطاط البيئة وتدهورها، والطابع الاجتماعي المفكك، وأنانية الإنسان وتسلطه الذي تلخصه عبارة: تنمية اقتصادية وتخلف ثقافي. والعلاج الذي يقترحه الاقتصاديون الغربيون ليس سوى علاج كاذب؛ فَهُم يعتقدون بتحقيق عقلانية اجتماعية بمجرد تأخير التنمية كميًّا؛ أي: دون تغيير البِنَى التقنية الاقتصادية. فإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط البيئة وتدهورها الذي يزداد أثره السلبي، فإن المحاسبة الاجتماعية تستطيع مواجهتها، مع مراعاة أن الهواء النقي والهدوء والفراغ الحقيقي سلع اقتصادية ذات مغزى ثقافي. وإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط الطابع الاجتماعي المفكك، فإن التحليل الاجتماعي الاقتصادي الموجهين في حدود معيارية ينبغي أن يلاحظا أن كل خلل في توازن العلاقات الاجتماعية ينتج عن اعتداء على مجموع العلاقات التي يقيمها الإنسان مع وسطه، ويكن لهذا المجموع أن يكون ماديًّا، بيولوجيًّا، اجتماعيًّا، سياسيًّا، ثقافيًّا، اقتصاديًّا. وإذا كان الأمر يتعلق بانحطاط الإنسان نفسه، فإننا نعود بطبيعة الحال إلى التأمل في الوضع الصناعي للمزدوجة حاجات قدرات؛ حيث إن نمو الحاجات يتجاوز بمراحل تطور نمو القدرات. وحاصل القول: فإن البشرية لا تطرح على نفسها - ولا ريب - سوى القضايا التي تستطيع حلها، فكيف يمكن للبشرية أن تتكيَّف مع الأنسنة والعقلنة في هذا القرن الجديد.
عناية ابن العطَّار بكتاب شيخه (الأذكار) الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فقد أَحالَ شيخُ الإسلام محيي الدِّين يحيى بن شَرَف بن مِرَى النَّووي (المتوفى 676 هـ) -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً -على كتابه المبارك : (حِلية الأبرار وشِعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار) ، الشَّهير بـ: (الأذكار) في غير ما كتاب من كتبه المشهورة الأخرى، ورَغَّبَ فيه، وأَقرأَهُ في مجالس القراءة والسَّماع، وأجاز فيه مَن سمعه عليه إجازةً خاصَّةً، كما أجاز فيه مَن أدرك زمانه من المسلمين إجازةً عامَّةً. وهذا ما جعل تلميذه النَّجيب ومختصَره: الإمام علاء الدِّين علي بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار الدِّمشقي (654 هـ - 724 هـ) يعتني به عناية خاصَّة تمثَّلَت فيما يلي: 1- أنَّه نَسَخَ الكتاب لنفسه. 2- أنَّه قَرَأَهُ كاملًا على مصنِّفه الإمام النَّووي، وقابل نسخته معه مقابلةً تامَّةً مُتقنةً في جميع سماعه في عدَّة مجالس، آخرها: يوم الثُّلاثاء 12 من شهر جمادى الأُولى سنة 676 هـ، أي: قبل وفاة شيخه بشهرين ونصف تقريبًا. 3- أنَّه أَقرأَهُ بلفظه أو قراءة عليه وأجاز فيه في مجالس القراءة والسَّماع مرارًا وتكرارًا لمدَّة تزيد على رُبع قرن. 4- أنَّه أتاح لطلابه النَّقل من نُسخته ومقابلة نُسخهم عليها حتَّى أصبحت جُلُّ النُّسخ الخطِّيَّة للكتاب متفرِّعة عن نُسختِهِ. 5- أنَّه قيَّد في نُسخته أسماء طلابه الذين قرأوا عليه الكتاب، وعيَّن تاريخ قراءتهم عليه، وموطنها في موضعٍ. وتُعدُّ عنايته هذه أنموذجًا جليًّا تدرك من خلالها أنَّه بحقٍّ راوية مصنَّفات شيخه الإمام النَّووي. ووقفتُ -بتوفيق من الله عزَّ وجلَّ- على تفاصيل الأمور الثَّلاثة الأخيرة في نسخة خطِّيَّة تامَّة للكتاب محفوظة بمكتبة أسعد أفندي رقم (266)، نَسَخَها: محمَّد بن نصر الله بن محمَّد بن باقه العفاري الشَّافعي، وفرغ منها: في 10 من شهر ذي الحجَّة سنة 776هـ، وهي منقولة ومقابلة ومصحَّحة على نسخة بخطِّ الحافظ علم الدِّين القاسم بن محمَّد بن يوسف ابن البِرْزالي الإشبيلي الدِّمشقي (المتوفى 739 هـ) التي قابلها على نسخة شيخه العلاء ابن العطَّار، حيث نَقَلَ النَّاسخُ في آخرها [153/ ب - 154/ أ] عن خطِّ العَلَم ابن البِرْزالي طبقة سماع ابن العطَّار للكتاب بخطِّ مصنِّفه الإمام النَّووي ثمَّ أسماء جماعة قرأوه عليه من سنة 695 هـ إلى سنة 719هـ، وبلغ عددهم (12) اسمًا. وقد قمتُ بنسخ النَّص المشار إليه على الطَّريقة الإملائيَّة الحديثة، وأدرجتُ شواهد عليه من نسخ خطِّيَّة أخرى، وأحلتُ في الحاشية إلى أهمِّ المترجمين للأعلام المذكورين، وأضفتُ بعض الفوائد في الحاشية، ورقَّمتُ جميع الأسماء المذكورة مع ثلاثة أخرى استدركتُها، فصار مجموعها (15) اسمًا. ♦♦ ♦♦ ♦♦ ♦♦ ♦♦ ♦♦ [النَّصُّ المحقَّق] نَقَلْتُ هذه النُّسخة مِن نسخةٍ بخطِّ: الشَّيخ، الفاضل، المحدِّث، أبي محمَّد القاسم بن محمَّد بن يوسف ابن البِرْزالي [1] -رحمه الله-، ورَأيتُ في آخرها بخطِّه أيضًا ما صورتُهُ: وَجَدْتُ على نسخة الشَّيخ علاء الدِّين ابن العطَّار -وقد قابلتُ نُسختِي هذه بها- ما صورتُهُ بخطِّ المؤلِّف [2] : الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ. سَمِعَ عَلَيَّ جميعَ هَذا الكتاب: «كتاب الأذكار»، صَاحبهُ، كاتبهُ: الفقيهُ، العالمُ، الفاضلُ، الورعُ، المُتفَنِّن، علاءُ الدِّين، أبو الحسن، عليّ بن إبراهيم بن داود الدِّمشقيّ الشَّافعيّ، أدامَ الله الكريمُ لهُ الخيراتِ المُتظاهراتِ، وتوَلَّاهُ بالحسناتِ المُتكاثراتِ، ولَطَفَ بهِ في جميع أمورهِ، وبَارَكَ لهُ في كلِّ أحوالهِ. وقابَلَ نُسختَهُ هذه مَعِي، وأنا مُمسِكٌ أصلِي في جميع سَماعِهِ. وذلك في مجالس، آخرها: يوم الثُّلاثاء الثَّاني عشر من جمادى الأُولى سنة ست وسبعين وستمائة [3] . وأَجَزتُ لَهُ كُلَّ ما يجُوزُ لي تَسميعُهُ. كَتَبَهُ، مؤلِّفُهُ: يحيى بن شَرَف النَّواوي، عفا الله عنهم، آمين. الحمد لله ربِّ العالمين. اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، وسلِّم. قَرَأَهُ الشَّيخُ الإمام علاء الدِّين المذكور مِن لفظه، وسَمِعَهُ: (1) الشَّيخُ، العلَّامةُ، كمال الدِّين ابن الزَّمَلْكاني [4] -أيَّده الله-، في مجالس، آخرها: الثَّاني والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ♦♦ ♦♦ ♦♦ الأذكار، مكتبة تشستربيتي، رقم (4962) [2/ ب-229/ ب-230/ أ] وقَرَأَهُ عليه: (2) شمسُ الدِّين محمَّد بن سامَة [5] ، في مجالس، آخرها: سادس عشر شوَّال سنة سبعمائة، بالقاهرة. الأذكار، مكتبة عاطف أفندي، رقم (1524) [ I / ب] وقَرَأَهُ عليه: (3) الشَّيخُ عبد الله بن إبراهيم بن عبد اللَّطيف الدُّقَيْقِي الواسطي [6] ، في مجالس، آخرها: يوم حادي عشر ربيع الأوَّل سنة ست وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (4) أحمد بن قراجا الميداني [7] ، في مجالس، آخرها: ثامن عشر شوَّال سنة ست وسبعمائة. الأذكار، مكتبة تشستربيتي، رقم (3049) [278/ ب-279/ أ] وقَرَأَهُ عليه: (5) تقي الدِّين عمر بن أمين الدِّين ابن شُقَير [8] ، في مجالس، آخرها: سادس عشري ذي القعدة سنة سبع وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (6) الشَّيخ تقي الدِّين عبد الرَّحمن بن عبد المحسن بن عمر الواسطي [9] ، في مجالس، آخرها: حادي عشرين شعبان سنة ثمان وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (7) الشَّيخ عزّ الدِّين يوسف بن الحسن بن محمَّد الزَّرَنْدي [10] ، في مجالس، آخرها: ثالث شوَّال سنة عشر وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (8) زين الدِّين عبد الرَّحمن بن الشَّيخ قطب الدِّين خطيب القدس، في مجالس، آخرها: ثالث عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (9) شهاب الدِّين أحمد بن مظفر النَّابُلُسي [11] ، في مجالس، آخرها: خامس عشرين رمضان سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (10) بهاء الدِّين عبد الله بن الشَّيخ رضي الدِّين ابن خليل المكِّي [12] ، في مجالس، آخرها: سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (11) علم الدِّين سُليمان بن سالم بن عبد النَّاصر الغَزِّي [13] ، في مجالس، آخرها: عاشر ربيع الأوَّل سنة خمس عشرة وسبعمائة. وقَرَأَهُ عليه: (12) بهاء الدِّين محمَّد بن علي بن سعيد الأنصاري، إمام المشهد [14] ، في مجالس، آخرها: تاسع عشرين صفر سنة تسع عشرة وسبعمائة. نَقَلَهُ: محمَّد بن نصر الله بن محمَّد بن باقه. ♦♦ ♦♦ ♦♦ الاستدراك: وقَرَأَهُ عليه: (13) الشَّيخ تقي الدِّين عتيق بن عبد الرَّحمن بن أبي الفتح العُمَري [15] ، سنة خمس وتسعين وستمائة. الأذكار، مكتبة مراد ملا، رقم (1240) [1/ أ] وقَرَأَهُ عليه: (14) الشَّيخ برهان الدِّين إبراهيم بن علي بن إبراهيم المناخلي [16] ، في مجالس، آخرها: يوم الثُّلاثاء 13 من شهر رجب سنة 712 هـ، بدار السُّنَّة النُّوريَّة بدمشق. الأذكار، مكتبة عاطف أفندي، رقم (1524) [242/ ب] وقَرَأَهُ عليه من أوَّله: (15) الشَّيخ شمس الدِّين محمَّد بن جابر بن محمَّد الوادي آشي القَيسي الأندلسي [17] ، عند قدومه لدمشق سنة 722 هـ، حيث قال في (برنامجه) (ص 231): (حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبة في اللَّيل والنَّهار للإمام محيي الدِّين النَّواوي: قرأتُ صَدْرًا من أوَّلها بدمشق على الشَّيخ علاء الدِّين ابن العطَّار في أصله، وناوَلنيها، وأجازنيها، وحدَّثني بها بحقِّ سماعه لها على مؤلِّفها المذكور) ا.هـ. برنامج الوادي آشي، دير الإسكوريال، رقم (1726) [84/ ب] هذا والله أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. [1] ابن البرزالي (665 هـ-739 هـ): الإمام، الحافظ، المؤرِّخ، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (2/ 115)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 77)، و(الدرر الكامنة) (4/ 277). [2] نقل هذه الطَّبقة غير واحد من طلَّابه في نسختهم من الأذكار، كأخيه لأبويه داود ابن العطَّار، وأحمد بن قراجا الميداني، وابن الزملكاني، انظر: (تشنيف الأسماع بما كتبه الإمام النووي لتلاميذه من طباق السَّماع). [3] ممَّن حضر هذه المجالس وسمع الكتاب على مصنِّفه كاملًا: الشَّيخ أمين الدِّين سُلطان بن سِنان بن أبي العلاء التَّنُوخِي الدِّمشقي (المتوفى 684 هـ)، والشَّيخ شهاب الدِّين أحمد بن محمَّد بن عبَّاس بن جَعْوَان الأنصاري الدِّمشقي (المتوفى 699هـ). [4] ابن الزَّمَلْكَانِي (667 هـ - 727 هـ): الإمام، المحدِّث، قاضي القضاة، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (2/ 244)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 246)، و(الدرر الكامنة) (5/ 328)، وكان هذا المجلس يوم السَّبت بالرّواق من دار مالك النُّسخة الأمير عبد الله بن عبد ربه بن عبد الباري سنجر الدواداري الصَّالحي. [5] ابن سامة (662 هـ - 708 هـ): المحدِّث، الفقيه، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (2/ 209)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 101)، و(الدرر الكامنة) (5/ 246)، وكان هذا المجلس يوم السَّبت بالمدرسة السَّيفيَّة بالقاهرة. [6] الدُّقَيقي: انظر: (مجمع الآداب) (4/ 429)، و(المشتبه) (1/ 287)، و(أعيان العصر) (5/ 561)، و(توضيح المشتبه) (4/ 40)، و(تبصير المنتبه) (2/ 570)، وكان هذا المجلس بدمشق، وقرأ عليه بعد ذلك في السَّنة نفسها: (الأربعين) في 14 من شهر رمضان، و(التَّقريب والتَّيسير) في 14 من شهر شوال، و(الإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات) في 23 من شهر شوال، و(الإملاء) في 27 من شهر شوال. [7] الميداني: لم أجد من ترجم له، ويتبيَّن من خلال نسخه الخطِّيَّة التي وصلتنا أنَّه: أبو العبَّاس شهاب الدِّين أحمد بن الأمير زين الدِّين أبي يوسف قراجا بن عبد الله الميداني، اعتنى بنسخ الكتب والأجزاء بخطِّه الجميل لنفسه، ولازم أهل العلم، كالعلامة ابن العطَّار، وقرأ عليهم، وحضر مجالس العلم والقراءة والسَّماع، كدار السُّنَّة النُّوريَّة بدمشق، ففي شهر رجب سنة 706 هـ فرغ من نسخ كتاب (الأذكار)، وأتمَّ قراءته ومقابلته على شيخه ابن العطَّار في شهر شوال الذي وصفه في طبقة السَّماع بـ: (الأخ، الصَّالح، المحصِّل، اللَّبيب، الأديب، المقرئ)، ودعا له، فقال: (وفَّقهُ الله توفيق العارفين، وجعلهُ من عباده المخلصين)، وأثنى على قراءته ومقابلته، فقال: (قرأَ عليَّ جميع هذا الكتاب .. قراءةً متقنةً مضبوطةً مُصحَّحة، مُقابلًا معي بأصلي)، وأذن له في الرواية عنه وأجاز له رواية ما يجوز له تسميعه، وفي شهر ذي القعدة حضر مجلس سماع لجزء ابن العطَّار عن (قوم من أهل البدع يأكلون الحيات والضفادع وينزلون النيران ويؤاخون النساء والصبيان وغير ذلك) (ص 61-62)، وفي 4 من شهر ذي الحجة فرغ من نسخ جزء (تساعيات ابن العطَّار)، وأتمَّ قراءته ومقابلته على شيخه ابن العطَّار الذي وصفه وأثنى عليه ودعا له في طبقة السَّماع (ص ١١٠) فقال: (الولد المبارك .. نفعه الله ورفعه، وزاده من فضله وجمعه، ومن حمده وشكره أوزعه، قراءةً حسنةً بروايتي فيها عن مشايخي)، وأجاز له رواية ما يجوز له تسميعه، وفي 21 من شهر ذي الحجة نسخ جزءًا فيه (فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه) لأبي طالب العشاري سماعًا من شيخه ابن العطَّار. [8] ابن شُقَير (666 هـ- 744 هـ): المحدِّث، الفقيه، انظر: (المعجم المختص بالمحدثين) (ص 182)، و(الدرر الكامنة) (4/ 203). [9] الواسطي (674 هـ- 744 هـ): المحدِّث، المفتي، انظر: (المعجم المختص بالمحدثين) (ص 137)، و(الوافي بالوفيات) (18/ 104)، و(وفيات ابن رافع) (1/ 460). [10] الزَّرَندي (664 هـ-712 هـ): المحدِّث، الفقيه، انظر: (الدرر الكامنة) (6/ 223). [11] ابن النَّابُلُسي (675 هـ- 758 هـ): الحافظ، المسند، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (1/ 104)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 42)، و(الدرر الكامنة) (1/ 376). [12] العسقلاني (694 هـ - 777 هـ): المقرئ، المحدِّث، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (1/ 330)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 126)، و(الدرر الكامنة) (3/ 73). [13] الغزِّي (690 هـ - 764 هـ): المحدِّث، المفتي، القاضي، انظر: (المعجم المختص بالمحدثين) (ص 105)، و(الدرر الكامنة) (2/ 292). [14] ابن إمام المشهد (696 هـ - 752 هـ): المحدِّث، المفتي، المتفنن، انظر: (المعجم المختص بالمحدثين) (ص 245)، و(الدرر الكامنة) (5/ 318). [15] العمري (بعد 630 هـ - 722 هـ): المحدِّث، العالم، انظر: (المعجم المختص بالمحدثين) (ص 153)، و(الدرر الكامنة) (3/ 243). [16] المناخلي: لم أجد من ترجم له، ويكفي في التَّعريف به أنَّه قرأ نُسخته هذه من كتاب (الأذكار) على شيخه العلاء ابن العطَّار فكَتَبَ له طبقة سماع عليه وصَفَهُ فيها بـ: (الأخ، الصَّالح، المقرئ، الأديب، اللَّبيب، برهان الدِّين أبو إسحاق إبراهيم بن الحاج الصَّالح الكبير علي بن إبراهيم المناخلي الدِّمشقي دارًا، الحلبي أصلًا)، ودعا له، فقال: (نفعه الله، ونفع به، ولطف به وله وبسببه، وجعله من عباده الصَّالحين والعلماء العاملين)، وأجاز له روايته ورواية ما يجوز له تسميعه. [17] الوادي آشي (673 هـ-749 هـ): المقرئ، المحدِّث، الفقيه، انظر: (معجم الشيوخ الكبير) (2/ 180)، وفيه: (قدم علينا سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة)، و(المعجم المختص بالمحدثين) (ص 226)، و(الدرر الكامنة) (5/ 152).
في غار حِراء رُوي عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور - يعتكف - في غار حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحَنَّثُ به قريشٌ في الجاهلية، وهذا مما بقي عندهم من دين إبراهيم وإسماعيل، والتحنث: التطهر من الآثام، والخروج منها، وقيل: أبدلت الفاء ثاء، وأصله التحنف، من الحنيفية، وعلى أي كان سواء التحنف أم التحنث، فإن ( تفَعَّل ) تفيد الخروج عن الشيء والانسلاخ منه، فتلك عادة اتخذها المتدينون من قريش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في جملة الأمر كان يحب الخلوة، سواء أُورثها من قريش أم كانت من تلقاء نفسه، فكان مكانه المفضل لهذه الخلوة في غار حراء بعيدًا من وسط مكة، فيمضي فيه الليالي ذوات العدد، وربما أمضى شهرًا، ثم يعود إلى بيته، وكانت خديجة رضي الله عنها تتفقده بين فترة وأخرى، خصوصًا إذا طال مكثه، وتُحضر له الطعام والشراب، وتجلس عنده قليلًا، ثم تتركه في تحنثه وتأملاته، وكانت في هذا الأمر نعم العون؛ فقد كفته المؤونة ورعاية الأولاد وتسيير شؤون البيت في غيابه، وهي المدربة على ذلك، والحكيمة في مثل هذه الأمور، فكانت له الزوجةَ الصالحة التي سكن إليها، فعوضته عن حنان الأم وعطف الأب، وفي ليلة الاثنين لثماني عشرة خلت من رمضان - وقيل ليلة أربع وعشرين، كما قيل: ليلة سبع عشرة - كانت بداية التكليف بالنص القُرْآني: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 1، 2]، جاءه الوحي وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ - بمعنى لا أحسن القراءة - قال: فأخذني فغطني - بمعنى ضمَّني بقوة، ويروى: غتني بمعنى خنقني - حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]. فرجَع بها محمد صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة رضي الله عنها وهو يقول: "زمِّلوني زمِّلوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فأخبر خديجة بما حصل له، وقال: "لقد خشيتُ على نفسي"، لكن خديجة العاقلة الرزينة التي تعرف من هو محمد حقيقة المعرفة لم تكن خائفة مما حصل، بل قالت له: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ - العاجز - وتَكسِبُ المعدوم، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقَتْ به خديجة حتى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل وهو شيخ كبير، هزل جسمه، وضعف بصره - وكان قد تنصر في الجاهلية - كما كان عالمًا بالتوراة والإنجيل، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: سُبُّوح سُبُّوح، هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَمخرجيَّ هم؟"، فقال: نعم، لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي. وفي رواية ابن هشام: أن خديجة أخبَرت ورقة بخبر محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لها: والذي نفس ورقة بيده، لئن كنتِ صدقْتِني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، ثم إن ورقة التقى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف حول الكعبة، فقال ورقة: يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، وفي نهاية اللقاء قبَّل ورقة رأس النبي صلى الله عليه وسلم. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا عن ورقة فقال: "قد رأيته فرأيت عليه ثيابَ بياضٍ، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض"، وفي رواية أخرى: "أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس". وسُئل عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: "يُبعث يوم القيامة أمة وحده". وسئل عن أبي طالب، فقال: "أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها". وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القُرْآن، فقال: "أبصرتُها على نهر الجنة في بيت من قصب - فضة - لا نصب فيه ولا صخب". وبعد حادثة الغار فتَر الوحي، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضاق صدره، وكان في شوقٍ لعودته، وبالرغم من خوفه أول الأمر فإن هناك شيئًا ما في داخله يدفعه للشوق إليه، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإذا الملَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، زملوني؛ فأنزل الله سورة المدثر: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 1 - 6]". وقد ورد أنها أول ما نزل من القُرْآن، والصحيح أنها أول ما نزلت من القُرْآن بعد فترة الوحي، وورد أن خديجة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك - وتعني به جبريل؟ قال: "نعم"، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: "يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني"، فقالت: نعم، فقم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحوَّلْ فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا"، فقالت: يا ابن عم، اثبُتْ وأبشر؛ فوالله إنه لملَك، وما هو بشيطان.
الإمام برهان الدين الجعبري حياته وآثاره لعيسى الجعبري صدر حديثًا كتاب "الإمام برهان الدين الجعبري، شيخ القراء وشيخ حرم الخليل عليه السلام، حياتُه وآثاره"، تأليف: م. "عيسى خيري الجعبري"، نشر: "دار طغراء للنشر والتوزيع"، توزيع: "دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع". ويعرض الكتاب سيرة الإمام "برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري" (640-732 هـ)، شيخ قراء عصره، الفقيه الشافعي، والعالم المشارك في أنواع كثيرة من فنون العلم كعلوم القرآن والحديث والأصول والتاريخ واللغة وغيرها، وقد عاش هذا الإمام في الفترة من (640 هـ) وحتى (732 هـ)، وعاش ردحًا من عمره في مدينة خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم - نحو (45) عامًا - شيخًا لها ولمسجدها الإبراهيمي، وكان أعظمَ العلماء الذين استقرّوا في هذه المدينة المرابطة عبر تاريخها، كما يدل على ذلك استعراض تاريخ المدينة وعلمائها عبر عصورها المختلفة، فكان جزءًا هامًّا من تاريخ مدينة الخليل على وجه الخصوص، بل وتاريخ فلسطين العلمي عمومًا. وقد ترك خلفه تراثًا علميًّا ضخمًا تمثل في أكثر من مائة وخمسين كتابًا ألّفها، وقد حُققت ونُشرت العديد من كتبه ومؤلفاته في الآونة الأخيرة واعتني الباحثون وطلاب الدراسات العليا بكتابة أطروحاتهم العلمية حول كتبه تحقيقًا وشرحًا ودراسة. وهذه الترجمة للإمام الجعبري لتعميم معرفته لدى عامة الناس؛ إذ تقتصر المعرفة به على أهل العلم الشرعي، خاصة أهل علوم القرآن منهم؛ لكثرة ما يمر بهم من أقواله وآرائه في كتب علوم القرآن وكتب علم القراءات على وجه الخصوص، في حين يجهل كثيرون تاريخه ومساهماته العلمية في غير علوم القرآن. إلى جانب أن المؤلف يمتد عمود نسبه إلى هذا الجد، فبين المترجم والمترجم له ثمانية عشر أبًا، ونجد أن برهان الدين الجعبري عاش في فترة حرجة من تاريخ العالم الإسلامي، في زمن الاجتياح التتري للعالم الإسلامي، وزمن بقايا الحملات الصليبية في القرن السابع الهجري وثلث القرن الثامن الهجري، وقد تفرغ لتدريس العلوم الشرعية، خاصةً علم القراءات القرآنية، فغدا شيخ هذ العلم بلا منازع، وألف وصنف في كثير من علوم القرآن، والتي أوصلها الإمام السيوطي في "الإتقان" إلى أكثر من ستين علمًا. ويقع الكتاب في خمسة فصول: الأول عن شخصيته وحياته، والثاني عن شيوخه، والثالث عن تلاميذه والرابع عن مؤلفاته مصنفةً حسب العلوم، والخامس للتعريف بمن عُرف بالعلم من أبنائه وأحفاده الذين تولوا مشيخة المسجد الإبراهيمي بعده. والمؤلف هو المهندس عيسى خيري عيسى الجعبري، حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكيماوية من الجامعة الأردنية سنة 1990 م، وعلى شهادة بكالوريوس التربية الإسلامية من جامعة القدس المفتوحة سنة 2001 م، وعلى شهادة ماجستير الفقه والتشريع وأصوله من جامعة القدس سنة 2016/ 2017 م، من مؤلفاته: "اختيارات الإمام محمد بن جرير الطبري في مسائل الحدود دراسة فقهية مقارنة".
إفشاء الأسرار في التواصل الاجتماعي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فمن الظواهر السيئة والمحرمة التي انتشرت بعد تطور وسائل الاتصال في شبكة الإنترنت - ظاهرة تسريب الرسائل والبصمات الصوتية من المجموعات الخاصة دون موافقة الأعضاء، أو من يدير هذه المجموعات المعينة، سواء كان بقصد أو دون قصد، تلميحًا أو تصريحًا؛ لأن المجالس أمانات ولا يجوز إفشاء أسرارها، وكذلك التنصت على هواتف الناس ومكالماتهم. وهذا العمل القبيح والمشين يدخل في التجسس والنميمة والخيانة، وهي من سيئ الأخلاق وأقبحها وأكثرها خطرًا؛ لأنها تفضي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء بين المسلمين. وليس من شرط المحافظة على أمانة المجلس أن يخبر المتكلم أو المشارك في المجموعة بالكتابة أو بالبصمة الصوتية الآخرين بأن هذا الكلام سر، فلا يخرج أو يخبر به أحدًا، بل يكفي أن تدل القرينة على ذلك، وخصوصية هذه الكروبات، وحساسية ما يذكر فيها. فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة))؛ [رواه الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني]. ومن صور التجسس المحرم هو استماع المرء إلى حديث قوم، وهم له كارهون، فقد توعد من يفعل هذا على لسان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنه سيصب في أذنه الآنك يوم القيامة بسبب فعلته؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من استمع إلى حديث قوم، وهم له كارهون، أو يفرون منه، صُب في أذنه الآنك يوم القيامة))؛ [رواه البخاري]، والآنك هو الرصاص المذاب. وفي هذا الحديث دلالة على أن الاستماع لحديث الآخرين، ونقله بغير رضاهم وإذنهم - من التجسس المحرم الذي نهى عنه تعالى في كتابه العزيز، وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه وحذر منه، وبترتيب هذه العقوبة القاسية المذكورة في الحديث على من يفعل هذا دليل واضح على تحريم هذا الفعل المشين. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12]. والتجسس: هو تتبع عورات الناس وهم في خلواتهم، إما بالنظر إليهم وهم لا يشعرون، وإما باستراق السمع وهم لا يعلمون، وإما بالاطلاع على مكتوباتهم الخاصة ووثائقهم وأسرارهم وما يخفونه عن أعين الناس دون إذن منهم، ومن ثم نقلها للآخرين. وعن أبي هريرة رضيَ الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا...))؛ [متفق عليه]. وهذا الفعل المشين يدخل كذلك في باب النميمة، والتي هي من كبائر الذنوب والمعاصي، وقد ذم الله تعالى الذي يمشي بين الناس بالنميمة. قال تعالى: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، والنميمة هي: نقل الكلام بين الناس بغاية الشر والإفساد فيما بينهم، وإفشاء السر وهتكه عما يكره كشفه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مر رسول الله عليه الصلاة والسلام على قبرين فقال: إنهما لَيعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما، فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة))؛ [متفق عليه]. وعن حذيفة بن اليمان رضيَ الله عنه، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة نمام))، وفي رواية: ((قتات))؛ [رواه مسلم]. وقوله عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد: ((ألا أخبركم بشراركم؟ المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة...)). والخلاصة: إن نقل كلام الآخرين من المجموعات الخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي دون إذنهم من كبائر الذنوب ومن المحرمات، ويدخل كذلك في التجسس والنميمة وهي من سيئ الأخلاق وأقبحها وأكثرها خطرًا؛ لأنها تفضي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، وتمزيق وحدة الصف، وتشتيت الكلمة. والحفاظ على الأسرار في كلام الناس ومجموعاتهم الخاصة هي من الأمانات، ومن العهود التي يجب الحفاظ عليها، ويجب التغليظ على من يفشونها، ويخونون الأمانة، وينقضون العهد، ويحرم السكوت عنهم لمن عرف حالهم، بل يجب عليه إخبار القائمين على المجاميع الخاصة لإخراجهم منها والحفاظ على أسرار الجماعة. فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى ويستشعر مراقبته، ويتذكر دائمًا أن إفشاء أسرار الناس من الغدر والخيانة الذي توعده عليه الصلاة والسلام بالفضيحة أمام الأشهاد يوم القيامة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الغادر يقوم يوم القيامة ينصب له لواء، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان))؛ [متفق عليه]؛ يعني: باسمه المخصوص، وباسم أبيه، وهذه مبالغة في العقوبة، وشدة الشهرة والفضيحة، والعياذ بالله تعالى، والله تعالى أعلم.
مقالات في مذهب الإنسانية: "الدين الإنساني" (1) حيث إن القوم أصبحوا ينادون بـ"الإنسانية"، مرددين هتافات أتباعها وأحفاد مؤسسيها دون وعي منهم بحقيقة المبدأ الذي ينادون به، مبادئه وأبعاده، واللبوس الذي يلبسه، والطريقة التي ينتهجها للتغلغل في عقيدة المسلمين؛ ومن ثَمَّ نقضها. وجدنا ضرورة وضع بحث متواضع عن هذا المذهب، على شكل مقالات؛ حتى لا نثقل على المهتم ببحث طويل. اللهم وجهك نبتغي. بسم الله نبدأ. أولًا: الدين الإنساني: تعاريف: الدين الإنساني: هو دين يؤلِّه الإنسان ويجحد كل ما عداه من قوى يمكن أن تتحكم في مسيرته في الحياة، لا يعترف هذا الدين بالشرائع السماوية؛ حيث إنه لا يؤمن بوجود إله مشرِّع، ويرى أن الإنسان وُجد من الطبيعة عن طريق التطور، وهو المسؤول الأول والأخير عن حاضره ومستقبله، يشكله كيف يشاء. ولا مكان "للغيب" في الدين الإنساني، فالمادة هي أساس الوجود، وهو ينكر كل ما وراء الملموس والمحسوس. تعريف الويكيبيديا للإنسانية الدينية: هي اندماج بين الفلسفة الإنسانية الأخلاقية والطقوس والمعتقدات الدينية التي تدور حول احتياجات الإنسان واهتماماته وقدراته [1] ، والإنسانية الدينية ترفض الشرائع السماوية على تنوعها، وهو ما عبرت عنه المصادر التي بحثت في الإنسانية "بالمعرفة الموحاة أو المنزَّلة" Revealed Knowledge ، كما ترفض الأخلاق والأدبيات التي تقوم على أساس الإيمان بالله، ولا تؤمن بالغيبيات. تؤمن الإنسانية بأن "الإنسان هو المتصرف الحقيقي بالكون، والقادر على كل شيء، كما أنها تؤله المادة، وتنكر كل الخوارق والمعجزات" [2] . تعريف في قاموس ويبستر العالمي الثالث "للإنسانية الدينية" 1961: حركة أمريكية معاصرة تتكون بشكل أساسي من إنسانيين غير موحدين، ومن الكنائس الإنسانية، وتهدف إلى تحقيق الأهداف الأخلاقية للدين، دون وجود معتقدات وطقوس تعتمد على الغيبيات". وتعتبر " الديانة الإنسانية " الجذر الأول لِما أضحى يُعرف "بمذهب الإنسانية"؛ حيث يعيد المؤرخون بذرتها إلى عصر التنوير [3] ، فبالرغم من أن أتباع هذه الديانة لم ينتظموا رسميًّا تحت مسمى "الإنسانية" حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن تاريخ ظهور الأديان الإلحادية "التي تنكر وجود الإله"، والتي ارتبطت مع الفلسفة الإنسانية التي تقوم على "الأخلاق" - تعود إلى ذلك العصر [4] . ثانيًا: الدين الإنساني في الأقوام الغابرة: أ‌- عقيدة تأليه الإنسان في قوم عاد: • وقالوا من أشد منا قوة... تطاول الزمن على البشرية بعد نوح عليه السلام، فعادت إلى سيرتها الأولى من الشرك وعبادة آلهة الآباء، والتعنت والعناد والإصرار على إشراكها بالله في العبادة والتصرف في كل شؤون الحياة، لكنها في هذه المرحلة أضافت إلى الشرك شركًا استمدته من فيض شيطاني لم يكن في قوم نوح، فكان تأليه الإنسان! ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15]. قوم نوح بذروا في العقيدة التي فطر الله البشرية عليها بذرة "الشرك بالصالحين"، عبادة صور وتماثيل الصالحين، وقوم عاد بذروا فيها بذرة "الإنسان الإله". ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 128 - 130]. ومنذ ذلك الوقت وفكرة الإنسان الإله بين مد وجزر، كنوع من أنواع الشرك، تجلت بعد عاد، في أقوى صورها، في بني إسرائيل، لتعود في قرون البشرية الأخيرة تحت مسمى "الدين الإنساني"، وتنتهي إلينا بالكثير من الصور المضللة؛ وأهمها "العلمانية". • المنطلق الأول لدين "الإنسانية" قوم عاد: مع عاد ظهرت فكرة الإنسان الإله. تقوم فكرة الإنسان الإله على الإيمان المطلق بالقوة المادية، وهذا الإيمان يتولد عن تعاظم القدرة البشرية في البناء والتطور والتقدم، وإيجاد ما لم يكن موجودًا من أسباب الحياة والرفاهية، بما تتوصل إليه الأقوام من اختراعات تقنية وعلمية، تتخيل معها أنها قادرة على حكم الكون والتحكم فيه، بعد أن بلغت أعلى مستويات العتو والتكبر ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]. والوصول إلى هذا المستوى من التفكير ينتفي معه الإيمان بوجود قدرة عليا تحكم بني البشر، بعد أن وجد الإنسان نفسه هو الأقوى والأفضل والحاكم المتحكم! وانتفاء الإيمان بوجود قدرة عليا وإله متحكم بالكون، يستجلب نكران يوم الحساب والبعث بعد الموت، فتأليه الإنسان لنفسه يستوجب الاعتقاد بخلوده في النعيم، سواء على الأرض أو ما بعد حياة الأرض، وهذا ما اختلف في تصويره "الإنسان الإله" على مر العصور بعد عاد. • الأسس التي اعتمد عليها قوم عاد في رسم الإنسان الإله: 1- القوة الجسدية: ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 7، 8]، ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ [الأعراف: 69]. 2- الرخاء المعيشي: ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الشعراء: 132 - 134]. 3- القوة الحضارية: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 128، 129]. 4- الجبروت والسيادة الطاغية: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 130]. 5- تكذيب واحتقار كل من خالفهم أو حاول المساس بسيادتهم، وهو حال جميع الأقوام الكافرة عندما تأتيهم الرسل والنذر: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66]، ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 54]. 6- الاستكبار: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [فصلت: 15]. 7- إنكار القوة الإلهية واعتبار القوة المادية أساس التألُّه: لا يوجد قوة تحكم البشر فوق القوة البشرية: ﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15]، كما تبدو هذه النزعة جلية عند فرعون: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 51 - 55]؛ ففرعون "المتألِّه" الذي حشر قومه ونادى فيهم: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24] يرى أن الاحتكام إلى المادة وامتلاكها هو الدليل الأمثل على أحقيته بالألوهية والربوبية المطلقة، والحق في التحكم بالأقوام والشعوب، والآيات تفيد أن فرعون تمكن من إقناع قومه بهذا المنطق، لما وجده فيهم من خفة عقل، وحال فرعون البارحة هو حال فراعنة الغرب اليوم الذين يعتقدون ألوهيتهم بما يملكونه من أسباب مادية، وخفة عقل قوم فرعون البارحة هي خفة عقول الشعوب اليوم التي ترى في فراعنة العصر آلهة فعلًا، فيتبعونهم شبرًا بشبر، وباعًا بباع. 8- إنكار اليوم الآخر والبعث: هم ينكرون البعث بعد الموت واليوم الآخر، معتبرين أن الحياة الدنيا نهاية كل شيء، فالإنسان والمادة هما المبتدأ والمنتهى: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 35 - 37]؛ أي: يموت الآباء ويحيا الأولاد فتستمر الحياة، ولا بعث بعدها. 9- الإنكار المطلق لوجود قوة إلهية عليا تدير الكون، ترزق وتمنع، تحيي وتميت، ترحم وتعذب، فمن أهم سمات "الإنسان الإله" أنه أعمى تمامًا عن تدابير الخالق؛ لأنه لا يؤمن بقدرته أصلًا، فهو لا يرى مقدمات العذاب، ولا يشعر بالابتلاءات التي تحيق به على أنها تصرف خالقه فيه، هو يعتقد أن كل الحوادث التي يعيشها من صنعه هو، ولا يمكن أن تخرج عن المألوف الذي عاشه ودرج عليه، إلا بإرادته، فكل ما في الكون مسخر لخيره ورفاهيته، ولا يوجد قوة أعلى وأشد من قوته يمكنها أن تسلبه نعيمه وملكه وحضارته! وها هم قوم عاد يرون سحاب العذاب سحاب خير وفير: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24]. أما فرعون، فقد أضاف إلى هذا الإنكار السخرية والاستهزاء بدعوة موسى له لعبادة الله الواحد؛ فقال لوزيره هامان: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 36، 37]. هذه الأسس هي ذاتها التي يقوم عليها دين الإنسانية الحديث، الذي زُرعت شجرته في القرن الثامن عشر، وتمت رعايتها بهدوء شديد حتى ضربت جذورها في أمتنا، فأخرجت فروعها السامة على تنوعها، والتي سنأتي على ذكرها لاحقًا إن شاء الله. [1] http://en.wikipedia.org/wiki/Humanism [2] http://en.wikipedia.org/wiki/Religious_humanism [3] عصر التنوير ويسمى عصر الأنوار بالفرنسية ( Siècle des Lumières ) : مصطلح يشير إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية ، والذي برز فيه مفكرون وفلاسفة الأنوار . غالبًا ما يعتبر جزءًا من عصر أكبر يضم أيضًا عصر العقلانية ، المصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية دعيت بالتنوير والتي قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها، كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة ، بدلًا من الدين ، ومن هنا نجد أن ذلك العصر هو بداية ظهور الأفكار المتعلقة بتطبيق العلمانية ، رواد هذه الحركة كانوا يعتبرون مهمتهم قيادة العالم إلى التطور والتحديث، وترك التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية، ضمن فترة زمنية دعوها " بالعصور المظلمة ". [4] http://en.wikipedia.org/wiki/Religious_humanism
كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الأقصى؟ الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدَّر فهدى، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ولبى نداء ربه حتى أجاب مناديه. أما بعد: فإن أرض بيت المقدس أرض مباركة باركها الله تعالى؛ حيث قال: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، وبارك ما حولها؛ قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، أرض وطِئتْها أقدام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهي مهجر إبراهيم عليه السلام، وديار أيوب، ومملكة سليمان، ومهد المسيح، منتهى الإسراء، ومبتدأ المعراج، وهي أرض وطئتها أقدام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأقدام التابعين، وأقدام العلماء الميامين. وهي الأرض التي ستكون عليها خلافة المسلمين في آخر الزمان؛ كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة ...))؛ [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني]. كانت الأرض المقدسة محطَّ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تكن علاقته بها علاقة عابرة، دلَّ على ذلك جملة من الأدلة؛ ومنها الآتي: 1- فقد كانت القدس قبلته صلى الله عليه وسلم الأولى، التي يستقبلها في صلاته ودعائه ورجائه في الفترة المكية، وكانت قبلته في الفترة المدنية الأولى؛ فلقد استقبل بيت المقدس في المدينة مدة من الزمن؛ عن البراء رضي الله عنه قال: ((صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفنا نحو الكعبة))؛ [الصحيحين]. 2- كان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكر فضائلها - الأرض المقدسة - لأصحابه رضوان الله عليهم؛ ومما يثبت ذلك، عنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً)) ؛ [الصحيحين]، وعن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى هُوَ ...))؛ [صححه الألباني]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى))؛ [البخاري، ومسلم]. 3- زيارتها، فقد كتب الله تعالى له أن يزورها في رحلة الإسراء والمعراج؛ قال الله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. 4- بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحه: ((اُعْدد ستًّا بين يدي السَّاعَة: ... ثم فتْح بيتِ المقدس ...))؛ [البخاري]. 5- توجيه النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش لفتحه: فلقد كانت وجهة الغزوات في آخر عهده باتجاه الشام، غزوة تبوك في 9ه، وقام عليه الصلاة والسلام بتجهيز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما موجهًا إياه نحو الشام، لكنه مات قبل أن ينفذ البعث. يظهر أن بيت المقدس والمسجد الأقصى كان حاضرًا في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، فهنيئًا لمن اقتدى بنبيه، وكان للأقصى وللأرض المقدسة المباركة التي حوته مكانة في قلبه، دافع عنها بكل ما يستطيع. والحمد لله رب العالمين.
قبس من حياة العلامة الشيخ هارون ساماسا السونينكي السنغالي المقدمة: الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، والصلاة والسلام على مبلغ الرسالة الإلهية بأمانة سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، وكل من سار على دربهم إلى يوم التلاق، أما بعد: فلما كان العلم هو الوسيلة لمعرفة الدين الصحيح الذي يعبد به الخالق، ويميز به الطيب من الخبيث، كما أنه هو السبيل لتيسير الأمور الدنيوية. وبما أن العلماء الموفقين المخلصين الذين وفَّقهم الله لحمل هذه الورثة الثمينة العظيمة لخدمة الناس في دين الله بحكمة وصبر، فيخرجوهم من الظلمات إلى النور، ولا يريدون في ذلك جزاء ولا شكورا وهم قليلون، ومن بين ذلك العلماء الشيخ هارون ساماسا الذي لعب ولا يزال يلعب دوره في تربية الأمة في المدارس، والمساجد، والمجالس، والإذاعات، والتلفاز، وفي أرض المهجر، فهو من الذين راقبوا ألفاظهم ومعاملاتهم، وتصرفاتهم عل جميع المستويات، فشكرته الحكومة السنغالية لعلمه وإنسانيته، والأمة السونينكيية لحكمته وأدبه في دعوة الناس إلى دين الله. فأحببت أن أسطر لهذا العالم عدة وريقات؛ إذ بالكتابة تبقى آثار الرجال، وبها تعرف قصص السابقين. والله أسأل أن يجزيني ثواب الكتابة، وكل من استفاد بقراءته، إنه مجيب الدعوات. التعريف بالشيخ: الاسم: الشيخ هارون ساماسا بن سليمان بن عبد الله ساماسا رحمهم الله. الوالدة: خديجة بنت طاهر فوفانا رحمهم الله. مكان الميلاد: ولد سنة 1949 من عشر أكتوبر في قرية (بالو)، وهي قرية في دولة السنغال تقع في إقليم تانمبا كندا منطقة مدينة باكيل، وتبعد عن العاصمة دكار نحو سبعمائة كيلو متر، وهي في حدود السنغال مالي على نهر صغير يسمى (فاليمي falleme). الأسرة: أسرة ساماسا معروفة في المنطقة بالتدين والعلم والكرم وبالتضامن، وحسن الضيافة. القبيلة: ينتمي الشيخ هارون ساماسا إلى قبيلة السونينكي المعروفة بالعلم، والمشهورة بحب العمل وكسب الحلال، وأكثرهم يستوطنون في جمهورية مالي، وجمهورية السنغال، وجمهورية موريتانيا، وجمهورية غامبيا، وغيرها من البلدان المجاورة. صفاته الخَلقية والخُلقية: معتدل القامة، فاتح اللون، نحيف الجسم، بشوش الوجه، متواضع، قليل الكلام، ذو خلق كريم، محبوب لدى الصغار والكبار، إذا مشى مشى بوقار، فصيح اللسان، وموهوب في طرق التدريس، حكيم في معاملته مع الناس، حريص على صلة رحمه، فهو خادم العلماء إذا اجتمعوا، لا يرفع صوته على أحد، ولا ينتهر أحدًا، إذا عاشرته وجدته رحيمًا صبورًا حليمًا حكيمًا. الحالة الوظيفة: أستاذ الدرجة الممتازة المتقاعد للتعليم الثانوي، وحامل وسام الجمهورية برتبة فارس سنة 2007 . لغة التخاطب: 1- السونينكية، وهي لغة الأم. 2- الأولوفية وهي لغة مجتمعه السائدة. 3- العربية وهي لغة عمله. 4- الفرنسية وهي لغة دولته الرسمية. 5- البمبرية، وهي لغة جمهورية مالي السائدة. 6- اللغة الفلانية. مرحلة التحصيل العلمي: 1-الداخلية: بدأ الشيخ تعلمه في قريته بالوا في السن السابعة كأي ولد من أولاد وبنات ذلك الوقت؛ فتعلم القراءة والكتابة على أعمامه، الحاج محمد ساماسا، والحاج شيخ ساماسا، والحاج عثمان ساماسا رحمهم الله جميعا، وعلى أيديهم تعلم مبادئ العلوم الفقهية في المذاهب المالكية، ككتاب الأخضري، وكتاب العشماوي، والمقدمة العزية، والثمر الداني لأبي زيد القيرواني، ومختصر خليل الجزء الأول، كما درس عندهم بعض الكتب اللغوية، والأدب كالبردة للبوصيري، والهمزية، ونيل الأماني في شرح التهاني وغيرها من الكتب التي كانت مقررة على طلاب المجالس آنذاك. 2-الخارجية: كان الشيخ مولعًا بطلب العلم، وحريصًا عليه، فأدرك في نفسه أنه يحتاج إلى مزيد من التحصيل، فانتقل إلى قرية ( تفسيرق) [1] قرية اشتهرت بنشر العلم من نشأتها، والتحق بمجلس الشيخ غوث درامي بن شيخ درامي رحمهم الله جميعًا، وأتم عليه دراسة الكتب المتوفرة المقررة ذلك الوقت في مجالس الشيوخ كمختصر خليل، والثمر داني، وابن عاشر، والمقامات الحريرية بالإضافة إلى بعض الأشعار، ومكث الشيخ مجلس الشيخ غوث درامي رحمه الله يتلقى العلم والتربية وخدمة شيخه في قرية (تفسيرق) سنتين كاملتين. السفر للتكسب والتعلم: وفي أوساط سنة 1965 سافر الشيخ إلى فرنسا للعمل كأي شعب مثله، فاغتنم وجوده في فرنسا ليجمع بين العمل وطلب العلم؛ لأن رغبة التعلم لم تفارقه قط، وقيد الله له أخًا كريمًا عالِمًا يحب المتعلمين، وهو الشيخ زيد جبغتي [2] رحمه الله؛ فتعلم عليه في فرنسا مبادئ النحو والصرف والبلاغة والأدب، وهذا الاحتكاك بهذا العالم الجليل شحن من همة الشيخ ودفعه إلى دولة ليبيا عن طريق المغرب والجزائر، فالتحق بمعهد جغبوف [3] بليبيا، وحصل هناك على الشهادة الإعدادية. عودة الشيخ إلى أرض الوطن: وفي سنة 1970 رجع الشيخ من ليبيا إلى جمهورية السنغال؛ لتفقد الأهل والجيران، دون ثم سافر مرة أخرى إلى فرنسا للتزود ولمواصلة دراسته، فعمل هناك وحصل على ما يكفيه من الزاد. من فرنسا إلى مصر: غادر الشيخ فرنسا سنة 1972حاملا هم العلم متجها إلى القاهرة حيث الأزهر الشريف، فالتحق بمعهد البعوث السنة الثلاث بعد امتحان قبول ونال الشهادة الثانوية سنة 1973، ثم التحق بكلية الآداب والتربية شعبة اللغة العربية جامعة الأزهر سنة 1973، وحصل على الشهادة العالمية "بتقدير جيد"، وذلك سنة 1977 . من مصر إلى السنغال: بعد حصول الشيخ على الشهادة الليسانس في جامعة الأزهر الشريف سنة 1977 رجع إلى السنغال، والتحق بالمدرسة العليا لتكوين الأساتذة والمفتشين فرع جامعة شيخ أنت جوب بدكار، وحصل على شهادة الكفاءة للتدريس في المرحلة الثانوية، ثم نال بعد مسابقة ودراسة في نفس المدرسة شهادة كفاءة التفتشين للمرحلة الابتدائية. من السنغال إلى السودان: كلما تقدم الشيخ في العمر أدرك في نفسه مزيد رغبة إلى العلم؛ فسافر إلى السودان على منحة من الجامعة العربية للدارسة والتخصص في معهد الخرطوم الدولي للناطقين بغيرها، فحصل على الدبلوم التخصص، ثم على الماجستير في اللسانيات بتقدير "جيد جدًا". الإنتاج الفكري: مخطوطان في علم اللغة، وهما في معهد الخرطوم الدولي: الأول : ((الدارسة التقابلية بين السونينكية والعربية على مستوى الجملة البسيطة)). الثاني: ((الدراسة التقابلية بين السونينكية والعربية على مستوى الأدوات النحوية)). الدراسات الأكاديمية والشهادات: • 1973: الشهادة الثانوية من جامعة الأزهر. • 1973-1977: الدراسات الجامعية في جامعة الأزهر، ليسانس الآداب والتربية. • 1985-1986: التخصص في معهد الخرطوم الدولي للغة العربية دبلوم ماجستير في اللغة العربية، وعلوم التربية واللسانيات الحديثة. الدراسات المهنية والشهادات: • 1980: في المدرسة العليا لتكوين الأساتذة فرع جامع شيخ أنت جوب بدكار، الحصول على شهادة التطبيق للتعليم الإعدادي. • 1986: الحصول على شهادة مهنة التعليم الثانوي من نفس المعهد. • 1986-1987: نجاح في مسابقة قبول المفتشين، والحصول على شهادة مهنة التفتيش للتعليم الابتدائي من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة. الوظائف والخبرات: 1 - 1981 إلى 1993مدرس للتعليم الثانوي في ثانوية (غران يوف) [4] عاصمة دكار وثانوية الحاج إبراهيم تياو بدكار. 2- 1989-1994: مكون في مركز التكوين والتوجيه البيداغوجي للتعليم الابتدائي بدكار. 3- 1995-2006: مفتش ومنسق للتعليم العربي في أكاديمية دكار. 4- 2006-2010: المستشار الوطني للتعليم الإعدادي والثانوي المكلف بالتكوين المستمر. 6- عضو اللجنة الوطنية للغة العربية لمدة عشرين سنة. 7- عضو اللجنة الوطنية للحج. 8- السكرتير المكلف بالتربية في المركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة بدكار. 9- إمام وخطيب في جامع المركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة. نشاطات أخرى: خطب ومحاضرات في مختلف المجالات الدينية والثقافية والاجتماعية. دروس في التفسير باللغة السونينكية. الحمد لله من قبل ومن بعد. [1] تفسير قرية تقع في حدود جمهورية مالي، وتبعد عن حدود السنغال بخمس كيلو مترات تقريبًا، وهي قرية أثمرت العلماء والأغنياء، ولا زلت تخدم العلم إلى يومنا هذا. [2] هو من سكان مدينة باكيل دولة السنغال، وكان حلقاته في فرنسا يأتي إليه الطلبة لتلقي علوم اللغة كالنحو والصرف والبلاغة والأدب، والكتب الفقهية. [3] جغبوف: مدينة في ليبيا تقع في الحدود بين ليبيا ومصر. [4] اسم حي في العاصمة دكار، السنغال.
لعَرفُ النَّاسِم في مآثر الدكتور محمَّد رشاد سالم، رحمه الله تعالى (1346 هـ / 1927م - 1407 هـ / 1986م) العلَّامة المُحقِّق الجليل الأستاذ الدكتور محمَّد رشاد بن محمَّد رفيق سالم رحمه الله تعالى، من نبلاء عصره وعلمائه ومُفكِّريه، ذو المناقب العديدة، والمآثر الحميدة، مُحقِّق كتب شيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى، وناشر تراثه، وجامع رسائله ومسائله وفتاويه، له جهودٌ كبيرةٌ مشكورةٌ في خدمة التُّراث وتحقيق المخطوطات، وهو عالمٌ فذٌّ جديرٌ بالدِّراسة عن جهوده ومآثره. ♦ نشأته وتعليمه: أصلُه من مدينة حمص ثمَّ استوطن والده مصر، وُلِدَ ونشأ بالقاهرة سنة 1346 هـ/1927م، وتدرَّج في مدارسها إلى أن التحقَ في قسم الفلسفة بكليَّة الآداب، جامعة فؤاد الأوَّل (جامعة القاهرة)، وتخرَّج فيها سنة 1369هـ/1950م، ثمَّ حصل على الماجستير من الكليَّة نفسها، وكان حريصًا في أثنائها على جمع وتصوير مخطوطات الإمام ابن تيميَّة المتفرِّقة في مكتبات العالم، ثمَّ انتقل إلى إنجلترا وحصل على الدُّكتوراه من جامعة كامبردج سنة 1379هـ/1959م، عن رسالته الموسومة: "موافقة العقل للشَّرع عند ابن تيميَّة". ♦ عملُه ونشاطه الأكاديميُّ والتَّربويُّ: بعدها درَّس في جامعة عين شمس بكليَّة الآداب، ثمَّ انتقل أستاذًا للمذاهب الفكريَّة المعاصرة ورئيسًا لقسم الثَّقافة الإسلاميَّة في جامعة الرِّياض "الملك سعود"، ثمَّ أستاذًا في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكليَّة أصول الدِّين بجامعة الإمام بالرِّياض، وشارك في وضع المناهج والخطط الدِّراسيَّة فيها، واستفاد منه طلبة الدِّراسات العُليا. حصل بمصر على جائزة الدَّولة التشجيعيَّة في الفلسفة الإسلاميَّة من المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعيَّة، ووسام العلوم والآداب والفنون، سنة 1391هـ/1971م، ونال جائزة الملك فيصل العالميَّة للدِّراسات الإسلاميَّة بالاشتراك سنة 1405هـ/1985م، تقديرًا لجُهده العلميِّ في مجال: "الدِّراسات التي تناولت العقيدة الإسلاميَّة"، والمُتمثِّل في إخراج وتحقيق كتاب: "درء تعارض العقل والنَّقل" لابن تيميَّة. ♦ من مؤلَّفاته: • المدخل إلى الثَّقافة الإسلاميَّة. • المقارنة بين الغزالي وابن تيميَّة. • موافقة العقل للشَّرع عند ابن تيميَّة. ♦ من تحقيقاته: • تحقيق كتاب (منهاج السُّنَّة النبويَّة) لابن تيميَّة. • تحقيق كتاب (درء تعارض العقل والنَّقل) لابن تيميَّة، الَّذي نشرته جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة. • تحقيق كتاب (الاستقامة) لابن تيميَّة. • تحقيق المجموعة الأولى من كتاب (جامع الرَّسائل لابن تيميَّة)، وهي 16 رسالة. • تحقيق كتاب (الصَّفديَّة) لابن تيميَّة. • تحقيق رسالة (مسألة فيما إذا كان في العبد محبَّة) لابن تيميَّة. • تحقيق كتاب (نقض التَّأسيس في الرَّد على كتاب تأسيس التَّقديس لفخر الدين الرَّازي) لابن تيميَّة، ولكن المنيَّة عاجلته قبل إكماله. ♦ الرَّسائل العلميَّة الَّتي أشرف عليها: شارك في الإشراف على عددٍ وافرٍ من رسائل الماجستير والدُّكتوراه في مرحلة الدِّراسات العليا، فمن جُملتها: • تحقيق ودراسة: (التَّدمُريَّة: تحقيق الإثبات للأسماء والصِّفات، وحقيقة الجمع بين القدر والشَّرع) لابن تيميَّة، الباحث: محمَّد بن عودة السَّعوي، ماجستير قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1400ھ. • تحقيق ودراسة: (التَّصديق بالنَّظر إلى الله تعالى في الآخرة) لأبي بكر الآجرّي، الباحث: محمَّد غياث الجنباز، ماجستير قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1401ھ. • (الخوارج: دراسة ونقد لمذهبهم)، الباحث: ناصر بن عبدالله السَّعوي، ماجستير قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1403ھ. • تحقيق ودراسة (بغية المرتاد في الردِّ على المُتفلسفة والقرامطة والباطنيَّة أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتِّحاد) لابن تيميَّة، الباحث: موسى بن سليمان الدَّويش، دكتوراه قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1405ھ. • تحقيق ودراسة (الصَّواعق المُرسلة على الجهميَّة والمُعطِّلة) لابن القيِّم، الباحث: علي بن محمد الدَّخيل الله، دكتوراه، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1406ھ. • تحقيق ودراسة (جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرَّحمن في أنَّ: "قل هو اللهُ أحد" تعدلُ ثلثَ القرآن) لابن تيميَّة، الباحث: سليمان بن عبدالله الغفيص، ماجستير قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1407ھ. • تحقيق ودراسة (شرح الأصبهانيَّة: وهو شرح عقيدة مختصرة لابن عباد العجليِّ الأصبهانيِّ الأشعريِّ) لابن تيميَّة، الباحث: محمَّد بن عودة السَّعوي، دكتوراه قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1407ھ. • (أصول مذهب الشِّيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة: عرض ونقد)، الباحث: ناصر بن عبدالله القفاري، دكتوراه قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، سنة: 1407ھ. ♦ من كلماته: "إنَّ أمرَ هذه العقيدة الإسلاميَّة لأمرٌ عجيب، فما التزمت بها أمَّتُنا في عصرٍ من العصور إلَّا كان هناك ازدهارٌ في الحضارة في مختلف جوانبها، ولم تتأخَّر هذه الأمَّةُ عن متابعة طريقها المتميِّزِ إلَّا عندما ضعُفَ شأن هذه العقيدة، ودخلت على المسلمين بدعٌ وأهواءٌ وانحرافات عدَلت بها عن الطَّريق السَّويِّ، وعقيدةُ التَّوحيد الصَّحيحة لا توجد اليوم إلَّا في دين الإسلام: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقد حفظ اللهُ كتابَه ولم يكلهُ إلى بشرٍ: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، كما قيَّض الله لهذه الأمَّة من علمائها من حمى سنَّة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم من التَّزيُّدِ والافتراء، فظلَّت هذه العقيدةُ صافيةً خالصةً من الشَّوائب، على الرَّغم من أنَّ بعض المسلمين قد بعُدَ عن جوهر هذه العقيدة، وتفرَّقوا إلى فِرَقٍ خالفت أهل السُّنَّة والجماعة، ومع التَّقدُّم التِّقنيِّ العظيم في الدُّول الصِّناعيَّة المتقدِّمة، فإنَّها حُرِمَت من هذه العقيدة السَّمحة، فكان عاقبةُ أمرِها أنَّها شَقيت أفرادًا وجماعات، وابتُليت بالحروب الطَّاحنة والقلق النَّفسيِّ والجرائم الكثيرة، ويكفيك أن تُقارن بين أثر العقيدة في المسلمين وكيف استجابوا لأمر الله عندما نزل عليهم تحريم الخمر، وبين ما عانت منه بعض الدُّول العظمى الَّتي أرادت أن تمنعَ الخمر، فأخفقت في ذلك إخفاقًا ذريعًا، وتُحدِّثنا أمُّ المؤمنين السَّيِّدة عائشة رضي الله عنها فتقول: "إنَّما نزلَ أوَّلَ ما نزل منه، سورة من المفصَّل فيها ذِكرُ الجنَّة والنَّار، حتَّى إذا ثابَ النَّاسُ إلى الإسلام نزلَ الحلال والحرام، ولو نزل أوَّلَ شيء: (لا تشربوا الخمر)، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: (لا تزنوا)، لقالوا: لا ندع الزِّنا أبدًا"؛ رواه البخاري وغيره. واليوم ما أحوجنا وأحوج الإنسانيَّة إلى البناء السليم الَّذي يبدأ من تصحيح العقيدة، ليكون التَّقدُّم الماديُّ والتِّقنيُّ خيرًا ونعمةً على البشريَّة كلِّها". ♦ شخصيَّته وصفاته: أمَّا عن شخصيَّته وصفاته: فقد امتُلئ علمًا وفضلًا، وفهمًا ودراية، في شتَّى صنوف المعرفة اللُّغوية والأدبيَّة والتَّاريخيَّة والعقديَّة والنقديَّة، وكان مهذَّبًا في نفسه متواضعًا، لطيفَ المعشر والكلام، حسن السِّيرة بين الأنام، جميلَ المحاضرة، فصيحَ اللِّسان، مليحَ البيان، ومصنَّفاتُه وتحقيقاتُه وجهودُه دالَّة على نُبله وعلمِه، وغزير ذكائهِ وفهمِه، مع مفاخر قلَّدها، ومآثر خلَّدها. ♦ رحيله ووفاته: ولم يزل على حالته المرْضيَّة، وإفادته السَّنيَّة، إلى أن اخترمته المنيَّة، في التَّاسع من ربيع الثَّاني سنة 1407هـ بالرِّياض، عن عمر ناهز ستِّين سنة فقط، أمضاها في طلب العلم وتعليمه ونشر تراثه، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنَّاته.
الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق قال الله عز وجل في سورة الصافات: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 90 - 113]. ولا شك أن سياق هذه الآيات الكريمة يدل على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق عليهما السلام؛ لأنه ذكر البشارة بإسحاق بعد البشارة بإسماعيل الذي وصفه بأنه غلام حليم، وقد وصف إسحاق عند البشارة به بأنه غلام عليم، ومن الأدلة أيضًا على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أنه عند البشارة بإسحاق قال: ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وهو يفيد أن إسحاق سيعيش ويولد له في حياة أبيه، فكيف يؤمر بذبحه وهو غلام لم يولد له بعدُ، مع يقينه بأنه لن يموت حتى يولد له يعقوب؟! وقد حدث ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم فقال: إن الذي أمر الله تعالى إبراهيمَ بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنَّا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]،ويقول الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، يقول: بابنٍ وابنِ ابنٍ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا. وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًّا فأسلم وحسُن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبدالعزيز فقال له عمر: أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهودَ لتعلمُ ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم، الذي كان من أمر الله فيه،والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق؛ لأن إسحاق أبوهم؛ اهـ. ♦♦♦ ♦♦♦ وذكر ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء أنه كان للخليل بنون كما ذكرنا، ولكن أشهرهم الأخوان النبيَّانِ العظيمان الرسولان، أسنهما وأجلهما - الذي هو الذبيح على الصحيح - إسماعيل، بِكْر إبراهيم [الخليل] من هاجر القبطية المصرية عليها السلام من العظيم الجليل. ومن قال: إن الذبيح هو إسحاق، فإنما تلقَّاه من نقلة بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفوا وأوَّلوا التوراة والإنجيل، وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل، فإن إبراهيم أُمر بذبح ولده البكر، وفي رواية: الوحيد. وأيًّا ما كان، فهو إسماعيل بنص الدليل؛ ففي نص كتابهم: إن إسماعيل وُلد ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، وإنما ولد إسحاق بعد مضيِّ مائة سنة من عمر الخليل؛ فإسماعيل هو البِكر لا محالة، وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة.
عقيدة الخلاص والفداء ونتائجها السلبية في المجتمعات النصرانية الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله أجمعين؛ أما بعد: فتتفق اليهودية والمسيحية مع ديانات الشرق الأقصى في الصفة الخلاصية لهذه الأديان، ويُستثنى الإسلام من هذه الصفة فهو ليس دينًا خلاصيًّا بالمعنى المفهوم في هذه الديانات [1] . وتعتمد هذه الأديان في فكرها الديني والفلسفي على وجود مشكلة رئيسية يواجهها الإنسان، وتسعى هذه الأديان لتحقيق خلاصه من هذه المشكلة؛ ففي اليهودية والمسيحية نشأت مشكلة الخطيئة وكيفية التخلص منها، فتطورت عقيدة الخلاص والمسيح المخلص الذي وظيفته تحقيق الخلاص للإنسان من الخطيئة، وسيطرت مشكلة المعاناة والشقاء الإنساني على الهندوسية والبوذية والجينية، ومشكلة الخلود وإطالة العمر في التاوية [2] . وهكذا حددت كل ديانة قضيتها الأساسية ورسمت طريق خلاص للإنسان؛ ولذلك توصف هذه الديانات بأنها ديانات خلاصية؛ أي: تحاول خلاص الإنسان من المشكلة الرئيسية التي حددتها كل ديانة. لفظة الفداء اصطلاحًا: جاء في قاموس الكتب المقدسة، تشير لفظة الفداء في العهد القديم في أغلب الأحيان إلى خلاص الجسد (في سفر التثنية ) : "بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائهم، أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر"؛ [تثنية: ٧، ٨]. "الرب الذي أخرجكم من أرض مصر وفداكم من بيت العبودية"؛ [تثنية: 13: 5] [3] . أما في العهد الجديد فتشير إلى الخلاص من الخطيئة: "الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم"؛ [تيطس: 2: 14]، ومن نتائجها: "لأن الإنسان أيضًا لم يأتِ ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين"؛ [مرفي: 19: 45]. وإلى الخلاص من رق الناموس: "ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه الوحيد مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الدين تحت الناموس لننال التبني"؛ [غلاطية: 4: 4.5]؛ [قاموس الكتاب المقدس، ص: 672] [4] . وأما أسُّ البلاء الذي تعاني منه المجتمعات النصرانية فيكمن في عقيدة الخلاص والفداء، والتي تجعل الإيمان بصلب المسيح كافيًا للخلاص ومحررًا من لعنة الناموس والشريعة التي نسخها بولس بأقواله، لقد نسخ - بجرة قلم - كل ما قررته الشريعة من تحريم وتجريم وعقوبة من ارتكب الموبقات المختلفة من زنا وشرب للخمور وقتل وفساد؛ إذ الإيمان بالمسيح المصلوب نيابة عنا يكفر خطايانا مهما عظمت، وهكذا يمضي المؤمن بهذه النصوص إلى ضروب الرذيلة وفنونها غير خائف من عقاب الله ودينونته [5] . لقد سمَّى بولس شريعة الله التي تهذب السلوك البشري: لعنة، فقال: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس"؛ [غلاطية: 13: 3]. وأعلن عن عدم الحاجة إليها بعد صلب المسيح؛ فقال: "قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب"؛ [غلاطية 3: 24-25]. وأكد إبطال الناموس بقوله: "سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا... مبطلًا بجسده ناموس الوصايا"؛ [أفسس 2: 14-5]. ويمضي مؤكدًا عدم الحاجة إلى الأعمال الصالحة، فيقول: "إن كان بالناموس بر فالمسيح إذًا مات بلا سبب"؛ [غلاطية: 22: 21]. وجعل بولس الإيمان بالمسيح سبيلًا للبر والنجاة من غير الحاجة للناموس والأعمال: "الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسبح يسوع الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود". ولذلك فإن بولس يعلن إباحته لكل المحرمات من الأطعمة مخالفًا التوراة وأحكامها؛ [انظر: التثنية 14: 1-24]. وفي موضع آخر تتسع دائرة الخلاص لتشمل كل البشرية وتغريها بالمسيحية التي لا تحرم حرامًا؛ فيقول بولس عن المسيح: "بذله لأجلنا أجمعين"؛ [رومية ٨: 32]. ويوضحه يوحنا: "يسوع المسيح البار، وهو كفارة أخطائنا، ليس خطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا"؛ [١ يوحنا ٢: ٢]. ويؤكده في قوله: "نشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصًا للعالم"؛ [يوحنا 4: 14]، فجعل الخلاص عامًّا لكل الخطايا وشاملًا لكل البشر، مهما عملوا من الموبقات والرزايا، لذا أضحى أهل الجنة - وفق المفهوم البولسي هم أرذل الناس وسفارتهم - إذ مَن أمِن العقوبة أساء الأدب. وقد كان لهذه النصوص صدى كبير في النصرانية ونظرتها للشريعة، فقد فهم رواد النصرانية قبل غيرهم من هذه النصوص أن كل الموبقات قد أضحت حلالًا، فيقول لوثر أحد مؤسسي المذهب البروتستانتي: "إن الإنجيل لا يطلب الأعمال لأجل تبريرها، بل بعكس ذلك، إنه يرفض أعمالنا … إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن نعظم آثارنا جدًّا، وأن نكثر عددها". ويقول ملانكثون في كتابه "الأماكن اللاهوتية": "إن كنت سارقًا أو زانيًا أو فاسقًا لا تهتم بذلك، عليك فقط ألَّا تنسى أن الإله هو شيخ كثير الطيبة، وأنه سبق وغفر لك خطاياك قبل أن تخطئ بزمن مديد" [6] . وهكذا تبين لنا أن البلاء والفساد الذي آلت إليه أروبا والغرب النصراني عامة، إنما كان بسبب هذا الكتاب الذي يصد النصارى على أنه يمثل - رغم سلبياته الهائلة - كلمة الله العادية إلى البر والجنة والملكوت [7] . وعند النظر إلى المجتمع النصراني بشكل عام يسجل المحققون على المجتمع النصراني انتشار عدد من الموبقات، من أهمها: الزنا والشذوذ، والانتحار والجرائم، والتمييز العنصري البغيض، والتفكك الأسري والعلاقات الاجتماعية السيئة، والمخدرات والمسكرات والخمور، والانسلاخ من الدين وشيوع الإلحاد، والوحشية مع الأمم الأخرى. ويتبين من هذا كله من خلال بعض الأرقام التي أوردها المحققون نقلًا عن إحصائيات صادرة في الغرب إضافة إلى قراءتهم الصحيحة للمجتمع النصراني. فقد نشرت مجلة بونتي الألمانية إحصاء حول معتقدات الألمان، ونتيجة الإحصاء أن 65٪ من الألمان يؤمنون بالله، و5% يؤمنون بالحياة بعد الموت والجزاء فيه. الفتيات المراهقات تحت 16 سنة يمارسن الزنا: كيف يواجه العهد الجديد هذا الواقع؟ وللمرء أن يتساءل: ماذا لدى الإنجيل من مقومات الإصلاح لهذا الفساد وتلك الأرقام الوبائية؟ وهل للإنجيل علاقة بهذه الأرقام؟ الإجابة تتلخص في قصور التشريعات الإنجيلية عن معالجة الأوضاع الفاسدة في المجتمعات النصرانية، بل ليس من التجني في شيء إذا قلنا بأن الكتاب المقدس هو أحد أسباب الفساد في تلك المجتمعات، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد تجلت مسؤولية الكتاب عن هذا الفساد بأمور تتفاوت في أثرها، لكنها مجتمعة حول أسباب البلاء وجذوره، وفي كل ذلك ما يدل على أنه ليس كلمة الله، لأن الله يرسل أنبياءه بكتبه ليهدي الناس ويخرجهم من الظلمات والشرور إلى الهدى والنور. ويعتبر الإسلام الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة فالإسلام لم يتحول إلى دين خلاص؛ لأنه لا توجد مشكلة للإنسان في الإسلام، فمشکلات الخطيئة والمعاناة والشقاء والخلود لیس لها وجود في الإسلام، فجوهر الإسلام هو تحقيق طاعة الإنسان لله تعالى، وإعلان خضوع الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية [8] . وهذه ليست مشكلة، إنما هي دين؛ ولذلك بُني الإسلام حول عبودية الإنسان لله الخالق وتحقيق مبدأ الطاعة من خلال الالتزام بالدين في جوانبه العقدية والتشريعية والأخلاقية، وهناك ثواب وعقاب، والطاعة لله محققة للثواب والمعصية محققة للعقاب، ونجاة الإنسان من العقاب تتم من خلال الطاعة وترك المعصية. ولذلك يستخدم الإسلام مصطلحات: النجاة، والفلاح والفوز، كبديل لمصطلح الخلاص، ولا يوجد مخلص في الإسلام اعتمادًا على مبدأ المسؤولية الشخصية وقدرة الإنسان على تحقيق النجاة بالتزام الطاعة والبعد عن المعصية، وبفعل الحلال والخير والبعد عن الحرام والشر، والحاجة إلى مخلص تشير إلى عجز إنساني عن تحقيق الخلاص. وهو أمر له علاقة بطبيعة الإنسان في هذه الديانات فهو ذو طبيعة مخطئة بالفطرة أو بالوراثة أو محكوم عليها بالشقاء والمعاناة بالميلاد، ومن خلال التناسخ أو غير ذلك من الأفكار الخاصة بطبيعة الإنسان، والتي تشير إلى عجز في طبيعته وتكوينه لا يجعله قادرًا على تحقيق خلاصه. من هذه الزاوية، فالإسلام لا ينتمي إلى ديانات الخلاص ولا توجد فيه مشكلة الخلاص. فالطبيعة الإنسانية خيرة بالفطرة، والحياة الإنسانية خيرة، والدنيا خيرة ولا توجد مشكلة - بعينها - تواجه الإنسان، والدين في الإسلام هو الطاعة لله عز وجل وتنفيذ تكاليفه وتشريعاته والفوز بالثواب في الدنيا والآخرة، والعكس يحقق العقاب، ومع ذلك فإمكانية النجاة من العقاب متاحة من خلال إعلان التوبة عن المعاصي والعودة إلى الطاعة، فليس في طبيعة الإنسان ما يجعل العقاب أبديًّا؛ فالأمر مرتبط بالفعل الإنساني وليس بالطبيعة الإنسانية. وإذا كان الإنسان لا يحمل وزر غيره، فإن غيره لا يحمل وزره، وإنما كل إنسان مسؤول عن عمله: ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]. والشرائع الإسلامية اتفقت على المبدأ؛ يقول سبحانه: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 36 – 41]. الخاتمة: إن مغفرة الخطايا لا تتوقف على الفداء وإنما تأتي نتيجة لإيمان الفرد بالله عز وجل، وتوبته وعمل الصالحات، واجتناب الكبائر والمنكرات [9] . إن الخلاص المسيحي عقيدة وثنية، لأنه قائم على عقائد وثنية، فالتجسد الإلهي من أجل الخلاص من المعتقدات الوثنية التي كانت منتشرة في البلاد اليونانية ثم الرومانية قبل ظهور المسيح بمئات السنين وكان لظهورها في هذه البلاد أكبر الأثر في تأثر دعاة المسيحية بها. وعليه؛ فالخلاص عقيدة وثنية انتقلت إلى المسيحية بفضل بولس وأتباعه، ولم يفعلوا شيئًا سوى وضع اسم المسيح عيسى بن مريم بدلًا من هؤلاء الإلهية المخلصين الوثنيين. والله أعلم الحمد لله [1] تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، حسن خليفة، ص: ٢٩٦. [2] انظر: نفس المصدر، ص: ٢٩٦. [3] الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه، د/ أحمد علي عجيبة، ص: ٥٧. [4] انظر: نفس المصدر، ص: ٥٧. [5] هل العهد الجديد كلمة الله، د/ منقذ السقار، ص: ٢٧٨. [6] هل العهد الجديد كلمة الله، د/ منقذ السقار، ص: ٢٧٨، وانظر: الخطيئة الأولى بين اليهودية والمسيحية والإسلام، أميمة شاهين، ص: ١٤٨. [7] هل العهد الجديد كلمة الله، د/ منقذ السقار، ص: ٢٨١. [8] تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، حسن خليفة، ص: ٢٩١. [9] الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه، د/ أحمد عجيبة، ص: 757، 758.
قصة ذي القَرْنين وردَتْ قصته أيضًا في سورة الكهف؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83]، وكان السؤال الثاني عن رجل طوَّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ فكان الجواب بأن هذا الرجل هو ذو القرنين، وقد أفاضت الآيات في وصفه وذكر أعماله الخارقة حتى التبس على عدد من المؤرخين حقيقته الدعوية، فذكروه مع الأنبياء، وورد عن على رضي الله عنه قال: "لم يكن نبيًّا ولا رسولًا ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا"، وقال ابن عباس: كان ذو القرنين ملكًا صالحًا رضي الله عمله وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورًا، وكان الخضر وزيره، وذكر أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل، وورد أن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد، ووفق ما ذكره القُرْآن عنه فإن الله تعالى قد أثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وملك الأقاليم، وقهر أهلها، وسار فيهم سيرة حسنة، وأنه كان من الملوك العادلين، لكن اختلفوا في اسمه ومن أي البلاد هو، فقيل: هو الإسكندر بن قيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها، باني الإسكندرية، أقول: وهذا خطأ كبير؛ لأن الإسكندر هذا لم يكن من أهل التوحيد، بل كان وثنيًّا، ووصل إلى المشرق حتى الهند، ولكنه لم يصل في فتوحاته إلى أقصى المغرب، والخلاف في تحديد اسمه ونسبه ومسقط رأسه كبير، حتى إن الفخر الرازي جزم بأنه الإسكندر المقدوني، وهذا خطأ فادح، وشتان بين مؤمن مؤيد من الله ووثني اتخذ من مبدأ الفلاسفة دينًا له لما فيه من الخلط الكبير في العقيدة، ومع ذلك فإنه لم يروَ عنه أنه في غزواته قد وصل إلى يأجوج ومأجوج وبنى عليهم السد، كما ذكر القُرْآن؛ فالقُرْآن جلَّى لنا كثيرًا من أخباره، مما يعطينا تصورًا وافيًا عنه. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84، 85]، لقد أعطاه الله قوة كبيرة بدنية في جسمه، وفكرًا مستنيرًا، وأمده بجيش قوي كبير، والتمكين في الأرض يعني بسط السيطرة والقوة والغلبة على العدو، وتسخير خيرات الأرض وما فيها لصالحه، وتذليل طرقاتها ومياهها وبحارها له، فلا يستعصي عليه شيء فيها، والسبب: بمعنى الطريق الموصل إلى الغاية المرجوة، ولقد أخذ في كل الأسباب التي سخرها الله له؛ لذلك طاف العالم فاتحًا ومرشدًا ومصلحًا، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ [الكهف: 86] وقد اتجه إلى أقصى الغرب، وهناك وجد الشمس تغرب في عين ماء حارة، وربما عنى بالحمأ: الطين الأسود الناتج عن تحلل الصخور البركانية، وأما الشمس حقيقة فهي في السماء، ولا تغرب على الحقيقة في شيء على الأرض، وإنما هذا الغروب هو حسب رؤية الرائي لها، وإلا فإن قُطر الشمس أكبر من قُطر الأرض بمائة وتسع مرات، فكيف تغرب الشمس في عين حمئة من عيون الأرض؟ فهذا لا ينبغي إلا أن يكون بحسب رؤية الرائي لها، كما لو رأيناها تغرب خلف الجبل أو في البحر، ﴿ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ﴾ [الكهف: 86]، فانطلق إلى المكان عند العين الحمئة الحارة فوجد عندها قومًا يقيمون حولها، ولعلهم من خلال البيئة التي تضمهم نتوقع أنهم كانوا أهل زراعة وفلاحة ومن ذوي البلاد الحارة التي لا يحتاجون فيها إلى ملابس غليظة تقيهم البرد، ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [الكهف: 86]، وهؤلاء القوم لم يكونوا على دين حق؛ لذلك خيره الله بين أن يأخذهم بالقتل والعذاب وبين أن يدعوهم بالحسنى إلى الإسلام، ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ [الكهف: 87]، وهذا بعد دعوته إلى الحق وبيان الطريق السوي وعبادة الله الخالق الواحد، فإذا أبى المدعوُّ تلبية الدعوة يكون قد ظلم نفسه بالبقاء على الشرك ورفضه الإيمان، ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، واستحق العذاب من قِبَلِ ذي القرنين، ويكون قد أعذر في ذلك، ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 87]، وهذا سيكون يوم القيامة؛ حيث يهوي الملحدون والمشركون في النار، ويكون عذابهم أليمًا شديدًا، ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 88]، أما الذين آمنوا واتبعوا طريق الهدى فهم بحقٍّ الراشدون العاملون في الخير والإصلاح والإعمار، فلا يقترفون منكرًا، ولا يصرون على معصية؛ فلهم الجنة في الآخرة جزاء لما قدموا، ولهم في الدنيا التيسير والعيش الهنيء والمعاملة الحسنة من قِبَل ذي القرنين، فهم الذين يتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] في الخير والتقوى والعمل الصالح، فيجعل الأرض مهدًا وسلامًا، فلا يقترف فيها المنكَرات ولا القتل، أو التدمير والتخريب، طائع لله عز وجل، عامل بتعاليمه التي تقضي بالمحبة والسلام ونشر الخير والمودة وصلة الأرحام، ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 89]، فغادرهم في اتجاه آخر وإلى جهة أخرى بعد أن أصلحها واطمأن على نشر الإسلام فيها متخذًا ما سخر الله له من الأسباب في الخير وتعميمه فوق الأرض، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ﴾ [الكهف: 90]، فعاد أدراجه من جهة الغرب ليطلع على أحوال الناس في الشرق، ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ﴾ [الكهف: 90]، وجد القوم عراة لا يلبَسون ما يسترهم، وهذا دليل على بدائيتهم الموغلة في الجهل؛ فهم والبهائم سواء، فلا يملِكون أدنى حضارة، ولا شيئًا من المعرفة، وإلا لكان لهم من الشمس ستر، ولو بما يجدونه من المواد المتوفرة لديهم من ورق وعشب، فهم أشبه الناس بأقزام إفريقيا في الغابات، وشعب أسترالية البدائي؛ فقد وجدوا على هذه الحالة عند اكتشاف بلدانهم، ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 91] فكان عنده علم بمن في المغرب كما عنده علم بمن في المشرق، ويكون بهذا قد طاف المشرق والمغرب، ووضع للجميع القوانين العادلة والدعوة الراشدة للالتزام بها، فمن أخذ بها عامله المعاملة الحسنة، ومن أبى وتنكر كان العقاب رادعًا له، وبهذا جدد الدعوة في كافة المعمورة، وعمم الإسلام، وبلغ كافة الخلق ما أعطاه الله من المكنة وتسخير الأسباب له، ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 92]، فقد حاد عن الشرق وعن الغرب ليرى أطراف الأرض الأخرى فيذرعها بتطوافه، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ [الكهف: 93]؛ أي: أشد تخلفًا من سابقيهم، والظاهر أنهم من أمة المغول، فكلامهم في مراحل تكوينه الأول، فلا يجيدون الكلام إلا فيما بينهم، أما لغة غيرهم فمن المحال فهمها، ومهما قرَّبت لهم اللغة وذللتها للفهم فإنها تستعصي عليهم، لكن ذا القرنين بما آتاه الله من الأسباب استطاع التفاهم معهم، واستمع إلى مطالبهم، وما يحسن حالهم، فكان طلبهم الذي ألحوا عليه هو الشكوى من جيرانهم الذين آذوهم، ﴿ قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ [الكهف: 94]، وكان هؤلاء الجيران من قوم يأجوج ومأجوج، فهل كانوا قبيلتين أم قبيلة واحدة؟ فقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجبل والديلم، وقيل: قبيلة واحدة، حملت هذا الاسم؛ لأنهم ينتسبون إلى يافث بن نوح، فما حقيقة إفسادهم؟ قيل: كانوا يخرجون إلى أرض القوم المجاورين لهم في الربيع فلا يدعون فيها شيئًا أخضر إلا أكلوه، وقيل: كانوا يأكلون البشر، وقيل: كانوا يمارسون القتل والظلم والتعدي على جيرانهم، وهذا الذي ذكر عنهم يجعلهم مبالغين في الشر، وتجنبهم أولى؛ لذلك طلبوا من ذي القرنين أن يعطوه مالًا ليقيم سدًّا حاجزًا بينهم وبين يأجوج ومأجوج، أقول: إذا كان معهم المال فلمَ لم يقيموا هم السد؟ لعل هناك صعوبات تعترضهم، منها: عدم وجود الخبرة في بناء السد، وربما كان خصومهم لا يمكنونهم من إقامته، فيحتاج إلى قوة كبيرة تحميه؛ ولهذا بذلوا له المال، ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ [الكهف: 95]، وهنا نسب القوة لله، والعون على هذا العمل منه جلَّت قدرته، فالله أعطاني القوى، ومكنني من تنفيذ أشق الأعمال، فذلك خيرٌ منه ومَنٌّ، ومع ذلك فلا بد لكم من بذل الجهد والعمل لكي تعملوا معي بقوة وجد؛ فالسد لصالحكم، وعليكم أن تبذلوا الجهد لإقامته؛ لكي تشعروا بقيمة العمل وأن البناء لا يأتي من فراغ أو كسل، وإنما يأتي بالكد والجد، وهكذا استعان ذو القرنين بالله أولًا ثم بمشاركة أصحاب المنفعة، فخطط مع مَن معه من أهل الخبرة والهندسة لإقامة سد قوي عجيب الصنعة، لا مثيل له من قبل ولا من بعد، ووزع العمل كل في قدرته وتخصصه، ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ [الكهف: 96] قطع الحديد الضخمة والكتل الكبيرة، ﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾ [الكهف: 96] صف القطع بعضها قرب بعض ما بين الجبلين كما يصف البناء من اللبن أو الحجارة طبقة فوق طبقة، إلى أن ارتفع البناء من قطع الحديد، ﴿ قَالَ انْفُخُوا ﴾ [الكهف: 96] والنَّفخ يعني صنع الكير من الجلد، فإذا سحبوه امتلأ هواء، وإذا ضغطوه أخرج الهواء بقوة، فيعين في إشعال النار بقوة، وكذلك أتوه بالفحم الذي وضع بعناية محسوبة مع الحديد وبين قطعه فأشعلوها نارًا حامية جعلت الحديد يذوب وينصهر فيلتصق بعضه ببعض ليكون كتلة واحدة، وهم على هذه الحال من المرحلة الأولى إذا به قد أعد المرحلة الثانية، ﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96] فكان أن سكب فوقه النحاس المذاب؛ إمعانًا في القوة والتماسك، ولكيلا يصيبه الصدأ، ومثل هذا السد يصور لنا قوة منفِّذه، وارتقاء علمه؛ فعادة ما تبنى السدود بالحجارة لحجز المياه، وهذا السد بني بالحديد والنحاس، ومن المعلوم أن الفحم المحترق مع الحديد يعطي الحديد صلابة وقوة، ومن هذين العنصرين يصنع الفولاذ؛ لذلك عقب بعد الانتهاء والفراغ منه، ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 97] إذًا كان هذا السد لأغراض خاصة غير حجز المياه؛ فقد قطع عليهم طريق غزو جيرانهم، وكان ناعمًا أملس شديد الارتفاع لا يستطيعون ارتقاءه، فهذا صعب، والأصعب من ذلك أنهم لا يستطيعون نقبه، وهذا بادٍ من كلمتي "اسطاعوا واستطاعوا"؛ فزيادة المبنى في الكلمة تدل على زيادة المعنى، ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 98]، رحمة لأولئك الجيران المتشكين وللأمم المجاورة، بحيث كف أذى هؤلاء الأشرار عنهم، وجعلهم يعيشون بأمان، ولكن إلى أجل، فإذا انقضى هذا الأجل فإن السد سينصدع ويتداعى، فينفتح الطريق ليأجوج ومأجوج في آخر الدهر لينطلقوا من محبسهم وإسارهم للتخريب الذي فطروا عليه والأذية التي لا تقف أمامها قوة كالتي كانت لذي القرنين حين كف أذاهم عن الجيران، بل وعن العالم، ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 96، 97]؛ فهذا الحجز وراء السد سيكون محضن تكاثر وتفريخ، فإذا ما أتيح لهم الخروج فسوف يتدفقون أفواجًا لا عدَّ لها، ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ﴾ [الكهف: 99]، وهذا دليل تكاثرهم المفرط. وقد ورد في كتب الجغرافيا للجغرافيين المسلمين نص يفيد بأن ذا القرنين عندما وصل إلى المغرب شكا له أهل الأندلس من هجمات المغاربة، وطلبوا منه عمل حاجز بينهما، فجمع المهندسين وقاسوا منسوب ماء البحر المحيط - المحيط الأطلسي - وماء بحر الروم - البحر المتوسط - فكانت النسبة في مستوى الماءين متقاربة، فأمر بشق قناة بين البحر والمحيط، فكان مضيق جبل طارق، وتم الفصل بين المغاربة وأهل الأندلس، ويقال: إن البحر المحيط غمر مناطق كثيرة ومدنًا كانت على شاطئ البحر المتوسط؛ لأن منسوبه كان أعلى، الآيات من الكهف 83 - 98. وأخرج البخاري معلقًا: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت السد، قال: (( وكيف رأيته؟ ))، قال: مثل البرد المحبرة - أي المخططة - فقال: (( رأيته هكذا! ))، وأخرج ابن جرير عن قتادة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، قد رأيتُ سد يأجوج ومأجوج، قال: (( انعَتْه لي ))، قال: كالبرد المحبرة، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: (( قد رأيتَه ))؛ أي: وافقه على الوصف، والبرد: مفردها بردة، وهي العباءة، وهذا يعني أنه كما وصف مؤلف من طبقة حديد حتى إذا صهرت بالفحم وضع فوقها طبقة من النحاس المذاب، وهكذا طبقة من الحديد ثم فوقها أخرى من النحاس، إلى أن بلغ قمم الجبلين ارتفاعًا ليسد ما بينهما. وقد اطلعتُ على كتب حديثة ذكرت قصة ذي القرنين، أحدها: أن الكاتب قد ذكر غرائب لا تصح، وعد ذلك فتحًا في الكشف عن أمور خفيت على من كان قبلنا من المفسرين، وسافر ليقف على مكان مغرب الشمس ومشرق الشمس، ونسي أن مغرب الشمس نسبي بسبب كروية الأرض، وأن للشمس مشرقين ومغربين رئيسين؛ ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾ [الرحمن: 17]؛ فالشمس تتحرك ما بين المدارين؛ مدار الجدي ومدار السرطان، فعندما تصل إلى مدار الجدي وهذا في فصل الشتاء في 23 كانون الأول - ديسمبر - وهو الانقلاب الشتوي حيث يكون النهار في نصف الأرض الشمالي قصيرًا، ويكون مشرقها ومغربها في أقصى بعد لها جهة الجنوب الشرقي، وفي فصل الصيف في 21 حزيران - يونيو - تصل إلى مدار السرطان، وهو أقصى بعد لها جهة الشمال الشرقي، ويكون النهار في نصف الأرض الشمالي طويلًا، فهذان هما المشرقان والمغربان، ولها مشارق ومغارب بعدد أيام السنة؛ ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴾ [المعارج: 40]، وحركة الشمس ما بين المدارين يكون لها في كل يوم مشرق ومغرب بعدد أيام السنة، وكل موقع على الأرض له هذه المشارق وهذه المغارب؛ لذلك من الخطأ أن نقول بأن ذا القرنين قد بلغ مشرق الشمس الحقيقي أو مغربها الحقيقي، والنص القُرْآني يعني الاتجاه غربًا والإيغال في ذلك، والاتجاه شرقًا والإيغال في ذلك، كما ننعت في هذه الأيام دول أوربا وأمريكا، فنقول: الدول الغربية، ونقول عن الصين واليابان وكوريا: الدول الشرقية، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]، وهي الشام ومصر، كما قال أغلب المفسرين. ثم وقع الكاتب في خطأ أكبر عندما قال بأن ذا القرنين هو أخناتون، وعده ابن فرعون الهالك في زمن موسى، وأنه هو مؤمن آل فرعون، وأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا، فعده موحدًا، وهذا خطأ كبير؛ فهو وحد الآلهة بإله واحد، وجعله الشمس، وهذه وثنية، كما زعم أنه لما فرض على المصريين هذه العبادة تكتل ضده الكهنة، فخاف أن يغلِبوه، فهرب مع بعض أتباعه وركب البحر الأحمر وانطلق إلى مشرق الشمس... وهكذا يبدأ قصة ذي القرنين، هذا الملك الضعيف الذي هرب من الكهنة خرج ليصلح أُمَمًا أخرى ويبني سد يأجوج ومأجوج وهم الجبابرة فقهرهم وردهم وراء الجبال وبنى السد، كما يؤكد أن سور الصين هو السد، رغم عدم مطابقة وصفه مع وصف القُرْآن. إن ذا القرنين هو المؤمن القوي المؤيد من الله، وصفات أخناتون بعيدة كل البعد عنه. وآخر أيضًا يعد كورش ملك الفرس هو ذا القرنين، وكورش من عبَّاد النار، وذكر أن السد الذي بناه هو في جبال القوقاز؛ لوجود كتل مذابة من الحديد والنحاس متناثرة تدل على أن السد كان في هذا المكان، ولكن أين يأجوج ومأجوج الذين هم من كل حدب ينسلون؟ وإذا كان يظن أنهم هم المغول، فإن هجومهم على العالم الإسلامي لم يكن من هذا المكان. وإن القُرْآن الكريم كتاب عظة وعبرة، فذكر ما يناسب المقام من القصص وأخبار السابقين، وليس هو كتاب تاريخ، ومن العبث أن ننزله وفق التاريخ الماضي القديم؛ لأن التاريخ نفسه ظني لا يقيني، وفجواته الزمنية كثيرة، والمسلِم لا يلتفت إلى الوراء إلا بمقدار ما يستفيد في آخرته تأسيًا وعملًا بما عمله الصالحون.
خطبة إدارة الأزمات في عهد عمر بن الخطاب الحمد لله الذي أكرمَ الأمةَ بدينِ الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا نِدَّ ولا مثيلَ له في الأنام، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه وخيرتُه من خلقِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دائمَين ما تعاقَبَت الليالي والأيام، أما بعد: أيها المسلمون: تعرَّضت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه للابتلاء، وهذه السُّنة جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات، والأمة الإسلامية أمَّةٌ من الأمم، فسنةُ الله فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، يقول الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]. ومن أعظم الابتلاءات في عهد عمر: عام الرمادة، وقد ذكر ابن منظور وغيرُه سبب تقييد هذا العام بهذا الوصف، فقال: "وعام الرمادة معروف، سمي بذلك لأن الناس والأموال هلَكوا فيه كثيرًا، والرمد والرمادة: الهلاك، وقيل: هو الجدب تتابع فصيَّر الأرض والشجر مثل الرماد، والأول أجود"، وعن عوف بن الحارث عن أبيه قال: "سمي ذلك العام عام الرمادة؛ لأن الأرض كلَّها صارت سوداء، فشبِّهت بالرماد". ففي السنة الثامنة عشرة من الهجرة كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حولها من البوادي على موعد مع مجاعة لم تعرفها العربُ في تاريخها، وقعتْ هذه المسغبة بعد انقطاع المطر عن أرْض الحِجاز مدةً طويلة، فحصل القحْط، ومات الزَّرْع، وقلَّتِ اللقمة، وعُدِم أطايب الأكْل، ونزر الكلام، وكفَّ السائلون عن السؤال، وهزلتِ المواشي، فكان الرجل يذبح الشاةَ فيعافها مِن قُبْحها، وحصلتْ مسغبةٌ ما عرفتْها العرب في أيَّامها؛ حتى كان الرجلُ القويُّ يتلوَّى بيْن أهله من شدَّة المخمصة، ومات كثيرٌ من الأطفال والنِّساء في تلك السَّنة. وانجفل أهلُ البادية إلى المدينة، لعلَّهم يجدون عندَ الخليفة ما يسدُّ حاجتهم، ويُسكت بطونَهم، وكانت أعدادهم تزيد على ستِّين ألفًا، وبقوا أشهرًا عدَّة، ليس لهم طعامٌ إلا ما يُقدَّم لهم من بيت مال المسلمين، أو مِن أهل المدينة آنذاك. ولما حلَّت الأزمة بالمسلمين لم يقف عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه مكتوفَ الأيدي، بل قام بإجراءات وتدابيرَ مهمة جدًّا، وطبقها بصرامة شديدة كما هو معروف عنه، مما ساهم بشكل كبير في إنقاذ الأمَّة الإسلامية من كارثة إنسانية، واستطاع الفاروق إدارة هذه الأزمة العصيبة التي مرت على المسلمين، أدارها بحكمة ودراية أخذًا بالأسباب جميعها متوكلًا على الله تعالى. وطرق تعامُلِ الفاروق عمر بن الخطاب مع أزمة الرمادة من منظور تربوي إسلامي، تحمل كثيرًا من الدروس التي تحتاجها الأمة الإسلامية والعالم في أزمته اليوم مع فيروس كورونا، وما سبَّبه من أزمات اقتصادية وإنسانية وصحية، وعوز لكثير من الأسر التي توقَّفت أعمالها، ونضبت أرزاقها؛ نتيجة الحظر والعزل للوقاية من الإصابة بالمرض وللحد من انتشار الفيروس الذي ما زالت الأجهزة الطبية في العالم تجهل طرق ووسائل الحد منه. وكان من أهم تلك الإجراءات والتدابير التي اتخذها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أولًا: حث الناس على كثرةِ الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله، لقد فقه الفاروق رضي الله عنه أنَّ هذه الصِّعابَ ليس لها كاشف إلا مسبِّبها، فكان عمر في تلك المَخْمصة كثيرَ التضرُّع لربِّه، منكسرَ الحال، ملازمًا للصلاة، ولم ينقطع لسانُه عن الاستغفار، قال ابن سعد في الطبقات من خبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: " كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمرًا ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب [أطراف المدينة] فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السَّحَر يقول: اللهمَّ لا تجعل هلاكَ أمَّة محمَّد على يدي"، وكان يقول: "اللهمَّ لا تهلكْنا بالسنين؛ أي: القحط، وارْفع عنَّا البلاء". وخرَج عمر مرة إلى المصلَّى يستسقي، ومعه الناس والضَّعَفة والأطفال، فخرج متواضعًا متضرِّعًا متخشعًا، فصلَّى بالناس ركعتين، لم يدرِ الناس ما يقول من البُكاء، ثم وعظ الناسَ وذكَّرهم، ثم ألحَّ في الدعاء والمسألة، وكان من سؤاله: "اللهم عجزتْ لنا أنصارُنا، وعجزتْ عنا حَوْلُنا وقوتنا، وعجزت عنَّا أنفسنا"، وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت! فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10، 11]، ثم قرأ: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا ﴾ [هود: 3]، وكان ينادي في الناس: أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمة. ثم أخذ بيد العباس بن عبدالمطلب، فقال: "اللهم إنا كنَّا نستسقي إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسْقنا"، وكان العبَّاس قد طال عمرُه، ورقَّ عظمُه، فجعلت عيناه تذرفان، وهو يقول: "اللهمَّ أنت الراعي فلا تُهملِ الضالَّة، ولا تَدعِ الكسير بدار مضيعة، فقد صرَخ الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفعتِ الشَّكْوى، وأنت تعلم السِّرَّ وأخفى، فأغْنِنا بغناك"، وقال رضي الله عنه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يُكشَف إلا بتوبة، وقد توجَّه القوم بي إليك لمكاني من نبيِّك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث"، فاستجاب الله الدعاء، وعمَّت الرحمة، وأرسلتِ السماء خيراتِها. ثانيًا: فعَّل مبدأ التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فطلب المدد من الأقاليم التي لم تُصَبْ بالجفاف والفقر، وكتب إلى عماله في الأمصار طالبًا الإغاثة. وفي رسالته إلى عمرِو بنِ العاص والي مصر بعث إليه: يا غوثاه يا غوثاه! أنت ومن معك ومَن قِبَلك وما أنت فيه، ونحن ما نحن فيه، فأرسل إليه عمرو بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدهن، وبعث إليه بخمسةِ آلاف كِساء، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثةِ آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثةِ آلاف عباءة، وأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام وسعد بن أبي وقاص فأمَدُّوه بألفَي بعير تحمل الزاد من الأغذية والملابس، ونحوُ ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم. وهو بذلك يحيي الشعور بين المسلمين بأنهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وأشرفَ رضي الله عنه على توزيعها العادل بنفسه، ولمس الناس حسن التوزيع وعدالته، فلم يختص نفسه أو من حوله بشيء يزيد عن الباقين. أخرج ابن سعد عن أسلم قال: (لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالًا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة: "أحصُوا من يتعشى عندنا"، فأحصَوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأحصوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفًا، ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفًا) [سير أعلام النبلاء]، وجعل على كل ناحية يقيم فيها مجموعةٌ من الأعراب حول المدينة رجلًا يقسم عليهم الطعام، فإذا انتهى اليوم اجتمع معهم يستطلع أخبار الطعام وكفايته. ثالثًا: أخَّر الزكاة إلى ما بعد الأزمة: ترَك أخْذ الزكاة من الناس ذلك العام، فقد روي أنه رضي الله عنه لم يأخذ الصدقة من الناس في العام الذي اشتدت فيه الأزمة، وفي العام القابل أخذ زكاة عامين بعد أن أحيا الناس، فلما حَيِيَ الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين، وهذا الإجراء الذي قام به الفاروق رضي الله عنه "وكان ذلك من حكمة عمر وحسن سياسته ورفقه بالرعية، فأخر الزكاة عن الممولين في عام المجاعة". كما قام عمر رضي الله عنه بوقف حدِّ السرقة في عام الرمادة، مما يدل على مكانة عمر بن الخطاب الفقهية، أنه عطَّل حد السرقة عام الرمادة، وقال: "لا أقطع في عام سنة"، وهذا ليس تعطيلًا لهذا الحد، فالذي يأكل ما يكون ملكًا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام، يكونُ غير مختار، فلا يقصد السرقة؛ ذلك أن الناس إذا كانت مجاعةٌ وشدة غلب عليهم الحاجةُ والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسدُّ به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له مجانًا على الصحيح؛ لوجوب المواساة وإحياء النفوس، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج. أيها المسلمون : يُعرف الرجال عند الشدة كما يقال، وقد تجلَّت في هذا العام شخصيةُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بوصفه حاكمًا فذًّا، وراعيًا مسؤولًا، حمَّله الله أمانة رعيته، وتجلى فيه فقهه الدينيُّ والدنيوي، وسياسته الشرعية التي رسمها، وسار عليها في معالجته لهذه الأزمة الخانقة، حتى أذن الله بانفراجها. ثم بعد أن أخرجتِ الأرض خيرَها، وعمَّتْ بركتُها، وزال الضِّيق، ورُفِعتِ الكربة، ولهجتِ الألسن بحمد الله وشُكْره، فجعل الناس يترحَّلون من المدينة بعدَ أيام عَنَت ومشقَّة عاشوا فيها، وفقدوا فيها أحبابَهم، وجعل الفاروق رضي الله عنه يسير معهم، ويودعهم بدمعات حارَّة، يرى تلك الوفود التي آوتْ إليه جائعةً متهالكة خائفة، ها هي الآن تعود إلى دِيارها ومساكنها آمنةً مطمئنة، معها الزادُ والخير الكثير، فقال رجل لعمر في هذا المظهر المهيب: أشهد أنَّها انحسرتْ عنك وَلَسْتَ بِابْنِ أَمَةٍ، فقال له عمر: "ويلَك! ذلك لو كنتُ أنفقتُ عليهم من مالي أو مِن مال الخطَّاب، إنما أنفقتُ عليهم من مال الله عزَّ وجلَّ". أقول ما قد سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. الخطبة الثانية الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى.. أما بعد: فيا أيُّها المسلمون، لقد علَّم الفاروق الأمَّةَ مِن بعده دروسًا كثيرةً عام الرَّمادة: • فعلَّم الأمَّة: استشعارَ عظمة المسؤولية لكلِّ صاحب ولاية عامَّة أو خاصَّة، تتعلَّق بمعاشِ الناس وعَيْشهم ورِزقهم، أن يتقيَ ربَّه في أمْر الناس، وأن يستشعرَ حاجاتهم، ويتابع معاناتهم، حتى يرَى الناس فِعالَه قبل كلامه، في رَفْع الشِّدَّة عنهم، وتخفيف الضُّرِّ الذي أصابَهم. • وعلَّم عمرُ الأمَّةَ أيضًا صِدْقَ اللجوء إلى الله في المُلمَّات، وشكاية الحال إليه في الأزَمات، وأنَّ هذا هو أولُ خُطوة صحيحة تَستدفع بها الأمَّةُ الخطوبَ، وتستكشف عنها الكروب، قال الله: ﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ [النجم: 58]، وقال: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107]، وقال رسول الله: ((لا يرد القدرَ إلا الدعاءُ) )؛‏ أخرجه الحاكم وغيره. • وعلَّمتْنا مدرسةُ الفاروق أيضًا: أنَّ التخطيط السَّليم والتدبير الحَكيم مِن أنجحِ الطُّرق للخروج مِن الأزمات، وعلَّم عمرُ الأمَّة من بعده مبدأَ التضامن الإسلامي، وأن يسعَى المسلِمون في مواساةِ إخوانهم المنكوبين والمحصورين، فـ ((المسلِم أخو المسلِم) )، و ((المسلِمون كالجَسد الواحد، إذا اشْتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى) ). فلا تكن هذه المعاني - عباد الله - مجرَّد ألفاظ تلوكها الأفواه، وتستعذِبها القرائح، ولا رصيدَ لها في تطبيقات الواقِع. أمَّا حال عمر رضي الله عنه مع تلك المجاعة، فلا تسلْ عن حاله؛ تغيَّرت عليه الدنيا، وأظلمتْ عليه المدينة، طال كمدُه، وتغيَّر لونُه، وذبل جسمُه، وحمل همًّا لا تتحمله الجبال الرواسي، فكان لا ينام إلا غِبًّا، ولا يأكل إلا تقوتًا، ولا يلبس إلا خَشِنًا، بل كان أولَ مَن جاع وآخِرَ مَن شبع، ما قَرُب امرأة من نِسائه زمنَ الرمادة، عاش كما يعيش الناس، تنفَّس همومَهم وغمومَهم، وذاق حاجتَهم وفاقتَهم. لقد أحسَّ عمر بمعاناة الناس، حتى قال أسلم رضي الله عنه: كنا نقول: لو لم يرفع الله المَحْل عام الرمادةِ لظننَّا أن عمر يموت همًّا لأمر المسلمين. كان رضي الله عنه أكثرَ الناس إحساسًا بهذا البلاء، وتحملًا لتبعاته، حتى قال أنس رضي الله عنه: كان بطن عمر يقرقر عام الرمادة، وكان يأكل الزيت ولا يأكل السمن، خطَب الناسَ عام الرمادة، فقرقر بطنُه وأمعاؤه من الجوع، حتى سَمعتِ الرعية قرقرةَ بطنه، فطعن بإصبعه في بطنه، فقال: قَرقِر أو لا تقرقر، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس [أي يأتي الله بالحياة والمطر]، وقال: قرقِرْ أو لا تقرقِر، والله لا تشبع حتى يشبعَ أطفالُ المسلمين. كان رضي الله عنه يؤثِر بطعامه الآخرين على نفسه، أمَرَ يومًا بنَحْر جزور وتوزيع لحمِه على أهل المدينة، وعندما جلس عمرُ لغدائه، وجد سنامَ الجذور وكبدَه على مائدته، وهما أطيبُ ما في الجَذور، فسأل: من أين هذا؟! فقالوا: مِن الجزور الذي ذُبِح اليوم، فأزاحه بيده، وقال: بئس الوالي أنا، إن طعمتُ طيبَها، وتركتُ للناس كراديسَها؛ يعني: عظامها، ثم أمر بمأدبته المعهودة، خبز يابس وزَيْت، فجعل يكسِر الخبز ويثرده بالزَّيت، ولم يكملْ هذه الوجبة المتواضعة؛ لأنَّه تذكر أهل بيتٍ لم يأتهم منذ ثلاثة أيام، فأمر خادمَه بحمْل الطعام إلى ذلك البيت. ولم يقتصر هذا المنهج الذي طبقه عمر بن الخطاب على نفسه، بل سلك نفس الأسلوب مع أهل بيته، إذ نظر ذات يوم في عام الرمادة إلى بطيخة في يد بعض ولده، فقال: "بخ بخ يا بن أمير المؤمنين! تأكل الفاكهة وأمَّةُ محمد هزلى؟ فخرج الصبي هاربًا وبكى، فسكت عمر بعدما سأل عن ذلك فقالوا: اشتراها بكف من نوى". ورفض رضي الله عنه أن يركب دابة لأنها راثت شعيرًا، ثم قال: "المسلمون يموتون هزلًا، وهذه الدابة تأكل الشعير! لا والله لا أركبها حتى يحيا الناس" إخوة الإيمان : فإنَّ النفوس بعدَ سماع هذه الأخبار، ونوادر المواقِف، لا يسعها إلا أن تقِفَ خاشعة، مترضيةً عن فاروق الأمَّة، عارفةً فضلَه وفضائلَه، وقِدَمَه وأياديَه على أهل الإسلام. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجمعنا وإيَّاكم مع هذه الصفوة الصادقة في دار كرامته، ومستقر رحمته. وأقم الصلاة.
ما وراء الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني عند البعض فمن القضايا المثارة الآن على الساحات الفكرية الدينية والإعلامية العربية وغير العربية، قضية تجديد الخطاب الديني ( الإسلامي )، ولا شك أنها قد فرضت على الأمة فرضا؛ لأنها لم تكن مطروحة قبل الآن بهذا الشكل. فهناك فرق كبير بين تجديد أسلوب الخطاب الديني بما يتلاءم ويتناسب مع المدعوين مسلمين أو غير مسلمين، من غير مساس لأصوله وقواعده وثوابته. وبين ما يدعو إليه ثلة ( من العلمانيين والليبراليين المعممين )، لا تعرف شيئًا عن ثوابت وقواعد دينها أصلًا تحت مسمى تجديد الخطاب الديني، وهم في حقيقة أمرهم يريدون بث الأفكار المسمومة التي تهدف لتغير مضمون الدين، وفصله عن أصوله وثوابته بقصدٍ وغير قصد. • وتجديد أسلوب الخطاب الديني الدعوي الذي ينتجه البشر، قد نادت به الشريعة، وأُمِرَ الدعاة بمخاطبة العامة بأسلوب يفهمونه، وتبلغه عقولهم، وفي ذلك روى البخاري تعليقًا - عن عَلِي رضي الله عنه - قال: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَنْ يُكَذِّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ " [1] . أي: كلموا الناس بما يدركون بعقولهمِ، واتركوا ما يشتبه عليهم فهمه، ( أَتُحِبُّونَ أن يكذَّب الله ورسولُهُ ) بفتح الذالِ المشددةِ؛ لأنَّ السامعَ لَمَّا يفهمه يعتقد استحالتَه جهلًا، فلا يصدق وجوده، فيلزم التكذيب. وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عَبْداللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " [2] . أي: ما أنت محدث الناس حديثًا لا يفهمونَهُ ولا يُدرِكون معناه، إلا كان لفئة منهم فتنة، والفتنة هنا: الضلالُ والحيرة [3] . وقد نُقِلَت إلينا عن الصحابة والتابعين في ذلك آثار كثيرة. والمقصود بهذا النوع من الخطاب الديني هو الرسالة الدعوية الدينية البشرية التي يوجهها المسلمون باسم دينهم إلى مختلف فئات البشر مسلمين وغير مسلمين، وهو إما أن يعالج موضوعات وقضايا دينية أو غير الدينية، مع تناولها من منظور ديني مستندًا في منطلقاته إلى المرجعية الدينية الإسلامية التي أساسها القرآن والسنة النبوية المطهرة، وقد يكون صادرًا عن فرد أو مجموعة أفراد أو مؤسسة عامة، أو دينية متخصصة من مؤسسات الدعوة الدينية، وذلك بهدف القيام بمهمة الدعوة الاسمية بمختلف وظائفها التي تتدرج من مجرد التعريف بالإسلام، مرورًا بالإقناع بعظمته، وانتهاءً بالدعوة لاعتناقه مستخدمًا في ذلك كافة الوسائل الممكنة والمتاحة التي تتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية [4] . • أما تجديد الخطاب بما يمليه علينا أعداؤنا وتفريغ الدين من ثوابته وقواعده وأركانه، فهذه دعوة إلى دين آخر غير دين الإسلام؛ لأننا مأمورون، وجميع البشر بشتى عقائدهم وأفكارهم ومللهم ونحلهم بالطاعة لرب البشر، والاتباع لسيد البشر صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى بهذا الدين ليحكم الناس، فأتم الله عز وجل به النعمة، وكشف به الغمة، وأنار بها الظلمة؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. قال ابنُ كثير - رحمه الله -: "هذه أكبرُ نِعَم الله - تعالى - على هذه الأمَّة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍّ غير نبيِّهم - صلَوات الله وسلامُه عليه - ولهذا جعله الله تعالى خاتمَ الأنبياء، وبعَثَه إلى الإنسِ والجنِّ، فلا حلالَ إلاَّ ما أحلَّه، ولا حرام إلاَّ ما حرَّمه، ولا دين إلاَّ ما شرعَه، وكل شيء أخبرَ به فهو حقّ وصدق لا كذب فيه ولا خُلف، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنَّواهي، فلمَّا أكمل لهم الدين تَمَّت عليهم النِّعْمة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾؛ أي: فارضوه أنتُم لأنفُسِكم، فإنَّه الدّين الَّذي أحبَّه الله ورضِيَه، وبعث به أفضل الرُّسُل الكرام، وأنزل به أشرفَ كتُبِه؛ ا. هـ [5] . وقد روى البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب، عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنْه - أنَّ رجلًا من اليهود قال له: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابِكم تقرؤونَها، لو علينا - معشرَ اليهود - نزلت لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيُّ آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3]، قال عمر: "قد عرفْنا ذلك اليوم، والمكان الَّذي نزلت فيه على النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو قائمٌ بعرفة يوم جمعة". فيجب أن نعي ويعي هؤلاء جيدًا أنَّ أحكام هذا الدِّين وشرائعَه قد كملتْ، فلا تتغيَّر ولا تتبدَّل إلى يوم القيامة، وأن الإسلام هو الدين الحق الذي يطلبه الله من عباده ولا يقبل منهم سواه؛ إذ ما عداه من الدين باطل وضلال، وما سُمِّيَ إسلامًا إلا لأن من يدخل فيه يستسلم لله قلبًا وقالبًا، عقلًا وجسدًا. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران]. وما دام الله متفردًا بالألوهية وبالقوامة، فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله، واستسلام العبيد لإلههم، وطاعتهم للقيوم عليهم، واتباعهم لكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ )، فهو لا يقبل دينا سواه من أحد الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع، وإذًا فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل، ولا مجرد تصديق في القلب، إنما هو القيام بحق هذا التصديق، وذلك التصور هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله، وطاعتهم لما يحكم به، واتباعهم لرسوله في منهجه؛ ا. ه وقال تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران:85]. قال شيخنا الدكتور صلاح الصاوي:صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان من المعلوم بالضرورة من الدين، وقدِ انعقد عليها إجماع السابقين واللاحقين منَ المسلمين، وهي تعتمد على أنَّ هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة، التي نسخ الله بها ما قبلها منَ الشرائع، وأوجب الحكم بها والتحاكُمَ إليها إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها، وتَوَجَّهَ الخطابُ بها إلى أهل الأرض كافَّةً، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فلا بد إذًا أن تكون منَ الصلاحية بحيث تُلَبِّي حاجاتِ البشرية في مختلِف أعصارها وأمصارها، وتُحَقِّقَ مصالحها في كل زمان ومكان؛ ا.هـ. فهذا الدين جاء ليحكم الناس فمن رضي فله الرضا ومن أبى فليضرب رأسه في الحائط؛ لأن ما يدعون إليه ليس تجديدًا بالمعنى، إنما هو سُبَّة وتهمة، واتهام بالنقص لهذا الدين عقيدة وشريعة. ولذا نرى بعضهم يعلنها صريحة، فيقول: بأنه لا يناسب هذا العصر والتمسك بمبادئه وثوابته ضرب من الجمود والتعصب والأصولية والرجعية. فينادون بأن للإنسان أن يعبد ما يشاء كيفما يشاء في الوقت الذي يشاء. والمرأة في ظل جلبابها عبدة مملوكة بل يجب أن تتحرر ( من العفاف إلى العَهْر ). والجهاد في سبيل الله تعالى وَفق فَهمهم عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، فلأمم الكفر والعهر أن تغزو وتجتاح، أما المسلمون فلا جهاد ولا صد ولا رد، ويجب أن ترتاح، حتى تتواكب الأمة مع التمدن والعصرية، ولذا فإننا نقول لهم وإن كانوا من جلدتنا ويتحدثون بلغتنا ويقولون بأنهم مسلمون. إن الإسلام الذي يريده الله منا والذي جاءنا به القرآن، وحثنا عليه النبي العدنان صلى الله عليه وسلم صالح لكل زمان ومكان. فقد جاء ليُخضِع الناس لربهم ولا يخضع لهم، وهو دين عزيز يسود ولا يُساد، ويُتبع ولا يَتَّبِع، فإذا كان ديننا هذا لا يروق للمنادين بفكرة التجديد أذناب الغرب والتمدن العالمي، فليضربوا رؤوسهم في الجدران مرة ثانية، وليذهبوا هم والعالم كله إلى الجحيم، وكما قال القائل وصدق: فإن في عرصات جهنم متسع للجميع، أما دين الله وشريعته فمحفوظة من غير تبديل ولا تغيير، ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل. [1] رواه البخاري تعليقًا (1/ 225) من حديث علي (رضي الله عنه)؛ بلفظ: "حدِّثوا الناس بما يعرفون. .". [2] رواه مسلم (5)، وأبو داود (4992). [3] انظر "منحة الباري"(1 /382). [4] انظر "تجديد الخطاب الديني في ضوء الواقع المعاصر" ص (273). [5] انظر "تفسير القرآن العظيم لابن كثير " (3 /22).
ظاهرة انتشار الإسلام في ألمانيا إن الأحداث التي يمر بها المسلمون في شتى بلدان العالم قد تصيب البعض منا باليأس والإحباط؛ لكثرة المؤامرات التي تُحاك ضد المسلمين هنا وهناك، وكثرة ما يلاقيه المسلمون من الاضطهاد والتنكيل، وكثرة ما يُروج عن الإسلام من الأكاذيب والافتراءات. غير أن هذه الحالة سريعًا ما تزول إذا ما علمنا حجم الإقبال على الإسلام في دول الغرب، وكذلك إذا ما علمنا أنه مع كل هجوم على الإسلام في الغرب، يزداد شوق الأوربيين والغربيين عمومًا للتعرف على هذا الدين، ومعرفة حقيقة ما يثار حوله، ومن ثم يزداد الإقبال على الدخول في هذا الدين الحنيف. ومن يتابع الساحة الإسلامية اليوم في أوروبا عامة وفي ألمانيا خاصة - يلاحظ بفضل الله تعالى انتشار الإسلام الواسع بين أفراد المجتمع وكثرة بناء المساجد أو تحول الكنائس إلى مساجد، وبالأخص الولايات الشمالية والغربية من ألمانيا؛ حيث يكثر تمركز المسلمين فيها، وأيضًا يلاحظ انتشار المظاهر الإسلامية في المجتمع عامة؛ كالحجاب وكثرة المنتوجات الإسلامية، ومحلات بيع اللحم الحلال، وكثرة المصارف الإسلامية لأول مرة في تاريخ ألمانيا [1] ، يرافق ذلك ظهور قوانين جديدة في صالح المسلمين، كل ذلك رغم الحملات الإعلامية القوية جدًّا لتشويه الإسلام، ورغم كثرة المؤسسات التي تحارب الإسلام، ورغم صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للإسلام إلى دفة الحكم، سواء على مستوى الانتخابات الداخلية للولايات، أو على مستوى الدولة، ورغم التكتم الشديد على الأعداد الحقيقية للمسلمين عامة، وعدد من أسلم من الألمان خاصة في السنوات الأخيرة؛ خوفًا من أن تستغل للتخويف من امتداد الإسلام فيما يسمونه بظاهرة Islamophobie "الإسلاموفوبيا"، أو "ظاهرة انتقاد الإسلام ( islam-criticism ) "، أو "ظاهرة معاداة الإسلام" ( anti-islam’-ism ’) " - فإنه قد أعلن في آخر إحصائية ألمانية رسمية أن عددَ مَن دخل الإسلام من الألمان في السنتين الأخيرتين يقدر بـ20000 شخص، ومثله بالضبط في النمسا وسويسرا [2] ، وهناك مصادر أخرى تشير إلى أن أعدادهم أكثر من هذا بكثير حتى أوصلوها إلى 40000 شخص [3] ، وهذا كله ليس بمستغرب، فلا يمر أسبوع هنا إلا ونسمع أن رجلًا أسلم أو امرأة أعلنت إسلامها في أحد المراكز الإسلامية في المنطقة، والسؤال المهم هو: لماذا أسلم هؤلاء؟ وما الذي ينقصهم في أوروبا، رغم العمران والمدنية والتكنولوجيا الحديثة، لكي يسلموا؟ ما الشيء الذي يمنحه لهم الإسلام، ولا يجدونه في حياتهم اليومية؟ والجواب والله أعلم: لعل من أهم خصائص هذا الدين وأحد أهم أسرار جاذبيته هي عالميته؛ أي: إنه دين أُرسل للعالم كله، ليس لبلد معين، أو ناس معينين، أو زمن معين؛ قال تعالى واصفًا عالمية البعثة المحمدية بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28]، فهو عليه الصلاة والسلام أُرسل لكل الناس، هو رسول الإنسانية جمعاء، وشريعته وتعاليمه لكل الناس؛ يقول سبحانه مبينًا أن القرآن الكريم أُنزل لإنذار كل الناس قاطبة: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، ووصف الحق نفسه في أول آية من القرآن بقوله سبحانه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 1]، فهو سبحانه رب الوجود كله، رب الكون كله، وليس رب العرب وحدهم، الذين هم مادة الإسلام، وحملة الرسالة الأولون، وأكد تميز هذا الدين العظيم عن باقي الرسالات بالعالمية قوله صلى الله عليه وسلم الصريح كما جاء في الصحيحين: ((أُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تُحَلَّ لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصة، وبُعثْتُ إلى الناس عامة) )، فعالمية البعثة هو أول سبب لانتشاره، وقد أكد هذا المعنى الناطق الرسمي لحزب الـ CDU المسيحي الحاكم في ألمانيا Christian Abdul Hadi Hoffmann في مقدمة كتابه الذي كتبه حول قصة إسلامه (بين شتى الجهات، قصة إسلام سياسي ألماني) [4] : إن من أهم ما جذبه لهذا الدين هو أنه رأى وهو يتابع مناسك الحج في إحدى القنوات الألمانية تجمع كل جنسيات الأرض من شتى أنحاء المعمورة في مكان واحد، في مكة المكرمة، وفي وقت واحد في موسم الحج، رغم اختلاف لغاتهم، وبعد قاراتهم، ورغم كبر سنهم وضعفهم، واختلاف عاداتهم وتقاليدهم في مشهد عظيم ومظاهرة مليونية سلمية لم يشهدها إلا في الإسلام، ونفس هذا السبب ذكره المهندس المعماري الألماني الذي أسلم ثم استقر في مكة، وهو الذي صمم ساعة مكة المكرمة هناك الدكتور محمود بودو راش Mahmoud Bodo Rasch في آخر مقابلة معه، وهو يتحدث عن سبب إسلامه واختياره لمكة مكانًا لعمله كمهندس معماري [5] ، والسبب الثاني الذي يجذب الغرب عامة والألمان خاصة للإسلام هو كونه دين الفطرة، إن الإنسان الأوروبي، بل الفطرة البشرية عامة، لا تجد راحتها وسعادتها واستقرارها النفسي إلا بالإسلام لأنه لا يأمر إلا بما يوافقها ويلائمها ويصلحها، ومن ثَمَّ يسعدها؛ كما قال سبحانه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، أكثر الناس لا يعلمون أن هذا الدين هو دين الفطرة، والإنسان الغربي اليوم حائر يعاني من الفراغ الروحي الشديد، ويعاني من سلبيات الحياة المادية التي يعيشها، ومن القلق المستمر والأرق، أو ما يسميه الألمان في حياتهم اليومية (التوتر) Stress [6] ، ومن الشعور بالإحباط واليأس بسبب عدم وجود الإيمان في حياتهم، والذي يؤدي بهم إلى الانحراف والإدمان أحيانًا أو قد يصل إلى الانتحار أحيانًا أخرى والعياذ بالله، وقد نشرت مؤخرًا دوائر الإحصاء أن 25 شخصًا ينتحر Suizide يوميًّا في ألمانيا قبل ظاهرة كورونا، وأن هذا العدد ازداد في السنتين الأخيرتين بشكل واضح [7] ، بل حتى عند أكثر الناس شهرة ورفاهية في المجتمع الألماني كانتحار حامي مرمى فريق كرة القدم الألماني الشهير Robert Enke بعد وفاة ابنته بمرض عضال عام 2009، وقصة الطيار الألماني الشهيرة الذي انتحر عام 2015 بسبب اليأس الذي كان يعاني منه قاتلًا معه 150 راكبًا على متن الطائرة الألمانية التي كان يقودها، رغم أن وظيفة الطيار تعد من أعلى الوظائف بالمرتبات في المجتمع الألماني [8] ، وآخرها انتحار وزير المالية لمدينة هسن Finanzminister Thomas Schäfer وأحد موظفيه، بعد انتشار وباء كورونا وتصريحه بأن الحالة ميؤوس منها [9] . هذا الفراغ الروحي القاتل هو الذي يدفع الإنسان الغربي عامة، والألماني خاصة للبحث عن نور الهداية، وعن الرضا والقناعة، وطمأنينة القلب، والتي لا يجدها إلا في الإسلام العظيم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وهذا النور هو الذي كتبت عنه المذيعة الألمانية الشهيرة Kristiane Backer بعد أن أسلمت وذاقت حلاوة الإيمان، وكتبت قصة إسلامها في كتابها ( Von MTV nach Mekka ) الرحلة من مذيعة في التلفزيون إلى مكة؛ حيث ذكرت فيه: أنها كانت تبحث لسنوات طويلة رغم شهرتها وثروتها عن راحة قلبها وسعادتها التي كانت مفقودة في حياتها، ولم تجدها إلا في الإسلام وتطبيق تعاليم الإسلام، وذلك - كما تقول - في تطبيق شعائر الإسلام بصدق أن تصلي بخشوع، وأن تصوم بجوارحها، ليس فقط بجسدها، وأن تحج بالقلب وأشواق الروح ليس بمجرد شعائر ومناسك تؤديها، وفعلًا فعلت ذلك كله - كما كتبت - وذاقت حلاوة الإيمان وثمرته، وهي الآن سعيدة جدًّا بعد إسلامها بفضل الله تعالى، السبب الثالث والمهم لانتشار الإسلام في المجتمع الألماني هو التفكك الأسري، وضعف الروابط الاجتماعية، وعدم استقرار العلاقات الزوجية، ومن ثَمَّ قلة الإنجاب عندهم (عكس ما هو عليه لدى المسلمين المقيمين في ألمانيا) من قوة الروابط الاجتماعية، وتقديس الأسرة، وبر الوالدين يُضاف إلى ذلك تأثير العبادات الجماعية عليهم، والتي تقوي الأواصر الاجتماعية والأخوية كصلاة الجمعة والعيدين، والعمرة وقوافل الحجاج جماعة من ألمانيا، والإفطارات الجماعية في رمضان في مساجد ألمانيا، كل هذه الأمور تشد الألمان إلى هذا الدين وقيمه الاجتماعية وتعاليمه السمحة، في إحدى المقابلات التي أجرتها الإذاعة الألمانية مع والدين ألمانيين أسلما حديثًا سألهم المذيع مستغربًا: لماذا أسلمتم بعد إسلام ابنكم؟ فأجابا: منذ أن أسلم ابننا كان أكثر برًّا بنا وأكثر رحمة وشفقة بإخوته الصغار، وأكثر احترامًا للجيران، وعرفنا منه أن كل هذا تعلمه من الإسلام [10] ؛ لعل هذه الأسباب الثلاثة هي أهم الأسباب التي جعلت هذا الدين ينتشر بشكل واضح في كل أطراف أوروبا، وفي كل مدن ألمانيا إلى درجة أنك لا تجد ولاية اليوم من الولايات 16 في ألمانيا بدون مسجد أو مركز إسلامي أو جامع، حتى وصل عدد المساجد مؤخرا إلى أكثر من 3000 بين جامع ومركز إسلامي أو مسجد والعدد بازدياد مستمر بفضل الله [11] ، وقد نشرت جريدة دي فلت DIE WELT الرسمية في ألمانيا مقالًا تتحدث فيه عن ظاهرة انتشار المساجد هذا ذكرت فيه: إن عدد المساجد في مدينة هامبورغ HAMBURG الشهيرة وحدها أصبح اليوم ضعف عدد الكنائس [12] ، وهذا كله تصديقٌ لقول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41]؛ أي: سوف ينقص الكفر ويزداد الإيمان في كل نواحي وأطراف الأرض بانتشار الإسلام؛ كما قال سيدنا عبدالله بن عباس في تأويلها: "أولم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض؟"، وقد أكد هذا المعنى وهذه النبوءة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وهو يبشر بانتشار هذا الدين في أنحاء المعمورة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) )، فهذا الحديث الجليل فيه معجزات ظاهرة للرسول صلى الله عليه وسلم تتحقق في أوروبا اليوم، وهو علامة من علامات صدق النبوة؛ حيث نجد أن الكنائس مهجورة والمساجد بفضل الله تعالى عامرة، وذلك أن الكثير من الكنائس اليوم قلَّ روادها؛ فخسرت بذلك الممول المادي الرئيس لها، حتى اضطرت للحصول على المال إلى تأجير بناياتها للمسلمين لأداء صلاة الجمعة أو العيدين أو تحويلها لمدارس تعليم اللغة العربية، أو لتحفيظ القرآن الكريم، ووصل الحال بهم إلى أن الكثير منها تحول رسميًّا إلى مساجد خاصة بعد موجة اللاجئين عام 2015؛ حيث ظهرت الحاجة الملحة للمساجد مع كثرة المسلمين، وعندما تم تحويل أول كنيسة في مدينة هامبورغ وهي كنيسة Kapernaum-Kirche المبنية عام 1961 إلى مسجد يُرفع فيه الأذان لأول مرة وتقام فيها الصلاة لأول مرة يوم 3.07.2015 [13] . نُشر الخبر في وسائل الإعلام علانية، ولاقى معارضة شديدة من جهات مختلفة حتى أدت إلى حرق بيوت اللاجئين، وقتل بعضهم مع الأسف؛ مما اضطرت وسائل الإعلام إلى عدم نشر هذه الأخبار بشكل علني. في آخر إحصائية جديدة عن عدد المساجد في ألمانيا، وكيفية توزيعها بين كل الولايات الألمانية، ومتى افتتحت، وتصنيفها حسب كونها بقُبَّة أو بمنارة أو بكليهما - أُضيف لأول مرة للخارطة جملة جديدة Moschee in ehemaligem Kirchenbau ؛ وتعني : المساجد التي كانت سابقًا كنائس، والإشارة إليها بعلامة المثلث [14] . خارطة تبين توزيع المساجد وكثرتها في غرب ألمانيا أكثر من شرقها وأن بعض المساجد أصلها كنائس مع الإشارة هنا إلى أن السماح برفع الأذان لأول مرة في بعض المساجد في ألمانيا أيام الانتشار الشديد لوباء كورونا كان تعاطفًا أو إظهارا للشكر لدور مسلمي ألمانيا الإيجابي في بداية هذه المحنة؛ من خياطة الكمامات بالآلاف في المساجد، إلى التبرع بالأكل للمستشفيات من قبل مطاعم المسلمين، إلى التبرع بالأكل كل يوم للمحتاجين والمرضى أيام شهر رمضان المبارك، إلى دور الأطباء المسلمين والممرضين المميز في المستشفيات الألمانية، حتى إن الكثير منهم توفي في بداية الأزمة، وتم تشيعهم تشيعًا تكريميًّا خاصًّا من قبل مستشفياتهم رحمهم الله تعالى. الظاهرة الأخرى الحديثة هي التوجه السياسي الألماني المتعاطف مع قضايا المسلمين؛ فيُلاحَظ من جهة تزايد نسبة المسلمين من أعضاء البرلمان الألماني، وفي أعداد المحافظين للولايات الألمانية، بل تزايد نسبة الأجانب Migration (ومعظمهم مسلمون) في كل حزب حاكم أو معارض بشكل تدريجي، وهذه ظاهرة جديدة؛ حيث ثبت أن أعلى نسبة للأجانب هي في حزب الخضر 11.1%، والعجيب أنه حتى الأحزاب المسيحية فيها مسلمون، وأيضا الحزب اليميني المتطرف AFD فيه مسلمون . جدول يبين نسبة الاجانب في كل حزب في ألمانيا وغالبهم مسلمين لا شك أن هذه الأحزاب لها أغراض براغماتية تحاول الوصول إليها بقبولها بالمسلمين؛ حيث تحاول بذلك كسب أصوات المسلمين المتزايدين في ألمانيا في الانتخابات، ولا يخفى على العاقل أن مشارب هؤلاء المسلمين في هذه الأحزاب متضاربة بين تبنِّي قضايا المسلمين والدفاع عنهم، إلى المعارضة والمحاربة للإسلام علانية، ولكن المحصلة الأخيرة هو التعاطف مع المسلمين وقبولهم لأول مرة بينهم، خاصة مع ازدياد عدد المسلمين في الجيش الألماني مؤخرًا، والشرطة الألمانية، بل إن الشرطة بدأت رسميًّا تطلب من المسلمين التطوع والعمل معهم. وقد حصل مؤخرًا تضييق شديد على المسلمين في الجامعات الألمانية لكثرتهم، حتى لم تكفِ غرف المصليات لأداء صلاة الجمعة؛ فطالبوا بغرف أخرى في كلية التكنولوجيا في برلين للصلاة بعد أن أدُّوا الصلاة في الساحة العامة، فكان رد فعل عميد الجامعة أن أغلق المصليات جميعًا، فجُوبِه بردِّ فعل شديد من المؤسسات الإسلامية في ألمانيا؛ اضطر على إثره إلى فتحها مرة ثانية [15] . صلاة الظهر في الجامعة التكنولوجية في برلين في الساحة العامة هذا يبين مظهر من مظاهر التأييد الإلهي لهذا الدين، ووعد الله تعالى بتمكينه هو الذي يجعله يظهر على خصومه؛ كما قال سبحانه: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9]، فالله سبحانه قد وعد قبل أكثر من خمسة عشر قرنًا بإتمام نوره؛ وهو الإسلام، ووعده يتحقق اليوم والحمد لله، ويلاحظ هنا دقة التعبير القرآني؛ حيث استخدم الفعل (يطفئ) دون الفعل (يخمد) ، وكلاهما يستعملان في النار، والضياء عند العرب، ولكن الفرق هو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل [16] ، وهذا معناه أنهم يريدون إبطال ما استطاعوا من الحق الذي جاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قليلًا كان أم كثيرًا، ولكن رغم ذلك كله، فإن الله سبحانه متم نوره، بل ويأبى إلا أن يتم نوره: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]. ولعل من أعجب مظاهر التأييد الإلهي لهذا الدين في ألمانيا أنه سبحانه وتعالى يسخِّر غير المسلمين من علية القوم للدفاع عنه، والوقوف بجانب المسلمين، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيفما شاء، وإن الله لينصر دينه بالرجل الكافر أو الفاجر، كوقوف المستشار الألماني السابق مثلًا هلموت شمت Helmut Schmidt بجانب المسلمين عامة، وناصحًا الحكومة الألمانية والغرب بضرورة تغير موقفهم السياسي العدائي للمسلمين بكلمته المشهورة [17] : "Westen verhält sich unsensibel gegenüber Islam" ، وهو الذي طالب بتغير مناهج التعليم الألمانية، وتصحيح كل المشوه عن الإسلام في الكتب المنهجية قبل وفاته، وكان قد صرح في آخر مقابلة له أنه تعلم من زيارته لمصر أن الأديان السماوية الثلاثة أصولها واحدة، وكلها ترجع لإبراهيم الخليل عليه السلام، وأن السياسات الخاطئة هي التي أدت إلى الحروب بين الشعوب وليست الأديان [18] ، وكوقوف المستشارة الألمانية الإيجابي اليوم بجانب قضايا المسلمين مثل موقفها الإيجابي من اللاجئين واستقبالهم، ومثل تحسين علاقتها مع تركيا، وكذلك رفعها لقانون منع الحجاب المطلق؛ حيث سمحت للمحجبات بالعمل بعد موافقة رب العمل بالحجاب، بعد أن كان ممنوعًا قبلها بشكل عام، وقالت: إن الحجاب ليس رمزًا للظلم واحتقار المرأة [19] ، وكذلك تصريحاتها المهمة في صالح الإسلام، كما صرحت لأول مرة في تاريخ الحكومة الألمانية بصفتها مستشارة [20] : "Der Islam gehört zu Deutschland" (إن الإسلام هو جزء من ألمانيا، وإنه بنى الحضارة الألمانية) . وقد سبقها في هذا التصريح المهم الرئيس الألماني السابق الدكتور كريستيان وولف Christian Wulff ، وتعرض - كما تعرضت هي - لانتقادات واسعة جدًّا من جهات مختلفة، ولا شك أن هناك أغراضًا سياسية خلف هذه التصريحات، ولكن النتيجة الحتمية هو أنها تصب في صالح المسلمين. ويجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس الألماني السابق هذا - وهو أستاذ جامعي - دافع عن نفسه في وقتها بأن الاكتشافات الحديثة تشير إلى دور المسلمين في بناء الحضارة الألمانية، وأن هناك إثباتات في علم الآثار تشير إلى وجود أول مسلم في ألمانيا عام 720 ميلادية في مدينة هايتهابو Haithabu شمال ألمانيا؛ بسبب إسلام بعض القبائل هناك، بعد احتكاكها بتجار مسلمين، واكتشاف مقبرة هناك تتجه باتجاه مكة المكرمة، واكتشاف أن بعض الفايكنك Wikings كانوا مسلمين باحتكاكهم بمسلمي الأندلس، وخاصة بعد اكتشاف مخطوطات نادرة مهمة للمؤرخ الطرطوسي تشير إلى وجود الإسلام في ألمانيا [21] . ولذلك يلاحظ حرص الرئيس الألماني الحالي Frank-Walter Steinmeie والمستشارة الألمانية على تهنئة المسلمين بمقدم شهر رمضان وبأيام العيد رسميًّا على كل وسائل الإعلام في السنتين الأخيرتين وخاصة في ظل أزمة كورونا. يشكل تعداد المسلمون اليوم أكثر من 7% من مجموع تعداد الشعب الألماني البالغ 81 مليون، وفي السنتين الأخيرتين ازداد عدد الطلبة المسلمين في الجامعات الألمانية بشكل ملحوظ، وازداد عدد المحجبات حتى إن معظم نقابات الطلبة في الجامعات أعضاؤها مسلمون، وقبل شهرين نشرت إحدى الصحف الألمانية الرسمية أن عدد المسلمين هو 6 مليون مسلم، وليس 4 مليون، كما كان ينشر سابقًا، وأنه لا توجد جامعة ألمانية اليوم تخلو من المحجبات أو المسلمين سواء طلبة أو أساتذة أو إدارة، وأشارت الجريدة إلى تزايد عدد الطبيبات والمهندسات المحجبات في المجتمع الألماني في السنوات الأخيرة [22] . وهذا أدى - من ثَمَّ - إلى انتشار شركات الأكل الحلال بشكل واسع جدًّا، وافتتاح أجنحة للمنتوجات الحلال في معظم المحلات الألمانية الشهيرة مثل: Lidl و Aldi و Real وغيرها، وأدى إلى انتشار المصارف الإسلامية في ألمانيا بعد نجاح تجربة المصرف التركي الكويتي KT-Bank منذ عام 2015 بفروعه الأربعة الرئيسية، وفتح فروع جديدة له بين الحين والآخر، كما حصل السنة الماضية في مدينة ميونخ بافتتاح رسمي ترعاه الحكومة [23] ، وتوجه البنك الألماني مؤخرًا Deutsche Bank لفتح جناح للمعاملات الإسلامية، ومنح قروض دون فوائد بعد أن كتبت وسائل الإعلام عن نجاح تجربة المصارف الإسلامية في أوروبا دون فوائد مصرفية [24] ، هذه كلها بشارات وبدايات للاعتراف الرسمي للإسلام في ألمانيا، هذا الاعتراف الذي لو حصل، فسوف يترتب عليه خير كبير جدًّا يصيب المسلمين في ألمانيا وأبناءهم، ويبشر بأن المستقبل للإسلام في ألمانيا. مدرسة الاستشراق الألماني ودورها في انتشار الإسلام: اهتم الباحثون الألمان بالدراسات العربية الإسلامية منذ عهد مبكر، فقد ثبت أن مارتن لوثر كان من الذين تأثروا بالفكر الإسلامي حينما تمرد على الكنيسة الكاثوليكية في روما، ولكن موقف لوثر من الإسلام كان عدائيًّا جدًّا، وبخاصة الدولة العثمانية، وقد تميز المستشرقون الألمان بالجدية في البحث، حتى اصطبغت الدراسات الإسلامية في أوروبا في وقت من الأوقات بالصبغة الألمانية، وعلى يدهم ظهرت كتب لأول مرة لم تكن معروفة لولا جهودهم؛ مثل: كتاب مغازي الواقدي، وتحقيق كتاب الطبري من نسخ قديمة جدًّا، وما زال الاستشراق الألماني مزدهرًا في العديد من الجامعات، وقد لحق الاستشراق الألماني غيره في الاهتمام بالقضايا المعاصرة؛ فقد قدم المستشرق راينهارد شولتز محاضرة في شهر سبتمبر 1986 في جامعة برنستون بالولايات المتحدة بعنوان: "الإسلام السياسي في القرن العشرين". ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهرْ نتيجةً للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنجلترا وهولندا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه . ساهم المستشرقون الألمان أكثر من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية، وخصوصًا كتب المراجع والأصول المهمة، وإلى نشر المخطوطات، فإن أهم ما قام به المستشرقون الألمان وضع المعاجم العربية. لا بد لمن يتناول الاستشراق الألماني ألَّا يُهمل ثيودور نولدكه (1836 - 1930م) ، الذي اهتم بالأبحاث القرآنية، إلى جانب اهتمامه بالشعر العربي القديم وخصوصًا المعلقات، وكذلك كارل بروكلمان (1868 - 1956م) ، الذي اهتم بتاريخ الأدب العربي، ووضع كتابه الشهير تاريخ الأدب العربي، الذي ظهر الجزء الأول منه أواخر القرن التاسع عشر، الذي عمل عليه طوال نصف قرن من الزمن، ونقله إلى العربية بتكليف من جامعة الدول العربية، عبدالحليم النجار، ونشرته دار المعارف في مصر في ثلاثة أجزاء، وكتاب آخر مهم تركه لنا "بروكلمان" هو (تاريخ الشعوب والدول الإسلامية) ، الذي ظهر سنة 1939م، ونقله إلى العربية نبيه أمين فارس، ومنير بعلبكي سنة (1949 - 1951م) ، وكتابه الرائد (قواعد اللغات السامية) في مجلدين ضخمين 1961م. ويجب ألَّا ننسى أنَّ وليتمان (1875- 1958م) ، الذي ترجم كتاب (ألف ليلة وليلة) إلى الألمانية في ستة مجلدات بأسلوب رائع، وهي أول ترجمة كاملة لهذا الكتاب الهام، الذي كان له تأثير كبير في أوروبا. ولا يمكن أن ننسى هنا العلامة الباحث الأديب والشاعر البروفسور فؤاد سزكين ودوره العظيم في التعريف بالحضارة الإسلامية والعلوم الإسلامية في الجامعات الألمانية، وهو تلميذ المستشرق الألماني لموت رتر (1892 - 1971 م) ، وهذا الأخير تتلمذ على تيوور نيلدكه، وكارل بروكلمن، وله دور عظيم في نشر وتحقيق مخطوطات نادرة من التراث الإسلامي نُشرت لأول مرة في ألمانيا. ولا يمكن أن ننسى الدكتورة زيغريد هونكه صاحبة كتابها الشهير (الله ليس كذلك) ، المترجم إلى عدة لغات ترد فيه على شبهات الغرب والمستشرقين، وتفندها الواحدة تلو الأخرى، وكذلك كتابها (شمس الإسلام تسطع على الغرب) ، وهو أشهر من أن يُعرَّف به. وكذلك الدكتورة آنا ماري شميل Annemarie Schimmel (1922 ) وهي من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين، اهتمت بدراسة الإسلام والتعريف به، وحاولت تقديم هذه المعرفة بأسلوب علمي موضوعي لبني قومها، حتى نالت من رئيس الجمهورية آنذاك شخصيًّا أسمى جائزة ينالها كاتب في ألمانيا تسمى جائزة السلام للأدب. والدكتورة متخصصة في دراسة أدب محمد إقبال حكيم وشاعر باكستان الكبير، وترجمت إلى الألمانية له ديوان "جاويد نامة" وكتاب "رسالة المشرق عن الفارسية"، وتنصف الإسلام والمسلمين في كتبها ومحاضراتها وتدافع عن حقائق الإسلام أمام أباطيل خصومه، وقد أصدرت العديد من الكتب في التعريف بالإسلام منها كتاب "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم، بسطت فيه مظاهر تعظيم وإجلال المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه لمحة سريعة عن الاستشراق الألماني المُشرق، الذي سيبقى محافظًا على تفوُّقه وتفرُّده ودوره الإيجابي في انتشار الإسلام، رغم الملاحظات عليه، وهو أحد أسباب انتشار الإسلام في ألمانيا. وصدق محمد إقبال رحمه الله عندما قال: فكم زالت رياض من رباها وكم بادت نخيل في البوادي ولكن نخلة الإسلام تنمو على مر العواصف والعوادي ومجدك في حمى الإسلام باقٍ بقاء الشمس والسبع الشدادِ والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] http://www.welt.de/wirtschaft/article144297280/So-funktioniert-Deutschlands-erste islamische-Bank.html [2] http://www.schattenblick.de/infopool/religion/islam/risbe084.html [3] انظر: http://www.spiegel.de/spiegelwissen/aus-welchen-gruenden-deutsche-zum-islam-konvertieren-a-898624.html [4] انظر: "بين شتى الجبهات"، الصادر بطبعته الأولى في بافاريا، عام 1997. [5] انظر: المقابلة معه في الجريدة الإسلامية الألمانية: http://www.islamische-zeitung.de/alles-muss-von-innen-kommen/ [6] تم اختيار هذه الكلمة كأهم كلمة تردد على الألسنة وتكرر في وسائل الإعلام وأول عائق لنجاح الأعمال في الاقتصاد الألماني: http://arbeitsblaetter.stangl-taller.at/STRESS/ [7] https://www.destatis.de/DE/Themen/Gesellschaft-Umwelt/Gesundheit/Todesursachen/Tabellen/suizide.html [8] انظر مقارنة المرتبات: https://gehaltsreporter.de/gehaelter-von-a-bis-z/200.html [9] https://www.fr.de/hessen/hessen-thomas-schaefer-zweiter-suizid-finanzministerium-zr-13655044.html [10] http://www.deutschlandradiokultur.de/warum-deutsche-zum-islam konvertieren.945.de.html?dram:article_id=132287 [11] انظر: إحصائية عدد المراكز والمساجد في ألمانيا: http://de.statista.com/statistik/daten/studie/72323/umfrage/muslimische-moscheen-und-gebetsraeume-in-deutschland/ [12] http://www.welt.de/print/die_welt/hamburg/article138402403/Mehr-Moscheen-als-katholische-Kirchen.html [13] http://www.welt.de/vermischtes/article147063129/Warum-diese-Kirche-zur-Moschee-umgebaut-wird.html [14] https://www.wissenschaft.de/rubriken/deutschlandkarten/moscheen/ [15] https://www.bz-berlin.de/berlin/charlottenburg-wilmersdorf/dutzende-muslime-beten-vor-tu-berlin-nach-schliessung-von-gebetsraeumen [16] مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، كتاب الطاء. [17] https://www.welt.de/politik/article2118063/Westen-verhaelt-sich-unsensibelgegenueber-Islam.html [18] https://www.helmut-schmidt.de/fileadmin/Aktuelles/Aktuelles_Presse/2018_10_26_Schmidt_Sadat_Vortrag_Prof._Karl-Josef_Kuschel_Hamburg.pdf [19] https://www.lto.de/recht/hintergruende/h/eugh-schlussantraege-generalanwalt-c34119-c80418-kopftuch-religion-arbeit-verbot-kleine-symbole-zulaessig/ [20] http://www.zeit.de/politik/deutschland/2015-01/angela-merkel-islam deutschland-wulff [21] https://www.deutschlandfunkkultur.de/schleswig-holstein-am-aeussersten-ende-des-weltmeeres.1001.de.html?dram:article_id=296661 [22] https://www.tagesspiegel.de/politik/muslimische-einwanderung-der-islam-ist-fast-sieben-prozent-von-deutschland/27144646.html [23] https://www.kt-bank.de/ueber-uns/news-aktuelles/ [24] https://www.dw.com/de/eine-bank-ohne-zinsen/a-16380319
لن يخلقوا ذبابًا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُـرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]. يخاطب الله تعالى الناس كافة، وفي الخطاب تحدٍ صريح لهم بأنَّ ما يعبدون من دون الله عز وجل من الأوثان أو الرجال أو أيَّ معبود، لن يستطيعوا أنْ يخلقوا ذبابة، بل إنهم لن يستطيعوا أن يستردوا ما تأخذه الذبابة منهم من طعامهم أو شـرابهم. وجاء لفت نظر الناس بمناداتهم بقوله تعالى ( فاستمعوا ) والفرق بين الاستماع، والسَّماع: أن الاستماع يقال لما كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، وهو الميل، أما السماع فيكون بقصد وبدون قصد، ويؤيد ذلك قوله تعالى:﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾ [الأعراف: 204]، إشارة إلى قصدهم إلى ذلك، وميلهم إلى السَّماع الخالي عن القصد. واختيار الذُّباب في المثل لأنه يرمز للصغر والحقارة وقلة الشأن، فهو لا قيمة له، ومن هنا كان التحدي أكبر، والتأثير بالمقابل أبلغ، فإن الله لم يطلبْ منهم خلق شيء كبير أو نفيس، بل تحداهم بشيءٍ صغير جدًّا من مخلوقاته، ولو اجتمعوا كلهم، مع أدواتهم ومعداتهم، ومازال التحدي قائمًا إلى اليوم، وسيبقى إلى قيام الساعة، بالرغم من التقدم العلمي الكبير سيبقى البشـر عاجزًا تمام العجز عن خلق ذبابة واحدة. وجاء التحدي بأنهم ( لن يَخلُقُوا ) والخلق أبسط كثيرًا من الفَطْر أو الإبداع، لأن الإبداع هو الخلق من العدم، في حين أن الخلق بوجود المواد الأولية للخلق، جاء في أساس البلاغة للزمخشـري: ( خلق الخرّاز الأديم والخيّاط الثوب: قدَّره قبل القطع،....، وخلَّق القدح: ملسه يكون نضبًا أولًا، فإذا بريَ وملَّس فهو مخلَّق ) [1] ، فإن الله تعالى يقول: ﴿ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، فالمثل يقول لهم هذه المكونات التي تُخلق منها الذبابة؛ البروتين، الدم، العضلات، الأجنحة، متوفرة بين أيديكم، فهل تستطيعون يا أيها الناس سواء أكنتم منفردين أو مجتمعين أن تخلقوا ذبابة واحدة؟. قال الماوردي رحمه الله: ( ﴿ لن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ ليعلمهم أنَّ العبادة إنما تكون للخالق المُنشِئ دون المخلوق المُنشَأ، وخصَّ الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته، وسُمِّي ذبابًا لأنه يُذَبُّ احتقارًا واستقذارًا ) [2] . فمن صور الإعجاز التي وضعها الله في الذباب: 1- جاء في الموسوعة الكونية الكبرى: ( كُبِّرت عين الذبابة مئات المرات، فكان من هذا التكبير العجب العجاب، آلاف العدسات المرصوفة بعضها إلى جانب بعض تحقق للذبابة رؤية كاملة، فهذا المخلوق الضعيف الذي يشمئز الناس منه يستطيع أن يناور مناورة لا تستطيع أعظم الطائرات الحربية وأحدثها أن تفعل فعلها، إنها تسير بسرعة فائقة بالنسبة إلى حجمها، وتستطيع أن تنتقل فجأة إلى زاوية قائمة، وتستطيع أن تنتقل من سقف إلى سقف، هذا شيء لا تستطيع طائرة في الأرض أن تفعله ) [3] . 2- الإعجاز في خلق الذبابة هو في كل جزء من أجزاء جسمها، ففمها يحتوي على شفتين علوية وسفلية، وفيه ممص لمص الغذاء، ولسان وخرطوم [4] ، أما منطقة الصدر فإنَّ عضلات الذبـابة تلتصق بالجدار الداخلي للصدر؛ حيث تعمل هذه العضلات القوية على تحريك الأرجل والأجنحة، وللذبابة ست أرجل، تستخدمها جميعًا عند المشي، ولكنها تقف عادة على أربع فقط، وتنتهي الأرجل في معظم أنواع الذباب بمخالب تساعد على الإمساك بالسطوح المنبسطة للجدران والأَسقف، وتمتلك الذبابة المنزلية وسائد شعرية تسمّى الأخفاف، وتوجد على أقدام الذبابة مادة لاصقة تساعدها في المشي على السطوح الملساء كزجاج النوافذ والمرايا وغيرها. 3- عندما تتغذى الذبابة فإنها تمد فمها من أسفل رأسها إلى السطح المقابل له، مكونة بذلك انبوبًا لامتصاص الطعام، وعند النظر بدقة إلى الأنبوب الماص فيلاحظ أنَّ الطرف الملامس لسطح الطعام متسعًا وكأنه مكنسة كهربائية، بعد ذلك تبدأ الذبابة بفرز انزيم ليمكنها من تحليل الطعام وتحويله إلى مادة سائلة مهضومة لمساعدتها على امتصاصه خلال الأنبوب، ثم يدخل الطعام المكتمل الهضم إلى جسمها ومباشـرة إلى الدم، لذلك فإنَّ الذبابة تبدأ بهضم الطعام قبل أن يدخل إلى جسمها، على خلاف عمليات الهضم التي تقوم بها بقية المخلوقات، حيث تقوم بالهضم الأولي بتقطيع الطعام عن طريق الأسنان أو الفكوك، ثم بعدها الهضم الكيميائي في المعدة بفرز أنزيمات معينة من أجل الهضم، فالطعام الذي دخل في جوف الذبابة لم يعد نفسه الطعام الذي سلبته، ولعل هذا الأمر في المثل هو الجزء المعني في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ ﴾. 4- تؤكد الأبحاث العلمية أنَّ الذباب أكثر من مائة ألف نوع، منها ذباب الخيل، وذباب الفاكهة، وأن عشـرة أنواع منها فقط تعيش في المنازل، ومنها ذباب أسود، وآخر أزرق، وذباب أبيض وأخضر، ولعل هذا هو السبب أن ذكره قد جاء بصيغة "ذُبابًا" في القرآن الكريم وليس ذبابة، ولكن الأمر فيه خلاف عند أهل اللغة، فمنهم من يرى أن ذبابًا جمع مفردهُ ذبابة، كما قال بذلك الجوهري في الصحاح: ( والذباب معروف، الواحدة ذبابة ) [5] ، وفي المصباح المنير للمقري: ( الذُّبَابُ جمعه في الكثرة "ذِبَّانٌ"، مثل غراب وغربان، وفي القلة "أَذِبَّةٌ" الواحدة "ذُبَابَةٌ ") [6] ، وفي الرأي الآخر من يرى أن ذبابًا مفرد، وهو ما ذهب إليه ابن دريد في الاشتقاق: (وفي التنزيل: ﴿ لن يَخلُقُوا ذُبابًا ولو اجتمعُوا له وإنْ يَسْلُبْهُم الذُّباب شيئًا ﴾، فذلك يدلُّ على أنَّه واحد، وقول النّاس ذُبَّانةٌ خطأ، ولكن يجمع ذُبابٌ ذُبًّا) [7] ، وقال البغوي في تفسيره: ( والذباب: واحد وجمعه القليل: أذبَّة، والكثير: ذبان ) [8] . 5- من عجائب خلق الذباب أن في أحد جناحيه داء، وفي الجناح الآخر دواء، وقد تكلم غير المسلمين على مر الزمن في الحقيقة العلمية في هذا الحديث والذي هو في الصحيح، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً ) [9] ، وكم حاول الطاعنون أن يطعنوا في هذه الحقيقة العلمية، حتى أظهره الله عز وجل على يد علماء مختصين من غير المسلمين وقدموا دراسات وبحوثًا أكدوا صحة هذه المعلومة النبوية. 6- ( يتسبب الذباب في إصابة الإنسان بكثير من الأمراض؛ ولعل من أشهرها مرض النوم الذي تسببه ذبابة "تسـي تسـي"، ومرض حمى التايفوئيد، وأمراض التسمم الغذائي التي ينقل الذباب البكتريا المسببة له، ويكون الذباب سببًا في بعض أمراض العيون الذي من أشهرها مرض التراخوما الذي يتسبب في ضعف البصـر، وربما يصل إلى العمى أحيانًا، كما وينقل الذباب بعض الطفيليات الابتدائية كحويصلات أميبا الزحار، وديدان طفيلية مثل بيوض بعض الديدان الشـريطية والخيطية ) [10] . 7- على صغر الذبابة إلا أنها مخلوق متكامل الأجهزة مثل بقية المخلوقات، فإنَّ جسمها الصغير يحتوي على كافة الأجهزة في داخله، ففيها جهاز هضمي، وآخر تنفسي، وجهاز عضلي وآخر عصبي، ودورة للدم، وبتراكيب دقيقة جدًّا تيسـر لها حياتها التي خلقت من أجلها، فمن أراد أن يخلق ذبابًا فعليه أن يفكر بخلق كل هذه التفصيلات المعقدة في جسم الذبابة. [1] أساس البلاغة، الزمخشـري، ج1، ص173. [2] النكت والعيون، أبو الحسن الماوردي، ج4، ص40. [3] الموسوعة الكونية الكبرى، آيات الله في ممالك الطير والنحل والحشـرات، د. ماهر أحمد الصوفي، ج12، ص288. [4] علم الحشـرات العام، حسين عباس ونضال مهدي، ص 155-116. [5] تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج2، ص143. [6] المصباح المنير، المقري الفيومي، ص109. [7] الاشتقاق، ابن دريد، ص425. [8] معالم التنزيل، البغوي، ج5، ص 400. [9] صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شـراب أحدكم فليغمسه، ج3، ص 1206، حديث: 3142. [10] الحشـرات الناقلة للأمراض، د. جليل أبو الحب، ص 148- 151، (بتصـرف).
أبو بكر الرازي الطبيب لقد عُني المسلمون بالطب عناية فائقة، ونبغ منهم علماء كبار، وجهابذة أفذاذ أنسوا من كان قبلهم، ومهدوا السبيل لمن جاء بعدهم، وعلى أساس نظرياتهم، وابتكاراتهم، ومنجزاتهم كانت النهضة الكبرى في القرن العشرين (الرابع عشر الهجري)؛ فهم وحدهم آباء هذا العلم كما كانوا آباء غيره من العلوم في العصر الحديث. ونذكر منهم: أبو بكر محمد بن زكريا بن نصر بن إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد الرازي دبر مشفى الري ثم مشفى بغداد زمانًا، وكان في ابتداء أمره يضرب العود ويغني ثم نزع عن ذلك، وأكب على النظر في الطب والفلسفة فبرع فيهما براعة المتقدمين، وألف في الطب كتبًا كثيرة بديعة. ويقول جرجي زيدان: "وكان أكثر مقام الرازي في الري وغيرها من بلاد العجم وخدم بصناعته الأكابر من ملوكها وأمرائها وصنف بعض كتبه لهم". يقول خليل باز: "جاء أبو بكر الرازي فعلَّم العالَم التفكير المطلق، والنظر الحر فرسالته في الجدري والحصبة - وفيها وصف لهذين المرضين وتعريف بأعراضهما ومعالجتهما وطرق الوقاية منهما - بقيت المرجع الأول والأخير في أوروبا حتى القرن الثامن عشر". وتقول زيغريد هونكه: "امتاز الرازي بمعارف طبية شاملة لم يعرفها أحد قط منذ أيام جالينوس". ويقول مصطفى الرافعي: "ولم ينقطع أطباء جامعة مونبلييه عن شرح نظرياته وتعليم كتبه إلا منذ أقل من قرن". وهو في نظر مؤرخي الطب أعظم حكيم عربي. وكان الرازي: يزور بيوت البائسين بنفسه ويفتقد المرضى بفحص وتسآلِ ويأتيهم بالمال والعلم مسعدًا لتطبيب أوجاع وتأمين أوجالِ وما كان يقنو المال إلا لبذله لتعليم علم أو لإعطاء سؤالِ ومن أقواله: الأطباء الأمِّيون والمقلدون والأحداث الذين لا تجربة لهم ومن قلت عنايته وكثرت شهواته قتَّالون. الاستكثار من قراءة كتب الحكماء والإشراف على أسرارهم نافع لكل حكيم عظيم الخطر. ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدًا بالصحة، ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس. ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء فخطؤه في جنب صوابه يسير جدًّا. من تطبَّب عند كثير من الأطباء، يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم. وكان الرازي يعرف أثر الوهم في علاج المرضى. ويقول ألدو ميلي: "ولم يكن الرازي طبيبًا عظيمًا فقط بل كان كذلك كيميائيًّا ذا مقام جد رفيع، وعالمًا طبيعيًّا، وجماعًا للعلم كما كان عليه علماء ذلك الزمان". وأُصيب الرازي في أواخر أيامه بالماء الأزرق أو الساد فجاءه قداح ليقدح عينه، فسأله الرازي: كم طبقة للعين؟ فقال: لا أعلم، فقال: خير لي أن أبقى كفيفًا من أن يقدح عيني جاهل وصرفه. تم بعونه تعالى.
إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه رؤية تحليلية جديدة قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ترويها كُتب السيرة تطرح الكثير من التساؤلات وتثير الكثير من غبار الحديث، ولا تقدم صورة منطقية لسبب إسلام عمر، ولا تجيبب عما يجيش في عقل القارئ من علامات استفهام، ومن ثَمَّ فهي بحاجة إلى أن تُفهم بعد تحليلها وتعليلها لتتجلى حقيقة هذا الحدث الرائع في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتقدم إجابة شافية على تساؤلات واستفهامات القارئ للسيرة العطرة، وعليه ومن خلال تحليل ونقد ومقارنة هذه النصوص نستطيع أن نرسم صورة واضحة المعالم لقصة إسلام عمر، فإسلامه كان له مقدمات، ثم أسباب، ثم نتائج، وبهذه الثلاثية نجمل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصورة صادقة. أولًا: مقدمات إسلام عمر: لا يُتصور أن إسلام عمر بن الخطاب تم هكذا بشكل مفاجئ دون مقدمات، فشخصية عمر التي عرفناها واضحة بعد إسلامه ومن خلال تاريخه الحافل تشي بأنه يعقل الأمور جيدًا، ولا يتخذ قرارًا إلا بعد تفكير عميق وقناعة تجعله يأخذ القرار بفكره، ثم يمضيه ويدافع عنه بقوته الروحية والجسدية، فلا يقف أمامه شيء، وهذا ما عهدناه من عمر، ومن ثَمَّ فإن إسلامه جاء نتيجة تفكر عميق، بدأ بصراع نفسي شديد انتاب عمر، شوَّش على موقفه من المسلمين آنذاك، فتراه يقسو على الضعفاء منهم ويشارك في تعذيبهم، ثم تراه آسِفًا لتركهم بلدهم وهجرتهم للحبشة، فقد روت (ليلى) إحدى المهاجرات وهى: أم عبدالله بن عامر بن ربيعة ما نصه: "والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليَّ وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذًى لنا وشدةً علينا، قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجًا، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى – خروجنا، قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله، لو رأيت عمر آنفًا ورقته وحزنه علينا، قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب، قالت: يأسًا منه؛ لِما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام" [1] . وهذا النص الرقيق الذي أسنده ابن إسحاق يفصح عما أريد أن أقصه عليكم، فعمر العاقل اللبيب لا يفوته خير مثل ما جاء به هذا الدين الحنيف، فهو - لا شك - كان في حالة تفكير عميق في أمر الإسلام قبل أن يُعلن إسلامه، فهو يرى أولي الألباب مثل عثمان بن عفان، والصديق أبي بكر، وحمزة بن عبدالمطلب وغيرهم يراهم يُقبلون على الإسلام ويتحمسون له، فيثير هذا في نفسه التساؤلات حول هذا الدين الجديد، ثم هو يرى بعينه أهل له وجيران يهاجرون بدينهم لله عز وجل، فتأخذه الرأفة بهم، ويُخرِج ما في قلبه من رحمة عارمة؛ فتغطي على قسوته وغلظته الظاهرة، فإذا به يتعاطف مع المسلمين، وفي الحقيقة هو يتعاطف مع الدين الجديد الذي ينوي اعتناقه، لدرجة أن المهاجرة (ليلى) استشعرت هذا المعنى، ورجته، وقالته لزوجها، الذي استبعد هذا وقال عبارته المشهورة: "فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب"، وفاتَهُ أن الله غالب، وأن الأيام حبلى بكل خير تسوقه أمام صبر ويقين المسلمين. إذًا: نستطيع القول أن موقف عمر من المهاجرين الأولين للحبشة كان يشير إلى أن عمر بن الخطاب كان قريبًا جدًّا من الإسلام، وأن الإسلام كان يشغل حيزًا كبيرًا من تفكيره، وإن لم يكن قد حسم الأمر بعد. ثانيًا: سبب إسلام عمر: كان عمر بن الخطاب -كما رأينا - في صراع شديد مع نفسه، فهو متردد بين ما هو عليه وبين ذلك الدين الجديد الذي يشرق بين عينيه، والنصوص لا تفصح عن هذا صراحة؛ إذ إنها تصف ما حدث، ولكنها لا تستطيع الغوص في أعماق عمر كيفما نحاول الآن، فهي - مثلًا - تذكر أن عمر علم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع مع عدد من أصحابه في بيت عند الص فا، وتحدد النصوص هذا العدد بأنه قريب من الأربعين ما بين نساء ورجال، وتقول: إن عمر خرج متوشحًا سيفه يريد قتل محمد [2] ، وإذا حاولنا أن نفهم هذا، عجزنا منطقيًّا عن فهم ما لا يُفهم، فمن المستحيل أن يقرر عمر بن الخطاب وهو فرد وحيد أن يذهب لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صحابته ومحبيه الذين هم أضعافه قوة وعدد، ولا ننسى أن فيهم حمزة، ومن ثَمَّ، فالأقرب للمنطق - وبناء على الرؤية التي قدمناها آنفًا - أن عمر ذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه في مكانهم الذي يتعلمون فيه ويفقهون دينهم كنوع من أنواع الاحتكاك بهم؛ عسى أن تُجلَّى أمامه الحقائق وتزول شكوكه بكلمة يسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو آية تتلى على مسامعه، فالرجل مشوَّش الفكر، داخله صراع نفسي شديد يدفعه دفعًا إلى هذا الاحتكاك الذي قد يجد فيه خلاصَهُ. إذًا: ذهب عمر يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يبدو من ظاهر النصوص، بل وعلى ما يبدو من قول عمر نفسه حينما لاقاه رجل مسلم يخفى إيمانه؛ وهو "نُعيم بن عبد الله النَّحَّام"، الذي سأل عمر: أين تريد يا عمر؟ فقال: أُريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسَفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها، فأقتله [3] ، وعلى الرغم مما يقوله النص، وعلى الرغم من تصريح عمر بلسانه أنه ذاهب لقتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الحقيقة الغائبة - والتي أجلاها نص تعاطف عمر مع المهاجرين للحبشة - أن عمر لم يذهب لهذا الذي بدا على هيئته أو قاله بلسانه، وإنما هو يريد أن يضع حدًّا لذلك الذي يدور في عقله ويحسم الأمر بلقاء مباشر وحاسم مع الجماعة المسلمة الأولى المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. لما لم يتبين من عمر لنُعيم إلا الشر، أراد نُعيم أن يثنيَ عمر عن عزمه، وخوفه من مغبة ما يريد أن يقدم عليه، وأرشده أن يذهب لتقويم بيته أولًا، وأنبأه أن أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو قد أسلما، ونُعيم بذلك يريد أن يحول طريق عمر من الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم للذهاب لبيت أخته؛ فلربما تكون العواقب أقل خطر بالمسلمين، وبالفعل ذهب عمر مسرعًا لبيت أخته، وهناك كان الصحابي الجليل خباب بن الأَرت رضي الله عنه يعلمهما القرآن ويقرأ عليهما شيئًا من سورة "طه"، وقد استمع عمر لشيء منها، قبل أن يختبأ خباب لما أحس بعمر، وهنا يدخل عمر ويسأل عن هذه الهينمة [4] التي سمعها عند اقترابه من البيت، فقالت فاطمة وزوجها: ما سمعت شيئًا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجَّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك [5] . وهنا وكأن ساعة الحسم التي كان يريدها عمر بتوجهه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد آنت وهو هنا في بيت أخته فاطمة، فشجاعتها وصدق إيمانها أوقفاها شامخة أمام بطش أخيها عمر؛ فأعلنت وزوجها إسلامهما دونما تردد أو خوف، وقالا لعمر: اصنع ما بدا لك، وكان هذا الموقف النبيل سببًا في ترجيح كفة الحق لدى عمر، وكأنه هو ما كان يبحث عنه عمر لإخراجه من حالة التشوش لنور الحق والحق فقط. رأى عمر الدم يسيل من وجه أخته، ورأى قبل هذا شجاعة امرأة مسلمة صاغها الإيمان فزيَّنها بجمال الفطرة النقية بغير تكلف؛ فأخذه شيء من الرأفة وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفًا؛ أنْظُرْ ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها: طه فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر، فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم [6] . وهذا الانقلاب المفاجئ من عمر ليس بمفاجئ عندي، فإن المقدمات التي ألمحت إليها آنفًا كانت تسوق عمر إلى هذه النتيجة الحتمية اللائقة برجل عاقل لبيب كعمر بن الخطاب، الذي فكر في أمر الإسلام سابقًا، واقترب منه، وبدا هذا في حديثه مع المهاجرة السيدة ليلى أم عبد الله بنت أبي حَثْمة. وعمر كان بعد هذا بحاجة إلى حدث يزلزله من داخله ويهديه للحق، فجاء هذا الحدث متمثلًا في صمود أخته فاطمة، وما فتح الله على عمر من انشراح الصدر حينما قرأ شيئًا من "طه"، فسُببت الأسباب بأمر الله حتى يُسلم عمر بن الخطاب لله عز وجل، فقد ذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، الذي سر رسول الله كثيرًا. وكان إسلام عمر بعد خروج مَن خرج مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة. ثالثًا: نتائج إسلام عمر: يقول الصحابي عبدالله بن مسعود: "ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة، حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة، وصلينا معه" [7] ، وهذا يعني التمكين لجماعة المسلمين الأولى، ويعني فُرجة تُسري عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وتعني ازيادًا في أعداد المقبلين على الإسلام نتيجة صلاة المسلمين عند الكعبة، لذلك لم يكن ابن مسعود رضي الله عنه متجاوزًا للحق أو مبالغًا حينما قال: "إن إسلام عمر كان فتحًا" [8] . وتأسيسًا على ما تقدم، نستطيع القول: إن إسلام عمر بن الخطاب مثل مرحلة جديدة في عمر الدعوة الإسلامية، وما أجمل أن نختتم هذا المبحث بوصف ابن إسحاق لحال المسلمين على أثر إسلام عمر إذ يقول: "فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم" [9] . وفي الختام أحب أن أنوه إلى أن هذه الرواية التي قمت بتحليلها والإفادة منها في عرض قصة إسلام عمر رضي الله عنه هي رواية أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم والتي تتميز بالأصالة. [1] ابن هشام، السيرة النبوية، ح: 1، ص: 355، وقارن: ابن إسحاق، السيرة النبوية، ح: 1، ص: 220. [2] ابن هشام: السيرة النبوية، ح: 1، ص: 355. [3] نفسه، ص: 356. [4] الهَيْنَمَةُ: الصَّوْتُ الخَفِيُّ؛ (القاموس المحيط). [5] ابن هشام، ح: 1، ص: 356. [6] نفسه، ص: 356، 357. [7] نفسه، ص: 354. [8] نفسه. [9] نفسه، ص: 357.
أُقدِم أم أُحجِم؟ في المجلس الخاص: بأثاثه البسيط وكنبه المريح، تُزنيه بعض اللوحات المتنوعة، وفي جانبيه مكتبة تضم الكثير من الكتب. جلس الشيخ ومعه خاصة طلابه الثلاثة، بدأ الحديث: • لقد تعلمنا من هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم الشورى، وقد جمعتكم اليوم واخترتكم، لمشاورتكم في أمر مهم وحيوي بالنسبة لي. • لعله خير، تفضل يا شيخ. • في اليومين الماضيين اتصلت عليَّ المؤسسة الإعلامية أكثر من مرة، يرغبون مني معاودة تسجيل وبث بعض برامجي على مختلف المستويات: المقروء والمسموع والمرئي. • رعد: أليسوا هم الذين أوقفوا برامجك قبل سنة فجأة بلا إخبار ولا اعتذار ودون بيان الأسباب، وكُنتَ معهم لأكثر من عشرين عامًا؟ • نعم، اعتذروا عن الفترة السابقة. • حمد: وما الذي تستشيرونا فيه؟ • هل أقبل وأُقدم، أم أرفض وأُحجم؟ • هادي: بل تقبل يا شيخ بلا تردد، فهي فرصة لإيصال الحقِّ للملايين دون جهد أو تعب، فجمهورهم يكاد يغطي أكثر البلاد وخارج البلاد بكثير. • رعد: على رسلك، وهل نسيت المنكرات والفواحش التي ينشروها عبر نفس الوسائل، كم من العباد قد أضلوا بالشهوات والشبهات، ما يُقدِّمه شيخنا كضوء شمعة في مدينة تعج بظلام دامس! • لكن لا دخل للشيخ بكل ذلك، فقد كان منبرَ خيرٍ وايصالَ حقٍ فبدل أن يكون ظلام دامس بلا ضوء كانت فيه شمعة للمهتدين. • وهل الشيخ لعبة يتحكمون فيها، يسمحون ويمنعون وبدون سببٍ يذكرون! • حمد: هل حددوا لك شيئًا، يا شيخ أم لك أن تتحدث بما شئت؟ • الشيخ: لم يذكروا أُطرًا معينة، لكن بلا شك لن أستطيع أن أتكلم بكل ما أريد، خاصة ما يتعلق بمنكراتهم. • رعد: يعني يريدونك أن تُفصل ما تقول على ما يريدون لا على ما يرضي ربَّ العالمين، وهذا عين التبعيض، بحيث يصبح الحق مشوهًا ومائلا إلى جهتهم، سمعت يا هادي. • نعم، وليس هذا بجديد، فالمؤمن يتحرك وفق المُستطاع فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. • رعد: وهل من وسعها كتمان الحق والسكوت عن المنكر لسنوات عدة، ثم ماذا سيقول الناس عن الشيخ؟ • حمد: شيخنا، لقد سمعنا منك لسنوات ماضية أنك كنت تنصحهم سرًّا عن المنكرات وأنت مستمر معهم، فهل تغير شيء من ذلك؟ • الشيخ: لم يغيروا شيئًا حتى هذه اللحظة، بل على العكس استمرؤوا المنكرات ووضعوا لها أسسًا، وحاربوا أهل الفضيلة، ويقيني أنهم سيستمرون في ذلك. • رعد: هل نسيتم الشيخ محمود الذي شوهوا صورته وافتروا عليه لإنكاره عليهم ورفضه التعامل معهم، وغيره كثير، ولا أستبعد أن يعملوا الأمر نفسه معك إن رفضت. • هادي: إن لم تَقبل أنت، سيبحثون عن غيرك وينصبونه قدوة للناس، وأظنكم عرفتم مَن أعني. • حمد: ليكن، فشيخنا ليس مقصده أن يكون قدوة، ولا لحظوظ النفس وحب الشهرة وإنما تبليغ الحق ونصرته. • هادي: إنها ثغرة مهمة وبابُ تبليغ، إن لم يتقدم لها الشيخ سندفع الثمن غاليًا في المستقبل. • رعد: بل نصرةً لهم على بغيهم ومحاربتهم للدين، لقد دفعنا ثمن سكوتنا لفترة طويلة، وأظن تجربة الشيخ خير برهان، أكثر من عشرين سنة والشيخ ينصح سرًّا وبلا جدوى، ماذا ننتظر حتى يتغير المنكر. • حمد، يا شيخ هل لكَ حدودًا معينة بحيث بعدها ترفض التعامل معهم. • الشيخ: ماذا تعني؟ • أعني أنك أنكرت عليهم لسنوات ماضية بطريقة النصيحة سرًّا، وقبلتَ التعامل معهم على أمل التغيير وعلى مضضٍ منك، فإلى متى تستمر سلسلة التنازلات والقبول وتضييق المسموح وزيادة المحجوب، ما القضية (المفصلية) التي عندها سترفض التعامل معهم طالما هم على غيهم. • الشيخ: لم أفكر في هذا. • رعد: يا شيخ هل سألت نفسك: لماذا أنت بالذات دون غيرك؟ أظنه لشهرتك ومحبة الناس لك فهم يستغلون ذلك لبث سمومهم من خلالك، فيستشهدون بوجودك معهم على صحة منهجهم. • هادي: لا دخل للشيخ بذلك، الشيخ يقول كلمته ولا يسمع ولا يرى منكراتهم. • حمد: لكن الناس يرون ذلك. • رعد: على الأقل نصرة لإخوانك العلماء الذين شوهوا سمعتهم، وكم حدثتنا عن نصرة الحق بالأفعال لا بالأقوال فقط، وكما قُلتَ أنت: القدوة العملية أوقع ألف مرة من القدوة القولية. • هادي: نصرتهم بالدعاء لهم ونصحهم بالسير على طريقة شيخنا. • حمد: وهل حققت طريقة شيخنا المرجو من تغيير المنكرات أو تقليلها، عذرًا يا شيخ! • هادي: وما أدراك ربما لوجود شيخنا منع سيل المنكرات وقلَّل من انجرافه. • رعد: ربما، لكن بلا أدلة. • هادي: الرفض يعني منع وصول الحق لكثيرٍ من الناس. • حمد: ما يقوله شيخنا يمكن أن يقوله غيره طالما هو في دائرة المسموح، أما صوت شيخنا فيمكن وصوله عبر وسائل أخرى عبر النت ووسائل التواصل الاجتماعي. • هادي: لكنها لن تكون مثل قدرة تلك المؤسسة ولا بعدد جمهورها. • رعد: الناس أقسام، والأكثر يتقبل ويتعامل مع ما يُقدَّم لهم، والقلة التي تريد علم الشيخ ستبحث وتصل إليه بسهولة. • حمد: شيخنا هل تسمح بسؤال؟ • تفضل. • حمد: ما أعرفه أن هذه المؤسسة قديمة، وقد مر عليها عدد من المشايخ والعلماء بمختلف الأشكال. • صحيح، ثم .. • هل كان لهم دور في تغيير منكرات المؤسسة أو تقليلها؟ • الشيخ: لا أستطيع الإجابة بالضبط، لكن المؤكد أن المنكرات تزداد مع الزمن، وحين كنا نناقش مشايخنا يقولون ننصح سرًا، ولا أدري ما ثمرة تلك النصائح؟ بالتأكيد لم توقِف عجلة المنكرات، لكن هل قللّت من سرعة انحدارها؟ الله أعلم. • حمد: والمؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرتين، لسنوات وأنتم تنصحون سرًّا، لكن بلا نتيجة تُذكر، أليس من الفِطنة تغيير الطريقة؟ ويستمر • حمد: أظن يا شيخ أنه لا بد لك من مدحهم أحيانًا، أو السكوت عن منكراتهم، خاصة في مناسباتهم واحتفالاتهم، فأقلها ستوافقهم سكوتًا، فلن يسمحوا لك بتعكير جوهم؟ • الشيخ (وقد بدى عليه الحزن وتمعير الوجه) : قد حصل من قبل ولم أفعل سوى السكوت، بل يطالبونني أحيانًا بالإطراء عن بعض إنجازاتهم وخاصة الدينية منها كتحفيظ القرآن ومساعدة الأيتام، وهذا حق، لكنهم لم و لن يسمحوا بظهور اللوحة كاملة، وكنت أتعبُ كثيرًا من ذلك، وأسأل الله العفو والتوبة، لشعوري بالجور والظلم وترك العدل. • هادي: لقد أتعبت الشيخ وحملته ما لا ذنب له فيه. • الشيخ: على العكس فواجب أهل العلم بيان الحق كاملًا للناس دون تحريفٍ أو تبديلٍ أو كتمان، ولذا طلبتكم لمعرفتي بحرصكم واخلاصكم. • هادي: لكن يا شيخ كان لكم دورًا في بيان الحق وتقليل الباطل، وصناعة الرموز والقدوات. • رعد: ربما قدوات وِفق مقاييسهم أو صورًا ناقصة، وكم من القدوات السيئة قد صنعوا وكم من ساقطٍ قد مجَّدوا؟ • حمد: أظن يا شيخ أن هذا أنسب وقت ليعرف الناس تلك المؤسسة على حقيقتها وبدون مكياج كما قال تعالى: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]. • هادي: أظننا أثقلنا على الشيخ، لندعه يستخير ويقرر، لكن تذكر يا شيخ موقفك أمام الله يسألك عن تلك الفرصة في تبليغ الحق، ينهض هادي. • رعد: واستحضر معه سؤال الله لكَ عن كتمان الحق واستمرار المنكر وزيادته مع وجودكَ في دائرته، ونهض رعد. • حمد: شيخنا أنت قدوتنا ونحن بك ومعك، ولتضع طلابك ومحبيك في اتخاذ قرارك، ونهض حمد وخرج الثلاثة، وبقي الشيخ متحيرًا قلقًا وهو يردد: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]
التكامل المعرفي في الإسلام (التكامل بين الوحي والعقل أنموذجًا) بقدوم القرآن تفتَّحتْ أبواب الحياة على الإنسان، وشعر بكينونته التي فقدها لقرون، تحت شعار "المذهب الإنساني" الذي أقيم على مركزية الإنسان، والذي جعله مركزًا للكون، مما جعله يدور حول ذاته منقطعًا عن ربه وعن محيطه وجذوره؛ وبذلك وجد الإنسان نفسَه يتخبط في عبثية الوجود (العلواني، 1425، ص: 15) ، حتى جاء الإسلام واحتوى العالم بعدما غُمر بين براثن الظلام والجهل، فكان القرآن للإنسان كالنور الذي فتح آفاق عقله، ورحابَ روحه، وشتات نفسه. ففهم الإنسان به موقعه في هذا العالم، وحقَّ نفسه ومكانة الحياة من حوله، من خلال نظام معرفيٍّ إسلامي متكامل ظهرت معه حقيقةُ التكامل. نظر الإسلام إلى الإنسان نظرة شموليه تكاملية غطَّت جميع جوانبه واحتياجاته، فكان هذا القرآن تبيانًا لشتى عوالم الكون ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، تنوَّعت به آفاق المعارف، وتفتحت به وسائل الإدراك، وتبيَّنت به طرائق الفهم، ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20]، وقوله عز سبحانه: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 3، 4]. وتتميز المعرفة في الإسلام بأنها تكاملية، "ويُقصد بالتكامل أي التكامل في ثلاثة مستويات متلازمة، وهي: التكامل بين مصدرَي المعرفة: الوحي والوجود، التكامل بين أداتَي المعرفة، والتكامل بين المصادر والأدوات" (قاسمي، 2018، ص: 156) ، وبيَّن القرآن موقع الإنسان من المعرفة والحقيقة، ودوره في اكتساب هذه المعرفة، وموقع العقل والإدراك ووسائله، والطريقة الصحيحة لاكتساب المعارف، بتكامل معرفيٍّ يشمل عالم الغيب وعالم الشهادة، والتكامل بين مصادر المعرفة وأدواتها، وبين العلم والنظر، والوحي والعقل، بإبداع وتوزان، "فالقرآن الكريم يرينا الترابطَ والتفاعل بين الظاهرات الطبيعية المختلفة، وبينها كلها وبين الإنسان، وهذا إذا دلَّ على شيء فإنما يدل على أن فلسفة التربية الإسلامية فلسفةٌ مؤمنة توحيدية، تقوم على المواءمة بين العلم والدين، أو التوحيد والكون، من غير حدوث تناقض، أو نشوء اضطراب" (الدغيشي، 2017، ص: 152) . والناظر لآيات القرآن يرى أن آياته الكريمات تدور حول مبدأ الحقيقة، وأن الهدف من النظر في آفاق الكون والأنفس هو لتحقيق هذا المبدأ ووحدة المعرفة القائمة على مبدأ التوحيد، وقد جعل الفاروقي بابًا في كتابه التوحيد بوصفه مبدأ المعرفة، وأشار إليه بأنه "الإقرار بأن الله تعالى هو الحق، وأنه واحد أحد لا شريك له. ويستبطن هذا الإقرارُ وجوبَ رد أمر البتِّ في كل خلاف وفي كل شك إليه سبحانه وتعالى، فالتوحيد إقرار بأن الحقيقة قابلة لأن تُعرف، وأن بوسع الإنسان أن يصل إليها" (الفاروقي، 1435، ص: 99) . والتوحيد هو باب التكامل المعرفي في الإسلام باعتباره مبدأً لوحدة الحقيقة، وتعني "التفتح لقبول البينات الجديدة أو المخالفة، وهذا المبدأ يحمي المسلم من الحاجة إلى المذاهب الأخرى الليبرالية، والتطرف أو المحافظة المؤدية إلى التجمد والسكون، وهو يرتفع به إلى التواضع الفكري، وتفرض عليه النطق بعبارة "الله أعلم"؛ لأنه مقتنع بأن الحقيقة أكبر من أن يحيط بها الإنسان في أي وقت" (عكاشة، 1433، ص: 33) . فالتوحيد بتأكيده على وحدانية الله تعالى المطلقة، يؤكد على وحدة مصادر الحقيقة، فالله تعالى هو خالق الطبيعة التي يستقي الإنسان معرفته بها. فكل ما في الكون يدل بجلاء على أن الخالق واحد، ويدل على العلاقة بين الخليقة وخالقها، وعلى تدبيره الدائم للوجود، فوحدانية الله ووحدة الحقيقة أمران متلازمان؛ لكونهما وجهان لحقيقة واحدة (الفاروقي، 1435، ص: 100) ، وغياب التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة وحقيقة التوحيد ومعنى العبودية قد أحدث كثيرًا من الخرافات والجهالات والانحرافات الفكرية والعقدية، وأدى إلى مجهولية الحياة للإنسان، وبالتالي مجهولية مصادر المعرفة فيها. وتتضح أبعاد التكامل المعرفي في مصادر المعرفة في الإسلام والتي اتفق عليها العلماء بأن المصدر الأول فيها هو "الوحي"، الذي كشف للإنسان حقائق ما كان ليصل إليها بدونه، ثم "العقل" الذي يستطيع كشف أنواع من الحقائق، و"الحس" الذي يهيئ للعقل مادة المعرفة، عن طريق المدركات الحسية (الزنيدي، 1412، ص: 96) . "إن اعتبار الوحي الإلهي المصدر الأصل من مصادر المعرفة لا يلغي دور العقل الإنساني، ولا يعطل دور الإدراك البشري، كما أن وجود الكون لا يلغي دور العقل، بل يفتح أمامه أبوابًا للمعرفة" (العلواني، 1425، ص: 72) ، "فالوحي هو المنسق والمرشد والهادي بإشاراته المتكررة إلى الموجودات والهيئات والأشكال والأبعاد والحركات في طبيعة الوجود، والعقل بأدواته ينساق إلى تلك الإشارات، ويهتدي بها وفق التنسيق الذي وجد له في طبيعتيهما، فالوحي يرشد العقل ويهديه إلى المباشرة والبحث عن حقائق الموجودات والتزود من معانيها المعرفية. فوحي القرآن هو الوحي الذي نسق بين وحي الطبيعة وعقل الإنسان، والعلاقة بينهم علاقة دورية تكمن في التكامل الحقيقي المتلازم في إتمام المهام على وجه الدقة والترتيب" (محمود، 2016، ص: 156) ، وقد قيل: "‌لولا ‌الكتاب ‌لأصبح ‌العقل حائرًا، ولولا العقل لم يُنتفع بالكتاب" (الأصفهاني، 1428، ص: 142) . وفائدة إرشاد الوحي وتوجيهه يوفر للعقل أمرين: الأول: أنه يحفظه من التوجه الخاطئ إلى خيالات وموضوعات لا وجود لها في عالم الخلق؛ لأن العقل لا يستطيع الوصول إلى معرفة في غير مادة موجودة. والثاني: أن إرشاد الوحي يحفظ العقل يقظًا إلى الهدف من البحث والمعرفة، وهو معرفة الله وعبادته لا التجبر والعلو في الأرض، ولأن مصدر المعرفة هو الله فلا يدَّعيها ويدخله العجب والطغيان. (الكيلاني، 1407، ص: 255-256) . وقد اهتم القرآن بالعقل واتبع المنهج الاستدلالي العقلي؛ كونه وسيلة الفهم والإدراك والوصول للمعرفة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8]، إن "الدليل العقلي هو مستوى أرفع من المشاعر الحسية في سبل المعرفة والإدراك، فالعقل ليس مادة حتى يدرك بالحواس والمشاعر.. وكذلك الموت والحياة، فبدون الدليل العقلي لا يمكن مناظرة أصحاب المقولات الفلسفية المخالفين للإسلام" (عمارة، 2008، ص: 24) . وظهر في النظريات الحديثة من يفرِّق بين العقل والوحي، أو العلم والإيمان، في محاولة لفكِّ التلازم والترابط بينهما، إلا أن منهج الإسلام أثبت زيف معتقداتهم، وأن العلم وحده لا يكفي؛ إذ لا يكتمل إلا بالإيمان، وأن التعارض أو التضاد بين العقل والوحي قد يقع في ذهن الإنسان، كما أشار إلى ذلك النجار فذكر أن " التعارض بين النقل والعقل قد يقع حين يقع في ذهن الإنسان وعقله؛ لنقص في استيعابه أو غفلة عن جانب، أو نقص في الوسائل والأدوات، واستكمال ذلك من شأنه أن يزيل التعارض الموهوم أو المفترض. وأيًّا كان فإن النص يبقى هو المرجع والأساس، ولا بد من حسنِ فهمه على ضوء الواقع الزماني والمكاني، والإطار اللغوي، وسائر أدوات ووسائل فهم النصوص" (النجار، 1413، ص: 19 -20) . وقد ذكر الفاروقي أيضًا أنه قد يتعارض الوحي مع العقل؛ أي: مع نتائج التمحيص العقلي والإدراك المعرفي العقلاني، وفي مثل هذه الحالة يعلن الإسلام أن التعارض ليس نهائيًّا، ويوجه الفاحص إلى واحد من ثلاثة خيارات: مراجعة فهمه للوحي، أو مراجعة النتائج العقلية التي توصل إليها، أو القيام بهاتين العمليتين معًا. فالتوحيد بوصفه مبدأ لوحدة الحقِّ ينفي اعتبار التعارض نهائيًّا، ويطالبنا بالتفكير مرة أخرى في المقولات التي تبدو متعارضة، منطلقًا من التسليم بحتمية وجود بُعْد لم يضعه الفاحصُ في اعتباره، وإذا وضعه في اعتباره سيزول التعارض المتصور. (الفاروقي،1435، ص: 101) . "ومثل هذه الإحالة إلى العقل أو إلى الفهم لا تتعلَّق من قريب أو بعيد بتحقيق انسجامِ الوحي ذاته، بل بتحقيق انسجام تفسيرنا أو فهمنا البشريِّ له، فالوحيُ أسمى من أن يعبث به الإنسان، كل ما في الأمر أن تلك المراجعة تجعل فهمَنا للوحي متمشيًا مع الدليل المتراكم الذي كشف عنه العقل، وعلامة عقلانية المسلم أنه يصر على وحدة مصدرَي الحقيقة: الوحي والعقل". (المرجع السابق، ص: 102) . لقد تفرَّد المنهج الإسلاميُّ بهذه النظرة المتوازنة، التي جعلت النقل يخاطب العقل ويرتاد له المواطنَ التي لا يحسن ارتيادها ولا يملك أدواتها من عالم الغيب الفسيح، وجعلت العقلَ يَعقِلُ النقلَ ويفهمه ويستدل به ويرتاد له أفضلَ سبل التطبيق على الواقع، فلا أحد منهما يمكن أن يكون بديلًا للآخر، وكل منهما من عند الله عز وجل؛ فالنقلُ هبة الله تعالى للبشرية؛ ليهديها سبلها، ويُخرِجَها من الظلمات إلى النور، والعقلُ هو الطاقة المستقبلية للوحي القادرة على تلقِّيه وفهمه، والاستفادة به وتنزيله على الواقع. (العلواني، 1425، ص: 76) . ومما سبق يتضح أن التكامل المعرفيَّ قائمٌ على مبدأ الحقيقة ومبدأ الوحدانية، ومن أبرز مظاهر التكامل المعرفي في الإسلام التكاملُ بين مصادره، ومن أبرزها الوحي والعقل؛ فالوحي يسلِّح المؤمن بمبادئ العقل في ميادين المعرفة، ويوجِّه العقل لتحقيق الغاية من المعرفة. وهذا التكامل بين آيات الوحيِ وآفاق الكون والأنفُس صفةٌ تتميز بها المعرفةُ الإسلامية، ولتحقيق هذا التكامل المعرفيِّ يتطلب التسلح الكامل بالقرآن الكريم وجعله مرجع المعرفة، والنظر والتدبر في آفاق الكون والأنفس حتى يصل للرسوخ في العلم والتعمق في الفهم، وكلُّ ذلك يصب في حقيقة التوحيد بشقَّيه الألوهية والربوبية، فيقوم الإنسان بتحقيق الأمانة والاستخلاف على أكمل وجه. والحمد لله رب العالمين المراجع: الأصفهاني، الحسين بن محمد (1428) : الذريعة إلى مكارم الشريعة. القاهرة: دار السلام. الدغيشي، أحمد (2016) : نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية. الأردن: مركز الكتاب الأكاديمي. الزنيدي، عبدالرحمن (1412) : مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي. دراسة نقدية في ضوء الإسلام. الرياض: مكتبة المؤيد. عكاشة، رائد جميل (1433) : التكامل المعرفي أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. لبنان العلواني، طه جابر (1425) : نحو منهجية معرفية قرآنية. بيروت: دار الهادي. الفاروقي، إسماعيل (1435) : التوحيد مضامينه على الفكر والحياة. ترجمة: السيد عمر. مدارات للأبحاث والنشر. مصر. قاسمي، عمار (2018) : التكامل المعرفي- مقاربة مفاهيمية. مجلة آفاق علمية. م10، ع1. (ص.ص.141 – 171) الكيلاني، ماجد (1407) : فلسفة التربية الإسلامية دراسة مقارنة بين فلسفة التربية الإسلامية والفلسفات التربوية المعاصرة. مكة المكرمة: مكتبة المنارة. محمود، رواد (2016) : عقل الإنسان بين وحي الطبيعة والقرآن. مجلة إسلامية المعرفة. ج 2، ع 2 . (ص. ص: 149 - 177) . النجار، عبدالمجيد (1413) : خلافة الإنسان بين الوحي والعقل بحث في جدلية النص والواقع. الولايات المتحدة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
تأرجح مفهوم الاقتصاد الإسلامي بين رجال مدرستي الفقه والاقتصاد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فبالرغم من حاجة علم الاقتصاد إلى علم الفقه، والعكس كذلك، ومع وجود المشتركات الجامعة بينهما، فإن مواطن الاختلاف بينهما كثيرة ولا تُنكَر! فلكل علمٍ منهما منهجُه وطريقه ومصادره، ودعوى الجمع بينهما ليس بالأمر الهين، إلا ممن يسَّر الله تعالى عليه ذلك، فاستطاع الجمع بينهما، من خلال الدراسة الجامعية الأكاديمية المنهجية المتدرجة، التي تبتدأ بمرحلة البكالوريوس ولا تنتهي بالدكتوراه؛ وإنما تمتد إلى آخر الحياة، كلًّا على حده! أما الدورات والدبلومات والورش التي تُعقَد لأيام وربما لسويعات، والتي تجمع في عنوانها بين علمين وربما أكثر، وتقدِّم الشهادات وتمنح التسميات الضخمة والألقاب الفخمة، والتي زادت في أيامنا هذه وقت الجائحة، فأصبحت تُعقَد على بُعد، وتوزع الشهادات وتمنح الدرجات عبر الأثير، وهذا لا ضير فيه، ولا اعتراض عليه، إن كان يتم وفق الضوابط والأصول المعمول بها، وليس لعدِّ الساعات وجمع الشهادات ونشرها والمفاخرة بها! فهذه الجهات المانحة نفسُها بحاجة إلى تقويم وتمحيص للقائمين والمشرفين عليها أنفسِهم! ومن هنا أوجِّه الدعوة لنفسي أولًا ولإخواني الأعزاء أن نركِّز على التخصص الأصيل ونتعاهده وننمِّيه؛ إن كان ( فقهًا) أو ( اقتصادًا) ، ونحترمه من خلال استيعابه والتركيز عليه، ثم يتم الشروع بعد ذلك من باب الاستئناس بالآخر، فليس كل من قرأ كتابًا أو كتابين أو عشرة من غير تخصصه، نُسب إليه! إن لم يسلكه في طريقه المتدرج المعتاد. ومن الحكمة ألا ندعي ما ليس نحن أهله، (فالمتشبع بما لم يُعطَ، كلابسِ ثوبَي زورٍ) كما جاء في الحديث الصحيح. وما أجمل انتساب طالب الشريعة إلى مدرسة الفقه؛ التي يتشرف بها كلُّ من ينسب إلى إحدى المدارس الفقهية الثرية، وعلى رأسها مدارس المذاهب الفقهية المعتمدة الأربعة، زيادة على بقية الفقهاء الآخرين الذين تجاوز عددهم المائة فقيه مجتهد مشهور؛ ويشار إليهم إلى يومنا بالبنان على مدار القرون المنصرمة، إلا أن طلابهم ومدارسهم لم تستمر كمدرسة الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل (رحمهم الله تعالى أجمعين) . وكيف برع جيل من الفقهاء بشكل بارز في مسائل التجارة والبيوع وقضايا إدارة المال الخاص والعام في علم الاقتصاد، فكانوا النواة الأولى لمشروع الفقهاء الاقتصاديين؛ أمثال القاضي أبي يوسف وكتابه ( الخراج) شاهد حاضر إلى يومنا، الذي شاركه في عنوانه نفسه ( الخراج) أكثر من ثلاثين عالمًا؛ كلهم ألَّفوا مثل عنوانه تمامًا كتاب ( الخراج) أيضًا، إلا أن الله ( عز وجل) كتب القَبول -فيما يبدو- لكتابه من دون البقية، وكذلك الحال مع أبي عُبيدٍ القاسم بن سلَّام في كتابه ( الأموال) الذي صنَّف غيره مثل عنوانه أيضًا كابن زنجويه، ثم أحمد بن نصر الداودي وغيرهما، إلا أن شهرة كتاب أبي عُبيد قد بلغت الآفاق، وهكذا الحال مع الماوردي وأبي يعلى في ( الأحكام السلطانية) ، وغيرهم الكثير .. وفي المقابل، نلمح في عصرنا الحاضر من درس علم الاقتصاد الوضعي بإحدى مدرستيه التقليديتين المعروفتين، وتدرَّج فيه، ثم أخذ يكتب ويدرِّس الاقتصاد الإسلامي، من باب الاعتزاز بدينه والفخر بالانتساب إلى تعاليم شريعته، ولا شك أنه مأجور حسب نيته، مشكور حسب مقصده. ولكنه بالرغم من هذا كله يبقى في الأصل ابن مدرسة الاقتصاد الوضعي، الذي ربما بحث جزئية عابرة أو أعدَّ بحثًا أو كتب مقالًا في الاقتصاد الإسلامي في مسيرته العلمية الطويلة التي بُنيت على مدرسة الاقتصاد الوضعي؛ وعليه فلا يصح له أن ينسُب نفسَه إلى مدرسة الفقه؛ وإنْ كتَب أو ألَّف أو أعَدَّ في جوانبَ منه! كما ينبغي عليه عندما تلقى عليه ألقاب مثل الفقيه أو المفكر الإسلامي أو المجتهد وما على شاكلتها - أن يردَّها عن نفسه ولا يسمح بها؛ لأن هذا خلط وتدليس، والأدهى من ذلك حينما يتبنى ذلك هو بنفسه؛ ليعرِّفنا هو بنفسه في كتبه وصفحات التواصل الاجتماعي؛ بتبني تلك الألقاب التي كان يفرُّ منها الفقهاء الأوائل، ولا يرون لأنفسهم فضلًا على غيرهم. وختامًا؛ فرحم الله من عرَف قدر نفسه ولزمها. والله الموفِّق والمعين.
الوسائل العشر للوقاية من الأمراض الخطبة الأولى أما بعد: فإن البشرية منذ ما يقرُب من عام خائفةٌ واجفة، أبصارها خاشعة، فقد عمَّ الخوف والقلق أرجاءَ الكرة الأرضية، وشُلَّتْ حركة العالم أشهرًا عديدة، وسيطر الخوف من ذلك الفيروس على القلوب والعقول، فكيف يقي الإنسان منا نفسَه وأهل بيته ومجتمعه من تلك الأمراض؟ أعيروني القلوبَ والأسماع أيها الأحباب. نعمة الصحة والعافية: إخوة الإسلام: إن من أجَلِّ النِّعم وأعظمِها نعمةَ الصحة والعافية، ولأنها بهذا الشأن؛ فقد جاء عن سلمة بن عبيدالله بن مِحْصَنٍ الأنصاري، عن أبيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم معافًى في جسده، آمنًا في سِرْبِه، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا بحذافيرها) ) [1] . قال الشاعر: ثلاثةٌ يُجهَلُ مِقدارُها الأمنُ والصحةُ والقُوتُ فلا تَثِقْ بالمالِ مِن غيرِها لو أنه دُرٌّ وياقوتُ والصحة أيها الأحباب مؤهلٌ من مؤهلات المُلْك؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]. قال ابن كثير: ومن هاهنا ينبغي أن يكون المَلِكُ ذا علمٍ وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه. وإليكم الوسائل العشر للوقاية من الأمراض، متَّعني الله وإياكم بالصحة والعافية. أولًا: العناية بالطهارة والنظافة: العناية بالطهارة والنظافة: فأيُّ دين وأي شرع - أحبابي في الله - جعل الطهارةَ نصف الإيمان؟ إنه دين الإسلام؛ عن أبي مالكٍ الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((الطُّهور شطرُ الإيمان) ) [2] أخرجه مسلم. محبة الله تعالى للمتطهِّرين: أحبابي في الله، الله تعالى جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، فهو يحبُّهم ويدنيهم ويُثني عليهم جل جلاله، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. تُعَدُّ نظافة اليدين بمثابة درع الوقاية من الأمراض؛ حيث إنها تشكل حائطَ صد أمام الجراثيم والبكتيريا لتحُولَ دون الإصابة بالإنفلونزا أو أمراض الجهاز الهضمي أو الجهاز التنفسي. لذا نرى ضرورة نشر الوعي بأهمية رفع مستويات النظافة كإجراء وقائي. ثانيًا: الحمية رأس كل دواء، والبِطْنةُ رأس كل داء: ومن الأمور التي تقي الإنسانَ من الأمراض الحميةُ؛ فقد جمع الله تعالى الطبَّ كلَّه في نصف آية، فقال سبحانه: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]. فالحمية رأس كل دواء، والبطنة رأس كل داء. يُذكَر أن هارونَ الرشيد كان له طبيب نصرانيٌّ حاذق، وكان معتزًّا بعلمه، فقال مرةً لعلي بن الحسين المروزي: ليس في كتابكم - يعني القرآن - من عِلمِ الطب شيءٌ - والعِلم عِلمانِ: علم الأديان، وعلم الأبدان -؟ فردَّ عليه علي بن الحسين فقال: قد جمع الله الطب كلَّه في نصف آية من كتابنا، فقال: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31]. وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يضع لنا ميزانَ الأكل والشرب، فعن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلْ واشرب، والبَسْ وتصدَّق، في غير سَرَفٍ ولا مَخِيلةٍ) ) [3] . عن المقدام بن معدي كرب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ‌ملأ ‌ابنُ ‌آدم ‌وعاءً ‌شرًّا من بطنه، حسْبُ ابن آدم أكلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان لا محالة فثُلثٌ طعامٌ، وثلثٌ شرابٌ، وثلثٌ نفَسٌ) ) [4] . قال العلامة ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: وهذا الحديث أصلٌ جامع لأصول الطب كلِّها، وقد روي أن ابن ماسويه لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استَعمل الناس هذه الكلماتِ لَسلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا لأن أصل كل داءٍ التخم [5] . ثالثًا: عدم مخالطة المَرْضى: أيها الإخوة، ومن موجبات الوقاية من الأمراض أخذُ الحذر والحيطة وعدم مخالطة المرضى. أيها الإخوة، يجب علينا في تلك الآونة أخذُ الحذر والحيطة من تلك الأوبئة، عن أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عَدْوى، ولا طِيَرةَ، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد) ) [6] ، والجذام: علةٌ تتآكل منها الأعضاء وتتساقط. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ) ) [7] رواه مسلم. رابعًا: الحث على نظافة البيئة: أيها الأحباب: ومن الأسباب الواقية للإنسان من الأمراض النظافةُ التي هي عنوان الإيمان؛ عن أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يتوضأ منه) ) [8] . عن ابن عباسٍ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتقوا الملاعِنَ الثلاث) )، قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: ((أن يقعد أحدُكم في ظلٍّ يستظلُّ فيه، أو في طريقٍ، أو في نقع ماءٍ) ) [9] . وحثَّنا على نظافة الطرقات؛ حتى لا تكون موطنًا للحشرات والمكروبات والجراثيم؛ عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عُرِضَتْ عليَّ أعمالُ أُمَّتي حسَنُها وسيئها، فوجدتُ في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالها النخاعةَ تكون في المسجد لا تُدفَن) ) [10] . خامسًا: اجتناب الخبائث الضارة بالعقل أو البدن: ومن أسباب الحماية والوقاية من الأمراض اجتنابُ الأطعمة والأشربة التي تُضِرُّ بالصحة، فقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]. قد حرَّم ربُّنا جل وعلا أكلَ الخنزير تحريمًا قطعيًّا، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [الأنعام: 145]، ومن رحمة الله تعالى بنا، وتيسيره علينا، أنه أباح لنا أكلَ الطيبات، ولم يحرِّم علينا إلا الخبائثَ، قال تعالى: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157]. سادسًا: عدم الشرب من فم الزجاجة؛ فإنه سبب من أسباب انتشار الأمراض، وانتقال الفيروسات من شخص إلى آخر، قال أبو هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القِربة أو السِّقاء) [11] ، وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُشرَبَ مِن فِي السقاء؛ لأن ذلك ينتنه) [12] . يقول الدكتور محمد نصر الدين - أستاذ التغذية بجامعة القاهرة -: ليس من الصحيح طبيًّا أو دينيًّا الشربُ من فم الزجاجة مباشرة؛ لأن ذلك يصاحبه انتقالُ الأمراض من فردٍ لآخَرَ، كما أنها عادة مكروهة في الإسلام، ومن الممكن أن يكون أحد الأفراد مصابًا بمرض في شفتيه أو أسنانه. سابعًا: التداوي وطلب العلاج من الأمراض والأوبئة، ومراجعة المستشفيات والمراكز الطبية والصحية لتشخيص المرض، والاستعانة بالعلاج والأدوية التي يوصي بها ويصفها الأطباء للمريض؛ لما روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصيبَ دواءُ الداءِ برَأَ بإذن الله عز وجل) ) [13] . وفي حديث أسامة بن شريكٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تَداوَوْا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داءٍ واحدٍ: الهَرَمُ) ) [14] ؛ رواه أبو داود. ثامنًا : المواظبة على حصون الأمان من الأذكار، التي أرشَدَنا إليها النبيُّ المختار صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ قال صلى الله عليه وسلم: (((من قال حين يمسي ثلاثَ مراتٍ: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضُرَّه حُمَةٌ تلك الليلة) )، قال سهيلٌ: فكان أهلنا تَعلَّموها فكانوا يقولونها كل ليلةٍ، فلُدِغت جاريةٌ منهم فلم تجد لها وجعًا [15] . عن أبي هريرة، أنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من عقربٍ لدغتْني البارحة، قال: ((أمَا لو قلتَ حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضُرَّك) ) [16] . نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهَدْي سيد المرسَلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية تاسعًا: المواظبة على ذكر التأمين الشامل ضد الأخطار والأضرار؛ قول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (((ما من عبدٍ يقول في صباح كل يومٍ ومساء كل ليلةٍ: بسم الله الذي لا يضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ، فيضُرَّه شيءٌ) )، وكان أبانُ - أي: الراوي - قد أصابه طرَفُ فالجٍ، فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر؟! أما إن الحديث كما حدَّثتُك، ولكني لم أقلْه يومئذٍ ليمضي الله عليَّ قدَره [17] ؛ رواه الترمذي وصححه ابن القيم، وفي روايةٍ: ((من قال حين يصبح: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ، لم تفجأه فاجئةُ بلاءٍ حتى يمسي، وإن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاءٍ حتى يصبح) ) [18] . قال الشوكاني: (وفي الحديث دليلٌ على أن هذه الكلمات تَدفَعُ عن قائلها كلَّ ضر كائنًا ما كان، وأنه لا يصاب بشيءٍ في ليله ولا في نهاره إذا قالها في الليل والنهار) انتهى. قال البهلول بن راشدٍ ت183 رحمه الله: (أقمت ثلاثين سنةً أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض وهو السميع العليم... إلخ، فأُنسيتُها يومي مع العكي، فابتُليتُ) ، ابتُلي رحمه الله بسجن وضرب الأمير العكي له. عاشرًا: الدعاء بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، عن أنسٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من البَرَصِ، والجنون، والجُذام، ومن سيئ الأسقام) ) [19] . أصاب الناسَ قحطٌ على عهد داود عليه السلام، فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتى يَستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهم إنك أنزلتَ في توراتك أن نعفوَ عمن ظلَمَنا، اللهم إنَّا ظلَمْنا أنفسنا فاعفُ عنا، وقال الثاني: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نُعتِقَ أرقَّاءنا، اللهم إنَّا أرقاؤك فأَعتِقْنا، وقال الثالث: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن لا نرُدَّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا، اللهم إنَّا مساكينُك وقَفْنا ببابك، فلا ترُدَّ دعاءنا، فسُقوا [20] . • هذا الفيروس جنديٌّ من جنود الله، جاء ليأخُذَ بالنواصي والأقدام إلى رب الأنام. • ليس لها من دون الله كاشفة. • توبة إلى الله صادقة، ودعوة إلى الله خالصة، وسجدة بين يديه بافتقار، ترفع عنا الأضرار. • ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43]. • أيتها البشرية الخائفة الواجفة، عُودي إلى الله، ارفعي الظلم، أَقيمي العدل، ارحمي الأبرياء؛ فليس لها من دون الله كاشفة. • من الذي يَملِك مقاليد كل شيء؟ من الذي أوجَدَ الفيروس؟ من بيده رفع البلاء؟ المفتاح بيد الفتَّاح، والدواء بيد رب الأرض والسماء. من منا لا يريد الفلاح والنجاح، والفوز بالجنة، والنجاة من النار؟ إن الإنسان إذا عرَفَ سبيل الفلاح بذَلَ كلَّ شيء في سبيل تحصيله، نعم كل شيء؛ قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]. الدعاء...................................... [1] - أخرجه الحميدي (439)، والبخاري في "الأدب المفرد" 300. [2] - مسلم (1/ 203 رقم 223). [3] - رواه النسائي 5/ 79، وابن ماجه (3605)، وأحمد 2/ 181 و182. [4] - أخرجه: أحمد ٤/ ١٣٢، والترمذي (٢٣٨٠)، والنسائي في "الكبرى" (٦٧٣٨)، وابن حبان (٦٧٤). [5] - "جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط" (٢/ 468). [6] - أخرجه أحمد (2/443، رقم 9720)، والبخاري معلَّقًا (5/2158، رقم 5380). [7] - أخرجه البخاري (5770) و(5771). [8] - أخرجه البخاري (1/94، رقم 236)، ومسلم (1/235، رقم 282). [9] - أخرجه أحمد (١/٢٩٩ رقم ٢٧١٥) (حسن) انظر حديث رقم: ١١٣ في صحيح الجامع. [10] - أخرجه الطيالسي (483)، والبخاري في "الأدب المفرد" (230)، ومسلم (553). [11] - أخرجه البخاري ٥٦٢٧. [12] - أخرجه الحاكم (٤/ ١٤٠)، انظر الصحيحة: ٤٠٠. [13] - رواه مسلم (٢٢٠٤). [14] - أخرجه ابن ماجه (٣٤٣٦)، والترمذي (٢١٥٩)، والنسائي في "الكبرى" (٧٥١١) و(٧٥١٢). [15] - صحيح الجامع: 6427، صحيح الترغيب والترهيب: 652. [16] -رواه مسلم رقم (2709) في الذكر، باب التعوذ من سوء القضاء. [17] - خرجه أحمد 1/62 (446) قال: حدثنا عبيد بن أبي قرة. وفي 1/66 (474). [18] - أخرجه أبو داود (5089)، والبزار (357)، والنسائي في "اليوم والليلة" (15). [19] - "مسند أحمد" (20/ 309 ط الرسالة)، وأخرجه أبو داود (1554)، وابن حبان (1017)، والطبراني في "الدعاء" (1342). [20] - الأذكار النووية (612)، جامع الدعاء (ص: 79).
بوح القلم (تأملات في النفس والكون والواقع والحياة) سرديات ثقافية البحث الفكري: هو عملية منظمة بقواعد وأسس محددة تهدف للكشف عن الحقيقة في مجال الفكر والتصور، ويعمم البعض مجال البحث ليشمل العقيدة والشريعة والواقع والحياة. والباحث الفكري بحاجة للعديد من الأدوات والإعدادات التي تُمكنه من الوصول للحقيقة؛ كالحمولة المعرفية في مجال العقيدة والشريعة والأصول والتاريخ، والتوازن والتكامل في الشخصية، والمهارات والإمكانات البحثية والنقدية والتحليلية، والمقارنة للوصول للحقيقة وتحصيل المعرفة. والباحث الفكري إذا كان تأسيسه الشرعي ضعيفًا وتأصيله العلمي قاصرًا، فإنه سيفقد جملة  من المقومات والمكونات المعرفية والشخصية والنفسية، من أهمها وأبرزها: 1- التأصيل والتحرير والنقد والتحليل: ونتيجة لذلك تظهر الجرأة والتعدي في الحكم على المسائل الشرعية بالحل والحرمة، او الإقرار والإبطال، أو القطع والظن، أو الثبات والتغير. ٢- العدل والإنصاف والاتزان: وينتج عنه التسرع في الحكم والتصنيف والتجريح للأشخاص والأقوال والأوضاع. ٣- اليقين والثبات والاستقرار: ويظهر أثره بكثرة التقلب والتحول بين المناهج والمذاهب، والانسياق خلف المؤثرات الداخلية والخارجية، والشعور بالحيرة والقلق النفسي والتخبط والاضطراب المعرفي. ٤- الوثوقية والمصداقية: بالاعتماد على مصادر مغلوطة، ومراجع مزيفة، ومعلومات خاطئة. ٥- الموضوعية والمنطقية : بالتحيز والتعصب للآراء والأفكار والمواقف والأشخاص. ٦- الوعي والفقه بدلالة النصوص وضوابط الاجتهاد وتحقيق المناط في تنزيل النصوص الشرعية على الأحداث والوقائع الحياتية: ومن آثار ذلك تمييع وسيولة الفتاوى بحسب المصالح والأهواء، أو التجني على الأفراد والمجتمعات بالجاهلية والتكفير، أو العزلة وفقدان الدافعية والفاعلية بالعمل لهذا الدين.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها ( الحقوق ) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب: النظر إلى الحقوق والواجبات، وقد رسخ الإسلام مفهوم الحقوق في توكيده على الضرورات الخمس: النفس والعِرض والمال والدين والنسل، وانبثقت من هذه الضرورات الخمس ضروراتٌ فرعية، تقوم عليها الضرورات الأصلية، وبالتالي فإن الإسلام ينظر إلى الحرية على سبيل المثال، من منطلق رباني محدد غير مطلق، وهو يؤمن بحرية الفكر وحرية الرأي وحرية السلوك وحرية التصرف في الممتلكات، كل ذلك في حدود إنما قامت لتضمن عدمَ إساءة مفهوم الحرية، بحيث لا تجرح شعور الآخرين، أو تؤثِّر على المصلحة العامة [1] . وعندما انتفض الغرب وبدأ النهضة أوجد المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية التي تُعنى بالنظر في تصريف شؤون الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ثم بدأ بعد ذلك بوضع الأنظمة والقوانين التي صاغها من منطلقاته ومن منطقه وعقليته، دون النظر بالضرورة إلى المنطلقات الأخرى أو العقليات الأخرى،ثم صاغ هذه الأنظمة والقوانين على شكل اتفاقيات دولية ترعاها مؤسساتٌ ومنظماتٌ دولية، مثل هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمات حقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية، وطالبت الدول الأعضاء في هذه المنظمات بالمصادقة عليها، وبالتالي تطبيقها في مجتمعاتها [2] . ومن هنا برز الإشكال لدى كثير من الدول الإسلامية، إن لم يكن لديها كلها؛ ذلك أنه وجدت موادُّ وفِقراتٌ في هذه القوانين والاتفاقيات، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (8/ 2/ 1368هـ - 10/ 12/ 1948م)، تتعارض صراحةً مع المفهوم الإسلامي لحق من الحقوق، فكان أن تحفظت بعض الدول على هذه المواد، وامتنعت دولٌ أخرى عن التوقيع على الاتفاقيات، بَلهَ المصادقة عليها،ومن ذلك حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل. ولا بد هنا من التعريج على خلفية هذه القوانين الدولية؛ إذ الذي يظهر أنها لا يمكن أن تتجرد من الخلفية الدينية، مهما صِيغت في مجتمعات غير متدينة، أو مجتمعات تتبنى منهج العلمانية في الحكم والحياة. ومهما كان الشخص علمانيًّا إلا أنه لا يخلو من وضع بصمات خلفيته الثقافية عندما يأتي الأمر لصياغة قانون دولي، وهذا ما صرحت به بعض الدول الإسلامية عندما سوغت تحفُّظها على بعض مواد هذه القوانين وفقراتها، مما يعني "أنها سيطرة نظام غربي ذي نكهة دينية على دين آخر يملِك البديل، ويعتقد أنه الأولى من ذلك النظام الموضوع" [3] . ومن الحقوق والواجبات التي افترق فيها النظام الإسلامي عن الغرب: حق الحياة لكل إنسان يتماشى في سلوكياته مع السمت العام، فإذا خالف هذا السمتَ العام المبنيَّ على المفهوم الإسلامي للسمت العام، فقَدَ الفردُ حقه في الحرية أو الحياة، بحسب المخالفة التي تبدر عنه، فإما أن يُبعَدَ؛ أي: يُنفى من المجتمع المسلم، أو يُجلَد، أو يعاقَب، أو يُقتَل، ولا يعذب ولا يسمم،وتكون العقوبة واضحة معلنة تشهدها طائفة من المؤمنين، وتعلن على الملأ في وسائل إعلام العصر،﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2]. ولا ينظُر الإسلام إلى الزنا بأي اسم آخر سمي فيه الزنا على أنه حقٌّ لأي شخص، ذكرًا كان أم أنثى، رضِي أم لم يرضَ؛ ذلك أن الزنا - رغم أنه يقال عنه: إنه أقدم مهنة في التاريخ إذا ما كان في مجال بيع اللذة - هو مرضٌ اجتماعي له عواقبه التي تؤثر على بناء المجتمع؛ بتفشي الأمراض، واختلاط الأنساب؛ ولذا فليس في الإسلام صداقاتٌ بين الجنسين تفضي إلى الزنا كالموجود في الغرب، وليس فيه خليلاتٌ معلناتٌ أو غير معلنات، وليس فيه شذوذ،ولا يعطي الإسلام الإنسان الحق في شرب الخمور، وتعاطي المخدِّرات، مهما كانت الدوافع، وكذا السرقة بأي شكل من أشكالها، وبأي اسم سميت فيه. وعلى أي حال، فالإسلام واضح في مسألة حماية المجتمع من العبث، وذلك من خلال الحزم في إقامة الحدود الشرعية، متى ما ثبتت التهمة على المدعَى عليه بالوسائل الشرعية لثبوت التهمة، من دون تدخُّل أي وسيلة من وسائل بشرية تقهر المدعَى عليه على الاعتراف، ومن دون تدخل أي وسيلة من وسائل بشرية تبرئ المدعى عليه، ولو أن التهمة قد لصقت به؛ ولذا فإن مفهومات الحرية الشخصية وحقوق الإنسان في الإسلام مختلفةٌ عنها في الأنظمة الوضعية الأخرى. وهكذا يطول النقاش في هذا المجال، ويحتاج إلى أولئك المتخصصين في القضاء والقانون لإبداء الفروقات بين النظامين/ القانونين [4] . قد ينظر إلى هذا الاختلاف الجوهري على أنه يحد من قيام علاقات قوية بين الشرق والغرب، ما لم يتنازل الغرب عن الشعور بأن قوانينه هي الصالحة، ونظم غيره من الأمم الأخرى غير معتبرة، رغم أن واضعي الاتفاقيات الدولية في مسائل تتعلق بالإنسان بدؤوا يدركون شيئًا من هذا التضارب، وبالتالي بدؤوا يستأنسون بالأنظمة الأخرى، لا سيما حقوق الإنسان في الإسلام، عندما برزت ظاهرة التحفظات من كثير من الدول الإسلامية، التي عرضَت عليها اتفاقيات حقوق الإنسان وحقوق الطفل وحقوق المرأة، وغيرها من القوانين ذات الصبغة الغربية. والواقع أن تطبيق المسلمين للشريعة بما في ذلك الحدود، يتعرض لنقد جارح من تلك الأوساط الغربية، وتُتَّهَمُ الحدود في الإسلام ببُعدها عن الإنسانية والتحضر واحترام حقوق المرء المجرم الذي يقام عليه الحد،وهذا الاتهام المستمر المتواصل قد أثَّر في بعض أبناء المسلمين؛ فأضحَوا يتوارَوْن عن القوم كلما جاء حديث عن الحدود، ويقفون موقفَ المدافع المعتذر المسوغ تسويغًا ضعيفًا يدل على شيء من الانهزامية، وهذا بالتالي يؤثر على إيمان المسلم الذي قد تبدو عليه ضآلة الاقتناع بهذه الحدود في مقابل العقوبات التي يتلقاها المجرم في المجتمع الغربي، والتي يدعو بعضها إلى الأسف من منطوق الحكم على مجرم واضح الإجرام، بل ربما أن بعض هذه العقوبات فيها أحيانًا قسوة غير عادية. ويؤثر هذا النقد الجارح على العلاقة بين الشرق ( المسلمين ) والغرب؛ إذ إن أحدهما ليس مقتنعًا بأسلوب الآخر في النظر إلى الحقوق والواجبات؛ ذلك أن المنطلق مختلف بين الثقافتين. أما حقوق المرأة، فالاختلاف فيها واضح وجلي،وكلا النظامين ينظر للمرأة نظرة مختلفة كذلك في المنطلق؛ ذلك أن النقاش حول هذا الموضوع يأخذ منحى عاطفيًّا هجوميًّا، أو دفاعيًّا تسويغيًّا، حتى إن أبناء المجتمع المسلم وبناتِه في مجملهم، وليس كلهم، يقفون وقفات حائرة حول هذا الموضوع [5] ،مبعث الحيرة هو ذلك التناقض الغربي في الدعوة إلى حقوق المرأة، وهو في الوقت نفسه ينتهك حقوقها، ويستخدمها سلعة للإغراء والدعارة والاتجار بالفتيات والأطفال المختطفين من مجتمعات فقيرة [6] . ومنهم من تبنى كثيرًا من المفهومات الغربية في النظرة إلى المرأة، ويدعون إليه إعلاميًّا، وقد يطبقونه في حياتهم، متهمين أصحاب النظرة الإسلامية بالتشدد والتزمت، بل والتطرف في الضغط على المرأة وغمطها حقَّها في المشاركة في عمارة الأرض وبناء المجتمع. ولذا ظهرت الكتابات العلمية والعاطفية التي ركزت على حقوق المرأة وواجباتها، وكثير من هذه الكتابات إنما تدافع عن وضع المرأة في الإسلام مقابل وضعها في الغرب بصورة خاصة. لا تهدف هذه الوقفة إلى الانسياق في هذا الموضوع الحساس، سوى إلى التوكيد على أنه محدد من محددات العلاقة بين الشرق ( المسلمين ) والغرب،وهو محدد غامضٌ غموض مواجهة المشكلة، لا غموض المبادئ العامة لحقوق المرأة في أن تحيا حياة إنسانية تحفظ لها كرامتها، وتعترف بأثرها في بناء المجتمع وتحقيق رفاهه. [1] انظر: عدنان بن محمد بن عبدالعزيز الوزان ، موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام وسماتها في المملكة العربية السعودية ، مج8 ، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1425هـ/ 2005م - 1: 44 - 49. [2] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، إشكالية المصطلح - مرجع سابق - الفصل الثالث: الحقوق - ص 185 - 200. [3] انظر: العلمانية - ص 180 - 182 - 183 - في: نعمان عبدالرزاق السامرائي ، نحن والصديق اللدود: دراسة تحليلية للفكر الغربي وموقفه من الإسلام - لندن: دار الحكمة، 1417هـ - ص 185. [4] انظر: رضوان السيد ، حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر بين الخصوصية والعالمية - التوحيد - مج 15 ع 84 (تشرين الأول/ أكتوبر 1996م) - ص 38. [5] انظر: محمد فائق ، حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية - ص 195 - 208 - في: مركز دراسات الوحدة العربية ، حقوق الإنسان العربي/ إعداد نخبة من المفكرين العرب - بيروت: المركز، 1999م - ص 300 . [6] انظر: مفرح بن سليمان بن عبدالله القوسي ، حقوق الإنسان في مجال الأسرة من منظور إسلامي - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1429هـ/ 2008م - ص 13.
العلاقات الدولية بين الوفاق والصدام، الجزء الرابع، ميسون سامي أحمد رؤية نقدية للنظريات التفسيرية للصراعات الدولية برزت أهمية الدين والثقافة كأحد التفسيرات المهمة في دراسة العلاقات الدولية، وقد شهِد علم العلاقات الدولية عودة مصطلحات (الحضارة، والقيم، والدين) في دراسة النظرية السياسية بعد أن تم تجاهل دورها في العلاقات الدولية لأسباب غير معروفة. ولأن المنطقة العربية كانت من أهم ساحات الصراع، فهي تعتبر من مناطق العالم الساخنة وإحدى بؤر التوتر منذ القدم وحتى الآن؛ ولهذا كانت حافلة بالصراعات والحروب باستمرار. تحتل الدول العربية موقعًا مميزًا في نظر القوى الكبرى وعلاقاتها الدولية، وهي جزء أساسي لقيام النظام العالمي الجديد، وكانت ولا تزال مجالًا فاعلًا في اعتبارات تلك القوى التي تطمح كل منها للاستحواذ عليها وحرمان القوى الأخرى منها؛ طمعًا في احتكار مزاياها ومواردها المتدفقة في حين بقيَ العرب طرفًا تابعًا لتلك القوى، وعدم القدرة على استثمار إمكاناتهم ومواردهم لتحقيق غايات تخدم المصالح العربية [1] . ظهرت العلاقات الدولية جليَّة منذ الإسلام الأول؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل إلى الملوك والأمراء، والأباطرة والزعماء، ويدعوهم إلى الإسلام، وتطورت العلاقات الدولية في ظل الدولة الإسلامية حتى شملت المعاهدات والاتفاقيات والبعثات، وهذا التطور سادَهُ التَّذبذُب متأثرًا بالظروف الدولية السائدة في كل عصر وحين [2] . وفي الفترة الأخيرة زاد الاهتمام بدراسة وضع العالم الإسلامي في النظام الدولي، وفي السياسات الخارجية للقوى الكبرى خصوصًا بعد الحاجة الأمريكية الملحة إلى إيجاد تحدٍّ جديد يجعلها تنفرد بقيادة العالم، والبحث عن عدو جديد، وقد مثَّل الإسلام النموذج المثاليَّ لهذا الوصف؛ لعالميته وحضارته، وظهور الإسلام السياسي وانتشاره عالميًّا، فالمسلمون جزء من العالم وهم يمثلون خُمُسَ سكانه، ولا يمكن عزلهم عنه؛ لذلك أصبحت العلاقة بين الإسلام والمسلمين وبين الغرب ذات أهمية عالمية. الإسلام كدِينٍ يشترك في شرعه مع الديانات الأخرى المنزَّلة التي لم تُحرَّف؛ قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، لكن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس جميعًا، وهو الذي أُرسلت به جميع الرسل، والشمولية والواقعية والتوازن، وغير ذلك من خصائص الإسلام هي التي جعلته دينًا عالميًّا، بينما اهتمت النصرانية بالجانب الروحي، فكانت علاجًا وقتيًّا لغلوِّ بني إسرائيل لتحدَّ من الغلو في حب الدنيا ولذاتها، فلا تصلح لحكم بشر متكون من روح ومادة، وأعظم دليل على عالمية الإسلام يتمثل في دخول الكثيرين فيه في شتى دول العالم. يوجد ترابط بين مجالي الفكر السياسي الإسلامي والعلاقات الدولية، وفي الإسلام الشريعة هي القانون الذي يجمع المسلمين مع غيرهم، والفقه هو الذي يربط بين الشريعة والعلاقات الدولية في الزمن المعاصر، ومن تصور المسلمين لأنفسهم ولغيرهم تتشكل حركة العلاقات الدولية. وفي ظل بروز نظريات كثيرة ومتناقضة لفهم العلاقات الدولية والصراعات بصفة خاصة تميز الإسلام برؤية وسياسة واضحة وثابتة في التعامل مع الآخر، سواء في داخل الدولة الإسلامية، أو في خارجها، وهي رؤية مبنية على ثوابت وأسس ومبادئ، قدَّمها الإسلام في القرآن والسنة. وقد وضع التشريع مراجع فكرية وقواعد تشريعية محددة في رؤية الآخر، فعندما توسع الكيان الإسلامي صار المسلمون في تماسٍّ مع أقوام قد لا تظهر العداوة لهم بالضرورة، مصادر التشريع احتوت هذه الظاهرة واقترن استخدام القوة لإظهار الدين بوقوع الظلم [3] ؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8]، وقال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]. ومن خصائص الدين الإسلامي أنه دين عالمي لكل الأمم ولجميع الناس، وهو يتميز بميزات منها: إنسانية الرسالة وعالميتها، ووسطية الأمة الإسلامية وخيريتها، وشهودها على باقي الأمم، والإسلام يعترف بالاختلاف وباستحالة توحيد الجنس البشري في عقيدة واحدة، فالاختلاف بين الأفراد والأمم أمر طبيعي؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118]. إن العلاقات التي تحكم المسلمين أساسها التعاون والإخاء والسلم، والتعارف أهم أهداف الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]،وهو يعترف بالأمم الأخرى؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ [النحل: 92]،فهو اعتراف بتعدد الأمم والشعوب والدول، ودعا الإسلام إلى احترام المعاهدات بين الدول الإسلامية وغيرها؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]. والأمة الإسلامية أمة وسطٌ؛ فقد حاربت الشريعة الإسلامية كل اتجاه أو فكر ينزع إلى الغلو أو التطرف، فالله سبحانه جعل هذه الأمة وسطًا، وهي الخيار العدل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشِّروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا)) [4] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج على أمتي يضربُ برَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه، فليسَ مني ولستُ منه)) [5] . أما رؤية الإسلام للعلاقة مع الآخرين حربًا كانت أم سلمًا، فقد رجعت إلى الظروف التي كانت تواجه المسلمين، فقد وضعها الفقهاء في عصر التدوين الفقهي عندما كثرت الحروب بين المسلمين والبلاد المجاورة. تعرضت النظرية بصفة عامة، والنظريات الغربية لتفسير وتحليل العلاقات الدولية بصفة خاصة لجملة من الانتقادات؛ منها: • النظرية تعبير عن رؤى مختلفة للعالم، وهي أداة تفسيرية للواقع، وهي الركن والأساس التي تُبنى عليها البحوث في مجال العلاقات الدولية، لكنها تبقى مجرد افتراض، ويجب خضوعها للمراجعة والتقويم المستمر. • استحالة قدرة النظرية على أن تكون تمثيلًا صادقًا وشاملًا لحقيقة الواقع؛ فالنظريات والمفاهيم هي مقاربات فكرية لمحاولة فهم الظواهر الاجتماعية أو السياسية، والنظرية عبارة عن طرق لترتيب الحقائق وتحويلها إلى معلومات وبيانات، يقول كينيث والتز: "النظريات ليست هي القوانين في حد ذاتها، وإنما هي محاولة لتفسير القوانين" [6] . • افتقاد هذه النظريات إلى سمة العالمية في التعبير والتحليل لمختلف أنواع الصدام، فهذه النظريات أسيرة التجربة والبيئة الغربية ومنظومتها العلمية [7] ، والمدخلات الثقافية والحضارية للآخر غير الغربي في مفاهيم الصراع في الأدبيات الغربية، أو لدى الغرب شبه غائبة أو محدودة جدًّا [8] . • يذهب بعض الباحثين في العلاقات الدولية إلى ضرورة تبنِّي أكثر من نظرية من أجل تكوين فهم موضوعي وتفسير منطقي للظاهرة موضوع الدراسة، وإن دارسي العلاقات الدولية يمكنهم اعتماد طريقة الاختيار والمزج من بين النظريات، وتطبيقها على الظاهرة الدولية موضوع البحث، فالنظريات تتطرق إلى جوانب مفصلة ومختلفة [9] ، لذلك لا يمكن الفصل بين النظريات. • القوة العسكرية لا ولن تغيب عن تحليل وتفسير مجريات العلاقات الدولية حتى وإن تغير شكل النظام العالمي، وهذا ما جعل النظريات الليبرالية في العلاقات الدولية التي قلَّلت من أهمية القوة العسكرية في العلاقات الدولية، واعتبرت أن الدور الأكبر هو للمؤسسات الدولية في تقرير شكل العلاقات الدولية تتراجع عن أفكارها؛ لأن العسكرة تبقى السمة المميزة للعلاقات الدولية، ومن يمثلها هو الذي يقرر مصير الأمن والسلم الدوليين، إضافة إلى الأمن الإقليمي، بل الأمن الوطني لكثير من الدول، وما يشهده العالم من أحداث خير دليل على ذلك [10] . • يذهب عدد كبير من دارسي العلاقات الدولية إلى أن النظرية الواقعية - التي ظلت تتربع فترة طويلة على قمة هرم النظريات - قد عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة بوصفها منهجًا علميًّا في العلاقات الدولية، وينطلق هؤلاء من أن مفاهيم الواقعية كالفوضى وتوازن القوى والاعتماد على الذات والقوة بكل أبعادها وتجلياتها ترجع إلى حقبة ماضية، وأن السياسة الدولية في تغير وتحوُّلٍ مستمرين، وظهرت مفاهيم جديدة كالديمقراطية والعولمة، والاعتمادية والمؤسساتية تعزز السلام في المجتمع الدولي، وبناءً عليها فقدت الواقعية قدرتها التفسيرية بعد الحرب الباردة، وهي اليوم في موقف دفاعي، مما جعلها ساكنة وجامدة وغير قادرة على تفسير الظواهر في بنية النظام الدولي [11] ، والنظرية الواقعية الجديدة نظرية ضعيفة نوعًا ما، وتفتقر إلى الكثير من القدرة التفسيرية ويستمر بقاؤها إلى حد بعيد لأن جميع البدائل هي أضعف أيضًا [12] . • نشأت الواقعية بوصفها مبدأً في ثلاثينيات القرن العشرين، وتوطدت بوصفها عقيدة ثابتة في أوج الحرب الباردة، وتفترض أن الدولة هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، بل الفاعل الوحيد في ذلك المجال، وأن العلاقات الدبلوماسية - الإستراتيجية بين الدول هي لُبُّ العلاقات الدولية الفعلية، وقد أخذت هذه الافتراضات تبدو أقل معقولية شيئًا فشيئًا خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لظهور فواعل جديدة مثل الاتحاد الأوروبي، والشركات التجارية، أو متعددة الجنسيات [13] . • نظريات القوة أو النظريات الواقعية فرضت نفسها على اتجاهات التحليل النظري لحقائق السياسة الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فهي ليست في الواقع إلا تعبيرًا مباشرًا عن مصالح الاحتكارات الكبيرة التي تستفيد من سباق التسلح، وهي على استعداد لاستخدام القوة المسلحة في سبيل الإبقاء على سيطرتها [14] . • تنظر النظرية الواقعية إلى المجتمع الدولي والعلاقات الدولية على أنها صراع مستمر نحو زيادة قوة الدولة، واستغلالها بالكيفية التي تمليها مصالحها أو إستراتيجيتها بغض النظر عن التأثيرات التي تتركها في مصالح الدول الأخرى [15] . • بعد الحرب الباردة برزت الأصوات غير الأمريكية، كما حصل عدد كبير من المناهج والنظريات على الشرعية، بل وأكثر من ذلك، فقد أدرجت مواضيع جديدة في أجندة الباحثين على الصعيد العالمي، ومن بينها النزاعات الإثنية، والبيئة، ومستقبل الدولة [16] . • الاعتقاد بأن الدول غير الديمقراطية هي من تهدد السلم الدولي والإقليمي جعل من فكرة إزالتها والقضاء عليها أمرًا مستساغًا ومقبولًا، ومن ثَمَّ ضرورة السعي إلى نشر الديمقراطية، وتعميمها على البلدان غير الديمقراطية، خاصة الدول الممانعة والمناوئة لكل ما هو غربي وأمريكي بالتحديد بمختلف الوسائل والآليات، وهذا أدى في بعض الحالات إلى استخدام القوى في تحقيق ذلك، وبدلًا من أن يخلق السلم والاستقرار داخل هذه الدول وفي محيطها، فإنه فاقم من حالة اللااستقرار وأوجد مصادرَ جديدة للنزاعات والحروب [17] . • بنهاية الصراع الأيديولوجي وتراجع القيم والمبادئ الماركسية – اللينينية حاولت الفلسفة الغربية أن تضع حدًّا للتاريخ بانتصار القيم والمبادئ الليبرالية؛ مما يعني ذلك بدوره إلغاء لكل القيم الأخلاقية والتنظيمية التي تزخر بها الحضارات الأخرى، خاصة الحضارة العربية - الإسلامية، وهذه النظرية تقر بزوال النظريات المنافسة للديمقراطية الليبرالية، وعدم جدوى النظرية الماركسية [18] . • تنطلق الليبرالية من افتراض أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض، وتضع قيدًا على الحروب... وإذا افترضنا أن الديمقراطيات يمكنها أن تعيش في سلام مع الديمقراطيات الأخرى، وأصبحت كل الدول ديمقراطية، فستبقى بنية النظام الدولي فوضوية، ولن يتغير التعامل في هذه البنية بين الوحدات المختلفة بالتحولات السياسية داخل الدول، ففي غياب سلطة مركزية في بنية النظام الدولي قد يصبح صديق اليوم عدوَّ الغد [19] . • تواجه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم (رأس الرأسمالية العالمية) أزمة مالية رهيبة تعصف بالفكر الرأسمالي برمته... والتي يبدو أنها قد تطيح بأكبر إمبراطورية للمال في العالم، بل إنها قد تؤثر على صحة وصلاحية كثير من النظريات التي كانت تتنفس بالرأسمالية، وإن ما دونها سيزول كنظرية فرانسس فوكوياما، والتي تقول بنهاية التاريخ؛ وذلك لأن البشرية - من وجهة نظره - وصلت إلى أعلى مراحل الرقي والتقدم بوصولها إلى النظام الرأسمالي الذي لا نظام بعده، وإن كلَّ مَن يكون خارج دائرته سيزول حتمًا [20] . • نظرية نهاية التاريخ تَعتبر الليبرالية أسلوبَ الحياة الوحيد الصالح للبشرية، وأن العالم يعيش عصر انتهاء الأيديولوجيات، ولا شك أن هذا الطرح يعد نفيًا لمبدأ ليبرالي هام؛ وهو مبدأ القبول بالتعدد الفكري والسياسي، واحترام الحضارات والثقافات الأخرى [21] . • إن النظر إلى العلاقات الإنسانية على أنها علاقات قوة، وترتبط بالنزعة المادية للحياة يجعل هذه العلاقات والحراك الاجتماعي والإنساني علاقات هيمنة وتبعية، ومن ثَمَّ قد ينتج عن ذلك تضاد في المصالح والمعتقدات [22] . • يتفق أصحاب هذه النظريات على ضرورة وجود سلطة عليا قادرة على فرض الأمن والسلام، فالحكومة العالمية هي الكفيلة بالقضاء على فوضى النظام الدولي، وتحقيق التعاون بين الدول، يقول صاموئيل هنتنغتون: عندما تفتقر الحضارات لدول مركز تصبح مشكلات إرساء النظام داخل الحضارات أو التفاوض عليه فيما بينها أكثر صعوبة، وضرب لذلك مثلًا بشعب البوسنة فقال: إن غياب دولة مركز إسلامية قادرة على الاتصال بشعب البوسنة بشكل شرعي وسلطوي، كما فعلت روسيا مع الصرب، وألمانيا مع الكروات - هو الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بهذا الدور، أما عدم فاعليتها في ذلك، فسببه غياب الاهتمام الأمريكي الإستراتيجي بالحدود التي كانت قد رُسمت في يوغسلافيا السابقة، وعدم وجود أي علاقة ثقافية بين الولايات المتحدة الأمريكية والبوسنة، وذلك بالإضافة إلى المعارضة الأوروبية لإقامة دولة مسلمة في أوروبا، ففي نظره أن غياب سلطة دولية رادعة هو الذي يخلق مجتمع الفوضى، لذلك يجب أن تكون هناك حكومة عالمية أو سلطة عليا تقوم بإدارة العلاقات الدولية [23] ، وقد اتفق مع هذا الرأي البعض في العالم الإسلامي؛ إذ مثَّلت الدولة الوطنية الإسلامية في نظرهم انحرافًا عن مبدأ العقيدة الشرعية التي ترى المسلمين أمة واحدة تخضع لسلطة حاكم؛ فالأمة الإسلامية أمة عالمية، ومن المتعذر على المجتمع الإسلامي أن يكون تامًّا ما لم يكن دولة، وهكذا غدا العمل السياسي نوعًا من التعبد لله [24] . • يتفق أصحاب النظريات الثقافية على اعتبار الدين الإسلامي منافسًا قويًّا للأديان الأخرى، وللإسلام سياسة دولية تقوم على أسس وقواعد واضحة تتمثل في الإخاء والمساواة والعدل، وهي أمور تقتضي بالضرورة أن العلاقات بين البشر الأصلُ فيها السلم، فالسلم أساس العلاقات بين الناس، والحرب ضرورة لدفع العدوان وإحقاق الحق. • العلاقة بين الدولة الإسلامية والعالم غير المسلم هي علاقة تعاون وسلم، وليست صراعًا وحربًا، وقد برهن الإسلام بما يكفي عن قبوله بالآخر، وعن قبوله بالاختلاف مع الآخر، وعن إدراك عميق وسليم لطبيعة الإنسان التي ترفض العنف والاضطهاد. • السلم والقتال أدوات من أدوات إدارة هذه العلاقات لتحقيق أهداف الدعوة الإسلامية، لكل منهما مبرراته وظروفه وضوابط اللجوء إليه بمقتضى الشرع. • بالرغم من إقرار الإسلام بأن مناخ العلاقات الدولية هو مناخ الصراع والتدافع فإنه يفترض أن السلم هو الأصل في العلاقة؛ لأن حالة الفوضى في مناخ العلاقات الدولية لا يمكن أن تستمر، وكذلك الاعتماد والتعاون المشترك لا يستمر، فالرؤية الإسلامية تقر باستمرار حالة التدافع، واختلاط حالات الحرب والسلم هي الأنسب لمناخ وبيئة التعامل الدولي. • الدين الإسلامي هو رسالة حضارية تتجاوز الحدود الجغرافية لتبليغ الرسالة، وتحقيق مفهوم الأمة الخيرة في عالم الأمم الأخرى، دون إخضاعها أو احتلالها، وهذا يقتضي التمسك بالقيم والممارسات الإسلامية في التعامل مع الآخرين، وتأكيد الذات والهوية الإسلامية في المحيط الدولي. [1] القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، دكتور خضر عباس عطوان، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، ط1، 2010، ص: 215. [2] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 11. [3] القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، ص: 162. [4] سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، طبعة جديدة منقحة ومزيدة، 1415 ه - 1995م، 2/ 689. [5] المصدر نفسه، 2/ 677. [6] العلاقات الدولية، دكتور عبداللطيف الصباغ، ص: 6. [7] إدارة الصراعات وفض المنازعات، ص: 144. [8] المصدر نفسه، ص: 65. [9] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 64، 124. [10] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 70. [11] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 127، 128. [12] فهم العلاقات الدولية، كريس براون، ص: 242. [13] المصدر نفسه، ص: 46، 47. [14] العلاقات الدولية دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والتاريخ والنظريات، ص: 147، 148. [15] العلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات، ص: 19. [16] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة. [17] تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس، ص: 169. [18] النظريات التفسيرية للعلاقات الدولية بين التكيف والتغير في ظل تحولات عالم ما بعد الحرب الباردة، ص: 130. [19] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 128. [20] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 76. [21] النظرية السياسية المعاصرة، ص: 351، 352. [22] إدارة الصراعات وفض المنازعات، ص: 65. [23] صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، ص: 255. [24] الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939، ألبرت حوراني، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت - لبنان، 1968، ص: 13 - 15.
الإمام ابن أبي ذئب [1] الحمد لله الذي أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ جلَّ من قائل: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾[الحجر: 94]، والصَّلاة والسَّلام على إمام المرسلين، الصَّادق الأمين الناطق بالحق المبين القائل: "أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائرٍ" [2] ، أمَّا بعد: فهذه مقتطفات من أخبار علمٍ من أعلام الأمَّة، وعالمٍ من علمائها، وأمام من أئمَّتها، إمام عالم جمع بين العلم وقول الحقِّ والشجاعة، حتَّى شهدَ له أقرانه ومن بعدهم بأنَّه إمام وقته، وتناقل الأئمَّة أخباره، حتَّى صار مثلا يُقتدى به في العلم وقول الحق، وهو: "الإمام ابن أبي ذئب" هذا الإمام الذي غفل عن ذكره أهل العلم، حتَّى نسيه العامَّة، وهو الذي لا يهاب الملوك، حتَّى هابته الملوك، فأردت أن أكتب هذه المقالة فيها شيء من أخبار هذا الإمام الجليل، إحياءً لذكره وتشريفًا له، ولكي نقتبس من أخباره الدروس والعبر. ترجمة الإمام ابن أبي ذئب: يقول الحافظ أبو سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن زبْر الرَّبعي: اسم ابن أبي ذئب: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن هشام بن شعبة بن عبد الله بن أبي قيس بن عُبدُ وَدّ بن (نصر) أو (مضر) بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي [3] فقيه أهل المدينة [4] وزاهدهم [5] . وأمُّه: بريهة بنت عبدالرَّحمن بن الحارث بن أبي ذئب [6] . قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: كان ابن أبي ذئب رجلًا صالحًا قوَّالًا بالحقِّ، وكان يُشبَّهُ بسعيد بن المسيَّب، وكان قليل الحديث [7] . وقال الحافظ أبو سليمان [8] : وُلد ابن أبي ذئب في المحرَّم من سنة إحدى وثمانين [9] ، ومات بالكوفة [10] ، ودفن بها سنة تسع وخمسن ومائة [11] . من أخبار ابن أبي ذئب: 1 - قال الحافظ أبو سليمان بسنده إلى أبي نعيم، قال: حججتُ سنة حجَّ أبو جعفر [12] ، وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، ومعه ابن أبي ذئب، ومالك بن أنس [13] ، فدعا ابن أبي ذئب، فأقعده معه على دار الندوة عند غروب الشمس، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد بن الحسن بن فاطمة [14] ؟ قال: أما إنَّه يتحرَّى العدل. قال: فما تقول فيَّ مرَّتين أو ثلاثًا؟ قال: وربِّ هذه البنية إنَّك لجائر. قال: فأخذ الربيع [15] بلحيته. فقال أبو جعفر: كُفَّ يا بن اللَّخناء [16] ، وأمر له بثلاثمائة دينار. 2 - وقال ابن أبي فُديك [17] قال: سمعت ابن أبي ذئب يحدِّث سفيان الثوري [18] قال لأبي جعفر: أنا لك خير من ابنك المهدي [19] . فقال سفيان: سبحان الله، وحلَّ لك أن تقول: المهدي. فقال ابن أبي ذئب: كلُّنا مهديٌّ هدانا الله عزَّ وجلَّ. 3 - وقال الإمام أحمد بن حنبل [20] : كان ابن أبي ذئب ومالك يحضران عند السلطان، فيسكت مالك ويتكلَّم ابن أبي ذئب، ولقد دخل على أبي جعفر فصدقه فأمر له بشيء فلم يقبله. 4 - قال الحافظ أبو سليمان بسنده إلى داود ابن أبي العباس، عن أبيه، عن جدِّه قال: بعث بي المنصور إلى ابن أبي ذئب أسأله عن مسألة فقال: ما هي؟ فذكرها له، فقال: لا يراني الله عزَّ وجلَّ أُفتي جبَّارا مثله في مسألة فيها ضرر على المسلمين. قال فرجعت إلى المنصور مغضبا، فعرف في وجهي. فقال: لقد جئت بغير الوجه الذي ذهبت به. فقلت: تبعث بي إلى مجنون؟ وأخبرته. فقال المنصور: الذي لقيته أنا منه العام في الطواف أشد من هذا، كنت في شوق إلى أن أراه، فبين أنا أطوف إذا قال لي المسيَّب [21] : أليس كنت تسأل عن ابن أبي ذئب؟ فقلت: بلى، فقال: هو ذا يطوف، فأتيته فقلت: السلام عليكم ورحمة الله، وناولته يدي، فبرق عينيه في وجهي وقال: من أنت؟ فلقد أخذت يدي أخذ جبَّار، قلت: أو ما تعرفني؟ قال: لا، قلت: أنا أبو جعفر المنصور، قال: فجذب يده من يدي وقال: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولهُ ﴾ [المجادلة: 22]، قال: قلت: يا أمير المؤمنين ما صنعت به؟ قال: ما عسيتُ أن أفعل برجل اللهُ في قلبه عظيم. 5 - وقال الإمام الشافعي [22] : قدمَ أبو جعفر المنصور المدينة حاجًّا فأتته الوفود من كلِّ بلد يشكون إليه الأمراء، فأتاه أهل اليمن يشكون معن بن زائدة [23] ، وأتاه بنو أبي عمرو الغفاري من أهل المدينة يشكون أميرهم الحسن بن زيد [24] ، فقال وفد اليمن لأبي جعفر المنصور، وقد أُحضر ابن أبي ذئب والعلماء فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنَّ معن بن زائدة قد تعدَّى علينا وأساء فينا السيرة، وقد رضينا بابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفر: ما تقول في معن بن زائدة؟ قالا: قولي فيه وعلمي به أنَّه عدوُّ الله، يقتل المسلمين بغير حق والمعاهدين، ويحكم بغير ما أُنزلَ، ويُفسد العباد والبلاد. قال: ثمَّ تقدَّم الغفَّاريون يشكون الحسن بن زيد وسيرته فيهم وقالوا: قد رضينا بان أبي ذئب، فأطبق عليه ابن أبي ذئب وذكره بسوء. فقال الحسن بن زيد: يا أمير المؤمنين، ذكرني بما قد ذكر فإن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن حال أمير المؤمنين عنده؟ فقال أبو جعفر: ما تقول فيَّ يا ابن أبي ذئب؟ فقال: اعفني. قال: قد عزمت عليك. قال: اعفني. قال: لست أفعل. قال: فبكى ابن أبي ذئب، ثمَّ قال: تسألني عن نفسك، أنت أعلم بنفسك مني، وما عسى أن أقول فيك ممَّا فيك، أنت والله الرجل الذي أمْرَرَ على المسلمين أمرهم، ظلمتهم، واعتديت عليهم، وسفكت الدماء الحرام، وأخذت الأموال من غير حلِّها ووضعتها في غير حقِّها، وأهلكت المسلمين، والفقراء، واليتامى، والمساكين. قال محمد بن إبراهيم [25] وبين يدي أبي جعفر عمود، فجمع الناس عليهم ثيابهم مخافة أن يتلطَّخ عليهم من دمه ودماغه، فلم يهجه بشيء وانصرف النَّاس، فقال عمٌّ لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، إنَّ هذا المجلس قد حضره أهل الآفاق وينصرفون إلى البلاد فيُخبرون بما كان إلى أمير المؤمنين من الجرأة، فلو قتلت هذا الكلب لئلَّا يجترئ عليك غيره من الناس. فقال له أبو جعفر: ويحك، هذا رجل قد بلغت منه صعوبة العبادة، وقد سمع الحديث: "إنَّ أفضلَ الجهاد كلمة عدل قالها عند سلطانٍ جائر يُقتل عليها" [26] ، فطمع أن أقتله، أفيراني أقتله وأريحه ممَّا هو فيه من صعوبة العبادة؟ ولا والله ما أهيجه أبدا حتَّى أموت أو يموت. 6 - وقال محمد بن إبراهيم الإمام: حضرت أبا جعفر المنصور بالمدينة وعنده ابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفر المنصور: يا ابن أبي ذئب أخبرني بحالات النَّاس. فقال: يا أمير المؤمنين؛ هلك النَّاس، وضاعت أمورهم، فلو اتَّقيت الله فيهم، وقسمت فيئهم فيهم؟ فقال: ويلٌ لك يا ابن أبي ذئب، لولا ما بعثنا بذلك الفيء من البعوث وسددنا به الثغور لأُتيت في منزلك وأُخذت بعنقك وذُبحت كما يُذبح الجمل. فقال ابن أبي ذئب: يا أمير المؤمنين، قد بعث البعوث وسدَّ الثغور وقسم فيئهم فيهم غيرك. قال: ويلك؛ ومن ذلك؟ قال: عُمر ابن الخطَّاب؛ فأطرق أبو جعفر إطراقة، ثمَّ رفع رأسه فقال: إنَّ عمر ابن الخطَّاب رحمه الله عمل لزمان وعملنا لزمان. فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الحقَّ لا تنقله الأزمان عن مواضعه ولا تغيُّره عن وجه. قال: أحسبك يا بن أبي ذئب طعَّانا على السلطان. قال: لا تقل ذاك يا أمير المؤمنين، فَوَالَّذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه لصلاحُكَ أحبُّ إليَّ من صلاح نفسي، وذاك أنَّ صلاحي لنفسي لا يعدوها، وصلاحك لجميع المسلمين. قال: فأطرق أبو جعفر وإنَّ المسيب والحرس قيامٌ على رأس أبي جعفر بأيديهم السيوف المسلَّلة. قال: ثمَّ رفع رأسه وقال: من أراد أن ينظر إلى خير أهل الأرض اليوم، فلينظر إلى هذا الرجل، وأومأَ إلى ابن أبي ذئب. 7 - وقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: بَلَغَ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيْثِ: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ، فَقَالَ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بِالحَقِّ مِنْ مَالِكٍ [27] . وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم والحمد لله ربِّ العالمين. [1] الاعتماد الأوَّل بعد الله تعالى هو: كتاب الحافظ أبي سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن زبْر الرَّبعي (298 - 379 هـ): الجزء فيه من أخبار ابن أبي ذئب، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ثمَّ بقيَّة المصادر. [2] أخرجه أبو داود (4344)، والترمذي واللفظ له (2174)، وابن ماجه (4011). [3] تاريخ بغداد 297/2، وتهذيب الكمال 630/25. [4] نسب قريش ص 423 - جمهرة أنساب العرب ص 168. [5] انظر ترجمته في الطبقات الكبير 558/7 - وتاريخ ابن معين 525/2 - ونسب قريش ص 423 - وطبقات خليفة ص 273 - وتاريخ خليفة ص 469 - والتاريخ الكبير 152/1 - والتاريخ الأوسط 102/2 - والمعارف لابن قتيبة ص 485 - وجمهرة نسب قريش وأخبارها 936/2 - والمعرفة والتاريخ 146/1. [6] نسب قريش ص 423 - جمهرة نسب قريش وأخبارها 936/2 - وتاريخ بغداد 297/2 - تهذيب الكمال 630/25. [7] مسند ابن الجعد 1021/2 - وتاريخ بغداد 298/2 - وتهذيب الكمال 635/25 - وسير أعلام النبلاء 465/7. [8] سبقت ترجمته في الباب رقم 1. [9] تاريخ مولد العلماء ص 83 - ورجال صحيح البخاري 663/2 - و)جمهرة أنساب العرب 168. [10] الطبقات الكبير 563/8. [11] تاريخ الخليفة ص 429 - ورجال صحيح البخاري 663/2 - وجمهرة انساب العرب 168. [12] أبو جعفر: هو أو جعفر المنصور الهاشمي العباسي ثاني خلفاء بني العباس ولد سنة 95 هـ وتوفي سنة 179 هـ، ينُظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 83/3، والأعلام 117/40. [13] مالك ابن أنس: هو أبو عبدالله الأصبحي الحميري إمام دار الهجرة ولد سنة 93 هـ، وتفي سنة 158 هـ، ينظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 48/8. [14] الحسن وهو: ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبو محمد الهاشمي أمير المدينة ولد 83 هـ، وتفي 168 هـ، يُنظر في ذلك: الأعلام 191/2. [15] الربيع: هو ابن يونس محمد، أبو الفضل الأموي مولاهم، الوزير والحاجب الكبير للخليفة أبي جعفر المنصور العباسي، ولد سنة 111 هـ، وتوفي سنة 169 هـ؛ يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 335/7 - والأعلام 15/3. [16] اللخناء: التي لم تختن، وقيل: اللخن النتن، ينظر في ذلك: لسان العرب مادة لخن. [17] ابن أبي فديك: هو محمد بن إسماعيل بن مسلم، أبو إسماعيل الديلمي مولاهم المدني، الإمام المحدث، المتوفي سنة 200 هـ. يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 486/9. [18] سفيان الثوري: هو ابن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الثوري الكوفي، شيخ الإسلام إمام الحفَّاظ، وسيِّدُ العلماء العاملين في ومانه، ولد سنة 97 هـ، وتوفي 161 هـ. يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 229/7. [19] المهدي: هو الخليفة محمد بن الخليفة أبي جعفر المنصور، ولد سنة 127 هـ، توفي سنة 169 هـ؛ يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 400/7. [20] أحمد بن حنبل: هو ابن محمد أبو عبد الله الشيباني، الإمام حقًّا وشيخ الإسلام صدقا إمام أهل السنَّة، ولد سنة 164، توفي سنة 241؛ يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 177/11. [21] المسيب: هو ابن زهير بن عمرو، أبو مسلم الضبي، كان قائدا شرطة المنصور والمهدي، ولد سنة 100 هـ، وتوفي سنة 175 هـ؛ ينظر في ذلك: الأعلام 225/7. [22] الشافعي: وهو محمد بن إدريس بن العباس، أبو عبد الله القرشي المطلبي الشافعي فقيه الملة وعالم عصره، ولد سنة 150 هـ، وتوفي سنة 204 هـ؛ يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 5/10. [23] معن هو ابن زائدة بن عبد الله الشيباني، أمير العرب، توفي سنة 152 هـ؛ يُنظر في ذلك: سير أعلام النبلاء 97/7، والأعلام 237/3. [24] تقدَّمت ترجمته في رقم 12. [25] هو محمد بن إبراهيم الإمام، أمير عباسيٌّ هاشميٌّ وُلِّي إمارة الحج أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، توفي سنة 185؛ ينظر في ذلك: الأعلام 293/6. [26] الحديث عن أبي داود 4344 من غير "يقتل عليها". [27] قال الإمام الذهبي في السير (7/ 142 - 143) عند ترجمة ابن أبي ذئب - وقد رواه عنه أيضًا تلميذه حربٌ الكرمانيُّ في "مسائله"(ص/481)؛ فقال: سمعته؛ يقول: "بلغ ابن أبي ذئب أنَّ مالك بن أنسٍ؛ قال: ليس البيِّعان بالخيار؟ فقال ابن أبي ذئب: يستتاب مالك، فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه. " وكذا هو عند ابن مفلح في "المقصد الأرشد"(2/306) وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"(2/56) عن عمر بن محمَّد بن بكَّار القلافلائيِّ أبي جعفرٍ حدَّث بمسائل أبي إسحاق إبراهيم بن هانىء النَّيسابوريِّ؛ قال: سمعت أبا عبد الله؛ يقول: فذكره. وأيضًا من رواية الفضل بن زياد أبو العبَّاس القطَّان البغداديُّ عنه كما في "المقصد الأرشد"(2/312) عن أبي بكرٍ الخلاَّل. وفي روايةٍ عن ابنه عبد الله كما في "العلل"(1275)؛ قال: سمعته؛ يقول: "قالوا لابن أبي ذئب: إنَّ مالكا؛ يقول: ليس البيِّعان بالخيار، فقال ابن أبي ذئب: هذا خبر موطوء في المدينة. قال أبي: وكان مالك؛ يقول: ليس البيِّعان بالخيار. سمعت أبي؛ يقول: قال ابن أبي ذئب: يستتاب مالك فإن تاب، وإلاَّ ضربت عنقه. وأخرجه الفسويُّ في "المعرفة والتَّاريخ"(1/686) ومن طريقه الخطيب البغداديُّ في "تاريخه"(3/515) وابن أبي يعلى في "طبقاته"(1/251) عن الفضل بن زياد، عن أحمد بن حنبل؛ قال: بلغ ابن أبي ذئب أنَّ مالكا لم يأخذ بحديث البيِّعين بالخيار؛ قال: يستتاب وإلاَّ ضربت عنقه. ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوَّله على غير ذلك. وقد ذكرها أيضًا الإمام الذَّهبيُّ في "تذهيب التَّهذيب"(8/190). وأخرجه أيضا الإمام أبو إسماعيل الأنصاريُّ الهرويُّ في "ذم الكلام"(885)؛ قال: أخبرنا محمَّد بن موسى، حدَّثنا محمَّد بن يعقوب، حدَّثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل، سمعت أبي؛ يقول: قيل لابن أبي ذئب: مالك بن أنس؛ يقول: ليس البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. فقال: يستتاب مالك؛ فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه. قلت: فمدار هذه الرِّواية ـ كما رأينا آنفًا ـ هي فقط على الإمام أحمد، ومنه اشتهرت بواسطة تلامذته: الفضل بن زياد وحربٌ الكرمانيُّ وابن هانئ النَّيسابوريُّ وابنه عبد الله؛ وهؤلاء جميعهم أئمَّة ثقات أثبات. إلاَّ أنَّ علَّتها الانقطاع كما هو ملاحظٌ فيها؛ فالإمام أحمد لم يسندها، ولعلَّها لم تصح كما قال ذلك الذَّهبيُّ في السِّير، ولكنَّ الناظر إلى نمط حياة ابن أبي ذئب وشجاعته وقوله للحق لا يستغرب ذلك.
في رسم كتاب الجاحظ [1] (البيان والتَّبيين) أم (البيان والتَّبَيُّن)؟ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان؛ أما بعد: فهذا مبحث لطيف، وقضية شغلت بعض أعلام العصر في سبيل تحرير الصواب في اسم كتاب الجاحظ الشهير بـ (البيان والتبيين) . وكان مبدأ طفو هذه المسألة على مسرح البحث العلمي في القرن التاسع عشر [2] ، واستمرت إلى وقتنا الحاضر، ونجم عنها (خلاف مشهور) [3] ؛ ‏فقد صارت (قضية لها تاريخ) [4] . وقد صنف المتصدرون لهذه القضية في موقفهم من كلمة (التبين) أصنافًا ثلاثة [5] : 1- مشيرون إليها إشارة كالمستشرق البارون ماك كوكين ‏دي سلان، والمستشرق كارل بروكلمان [6] ، والأستاذ عبدالسلام محمد هارون [7] ، والدكتور إبراهيم سلامة [8] . 2- جازمون أو ظانُّون بأنها الصواب، كالمستشرق كليمان هيوار [9] – ولعله أول جازم - والدكتور بدوي طبانة [10] ، والدكتور ميشال عاصي [11] . 3- ومعارضون؛ وهم الجمهور المتمسك بالتَّبْيِين عن علم بالتَّبَيُّن، ولعل الدكتور طاهر مكي [12] أول من كتب منهم في ذلك. وبعد سبر الآراء فيها وتجاذب الفكر حولها، وبسط الحجج الكاشفة لها؛ عنَّ لأكثر الباحثين فيها وجه الحق وأسفر لديهم قناع الرأي، وهو أن الصواب في عنوان كتاب الجاحظ إنما هو: (البيان والتبين) ليس غير. ولعل في ما أعرضه وأُحيل إليه من عنوانات البحوث والدراسات مقنع للقارئ الكريم، وغنية للباحث الأمين. هذا، وليس لي في ذلك إلا الجمع والتنسيق، وشيء من التهذيب والترتيب. كتاب (البيان) للجاحظ حين صدر باختلاف طبعاته الأربع بتحقيق الشيخ عبدالسلام محمد هارون، جاء على المشهور في اسم الكتاب (البيان والتبيين) ، على الرغم من وجود إشارات كثيرة – من كلام الجاحظ نفسه - توحي من قريب وبعيد إلى أن الصواب في اسم الكتاب هو ‏ (البيان والتبين) ؛ فمنها قوله في: 1- (1/ 11 - 12 هارون): (لأن مدار الأمر على البيان والتبين [13] ، وعلى الإفهام والتفهم [14] ) . 2- (1/ 76) : (لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع). 3- (1/ 84): (ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم) . 4- (1/ 186): (وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين) . علق عليه هارون في الهامش رقم 6 بقوله: (ل، هـ: "التبيُّن" مع ضبطه بتشديد الياء المضمومة) . 5- (1/ 197): (وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت، وبالتحرز من زلل الكلام) . 6- (1/ 200): (وأنا أوصيك ألَّا تَدَعَ التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيهما طبيعة) . علق عليه هارون في الهامش2: (ل، هـ: "والتبين") . 7- (1/ 271): (قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهل البيان وحب التبين) [15] . 8- (1/ 273): (فأما نفس البيان فكيف ينهى عنه، وأبْيَنُ الكلام كلام الله، وهو الذي مدح التبيين وأهل التفصيل). 9- (2/ 5): (أردنا - أبقاك الله - أن نبتدئ صدر هذا الجزء الثاني من البيان والتبين بالرد على الشعوبية) [16] . 10- (2/ 39): (وإنما مدار الأمور والغاية التي يُجرى إليها: الفهم ثم الإفهام، والطلب ثم التثبت). 11- (2/ 207): (آخر الجزء الأول من كتاب البيان والتبين) [17] . 12- (3/ 5): (هذا أبقاك الله الجزء الثالث، من القول في البيان والتبيين). علق عليه بقوله في الهامش2: (ل، هـ: "والتبين"). 13- (3/ 293): (وصرف أوهامهم إلى التعرف، وحبب إليهم التبين). 14- (4/ 101): (وهذا أبقاك الله آخر ما ألفناه من كتاب "البيان والتبين") [18] . ومما يؤيد هذا الاختيار وروده بهذا الضبط (التبيُّن) بتشديد الياء المضمومة في توثيق العنوان في مخطوطتين؛ هما: 1- نسخة مكتبة كوبريلي بالأستانة، وكان تاريخ الفراغ من نسخها هو سنة 684هـ، ومنها مخطوطة مصورة محفوظة بدار الكتب المصرية ‏تحت رقم (4370 أدب) [19] . 2- مصورة مخطوطة مكتبة فيض الله بالأستانة، كُتبت سنة 587هـ، وهو أقدم تاريخ لنسخة اعتمد عليها ناشر البيان حتى الآن، وصرح الناسخ أن هذه النسخة منسوخة من نسخة أبي جعفر البغدادي، وهي النسخة الكاملة‏، وذلك سنة 347هـ؛ (أي: بعد وفاة الجاحظ بمدة لا تزيد على 92 ‏سنة) ، ‏والعنوان بها مشكولًا شكلًا تامًّا (البيان والتبيُّن) بتشديد الياء المضمومة [20] . وعن الدراسات التي خلصت إلى أن الصواب في اسم كتاب الجاحظ هو (البيان والتبين)؛ فمنها: 1- قطوف أدبية [21] لعبدالسلام محمد هارون (‏ت: 1408هـ = 1988م) [22] . ‏ 2- مجلة الهلال (ص: 66 – 67 عنوان المقالة: دراسة في مصادر الأدب، تأليف د. الطاهر أحمد مكي، مناقشة بقلم: د. محمود الطناحي) [23] . 3- مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ [24] . 4- العنوان الصحيح للكتاب (ص: 83 رقم ‏‏33) [25] ‏. 5- كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وإشكالية العنوان [26] . 6- مجلة كلية التربية جامعة الزاوية تحت عنوان: (من قضايا ‏العناوين "التبين أم التبيين") د. زهرة خليفة سليمان. 7- ‏المصطلح النقدي عند الجاحظ من خلال البيان واالتبيين (ص: 50 - 52 الفصل الثالث) . 8- مقالات د. محمود محمد الطناحي (1/ 2/ 530 أجمل كتاب في حياتي: البيان والتبيين للجاحظ) [27] . 9- مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ؛ ميشال عاصي [28] . ومما يعضد هذا الاختيار أيضًا وروده بتشديد الياء المضمومة (التبين) في بعض المصادر والمراجع؛ منها: 1) البصائر والذخائر (7/ 205 رقم 643) [29] لأبي حيان التوحيدي (ت: 414هـ) .‏ 2) دلائل الإعجاز (ص: 398) للجرجاني (ت: 471هـ) [30] . 3) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (قسم03 ج01 ص: 382) ‏لابن بسام (ت: 542هـ) .‏ 4) التكملة لكتاب الصلة (2/ 72 رقم 201) [31] ‏ لابن الأبار (ت: 658هـ) .‏ 5) وفيات الأعيان (3/ 471 رقم 506 الجاحظ) ، و (5/ 11) لابن خلكان‎ (ت: 681هـ) [32] .‏ 6) مختصر تاريخ دمشق (19/ 186) لابن منظور (ت: 711هـ) .‏ 7) كنز الدرر وجامع الغرر (5/ 67) لأبي بكر الدواداري (ت: بعد 736هـ) .‏ 8) إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال (4/ 120 رقم 1312) و (9/ 186) ‏ لمغلطاي (‏ت: 762هـ) .‏ 9) تصحيح لسان العرب (ص: 136) لأحمد بن إسماعيل تيمور (ت: 1348هـ) . 10) المعجم الكبير لمجمع اللغة (الجزء 04 ص: 476 ع2 الجيم/ جلل) .‏ 11) معجم المناهي اللفظية (ص: 126/ حرف الألف/ الله – محمد) بكر بن عبدالله أبو زيد (ت: 1429هـ) ‏. 12) المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب (ص: 381) بكر بن عبدالله أبو زيد (ت: 1429هـ) ‏.‏ 13) فهرس مخطوطات القرويين: (البيان والتبين ج/ 03 الأدب - الجاحظ) [33] . 14) اعتذارات الأئمة (ص: 5 كلمة مضيئة) [34] ‏لخليل بن عثمان الجبور السبيعي. 15) المجتبى من كتاب البيان والتبين للجاحظ [35] للشيخ أبي الفضل محمد بن عبدالله أحمد القونوي‎‏.‏ مظان البحث 1) الأدب العربي للمستشرق كليمان هيوار، طُبع عام 1902م. 2) اعتذارات الأئمة ‏‏لخليل بن عثمان الجبور السبيعي، دار الصميعي بالرياض، ط/ الأولى 1420هـ - 1999م.‏ 3) إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال‏ ‏لمغلطاي، تحقيق: ‏‎أبو عبدالرحمن عادل بن محمد وأبو محمد أسامة ابن إبراهيم، الفاروق الحديثة للطباعة ‏والنشر، ط/ الأولى 1422هـ‍‍ - 2001م.‏ 4) ‎التكملة لكتاب الصلة‏ لابن الأبار، تحقيق: د. عبدالسلام الهراس، دار الفكر - بيروت 1415هـ - 1995م.‏ 5) ‏العنوان الصحيح للكتاب للشريف حاتم بن عارف العوني، دار عالم الفوائد - مكة المكرمة، ط/ الأولى 1419هـ. ‏ 6) ‏المصطلح النقدي عند الجاحظ من خلال البيان واالتبيين‏، ‏مذكرة شهادة الماستر ‏جامعة محمد الصديق بن يحيى - كلية الآداب قسم اللغة العربية ‏‏1435 – ‏‏1436هـ = 2014 – ‏‏2015م.‏ 7) البصائر والذخائر ‏لأبي حيان التوحيدي، تحقيق: د. وداد قاضي، دار صادر – بيروت، ط/ الأولى 1408هـ - 1988م.‏ 8) بلاغة أرسطو بين العرب واليونان، د. إبراهيم سلامة، مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة أحمد مخيمر، ط/ الأولى ‏‏1369هـ - 1950م.‏ 9) البيان والتبين للجاحظ، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة (د.ت) .‏ 10) تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، دار المعارف، ط/ الثالثة – مصر. 11) تصحيح لسان العرب‏ لأحمد بن إسماعيل تيمور، دار الآفاق العربية بالقاهرة، ط/ الأولى 1422هـ - 2002م.‏ 12) ‏دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي – القاهرة. 13) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‏ ‏لابن بسام، تحقيق: د.إحسان عباس،دار الثقافة – بيروت 1417هـ - 1997م.‏‏ 14) العواصم من القواصم لابن العربي المالكي، تحقيق: د.عمار طالبي، مكتبة دار التراث بالقاهرة. 15) فهرس مخطوطات القرويين: (467 469.000 "1244" "البيان والتبين" "ج. ‏‏3" "الأدب" "أبو عثمان عمرو بن بحر" "الجاحظ" "255 هـ") ‏ ‏.‏ 16) قطوف أدبية ‏لعبدالسلام محمد هارون (دراسات نقدية في التراث العربي حول تحقيق التراث) ، مكتبة السنة بالقاهرة، ط/ الأولى 1409هـ - 1988م.‏ 17) كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وإشكالية العنوان، د.أحمد البزور، (موقع عربي 21 على الشبكة، نشر بتاريخ السبت 21 مارس 2020 الساعة 03: 53) .‏ 18) كنز الدرر وجامع الغرر ‏لأبي بكر الدواداري، تحقيق: دوروتيا كرافولسكي، بيروت 1413هـ - 1992م‎. 19) المجتبى من كتاب البيان والتبين‏ للشيخ أبي الفضل محمد بن عبدالله أحمد ‏القونوي‎‏، دار الميمنة ‏بالمدينة المنورة، ط/ الأولى 1438هـ - 2017م.‏ 20) مجلة الهلال (العدد 08 بتاريخ: 01 أغسطس 1997م‏) . 21) مجلة كلية التربية جامعة الزاوية تحت عنوان: (من قضايا ‏العناوين "التبين أم التبيين") ، ‏د. زهرة خليفة سليمان، العدد الخامس عشر سبتمبر 2019م، ص: 211.‏ 22) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور، تحقيق: إبراهيم صالح، دار الفكر - دمشق – سوريا 1409هـ - 1989م.‏ 23) المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب لبكر ‏بن عبدالله أبو زيد، دار العاصمة - مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ط/ الأولى 1417هـ.‏ 24) مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ للشاهد البوشيخي، دار القلم للنشر والتوزيع - الكويت، ط/ الثانية 1415هـ - 1995م.‏ 25) معجم الأدباء لياقوت الحموي، تحقيق: د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط/ الأولى 1993م.‏ 26) المعجم الكبير لمجمع اللغة القاهري، طبع: القاهرة، ط/ الأولى 1420هـ - 2000م.‏ 27) معجم المناهي اللفظية لبكر ‏بن عبدالله أبو زيد، دار العاصمة بالسعودية، ط/ الثالثة 1417هـ - 1996م.‏ 28) مقالات د.محمود محمد الطناحي (أجمل كتاب في حياتي: البيان ‏والتبيين للجاحظ) ‏‏، صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب، دار البشائر الإسلامية - بيروت، ط/ الأولى ‏‏1422هـ - 2002م. 29) وفيات الأعيان‏ لابن خلكان‎‏، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت [كتبت مقدمته سنة 1970م]. ط/ أخرى‏: تحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة 1968م [بواسطة المكتبة الشاملة].‏ [1] في كتاب العواصم من القواصم (ص: 355) لابن العربي المالكي (‏ت: 543هـ) ذكرٌ لكتاب الجاحظ "البيان والتبيين"، وقد وصفه في سياق ذمه له أنه صاحب كتاب (الضلال والتضليل)! [2] من قِبل البارون ماك كوكين دي سلان، ‏ولعله أول من عثر على "التبين"، وأشار إليها في العصر الحديث، وذلك في ترجمته الإنجليزية لوفيات ‏الأعيان التي صدرت بباريس عام 1838م؛ قال معلقًا على عبارة (كتاب البيان والتبيين) الواردة في ‏ترجمة أبي عثمان بالوفيات: (في المخطوط بخط المؤلف: التبين)، وكتب كلمة التبين بالحروف ‏العربية، جاعلًا شدة فوق الياء، وهي إشارة لا شك مثيرة؛ [تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (3/ 110)، ومصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للبوشيخي (ص: 28)].‏ [3] محمود شاكر: (الهامش2،‏ ‏‏ دلائل الإعجاز، ص: 398). ‏ [4] ‏مصطلحات نقدية وبلاغية للبوشيخي(ص: 27). [5] إفادة الشاهد البوشيخي في مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 27). [6] تاريخ الأدب العربي (3/ 110). [7] ‏ثم صرح في قطوف أدبية (ص: 97 – 98)‏ بصواب اسم الكتاب، وأنه (البيان والتبين) ‏بتشديد الياء المضمومة. [8] في كتابه بلاغة أرسطو بين العرب واليونان (ص: 55)، محيلًا إلى رأي هيوار Huart. [9] في كتابه كالمستشرق كليمان هيوار "الأدب العربي" المطبوع عام 1902م، مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 28).‏ [10] المقصود كتبه الأساسية في البلاغة والنقد العربي القديم - مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 30 الهامش1).‏ [11] في: مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ ‎‏- مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 31 الهامش5).‏‎ ‎ [12] مجلة الهلال (ص: 66 – 67) عنوان المقالة: دراسة في مصادر الأدب، تأليف ‏د.الطاهر أحمد مكي، مناقشة بقلم: د.محمود الطناحي.‏ [13] جاء في الهامش4 قول عبدالسلام هارون: ما عدا ل، هـ: "التبيين". [14] جاء في الهامش5 قول عبدالسلام هارون: ما عدا ل، هـ: "والتفهيم". [15] علق عليه في الهامش3 بقوله: (ما عدا هـ: "التبيين").‏ [16] علق عليه في الهامش2: (ما عدا ل، هـ: "والتبيين").‏ [17] علق عليه في الهامش2: (هذه خاتمة نسخة الأصل وهي ل. أما خاتمة ب، جـ والتيمورية ‏فهي: "تم الجزء الأول من البيان والتبيين"، وخاتمة هـ: هنا كمل نصف الديوان بحمد الله).‏ [18] علق عليه في الهامش1: (ما عدا ل، هـ: "والتبيين").‏ [19] قطوف أدبية (ص: 98)، مقدمة عبدالسلام هارون لكتاب الجاحظ البيان والتبين (ص: 17، 20)‏، مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 35)، ‏كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وإشكالية العنوان. قال ياقوت في ‏معجم الأدباء (5/ 2118)‏: (وكتاب البيان والتبيين نسختان: أولى وثانية، والثانية أصح وأجود)‏. ‏‏(فيشتد سؤال الأدباء: أين أولاهما وأين الأخرى؟ وكان ‏من صنع الله أني حينما اتجهت إلى معارضة أصول ‏الكتاب بعضها ببعض، تبين لي في أثناء ‏ذلك أن نسخة مكتبة كوبريلي، هي أصح نسخة من أصول ‏الكتاب، ولحظت أيضًا أنها كثيرًا ‏ما تنفرد ببعض النصوص والعبارات ... ومهما يكن من شيء فلا ريب ‏عندي أن نسخة ‏كوبريلي هي أصح النسخ وأوثقها وأوفرها نصًّا)؛ [مصطلحات نقدية وبلاغية، ص: 35].‏ [20] قطوف أدبية (ص: 98)، مجلة الهلال (ص: 67 دراسة في مصادر الأدب، تأليف د.الطاهر أحمد مكي، مناقشة ‏بقلم: د.محمود الطناحي)‏، ‏مقدمة عبدالسلام هارون للبيان والتبين (ص: 23 - 25)‏، مصطلحات نقدية وبلاغية ‏(ص: 32‏)، كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وإشكالية العنوان.‏ [21] دراسات نقدية في التراث العربي حول تحقيق التراث. [22] وقد صرح في (ص: 97 – 98) بصواب اسم كتاب الجاحظ، وأنه (البيان والتبين) ‏بتشديد الياء المضمومة، وهذا ‏نص كلامه رحمه الله: (التبين ... والتبيين :سمعتكم تقولون ... "البيان والتبين"، كما رأيتكم الآن تكررون ‏في الإجابة السابقة عبارة "التبين" ... وقد كان المتداول لدى الكثيرين "التبيين" ... ما ‏تفسيركم لذلك؟ ‏هذه ملاحظة وجيهة بلا ريب ... وأنا معك في أن المعروف المتداول في اسم هذا الكتاب ‏هو "البيان والتبيين" - بياءين - ولكن طبيعة الأمور ترى أن هذه التسمية لا تتمشى مع ‏المنطق، فإن البيان هو التبيين بعينه، ونحن نربأ بالجاحظ أن يقع في مثل هذا العيب في تسمية ‏أشهر كتبه وأسيرها، والدارس لهذا الكتاب يرى أنه ذو شقين متداخلين: الشق الأول: هو ما اختاره الجاحظ ‏من النصوص والأخبار، والأحاديث والخطب والوصايا، وكلام الأعراب والزهاد، ونحو ذلك، وهو ‏ما يعنيه الجاحظ بكلمة "البيان‎ ‎".‏ والشق الثاني: هو النقد الأدبي في صورته المبكرة، فللجاحظ في هذا الكتاب نظرات ‏فاحصة في نقد نصوصه، وفي الكلام بصفة عامة، تسمى بعد ذلك بفن "النقد"، فهذه النظرات ‏والقواعد التي ساقها الجاحظ هو ما عناه بكلمة "التبين"، ‏‎هذا من ناحية، وهناك ناحية أخرى تاريخية وثائقية؛ فإن النسخ العتيقة من هذا ‏الكتاب - وقد أثبت صورتها في تقديمي للكتاب - تقطع بأن عنوانه هو "البيان والتبين"، ‏وهذا ما يجده القارئ بوضوح في مصورة مخطوطة كوبريلي المحفوظة بدار الكتب المصرية ‏تحت رقم (4370 أدب)، وتاريخ كتابتها هو سنة 684، وكذلك نقرأ هذا العنوان بوضوح ‏في مصورة مخطوطة مكتبة فيض الله، وهي في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت ‏رقم (887) وهناك بحمد الله صورة منها،وهذه النسخة مكتوبة بخط أبي عمرو محمد بن ‏يوسف بن حجاج اللخمي.وقد قرأها وراجعها على الإمام أبي ذر ابن محمد بن مسعود ‏الخشني في سنة 587 هـ، وكتب هذا الناسخ أنه وجد في آخر السفر الذي نسخ منه الثلث ‏الثالث من هذا الكتاب ما نصه: "كتب هذا السفر وهو مشتملٌ على جميع كتاب البيان ‏والتبين نسخة أبي جعفر البغدادي، وهي النسخة الكاملة، فتم بعون الله وتأييده في غرة ربيع ‏الآخر من سنة سبع وأربعين وثلثمئة"؛ أي: بعد وفاة الجاحظ بمدة لا تزيد على 92 ‏سنة، وسأعيد هذه التسمية الصحيحة إلى نصابها في الطبعة الخامسة إن شاء الله تعالى).‏ قلت: ولعل المنية لم تسعفه للوفاء بما وعد - رحمه الله تعالى -. [23] ‏نص المقالة: (ص: 178: عرض للخلاف المعروف في اسم كتاب الجاحظ، وهل هو "البيان ‏والتبين" بياء واحدة مشددة بعد الباء، أو "التبيين" بياءين اثنتين؟ وهو الخلاف ‏الذي لم يُحسم بعد، لكني أحب أن أضيف جديدًا في هذا الموضوع من واقع التجربة ‏الخاصة؛ ‏أولًا: زرت مكتبة القرويين بمدينة فاس بالمغرب الأقصى - حرسه الله - عام‎1975 ‎م ‏عضوًا في بعثة معهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهناك رأيت ‏جزءًا مخطوطًا من كتاب الجاحظ، هو الجزء الثالث، وكُتب على صدره في العنوان "البيان ‏والتبين" بياء واحدة مشددة مضمومة واضحة جدًّا، وهذه المخطوطة مكتوبة على رق غزال - ‏وذلك من سمات المخطوطات القديمة - بقلم أندلسي نفيس موغل في القدم، وجاء بآخر ‏المخطوطة أنها معارَضة بثلاثة أصول صحيحة، ذات حواشٍ قيمة: أصل أبي الوليد الوقشي ‏المتوفى 489هـ‎، وسيأتيك حديث آخر عنه، وأصل عبدالملك بن سراج المتوفى 489هـ أيضًا، وأصل عطاء بن الباذش - لم أعرف تاريخ وفاته - ولم يَرَ شيخنا عبدالسلام هارون هذا الجزء النفيس من الكتاب، ‏ثانيًا: هذا التوثيق لكلمة "التبين" التي جاءت في صدر هذه المخطوطة العتيقة قد يعكر ‏عليه ما قرأته في كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ص: 477 من الجزء الثاني ‏‏- تحقيق الدكتور عمار طالبي - وطبعته هي الطبعة الكاملة للكتاب، ولا تغتر بتلك الطبعة ‏التي تحمل اسم الشيخ الجليل محب الدين الخطيب، فإنما هي جزء صغير من الكتاب خاص ‏بتاريخ الصحابة، وقد نبَّه الشيخ محب الدين على ذلك، قرأت في ذلك الموضع من الكتاب كلام ‏ابن العربي عن الجاحظ، فقد أشار في سياق ذمه له أنه صاحب كتاب "الضلال والتضليل"، ‏ألا ترشح كلمة "التضليل" كلمة "التبيين" من حيث جاءت على وزنها؟ ‏ثم تحدث المؤلف الفاضل عن مخطوطات كتاب البيان والتبيين، ووصفها ودل على ‏أماكنها، ثم ذكر أن الأستاذ عبدالسلام هارون نشر الكتاب، مستخدمًا مخطوطات ‏الكتاب، باستثناء مخطوطة مكتبة فيض الله أفندي بإستانبول، ‏والحق أن ذلك كان من شيخنا في الطبعة الأولى للكتاب، أما في الطبعة الثانية الصادرة ‏عام 1380 هـ - 1960م فقد رجع إلى تلك المخطوطة، ونص على ذلك في صدر عنوان ‏الكتاب، فكتب هذه العبارة: "الطبعة الثانية تمتاز بمقابلتها على نسخة مكتبة فيض الله"). ثم نشر في: مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي‏ (2/ 512 – 513 دراسة في مصادر الأدب للدكتور ‏الطاهر أحمد مكي [2] ‏صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب، القسم الأول، جمعها ورتبها: محمد محمود محمد الطناحي، ومحمد ناصر العجمي. [24] للشاهد البوشيخي، تناول بالفحص والدراسة المعمقة قضية عنوان كتاب الجاحظ الشهير باسم "البيان والتبيين" ‏ضمن عشرين صفحة (27 - 46) ليخلص في الأخير إلى ترجيح (البيان والتبين)؛ ‏ومما جاء فيه (ص: 46): (هذه أهم الأدلة، ولعلها كافية لتحصيل اقتناع – إن لم يكن يقينًا قاطعًا فهو أقرب ما يكون إلى اليقين – بأن العنوان الحقيقي للكتاب هو: "البيان والتبين" بياء واحدة مشددة، وليس "البيان والتبيين" بياءين، وعسى أن يكون في ذلك بيان لحقيقة، وفصل في نزاع، وتصحيح لتحريف، وإنصاف لصواب مهجور من خطأ مشهور، وخدمة للعلم وأهله، وبالله التوفيق). [25] للشريف حاتم بن عارف العوني، وقد جاء فيه:‏ (البيان والتبيين للجاحظ "ت: 250هـ"، طُبع هذا الكتاب الأصيل من كتب الأدب ‏‏بهذا العنوان، بتحقيق شيخ المحققين عبدالسلام محمد هارون، وطُبع أربع طبعات ‏‏بتحقيقه،كلها بالعنوان السابق، ثم أجري مع شيخ المحققين حوارٌ سنة (1401هـ) بمجلة ‏‏الفيصل السعودية في العدد (54) منها، ونُشر هذا الحوار ضمن كتاب (قطوف أدبية)، وقد ‏‏صوَّب في هذا الحوار اسم كتاب الجاحظ، وذكر أن صوابه هو (البيان والتبين) بياء واحدة ‏‏مشددة مضمومة، ودلَّل على ذلك بأدلة نعجب معها كيف خالفها هذا المحقق القدير (عليه ‏‏رحمة الله)! ويكفيه أنه لما أخطأ صوَّب خطأه بنفسه، حتى قال في آخر كلامه: "وسأعيد ‏‏هذه التسمية الصحيحة إلى نصابها في الطبعة الخامسة إن شاء الله")، وأحال في الهامش2 إلى: قطوف أدبية حول تحقيق التراث: لعبدالسلام محمد هارون ‏‏‏– الطبعة الأولى (1409هـ)، مكتبة السنة: القاهرة - (97 - 98).‏ [26] د.أحمد البزور، وقد جاء فيه: (وبالرجوع إلى نسخ أصول الكتاب يتضح أن العنوان الحقيقي هو البيان والتبين، بياء واحدة مشددة مضمومة:‏ ‏أ- نسخة مكتبة فيض الله بالأستانة في فهرس المخطوطات المصورة، سنجد أن عنوان (‏التبين) مشكولًا شكلًا تامًّا بتشديد الياء المضمومة، ودونك نص العبارة؛ إذ يقول: (يشتمل ‏هذا السفر على جميع كتب البيان والتبين)، بتشديد الياء.‏ ‏ب- وبالنظر في نسخة مكتبة كوبريلي بالأستانة، تحت رقم 165، يُلاحظ بيسر نص ‏العنوان الآتي: الجزء الأول من كتاب البيان والتبين.‏ ‏ج- ولزيادة في التثبت كذلك الأمر بالنسبة لنسخة خزانة القيروان بفاس تحت رقم ‏‏1244، ونص العنوان هو: (السفر الثالث من البيان والتبين)؛ ‏ا.هـ، بتصرف يسير. [27] جاء فيه:‏ (ثم يقول في خاتمته: "وهذا أبقاك الله آخر ما ألَّفناه من كتاب: البيان والتبين"؛ هكذا بياء ‏واحدة مشددة، وراجع ما كتبته في عدد الهلال الماضي)، وأحال إلى مجلة "الهلال"، سبتمبر ‏‏1979م، 522.‏ [28] مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 31، الهامش5).‏‎ ‎ [29] علقت د. وداد قاضي في الهامش1: (انظر البيان 2/ 16 – 30؛ ولفظة ‏‏"التبين" لا "التبيين" هي الثابتة في أوثق النسخ الخطية من هذا الكتاب، وهي ‏نسخة كوبريللي (انظر مقدمة البيان – الصورة المقابلة ص: 17 تحقيق ‏هارون).‏ [30] ‏علق محمود شاكر رحمه الله في ‏الهامش2‏: (في هذا الموضع كتب: "كتاب البيان والتبين"، مضبوطة في "ج" و "س" معًا، وهو خلافٌ مشهورٌ، ومع ذلك سيأتي في ‏النسختين أيضًا "البيان والتبيين" كما سأشير إليه في التعليق).‏ [31] قال محققه في الهامش: (والتبين: هكذا في النسخ الثلاث، ويبدو أنه الصواب، انظر: كتاب ‏الدكتور الشاهد البوشنجي: مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب: "البيان والتبيين" للجاحظ ‏ص: 27 – 46، دار الآفاق الجديدة – بيروت 1402/ 1982.‏ [32] ورد مكتوبًا كذلك في بعض مخطوطات المصادر القديمة مثل وفيات الأعيان (النسخة س) المنزع 86/ س - مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 40)‏. [33] (نسخة خزانة القرويين بفاس وهي التي رمز لها في هذا البحث بـ"مق"، ولا يُعرَف بين محققي "البيان" من اعتمد عليها ... ولو وصلت تامة لوصل أصلٌ ربما كان من أعظم أصول الكتاب المعتمد عليها في تحقيق "البيان")، ثم استطرد في ذكر أسباب ذلك، وينظر له: [مصطلحات نقدية وبلاغية (ص: 35 – 38)]‏. [34] ‏جاء فيه: (البيان والتبين؛ قال في الهامش1: "هذا هو الصواب في تسميته وما عداه "فخطأٌ محضٌ"، ‏كما في النسخ الخطية للكتاب، ولغة أيضًا: فالبيان: الفصاحة والإيضاح، والتبين: (بياء واحدة ‏مثناة تحتية)، فمعناه: ظهور الشيء بخلاف (التبيين) بياءين تحتية مثناة؛ فمعناه واحد لا ‏غير هو الإيضاح، فلا يستقيم اسم الكتاب: إيضاح الإيضاح‎!، وينظر: مختار الصحاح ص: 29 ‏وغيره).‏ [35] عدد الصفحات 486.
قصة أهل الكهف ورد في سورة الكهف عدة قصص فيها العظة والعبرة والموقف الإيماني، وما غبَر من أحداث التاريخ والأمم الماضية، وذِكرها في القُرْآن الكريم دليل أهميتها؛ لتكون مثلًا ونموذجًا لأحداث كانت تجري عبر حياة الأمم ومسيرتهم التاريخية عبر الزمن، وقد ورد أن سبب ورود هذه القصص في سورة الكهف أن اليهود في المدينة زودوا كفار قريش بعدد من الأسئلة ليطرحوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتأكدوا من صدق نبوته، قالوا: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فرَوْا رأيكم فيه، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ إنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ وأتى الوفد من قريش مكة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة، فقال لهم: ((أخبركم بما سألتم غدًا))، ولم يستثنِ - أي لم يقل: إن شاء الله - فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يومًا لا يُحدِث الله إليه وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فبعد المقدمة بدأ ذكر أصحاب الكهف من الآية التاسعة: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ [الكهف: 9] خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أصحاب الكهف لم يكونوا وحدهم من آيات الله العجب، بل إن كل آياته عجب، فيها العبرة والحكمة والعظة، فيها شد العزيمة لأهل الإيمان، وفيها التثبيت لأهل الحق، فلا يستذلون للباطل والعقيدة الوثنية الضالة؛ فالعزة لأهل الإيمان والنصر لهم والخاتمة لهم، فمن هم أصحاب الكهف؟ فتية من المؤمنين تأذَّوْا من مجتمعهم الوثني ومن إكراه الناس على عبادة الأوثان والشرك بالله من قِبل ملك طاغية زين الشيطان له هذا الفعل المنكر، ولكن فئة من الشباب المتنور الذي عرف الحق وتعلق قلبه بالله الواحد الخالق الرازق، وقد رسخ الإيمان في قلوبهم، فغدا أثبت من الجبال، وأما زمن هؤلاء الأصحاب فهو لا شك ضمن الفترة التي ابتعد الناس فيها عن شريعة التوراة الصحيحة من بعد داود وسليمان؛ حيث مرَّت فترة تشرذم وقيام ممالك انحرف معظمها عن الطريق السوي، وعبد بنو إسرائيل الوثن؛ فقد ذكر أن أبيّا أحد ملوك بني إسرائيل كان يعبد الأوثان، ولما مات ملَكَ من بعده ابنه أسا، فأعاد التوحيد، فاعترض قومه على العودة إلى الدين الحق، فوسطوا أمه، وكانت تقدس الأصنام، فتحملت لهم أن تكلمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده، فبينما الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورؤوسهم، إذ أقبلت، فقالت: لست ابني إن لم تُجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر، إن أطعتني فيه رشدت، وأخذت بحظك، وإن عصيتني فحظَّك بخستَ، ونفسَك ظلمت، إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم، دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفر بآلهتهم، والتحوُّل عما كان عليه آباؤهم.. وهكذا نرى في هذا الخطاب خبيئةَ نفسها المنطوية على تقديس الأصنام، والاندفاع بشدة لنصرتها، وحث ابنها على الامتثال لها طاعة لأوثانها، ولكن الولد أبى ذلك، وأمر بإخراجها والحجر عليها، أوردتُ هذا النموذج لتبيان ما حدث لبني إسرائيل من الانتكاسة الدينية والردة إلى عبادة الوثن، ورد في العهد القديم أن العبرانيين انصرفوا عن عبادة إلههم إلهِ موسى لعبادة آلهة آخرى "البعليم والعشتاروت"، وظلوا كذلك إلى أن ردهم صموئيل إلى عبادة الرب الأوحد. وفي فترة من هذه الفترات ظهر الشبان المؤمنون الذين أبوا الانصياع إلى العبودية للصنم، وتمسكوا بمنهج النبوة، واتعدوا فيما بينهم أن يهجروا قومهم ويلجؤوا إلى أحد الكهوف لكي يروا أمرهم على روية ويفكروا فيما يفعلونه للنجاة من الردة القسرية التي يحملهم عليها الملك الضال، ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]، والكهف في اللغة نفَق واسع داخل الجبل، وهو أكبر من الغار، وقد اختلف في مكان هذا الكهف الذي أوى إليه هؤلاء الفتية: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾ [الكهف: 11]، فلما وصل هؤلاء الفتية المؤمنون إلى الكهف وكان في نيتهم أن يمكثوا فيه ليالي معدودة ليقرروا البقاء في هذا البلد أو الهجرة إلى غيره فرارًا بدينهم، ولكن عين الله التي تحرسهم وترعاهم جعلت منهم آية باهرة وحديثًا يروى؛ فقد ضرب الله عليهم النوم، وكان التعبير القُرْآني غاية في البلاغة: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ﴾ [الكهف: 11]، وهذا يعني النوم الثقيل؛ فقد ضرب الله على آذانهم حجابًا ثقيلًا وعازلًا يمنع وصول الأصوات إليها لكي يناموا سنين طويلة ذوات العدد، فلما وصف السنين بالعدد دل على الكثرة، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾ [الكهف: 12]، وبعد النوم الطويل على غير المألوف أيقظهم الله تعالى لكي يتبين الناس هذه المعجزة، ومن الذي أحصى بشكل صحيح مدة مكثهم في الكهف، فيروي هذه المعجزة على جليتها، وأنها استغرقت سنين، وقد اختلف في الحزبين اللذين اختلفا في إحصاء المدة، والظاهر أن اختفاء هؤلاء الفتية - وهم أبناء الأكابر في بلدهم - قد أحدث ضجة وتساؤلًا عن سبب اختفائهم ففتشوا عنهم في كل مكان فلم يعثروا لهم على أثر، وهنا أرَّخ الناس بيوم اختفائهم في سنة كذا من حكم ملكهم فلان.. وهكذا دخل هؤلاء الفتية التاريخ، والفئة الثانية هي التي اكتشفتهم وقدرت مدة مكثهم في الكهف وَفْق ما رأت من هيئتهم وحالهم، ومع ذلك فالقول الفصل لا من الفريق الأول ولا من الفريق الثاني، وإنما هو بيان من الله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]، بدأ التعريف بهم وتزكيتهم لإيمانهم بربهم وتمسكهم بشرعه الحنيف؛ فقد ازدادوا هدى؛ أي: علمًا يقينيًّا بشريعتهم وأحكامها الهادية التي تزيد المؤمن إيمانًا، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [الكهف: 14]، وفوق الإيمان الذي اتصفوا به برباطة الجأش وقوة العزيمة على تحمل فراق الأهل والوطن، فقد آتاهم الله الصبر وقوة الإرادة لكي يتخذوا مثل هذا القرار بهجر بلد الشر على الرغم مما فيه من مكابدة الحنين إلى الوطن وما فيه من أهل وذكريات، فقدموا سلامة العقيدة ومحبة الله على كل شيء سواه، ثم ذكروا عقيدة قومهم الضالة، ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15]؛ فقد اتخذ ملكهم الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله، وانساق معهم القوم غير مستنكرين، والحق ليس معهم، هلَّا أتوا بدليل قوي على صحة ما يعبدون؟ إنهم يفترون على الله الكذب، ويدَّعون التقرب إليه بهذه العبادة الضالة والخضوع للأصنام، وهم كاذبون يعبدون أهواءهم وشيطانهم الذي أضلهم عن سواء السبيل وعن عبادة الله الواحد، ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16]، والظاهر أن القوم كانوا على عبادة الله الواحد، فرأى الملك دقيانوس أن يضيف عبادة غير الله كالأصنام، وهذا ما جعلهم مشركين غير موحدين تنبغي مفارقتهم، ولقد هدى الله الفتية إلى التفكير السوي، وألقى في قلوبهم التوجه إلى الكهف تخفيًا فيه، وأنه سيمدهم بعونه وما يلزمهم من غذاء وماء؛ لذلك حبب إليهم الاعتزال والمفارقة وعدم السكنى معهم في مكان واحد؛ لأنهم بهذا سوف يؤثرون على عقيدتهم ويضغطون عليهم بشتى الوسائل حتى يردوهم عن دينهم؛ لأنهم فعلوا هذا مع غيرهم ولم يبقَ إلا هؤلاء الفتية جذوة متوقدة بالإيمان يقاومون الشر، ولكن إلى متى؟ فالقوى غاشمة قاهرة، وليس لهم إلا الهجرة ومفارقة الشر؛ كيلا يسقطوا فيه، وإن الكهف هو المخبأ الوحيد لهم، وفيه سيجدون الملاذ الآمن، تحفهم رعاية الله، وهكذا اتفقوا على الاختباء فيه فتسللوا إليه خفية، وقد روي أنهم دخلوا الكهف فرأوا عنده عين ماء جارية وثمارًا فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء، فلما جنهم الليل ضرب الله على آذانهم النوم، فناموا، ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ [الكهف: 17]، ولهذا الكهف مواصفات جغرافية فلكية؛ فالشمس عند مطلعها صباحًا لا تدخل كهفهم مباشرة بل تميل عنه قليلًا إلى اليمين، وعند الغروب لا تقترب منهم أيضًا، بل تتركهم وتتجاوزهم، والمعنى أنه لا تصيبهم شمس الشروق ولا شمس الغروب، ففي أي اتجاه كانت فتحة الغار؟ فهي في الغالب منفتحة على الجنوب مع ميل نحو الغرب، فعند الشروق في فصل الشتاء تشرق الشمس موازية لهذه الفتحة وبالتالي فلا تدخل أشعتها في الغار وعند الغروب تكون الشمس قد تجاوزت مواجهة الغار بانحرافها قبيل الغروب شمالًا، وهذا ما عنته الآية بكلمة: ﴿ تَقْرِضُهُمْ ﴾ [الكهف: 17]، فإذا كان هذا في فصل الشتاء ففي الصيف يكون فم الكهف أكثر بعدًا عن الشمس؛ حيث تميل الشمس في هذا الفصل نحو الشمال، وبالتالي تمر من وراء فتحة الكهف، وقيل: فتحة الكهف نحو الشمال، وهذا يعني عكس التحليل السابق، ففي فصل الصيف يحدث التزاور والقرض، وفي فصل الشتاء لا يرى الكهف الشمس، والتحليل الأول ألطف، يستفيدون من شمس الشتاء، ولا يُؤذَوْن بشمس الصيف، ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف: 17]، وبالرغم من عدم دخول الشمس فمَ الكهف فإن مكان إقامة الفتية كان في فجوة في داخله، وبالتالي فمن غير الممكن أن تصلهم الأشعة مباشرة؛ فهم في ظلمة، وهذا الذي اختاره الفتية من أجل التعمية على من يطلبهم فلا يمكن رؤيتهم، وهذا الاختيار كان هداية من الله لهم؛ حيث شرح صدرهم له، وكانوا هم يقصدون التخفي عن عدوهم الضال، فإذا طلبهم فلا يستطيع رؤيتهم، ولكن الله تعالى هو العالم بمصيرهم والمقدِّر لجعلهم آية ومعجزة، فكان المكان بهذه المواصفات يخضع إلى التهوية الباردة التي تبقى طول أيام السنة، فأصبح مكانهم أشبه بالثلاجة الباردة الجافة التي تحفظ الأجسام من التفسخ، ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [الكهف: 18]، وعند النظر إليهم تحسبهم أيقاظًا؛ لأن العلامة التي تميز النائم عن الصاحي غير متحققة مع هؤلاء الفتية، وهي إغماض العينين، فالعيون مفتحة، فهم صاحون نائمون، يتقلبون كما يتقلب النائم، وإلا لأكلت الأرض من أجسامهم، فهذه حكمة الله فيهم؛ أن ضرب عليهم النوم الطويل، ولكن جعلهم في هذه المدة يتقلبون كما يتقلب النائم ذات اليمين وذات الشمال، فأرواحهم ترسل إلى أجسامهم بين فترة وأخرى، فهي ليست من الأرواح التي قضى عليها الموت فأمسكت أرواحهم عنهم: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]، وكان لكلب أصحاب الكهف ذكر؛ فقد عومل معاملتهم وذُكر كأنه واحد منهم، وكعادة كلب الحراسة يبقى خارج البيت في الفناء ويجلس جلسة المستريح اليقظان وعيناه باتجاه المدخل، وكانت هذه حاله عندما دخل الفتية الكهف، ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [الكهف: 18] صورة رائعة من الواقع المشاهد لعادة كلاب الحراسة، وقد تكلم في الكلب أكان لأحدهم فتبعه أم كان عابر سبيل؟ وقيل: لما خرجوا ليلًا مروا على راعٍ عنده كلب فنبحهم فهربوا منه كيلا يعلم عنهم فتبعهم، ولما أووا إلى الكهف انتظر في الخارج على الحالة التي وصفه الله بها وهو ينتظر خروجهم، فأصابه ما أصابهم، وقيل: جعله الله ينتظر في الخارج فلم يدخل معهم الفجوة لئلا يمنع بوجوده دخول الملائكة؛ فالملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة أو كلب، وذكر أن اسم الكلب "حمران"، وقيل: "قطمورا"، ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ [الكهف: 18]، قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لمن يراهم من الناس على مختلف العصور، فالخوف من رؤيتهم يكمن في مظهرهم؛ حيث الشعر الطويل والأظفار الطويلة، وقيل: لمهابة النظر إليهم؛ لأنهم محل المعجزة الدالة على قدرة الله تعالى في إبقائهم على قيد الحياة طول هذه المدة، ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [الكهف: 19]، وبعد النوم الطويل هبُّوا جميعًا من رقادهم، وجلسوا يتكلمون، وتساءلوا عن مدة مكثهم في الكهف، فقالوا أول الأمر: ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [الكهف: 19]، ولعلهم في الوهلة الأولى لم يتبينوا أشكالهم للعتمة التي كانوا فيها، فقالوا: ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [الكهف: 19]، هكذا يظن النائم لأنه لا يشعر بكر الدهر؛ لانعدام الزمن عنده، ولكن حين بدأت أعينهم تتآلف مع الرؤية وتبينت حالتهم من حيث طول الشعر والأظفار والهيئة الغريبة التي كانوا عليها، ﴿ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ [الكهف: 19]، ولما اشتبهت عليهم المدة تركوا تقديرها لله، وشعروا بالجوع؛ فقد عادت إليهم متطلبات الحياة من طعام وشراب؛ لذلك عمدوا إلى اختيار أحدهم لتأمين الطعام لهم، ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾ [الكهف: 19]، لقد جمعوا له ما عندهم من دراهم - فضية - ليشتري لهم الطعام، مع التوصية بأن يختار الطعام الحلال؛ فهم عندما قاموا بالمفاصلة بينهم وبين قومهم لأنهم أشركوا بالله فما عادت ذبائحهم بالحلال؛ ولذلك كان على مبعوثهم أن يبذل الجهد لاختيار الطعام الحلال من غير الذبائح، وربما قصدوا السمك؛ فهو الوحيد من اللحم الذي يمكن أكله في ديار المشركين، ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 19]، وكانت الوصية الثانية بأن يتلطف في الشراء دون مساومة أو مجادلة، فليختصر من الكلام مع الباعة ما أمكن؛ حتى لا يتبينوا أمره؛ فكثرة الكلام والجدال معهم قد تكشف المستور، وعاقبة ذلك أليمة علينا جميعًا، ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 20]، فإذا ما اكتشفوا أمرنا قبضوا علينا وأعادونا قسرًا إلى ملتهم الضالة، وفي هذا الخسران المبين الذي لا يجبر مدى الدهر؛ لأن مصير الكفار الذين يموتون على كفرهم إلى النار خالدين فيها أبد الآبدين، فأين الفلاح بعد هذا؟ إنه الخسران الأبدي، وربما أخذونا وقتلونا أو رجمونا حتى الموت، وفي كلا الحالين فإن اكتشاف أمرنا سيجلب لنا الأذى والضرر، فاحرص على التستر والتخفي؛ لذلك كان حرصهم على عدم انكشاف أمرهم أبلغ من حرصهم على تأمين الطعام، ولكن هم يخططون من واقع مشكلتهم والله له الأمر الفصل؛ فالأمور تجري وفق مشيئته عز وجل، ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ [الكهف: 21]، وهذا الإيقاظ لأهل الكهف بداية التعريف بهم وإظهار أمرهم؛ لكي تتبدى المعجزة للناس، لقد كشف الله أمرهم من حيث الشكل والهيئة، ومن حيث العملة التي قدمها موفَدُهم لشراء الطعام؛ فالعملة قد تبدلت وتغيرت، وهي تثبت وقت دخولهم الكهف؛ فقد سُكَّتْ في عهد ملك مضى وغبر، وتجمهر الناس حول المخلوق الغريب، وانهالت عليه الأسئلة، ووصل أمره إلى الحاكم، وكانت المفاجأة الكبرى للناس، إنهم الفتية الذين هربوا من ظلم الملك "دقيانوس" الطاغية الجبار المشرك، وقد تغير الحال الآن، وأصبح الناس على دين صحيح؛ فاهتموا لأمر الفتية، وانطلقوا إلى الغار ليروا بقية الفتية، ولما دخل موفَدُهم ليخبرهم بما حصل معه، وأن هذا الزمن قد تقدم أكثر من ثلاثمائة عامة، وأن الناس ليسوا ممن يعرفوهم؛ فالعصر ليس عصرهم، والأهل ليسوا أهلهم؛ فلا حبيب ولا قريب ولا صديق ولا نسيب، فقالوا بصوت واحد: كم لبثنا؟ ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [الكهف: 25]، فشهقوا لطول هذه المدة التي مكثوها عجبًا واستغرابًا، وعرفوا أن مكانهم الصحيح ليس مع أهل هذا الزمن، لقد عرفوا الحكمة، وعرفوا صدق موقفهم، وأن الله ناصرٌ أولياءَه، فلا يخشَ من كان مع الله أبدًا، مكثوا ثلاثمائة سنة وفق الحساب الشمسي، وثلاثمائة وتسع سنين وفق الحساب القمري نيامًا، ثم أعادهم الله إلى الحياة من جديد فكانوا مثلًا لمن رآهم في الصبر والإيمان، وعبرة لمن خلفهم للثبات على المبدأ، لكن لم يجرؤ أحد على الدخول إلى الفجوة التي كانوا فيها، وانتظروا خروجهم، فلم يخرجوا، لقد أماتهم الله الموتة الحقيقية، وهنا بنى عليهم أهل بلدهم جدارًا يمنع الوصول إليهم؛ ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 22]، لقد وقع الجدال في حقيقة عددهم؛ لأن من اكتشفهم لم يجرؤوا على الدخول إلى مكانهم الذي ناموا فيه، وإنما لمحوهم من بعيد من خلال العتمة، فلم يتبينوا عددهم، فصار العدد خرصًا وتخمينًا، وليس مؤكدًا، ومنهم من اعتمد على رواية من ذكرهم يوم غابوا، فلم يثبتوا رقمًا صحيحًا، والقُرْآن - كما نرى - ركز على العدد الفردي لهم، لكنه عد الثلاثة والخمسة من باب الرجم بالغيب وسكت عن السبعة، ولعله هو الصواب، والله أعلم، ولما اختلفوا في كيفية تكريمهم، قال المتنفذون في البلد وهم على غير فقه: ﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ [الكهف: 21] من باب التكريم والحب لهم. ذكر المفسِّرون أن مكان الكهف كان في مدينة الرقيم، في منطقة أيلة في الأردن، وقيل: في نينوى في العراق، وقيل: في البلقاء، وقيل: في أفسوس بتركيا اليوم، وعندي أن مدينتهم لم تجاوز الأردن - أي البلقاء - ولم يذكر التاريخ أن بلاد أفسوس قد ظهر فيها النبوات، وقيل: إن زمان أصحاب الكهف كان بعد المسيح عيسى، وهذا خطأ، فلو رجعنا إلى أصل الخبر لرأينا أن اليهود هم الذين ذكروهم وقالوا: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر فلا يدرى ما صنعوا؟ فهم من اليهود وعلى دينهم، وإلا لما ذكروهم؛ فاليهود لا شأن لهم بدين عيسى، ولا يعترفون به أصلًا؛ لذلك فهم أبعد الناس عن ذكر معجزة تخصه، فالقصة وحوادثها لا تخرج عن نطاق بني إسرائيل؛ حيث تعددت فيهم النبوات واستمرت من النبي إسحاق إلى عيسى ابن مريم، وكانت ضمن مناطق الأرض المقدسة، إلا ما حصل في فترات داود وسليمان، قال ابن كثير: واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح وأنهم كانوا نصارى. أقول: ولو كان الاضطهاد بعد المسيح في فترة الاضطهاد الديني للنصارى لكان ظهورهم في منتصف القرن الرابع الميلادي أو في نهايته، وفي هذه الفترة لم يكن في عرف النصارى مسمى المسجد على أماكن العبادة عندهم، وإنما كان هذا المصطلح في العصور السابقة للمسيح. ورَد في القُرْآن الكريم إماتة الله لعزير مائة عام ثم بعثه ولما سأله: كم لبثت؟ ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [البقرة: 259]، وكذلك بالنسبة لأهل الكهف الذين لبثوا ثلاثمائة سنة، ولما أفاقوا سألوا بعضهم بعضًا، فكان الجواب: ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [الكهف: 19]، وفي سورة المؤمنون: ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ [المؤمنون: 112، 113] ومن هذا نستنتج أن زمن الفترة وانتظار القيامة بالنسبة للأموات سريع؛ أي: لا يُحسون بطول الانتظار؛ فالذي أماته الله مائة عام والذين أماتهم الله ثلاثمائة عام والذين أماتهم الله حتى قيام الساعة كان جوابهم واحدًا، وعلى هذا فالوقت بالنسبة لمن مات قبل ألوف السنين ومن مات حديثًا واحد؛ "فقد تساوى في الثرى راحل غدًا وماض من ألوف السنين".
معنى ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾ [النمل: 1 8] (في ضوء القرآن الكريم وكلام العرب) • د. أورنك زيب الأعظمي [1] جاءت هذه الفقرة في غضون الحديث عن مسير جنود سليمان عليه السلام فقال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18]. سندرس هذه الفقرة ونحاول فهم معناها وبلاغتها في ضوء القرآن الكريم وكلام العرب. فحَطَمَه يَحْطِمُ حَطْمًا: كسره، ويأتي لكسر ما اشتدَّ من مثل العظم والجدار والحجر ولا يأتي للوطأ إلا ترادفًا كما قال حميد بن ثور الهلالي: وحتى تداعتْ بالنقيض حبالُه *** وهمّتْ بواني زوره أن تحطّما [2] وبواني زوره هي أضلاع صدره. وقال ساعدة بن جؤية عن وعل صعد في الجبل مخافة الصيد مستخدمًا الحطم للسهم: فراغ منه بجَنبِ الرَيد ثم كَبَا *** على نضيٍّ خلالَ الصدر مُنحَطِم [3] وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]. وقال أيضًا: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 65]. والحطام هنا ما انكسر من يابس الزرع. ولعلّ تسمية الجحيم بالحُطَمَة في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ﴾ [الهمزة: 4 - 9]. جاءت لأنَّ ما جمعه المرء من الأموال وجامعه سينبذان في النار ويكونان ضرامًا لها وعادة ما ينبذ الضرام مكسورًا في النار لأنّ النار لا تكسر بل تجعله ركامًا كما قال عنترة بن شداد العبسي: وكتيبةٍ لبّستُها بكتيبةٍ شهباء باسلة يُخاف رداها خرساءَ ظاهرةِ الأداة كأنها نارٌ يُشَبُّ وَقودُها بلظاها [4] وقال الأعشى الكبير: ثنا فرحًا بالنار إذ يُهتَدى بها *** إليهم وإضرامِ السعير المُوَقَّد [5] وقال حسان بن ثابت الأنصاري: طحنتهم، والله ينفذ أمرَه، *** حربٌ يشبّ سعيرُها بضرام [6] وقال الأخطل: حيّ المنازلَ بين السفح والرحّب *** لم يبق غيرُ وُشُومِ النار والحطَب [7] وإليه الإشارة في غير ما آية قرآنية كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98، 99]. وقال أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35]، فقول ابن عاشور ومَنْ سَبَقَه من المفسّرين من: "والحُطَمَة صفة بوزن فُعَلَة ... أي لينبذنّ في شيء يحطمه أي يكسره ويدقّه ... وأنّ إطلاقَ هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن. وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار" [8] . لا يصحّ، فمعنى الحطمة: نار تنبذ فيها الأشياء مكسورة. وقال عنترة بن شداد العبسي، والحُطام: ما انكسر من يابس الخبز: فلا ترضَ بمنقصةٍ وذُلٍّ وتقنعْ بالقليل من الحطام فعيشك تحت ظل العزّ يومًا ولا تحت المذلة ألفُ عام [9] ومنه حطامُ البيض أي قشورها المكسورة كما قال الرماح: كأنّ حُطامَ قيض الصيف فيه *** فراشُ صميمِ أقحاف الشؤون [10] والقيض: قشور البيض التي تفلقت بعد خروج الفرخ منها. ومنه صعدة حِطَم أي كلّ قطعة منه حطمة كما قال ساعدة بن جؤية: ماذا هنالك من أسوانَ مكتئبًا *** وساهفٍ ثمِلٍ في صعدةٍ حِطَم [11] ومنه الحطيم: جدار تُرِكَ محطومًا والبيت رُفِعَ كما قال الكميت الأسدي: وزمزمُ والحطيمُ وكلُّ ساق *** يرى أهلَ الخصاص له قطينا [12] ومنه يعني مجازًا ما أصاب المرءَ من نوائب الدهر فحطمته ببلائها كما قال رؤبة بن العجاج: وكان جمًّا شأؤُه ونَعَمُه فعضّه دهرٌ ودقَّ محطمُه مضغًا وخلبًا لا يكلُّ أكهمُه وفقدُ مالٍ كالجنون لممُه [13] ولكون اللفظ دالًا على كسر الشيء كسرًا شديدًا استعملوه مرادفًا للوطأ كما قال عمرو بن قميئة الشاعر الجاهلي: صبرتُ على وطءِ الموالي وحطمهم *** إذا ضنّ ذو القربى عليهم وأخمدا [14] حتى تدرّج اللفظ لازدحام الناس بحيث يحطم عظامَ مَنْ وقعوا عليه فجاء في حديث توبة كعب بن مالك: "إذن يحطمكم الناس". [15] أي يزدحمون عليكم فيدوسونكم. وأما التأكيد في " لَا يَحطِمَنَّكُم "، فكالتأكيد في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]؛ أي لا يظلم الله عباده ولو فتيلًا، وهذا عامٌّ في كلام العرب كما قال امرؤ القيس: يغطّ غطيط المرء شُدّ خناقه *** ليقتلني والمرء ليس بقتّال [16] وقال أيضًا: وقد علمت سلمى وإنْ كان بعلها *** بأنّ الفتى يهذي وليس بفعّال [17] وقال تأبط شرًا: ولستُ بمفراحٍ إذا الدهرُ سرّني *** ولا جازعٍ من صَرفِه المتحوّل [18] وقال الأفوه الأودي: أيها الساعي على آثارنا *** نحن مَنْ لستَ بسعّاء معهْ [19] فمعنى " لَا يَحطِمَنَّكُم " لا يمسكم ولو بضرر لطيف، وعلى هذا قال "لَا يَشعُرُونَ " أي ضررهم هذا يكون سهوًا لا عمدًا. المصادر والمراجع: 1- القرآن الكريم. 2- تفسير التحرير والتنوير للإمام محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م 3- ديوان الأخطل، شرح: مهدي محمّد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1994م 4- ديوان الأعشى الكبير بشرح محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، إدارة البحوث والدراسات الثقافية، الدوحة، قطر، 2010م 5- ديوان الأفوه الأودي، شرح وتحقيق: د. محمد التونجي، دار صادر، بيروت، ط1، 1998م 6- ديوان الرماح ابن ميادة، جمع وتحقيق: د. حنا جميل حداد، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1982م 7- ديوان الكميت بن زيد الأسدي، جمع وشرح وتحقيق: د. محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط1، 2000م 8- ديوان الهذليين، الجمهورية العربية المتحدة، الثقافة والإرشاد القومي، طبعة دار الكتب، بيروت، 1996م 9- ديوان امرئ القيس، ضبطه وصحّحه: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م 10- ديوان تأبط شرًا وأخباره، جمع وتحقيق وشرح: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1984م 11- ديوان حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي، شرح: ضابط بالحربية، مطبعة السعادة، مصر، د.ت 12- ديوان حميد بن ثور الهلالي، صنعة: الأستاذ عبد العزيز الميمني، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1951م 13- ديوان عمرو بن قَمِيْئَة، تحقيق وشرح وتعليق: حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، 1965م 14- شرح ديوان روبة بن العجاج، تحقيق: د. ضاحي عبد الباقي محمد، جمهورية مصر العربية، مجمع اللغة العربية، ط1، 2011م 15- شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، للعلامة التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م 16- لسان العرب لابن منظور الإفريقي، دار صادر، بيروت، د.ت. [1] مدير تحرير المجلة وأستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند. [2] ديوانه، ص 19. [3] بجنب الريد: بناحية ريد الجبل، كبا: عثر، نضي: سهم، خلال الصدر: دخل بين أطباق الضلوع، ديوان الهذليين، 1/196. [4] شرح ديوانه، ص 206. [5] ديوانه، 2/436. [6] شرح ديوانه، ص 294. [7] ديوانه، ص 30. [8] تفسير التحرير والتنوير، 30/540. [9] شرح ديوانه، ص 189. [10] لسان العرب: حطم وديوانه، ص 286. [11] لسان العرب: حطم. [12] ديوانه، ص 433، خصاص: حاجة. [13] شرح ديوانه، 2/289. [14] ديوانه، ص 12. [15] لسان العرب: حطم. [16] ديوانه، ص 125. [17] ديوانه، ص 126. [18] ديوانه، ص 178. [19] ديوانه، ص 90.
واقع الإدارة والمسلمين أصبحت الإدارة اليوم تعيش تدهورا كبيرًا في تجسيد تلك الأفكار التي كانت تحظى بها، فتبلور الفكر الإداري كان متزامنًا مع بروز الثورة الصناعية، تلك التحول من اليد العاملة (الاكتفاء الذاتية) إلى الآلات الموسعة، على الرغم من الأهمية البالغة للإدارة في النهوض بمستوى التطور الفكري والاقتصادي للدولة، فإن المسلمين اليوم أهملوا هذا الجانب (جانب الإدارة) ، فواقع الإدارة في العالم الإسلامي يدعو للقلق، فالبيروقراطية عوض أن تعقلن التسيير عقلنة الفساد، بل أصبح الفساد نوعًا من فن الإدارة العصرية عندنا بمعزل عن كل قيمة أخلاقية؛ لأن سلطة طبقة الإداريين حلت محل سلطة المجتمع الذي أوكل لهذه الطبقة تنظيم شؤونه بعقلانية وعصرية وفن إداري، مسلسل هرميًّا لإحقاق العدالة الاجتماعية، لكن النتيجة وقوع المواطن في حبائل تلك البيروقراطية السلبية، ومع مرور الزمن تؤسس الإدارة اليوم هوية جديدة، لكن للأسف هوية بلا ملامح، فأصبحت دينًا جديدًا يؤسس قيمًا فاسدة تبرر النصب والاحتيال، ألم ينه الإسلام مثلًا: عن الرشوة في تسيير مصالح العباد والبلاد؟ ألا يؤسس هذا الدين لإدارة إسلامية أخلاقية متميزة؟ بلى الدين الإسلامي يدعو إلى نبذ كل ما من شأنه تعطيل مصالح العباد من رشوة وسرقة، إذًا: لماذا لم يؤسس المسلمون لإدارة حديثة؟ وهل يمكن أن يكون لنا (ماكس فيبر) إسلاميًّا؟ إن من أهم أسباب تخلفنا إداريًّا هو عدم دراسة وفهم "التراث التاريخي للمسلمين"، الأمر الذي جعلنا لا نستند على شيء، بل نستند على مجموعة نظريات أنتجها الغرب، ولم نخضعها حتى "للغربلة"، وَفقَ ما يتماشى وبيئتنا، ولم نستغل حتى ما جاؤوا به أحسن استغلال، هذا من جانب، والجانب الآخر الذي جعلنا نواصل مسيرة تخلُّفنا هو عدم اعتمادنا على "العلم"، فالدول العربية مثلًا: وفي الوقت الذي ينتشر فيه الحاسوب في كل زوايا العالم لم تستطع لأسباب مجهولة أن تحقق "الحكومة الإلكترونية" في تفاعلاتها الإدارية على غرار الدول المتطورة، وهي بهذا تعطي هامشًا واسعًا للفساد الإداري وحتى الفساد المجتمعي أيضًا. وبلا شك فإن المسلمين اليوم أجدى بهم أن يغيِّروا نظرتهم بشكل جدي للإدارة، عن طريق الاهتمام بالقوى البشرية، واستغلال ما أُتيح لهم من إمكانات، وعلى رأسها المنظومة القيمية من دين وأخلاق، وكذلك ثروات مادية وطبيعية هائلة، تستطيع بها الدول الإسلامية الوصول إلى أعلى مراتب الرقي والازدهار، وتستطيع أن تنجب ماكس فيبر إسلامي، تُغير به النظم الإدارية لتواجه تحديات كبيرة تختلف عن تحديات الماضي، ونتمكن من الاستجابة لرياح التغيير الذي تهب من كل جانب على مجتمعاتنا باعتبارها جزءًا من المجتمع العالمي الزاخر بالمتغيرات.
ترجمة موجزة للشيخ محمد بن طه (رحمه الله) اسمه ونسبه: هو أبو يوسف، محمد بن طه بن شعبان بن نديم بن شعبان بن داود الفيومي المصري الدرعمي . مولده ونشأته: ولد -رحمه الله- يوم الثلاثاء 22 محرم سنة 1400 الموافق 11 ديسمبر 1979م بمحافظة الفيوم، حي البحاري. طلبه للعلم واشتغاله به: بعد وفاة والده في عام ١٤٢٠ بدأ في حفظ القرآن الكريم، فحفظه وجوده وأتقن تلاوته في عامين، ثم حرص على طلب العلم والجد فيه، وصبر في ذلك صبرًا عظيمًا. وعُرِف بين شيوخه وأقرانه بالجد والاجتهاد والحرص على الوقت، وكان في أحواله مستقيمًا على أسلوب واحد منذ عرفتُه؛ فأوقاته مقسمة مرتبة ليس فيها إلا الانتفاع والنفع. عمل مشرفًا بالمجلس العلمي للألوكة، ومستشارًا علميًّا بشبكة الألوكة . ودرَّس في أماكن كثيرة ومحافظات عدة من جمهورية مصر العربية. من شيوخه: ١. الشيخ محمد بن عبد الباقي، وهو أول شيخ له. ٢. الشيخ أبو إسحاق الحويني. ٣. الشيخ وحيد بن عبد السلام بالي، وقد شجعه على التصنيف والتأليف. ٤. الشيخ عمر بن عبد العزيز قرشي. ٥. الشيخ طارق بن عوض الله. ٦. الشيخ عبد الله بن عبد العزيز. ٧. الشيخ عادل بن يوسف العزازي. ٨. الشيخ عاطف الفاروقي. ٩. الشيخ ماهر بن ياسين الفحل (أجازه بكتب الحديث وبمروياته ومصنفاته عامة). من مؤلفاته: ١. الأغصان الندية شرح الخلاصة في ترتيب أحداث السيرة النبوية. ٢. الشرح الصغير على بداية المتفقه. ٣. التوضيحات على أخصر المختصرات. ٤. المختصر في القواعد الفقهية الكبرى والقواعد المندرجة تحتها. ٥. أصول الفقه الميسر (المسمى الهداية شرح البداية في أصول الفقه). ٦. الحاشية المغنية على كتاب علوم الحديث لابن الصلاح. ٧. الشرح النفيس على متن البداية في علوم الحديث. ٨. اختصار تيسير العزيز الحميد. ٩. العقيدة أولا (مهمات العقيدة في سؤال وجواب). ١٠. شرح لامية شيخ الإسلام. ١١. كتاب مسألة العذر بالجهل من خلال كلام الأئمة الأعلام (قدمت له الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، وأوصت بطباعته ونشره). ١٢. كتاب الدرة الفريدة شرح البداية في العقيدة. ١٣. كتاب الهدية شرح الركائز الأساسية لطالب العلم. ١٤. صحيح فضائل القرآن الكريم. ١٥. فتح الغفار بشرح صحيح الأذكار. ١٦. المختصر في مسائل القضاء والقدر. ١٧. الترجيح في قول الترمذي حسن صحيح. ١٨. حكم العمرة دراسة فقهية حديثية. ١٩. تحقيق الآمال بتخريج أحاديث الاكتحال (قدم له العلامة المحدث ماهر بن ياسين الفحل). وغير ذلك من الكتب، نفع الله بها. وقد توفي رحمه الله في الساعة الحادية عشر صباحًا قبل ظهر يوم الاثنين الخامس من ربيع الأول سنة 1443هـ الموافق الحادي عشر من أكتوبر سنة 2021، بعد إصابته بفيرس الكورونا، رحمه الله، وتقبله في الشهداء، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. وكتب تلميذه مالك بن محمد بن أحمد أبودَيّة ليلة الخميس ١٥ ربيع الأول سنة ١٤٤٣ هـ
كتاب (كلنا دعاة أكثر من 1000 فكرة ووسيلة وأسلوب في الدعوة إلى الله تعالى) تعريف وعرض (بلغوا عني ولو آية)، في هذا الحديث (تكليف، وتشريف، وتخفيف)، فالدعوة إلى الله أهميتها وفضلها معلوم ، (ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومَعادهم متوقف على طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمام الطاعة متوقف على الدعوة إلى الله عز وجل [1] )، وفي هذا الزمان تزداد أهمية الدعوة، كون الجهل منتشر، والهجوم على الإسلام على أشدة من الأعداء في الخارج ومن المنافقين في الداخل، وقد تم تنحية العلم الشرعي من مناهج التعليم في معظم دول المسلمين، والأمر لا يقتصر على الجهل، بل التظليل الممنهج، لذلك فعلينا أن نكون دعاة كلٌ حسب استطاعته، والدعوة إلى الله في هذا الزمن ميسورة جدًا وليست خاصة بالعلماء وطلبة العلم، بل إن الأمي الذي لا يحسن كتابة اسمه يمكن أن يكون داعية إلى الله تعالى في مجالات كثيرة وبأساليب متعددة، وقد يقول قائل أنا مستعد أن أكون داعيًا فما هي الطرق والأساليب والمجالات التي يمكن أن أسلكها وتناسب مستواي العلمي. أبشر فضالتك موجودة في كتاب (كلنا دعاة أكثر من 1000 فكرة ووسيلة وأسلوب في الدعوة إلى الله تعالى .. تجارب العلماء والدعاة قديمًا وحديثًا)، ونحاول هنا أن تقترب قليلا من هذا الكتاب للتعريف به والدلالة عليه، لمن أراد الالتحاق بأعظم عمل، وأشرف مهنة، مهنة الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وهي دلالة العباد إلى ربهم. (الدعوة إلى الله، أمانة عظمى، لا يتحملها ويقوم بها إلا من وفقه الله لذلك. حتى يكون من أحسن الناس عند الله تعالى قولًا وعملًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله)؛ رواه مسلم، بهذه الكلمات ابتدأ الكاتب: عبدالله بن أحمد آل علاف الغامدي، جزاه الله خيرًا كتابه الذي نحن بصدد التعريف به. ثم ذكر أن الدعوة (ليست محدودة بأشخاص معينين، فقط بل "كلنا دعاة"، قال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عَنِّي ولو آية"، وقال: "كلكم راعِ، وكلكم مسؤول عن رعيته")، كما أشار إلى أنه (قد تيسَّر في هذا الزمن الكثير من الوسائل الحديثة للدعوة إلى الله، وذلك بسبب الثورة الصناعية والعلمية والتقنيات الإعلامية المتطورة في جميع مجالات الإعلام). ثم تطرَّق إلى بعض المصطلحات وعرَّف الأسلوب الدعوي بأنه: (طريقة، أو كيفية، أو فن يسلكه الداعية في سبيل تبليغ دعوته، بغية التأثير والإقناع، ليصل بذلك نحو الأهداف الدعوية). وتحت عنوان: (ضوابط الوسائل والأساليب الدعوية)، ذكر المؤلف خمسة ضوابط وهي: (الانضباط بأحكام الشرع، وألا يؤدي استعمالها من أجل مصلحة إلى الوقوع في مفسدة أعظم، ومراعاة الأولويات، والتدرج، وألا تكون الوسيلة أو الأسلوب شعار الكفار)، وذلك حتى يكون الداعية على بصيرة من أمره، ولا يهدم من حيث يريد البناء، فيفسد أكثر مما يصلح. أما عن سؤال هل الوسائل توقيفية أم اجتهادية؟ جاء الجواب: (إن الوسائل والأساليب الدعوية ليست توقيفية بالكلية، ولا اجتهادية على الإطلاق، وإنما فيها ما هو توقيفي وهو المنصوص في الكتاب والسنة، ومنها ما هو اجتهادي، ولكنه مضبوط بضوابط الشرع). بعد ذلك تطرق الكاتب إلى ركائز الدعوة كـ(من يقوم بالدعوة؟ إلى أي شيء ندعو؟ كيف نقوم بالدعوة؟ أين ومتى ندعو؟)، وخلاصة الأجوبة على هذه الركائز كما يلي: قد (دلَّت نصوص كثيرة على أن الدعوة إلى الله تعالى مسؤولية كل مسلم)، كما أننا (ندعو إلى الإسلام الشامل الكامل المحيط بجميع شؤون الحياة من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات)، ولا ننسى أنَّ (الدعوة إلى التوحيد أساس الدعوة)، و(ضرورة كون الدعوة إلى الكتاب والسنة لا إلى غيرهما)، وندعو (الناس كافة)، بـ(بكل وسيلة مشروعية)، كما أن الدعوة ليست (محصورة في مكان محدد) أو زمان معين. وتحت عنوان (وسائل وأفكار عامة في الدعوة) ذكر 69 وسيلة، بعد ذلك تطرق لعدد من المجالات وذكر الوسائل والأفكار للدعوة حولها، فمن ذلك المسجد (50)، والإنترنت (23)، والشباب (35)، والمنزل (29)، و(بين طلاب العلم) (50) وسيلة وفكرة، وغيرها مثل: النساء، النادي الرياضي، الجهات الخيرية، الشركات والمؤسسات، جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، الفنادق، المستشفيات، الدوائر الحكومية، المدارس وغيرها كثير لم تذكر هنا يمكن الرجوع إليها. انتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن مَن يقوم بالدعوة ألا وهو الداعية؛ حيث تحدث في 21 نقطة عن (أخلاقه وصفاته ومنهجه)، ومما ذكر في ذلك أن الداعية يبدأ بالأهم فالمهم، لا يتعصب ولا يتحزب ولا ينتمي إلا للكتاب والسنة، يعتني ببيان محاسن الإسلام، يتفقدُ قَلْبَهُ، لا يستوحش من قلة السالكين، يُداري ولا يداهن وغيرها. ثم تطرق الكتاب إلى (المشروع الدعوي للفرد الواحد)، وعرَّفه بـ(قيام المسلم بدعوة فرد واحد أو مجموعة قليلة إلى دين الله والعمل به، والدعوة إليه، من خلال وسائل دعوية متعددة). ومن المعلوم أن من الدعوة دلالة الآخرين إلى الخير لذلك تحدث عن (كيف تصبح دليل خير للآخرين .. (50) فرصة دعوية لهداية الآخرين إلى الله). كما أشار إلى وسائل (للتأثير على القلوب)، مثل: الابتسامة، البدء بالسلام، الهدية، حسن الاستماع وأدب الإنصات، حسن السمت والمظهر، بذل المعروف وقضاء الحوائج، بذل المال، إعلان المحبة والمودة للآخرين، المداراة. كما لم ينسَ أن يشير إلى (أفكار غالية لأصحاب الهمم العالية)، وأيضًا (6 طرق لخدمة الإسلام عبر الإنترنت)، و(مقترحات وأفكار للدعوة إلى الله عبر الإنترنت)، ثم أفسح الكثير من الصفحات للمرأة الداعية، بالإضافة إلى المعلمين والمعلمات، وختم هذه الرحلة الماتعة عن الوسائل والأفكار بعنوان (في بيتنا داعية)، ثم ذكر (مراجع وكتب تهم الدعاة)، وعددها 56 كتابًا ومرجعًا. والكاتب جزاه الله خيرًا عرض وسائل وأفكار كثيرة جدًّا، وفي أماكن مختلفة يتضح ذلك من عنوان الكتاب، وقد جاء في مقدمته: (وبالرجوع إلى تفاصيل الأساليب والنصائح والأفكار تجد أخي الداعية أنها زادت عن الألف .. ولله الحمد). وفي الختام نذكر بعض الملاحظات: ♦ معظم مادة الكتاب تجميع، فهو يختصر لك بحوثًا ومحاضرات وكتيبات في نقاط يسيرة، ويحيلك إلى المرجع الأصلي للاستزادة. ♦ حبذا لو ترجم الكتاب فهو نوعي في بابه، والمؤلف جزاه الله خير قد جعل (حقوق الترجمة والطبع لكل مسلم). ♦ ينبغي لكل داعية أن تكون لديه نسخة من هذا الكتاب، وهو متوفر بشكل مجاني على الشبكة بفضل الله. ♦ الكتاب مادة ممتازة لدورات تأهيل الدعاة وطلبة العلم. ♦ وسائل الدعوة إلى الله مهمة جدًّا، وفيها جانب اجتهادي وإبداعي، ولو أنه هناك مراكز علمية بحثية تقوم بهذه المهمة لسدت ثغرة عظيمة. ♦ الكتاب كُتب قبل انتشار الهواتف الذكية لذلك يجتاح هذا الجانب إلى خدمة، وأن يفرد بكتب مستقلة كون شبكة الإنترنت أكثر تأثيرًا، وجمهورها عريض جدًّا، والهجوم فيها على الدعوة شرس وعلى أشده، كما تتميز الشبكة بسهولة المساهمة فيها حتى للأمي، فضلًا عن الداعية وطالب العلم، والمؤلف ذكر أن (نحو 150 مليون مستخدم لهذه التقنية في مختلف أنحاء العالم)، وهذا صار من الماضي واليوم عدد المستخدمين (4.9 مليار بنسبة 63٪ من العدد الكلي لسكان العالم)، كما أن الاستخدام صار في معظم الوقت وليس مقصورًا على أجهزة الكمبيوتر والمقاهي، بل أصحبت شبكة الإنترنت ترافق الناس في كل مكان تقريبًا. ♦ الحاجة ماسة لتطوير وسائل دعوية تناسب التقدم التقني، ويتم إبرازها للناس حتى يستخدموها، ولا يقعوا في الوسائل البدعية أو المضرة. [1] فضل الدعوة إلى الل ه – د. خالد الجهني – شبكة الألوكة.
خطبة عن نعمة الأمن عباد الله: إن الأمن في الأوطان ضرورةٌ من ضروريات الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونه؛ ولهذا لما دعا الخليل إبراهيمُ عليه السلام لأهل مكة قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 126]، فَبَدَأَ بِالأَمْنِ قَبْـلَ الرِّزْقِ؛ لأَنَّ وُجُودَ الأَمْنِ سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، وَلأَنَّهُ لا يَطِيبُ رِزْقٌ إِلاَّ فِي ظِلالِ الأَمْنِ الوَارِفةِ. والأمن -أيها الإخوة- هو الهدف النبيل الذي تنشده المجتمعاتُ، وتتسابق إلى تحقيقه الشعوبُ، يقول تعالى مذكِّرًا قومَ سبأ بنعمة الأمن الحاصل لهم في سيرهم ليلًا ونهارًا في قُرَاهُمْ: ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]، ويقول سبحانه ممتَنًّا على قريش بنعمة الأمن: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ أصبَحَ آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا))؛ (رواه الترمذي، وابن ماجه). عباد الله: يتحقق الأمن بأمور؛ الأمر الأول: بتوحيد الله تعالى وعبادته وطاعته والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وكذلك يتحقق الأمن باجتماع الكلمة وطاعة وليِّ الأمر؛ قال صلى الله عليه وسلم لما طلَب منه أصحابه النصيحة والوصية، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ تأمَّرَ عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثير؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور))، ولا تستقيم الولاية والجماعة إلا بطاعة ولاة الأمور، أما بالخروج عليهم، ومحاولة خلع ولايتهم، ومحاولة إفساد الأمر، فإن هذا هو الهلاك العظيم. إن الأمن الذي نعيشه ونتفيَّأ ظلاله في هذه البلاد المباركة، تحت قيادة حكيمة، إنما هو منحة ربانية، ومنَّة إلهية، مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامةُ شرع الله، وتنفيذ حدوده، وتحقيق عقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها؛ قال تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]. ومن أسباب تحقيق الأمن: الحِرصُ على رد كل تنازُعٍ في أمور الدين والدنيا إلى الأصلَيْن العظيمَين والوحيَيْن الكريمين: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. ويتْبعُ هذا الأصلَ: أن يرجع الناسُ - خاصةً في أزمان الفتن - إلى علماء الشريعة الراسخين الذين ينظرون إلى الأمور بفهمٍ دقيقٍ، واستنباطٍ عميقٍ، وخبرةٍ طويلة، فربُّنا جل وعلا يقول: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخطبة الثانية عباد الله: من أعظم أسباب فُقدان الأمن وحُدوث الكوارث والخُطوب: الإعراضُ عن طاعة الله جل وعلا، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفُشُوُّ المعاصي والسيئات، يقول ربُّنا جل وعلا: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]. فهذه مملكة سبأ أنعم الله عليها بأعظمِ نعمتين: رغد في العيش، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]. والنعمة الأخرى: الأمن في الأوطان، فقال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]. ولكنهم ما شكروا نعمة ربِّهم، فأعرَضوا عن المنعم، وعن عبادته، وبطروا النعمة، ومَلُّوها، فأتاهم العقاب فقال سبحانه: ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 16، 17]. عباد الله: لا بد أن ندرك أن نعمة الأمن لا توجد إلا بوجود مقوماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها، والتي من أعظمِها توحيدُ الله والإيمان به، والاجتماعُ ونبذُ التفرق، والالتفاف حول ولاة الأمر بالنصح والدعاء. وصلوا رحمكم الله...
العلامة حسين ابن الكاشف الدمياطي (ت 1229 هـ) هو العمدة النبيه، والفاضل الفقيه العلامة المقرئ الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي مولدًا، والرشيدي إقامةً وتعلمًا. مولده: وُلِدَ بدمياط ولم أقف على تاريخ مولده بالضبط. حياته العلمية: تعلَّق رحمه الله بالعلوم الشرعية، وانخلع من الأمرية والجندية، وحضر أشياخَ زمانه، وعلماء وقته وأوانه، أمثال الشيخ عبدالله الشرقاوي، فقد لازَمه كثيرًا، والحافظ مرتضى الزَّبيدي تلقى عنه أسانيد الحديث والمسلسلات. وانتقل من مذهبه الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول، وحفظ القرآن في بداية أمره برشيد، وجوده على السيد صديق، وحفِظ شيئًا من المتون قبل مجيئه إلى مصر، وأكبَّ على الاشتغال في الأزهر، وتزيَّا بزي الفقهاء بلُبس العمامة والفرجية، وتصدر ودرَّس في الفقه والمعقول وغيرهما. ولَمَّا وصل محمد علي باشا إلى ولاية مصر، اجتمع عليه عند قلعة أبي قير، فجعله إمامًا له يصلي خلفه الأوقات، وحضر معه إلى مصر، ولم يزل مواظبًا على وظيفته، وانتفع بنسبته إليه، واقتنى حصصًا وإقطاعات، وتقلَّد قضايا مناصب البلد العظيمة، ويأخذ ممن يتولَّى عليهم الجعالات والهدايا، وأخذ أيضًا نظر وقف الأزبك وغيره، ولم يزَل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو. أشهر شيوخه: 1) العلامة عبدالله حجازي بن إبراهيم الشرقاوي الأزهري رحمه الله (1150 - 1227هـ)، لازمه كثيرًا وتعلَّم منه. 2) الحافظ اللغوي الكبير محمد مرتضى الزبيدي رحمه الله (1145 - 1205هــ)، تلقى عليه أسانيد الحديث والمسلسلات. 3) وفاته: 4) استمر المترجم رحمه الله على القراءة والإقراء حتى توفي أواخر سنة (1229هـ) تسع وعشرين ومائتين وألف [1] . [1] المراجع/ انظر: "تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار" (3/ 470)، "وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر".
الصحة البدنية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: ف الصحة نعمة عظمى من الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ)؛ [أخرجه البخاري]، وأخرجه الدارمي ولفظه: (إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله، مغبون فيهما كثير من الناس)، فالصحة من نعم الله عز وجل على عبده، وهي قسمان: صحة بدنية، وصحة نفسية، من تمتع بهما مع الإيمان والعلم والتقوى، فقد نال خيرًا كثيرًا. وللتمتع بالصحة البدنية التي تقي الإنسان الأمراض والأوجاع، التي تكدِّره وتمنعه مما يعمل صحيحًا معافًى وسائلُ؛ منها: عدم الإسراف في المآكل والمشارب: قال الله عز وجل: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، قال العلامة السعدي رحمه الله: والإسراف، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، والشره في المأكولات التي تضرُّ بالجسم، وإما بزيادة الترفه والتنوق في المآكل والمشارب... وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام. فالمسلم يأكل ويشرب ما يحتاج جسمه، مما يقويه على أمور دينه ودنياه، بخلاف الكافر الذي يأكل الطعام الكثير، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن يأكُلُ في مِعًى واحد، وإن الكافر أو المنافق يأكُلُ في سبعة أمعاء)؛ [متفق عليه]. فمن رام صحة بدنه فلا يملأ معدته من الطعام والشراب، فعن المقدام بن يكرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أُكُلات يقمن صُلبه، فإن كان لا محالة، فثُلث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفسه)؛ [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها. وليعلم المسلم أن تقليل الغذاء لا يقتصر أثره النافع على البدن فقط، بل يتعدى ذلك إلى القلب، والنفس، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضدَّ ذلك. ففضول الطعام والشراب لها تأثيرها السيئ على قلب الإنسان ونفسيته، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم... هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تخصره، وتحبسه، وتضيقه. فليحذر المسلم من كثرة ألوان الطعام والشراب، فعن أبي أمامه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي)؛ [أخرجه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3663)]. الحرص على تناول الأغذية المفيدة والمباركة: من وسائل نيل الصحة البدنية: الحرص على تناول الأغذية المفيدة، النافعة، المباركة، وقد جاء وصف بعضها بالبركة، وما دام أنها مباركة فهي نافعه للبدن، ومنها: التمر: عن سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة)؛ [أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]. ماء زمزم: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: (إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ)؛ [أخرجه مسلم]. زيت الزيتون: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا الزيت وادَّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة)؛ [أخرجه الترمذي وصححه الألباني برقم (4498) في صحيح الجامع]. قيام الليل: عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقُربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للداء عن الجسد)؛ [أخرجه الترمذي، وصححه العلامة الألباني برقم ( 4079) في صحيح الجامع]. قال الإمام المناوي رحمه الله: قال ابن الحاج: وفي قيام الليل من الفوائد أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة، وينور القبر، ويُحسن الوجه، ويُذهب الكسل، وينشط البدن. والنشاط في البدن يجعل الإنسان يتمتع بصحة بدنية جيدة. المشي والرياضة: المشي والرياضة من أسباب نيل الصحة البدنية، ورسولنا عليه الصلاة والسلام كان يمشي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرضُ تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث؛ [أخرجه أحمد]. وكان يمشي إلى مسجد قباء، مع بعده عن مسجده بضع كيلومترات، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا؛ [أخرجه البخاري]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: (هذه بتلك السبقة)؛ [أخرجه أبو داود]. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يمشون، فعن عبدالله بن قيس بن مخرمة قال: أقبلتُ من مسجد بني عمرو بن عوف بقباء على بغلة لي قد صليت فيه، فلقيت عبدالله بن عمر ماشيًا، فلما رأيته نزلت عن بغلتي، ثم قلتُ: اركب، أي: عم، قال: ابن أخي لو أردت أن أركب الدواب لوجدتها، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إلى هذا المسجد حتى يأتي فيصلي فيه، فأنا أحبُّ أن أمشي إليه، كما رأيته يمشي، فأبى أن يركب، ومضى على وجهه؛ [أخرجه أحمد]. وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ [أخرجه أبو داود]. وعن كريب رضي الله عنه أنه سأل أسامة بن زيد: كيف صنعتم حين ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة؟ قال: جئنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة، فصلى، ثم حلوا، قُلتُ: فكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس، وانطلقتُ أنا في سُبَّاق قُريش على رجليَّ؛ [أخرجه مسلم]. ومع الرياضة فليمارس الإنسان ما استطاع من ألوان الرياضة البدنية، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يرمون، فقال: (رميًا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا)؛ [أخرجه الحاكم]. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة: أن علِّموا صبيانكم العوم ومقاتلكم الرمي؛ [أخرجه ابن حبان]. العمل البدني: العمل البدني من وسائل نيل الصحة البدنية، فينبغي عدم الركون إلى الراحة والكسل، فقد كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام يعملون بأبدانهم، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ فقالت: كان يخيط ثوبه ويخصف نعله؛ [أخرجه أحمد]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، وأنا كنتُ أرعاها لأهل مكة بالقراريط)؛ [أخرجه البخاري]. وعن المقداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)؛ [أخرجه البخاري]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (كان زكريا نجارًا)؛ [أخرجه مسلم]. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا)، فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ [أخرجه أحمد]. اللهم ارزُقنا الصحة البدنية التي تكون عونًا لنا على طاعتك وحسن عبادتك.
بوح القلم (تأملات في النفس والكون والواقع والحياة) سرديات ثقافية (الحداثة) الحداثة فلسفة معاصرة، وتحول تاريخي، وحالة اجتماعية، امتدت لخمسة قرون بدءًا من القرن السادس عشر الميلادي على يد فلاسفة النهضة: (رينيه ديكارت، فرانسيس بيكون، غاليليو). انبثق عن الحداثة ثورة علمية ودينية وفلسفية تركت آثارها على المجتمعات الغربية وغيرها إلى يومنا هذا. تمثل الحداثة سردية كبرى ومنظومة متكاملة لها فلسفتها الواضحة، وأنساقها المتعددة، ونماذجها المعرفية المختلفة. تقوم أيديولوجيا الحداثة على عدد من الأسس والمرتكزات من أبرزها: ١- انبثاق كائن إنساني بوعي جديد مستقل ومستغن عن غيره، وأنه مركز الكون والحياة. ٢- إعلاء سلطة العقل وأنه مصدر المعرفة، ومرجع العلوم. ٣- بروز العلم الطبيعي التجريبي بأنه هو العلم الحقيقي المهيمن على سائر العلوم. ٤- تأسيس روح العصر العلماني القائم على الفردية والحرية، ورفض هيمنة الوحي على الإنسان والحياة، والعلمانية على الرغم من تعدُّد وتنوع وتناقض وتضاد تعريفاتها، إلا أنها تجمع على قضية الفصل والقطيعة بين العلم والحياة، والدين والدولة، والدنيا والآخرة. ٥- الرأسمالية بتطوراتها التاريخية ( الكلاسيكية، النيوليبرالية، الليبرالية الجديدة، والكلاسيكية الجديدة )، وأبرز سماتها حرية الملكية الفردية. ويعتبر العامل الرئيس في تأثير الحداثة على الفكر والتصور والسلوك والتعامل في حياتنا اليومية - هو الاعتقاد والشعور بمركزية الإنسان والمادة التي ظهرت آثارها في المظاهر التالية: ١- الاهتمام بالأمور الهامشية والثانوية كالترفيه واللعب والتباهي والافتخار. ٢- تضخيم الجانب الرومانسي الوجداني: بالاهتمام بالنحت والفنون والرسم والغناء، والإغراق في الأفلام التي تمجد الغني والقوي والمادي، وتثير الشهوة والغريزة. ٣- تحديث الحياة الخاصة والسلوك بالسعي نحو اللذة والمنفعة والفردانية. ٤- افتقاد المعنى للذات والوجود لافتقاد الاتصال بالإله. ٥- أزمة الأخلاق: بسيطرة المادية والنفعية والحرية والذاتية. ٦- غياب المعايير الضابطة للفكر والسلوك. ٧- العقل الأداتي: بالاهتمام بالآليات والنتائج دون النظر للغايات والأيديولوجيات.. ٨- النزعة البرغماتية، فالحقيقة والقيمة هي ما يستجلب منها منفعة ومصلحة ما. ٩- جعل الدين مُخصخصًا ومؤسَّسًا في هيئة ومؤسسة معينة، وخاضعًا للتسليع والسيولة، قابلًا للتغير والتأثر بالنظريات التجديدية، وجعل التدين فردانيًّا خاضعًا للضمير الإنساني والشعور الذاتي.
براءة الإسلام معروف أن كل دولة لها دستور ولها قانون؛ لينظم حياة الناس ويحفظ حقوقهم، وتوضع هذه القوانين لتحفظ للمواطنين عقولهم وأموالهم ودماءهم إلى آخره. ولا يخفى علينا أن هناك من يتجاوز هذه القوانين ويرتكب أخطاءً من سحر ودجل وتضليل لعقول الناس، مرورًا بالسرقة وأخذ أموال الناس بالباطل، انتهاءً بالقتل وسفك الدماء، وهتك الأعراض. وفى الواقع هذه الجرائم التي تُرتكب لا تقلِّل من شأن الدولة ولا القانون، ولا تدل على أن الدولة فاسدة أو أن القوانين ضعيفة وباطلة، بل تدل على وجود ثغرة ما في المجتمع أو نفسية الخاطئ، وتدل على وجود مشكلة تحتاج إلى تمعُّن ودراسة وعلاج أو عقاب. هذا المثال ينطبق تمامًا على الدين الإسلامي، نزل الدين الإسلامي بمقاصد خمسة أساسية، وهي ( حفظ الدين، حفظ المال، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ النفس ). والمتأمل يجد أن من له مَن يحفظ له دينه ودمه وعرضه وماله، يكون قد توفر له كل سبل الراحة والسعادة والارتقاء. نزل الدين الإسلامي لنا لا علينا، نزل الدين الإسلامي للتيسير لا للتعسير، بدليل قول الله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وبدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يبعثني الله معنتًا ولا متعنتًا، إنما بعثني معلمًا ميسرًا). أثبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه بُعث لتعليم الخلق والعلم نورًا للعقل والبصيرة، وبُعث أيضًا للتيسير على الخلق، يسَّر الله على خلقه من خلال هذا الدين، فيسر على المسلمين بعبادات وقوانين وتشريعات لا تحتوي على ذرة مشقة ولا عُسر، وعلى غير المسلمين بأنهم يعيشون معنا في أرضنا ويتعاملون معنا بشرط ألا يضرونا بشيء، بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين تحيته السلام. عندما يفعل شخص ما جريمة ما يُسأل فاعل الجريمة، لا الدولة ولا قوانينها، وعندما يفعل مسلم جريمة ما يُسأل فاعل الجريمة لا الإسلام، الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وطالما عُرفت محللات الإسلام ومحرماته، إذًا هو غير مسؤول عما يقترفه البعض من أخطاء. لماذا تحملون الإسلام ذنب الإرهاب وأفعاله؟. .. يُسأل الإسلام عما يحمله تجاه العالمين، لا ولم ولن يقترب عاقل منطقي سوى من الإسلام، ويرى فيه ضررًا لإنسان خُلِقَ على وجه الأرض أيًّا كان دينه أو عرقه أو جنسه، هل للإنسان فقط؟! لا بل لا يحمل الإسلام ضررًا أو مشقة، أو إساءة لأي جماد أو حيوان، أو حتى نبات أو أي شيء خلق على الأرض. الإسلام دين كامل الأوصاف، أُنزل على رسول معصوم شهد له أعداؤه وأحبَّاؤه بالصدق والأمانة والعقل والرحمة، وأُنزل من إله كامل حاشاه أن يخطئ أو ينسى. كتب على نفسه الرحمة
أمتنا وتحديات العولمة من التحديات الكبيرة التي تواجهها الأمم عامةً وأمتنا خاصة مسألةُ طمسٍ الهوية كنتاج للعولمة التي تحاول من خلالها الأمم الغربية فرضَ أنماط سلوكها، ومعايير معيشتها على جميع الشعوب والمجتمعات، والعمل على تقويض منظوماتها التراثية، وطمس هويتها، من خلال زعزعة الروابط بين الأمم ولغاتها الأصلية، والطعن في موروثاتها بدعوى تقادمها، وعدم صلاحيتها ونجاعتها في العصر الحديث، وكذلك السعي لمحو ذاكراتها، وطرح بدائل مجدية حسب زعمهم. وإن أي مجتمع استهدفتْهُ العولمة، ثم شرع في التخلي عن موروثاته لا شكَّ أنه سيكون بذلك قد خطا خطواته الأولى في طريق الانزلاق والضياع، والاستلاب والانخلاع، وإذا تم محوُ ذاكرته، فسيصبح عديم الكِيان متخبطًا في كل الشِّعَبِ والوديان، لا يهتدي إلى سبل الرشاد وطرق العرفان، ولعله من المؤكد أن أمتنا في أمسِّ الحاجة إلى التغيير والتطور من أجل الارتقاء والنماء، وجودة الخدمات، وحسن التسيير، والحكمة في التدبير، ومواكبة التكنولوجيا، وفرض المكانة في عصر التنافس والتشمير. ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب الهوية وفقدان الشخصية، ونحن أمة سيد البرية عليه الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واتبع سنته الزكية. إن أمتنا المجيدة مطالَبةٌ اليوم وأكثر من أي وقت مضى بالتخلي عن التبعية، والمبادرة إلى انتهاج مناهج تتجلى فيها بوضوح معالم التميز والخصوصية، من خلال تطويع معالم العولمة بما يتوافق مع تطلعات أبناء أمتنا الأبية. إنه لمن المؤسف حقًّا أن نرى من ينتسب إلى هذه الأمة الإسلامية، فتراه يصلي ويصوم ويضحي، وربما قد حجَّ ولهج بالتلبية، ولكنه مع ذلك ينصب شجرة في الكريسماس، ويحتفل بالسنة الميلادية، وكذلك أن نرى من يدعو إلى إباحة اللواط والإجهاض والعلاقات "الرضائية"، والمساواة في الميراث، ويستهجن الحدود، ويطالب بحرية الجسد والإباحية، والأدهى من ذلك حرية المعتقد، ناهيك عن الطعن في السنة والقرآن، والصحابة عليهم الرضوان، وأئمة الحديث، وأعلام الهدى، ودعاة التوحيد والإيمان. أضِفْ إلى ذلك ما نشاهده من تأثر بعض الشباب بالتفاهات المستوردة، وكأنهم بين عشية وضحاها قد انسلخوا من الهوية، وتحولوا عن الشخصية، ويظهر ذلك جليًّا في المظهر والجوهر، وطرق اللباس والتدبير، وأساليب النقاش والتفكير. وصدق سيد البشرية الذي أخبر بوحيِ الله بكثير من الأمور الغيبية، وكأنه يرى الأحداث المستقبلية: قال صلى الله عليه وسلم: (( لتتبعنَّ سَنَنَ من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه ))، والسنن: هي الطرائق والأفعال؛ [الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري]. إن الفرصة ذهبية أمام أمتنا كي تراجع حساباتها، وتحدد أولوياتها وتقفز على خلافاتها، وتنهض من سُباتها، وتحمي تراثها، وتدافع عن مقدساتها، وتتوحد تحت راية التوحيد، وتتطلع إلى عهد جديد، بعد زوال هذا الداء، وذهاب البلاء، بفضل رب الأرض والسماء، الذي أراد لنا الخيرية والرفعة والسناء: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]. قال صلى الله عليه وسلم: (( بشِّر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة، والتمكين في الأرض، فمن عمِل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب ))؛ [الراوي: أبي بن كعب، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب].