text
stringlengths
0
254k
المملكة: تجربة عالمية ودروس علمية في إدارة الأزمة سـأطرح عليك هنا محاورَ متعددة تتعلق بإدارة المملكة العربية السعودية لأزمة جائحة كورونا، وأترك لك الحكم على التجربة القادمة من عمق عالمنا العربي: أولًا: كان وما زال الوقت عاملًا حاسمًا في إدارة المملكة للأزمة، من يدير الأزمة يدرك أن بعض الأزمات تتحول إلى كوارث في أيام أو ساعات، وأحيانًا في دقائق معدودات، سأعطيك مثالًا: منسوبو جامعات سعودية تلقَّوا رسائل فجرًا على هواتفهم المحمولة تفيد بإلغاء اختبارات منتصف الفصل الدراسي الثاني، والتي كان مقررًا لها أن تبدأ في الصباح الباكر من هذا اليوم، هذا يعني أن مسؤولين يتحملون مسؤولياتهم ظلوا مستيقظين حتى الفجر ليتخذوا قرارًا كان مؤثرًا للغاية في مواجهة المؤسسات التعليمية والمجتمع بصفة عامة للأزمة، وسيظل هذا القرار نموذجًا يُدرس في علاقة إدارة الوقت بإدارة الأزمة. ثانيًا: المعلومات هي الدم الذي يجري في هيكل إدارة الأزمة، والتواصل هو الشريان والوريد، منذ اليوم الأول للتعامل مع الأزمة ستضبط ساعتك على ظهور المتحدث الرسمي لوزارة الصحة ليُدليَ بمعلومات وتوجيهات تهمُّ الجميع، وبطريقة رائعة ومشهودة وبنموذج رائع في دفء التواصل مع الناس، المتحدث سيظهر كل يوم في الساعة الثالثة ونصف عصرًا بتوقيت المملكة، وكل يوم لديه جديد ومفيد، ومنذ الظهور الأول للمتحدث الرسمي ستشعر وكأن حربًا قد بدأت ضد فيروس لا يرحم المتهاونين والمقصرين في حقه، وستشعر بحديث المتحدث الرسمي وكأنه بيان حرب. ثالثًا: وعي الناس هو أكبر حائط صدٍّ في مواجهة الأزمات، حملة دعائية مكثفة ومتنوعة الأساليب تنطلق في الإعلام، وعلى وسائل التواصل، وفي المؤسسات وفي الشوارع، حملات تستهدف عواطف الناس وعقولهم، ويدرك مخططوها ومنفِّذوها أن الناس تحركها عواطفها أكثر مما تحركها عقولها، إعلانات تحذرهم وتطمئنهم وترشدهم في آنٍ واحد، إعلانات تتعامل مع التفاعل الاجتماعي والذي هو من أهم خصائص مجتمعاتنا العربية، مجتمعات ينفُذ فيها الفيروس من باب التفاعل والتواصل بين الناس، إعلانات تصور - في مشاهدَ تضرب على أوتار القلوب - الضررَ الذي يمكن أن يلحقه الصغير بالكبير؛ بسبب فيروس لا يعترف بحسن النوايا، آخر حملة تم تنفيذ شعارها "عيونك تكفي"، صور لأشخاص ذكور وإناث من أعمار مختلفة يرتدون الكمامات، وابتساماتهم تظهر في عيونهم. رابعًا: في الوقت المناسب والحرج تمَّ فرضُ حظر التجول، اختلفت توقيتات الحظر باختلاف المناطق ومدى انتشار كورونا فيها، كان الحظر مخططًا وموجهًا بالمعطيات، في الحظر لا مجال للتهاون، التهاون يعني غرامة كبيرة تُثقِل كاهل صاحبها، وتجبره على التفكير كثيرًا قبل كسر الحظر، ولا تنفع الندامة بعد الغرامة، ونفس الأمر ينطبق على أماكن التجمعات في غير أوقات الحظر، ساعات كان يجلس فيها بعض الناس للترفيه تظهر فيها سيارات الأمن، ينطلق منها صوت مرتفع وحازم يطلب التباعد، ويلزم بالمغادرة الفورية مع اقتراب بداية وقت الحظر. خامسًا: المسحة مجانًا ومتاحة في مواقع كثيرة في المدن الصغيرة والكبيرة، لن تحتاج للنزول من سيارتك لعمل المسحة، ستصلك النتيجة بعدها بأربع ساعات، إذًا عندما تشعر بأعراض المرض توجه للموقع، واطمئنَّ على نفسك، أو اعزل نفسك قبل فوات الأوان، هنا أحد أهم إجراءات مواجهة كورونا وحصارها، ولا مجال هنا للحديث عن تكلفة؛ فتكلفةُ عدم إتاحة المسحات سيأتي يومًا ويفوق تكلفة إتاحتها. سادسًا: الإغلاق في المملكة مع العالم المحيط دائمًا يأتي في توقيته المناسب، تنام والحدود مفتوحة، تستيقظ على إغلاقها، الإغلاق الأخير يحدث الآن مع ظهور النسخة الجديدة لكورونا، تخرج الطائرات من مطارات المملكة تحمل المسافرين وتعود بلا مسافرين، طاقم الطائرة محظور عليه النزول من طائرته في أي مطار يهبط فيه، أما القادمون من الخارج فدائمًا الإجراءات معهم حازمة ومخططة وآمنة ومريحة في ذات الوقت. سابعًا: ممنوع دخول أماكن الشراء أو أماكن العمل دون ارتداء كمامات، ودون قياس الحرارة، ونسيت أن أخبرك أن السلام باليد أصبح من الذكريات عند أكثر الناس والعيون تكفي. ثامنًا: المساجد فتحت أبوابها بعد فترة إغلاق لم تطُلْ، عاد المصلون ولكن معهم سجادات الصلاة، وإذا نسَوها - وغالبًا لن ينسوها - سيجدون في كثير من المساجد سجادات خفيفة للاستعمال مرة واحدة، وهناك مسافة تفصل بين المصلين، وهناك علامات تضبط المسافات، وقبل صلاة الجمعة يقف خادمو بيوت الله على أُهْبَةِ الاستعداد لتنظيم المكان وتنظيم المصلين، أما تنظيم الحركة في الحرمين المكي والمدني في العمرة وفي الحج، فشاهَدَها ويشاهدها العالم كله على شاشة التلفاز. تاسعًا: حزمة قرارات اقتصادية متنوعة لدعم الشركات والمؤسسات والأسر والأفراد، لن أزعجك بتفاصيلها، وحتى لا أترك لك فرصة لتتحدث عن الإمكانيات المادية وتأثيرها في مواجهة الأزمات، وأنا الذي أسعى لإقناعك بأن الأمر لا يتعلق بماديات بقدر ما يتعلق بتحمل المسؤولية. عاشرًا: الأطباء والطواقم الطبية هم الجنود في الميدان، وعلى خط المواجهة، دعمهم ماديًّا ومعنويًّا يعني الكثير في مواجهة هذه الأزمة، القرار: صرف مبلغ مقداره نصف مليون ريال لذوي المتوفى بسبب فيروس كورونا، القرار ينطبق على العامل في القطاع الصحي الحكومي أو الخاص، مدنيًّا كان أم عسكريًّا، وسعوديًّا كان أم غير سعودي، والقرار يسري بأثر رجعي، ومن تاريخ تسجيل أول إصابة بالفيروس. حادي عشر: الحصول على كميات كبيرة من اللقاح، ووضع خطة متدرجة لتعميمه على الجميع، وباعتبارات متعددة ومنطقية، والصور المحفزة تعرض حصول فئات متنوعة على اللقاح بداية من ولي العهد، مرورًا بوزير الصحة، وصولًا إلى المواطن والمقيم. ربما نسيت أو جهلت محاور أخرى لإدارة الأزمة في المملكة، لكن أعتقد أن المحاور المذكورة تَكْفِيك للحكم على التجربة، أنا وغيري نراها تجربة عالمية ودروس علمية، ويمكن اختصارها في كلمة واحدة هي "المسؤولية" ... فكيف تراها أنت؟
انتبه لهذا الرقم الهام الرقم 100 على مقياس سكر الدم للشخص الصائم لمدة 8 ساعات هو الحد التقريبي الفاصل بين الشخص الطبيعي والآخر المرشح ليكون مريضًا بالسكر، فإن ابتعدتَ عنه نزولًا فأنت بالنطاق الآمن، وعلى العكس من ذلك؛ فكلما صعدت بك الأرقام، فإنك تتوغل في نطاق الخطر. وحدة قياس تركيز سكر الدم لهذا الجهاز هي ملليغرام لكل ديسيلتر، وهذا يعني أن القراءة 100 تعادل وجود غرام من الجلوكوز في كل لتر من الدم، أو 5 غرام تقريبًا في كامل الدم تزيد أو تنقص قليلًا؛ لأن معدل حجم الدم للشخص البالغ معتدل الوزن هو 5 لترات، ويمكن لهذه الكمية أن تزيد بنسبة لا تتجاوز 40% بعد الأكل بساعتين لغير المرضى. الوضع الطبيعي لجسم الإنسان السليم عند فحص الصيام أن يحتوي كامل دمه كمية ضئيلة لا تتجاوز 5 غرامات، وهو ما يعادل مقدار ملعقة صغيرة من الجلوكوز، فإن تضاعفت هذه الكمية، فهذا الشخص على الأغلب مريض بالسكر. لك الآن أن تتصور الجهد الخفي الذي يبذله الجسد على مدار الساعة للحفاظ على هذه المستويات المتدنية من التركيز لسكر الدم، بالتخلص من الكميات الكبيرة الفائضة عن الحاجة من الجلوكوز التي نضخها يوميًّا لأجسامنا دون حساب، عن طريق تناول سكر المائدة في الشاي والقهوة والحلويات بأشكالها المختلفة التي تتحول بشكل مباشر إلى سكر الدم أو الكربوهيدرات والنشويات، التي تحتاج بعض الوقت الإضافي للتحول وترفع سكر الدم أكثر من السكاكر العادية، وكم تصبح شاقة مهمة البنكرياس الذي ينتج الأنسولين اللازم لحفز الخلايا على امتصاص السكر الزائد الذي تنتجه الكميات الكبيرة من الطعام غير المتوازن التي نتناولها! ولماذا يصاب الناس بهذا الداء بعد أن تتعرض خلايا البنكرياس المنتجة لهذا الهرمون الحيوي للضرر من العمل الإضافي المتواصل، الذي نفرضه عليه؛ نتيجة التغير الكبير الذي طرأ على نمط عاداتنا في الأكل كمًّا وكيفًا. لنتذكر أن هذا العضو الثمين الذي يعمل بصمت داخل أجسادنا قد يصل إلى مرحلة يعلن فيها إفلاسه من شدة الإجهاد في حالات كثيرة؛ بسبب إفراطنا في تناول الطعام، وخصوصًا تلك الوجبات والأغذية الجاهزة وغير الصحية، وليس لأسباب أخرى وراثية أو سواها، مما يضطرنا للتحول للاستعانة بمصدر خارجي بديل ودائم للأنسولين عبر الحقن الخارجية ووخزات إبرها المؤلمة، فرفقًا به لعله يواصل العطاء.
المبادرات المتفردة ودورها في تجويد العمليات الإبداعية: مؤسسة مقاربات أنموذجًا إن الفعل الثقافي تصاحبه مجموعة من العمليات التي قد تسير به إما نحو المنحى الإيجابي أو السلبي، ويكون تأثيرها على تلقي القارئ مستمرًّا في ارتباط أكيد بالتجليات النفسية والاجتماعية والفكرية، وهو ما قد يخلق منحًى أدبيًّا جماعيًّا أو فرديًّا، يبقى صداه متواصلًا دون انقطاع، أو أن الناس تنساه بمجرد ظهوره. كثيرًا ما نسمع عن مبادرات هنا وهناك في مجالات مختلفة، وقد تكون لغايات متباينة أحيانًا، ليبزغ نجم المبادرات الجادة التي تحقق الغايات الإنسانية النبيلة المنشودة، برؤية تبصرية محكمة تنم عن تخطيط مسبق وإدارة فعالة في التدبير والتنزيل. هكذا يحق لنا أن نقول: إن المبادرات الخلاقة والمتفردة عمومًا، وفي مجال الكتابة والنشر خصوصًا، تبنى أساسًا وَفق المنطق المتجذر في أصول التربية بأبعاد إنسانية كونية، تروم بناء صرح ثقافي يربط بين الناشر والمؤلف والقارئ، ليعود الفعل الثقافي إلى بهائه ورونقه الأساس، وهو تحقيق الجماليات: جمالية الرؤية، جمالية التخطيط، جمالية الإبداع، جمالية المبادرة، جمالية العمق الإنساني المفعم بالحياة ... والتملي بالخصوصيات الإبداعية التي تروم الكشف عن الكنه الثقافي المجتمعي السائد. وتأخذ هذه المبادرات شكل التشجيع والتحفيز على الإبداع الإيجابي المنتج، مشكِّلة بذلك قاطرة جديدة تقطع الصلة مع كل الممارسات غير التربوية التي تقوي المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة. وإذا أخذنا مؤسسة "مقاربات للنشر والصناعات الثقافية وإستراتيجيات التواصل" أنموذجًا، ألفينا أن الخط التحريري الذي سلكته يتَّجه بشكل تصاعدي إيجابي، بدءًا بمعيار الجودة ومرورًا بتشجيع الطلاب والطالبات على التأليف المثمر للبناء الفكري، من خلال تأليف العديد من الكتب ومناقشتها في مؤتمرات وطنية عربية ودولية، ووصولًا إلى خلق وابتكار مبادرات تتخذ طابع السبق، دون أن نغفل حجم الإنتاجات التي نشرت من داخل هذه المؤسسة التي ذاع صيتها دوليًّا، فهي مؤسسة إبداعية منتجة وفعالة بشكل يضمن الاطمئنان الروحي والوجداني والفكري للقارئ والمؤلف على حد السواء، كما أنها مؤسسة علمية بحثية ذات مجلس إدارة ومجلس علمي محكم وهيئة استشارية دولية تضمن معايير الجودة حفاظًا على الفكر والثقافة الصحيحين من جهة، وضمانًا لسمعة المؤسسة من جهة أخرى التي صنعتها بكل دقة وتركيز. وجدة المبادرات والمقاربات الرصينة ليست أمرًا جديدًا على المؤسسة، بحكم أن رئيسها المبدع خبر دروب الإبداع وتجليات الأجناس الأدبية كتابةً ومناقشة ونقدًا ونشرًا، فهو قاص وروائي وشاعر وفنان تشكيلي، وناقد حصد العديد من الجوائز القيمة؛ حيث يقارب النصوص بمختلف أنواعها مقاربة علمية دقيقة، وتجلت هذه القيم العلمية والإنسانية الكونية في أصناف الكتب التي تنشرها المؤسسة. وتبقى آخر هذه المبادرات التي سنتها مؤسسة مقاربات "شهر الشعر" الذي يمتد من 19 فبراير 2021 إلى 21 مارس من نفس السنة، تحت شعار: "شهر الشعر: ثلاثون يومًا في حضرة الإبداع"؛ حيت يتم الإعلان عن شاعر وديوان في كل يوم، وجاء ء في ورقة المشروع الثقافي للمؤسسة ضمن ربيعها السنوي ما يلي: "نسعى في مؤسسة مقاربات إلى وضع الشِّعر في سياقه الإبداعي والجمالي، وأن ننتصر لقيم الحداثة والتجريب، فالشِّعْر هو الوجود نفسه، وهو يتخلَّق بلا انقطاع، مثل النهر الذي يتجدَّد ماؤه؛ لأن الشِّعر هكذا ظهر وهكذا جاء، باعتباره انبثاقًا، أو دهشة ونشوةً بلا تخوم، يذهب صوب اللانهائي، وهو، أيضًا مغامرة تصبو إلى المجهول، وتفتح مزيدًا من الطُّرُق والمسالك، لا تؤمن بالشكل الواحد المغلق، بل إن الشِّعر أشكال ومقترحات، هو التعدُّد والتنوع والمغايرة، بل هو الاختلاف. من هذا المنطلق نعمل في مؤسسة مقاربات على أن يكون الشِّعْر شكلًا من أشكال إقامتنا في الأرض، أو في الثقافة والفكر، وفي الفن والجمال، ولم نكن قطُّ نعتبر الشِّعر غير مفيد أو لا جدوى منه؛ لأن هذه رؤية يعوزها إدراك معنى أن نوجد بالشِّعر، وأن نحيا شعريًّا في الوجود، وأن يكون الشِّعر احتفالًا بالشِّعر ذاته فيما يقترحه علينا باستمرار...". ولأن الشعر يستحق، فقد خصصت له المؤسسة كل هذه الأيام ولم تجعله مقترنًا بيوم 21 مارس من كل سنة كما هو معتاد، وهنا تكمُن جِدةُ المبادرات وقوة التفكير في الإبداع، وابتكار آليات جديدة للتكريم، وربط الصلة بين المؤلفين والقراء عبر روابط الإنسانية والتواشج الحضاري الخالص الذي يؤسس للتواجد والحضور، والحصول على شهادة إقامة عبر الشعر، إنه احتفاء مستمر في الزمان والمكان والذاكرة، والعادات والقيم والفكر والثقافة، إنه احتفاء المفرد بالجمع وانصهار للذوات الفردية في ذوات جماعية تشكل الكل والمشترك والمترابط والمنسجم. وتجدر الإشارة إلى أن الدواوين الثلاثين التي سيتم الإعلان عنها والتعريف بها، ستقدم في المنتدى العربي الثامن الذي يحمل اسم "دورة ابن زاكور الفاسي"، وهو منتدى يعرف حضورًا عربيًّا نوعيًّا يجسد قيمته وصيته على المستوى العربي، وقاطرة للتنمية الفكرية المتجلية في نوعية المشاركين والمتلقين للمادة العلمية على حد السواء. كما أن حلقة الفكر المغربي التي يدير أشغالها الدكتور جمال بوطيب، أعلنت عن موعد تقديم هذه الدواوين، ويمتد من 26 من مارس الجاري إلى 28 منه ، إضافة إلى ذلك نجد فقرات أخرى متمثلة في الإعلان عن جائزة الشاعر محمد السرغيني للشعر وتقديم إصدارات، وكذا ندوات وتوقيعات، إضافة إلى سلسلة كاتب وكتاب، ومجموعة من الورشات القيمة والمفيدة. إذًا زمن الشعر مع مؤسسة مقاربات، له نكهة خاصة وطابع متفرد يبرز قيمة المشرفين على برامجها ودوراتها وملتقياتها، لن يستطيع أي قارئ معرفي متذوق تفويت فرصة تلقيه في ربيع مقاربات الثقافي.
في وفاة ناصر السنّة الشيخ المحدّث محمد عَجَاج الخطيب الحَسَني الدمشقي الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فالحمد لله على كل حال، وله المرجع والمآل. بلغنا نبأ وفاة مجيزنا العلّامة المحدّث الجليل المعمّر أ.د. محمد عَجَاج الخَطيب الحَسَني الدِّمَشْقي، نحو الساعة الواحدة ظهر الأحد، الرابع من ربيع الأول سنة 1443 (يوافقه 10 أكتوبر 2021) في مدينة مُوبِيل بولاية ألاباما الأمريكية. وُلد رحمه الله في مدينة دمشق ، سنة 1350 في حي العَمارة الجوّانية، من أسرة شريفة عريقة، كَثُر فيها العلماء الشافعية والمحدّثون والفضلاء والأعيان، وعُرفوا بالخطابة في جامع دمشق الأموي الكبير. وهو محمد عَجَاج بن محمد تميم بن صالح بن حامد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب الحَسَني، من ذرية عبد القادر الجيلاني. كان والده وجيهًا ذا مكانة، ووالدته خديجة بنت أحمد بن عبد الرحمن الكاشف، وكان جدُّه أحمد من الذين جاهدوا الاحتلال الفرنسي. توفي والد شيخنا وهو في السابعة من عمره، ودَرَس في مدارس دمشق، وتردَّد على حَلْقات العلم في مسجد بني أمية، وحلقات العلم المنتشرة في أسرته، وعند غيرهم، وكان ذكيّا متفوقًا من صغره، وتابع دراسته في دار المعلمين الابتدائية، وتخرج منها سنة 1370، وكان الأول على دفعته، فعيّن معلّمًا في مدرسة التطبيقات المسلكية الملحقة بدار المعلمين، ودرّس أيضًا في مدارس دمشق المتوسطة من سنة 1370 إلى 1377، والتحق بكلية الشريعة، وتخرّج منها سنة 1377 كذلك، وكان الأول، ونال شهادة أوائل الخرّيجين. بعد تخرّجه درّس العلوم الإسلامية والعربية في مدرسة بلدة « فِيق » الإعدادية في منطقة الجَوْلان. ثم أوفدته وزارة التربية إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بعد سنة لمتابعة الدراسات العليا، فحصل الماجستير بدرجة الامتياز سنة 1381 (1962م) برسالته الفذّة: «السنّة قبل التدوين»، والتي طبعت مرارًا؛ أوّلُها سنة 1383 (1963م) وصارت عمدة في بابها. ثم حصل الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى في الحديث سنة 1385 (1966م) في نشأة علوم الحديث ومصطلحه، مع تحقيقٍ متين لكتاب «المحدِّث الفاصل» للرامَهُرْمُزي، أقدم الكتب المفردة في المصطلح، وأتم تحقيقه سنة 1383 على أربع نسخ خطية، وطبع للمرة الأولى سنة 1391 (1971م). وكان له في مصر صولات وجولات مع الطاعنين في السنة، وكتب ردودًا على كبيرهم محمود أبو ريّة في مجلة الرسالة سنة 1382، ومنه كتب ردًّا مفصَّلًا في الدفاع عن راوية الصحابة أبي هريرة رضي الله عنه كتبه سنة 1381، وسخّر الله وزارة الثقافة لتتبنّاه وتنشره نشرًا واسعًا سنة 1382 (1962م) عبر المؤسسة المصرية العامة للنشر، وكبَتَ به أعداء السنّة، وتكررت طباعته مرارًا. ونظرة في مقدمات أعماله الأولى تدل على وعيه المبكر، وسعة اطلاعه للمصادر المطبوعة والمخطوطة، وقوة عارضته وغيرته، وتمكنّه من البحث، وترى ثناء مبكِّرًا على غيرته وعلمه في مقدمة أستاذه في دار العلوم: علي حَسَب الله، لكتاب « السنّة قبل التدوين ». رجع إلى دمشق بعيد تخرجه مدرّسًا في كلية الشريعة بجامعتها لثلاث سنوات، ثم أعير إلى كلية الشريعة في الرياض بين سنتي 1390 إلى 1393، وعاد لدمشق، ونال الأستاذية سنة 1396، وصار رئيس قسم علوم القرآن والسنة، وبقي إلى سنة 1400، تخلل ذلك إعارة قصيرة كأستاذ زائر لجامعة أم القرى في مكة سنة 1398 لمدة نصف فصل، واختير عضوًا مشاركًا في لجنة التوعية الإسلامية في حج سنة 1399 بدعوة من شيخنا عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع. ثم أُعير إلى جامعة الإمارات سنة 1401، وبقي هناك مدة، وصار رئيس قسم الدراسات الإسلامية سنة 1407، وبقي فيها إلى 27 ربيع الثاني سنة 1418 حيث انتقل إلى جامعة الشارقة عميدًا لكلية الشريعة، ثم أستاذًا بها إلى 22 جمادى الآخرة 1423، ثم أستاذَا للحديث والسيرة والثقافة الإسلامية في جامعة عَجْمان مدة سنة، ووصل السنّ النظامي للتقاعد هناك، فعاد إلى دمشق مدرّسًا في جامعتها. وتنقّل في السنوات الأخيرة بين بلده دمشق، حيث تم اختياره مدرّس قبّة النَّسْر في المسجد الأموي، وهو المكان المعهود لأكبر علمائها في الحديث في القرون المتأخرة، وبين أمريكا عند بعض أبنائه، وبيروت، وأقيمت له مجالس للتحديث في دمشق وبيروت وغيرهما. وكان له مع ذلك حضورٌ إعلامي ومشاركات علمية في الندوات والمؤتمرات في عددٍ من البلدان، ونشاط في التأليف والتحقيق، في الحديث النبوي خاصة، وغيره من العلوم الإسلامية، ومنها التربية، والإعلام، وعلم المكتبات. من شيوخه: أنقل ما ذكره عن نفسه، فقال: سمع في حداثة سنه في دمشق أكابر علمائها؛ منهم الشيخ هاشم الخطيب، والشيخ عبد الرحمن الخطيب، والشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت )، والشيخ سعيد البرهاني، والشيخ سهيل عبد الفتاح الخطيب، والشيخ صالح الخطيب، والشيخ رفيق السباعي، ثمّ الشيخ أ. د. محمد أمين المصري، والأستاذ محمد خير الجلاد، والشيخ خالد الجوجا، والشيخ شريف عبد الفتاح الخطيب، ثمّ الشيخ عبد الرحمن الباني كمدرس للتربية الإسلامية وطرق التدريس في دار المعلمين، والأستاذ بكري قدورة مدير دار المعلمين (١٩٤٩م-١٩٥٢م)، والأستاذ كامل بنقسلي، والأستاذ شاكر مصطفى، والأستاذ عدلي حشّاد، والأستاذ السمان نائب مدير دار المعلمين أستاذ العلوم، وأستاذ اللغة الإنكليزية عبد الرحمن خليفة، والأستاذ محمود جلال، ود. عابدين حماده، والأستاذ وفيق العظمة أستاذ علم النفس، والأستاذ أنطون مقدسي أستاذ علم الاجتماع. وفي المرحلة الجامعية بدمشق تلقى العلوم الإسلامية على أ. د. مصطفى السباعي، والأستاذ العلامة مصطفى الزرقا، والأستاذ الدكتور معروف الدواليبي، والشيخ العلامة بهجت البيطار، والأستاذ الدكتور سعاد جلال، والأستاذ الدكتور شعبان حسين، والأستاذ محمد عبد القادر المبارك، والأستاذ مصطفى الخن، والأستاذ حسن عبيد، والقاضي الشيخ علي الطنطاوي، والأستاذ الدكتور زكي عبد البر، والمحدّث الشيخ محمد المنتصر الكتاني، والأستاذ مصطفى زيد، والأستاذ الدكتور محمد فوزي فيض الله؛ إذ كان معيدًا في كلية الشريعة آنذاك، والأستاذ الدكتور فتحي الدريني (حين كان معيدًا في الكلية). وتلقى اللغة العربية وآدابها على الأستاذ الدكتور صالح الأشتر، والتاريخ الإسلامي على الأستاذ الدكتور يوسف العش والأستاذ حسن عبيد، وتلقى حاضر العالم الإسلامي على الأستاذ عمر الحكيم، والتربية وعلم النفس على الأستاذ المحاضر عدنان السبيعي، وتلقى العلوم القانونية على الأستاذ الدكتور أحمد السمان عميد كلية الحقوق، والأستاذ الدكتور عدنان الخطيب، والأستاذ الدكتور مصطفى البارودي، والدكتور فؤاد دهمان، والدكتور الحلواني، وغيرهم. وفي مصر سمع من الأستاذ الشيخ علي حسب الله، وقد أشرف على رسالتيه في الماجستير والدكتوراه، وله لقاءات كثيرة مع الأستاذ الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم، والأستاذ عبد السلام هارون، وتلقى الفقه والأصول على العلامة الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ علي الخفيف والشيخ محمد الزفزاف والدكتور يوسف موسى في معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة، كما سمع بعض المحاضرات من الدكتور عبد الرحمن البزاز مدير المعهد آنذاك، وتلقى بعض العلوم القانونية من أساتذة المعهد آنذاك، منهم أ. د. حشمت أبو ستيت. وسمع من الشيخ محمد الأودن ومن الشيخ أ. د. محمد محمد السماحي، ومن الشيخ أ. د. إبراهيم زيدان، والشيخ أ. د. عبد الحميد الحجازي وغيرهم في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف. كما كان يتردد على العلامة المحقِّق قريبه الأستاذ محب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية، والتقى بكثير من أكابر علماء الأزهر الشريف، وأساتذة الجامعات في مصر، بين سنتي ١٩٥٩م- ١٩٦٥م. وكانت له صلة وثيقة بالأستاذ فؤاد سيد مدير قسم المخطوطات بدار الكتب المصرية، وبالأستاذ محمد رشاد عبد المطلب مدير معهد المخطوطات بالجامعة العربية. وكان يتردد على المنتديات والمجالس العلمية في القاهرة، منها مجالس العلامة الأديب المحقق الأستاذ محمود شاكر، كما التقى مراراً بالأستاذ سيد صقر، في مصر ومكة. روايته: ممن أجاز له قريبُه مسند دمشق الشيخ محمد صالح الخطيب، والشيخ المحدّث العلّامة محمد المنتصر الكَتّاني، وسمع منه الأولية. أقرانه: قال عن نفسه أيضًا: من أقرانه في مرحلة الطلب في دمشق الشيخ محمد هشام البرهاني، والشيخ عبد الحميد الصلاحي، والأستاذ أحمد الزول، والأستاذ خالد الرفاعي، والشيخ عبد الرؤوف الحناوي، ومحمد نصوح العلبي. ومن أقرانه في الدراسات العليا في مصر الأستاذ سعيد عبده إسماعيل، والدكتور محمد الدسوقي، والأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، والأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والأستاذ الدكتور نور الدين عتر، والأستاذ الدكتور وحيد الدين سوار، والأستاذ الدكتور مازن مبارك، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، والأستاذ الدكتور محمد أديب صالح، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن الصابوني، والأستاذ الدكتور فوزي فيض الله، والأستاذ الدكتور عدنان زرزور، والأستاذ الدكتور شاكر الفحام، والدكتور فاروق النبهان عميد دار الحديث الحسينية في الرباط سابقًا. ومن أقرانه في كلية الشريعة بجامعة دمشق الأستاذ الدكتور إبراهيم السلقيني عميد كلية الشريعة السابق، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي وكيل كلية الشريعة، والأستاذ الدكتور فاروق عكام عميد كلية الشريعة حتى عام ٢٠٠٦م، والدكتور عبد اللطيف الشيرازي، ثم الدكتور مصطفى الخن، والدكتور مصطفى البغا. والتقى في مكة المكرمة بالشيخ محمد الغزالي رئيس قسم الدعوة في جامعة أم القرى (١٩٧٨م)، وبالدكتور عبد الله الرشيد عميد كلية الشريعة، وبالأستاذ محمد قطب، كما التقى مرارًا بالشيخ عبد العزيز بن باز رئيس هيئة التوعية الإسلامية، وحاضر في موسم حج عام (١٣٩٩هـ) في المواقف والمشاعر وفي الحرم المكي والمدني بدعوة من رئيس هيئة التوعية الإسلامية. ومن أقرانه ممن التقى بهم في كلية الشريعة بالرياض الشيخ عبد الله بن فنتوخ عميد كلية الشريعة، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ منّاع القطان، والشيخ عبد الله زايد مدير الجامعة الإسلامية الأسبق، والشيخ صالح العلي، والأستاذ الدكتور عبد الله ابن تركي عميد كلية اللغة العربية آنذاك، ومدير جامعة الإمام محمد بن سعود ثم الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، وبالشيخ المحقق العلامة عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور عبد الله العجلان، والشاعر الدكتور زاهر عواض الألمعي، والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، وغيرهم. والدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم، والدكتور عبد الله الوهيبي أمين عام جامعة الرياض آنذاك. كما التقى في الرياض بالشيخ المحدِّث حبيب الرحمن الأعظمي الهندي، وبالداعية العلامة الشيخ أبي الأعلى المودودي، وبالداعية العلامة أبي الحسن الندوي الذي التقى به في الهند، وبالمفكر الإسلامي مالك بن نبي، والأستاذ الدكتور مصطفى الأعظمي، وبالدكتور محمد أمين المصري، وبغيرهم كثير. كما التقى في أسفاره وفي المؤتمرات والندوات العلمية التي حضرها في بعض البلاد العربية والإسلامية والأوربية وأمريكا بكثير من أهل العلم كفضيلة أبي الحسن الندوي، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ الدكتور عبد الله ناصيف، والدكتور خالد المذكور، والدكتور عبد الغفار الشريف، والمفكر روجيه جارودي، والدكتور حسين الحناوي، والأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، وأ. د. أكرم ضياء العمري، وأ. د. علي محي الدين القره داغي جامعة قطر كلية الشريعة والقانون. من الآخذين عنه: أواصل النقل عنه، فقد ذكر أنه قضى ما يزيد على أربعين عامًا في تدريس الحديث وعلومه والعلوم الإسلامية، في جامعات سورية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب دروسه العامة ومحاضراته، فقد تخرج به آلاف الطلاب، وسمعه من يصعب حصرهم؛ فممن تلقى عنه في المرحلة قبل الجامعة كثيرون تابعوا تحصيلهم وشغلوا مناصب رفيعة في المؤسسات الحكومية كما نجحوا نجاحاً كبيراً في المؤسسات الخاصة، أطباء، محامون، رجال أعمال في ميادين متعددة. وممن تلقى عليه في جامعة دمشق: د. نزيه حماد (عمل أ. د. في جامعة أم القرى) والآن في كندا، ود. همام سعيد (د. عضو هيئة تدريس في الجامعة الأردنية) ، ود. توفيق رمضان البوطي أستاذ مشارك كلية الشريعة جامعة دمشق، وأ. د. محمد الشربجي كلية الشريعة جامعة دمشق، ود. تيسير العمر مدرس جامعة دمشق كلية الشريعة، والشيخ أسعد صاغرجي، والدكتور عدنان الحموي جامعة عجمان الإمارات العربية المتحدة، والشيخ سالم القاسمي من الإمارات، والمدرس فؤاد هبول؛ وهو مقرئ ممتاز، والشيخ صفوح الرفاعي مدرس تربية إسلامية، ود. سعيد القزقي (د. عضو هيئة تدريس بجامعة أم القرى سابقاً ومدرس بجامعة الإمارات العربية المتحدة حالياً)، ود. خلدون الأحدب (د. عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز بجدة سابقاً ثم عميد الدراسات العليا بجامعة مكة المفتوحة) ، والسيدة نوال الدقر، وهادية رنكوسي، وفاطمة قويدر، وفاطمة خباز، والمدرسات رحاب الحافظ، ونهيدة الطرقجي، ورصينة الطرقجي، وسميرة الزايد، وأميرة جبريل، وسمر العشا، وكثيرات غيرهن. أتذكر هؤلاء لتفوقهم في دراستهم الجامعية ونجاحهم في الحياة العملية. وتلقى عليه في كلية الشريعة بالرياض عبد الله مصلح (د. وعميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد ابن سعود) في أبها فيما بعد. وموسى القرني (د. عميد شؤون الطلاب الأسبق في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) . وممن تخرج به في جامعة الإمارات العربية المتحدة حنيف القاسمي (د. عضو هيئة تدريس بقسم الدراسات الإسلامية ثم مدير جامعة الشيخ زايد ثم ولي وزارة التربية والتعليم) ، والمدرس محمد حسين القاسمي، ود. شافع الحريري، ود. نجيب عبد الوهاب، وكذلك د. حسن المرزوقي المدرسون في كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة، والمدرِّسة موزة علي توفيق، والمدرِّسة خولة الخياط، والمدرس عبد الله كتارة، والمحامي عبد القادر الهيثمي، والدكتور محمد الكمالي من رجالات التعليم في دبي، وناصر علي الحوسني (إذاعة أبو ظبي) ، وحامد هاشم خوري (معيد موفد) . ود. منى داود، ود. لطيفة النجار (أعضاء هيئة تدريس في جامعة الإمارات العربية المتحدة) ، ورحمة العامري (معيد موفد) وآخرون.. وتلقى عليه في كلية الشريعة والقانون (الدراسات الإسلامية) بجامعة الشارقة كثيرون منهم المدرس بسام الآغا، والمحامي محمد مأمون الخولي، والمدرس أسامة مصطفى، ونجلاء الصايغ أوفدت لنيل درجة الماجستير والدكتوراه، وغيرهم كثير. قلت: وأخذ عنه سوى ذلك كثير من الأعيان، منهم الشيخ عمر بن موفق النشوقاتي، ومحمد بن أحمد ححود التمسماني، واستجازا منه للمئات، وذكره الثاني في كتابه الاستدعاء المشرق مع ترجمة له. من نشاطه الاجتماعي والعلمي: نقلًا عنه كذلك، فقال: إلى جانب تدريسه في الجامعات كانت له حلقات علمية، فبعد أن استقر في دمشق سنة ١٩٧٣م، كان يعقد حلقة علمية ثلاث مرات في الأسبوع يدرّس فيها صحيح مسلم، ثم درّس ثلثي مختصر ابن كثير، في مسجد الشمسية المجاور لمنزله في حي المهاجرين، كما يعقد مجلساً في مسجد الحرش في الحي ذاته، كما خطب الجمعة في مسجد أبي عبيدة بن الجراح في المهاجرين سبع سنوات. كما كان يعقد حلقة علم في مسجد الفتح وفي مسجد الهدى بالمزة مرة في كل أسبوع حتى نهاية عام ١٩٨١م، حيث أعير إلى جامعة الإمارات العربية المتحدة، وإلى جانب عمله في جامعة الإمارات، له مجلس علم في مسجد المعترض، كما يسهم في خطبة الجمعة في مسجد الجامعة، ويخطب أحياناً في بعض مساجد العين، وله خطبة مرتين في كل شهر في مسجد مستشفى راشد بدبي. هذا وقد شارك في مؤتمرات علمية كثيرة ومثّل جامعة الإمارات العربية المتحدة في مؤتمر (لقاء الفكر بين الشرق والغرب١٩٨١م)، كما مثّل الجامعة في مؤتمر (الأدب الإسلامي ) الذي انعقد في لكنهو بالهند سنة ١٩٨٣م. وشارك ببحوثه في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر ١٩٨٣/ ١٩٨٤م. ومثّل جامعة الإمارات العربية المتحدة في مؤتمر الإمام البخاري الذي عقد في سمرقند بأوزباكستان في الفترة (١٩ - ٢٢/ ١٠/ ١٩٩٣م)، ببحث (أثر البخاري في علوم الحديث). كما شارك في ندوة "حقوق الأسرة في ضوء المعطيات المعاصرة "، التي عقدت في جامعة الإمارات العربية المتحدة في الفترة (٢٧ - ٢٨/ ١٢/ ١٩٩٤م)، وكان موضوعه " حقوق الأولاد التربوية على الوالدين ". وهناك بحوث تربوية واجتماعية وثقافية كثيرة، هذا سوى المحاضرات والندوات العلمية والثقافية التي يشارك فيها الباحث في الإمارات العربية المتحدة، وهي لا تقل عن أربعين ندوة ومحاضرة سنوية. إلى جانب الندوات التلفزيونية في سورية ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية، والمحطات التلفزيونية المتعددة في الإمارات العربية المتحدة، والأحاديث الثقافية والدينية فيها. سجل ندوات علمية تلفزيونية منذ عام ١٩٦٦م، في التعريف بالإسلام وعلومه وتراثه وعلمائه ومصنفاته، سجلت في سورية ولبنان والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة، بالاشتراك مع أكابر العلماء، كالعلامة مصطفى الزرقا، والأستاذ الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، والأستاذ الدكتور صبحي الصالح، والشيخ مناع القطان، والأستاذ الدكتور أديب الصالح، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، والأستاذ الدكتور يحيى هاشم فرغل، وغيرهم. إلى جانب أحاديث ثقافية إسلامية سجلت لإذاعة أبو ظبي، وإذاعة الكويت. كتب في الستينات في مجلة الرسالة المصرية ومجلة الكتاب، وفي مجلة دعوة الحق المغربية، وفي السبعينات في مجلة أضواء الشريعة، ثم في مجلة منار الإسلام في الثمانينات. من أعماله العلمية: أولًا: الكتب: 1) زيد بن ثابت: دمشق ١٣٧٩هـ - ١٩٥٩م. 2) أبو هريرة راوية الإسلام: القاهرة - (ط١) وزارة الثقافة سلسلة أعلام العرب (٢٣) ١٣٨٢هـ - ١٩٦2م. بيروت (ط٢) ١٣٨٥هـ - ١٩٦٥م. (ط٣) القاهرة - مكتبة وهبة ١٤٠٢هـ ١٩٨٢م. 3) السنّة قبل التدوين: القاهرة (ط١) مكتبة وهبة ١٣٨٣هـ - ١٩٦٣م. ط (٢ - ٥) دار الفكر - بيروت ١٣٩١هـ - ١٩٧١م و (ط٦) ملونة. دار الفكر. 4) الببلوجرافيا العربية: (موضوعات السنّة): بالاشتراك مع أصحاب الفضيلة: أ. علي الخفيف، ومحمد الزفزاف والشيخ علي حسب الله رحمهم الله، وزارة الثقافة مصر ١٣٨٥هـ/ ١٩٦٥م. 5) أصول الحديث علومه ومصطلحه: دمشق - (ط١) المكتبة الحديثة. (ط٢ - ٧) دار الفكر- بيروت ١٣٩١هـ/ ١٩٧١م- ١٤١٨هـ / ١٩٩٧م وطبعة حديثة ملونة ١٤١٩هـ / ١٩٩٨م دار الفكر بيروت. 6) قبسات من هدي النبوة: دمشق - (ط١) المكتبة الحديثة ١٣٨٧هـ- ١٩٦٧م وما بعدها بيروت - دار الفكر. 7) لمحات في المكتبة والبحث والمصادر: الرياض (ط١ وط٢) ١٣٨٩هـ-١٩٦٩م، و (ط٣ - ١٩) دمشق - بيروت - مؤسسة الرسالة ١٣٩١هـ/ ١٩٧١م-١٤٢٣هـ/ ٢٠٠٢م، و (ط٢٤) ١٤٢٥هـ-٢٠٠٥م، و (ط٢٥) ١٤٣٠هـ-٢٠٠٩م. 8) المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي: للقاضي الرامهرمزي، تحقيق عن أربع نسخ خطية، نشر لأول مرة دار الفكر- بيروت ١٣٩١هـ -١٩٧١م و (ط٣) ١٤٠٤هـ/ ١٩٨٤م. 9) التربية الإسلامية (أهدافها أسسها وطرق تدريسها): مؤسسة الأمالي جامعة دمشق - ١٣٩٤هـ - ١٩٧٤م. 10) شذرات في التفسير (تفسير سورة المجادلة والحجرات والممتحنة): مؤسسة الأمالي، جامعة دمشق ١٣٩٨هـ-١٩٧٨م. 11) الموجز في أحاديث الأحكام: دمشق - جامعة دمشق ١٣٩٥هـ- ١٩٧٥م. 12) الوجيز في علوم الحديث ونصوصه: دمشق - جامعة دمشق ١٣٩٨ - ١٣٩٩هـ/ ١٩٧٨ - ١٩٧٩م، و (ط٣) ١٤٢٩هـ/ ٢٠٠٨م. 13) المختصر الوجيز في علوم الحديث: دمشق - بيروت - مؤسسة الرسالة (ط ٣ - ٦) (١٤٠٥هـ/ ١٩٨٥م - ١٤٢٠هـ/ ٢٠٠٠م) وطبعة حديثة عام ١٤٢١هـ-٢٠٠١م. 14) أضواء على الإعلام في صدر الإسلام: دمشق- بيروت - مؤسسة الرسالة (ط١) (١٤٠٥هـ-١٩٨٥م)، (ط٢) (١٤٠٧هـ-١٩٨٧م). 15) نظام الأسرة في الإسلام: بالاشتراك مع بعض الزملاء، مكتبة الفلاح بالكويت ط١ (١٤٠٤هـ-١٩٨٤م) ط٢ (١٤٠٦هـ -١٩٨٦م). 16) قبسات من القرآن والسنة: بالاشتراك مع بعض الزملاء، الكويت - مكتبة الفلاح ١٤٠٧هـ/ ١٩٨٧م. 17) في رحاب أسماء الله الحسنى وصفاته العليا: مؤسسة الرسالة - دمشق - بيروت ١٤٠٨هـ/ ١٩٨٨م. 18) في الفكر الإسلامي: بالاشتراك مع بعض الزملاء: جامعة الإمارات العربية المتحدة ١٤١٠هـ-١٩٩٠م، و (ط٢) ١٤١٢هـ/ ١٩٩٢م. 19) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للحافظ المؤرخ الخطيب البغدادي تحقيق ودراسة في مجلدين، مؤسسة الرسالة- دمشق - بيروت ١٤١١هـ- ١٩٩١ م. 20) الموجز في حديث الأحكام بالاشتراك: (وفق منهج الحديث في كليات الشريعة وأقسام الدراسات الإسلامية سنة ٢ في الجامعات العربية والإسلامية، دار القلم بدبي ١٤١٩هـ١٩٩٨م. 21) الفهرس الوصفي لكتب الحديث وعلومه في مكتبة جامعة الشارقة. طبع جامعة الشارقة النشر العلمي (٨) ١٤٢٤هـ-٢٠٠٣م. 22) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: (لابن فضل الله العمري-٧٤٦هـ) المجلد الخامس، تحقيق ودراسة بالاشتراك مع بعض الزملاء، المجمع الثقافي - أبو ظبي ١٤٢٥هـ/ ٢٠٠٤م. 23) السُّنة حجِّيتها ومكانتها من التشريع والقرآن الكريم ودفع بعض الشبهات عنها، تحت الطبع [وقت كتابته للنبذة]- دار الفكر- دمشق ١٤٣٠هـ/ ٢٠٠٩م. 24) [كبار المحدّثين، قراءة أخلاقية. وهو المجلد الخامس عشر ضمن موسوعة علم مكارم الأخلاق، دار المنهاج في جدة، ودار طوق النجاة في بيروت، 1441هـ/ 2021، قلت: أرسل لي ابن الفقيد بأنه آخر ما نشر من كتبه]. ثانيًا: البحوث، أهمُّها: 1) الرد على أبي رية في ظلماته: (حول أبي هريرة). مجلة الرسالة - مصر ١٩٦٢م. 2) أبو هريرة: مجلة الكتاب، مصر - العدد الثالث ١٩٦٣م. 3) صدق البخاري: مجلة دعوة الحق، المغرب العربي ١٩٦٧م. 4) اللباس: منشور في موسوعة الفقه الإسلامي، الكويت ١٩٦٨م. 5) الآنية: منشور في موسوعة الفقه الإسلامي، الكويت ١٩٦٩م. 6) السبيل إلى معرفة مواضع الحديث: مجلة كلية الشريعة بالرياض ١٣٩٢هـ/ ١٩٧٢م. 7) دورك يا كلية الشريعة: مجلة كلية الشريعة بالرياض ١٣٩٣هـ/ ١٩٧٣م. 8) تدوين الحديث وطلائع المدونات: ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر ١٩٨٣م. 9) ابن شهاب الزهري والمستشرقون: مجلة منار الإسلام وزارة الأوقاف ١٩٨٣م. 10) الجسور الثقافية بين الإمارات العربية والبلاد العربية والإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري. أعمال الموسم الثقافي لكلية الآداب بجامعة الإمارات العربية المتحدة ١٩٨٥م. 11) ابن بهلول: بحث موسوعي لموسوعة (مآب) مؤسسة آل البيت - المملكة الأردنية الهاشمية ١٩٩١م. 12) الإعلام في صدر الإسلام: مجلة مركز بحوث السنة والسيرة جامعة قطر العدد الخامس ١٤١٠/ ١٤١١هـ-١٩٩١م. 13) الإجازة بحث موسوعي: لموسوعة (مآب) مؤسسة آل البيت - المملكة الأردنية الهاشمية ١٩٩٣م. 14) الإمام البخاري وأثره في علوم الحديث: مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي ١٩٩٣ - ١٩٩٤م. 15) الإمام ابن حبان فقيهًا أصوليًّا: مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية- دبي ١٩٩٤/ ١٩٩٥م. 16) حقوق الأولاد قِبلَ الوالدين: منشور في أعمال ندوة (حقوق الأسرة في ضوء المعطيات المعاصرة) التي عقدتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة في ٢٥ - ٢٦ رجب ١٤١٥هـ/ ٢٧ - ٢٨/ ١٢/ ١٩٩٤م. 17) تربية أولادنا بين الواقع والواجب: نشر في أعمال ندوة (التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في القرن القادم) (٢١) الذي عقدته جامعة الإمارات العربية المتحدة بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية في (٢٠ - ٢٢/ ١٩٩٧م). 18) قراءة إعلامية في السيرة النبوية (الإعلامية): مجلة قسم الإعلام بجامعة الإمارات العربية المتحدة ١٩٩٦/ ١٩٩٧م. 19) أصول التحقيق بين النظرية والتطبيق: نشر في أعمال الدورة التدريبية الدولية، الذي عقدها مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، بالتعاون مع جامعة الإمارات العربية والإيسكو سنة ١٩٩٧م. 20) الحديث النبوي: بحث موسوعي في (٤٠) صفحة للموسوعة العربية في الجمهورية العربية السورية ١٩٩٨م. 21) علوم الحديث: بحث موسوعي للموسوعة العربية في الجمهورية العربية السورية ١٩٩٩م. 22) العمل التطوعي في الإسلام (أدلته - أصالته - خصائصه - آثاره): نشر في أعمال المؤتمر العالي للتطوع، الذي عقدته جمعية متطوعي الإمارات في ٢٨و٢٩/ ٨/ ١٤٢٠هـ الموافق ٦و٧/ ١٢/ ١٩٩٩م. 23) إعداد الدعاة: نشر في أعمال ندوة (مقتضيات الدعوة في ضوء المعطيات المعاصرة)، التي عقدتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الشارقة عام ١٩٩٩/ ١٢/ ٢٠٠٠م. 24) دور الأسرة في التربية: نشر في أعمال المؤتمر العالمي: (شبابنا بين تحديات الواقع، وآمال المستقبل)، الذي عقدته رابطة الشباب العربي المسلم في أمريكا الشمالية من (٢٢ - ٢٥/ ١٢/ ٢٠٠٠م). 25) الصلة بين كتاب الله والضمير الواعظ عبق الجامعة) مجلة جمعية الطالبات كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة ٢٠٠٠/ ٢٠٠١م. 26) الاحتشام حقيقته وآثاره في المجتمع: نشر في أعمال ندوة الاحتشام التي عقدتها جامعة الشارقة ١٧ - ١٨/ ١٠/ ٢٠٠١م. 27) (دور المرأة المسلمة في التربية وأهم عوائقه في المربيات والخدم): نشر في أعمال (أسبوع المرأة الإماراتية بين وسائل الإعلام والتعليم، والمشاركة في المجتمع)، الذي عقدته جمعية أم المؤمنين النسائية في عجمان في (١٢ - ١٥/ ٤/ ٢٠٠٣م). 28) حماية البيئة في الإسلام: جامعة عجمان ٢٠/ ٤/ ٢٠٠٣م. 29) أخلاق العالم والمتعلم (من حياة أئمة الحديث وحفاظه): الموسم الثقافي جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ١٦/ ٦/ ٢٠٠٧م. 30) الإمام أبو جعفر الطبري (٢٢٤ - ٣١٠هـ) وكتابه (تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار): مجمع الفتح الإسلامي قسم الدراسات العليا السنة الثانية التمهيدية ١/ محرم/ ١٤٢٩هـ. 31) الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (٣٠٦ - ٣٨٥هـ) وكتابه السنن: مجمع الفتح الإسلامي بدمشق قسم الدراسات العليا ٢٥/ ١/ ١٤٢٩هـ-٢٨/ ١/ ٢٠٠٨م. 32) التربية بالقدوة ودورها في التمكين الأسري: مؤتمر التمكين الأسري الذي عقدته كلية الشريعة بجامعة دمشق (١٢ - ١٣/ ٧/ ٢٠٠٨م). 33) حتمية المرجعية الربانية من أجل كرامة الإنسان ورسالته ومن أجل سلام عالمي عادل: مؤتمر (المنتدى الحواري: الإسلام والغرب) الذي عقده مجمع الفتح الإسلامي بدمشق بالتعاون مع جامعة ألبرتا (إدمنتون - كندا) في (٩ - ١١جمادى الأولى/ ١٤٣٠هـ الموافق ٣ - ٥/ ٥/ ٢٠٠٩م). مكتبة الأسد. وجامعة دمشق. وغيرها كثير. قلت: وله مقدمات لعددٍ من الكتب، ومشاركات إعلامية قيّمة، بعضها مرفوع على الشابكة، وكان عضوًا في عدد من اللِّجان الجامعية، ومحكّمًا في عدة هيئات علمية. وله ثلاثة أولاد: محمد مازن، ومحمد طارق، ومحمد أنس، وأربع بنات، وفي ذريته خير وبركة، ومنهم من بلغ منزلة عالية في العلوم الشرعية والكونية، وفقهم الله وبارك فيهم جميعًا، وأبقى فيهم العلم والخير والصلاح. ومن مواقفه: إني وإن فاتني شرف ملازمته، لأقيّد عنه بعض ما يلفت الانتباه من مسيرته: قد علمتَ أن الفقيد أبلى شبابه في سبيل تأصيل الدفاع عن السنّة بشكل علمي منهجي رائد، وكيف نافح عن الصحابة الكرام، وعلى رأسهم أبو هريرة راوية الصحابة، ثم نافح عن راوية التابعين الإمام الزهري، ثم عن إمام المحدّثين الإمام البخاري، وأصّل لمسألة تدوين السنّة، تلك المسألة التي حاول أعداء السنّة من المستشرقين وأذنابهم الطعن في الشريعة عبر إثارة الشبهات حولها. وترى في مقدمات كتبه المبكّرة والتالية كيف أن همّه الكبير كان الدفاع عن سنّة سيد الأنام صلى الله عليه وسلّم، وسخّر له ما وَهَبه الله من ذكاء وعلم وتفوق في سبيل هذا الهدف السامي، حتى عُدَّ من روّاد هذا المجال، ولا يُحصى مَن أفاد من أعماله. وبقي هذا الهمٍّ معه طوال حياته، وقد حدثني الشيخ عمر الحفيان عن زميلنا المجاهد الشيخ زهران عَلُّوش -لما دَرَس عنده في كلية الشريعة- أنه كان خير المدرّسين فيها، وكان هجّيراه في محاضراته الدفاع عن الصحابة ومكانتهم، على اعتدالٍ وتعظيمٍ للسنّة، وتقديرٍ لأعلامها من المعاصرين، وكان للشيخين محب الدين الخطيب -قريبه- وبهجت البيطار وغيرهما أثرٌ عليه. ومن المواقف الشخصية التي أثّرت فيّ ولا زلتُ أذكرها للفقيد: أن الأخ الحبيب الشيخ أيمن ذو الغِنَى كان نشر في حسابه ( الفيسبوك ) من سبع سنوات صورة له مع ولديّ عمر وعلي -وفقهما الله وحفظهما وبارك فيهما وفي ذرية الجميع-، في إحدى دورات سماع كتب السُّنن في الرياض، وكَتَب أن ابني عمر قد أتمَّ سماع الكتب التسعة، فدخل الشيخ الفقيد بحسابه في الفيسبوك، وكتب كلمات أبوية تفيض نصحًا ومحبّة وسموًّا، ودعا بدعواتٍ غاليات هي من أجل الغنائم المرجوّات، ممن يدلُّ على حبّه الخير لعامة المسلمين، ونصيحته الخاصة والعامة للأمة، وتعلُّق نفسه بحبِّ السنّة ورفعتها. وترى في أعمال الفقيد: تنوع مساهماته في خدمة الإسلام، فرغم تخصصه العالي في الحديث وعلومه، ولكن كان عنده شمولية في الخدمات، بحيث اعتنى أيضًا بالتربية والإعلام الهادف، وغير ذلك. ومما يغبط به أن مؤلفاته الرائدة كُتب لها قبول تام، وعُدَّ بعضها من المراجع الرئيسة في بابها، وترى فيها تميُّزًا في تيسير المعلومات ووضوح العرض بما يناسب عامة القراء، وهكذا كان في حديثه في تدريسه وفي وسائل الإعلام ينحو نحو الوضوح واللغة السهلة، مع الفصاحة وجودة البيان، وهذا من دلائل نُصحه رحمه الله. ونظرة لتنوُّع مشايخه وكثرتهم مع نتاجه الثريّ تنبيك عن توسع آفاقه وسعة دائرته ومعارفه رحمه الله. وعُرف المترجم بالصلاح، والنصيحة، والبذل، ورقة القلب، وسمو الأخلاق، والاعتدال، والسداد، وما عُرف عنه شططٌ ولا تزلُّف، ويُرجى له حديث: «خيركم من طال عُمُره وحَسُن عَمَلُه». وبقي على الاستقامة والسداد إلى أن وافته منيّته في مدينة مُوْبِيل بأمريكا -حيث يقيم ابنه الدكتور محمد مازن- عن 93 عامًا رحمه الله تعالى. وعن وفاته أرسل إليّ ابنه الدكتور مازن: لما توفي كان معه زوجتي وابني الكبير، ويُقرأ بحضرته سورة البقرة، فنظر في زاوية للأعلى وحدّق فيها، ثم خرجت روحه في هدوء وجلاء وسكينة، وكأنه نائم، ووجهه نورٌ ظاهر. ا.هـ. فسلامٌ عليك يا شيخنا يوم وُلدت، ويوم تموت، ويوم تُبعث حيًّا. بكتك القلوب والعيون، نسأل الله أن يخلف على الأمّة من أمثالك، وأن يُعْظِمَ أجرك، ويرفع درجاتك في الفردوس، ويحسن عزاء ذويك ومحبيك، ويبارك في ذريتك وعلمك وأثرك. إنا لله وإنا إليه راجعون. كتبه على عُجالة أداءً لبعض حقِّه محمد زياد بن عمر التُّكْلَة، في دارْبي ضحى الاثنين 5 ربيع الأول سنة 1443 من مصادر الترجمة: ترجمة ذاتية للفقيد، والاستدعاء المشرق (ص177)، وغرر الشآم (1/ 360)، ومذكرات ومشافهات شخصية. وتم إجازة نشر هذه الترجمة من ابن الفقيد. صورة الفقيد، ونماذج من كُتبه، وخطِّه ♦ من نماذج محاضرات الشيخ الفقيد: الحديث النبوي قبل البخاري https://youtu.be/EVvjsG6v2d0?start=39&end=2932 ♦ تعليق شيخنا المشار إليه سابقًا في الفيسبوك: https://www.facebook.com/photo/?fbid=10204001172980433&set=a.3987362693257
الفوز العظيم اختصار وتقريب صحيح الإمام البخاري وهو جمع الزيادات والفوائد من روايات أحاديث أصح الصحاح والجوامع بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسَّلام على رسول الله، وبعد: فإني كنت أحلم بمشـروع (البُخَارِيّ فِي كُلِّ بَيْت )، لنشـر الجامع الصَّحيح للإمام البخاريّ في كلِّ بيت أسـرةٍ مسلمةٍ، وإذا بالحلم يُصبح حقيقةً، باختصار أخينا وزميلنا الشَّيخ محمد بن محمود الصَّالح السِّيلاويِّ - وفَّقه الله - للجامع الصَّحيح بطريقةٍ علميَّةٍ، وبشرحٍ مُيسَّرٍ، وطباعته في مجلَّدٍ واحدٍ، ممَّا يَسهُل اقتناؤه، والقراءة فيه، والإفادة منه لجميع أفراد المجتمع... وإنَّه لفوزٌ عظيمٌ. فإنَّ كتاب ( الفوز العظيم اختصار وتقريب صحيح الإمام البخاريّ )، يتميَّز بعدَّة أمورٍ منْ بيـن المختصـرات الكثيـرة الَّتـي تناولـت صحيح الإمام البخاريّ، أوجزها بما يلي: المنهج والأسلوب: ♦ الاقتصار على الأحاديث المرفوعة والموقوفة المسندة من صحيح البخاريِّ، دون المُـعلَّقات والمتابعات. ♦ المحافظة على ترتيب أبواب الكتاب، بحيث يكون أقرب إلى ما أراده الإمام البخاريّ. ♦ اشتمال كلِّ بابٍ على حديثٍ واحدٍ - غالبًا - ويكون مضمومًا إليه زياداته من الرِّوايات الأخرى لنفس الحديث، وَفق منهجٍ مبيَّنٍ في مقدِّمة الكتاب. الهدف والغاية: ♦ تقريب صحيح البخاريّ إلى جميع المسلمين، بحيث يسهل على غير المتخصِّصين في علم الحديث ♦ يُعَدُّ ما ورد في صحيح البخاريِّ أصحّ ما روي عن رسول الله ق في كتابٍ واحدٍ، وذلك بإجماع علماء المسلمين، ومن خلاله يستطيع المسلم أن يشِّكل صورةً صافيةً عن أخلاقه وسيرته وسننه صلى الله عليه وسلم. يُعتبر صحيح البخاريّ - وهذا الاختصار أيضًا - كتابٌ جامعٌ لكلِّ أبواب الدِّين، فهو كتابٌ يحتوي على أهمّ مسائل العقيدة والتوحيد والإيمان، وفيه الرّدّ على أهمّ الفرق المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة، كما فيه أهمّ الأحكام الفقهية في العبادات، والمعاملات، وأحكام الأسرة، وغيرها من الأحكام الهامّة للأمّة، ثمّ إنَّ فيه من الآداب، والأخلاق العامَّة والخاصّة، ما لا يستغني عن معرفته أيّ مسلمٍ، كما تضمَّن فضائل ومناقب بعض الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، من الأنبياء والصّحابة، وفيه أيضًا أهمّ ما يتعلَّق بالقرآن، من طريقة نزوله وجمعه وفضائل بعض سوره وآياته، وشيءٌ مما يهمّ المسلم في التَّفسير. هذا الكتاب بهذا المضمون والأسلوب - يمكن - أن يُقرأ فرادى وجماعات في الحضر وفي السَّفر كما يلي: ♦ في البيوت. ♦ في المساجد. ♦ في المدارس. ♦ في المجالس (الديوانيات). التّعريف بالمؤلِّف: ♦ من مواليد الكويت عام 1391هـ. ♦ تخرّج من الجامعة الإسلاميّة بالمدينة النبويّة عام 1417هـ. ♦ تأثّر بمنهج الإمام المحدِّث الألبانيّ ~ في تقريب السُّنَّة لعموم المسلمين. ♦ حَضَرَ الدّورات العلميّة الصّيفيَّة للعلَّامة محمد العثيمين عامي 1415هـ و1416 هـ.. ♦ يعمل حاليًّا إمامًا وخطيبًا في الكويت.
مخاطر الإنترنت وكيف نحمي أنفسنا منه أيها الإخوة الأعزاء، لا شك أن العلم ومنجزات الحضارة الغربية الحديثة قد أفادت الإنسانَ إفادة عظيمة جدًّا؛ حيث يسرت عليه كثيرًا من المشاق، وخففت عنه كثيرًا من المتاعب والآلام، ووفرت عليه كثيرًا من الوقت والجهد، وأوجدت للإنسان العادي من وسائل الراحة والترفيه ما لم يتوفر لملوك وعظماء التاريخ، ومع ذلك فإن لهذه المنجزات مخاطرَ وأضرارًا تعصف بحياة الإنسان وتدمره حين يستغلها استغلالًا سيئًا؛ لأن الخير فيها ممزوجٌ بالشر؛ ولأن الذين أنجزوا هذه الحضارة هدفُهم الربح والكسب المادي والسيطرة دون مراعاة للجانب الديني أو الأخلاقي أو النفسي، ولأننا وللأسف أمة الإسلام تابعون لهذه الحضارة متلقون لها، لا خيار لأحد ممن لا يتحفظ منها أن يسقط في أوحالها، ويغرق في إغرائها، ويصطلي بنارها. لذلك يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟": "إذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته، ويتحرر من رقِّ غيره، وإذا كان يطمح إلى القيادة؛ فلا بد من الاستقلال التعليمي، بل لا بد من الزعامة العلمية، وما هي بالأمر الهيِّن...". ولعل من منجزات ومشكلات العصر اليوم الإنترنت، فهو الآن أخطر وأعظم اختراع وصل إليه الإنسان الغربي من حيث التأثير في حياة الناس، له فوائد عظيمة ومخاطر جسيمة، وقد جاء الإسلام بقواعدَ عامة تعالج كل المشكلات، وتحمي من كل المخاطر والمفاسد. وفي هذا الموضوع محاولة لمعرفة فوائد الإنترنت ومخاطره وطرق الحماية منه. فوائد الإنترنت: الإنترنت يمثل اليوم عالمًا من المتعة البصرية والسمعية بمقاطع جذابة، ومعلومات غزيرة من كل أنحاء العالم، يوفر عالمًا جديدًا من التواصل السريع ووسائل الترفيه، ووسائل التعبير عن الذات، ومتابعة أحداث وأخبار العالم في حين وقوعها، وسهولة التواصل مع الآخرين بالصوت والصورة، وتواصل أهل الخبرات وأصحاب المهارات، وسهولة التسوق والاطلاع على قوائم الأسعار، ونشر العلم والمعرفة، وسهولة الحصول على المعلومات من مصادر متنوعة وكثيرة، وسهولة التعلم الذاتي في مختلف المجالات، كما أنه يعد وسيلة قوية للدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام. أضرار الإنترنت: أضرار صحية: تتمثل أضراره الصحية في أن الإفراط في استخدامه يؤدي إلى كثرة السهر أمام الشاشة، وقلة النوم، وهذا يهدم البدنَ ويؤثر على هرمونات الجسم بالسلب، وفي أحدث دراسة في جامعة نيويورك أظهرت أن الإفراط في استخدام الإنترنت يسبب خللًا في وظائف المخ؛ لذلك يجب ترشيد استخدامه، وإخراج الهاتف عند النوم من الغرفة. كما يسبب الإنترنت ضعفَ البصر وآلام الظهر والرقبة؛ نتيجة طول الجلوس أمام شاشته. كما أظهرت الدراسة أن متابعة الأحداث السلبية من خلال الإنترنت تسبب القلق والتوتر وسوء المزاج. وكذلك الإفراط في استخدامه يسبب الإجهاد الذهني، فيضعف القدرة على التركيز، ويضعف التحصيل، ويقلل الفهم لدى الطلاب وينقص انتباههم. كذلك أجريت أبحاث في جامعة ميلان في إيطاليا بيَّنت أن الجلوس على الهاتف لساعات طويلة يؤثر تأثيرًا ضارًّا على الجهاز المناعي؛ مما يسبب كثيرًا من الأمراض. أضرار اجتماعية: يتسبب الانشغال الكثير بالإنترنت في العزلة والتباعد الأسري، ولعلك تلاحظ ذلك عند زيارة كثير من الناس؛ إذ تجد كلَّ واحد في البيت في ركن متواصل مع جهازه الإلكتروني دون التفات لأحد حوله. إهدار وتضيع الوقت الكثير من غير فائدة؛ إذ يعد الإنترنت أعظم لص يسرق وقت الإنسان. قد تريد البحث عن شيء فتأتيك عشرات الأشياء، فتظل تنتقل من شيء لآخرَ حتى تنقضي الساعات دون أن تشعر. نشر الأخبار الكاذبة والشائعات الخاطئة، يكفي أن ينشر أحدهم خبرًا فيتداوله الجميع دون تحرٍّ وتثبُّتٍ، فيتضرر بذلك أناس وشركات وأعمال حسنة بريئة. انتشار العري والألفاظ والمشاهد غير الأخلاقية، وهي تسبب ضررًا كبيرًا جدًّا؛ لأنها تغير في مكونات المخ، وتؤثر سلبًا في السلوكيات والأخلاق على المدى الطويل. الانفصال عن الواقع والعيش في الخيال والأحلام. إدمان الألعاب الإلكترونية التي تجعل الطالب ينسى طعامه وشرابه وصلاته وواجباته، وقد صنِّف ذلك كمرض نفسي مؤخرًا؛ لذلك يجب مراجعة الطبيب النفسي إذا شعرت بأعراض الإدمان عند الأطفال أو حتى عند الكبار. إدمان المسلسلات والأفلام الكرتونية، التي تحمل أحيانًا كثيرة العنف أو الشذوذ والإلحاد، مما يترك أثرًا بالغ السوء في عقول الأطفال والشباب. يلاحظ الآن في ظل المعرفة المحدودة لعلوم الشريعة وغياب الثقافة الإسلامية العميقة عند كثير من الشباب المسلم - حدوثُ تغيير في منظومة العادات والتقاليد والأخلاق والقيم الإسلامية الموروثة، فالاطلاع الكثير على عادات وتقاليد غربية فاسدة يؤدي إلى اعتناقها وتقليدها، وترك ما نشأ عليه وآمَنَ به المسلم وكذا المسلمة من عادات قومهم وقيم دينهم، وذلك في إطار الحرب الثقافية والفكرية الشرسة على المسلمين والاتجاه بهم نحو العولمة. وجود مجموعة من الفساق والفاسقات على الشبكة الذين يبدؤون بالتعارف ثم الإغواء، ثم الاستدراج الإجرامي أو الجنسي، ثم الابتزاز ليصبح الشخص أحد ضحايا الإجرام الإلكتروني، وقديمًا قال الشافعي رحمه الله تعالى: أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يستساغ، ثم يؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبَع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرام آخرَ. نشر الكفر والإلحاد والتشكيك في الدين وطرح الشبهات. اللعب بالعواطف والتأثير على مشاعر الأشخاص الذين لديهم فراغ أو جفاف عاطفي باسم التعارف والصداقة، ثم الحب والعشق، ثم العلاقات المحرمة، ثم خراب البيوت بالطلاق أو العيش في ضجر وفي هم وغم وجحود مع الزوج والأهل. استغلال الصور والمعلومات للشخص المستخدم استغلالًا سيئًا جدًّا. زيادة حوادث الطرق بسبب الانشغال بالمحمول وعدم الانتباه إلى الطريق. ضوابط الحماية من الإنترنت كيف تحمي نفسك وأسرتك من أضرار ومخاطر الإنترنت: من مسؤولية المسلم والمسلمة أن يتعرف كيف يتخلص من الأضرار التي تحيط به وبأهله، والتي يمكن أن تفتك به إن لم يأخذ حذره منها، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال أيضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. وإليك أهم ضوابط الحماية من مخاطر الإنترنت: 1- يجب تحديد أوقات محددة للتواصل والاستخدام، ومراقبة الوقت والكف عند انتهائه. يذكر الأطباء بأن المدة الموصى بها التي لا تؤثر على المستخدم وحالته النفسية هي نصف ساعة في اليوم، ولضمان هذا يجب ضبط المنبه قبل الولوج إلى شبكة الإنترنت؛ لضمان عدم تجاوز الوقت المحدد لاستخدامه. 2- إيقاف الإشعارات الواردة من برامج التواصل التي تحفز على فتح الوسائل واستخدامها. 3- إلغاء كل الحسابات الخاصة التي لا فائدة منها، وحذف كل الأشخاص الذين لا تربطك بهم ضرورة تواصل، خاصة إذا كانت من الجنس الآخر - كلما قل أصدقاء هذه الوسائل كان أفضل وآمَنَ. 4- تطوير هوايات جديدة كالقراءة وتعلم الحرف وممارسة الرياضة، مع الاهتمام بقضاء الوقت فيما يفيد من عمل أو علم، أو تواصل حقيقي مع الأسرة في عمل مشترك. 5- وضع حسابات الأولاد والزوجة تحت الرقابة وإعلامهم بهذا؛ لضمان الحماية وتحقيق الرعاية، وتجنب الغَواية، فالرجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيته، يقول الدكتور عبدالرحمن الجيران - أستاذ الشريعة الإسلامية -: يجوز للزوج الاطلاعُ على هاتف زوجته بحكم ولايته العامة؛ ".. لأنه مسؤول عن حمايتها وتوجيهها، وكف الأذى والشر عنها، والزوجة حين تضع رقمًا سريًّا للمحمول فإنما تثير شكوك الزوج، ويتساءل في نفسه: ما الذي تخفيه عنه؟ وكذا الأولاد والأخوات حين يفعلون ذلك"، فالإثم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حاك في صدرك، وكرهتَ أن يَطَّلِع عليه الناس)، فمن ذكاء الزوجة وصلاحها أن تبتعد عن كل ما يثير الشكوك؛ فلو اتصل بها أحد الرجال، لا تنتظر أن يسألها زوجُها أو أبوها، بل تقول: هذا فلان يسأل عن كذا أو يريد كذا، وكذلك الرجل لا ينتظر أن تسأله زوجته عمن كلَّمته من النساء؛ وذلك لتطمئن القلوب وتزول الشكوك. فعلى كل مسلم ومسلمة أن يبرئ نفسه من مواطن الريبة والسوء؛ حفظًا لعرضه، وصيانة لقلوب الناس وألسنتهم من الشك وسوء الظن به، ورسولنا صلى الله عليه وسلم في ذلك خير قدوة، روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها: (أنها جاءتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزورُه، وهو مُعْتَكِفٌ في المسجِد، في العَشْر الأواخرِ مِن رمَضان، فتَحَدَّثَت عنده ساعةً مِن العِشاء، ثم قامتْ تَنْقَلِب (ترجع إلى بيتها)، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها (يردها ويمشي معها)، حتى إذا بلغت بابَ المسجد، الذي عِندَ مَسكَن أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بهِما رجلان مِنَ الأنْصارِ، فسَلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَفَذا (أسرعا)، فقال لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((علَى رِسْلِكُما ) مهلكما ( ؛ إنَّما هي صفيَّة بنتُ حُيَيٍّ))، قالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُرَ عليهِما (عظُم وشقّ) ما قال، قال صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ الشَّيطان يَجْري مِن ابنِ آدَم مَبلَغ الدَّم، وإني خَشيتُ أنْ يَقذِف في قُلوبِكُما)). 6- إلزام الأولاد بوقت محدد، ويكون الآباء في ذلك قدوة للأولاد. 7- استخدام الإنترنت في مكان مفتوح أمام أعين الكبار وليس في غرفة مغلقة. 8- وضع برامج الحماية من المواقع الضارة والمشبوهة. 9- إرشاد الأولاد إلى برامج هادفة ومفيدة، وشغل أوقاتهم بالواجبات العلمية والتعليمية، والأنشطة الرياضية والاجتماعية. 10- تشجيع الاتصال المباشر مع الأهل والأصدقاء الصالحين، وتقوية التواصل الأسري، وتخصيص وقت للأسرة بعيدًا عن الإنترنت وغيره من الشاشات. 11- تقوية الإيمان ومراقبة الله تعالى ومراعاة الله تعالى فيما تكتب وفيما تسمع وتشاهد، فلا تسمع إلا ما يرضي الله من المفيد النافع، ولا تكتب شائعات وأكاذيب، ولا داعي لتشويه أحد أو انتقاص أحد، ولا داعي لكتابة كلام مثير غير لائق أخلاقيًّا؛ قال الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]. 13- أن تكون الكتابة في المجموعات العامة، لا داعي لأن ترسل البنت رسالة إلى الولد على الخاص أو العكس. 14- تجنب التواصل مع الجنس الآخر من غير المحارم إلا للضرورة، وعلى قدر الضرورة بلا زيادة ولو بكلمة واحدة من مزاح أو استظراف أو مدح أو ثناء أو غير ذلك؛ لأنها من خطوات الشيطان. 15- لا تنشر معلوماتك وصورك الخاصة؛ لأنها قد تُستغَل من إنسان خبيث ضدك يومًا ما. وإن كان لا بد أن تنشر شيئًا أيها الشاب وأيتها الفتاة، فلتكن منشوراتك كلمات إيمانية وآيات قرآنية؛ حتى لا يُساءَ بك الظن، وحتى لا يطمع فيك مَن في قلبه مرض. 16- تحديد وقت للنوم وإغلاق جميع الأجهزة؛ لأنه يكره السهر والسمَر بعد صلاة العشاء في غير مصلحة شرعية. ويدل على ذلك ما رواه البخاري (568) ومسلم ( 647) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا". قال النووي: "وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَة الحَدِيث بَعْدهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي خَيْر" انتهى "شرح صحيح مسلم" (5/146). قال النووي: "وَسَبَبُ كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى السَّهَر، وَيُخَاف مِنْهُ غَلَبَة النَّوْم عَنْ قِيَام اللَّيْل، أَوِ الذِّكْر فِيهِ، أَوْ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي وَقْتهَا الْجَائِز، أَوْ فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار أَوْ الْأَفْضَل. وَلِأَنَّ السَّهَر فِي اللَّيْل سَبَب لِلْكَسَلِ فِي النَّهَار عَمَّا يَتَوَجَّه مِنْ حُقُوق الدِّين، وَالطَّاعَات، وَمَصَالِح الدُّنْيَا" انتهى "شرح صحيح مسلم" (5/146). 17- ولا ننسَ كثرة الدعاء، والتعوذ بما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والشرور ما ظهر منها وما بطن.
أثر مراعاة المقاصد الشرعية في أصول المذهب المالكي للطالب ولد المجتبي صدر حديثًا " أثر مراعاة المقاصد الشرعية في أصول المذهب المالكي- دراسة تأصيلية تطبيقية "، تأليف: د. "الطالب ولد المجتبي" ، نشر: " دار الظاهرية للنشر والتوزيع ". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في الفقه المقارن وأصول الفقه، بكلية الدراسات العليا- جامعة الكويت، وأشرف على البحث أ.د. " محمد خالد عبدالعزيز منصور "، وذلك عام 2018 م. أسهم هذا الكتاب في تجلية أثر مراعاة المقاصد الشرعية في أصول المذهب المالكي، من خلال دراسة تأصيلية نظرية وتطبيقية، مجالها الأساسي الأصول السمعية؛ كالكتاب والسُّنة، والإجماع، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وكذلك الأصول الاستدلالية عند المالكية، وخاصة تلك التي يتجلى فيها تأثير البعد المقاصدي، وهي: القياس، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، وسد الذريعة، والاستصحاب، ومراعاة الخلاف، والعرف والعوائد. وقد حاول الكاتب أن تكون دراسته من خلال منهج علمي يعتمد الاستقراء والتحليل والاستنتاج والتطبيق. كما اهتم البحث بدراسة الأسس العامة التي اعتمد عليها المالكية في مراعاة المقاصد الشرعية في بنائهم الأصولي كالتيسير وتعليل الأحكام والنظر في المآلات، وتغير الأحكام بتغيير الأحوال، وذكرَ الكاتب تعريفات لهذه الأصول؛ للعلاقة بين التعريف وماهية الأصل المعرَّف؛ ولأهمية ضبط المصطلحات، كما حرص على تحرير محل النزاع في بعض الأصول كلما اقتضى المقام ذلك. وقد كان التركيز منصبًّا على إبراز مدى مراعاة المالكية للمقاصد الشرعية، وملاحظتها في فكرهم الأصولي، وتبيين وجه صلة هذه الأصول بمقاصد الشريعة، والتمثيل لذلك من خلال ذكر بعض المسائل التطبيقية لكل واحد من هذه الأصول. وختم البحث بأهم النتائج التي توصل إليها من خلال البحث، إضافة إلى تدوين بعض التوصيات والمقترحات؛ تنميةً وتطويرًا للبحث العلمي والآفاق الدراسية بكل عام، وعند المالكية بشكل خاص.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها الإرهاب الإرهابي وحيث كان هناك ضخٌّ مكثفٌ على ربط الإرهاب بهذا المفهوم بالمسلمين، فقد أضحى أي نشاط يقوم به المسلمون داخلًا في هذا المفهوم [1] ، حتى لقد تطرف من تطرف بوصف المترددين على المساجد، أو التمسك ببعض المظاهر الخارجية للسمت الإسلامي، بهذا الوصف، وكأنه يراد أن يقلع المسلمون عن عبادات ومعاملات هي من صُلب الدين، ومن ذلك الدعوة إلى الله تعالى بين المسلمين وبين غير المسلمين، حتى لقد كتب من كتب أنه رغم ما مر على العالم من عمليات إرهابية لا تزال فئات من المسلمين تمارس الدعوة بين المسلمين في الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق، الذين غُيِّبوا عن الدين أكثر من تسعين سنة، فما بالكم بالدعوة بين غير المسلمين؟! هذه الكتابات نفسُها لم تتنبه إلى ما تقوم به الحملات التنصيرية في المجتمع المسلم، وهي مدعومة دعمًا مباشرًا من الدول، لما تقدمه هذه الحملات من توطئة لأطماع سياسية واقتصادية،ولعل الكتَّاب لم يتنبهوا أيضًا إلى مئات المليارات من الدولارات التي تنفق على هذه الحملات؛ إذ بلغت الميزانية للعام 1430هـ/ 2009م ثلاثمائة واثنين وتسعين مليار (392،000،000،0000) دولار، كما أعلنته النشرة الدولية للإرساليات التنصيرية في طبعة جديدة منشورة، وتناقلته المجلات المَعنيَّة بهذا النشاط [2] . ولعل مِن واجبات الباحث المهتم بهذا الوضع: أن يدعوَ في طرحه لهذا المحدد وغيره من المحددات للاعتدال والوسطية والسماحة التي جاء بها هذا الدين، وأن ينبه إلى ما تعيشه بعض الجماعات من غلوٍّ وتنطُّع وتشدُّد وتزمُّت لا ينكر. ولا بد أن يُكشَف ذلك كله من علماء الأمة ومفكريها، قبل كتَّابها ذوي الأعمدة الراتبة في الصحافة، تلك التي تعتمد في معظمها على تقارير استخبارية، حتى لقد أضحى ما يكتب هؤلاء شبه مسلَّمٍ به، حتى إذا كان يمس الثوابت ويزعزع الجذور. وهناك أسماء ظهرت في هذا المجال وكان لها تأثير واضح على المتلقين، منهم، مثلًا، من يكتب في أعمدة الصحافة، ومنهم من يحاضر في المنتديات الثقافية والفكرية والأدبية فيسمع لقولهم، بل ويقدَّمون على أولئك الذين هم أقرب منهم إلى الصواب والعلم الشرعي الصحيح [3] . ولا يتوقع في ضوء الأحداث القائمة أن تتوقف الدعوة إلى الله تعالى، فهي كانت ماضية من قبل، وستستمر بإذن الله من بعد، ويمكن الحديث فيها عن مسألة التطويع والتكييف، ومراعاة الزمان والمكان، وكل ما له علاقة بالوسائل. والمجال مفتوح، وإن لم يرغب بعض المعنيين المباشرين في مجال الدعوة بصفتهم الشخصية وليس الصفة الرسمية؛ إذ لا يملك أحدٌ أن يمنع أحدًا من أن يطرح رؤاه في هذا المجال، من حيث الوسائل والسياسات والأهداف والإجراءات، إلا أنه من حيث المفهوم فإن ذلك مكفول بقيام هذا الدين وانتشاره بين الناس. يقول عماد الدين خليل: "إن الإسلام بوسطيته العقدية وتركيبه المتوازن الذي يلم ويناغم بين سائر الثنائيات التي مزقت الحياة البشرية - لهو الحل الوحيد لمستقبل الإنسان إذا أريد لهذا المستقبل أن يتشكل بعيدًا عن الممرات الضيقة والطرق المسدودة للحضارة الغربية وللمذاهب الوضعية المعاصرة على السواء" [4] . إن عدد المسلمين أكثر بكثير من أن تُحسَب عليهم تصرفات أشخاص معدودين أساؤوا إلى أنفسهم، وأساؤوا إلى غيرهم، بما قاموا به من ترويع للناس، ونشر الرعب بينهم، فهم مسؤولون عن أفعالهم: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [فاطر: 18]. وعدم الاتفاق معهم في الأسلوب والوسيلة لا يصل إلى أن تتعطل شعائر إسلامية اعتذارًا للآخر، أو تلبية غير مباشرة لطلبات أو رغبات من الآخر لتعطيل بعض الشعائر الإسلامية التي كانت في الماضي قائمة، وهي الآن تتجدد ولم تعُدْ غريبة على المجتمع المسلم،يقال هذا في الوقت الذي تظهر فيه رغبة في بعض التنازلات من قِبل كتَّاب عرب ومسلمين؛ لأنهم ربما لم يكونوا متحمسين لمجال الدعوة، بل ويعتذرون للآخر عنها وعن القائمين عليها. برز هذا واضحًا حينما تقرر إغلاق مركز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي قام لترسيخ مفهوم الحوار الحضاري، وربما أنه لم يُرضِ بعض الأطراف، وربما وربما، فلا اعتذار، فتقرر إغلاقه، لا سيما أنه يحمل اسم رمز عربي له جهوده في مجال رأب الصدع العربي ولم الشمل ونشر الخير. والمطلوب الوصول إليه هو ألا يُستغلَّ موقفٌ لم يكن في مصلحة المسلمين ليكون مجالًا لبعض الكتاب لتقويض أصول الدين والحط من قدر القائمين عليه من الولاة والعلماء والدعاة والمنتمين إليه انتماءً في حمل الهمِّ على درجات متفاوتة من ثقل هذا الهم المحمول، ولئلا نعين غيرنا علينا بحسن نية أو نحو ذلك، وألا يتحول بعضنا إلى معاول هدم من دون إدراك لذلك إدراكًا واضحًا، لا سيما مع توافر إمكانية صنع القابلية للوصول إلى هذا الموقف، وذلك من خلال ممارسة ما يمكن أن يسمى بالإرهاب الثقافي [5] ، بحيث يأتي زمان نجد فيه أنفسنا أو أولادنا أو أحفادنا وقد انقدنا إلى تيارات تصبُّ في النهاية في تحجيم ما نحن عليه بتقديم البديل الذي لا يُتوقع له الفلاح، مهما بدا كذلك للوهلة الأولى. ثم إن المسؤولية لا تغفل أثر هؤلاء الولاة والعلماء والدعاة في مواصلة الجهد بعزم وجزم في تقديم هذا الدين بالصورة التي جاء عليها وبلَّغها بها سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام - عليهم رضوان الله تعالى - دون اللجوء إلى الزيادة في ذلك؛ إذ إن الزيادة في ذلك كالنقص فيه، بل ربما أكد علماؤنا أن الزيادة فيه أشد من النقص منه،ونحن في زمن أحوج ما نكون فيه إلى التركيز على سماحة هذا الدين واعتداله ووسطيته. [1] انظر على سبيل المثال: فريد هاليداي ، ساعتان هزتا العالم 11 أيلول/ سبتمبر 2001م: الأسباب والنتائج - ترجمة: عبدالإله النعيمي - بيروت: دار الساقي، 2001م - ص 256. [2] سيتم التعرُّض للإحصائيات في المحدد ذي العلاقة بالتنصير. [3] انظر على سبيل المثال: محمد الطالبي ، أمة الوسط: الإسلام وتحديات العصر - تونس: دار سراس، 1996م - ص 167. [4] انظر: عماد الدين خليل ، نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام ومستقبله - بيروت: دار النفائس، 1420هـ/ 1999م - ص 132. [5] انظر: مشال يمين ، العولمة والإرهاب الثقافي - شؤون الأوسط - ع 113 (شتاء 2004م) - ص 67 - 82.
مقتطفات من سيرة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أمام بعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته الدروس والعبر، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأحد السابقين البدريين، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، إنه عبدالرحمن بن عوف بن عبدعوف بن عبدالحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو محمد، واسم أمه صفية ويقال: الصفاء، حكاه ابن منده، ويقال: الشفاء، وهي زهرية أيضًا أبوها عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، حكاه أبو عمر، وُلد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأخرج الزبير بن بكار من طريق سهلة بنت عاصم، قالت: كان عبدالرحمن بن عوف أبيض أعين [1] ، أهدب الأشفار، أقنى، له جمة أسفل من أُذنيه، أعنق ضخم الكتفين. قال إبراهيم بن سعد عن أبيه: كان طويلًا أبيض، مشربًا حمرة حسن الوجه، رقيق البشرة لا يخضب، وروى زيد البكائي عن ابن إسحاق قال: كان ساقط الثنيتين، أهتم، أعسر، أعرج، أصيب يوم أُحد فهُتِم، وجرح عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج، قال عثمان: ما يستطيع أحد أن يعتد على هذا الشيخ فضلًا في الهجرتين جميعًا، ولقد كانت لهذه الصحابي الجليل مواقف عظيمة تدل على بذله ونصرته لهذا الدين. فمن ذلك أنه رضي الله عنه أسلم قديمًا قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا وسائر المشاهد، وكان اسمه عبد الكعبة، ويقال عبد عمرو فغيره النبي صلى الله عليه وسلم. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فروى البخاري في صحيحه من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال سعد لعبدالرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أُطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثر صفرة، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ؟»، قال: تزوجت، قال: «كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟»، قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب، شك إبراهيم [2] . وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل، وأذِن له أن يتزوج بنت ملكهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي، ففتح عليه، فتزوجها وهي تماضر أم ابنه أبي سلمة، وعن عمرو بن وهب الثقفي، قال: كنا مع المغيرة بن شعبة فسئل: هل أم النبي صلى الله عليه وسلم أحد من هذه الأمة غير أبي بكر، فقال: نعم، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه وعمامته، وأنه صلى خلف عبدالرحمن بن عوف وأنا معه ركعة من الصبح، وقضينا الركعة التي سُبِقْنا [3] . قال معمر عن الزهري: تصدق عبدالرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة، وقيل أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وأنه من أهل بدر الذين قيل لهم: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةَ - أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» [4] . ومن أهل هذه الآية: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]. روى الإمام أحمد في مسنده والطحاوي في مشكل الآثار: أن عبدالرحمن بن عوف باع أرضًا له من عثمان بن عفان بأربعين ألف دينار، فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين، قال المسور: فدخلت على عائشة رضي الله عنه بنصيبها من ذلك، فقالت: من أرسل بهذا؟ قلت: عبدالرحمن، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلَّا الصَّابِرُونَ»، سَقى اللَّهُ عَبْدَالرَّحْمنِ بْنَ عَوفٍ مِن سَلْسَبِيلِ الجنَّةِ [5] . وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي مِنْ بَعْدِيِ»، قال قريش: فحدثني محمد بن عمرو بن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أباه وصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بعده بأربعين ألف دينار [6] . وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث شقيق قال: دخل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه على أم سلمة رضي الله عنه فقال: يا أم المؤمنين، إني أخشى أن أكون قد هلكت، إني من أكثر قريش مالًا، بعت أرضًا لي بأربعين ألف دينار، فقالت: أنفق يا بني، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ»، فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: بِاللهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَتْ: اللهُمَّ لَا، وَلَنْ أُبَرِّئَ أَحَدًا بَعْدَكَ [7] ، قال أنس رضي الله عنه: رأيت عبدالرحمن بن عوف، قُسِم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف. ومن أفضل أعمال عبدالرحمن رضي الله عنه عزله نفسه من الأمر وقت الشورى واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابيًا فيها لأخذها لنفسه أو ولَّاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص. قال إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده، سمع عليًّا يقول يوم مات عبدالرحمن بن عوف: اذهب يا بن عوف، فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها، الرنق: الكدر، ولكن رضي الله عنه مع كثرة ماله كان يخشى على نفسه من أن يكون انفتاح الدنيا استدراجًا من الله له، وهذا من تواضعه وتقواه، فروى البخاري في صحيحه من حديث سعد بن إبراهيم عن أبيه: أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وأُراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام [8] . ومما يدل على فضله ومكانته ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شيء، فسبه خالد - وفي رواية أنه قال له: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا [9] بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» [10] ، وفي رواية: «لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ – أو مِثْلَ الجِبَالِ – ذَهْبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ» [11] . ومما يدل على علمه وفقهه أن عمر رضي الله عنه رجع لحديثه في سرع ولم يدخل الشام من أجل الطاعون، عندما أخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي خفي على جمع من الصحابة، وهو في الصحيحين [12] . ورجع إليه كذلك عمر في أخذ الجزية من المجوس، وهو في البخاري [13] ، وقال عنه عمر: عبدالرحمن سيد من سادات المسلمين. قال طلحة بن عبدالله بن عوف: كان أهل المدينة عيالًا على عبدالرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثًا. قال إبراهيم بن عبدالرحمن: غُشي على عبدالرحمن بن عوف في وجعه حتى ظنوا أنه قد فاضت نفسه، حتى قاموا من عنده وجللوه، فأفاق يكبر، فكبر أهل البيت، ثم قال لهم: غُشي علي آنفًا؟ قالوا: نعم، قال: صدقتم، انطلق بي في غشيتي رجلان أجد فيهما شدة وفظاظة، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين، فانطلقا بي حتى لقيا رجلًا، قال: أين تذهبان بهذا؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، فقال: ارجعا فإنه من الذين كتب لهم السعادة والمغفرة وهم في بطون أمهاتهم، وإنه سيمتع به بنوه إلى ما شاء الله، فعاش بعد ذلك شهرًا. وذكر البخاري في تاريخه من طريق الزهري قال: أوصى عبدالرحمن بن عوف لكل من شهد بدرًا بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل. قال أبو عمر بن عبدالبر: كان مجدودًا في التجارة، خلف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس، وكان يزرع بالجرف [14] على عشرين ناضحًا. قال الذهبي رحمه الله: هذا هو الغني الشاكر، وأويس فقير صابر، وأبو ذر أو أبو عبيدة زاهد عفيف، وقد مات سنة إحدى وثلاثين وقيل: سنة اثنين وهو الأشهر وعاش اثنين وسبعين سنة، وقيل خمسًا وسبعين وقيل: ثمانية وسبعين، قال ابن حجر: والأول أثبت، ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان ويقال الزبير بن العوام [15] . رضي الله عن عبدالرحمن بن عوف، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] أعين إذا كان ضخم العين واسعها، اللسان (ع ى ن). أهدب: رجل أهدب طويل أشفار العين، اللسان (ق ن ي). أقنى: القنا في الأنف، طوله ودقة أرنبته مع حدب في وسطه، اللسان (ق ن ى). [2] صحيح مسلم برقم (3780). [3] الحديث أخرجه مسلم برقم (421). [4] صحيح البخاري برقم (3983)، وصحيح مسلم برقم (2494) من حديث علي رضي الله عنه. [5] مسند الإمام أحمد من حديث أم بكر بنت المسور (41/ 247 – 248)، برقم (24724)، وقال محققوه: حديث حسن، ومشكل الآثار للطحاوي برقم (24724). [6] (4/ 369) برقم (5410)، وحسن الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (4/461- 462) برقم (1845). [7] (44/ 291) برقم (26694)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. [8] برقم (4045). [9] مسند الإمام أحمد (21/ 319) برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات، رجال الشيخين غير أحمد بن عبدالملك الحراني، روى له النسائي وابن ماجه. [10] صحيح البخاري برقم (3673)، وصحيح مسلم برقم (2541). [11] مسند الإمام أحمد (21/ 319) برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات. [12] صحيح البخاري برقم (6973)، وصحيح مسلم برقم (2219). [13] صحيح البخاري برقم (3156). [14] موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. [15] سير أعلام النبلاء (1 /68 - 92)، والإصابه في تمييز الصحابة (6 /543-549).
الظاهرة الجمالية في الفقه الحضاري الجمال في اللغة ضد القبح، والجمال من الصفات: ما يتعلق بالرضا واللطف ، ومن مرادفات الجمال أو فروعه الحُسنُ، وتعد قضية الجمال شجرة راسخة الأصل متفرعة الأغصان، تمتد إلى الأشياء المحسوسة، ولا تقتصر عن الأشياء الملموسة، فهي زينة كل عمل، وتَتِمَّةُ كل شيء وَصَلَ واكتمل. لقد كانت النظرة إلى الجمال المحسوس هي الغالبة قبل الإسلام، فجمال الشكل مقدم عن جمال المضمون، في حالة مادية تجد أختها وتوأمها في الوقت الحاضر؛ حيث اختُزل الجمال في الشكل والمظهر، وتُرك الأصل والجوهر، ولا نزال نرى في العالم اليوم صورَ الفتيات الحِسان على البضائع المروَّجة؛ تعبيرًا عن هذه النظرة المقيتة وفحواها، ومسار العالم المعاصر الذي اتحد في نظرته للجمال مع حال الأمم قبل الإسلام. لقد أشرقت شمس الإسلام فأنارت معها تصحيح المفاهيم، والنظرة إلى هذه الحالات من الخطأ والصواب، فعدلت معوجَّها، وشذَّبت فائضها، وصححت مسارها، فقد أكد كلام الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن الجمال عُنصر فاعل في الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وقدم أمثلة ونماذج عن هذا؛ إذ ذكر عن خلق الإنسان قوله عز وجل: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، ومن أحسن من الله خِلقة، وانسابت الجمالية إلى غير هذا الموضع؛ فدخلت في كل خُلق حسن تريده النفس؛ كالنظر إلى متاع الدنيا؛ كقوله عز وجل عن الأنعام: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 6]، إلى ما تستبعده النفس وتكرهه؛ كالصبر الذي قال فيه عز وجل: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وقول يعقوب عليه السلام لأبنائه آسفًا: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18] . إذًا فالجمال في الفقه الحضاري داخل في عموم مفاصل الحياة؛ لأنه لصيق بالحُسن والإبداع، وداخل في التعامل في الرضا والخصام، ومتعدٍّ ذلك كله في الصناعات والحرف، وأعمق من هذا بتناغم الروح مع الجسد، وبالمضمون إضافة إلى الشكل. لقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مضامين الجمال في المجتمع الإسلامي من خلال الاهتمام بالمظهر الخارجي من ملبس وهيئة، فضلًا عن جمال روحه في التعامل مع العدو قبل الصديق، ووصاية للمسلمين بالابتعاد عن قبيح الأقوال والأفعال، فليس المؤمن بطعَّانٍ ولا لعَّانٍ، ولا فاحشٍ ولا بذيء، ولا حسود ولا حقود ولا جشِع، كما أن الاهتمام بجمال المظهر من وصاياه حين قال لأصحابه: ((أصلحوا رحالكوا، وحسنوا لباسكم؛ حتى تكونوا شامة بين الناس)). إن من مقتضيات الجمال الزينة والتزين، التي تُضاف إلى الشيء لتجمِّله أو تعطيه منظرًا أزهى من مظهره الذي هو عليه؛ حيث تمازجت مع جوانب الحياة كافة، ولم تقتصر على جانب دون آخر، ففي جانب العبادة أمر الله أن يأخذ المسلم زينته إلى كل مسجد؛ فقال: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، بما في ذلك الملبس الجميل، والظهور الحسن، والاهتمام بالنظافة والتعطر، وما إلى ذلك من ضروب الجمال، ولكنه في الوقت نفسه أكد أن الزينة التي هي في الأصل مكملة للجمال، مضافة إليه - تعتبر أمرًا زائلًا مؤقتًا، وليس أصلًا ثابتًا كالجمال بطبيعته؛ إذ قال تعالى لنبيه موجهًا: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28] ، وهو في هذا يضع حدًّا فاصلًا بين الجمال الطبيعي والزينة المصطنعة. إن الأمور لا تُعرف على حقيقتها حتى تُقارَن بغيرها، ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين مضمون الجمال في الفقه الحضاري الإسلامي الذي يمزج جمال الروح بالجسد، وينقب عن الجمال الداخلي فضلًا عن الجمال الخارجي، ويعطي تحذيرات على أن الجمال الخارجي إن لم يساكنه خُلق داخليٌّ يجمله ويشُدُّ من أزره هو جمال مرفوض، ومستنقع سحيق، لا يُرجَى النجاة لمن يسقط فيه، ولعل هذا ما عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه قائلًا لأصحابه مفصحًا بالقول: ((إياكم وخضراء الدِّمَنِ، قالوا: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء)) . إن التركيز على الصورة الظاهرة في الغرب واعتماد الأوصاف البادية للعيان كأساس للجمال أو الظاهرة الجمالية لم تأتِ من فراغ، فهي تسير في رِكاب نظرة الغرب إلى الحياة؛ تلك النظرة المادية التي أبعدت مِن حولها كلَّ أمر معنوي وأخلاقي متأصل فيها؛ لتكون فكرة مادية بحتة تتلاءم مع الواقع الغربي اليوم، وهو ما دفع الكثير من أفراد المجتمع الغربي يلجؤون إلى الشرق والمناطق النائية من الصحارى والغابات؛ للإحساس بقيمة الجمال المكتمل الذي افتقدوه في بلدانهم.
التعريف بكتاب "الفتوحات الوهبية بشرح المنظومة البيقونية" يتبوأ علم الحديث في صرح العلوم الشرعية منزلة سامقة، نظرا لأهميته البالغة، ولشرفه العظيم، ولخصوصيته التي اختصت بها الأمة الإسلامية من دون الأمم الأخرى، فهو العلم الذي لم يكن للحضارات السابقة به عهد، إلى ظهور جماعة المحدّثين التي شيّدت ذلكم العلم الشريف على أسس متينة، وقواعد متّسقة، وضوابط منسجمة. ولما كان التصنيف في العلوم الشرعية عامة، وفي علم الحديث خاصة خاضعًا لمبدئ التدرّج، حيث تجد في كل علم من العلوم مصنفات صّنفت للمبتدئين، وأخرى للمتوسطين، وأعلاها المنتهين، فإن المنظومة البيقونية للشيخ عمر بن محمد بن فتوح البيقوني من المنظومات التي لا يدخل داخل إلى هذا الفنّ إلا من بابها، فهي بمثابة الدّرج الأول الذي يعرج منه الطالب في معراج هذا العلم الجليل، ولذلك كثرت الشروح التي اهتمت بها، فمنها المختصر والموسّع، ومنها القديم والحديث، وإن من أجل هذه الشروح، وأعظمها فائدة، وأجودها منهجا، وأجملها تنظيمًا وإخراجًا، "شرح الفتوحات الوهبية" للشيخ العلامة المتفنّن محمد أحناش الغماري المغربي، الذي صدر عن دار النور المبين، عمان، الأردن، 2019، وهو شرح يجد فيه المبتدئ مدخلا منهجيًّا محكمًا للعلم، وهو للمتوسّط دعم وتقويم وتثبيت، وللمنتهي الكامل في الفنّ تذكرة وتبصرة. وصف الكتاب: افتتحت "الفتوحات الوهبية" بمقدمة منهجية رصينة، تنير للطالب بعض الجوانب التي قد تخفى عليه، ولا سيما المتعلقة بفضل علم الحديث، وشرف المنتسبين إليه، والأمر بروايته، والتثبّت فيه، وأشهر مصنّفاته، مع احتوائها على تعاريف ومصطلحات لا يسع الطالب الجهل بها ابتداء. كما استندت إلى مائتين وسبعة وأربعين مصدرًا ومرجعًا، من بينها مخطوط واحد، وهو شرح البيقونية لجاد المولى، وبلغ عدد صفحاتها إلى ثمان وسبعين ومائتي صفحة، من القطع المتوسّطة، باحتساب صفحات المراجع والفهرس. منهجية الكتاب: عمل شيخنا المؤلف على شرح البيقونية وفق منهجية منسجمة انتظمت وَفْقَها أبيات البيقوني كلها، مع زيادات مهمة جاءت في ملحق المؤلّف، فهو يقف ابتداء عند كل بيت مقدمًا له شرحًا أوليًّا يروم من خلاله تقدير المعنى المراد من البيت، معربًا منه ما يحتاج إلى إعراب، ثم ينتقل إلى المصطلح الحديثي الذي جاء في البيت، مخصصًا له شرحًا مستقلا وافيًا، فيذكر للحديث الحسن مثلا دلالته اللغوية والاصطلاحية، ممثّلا له بأحاديث مناسبة، ومستعرضًا بعض الاعتراضات الواردة على التّعاريف المذكورة، ثم يختم الشرح بذكر بعض الإشارات والتّنبيهات والفوائد الإضافية المتعلقة بالمصطلح المشروح، مشيرًا بشكل مباشر إلى مظانه ومصادره. على سبيل الختم: إن كتاب " الفتوحات الوهبية بشرح المنظومة البيقونية" إسهام علمي في غاية الأهمية يثري المكتبة الشرعية عمومًا، والحديثية خصوصًا، إثراء يفتح لطالب العلم مهيعًا جديدا يُلحقه، بعون الله وتوفيقه، بركب العلماء المتخصصين في هذا العلم الجليل.
الحواريون يبلغون الدعوة لم تكن المدة التي دعا فيها عيسى بني إسرائيل بالطويلة - ثلاث سنين - ولم يتمكن من توسيع دائرة دعوته إلى البلدان المجاورة للقدس، فعاجله الكهنة من بني إسرائيل بالتكتل ضده وشكلوا فرقة لقتله والتخلص منه، وكانوا يريدون بهذا وَأْدَ دعوته في المهد قبل أن تنتشر وترى النور. ولكن الله تعالى قيض لدعوته الحواريين، وكانوا اثني عشر حواريًّا، اجتمع بهم عيسى قبل أن يرفعه الله وأوصاهم بنشر الدعوة والتفرق في البلاد، ودعا لهم بأن تكون لغةُ كل واحد منهم مثل لغة القوم الذين يدعوهم. وروى ابن إسحاق: أن عيسى عليه السلام قبل أن يُرفع وصَّى الحواريين بأن يَدْعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وعيَّن كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل واحد منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم، لكن الأناجيل التي نقلها الحواريون عن عيسى - وهي أربعة - بينها تفاوت كبير؛ مما أحدث بلبلة بين الأقاليم، ولما دخلها التحريف بعد مضيِّ الوقت ظهرت الفرق النصرانية المتفاوتة في الاعتقاد. لقد اضطهد اليهود الحواريين وأتباع المسيح، وعاملوهم بمنتهى القسوة والشدة والتنكيل، وكاد أن يقضى عليهم لولا أن تبنَّى ديانتَهم أحدُ الملوك - قسطنطين - فعمل على حماية المسيحية ونشر معتقداتها، ولكن وفق طريقته ومَبْلَغ علمه واعتقاده.
مختصر الوقاية مع شرحه اختصار الرواية لنجم الدين محمد الدركاني صدر حديثًا كتاب "اختصار الرواية" على "مختصر الوقاية" ، للإمام العلامة عبيدالله بن مسعود الملقب بصدر الشريعة، مع شرحه للملا محمد علي القاري، تأليف وتحقيق: "نجم الدين محمد الدركاني"، في مجلدين، نشر: "دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع" - بيروت بلبنان. ويُعد كتاب "النقاية مختصر الوقاية في مسائل الهداية" لعبيدالله بن مسعود بن محمود بن أحمد المحبوبي (والمعروف كذلك باسم صدر الشريعة) اختصار لكتاب "وقاية الرواية" لجد صدر الشريعة، محمد بن صدر الشريعة الأول، عبيدالله المحبوبي (ت 747 هـ). وكتاب " الوقاية في الفقه الحنفي " هو منتقى من كتاب " الهداية " - للإمام المرغيناني - أحد المتون الأربعة المعتمدة في ضبط مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) ، مضافًا إليها " كنز الدقائق " للنسفي، و" المختار " لأبي الفضل مجد الدين عبدالله بن محمود الموصلي، و"مجمع البحرين" لابن الساعاتي، و"مختصر القُدُوري". وتعد هذه الكتب الأربعة عليها مدار الفقه الحنفي، وأشهر هذه المتون وأقواها للاعتماد: " الوقاية "، و" الكنز " و" مختصر القدوري "، فهي المراد بقولهم: المتون الثلاثة، حينما تُذكَر كتب الفقه الحنفي. وكتاب " فتح العناية بشرح النقاية " للإمام علي بن محمد سلطان القاري الحنفي المكي (ت 1014 هـ) من أفضل الشروح عليه، قد استقاه من أمهات شروح كتب المذهب، ولقي كل من المتن والشرح رواجًا كبيرًا لدى علماء البلاد التي تعرف سابقًا ببلاد ما وراء النهر. وشرحه يعد كتابًا في الفقه المقارن في بعض المسائل والأبواب، حيث يناقش أقوال المذهب الحنفي ويحرر النقول بما يراه أوفق لقواعد المذهب، فتراه لا يقتنع بسهولة إلا بعد كثرة تمحيص وتفتيش ومحاورة وتدقيق. وقد قام الأستاذ "نجم الدين محمد الدركاني " بصنع مختصر على شرح الملا علي القاري " فتح باب العناية بشرح النقاية "، وقام بدمج الشرح مع المتن " مختصر الوقاية "؛ ليصير سهل المأخذ، ويقربه إلى أذهان طلبة العلم الحنفية في هذا الزمان، وسماه " اختصار الرواية على مختصر الوقاية ". وهو تعليق في توضيح متن الكتاب باختصار، حيث يبحث عن اختلاف الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رواية ودراية، كما يذكر في بعض المواضع مذاهب الأئمة كالإمام الشافعي ومالك، وربما يذكر مذهب الإمام أحمد عند ذكر المذاهب، والنظر في استدلالاتهم. وقد اكتفى المحقق في سرد الأحاديث بالمراجع التي ذكرها الملا علي القاري في شرحه على الكتاب. وصاحب " النقاية " هو عبدالله أو عُبَيْداللهِ بن مسعود بن محمود بن أحمد بن تَاجِ الشَّرِيعَةِ (...- 747 هـ = ... - 1346 م) المحبوبي، المعروف بصدر الشريعة الأصغر، من علماء الحكمة والطبيعيات وأصول الفقه والدين، نشأ صدر الشريعة الثاني في بيت علم، فقد أخذ العلم عن جدِّه تاج الشريعة محمود، وكان يهتم بتقييد الفوائد والغرائب عن جده. كان يجتمع إلى درسه الكثيرون للانتفاع بعلمه. له كتاب "تعديل العلوم"، وشرحه في المنطق والكلام والهيئة الذي هو من أهم كتب الكلام المتأخرة عند الحنفية، و"التنقيح" في أصول الفقه، وشرحه "التوضيح"، و"شرح الوقاية" لجده محمود، في فقه الحنفية، و"النقاية مختصر الوقاية"، و"الوشاح" في علم المعاني، توفِّي في بخارى. وصاحب " فتح العناية" هو نور الدين أبو الحسن علي بن سلطان محمد القاري، الهروي المكي، المعروف بملَّا علي القاري، اسم والده: سلطان. وُلد بهراة، ولم يذكر تاريخ لولادته. هاجر من بلاده إلى بيت الله الحرام: بعد فتنة إسماعيل الصفوي ببلاده وقتله العلماء، وقد دخل مكة المكرمة ما بين عامي 952 هـ - 973 هـ. وفي مكة جلس في حلقات المشايخ يرتشف من رحيقهم وينهل من معينهم. وقد شرح الله صدره في هذا المقام الذي انتقل إليه وهو جوار بيت الله الحرام، وكان لا يُرى إلَّا ومعه كتاب أو بين يدي أستاذ، واستمر على هذا إلى حوالي عام 1003 هـ، حيث بدأ تأليف الرسائل والكتب، فكتب في تلك السنوات القليلة - من 1003 هـ إلى 1014 هـ - أكثر من 148 رسالة وكتابًا، كما قال الباحث الشيخ خليل إبراهيم قوتلاي في رسالة (الإمام علي القاري وأثره في علم الحديث) . كان زاهدًا في الدنيا، بعيدًا عن الحكام ومجالسهم، معرضًا عن الوظائف والأعمال، وكان شديدًا عليهم، حاملًا على أهل البدع والضلالات في مكة المكرمة (محل إقامته)، وكان تعلَّم الخط العربي حتى برز فيه، فكان مورد رزقه مصحفين يكتبهما في كل عام، ويزين المصحف بعض القراءات (وهو من القراء)، فيبيع المصحفين، أما أحدهما فيتقوَّت بثمنه طوال عامه، وأما الثاني فيتصدَّق بثمنه، وكان ذلك يكفيه؛ إذ كان يعيش بلا زوجة ولا جارية ولا ولد ولا أهل. قال الشيخ محمد عبدالحليم النعماني: ظلَّ الملَّا علي القاري قانعًا بما يحصِّل من بيع كتبه، وغلب على حاله الزهدُ والعفاف والرضا بالكفاف، وكان قليل الاختلاط بغيره، كثير العبادة والتقوى، شديد الإقبال على عالِم السر والنجوى جلَّ جلاله. توفي في شوال سنة 1014 هـ، ودُفن بمقبرة المعلاة في مكة المكرمة. ومن أهم مؤلفاته: • تفسير الملا علي القاري المسمى (أنوار القرآن وأسرار الفرقان). • الأثمار الجنية في أسماء الحنفية. • منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر. • ضوء المعالي شرح بدء الأمالي. • مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح. • جمع الوسائل في شرح الشمائل. • شرح مسند أبي حنيفة. • شرح الشفا. • شرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر. • الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة. • المصنوع في معرفة الحديث الموضوع. • أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام. • الرد على القائلين بوحدة الوجود. • تسلية الأعمى عن بلية العمى. • موعظة الحبيب وتحفة الخطيب. • الأحاديث القدسية الأربعينية. • شم العوارض في ذم الروافض. أما الشارح، فهو نجم الدين محمد الدركاني، أحد کبار العلماء السنة في إيران، عضو الوفاق الإسلامي للمدارس الدينية في بلوشستان، وعضو المجمع الفقهي لأهل السنة في إيران، وينتهي إليه رئاسة المذهب الحنفي في بلوشستان، وهو مدرس بجامعة تعليم القرآن في منطقة شورشادي من توابع بلد زاهدان بإيران، له عدة مصنفات في العلوم الشرعية: • التلقيح شرح التنقيح. • مختصر الوقاية مع شرحه اختصار الرواية. • مقدمات من أصول الفقه. • المدخل إلی علوم الحديث. • سيرة الأئمة الأربعة. • فتح القريب شرح تقريب النووي.
العلاقات الدولية بين الوفاق والصدام، الجزء الثالث النظريات التفسيرية للصراعات الدولية بعد الحرب الباردة في الوقت الذي تميل فيه كلٌّ من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية، فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار؛ فالبنائية حلَّت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية، وقد ساهمت نهاية الحرب الباردة في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية؛ لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث، كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرًا له، ومن وجهة نظر بنائية فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها، ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغيرَ القوة فإن البنائية تركز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض [1] . مثَّلت الحرب الباردة بداية ظهور عامل الحضارة والثقافة في تفسير الصراع، وقد عوَّلت بعض الكتابات والدراسات العالمية المتخصصة في العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة على دور الثقافة والقيم والأفكار في العلاقات الدولية، وتناولت بالتحليل قضايا الهويات والمصالح والمعايير [2] ، رغم أن الثقافة لم تغِبْ من قبلُ عن كل الدراسات الأكاديمية؛ فمن الثابت أن المدارس الأوروبية كالألمانية والفرنسية والإنجليزية على سبيل المثال في تخصص العلاقات الدولية لم تستبعد الثقافة والتاريخ والاجتماع في دراستها لعلم السياسة والعلاقات الدولية، وطوَّرت منهجيات عديدة لهذه الدراسة، ولكن الذي استبعدها هو المدرسة العقلانية الأمريكية، والتي هيمنت للدرجة التي جعلت البعض يتساءل: هل علم السياسة هو علم أمريكي؟ [3] . الدول المهيمنة على مستوى العلاقات الدولية هي كذلك مهيمنة على مستوى التنظير لها، فحقل العلاقات الدولية يعرف منذ عقود هيمنة أمريكية واضحة، وأصبغت عليه صبغة أمريكية خالصة، بسبب صعود وبروز الولايات المتحدة على مسرح القوة العالمية، إضافة إلى الاستعدادات الفكرية والظروف السياسية والفرص المؤسساتية التي كانت متاحة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حتى كان يعتقد أن عالم العلاقات الدولية، ومضمونه هو مجرد رواية لتاريخ السياسة الأمريكية، بدليل أن من يسيطر على هذا التخصص هم العلماء الأمريكيون، وهم الذين يختارون موضوعات العلاقات الدولية وترتيبها وفق الخيارات السياسية الأمريكية واحتياجاتها، وهم الذين يدعون آليات تفسيرها ومفاهيمها، كما يكون للمال الأمريكي وأجهزة الاستخبارات والدوائر الرسمية دور كبير في تحديد أولويات نظريات العلاقات الدولية؛ لذلك يعتبر مجال العلاقات الدولية إحدى أدوات تحقيق المصالح الأمريكية على المستوى الدولي من خلال ما يطرحه من مفاهيم ونظريات يدَّعي أنها علمية وعالمية، وقد اعترف بعض الباحثين أنه بعد نهاية الحرب الباردة أصبح الحقل الأكاديمي للعلاقات الدولية أكثر تنوعًا وتحررًا من الهيمنة الأمريكية، ونالت مواضيع جديدة حظًّا من اهتمام الباحثين على الصعيد العالمي؛ من بينها النزاعات الإثنية، والبيئة، ومستقبل الدول، وقضايا حقوق الإنسان [4] . وتشكل الثقافة بما تحتويه من عادات وتقاليد، ومنظومة اجتماعية، وطرق حياة، ودين وتاريخ وتراث، وغير ذلك - جزءًا محوريًّا في بناء وصياغة الهُوِيَّةِ؛ سواء على صعيد الأفراد والجماعات والدولة الوطنية، أو الكيان القومي الإقليمي، والهوية في المحصلة هي مجموعة علاقات مشتركة مع الآخرين، ومع الجغرافيا، وجوهرها الثقافة الذاتية لخلق أنا مختلف عن الآخر [5] . وقد شهدت العشرية الأخيرة من القرن العشرين تزايُدَ الاهتمام بتصور الثقافة، وقد تزامن ذلك مع بروز الاتجاه البنائي الذي يركز على أهمية الأفكار والضوابط، وتعتبر نظرية صدام الحضارات أحد أعراض هذا الاتجاه التفكيري [6] ، ويرى صاموئيل هينتنجتون مؤلف نظرية صراع الحضارات أن الصراع القديم والمنتظر وقوعه إنما هو صراع حضارات، ويقصد بالحضارات الأديان [7] ، فالنزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضاريًّا وثقافيًّا، والنزاعات الدولية سوف تحدث بين أممٍ ومجموعاتٍ لها حضارات مختلفة، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل [8] . ويستند هينتنغتون في طرحه على القول بأن الانتماءات الثقافية الواسعة أصبحت الآن تحل محل الولاءات القومية، ويعتبر هذا الاتجاه وجهًا من أوجه الاهتمام الواسع بالقضايا الثقافية في الأوساط الأكاديمية، كما أنه وفي جانب منه يعتبر ردة فعل على تصاعد حدة النزاعات الإثنية والوطنية والثقافية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي [9] ، ثم إن الدول بعد الحرب الباردة أضحت تحدد مصالحها انطلاقًا من البعد الحضاري؛ إذ تتعاون الدول المتماثلة ثقافيًّا، وتتحالف مع بعضها البعض وهي في صراع – في نفس الوقت - مع تلك الدول ذات الثقافات المختلفة والمتنوعة [10] . وقد اعتبر صاموئيل هينتنجتون أن الحرب البوسنية وحرب الخليج كانت حروبًا بين حضارات وأديان، فحرب البوسنة كانت حرب حضارات؛ لأن المشاركين الرئيسيين الثلاثة كانوا ينتمون إلى حضارات مختلفة، ويتبعون ديانات مختلفة (الصرب، والكروات، والمسلمون)، والدول والمنظمات الإسلامية تجمعت وراء مسلمي البوسنة بشكل عام، وعارضت الكروات والصرب، والدول والمنظمات الأرثوذكسية أيَّدت الصرب، وعارضت الكروات والمسلمين، والحكومات والنخب الغربية أيدت الكروات، وعاقبت الصرب، وكانت غير مبالية بالمسلمين أو خائفة منهم بشكل عام، على الرغم من أن البوسنيين كانوا علمانيين سابقًا وذوي توجه أوروبي، والقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) في القارة الأوروبية، كذلك حرب الخليج تحولت إلى حرب حضارات؛ الغربيون دعموا هذا التدخل بأغلبية ساحقة، والمسلمون في جميع أنحاء العالم فهموه على إنه حرب ضدهم؛ فتجمعوا ضد ما رأوه مرحلة أخرى من مراحل الاستعمار الغربي [11] . ومن أهم النظريات الثقافية التي حاولت تقديم تفسير للصراعات والحروب الدولية هي نظرية نهاية التاريخ، ونظرية صدام الحضارات. أولًا: نظرية نهاية التاريخ: نشر فوكوياما فكرته هذه في مقالة عام 1989 تحت عنوان "نهاية التاريخ"، ثم ضمها في كتاب بنفس العنوان نشر عام 1992؛ حيث أعلن فرانسس فوكوياما نهاية التاريخ مع الانتصار الكوني والشامل للديمقراطية الليبرالية عبر العالم؛ باعتبار ذلك يشكِّل المعنى الأسمى للتاريخ؛ وحيث لم تعد هناك تحديات حقيقية كفيلة بمنافسة النظام الليبرالي، فقد اعتبر أزمة الشيوعية نهاية التاريخ بانقضاء التناقض في (الفكر) بين الرأسمالية والشيوعية، وكان تصوره أن التحولات الجارية الآن تعني حل التناقضات التي شغلت فكر البشرية طويلًا [12] ؛ حيث ادَّعى فرانسيس من خلال كتابه أن العقل البشري لن يبدع مستقبلًا أفضل من النظام السياسي الديمقراطي، وقد احتدمت مناقشات عالية الصوت والصدى في ربيع 1989 حول هذه النظرية [13] . تقوم أطروحة نهاية التاريخ عند فوكوياما على فكرة أساسية؛ مفادها أنه بنهاية الحرب الباردة انتصرت الأفكار الليبرالية والديمقراطية ورأسمالية السوق؛ باعتبارها تجسِّد النموذج الإنساني الأرقى والأمثل؛ إذ يرى فوكوياما أن التاريخ قد انتهى، وانتهى معه الصراع على القضايا الكبرى؛ بمعنى أنه لا توجد تناقضات جوهرية في إطار الليبرالية الحديثة بعد فشل الأنظمة البديلة، ويعتبر فوكوياما أن الديمقراطية تشكل نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي للحكومة، كما أن التوسع العالمي للديمقراطية يقلل من استخدام القوة، ومن ثَمَّ يبشر فوكوياما بزمن عالمي للديمقراطية وحرية السوق تتضاءل فيه الصراعات؛ بسبب عدم وجود فكر مغاير أو منافس لديمقراطية السوق [14] . وقد قسم فرانسس فوكوياما العالم إلى قسمين: عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب والفوضى، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديموقراطي الأمريكي، وعالم آخر ما بعد التاريخي الديموقراطي الآمن على الطريقة الأمريكية [15] ، وسوف توجد محاور عديدة يصطدم على امتدادها هذان العالمان [16] : المحور الأول: هو البترول، فالإنتاج النفطي يبقى في الحقيقة محصورًا في العالم التاريخي وهو مصيري بالنسبة لنشاط العالم ما بعد التاريخي السليم. المحور الثاني: هو الهجرة من البلدان الفقيرة وغير المستقرة نحو بلدان غنية وآمنة، وهذا التدفق السكاني يضمن مستقبلًا مواصلة الدول ما بعد التاريخية الاهتمام بالعالم التاريخي. فقد تنبأ فوكوياما بانقسام الصراعات الدولية والمجتمعات في المستقبل إلى شطرين؛ أحدهما: هو العالم التاريخي، ويتمثل في دول الجنوب التي ستبقى تعاني الصراعات الإثنية والأيديولوجية، والثاني هو عالم ما بعد التاريخ وهو العالم الرأسمالي الغربي، يرى فوكوياما أن دول العالم الثالث كانت وما زالت تعيش في عصر التناقضات الكبرى بسبب صراعات متعددة الأسباب؛ كالدينية والقومية وغيرها [17] ، وقد اعتبر عوامل القومية والدين من العوائق التي تحول دون تطبيق الديموقراطية [18] ، فقد طرح فوكوياما الدين والقومية كأعداء جُدُدٍ للرأسمالية في صراعها مع العالم الغارق في التاريخ؛ حيث يقف هذا العامل عائقًا في طريق انتشار القيم الرأسمالية وتعميمها، وليس هناك من طريق أمام المجتمعات غير الغربية للخروج من عالم ما قبل التاريخ إلا اتباع النموذج الغربي، وتحديدًا النموذج الأمريكي سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا [19] . وقد ركز فوكوياما بصورة كبيرة على الإسلام كمصدر حقيقي ثانوي، يمكنه لبعض الوقت الاقتراب من منافسة الليبرالية؛ باعتبار أن الإسلام يشكل نظامًا أيديولوجيًّا آخر متماسكًا شأن الليبرالية والشيوعية، وله نظام أخلاقي خاص، وعقيدة في العدالة السياسية والاجتماعية، ودعوته ذات طابع شمولي تتوجه لكل الناس ... وعلى الرغم من أنه - أي الإسلام - هزم الديمقراطية الليبرالية في أجزاء متعددة من العالم الإسلامي، حتى في البلدان التي لم يستطع فيها استلام السلطة مباشرة، فإنه لا يمارس أية جاذبية خارج الأصقاع الإسلامية، ولن يتمكن من منافسة الديمقراطية في عقر دارها في مجال الأفكار [20] ، وفي رأيه أن الأطراف غير الغربية من العالم ستكون في المستقبل المنظور كأطراف متلقية للقيم الغربية [21] . وكرؤية تقيمية يمكن القول: إن خطاب (النهاية) هو خطاب انتصاري يحمل في طيَّاته رسالة متعجرفة أغرَتْه بعض الوقائع الدولية، وجعلته يعتقد أن (أنا التاريخ)، ومركزها أوروبا وأمريكا قد حققت ذاتها، ومن ثَمَّ فعلى باقي العوالم المسارعة للالتحاق بالتاريخ الكوني، ومن ثَمَّ فإن الجنوب محكوم عليه - وفق هذه النظرة - بالتبعية الدائمة، وسيبقى فاعلًا سلبيًّا يملأ العالم مجاعات وتهديدات، ويعرض عالم ما بعد التاريخ لعدم الاستقرار [22] ، وإذا كانت الديمقراطية بنظره قيمة عالمية فالغرب لا يطبق القيم بطريقة عالمية، فالتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان ومسائل التعذيب، يشير إلى أزمة النظام الرأسمالي، وهي أزمة ليست عابرة [23] . ثانيًا: نظرية صدام الحضارات: نشر صاموئيل هنتغتون أطروحته حول صدام الحضارات في مقال له عام 1993 في المجلة الأمريكية (شؤون خارجية) ثم حوَّله إلى كتاب عام 1996، تبنَّت نظرية صدام الحضارات لصاحبها صاموئيل هنتنغتون صراحة فكرة اعتبار الحضارة العامل الجديد الذي سيتحكم في صيرورة العلاقات الدولية، وأن ظاهرة التصادم بين الحضارات ستحل محل الحرب الباردة؛ باعتبارها الظاهرة المركزية للصراع الدولي، ومن ثَمَّ فالانقسامات الكبرى في العالم ستكون انقسامات ثقافية تتصادم في إطارها مجموعة من الكتل الحضارية المتنافسة [24] . فالصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة حسب هنتغتون يشهد تحولًا من الصراع الأيديولوجي والاقتصادي إلى الصراع الثقافي؛ حيث يرتبط الأمن الدولي بصورة متزايدة بالهوية الثقافية بدلًا من ارتباطه بسيادة الدولة أو الأمة، ويعتبر هنتغتون في هذا السياق أن الصراعات بين المجموعات في الحضارات المختلفة ستكون أكثر توترًا أو أكثر استدامة وعنفًا من الصراعات بين المجموعات في الحضارة نفسها، وسوف يعبر الصدام الثقافي عن نفسه على مستوى الصراع على الموارد من جهة، وعلى مستوى المنافسة على القدرات والنفوذ ضمن النظام الدولي، كما أن المحرك الرئيسي لهذا التنافس هو ما بين الغرب بصفة الحضارة المسيطرة من جهة، والبقية من جهة أخرى [25] . وركز هنتنغتون في أطروحته على أن الحضارة الإسلامية والصينية تمثلان التحدي الأكبر للحضارة الغربية، ورأى أن دراسة الحضارات والثقافات وليست الدول هو المجال الذي يمكن من خلاله دراسة مستقبل الصراعات الكونية [26] ، ويهتم هنتغتون بالتحدي الذي يفرضه الإسلام على الغرب اهتمامًا خاصًّا لأن معدل الولادات فيه أعلى من الحضارات الأخرى من جهة، ولانبعاث شعبيته في نهاية القرن العشرين من جهة أخرى، بالإضافة إلى ذلك يعني رفض الإسلام للقيم الغربية والتأثير الأمريكي أنه مُقدِّر لهاتين الحضارتين أن تصطدما عند نقطة ما، فإذا تحالفت الصين مع الدول الإسلامية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، فسيكون خطر الحرب كبيرًا جدًّا [27] . ويوصي صاموئيل هنتغتون الحضارة الغربية بضرورة التجديد الحضاري لنفسها على اعتبار أن بعض الحضارات غير الغربية يمكن أن تشهد إعادة انبعاث يهدد الغرب في مركزه القيادي للعالم، في إشارة منه إلى الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية، ووجه الربط بين الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية من جهة أن أكثر النزاعات خطورة في جنوب آسيا هو النزاع حول إقليم كشمير الذي تشترك فيه القوى الرئيسة الثلاثة في النظام – أي: الصين والهند وباكستان - وقد أصبح إقليم كشمير محل نزاع منذ عام 1947 بعد تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين؛ هما: الهند وباكستان من طرف بريطانيا، وفي عام 1962 دخل طرف جديد في معادلة النزاع حول كشمير تمثل في الصين التي تمكَّنت خلال حربها الحدودية مع الهند عام 1962 من احتلال جزء من الإقليم، وفي عام 1963 تنازلت باكستان عن جزء من إقليم كشمير لصالح الصين، ومنذ ذلك الحين أصبح الإقليم المتنازع عليه مقسَّمًا بين الهند وباكستان والصين، وما يزيد في تعقيد النزاعات الحدودية في النظام الإقليمي لجنوب آسيا هو أخذها لأبعاد عرقية ودينية وحضارية وإستراتيجية، بينما يكتسي نزاع كشمير بعدًا حضاريًّا حسب صموئيل هنتغتون؛ فجنوب آسيا هي ملتقى لثلاث حضارات إنسانية كبرى (الكونفوشيوسية والإسلامية والهندية)، وهذا ما يمكن أن يكون مدخلًا لفهم وتفسير العلاقات والنزاعات، وأنماط التحالفات ضمن النظام الإقليمي لجنوب آسيا، فإقليم كشمير يقع حسب هنتغتون في خط الصدع، ومن ثَمَّ فهو يُعَدُّ من النزاعات المستعصية للحل والتي تستمر لمدة طويلة، وتُخلِّف عددًا كبيرًا من الضحايا، ويفسر هنتغتون التحالف الصيني - الباكستاني على أنه انعكاس للسعي لجعل العلاقة تعاونية وغير عدائية بين الحضارتين الكونفوشيوسية والإسلامية، والمعاديتين للحضارة الهندوسية؛ انطلاقًا من مبدأ أن العدو المشترك يخلق مصالح مشتركة، ومسلمو كشمير لا يسعون إلى إثبات هويتهم الإقليمية فقط، أو إلى تأكيد عدم ارتباطهم بالهند العلمانية، بل يريدون نشر قيمهم الإسلامية الأصولية، وتأكيد انتمائهم لباكستان والعالم الإسلامي [28] . [1] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة. [2] العالم المصنوع دراسة في البناء الاجتماعي للسياسة العالمية، حسن الحاج علي. [3] التدخل الدولي الإنساني وأثره في مبدأ سيادة الدول، م. د. قحطان حسين طاهر، جامعة بابل/ كلية الدراسات القرآنية، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد 32، نيسان، 2017، ص: 10، 11. [4] ينظر: المصدر نفسه، ص: 40 - 42. [5] إدارة الصراعات وفض المنازعات، ص: 181. [6] ينظر: العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة. [7] صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، ط2، 1999م، ص: 505. [8] المصدر نفسه، ص: 521. [9] ينظر: العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة. [10] النظريات التفسيرية للعلاقات الدولية بين التكيف والتغير في ظل تحولات عالم ما بعد الحرب الباردة، الدكتور عبدالناصر جندلي، جامعة الحاج لخضر – باتنة كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، مقالة في مجلة الفكر، العدد الخامس، ص: 128. [11] ينظر: صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، ص: 204، 401، 468، 472. [12] الزلزال السوفيتي، محمد حسنين هيكل، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط2، 1990، ص: 11. [13] ينظر: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرانسيس فوكوياما، فريق الترجمة دكتور فؤاد شاهين، دكتور جميل قاسم، رضا الشايبي، مركز الإنماء القومي، لبنان، بيروت، 1413ه - 1993م، ص: 23، 68. [14] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 183. [15] نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص: 258. [16] المصدر نفسه، ص: 259. [17] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 183. [18] ينظر: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص: 258. [19] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 184، وينظر: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص: 29، 207. [20] نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص: 71. [21] النظريات التفسيرية للعلاقات الدولية بين التكيف والتغير في ظل تحولات عالم ما بعد الحرب الباردة، ص: 128. [22] مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، ص: 60،61، نقلًا عن تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 39. [23] ينظر: (تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 41، 42، 185) و(الحروب وتوازن القوى دراسة شاملة لنظرية توازن القوى وعلاقتها الجدلية بالحرب والسلام، ص: 34). [24] مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، ص: 43، نقلًا عن تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 107. [25] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 186. [26] الدين والهوية إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص: 26. [27] المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، ص: 281. [28] ينظر: الدور الصيني في النظام الإقليمي لجنوب آسيا بين الاستمرار والتغير 1991-2006، ص: 99، 102.
النحو العربي ومحاولات تيسيره دراسة وصفية تحليلية لمختار بزاوية صدر حديثًا " النحو العربي ومحاولات تيسيره - دراسة وصفية تحليلية "، تأليف: " مختار بزاوية "، نشر: " دار الكتب العلمية "- بيروت بلبنان. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّم بها الباحث لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية، تخصص نحو عربي ، من كلية الآداب والفنون بجامعة وهران بالجزائر، تحت إشراف د. " بن عبد الله الأخضر "، وذلك عام 2016/2017 م. وتضمن البحث دراسة نحوية تناوَل فيها المؤلِّف موضوع تيسير النحو العربي بين القديم والحديث، مع ذكر العلماء الذين سعوا إلى ذلك، وما فعلوه في هذا المسار، وأشار إلى النتائج التي توصلوا إليها، وما هي ثمرة تلك الجهود التقريبية لعلم النحو في العصر الحديث. وتتبع الكاتب جهود النحاة القدامى والمحدثين زمنيًّا وتأريخيًّا، والمنهج الذي اعتمده في هذه الدراسة هو المنهج الوصفي التحليلي، حيث قام باستقراء الجهود الداعية إلى التجديد والتيسير ومقارنتها مع الدرس النحوي القديم، ثم إتباعها بالنقد والتحليل والتقويم. وقد سطرت الدراسة في بابين تندرج تحتهما عدة فصول على النحو التالي: وقد سطرت الخطة التالية: الباب الأول: النحو العربي ومحاولات تيسيره بين القدامى والمحدثين. ويحوي ثلاثة فصول: الفصل الأول: جهود القدامى في تيسير النحو. الفصل الثاني: جهود ابن مضاء القرطبي في تيسير النحو العربي. الفصل الثالث: جهود المعاصرين في تيسير النحو وتجديده. الباب الثاني: طرق وأدوات تيسير النحو العربي في منهجه وقضاياه وتعليمه، وهو يحوي ثلاثة فصول: الفصل الأول: تيسير النحو في مناهج النحاة. الفصل الثاني: تيسير النحو العربي في بعض قضاياه. الفصل الثالث: تيسير تعليم النحو العربي. خاتمة: وتطرق فيها إلى أهم النتائج المتوصل إليها في هذا البحث، بالإضافة إلى مجموعة الفهارس الخادمة للبحث . ويرى الكاتب أن بداية النحو كانت على شكل مجالس للعلماء يكثر فيها إنشاد الأشعار وتدارس الأخبار ثم استنباط القواعد، ثم أصبح مع مرور الزمن على قدر كبير من التعقيد والتكلف، وكثرة الأبواب النحوية والتفريعات الكثيرة، وتعدد وجوه الإعراب، والإغراق في القياس والتأويل وغيرهما، بعد أن خالطته مناهجُ جديدة فتأثر بها. هذا التطور الذي أصاب النحو كان من الممكن أن يكون إيجابيًّا لو سار في طرق تخدم اللغة نحو الازدهار والنماء والتجدد، ولكنه أرهقها بهذه الصناعة النحوية التي ارتكزت على الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي، فظهرت المدارس النحوية واتسعت الهوة، واشتد الصراع والخلاف بين النحاة. وقد أحصى الدارسون والباحثون للنحو العربي عللًا وعيوبًا كانت سببًا في صعوبته وتعقيده وجموده، وهي تتركز في ثلاث نواحٍ: في ( كتب النحو )، و( مناهج النحاة )، و( المادة النحوية نفسها ). • تتلخص العيوب في كتب النحو في: تداخل الأبواب واضطراب العناوين، وصعوبة اللغة التي كُتبت بها مادة النحو، والتكرار والحشو. • تتلخص العيوب في مناهج النحاة في: اضطراب منهج التأليف والتصنيف، وغياب الأهداف والغايات عند التأليف، والتضييق في منابع الاستشهاد، وتوسيع الفترة الزمنية للاحتجاج، وعدم استقرار القواعد النحوية نتيجة الاعتماد على الشعر الذي يداخله التغير وعدم الثبات لوجود الجوازات الشعرية فيه، والتأثر بالمناهج الفكرية الأخرى كالمنطق وعلم الكلام والفلسفة. • تتلخص العيوب في المادة النحوية في: غربة المصطلحات، وتداخلها، وتعدد المفاهيم، وإنشاء التمارين الافتراضية غير العملية، والاختلاف البين في القواعد النحوية، وكثرة الخلافات والآراء في المسائل النحوية. وقد أدرك أسلافنا القدامى صعوبةَ النحو العربي، ووعوا ذلك، فراحوا يبحثون عن طرق لتيسيره بعد أن أصبح معقدًا ومنفرًا للطلاب والدارسين، فألَّفوا لأجل ذلك المختصرات والمنظومات والشروح؛ محاولةً منهم لتيسير النحو، وعناوينُ مؤلَّفاتهم خيرُ شاهد على ذلك. والباحث هو د. "مختار بزاوية" الأستاذ في جامعة "مصطفى اسطمبولي- معسكر" بالجزائر، له العديد من البحوث والدراسات منها: • "المناظرات والمحاورات النحوية وأثرها في الدرس اللغوي -كتاب " طبقات النحويين واللغويين " للزبيدي أنموذجًا". • "منهج النحاة في استقراء اللغة والاحتجاج بها بين الرد والقبول - مصادر السماع الثلاث: القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب".
صدر حديثا من كتب السنة وعلومها (142) 1. منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص الشرعية من خلال كتابه شرح مشكل الآثار، تأليف د. حسن عبدالحميد بخاري، دار الميمان. 2. اختلاف الأصوليين مع المحدثين في المسائل الحديثية وأثره من خلال ألفية الحديث وشرحها للعراقي، تأليف أ.د ياسر عجيل النشمي، دار المرقاة. 3. أثر المجاز في فقه القرآن والسنة " المذهب الحنبلي نموذجا "، تأليف أ.د ياسر عجيل النشمي، دار المرقاة. 4. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي، طبعة ثانية، بتحقيق د. محمد سعد آل سعود. 5. الإعلال بالشذوذ والنكارة وبيان العلاقة بينهما، تطبيقات من جامع الترمذي، تأليف د. محمد منتصر أحمد، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم. 6. الروض الأنف والمشرع الرّوى في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة واحتوى، للسهيلي، طبعة جديدة تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، مطبوعات، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، 8ج. 7. جزء منتقى من كتاب فضائل القدس الشريف، لابن المهاجر، تحقيق عمرو عبدالعظيم الحويني. 8. فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود، للشيخ ياسر بن محمد آل عيد، الأجزاء (19 - 22)، دار ابن الجوزي. 9. طعون وشبهات الشيعة الإمامية حول صحيح البخاري، والرد عليها، تأليف د. عادل يوسف العزازي، دار اللؤلؤة، رسالة دكتوراه، 4ج. 10. شرح التبصرة والتذكرة للعراقي، نسخة مصورة طبق الأصل، عن أصل عتيق مسموع على مصنفه وعليه خطه، راسة وتقديم د. خالد بن ماجد العمرو، دار الحديث الكتانية. 11. المعسول في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، شرح مختصر لشمائل الترمذي، شرح أ.د. حسن عبدالحميد بخاري، من إصدارات مركز إحسان لدراسات السنة النبوية. 12. الأحاديث النبوية الواردة في الوقائع الفلكية، دراسة موضوعية نقدية، تأليف د. يحيى زكريا معابدة، ركاز للنشر والتوزيع. 13. قول الإمام البخاري: معروف الحديث، ومدى دلالته على التوثيق، دراسة نظرية تطبيقية، تأليف د. الدمراني بن عبدالله بن عبدالغني، المكتبة العمرية، دار الذخائر. 14. مرويات ماء زمزم، دراسة حديثية، تأليف د. لطيفة بنت محسن القرشي، دار الميمنة. 15. شرح رسالة أبي داود، للشيخ عبدالكريم الخضير، معالم السنن، دار طيبة الخضراء. 16. شرح المنظومة البيقونية، للشيخ عبدالكريم الخضير، معالم السنن، دار طيبة الخضراء. 17. تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين، لزكريا الأنصاري، تحقيق محمود صالح علام، شجرة الكتب. 18. تكوين الملكة الحديثية: معالم إرشادية وبرامج عملية، تأليف د. سامح عبدالله متولي، دار الأوراق. 19. فوائد حديثية: بحوث حديثية في مسائل متفرقة، تأليف ياسر بن محمد آل عيد، دار ابن الجوزي. 20. الإيماء إلى طرق التحمل والأداء، تأليف د. محمد بن زايد العتيبي، دار الفتح للدراسات والنشر.
صدر حديثا من كتب السنة وعلومها (141) 1- الجامع المسند الصحيح من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (صحيح البخاري) طبعة جديدة تصدر عن مؤسسة بيت السنة، 8ج. 2- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، مذيلاً بحواشي عدد من العلماء، تحقيق المكتب العلمي بدار الكمال المتحدة، إشراف عطاءات العلم، دار عطاءات العلم، دار ابن حزم، 20ج. 3- شرح صحيح البخاري، لقوام السنة الأصبهاني، تحقيق د. عبدالرحيم محمد العزاوي، أسفار لنشر نفيس الكتب والرسائل الجامعية، الكويت، 5ج. 4- التحرير في شرح مسلم، لقوام السنة الأصبهاني، قطعة تمثل النصف الثاني من الكتاب، تحقيق إبراهيم آيت باخة، أسفار لنشر نفيس الكتب والرسائل الجامعية، الكويت. 5- أحاديث الأجزاء العشرة الأولى من كتاب الأفراد للإمام الدارقطني، بترتيب الإمام الهيثمي، جمع وتحقيق د. محمد بن عبدالله السريع، دار ابن الجوزي. 6- متشابه الأسماء والأنساب والصفات والألقاب، لابن المفضل المقدسي، بانتخاب أبي علي البكري، تحقيق أ.د حسن محمد عبه جي، مطبوعات جامعة الملك سعود. 7- تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر، طبعة جديدة محققة على عدة نسخ خطيه، وأصلها مجموعة رسائل علمية في الجامعة الإسلامية، جمعية دار البر في دبي، 15ج. 8- المنتخب من كتاب فضائل البلدان، للإمام الذهبي، انتخبه وزاد عليه الحافظ ابن الدمياطي، تحقيق د. عبدالرحمن بن حسن قائد، آفاق المعرفة. 9- تاريخ السنة، كتاب تعليمي شامل لمفردات المقررات في الأقسام الشرعية، مركز إحسان لدراسات السنة النبوية. 10- فضائل مكة المكرمة، ويليه فضائل المدينة، لأبي سعيد المفضل الجندي، تحقيق د. محمد عبدالله الحمادي، جمعية دار البر. 11- الزيادات في كتاب المؤتلف والمختلف، للمستغفري، اعتنى به د. حميد بن بو شعيب العقرة، دار ابن عفان، دار ابن القيم. 12- التلقيح لفهم قارئ الصحيح، وبحاشيته: العقد الغالي في حل إشكال البخاري، لسبط ابن العجمي، تحقيق محمد زياد شعبان، دار عطاءات العلم، دار المنهاج القويم، 19 ج. 13- البدر المنير الساري في الكلام على صحيح البخاري، لقطب الدين الحلبي، تحقيق اللجنة العلمية بدار الكمال، إشراف عطاءات العلم، دار عطاءات العلم، دار المنهاج القويم 2ج. 14- عناية العلماء بصحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، تأليف نظر محمد الفاريابي. 15- الإمام العز بن عبدالسلام وأثره في الحديث وعلومه، تأليف د. إياد الطباع، دار الأمل، رسالة ماجستير.
فتح الغفور بشرح منظومة القبور للسبكي تحقيق قصي محمد نورس الحلاق صدر حديثًا كتاب " فتح الغفور بشرح منظومة القبور "، تأليف: الإمام الفقيه " شهاب الدين أحمد بن خليل بن إبراهيم السبكي الشافعي المصري " (ت 1032 هـ)، تحقيق وتعليق: " قصي بن محمد نورس الحلاق "، نشر: " دار المنهاج للنشر والتوزيع ". وتعد هذه الرسالة شرحًا على منظومة للإمام السيوطي بعنوان "التثبيت عند التبييت"؛ حيث قام الإمام السيوطي فيها بنظم مسائل أحوال وأهوال القبر، وما فيه من فتن ومحن، ثم جاء الشيخ "أحمد بن خليل السبكي" من بعده، فشرح هذه المنظومة شرحًا لطيفًا، لم يخرج به عن مقصد الكتاب، فجمع فيه فأوعى، ولمَّ شتات المسألة، وضم ما تفرَّق في بطون الكتب، فقد جمع في شرحه هذا معظم ما قيل في مجال الموت وعذاب القبر، واستشهد بالآيات والأحاديث النبوية، والأخبار والآثار، والشارح السبكي ذكر كثيرًا من المصنفات والمصادر التي رجع إليها في شرحه الغني، فكانت موارده غزيرة، ومراجعه كثيرة، ولكن بعضًا من هذه الكتب مفقودة لم تصل إلينا. ونجد أن الإمام السيوطي في منظومته التي تقع في (175) بيتًا بيَّن فيها بالأدلة العقلية والنقلية وجود عذاب في القبر، والإيمان بسؤال الملَكينِ للميت، وأنه من باب المحاسبة، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة، وذكر أحوال القبور للعظة، والاعتبار بالآخرة، وأنه لا طريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بدين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد خصص أبيات المنظومة لأحوال دار البرزخ فيما يتعلق بالميت وبالملائكة وبالروح. ونجد السيوطي يردُّ خلال منظومته على شُبَهِ منكري فتنة القبر، ويحكم فيهم، كما أنه يبين بعضًا من الآداب الخاصة بحكم تلقين الميت بعد دفنه، ومشروعية طلب الثبات له، ويتطرق لمباحث فقهية حول اختصاص هذه الأمَّة بالسؤال والخلاف في ذلك، وما قيل في سؤال من لم يُدفن، والمصلوب، ومن تفرَّقت أجزاؤه ومن أكلته السباع ومن ينقل والغريق، والخلاف في ذلك، وفي الجزء الذي يحيا فيمن تفرقت أجزاؤه، كما يتناول المستثنَينَ من السؤال، والخلاف في سؤال الملائكة والجن، وسؤال الأطفال وتلقينهم، وسؤال البُله، واسم الملَكين وصفتهما، وكيفية سؤالهما وإمكانية تعددهما، وتكرار السؤال ومدته وما يُسن أثناءها، ومصير الأرواح وأحوالها في القبور، ويتوسع في تلك المسائل المتعلقة بعالم البرزخ. وقد تميزت المنظومة بعدة أمور، من أبرزها: دقة موضوعها، وتنوع مسائلها ومباحثها، وكثرة مصادرها ومواردها، وعزو جملة من أقوالها وشواهدها؛ ولهذا اهتم جمع من العلماء بها شرحًا وتوضيحًا وإضافةً وإشادةً وإحالةً، بل إن من أوائل من شرحها الإمام السيوطيَّ نفسَه. ويقال: إن للسبكي - دون هذا الشرح للمنظومة - شرحًا آخر باسم "فتح المقيت في شرح التثبيت عند التبييت"، أشار إليه غير واحد بهذا المسمى ممن ترجم له. وتميز شرح السبكي بالنقل من كلام الناظم إذ اطلع عليه في كتبه الأخرى، وبخاصة كتابه "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، كما تعرض السبكي لغريب الحديث بالشرح، وعول السبكي في الشرح في مواضع كثيرة على كتاب "فتح الباري" لابن حجر، كما اعتمد في شرح مجموعة من أبيات النظم على ما ذكره وقرره ابن القيم في كتابه "الروح"، كما أضاف السبكي مسائل تتعلق بالروح جعلها في خاتمة وتكلم عليها. وتتعلق هذه المنظومة وشرحها بأحد أركان الإيمان وأصوله، ألا وهو الإيمان باليوم الآخر، ومعلوم ما يتضمنه هذا الركن بالإيمان بما يكون بعد الموت، وما يجري على الميت في قبره، وما يتعلق بذلك من مسائل، وهذا ما يسمى بالحياة البرزخية أو القيامة الصغرى أو فتنة القبر، وهذا هو تحديدًا محور المنظومة وشرحها وأسها الذي قامت عليه ودارت في فلكه. والشارح هو " شهاب الدين أحمد بن خليل بن إبراهيم السبكي الشافعي المصري "، ولد سنة (939هـ)، فاضل مصري، اهتم بعلم الحديث، له حواشٍ وشروح في الفقه وغيره، و"مناسك"، و"فتاوى"، وحاشية على الشفاء سماها "منهج الخفاء في شرح الشفاء"، وتوفي سنة 1032 هـ.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها المحدد الثاني الإرهاب (2) الإعلام ولقد اقترن الإرهاب لدى الغرب بالمسلمين، لا سيما في الوقت الراهن،وأضحت أي عملية تخريبية مقرونةً بالعرب المسلمين بغض النظر عن الوجهة الجغرافية التي حدث بها التخريب وقام بها العنف [1] ، ولأن العالم أصبح اليوم عالة على الإعلام الغربي في ترسيخ المفهومات فإن الإعلام الغربي استطاع أن يبعد النظر والتركيز والأضواء عن التخريب الصادر عن الأمم الأخرى، لا سيما الأمم المتحدرة عن الأصول الأوروبية، كما يحصل في الأمريكيتين، وكما يحصل من اليهود في فلسطين المحتلة [2] . بل إن الإعلام الغربي قد استطاع أن يتجاهل العمليات الترويعية التخريبية التي قام بها أفراد غربيون في عقر دارهم، وقامت ضد رؤساء الدول؛ كاغتيال جون ف.كينيدي ومارتن لوثر كينج في الستينيات الميلادية، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان الرئيس الجمهوري للولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينيات الميلادية، أو ضد الشعوب؛ كتفجير مبنى الحكومة الفيدرالية في مدينة أوكلاهوما بولاية أوكلاهوما، أو ضد المنشآت الحكومية والحيوية في الغرب نفسه، أو مدارس الأطفال ومؤسسات المجتمع المدني، مما يؤكد دائمًا على أن الإرهاب لا يحمل هُوية ولا دينًا، ولا يمكن أن يعزى إلى ثقافة بعينها. بل إن مؤثراتٍ آنيةً في حساب التاريخ قد تكون مسؤولةً عن ترسخ الإرهاب في جهة أكثر من ترسخه في جهات أخرى من العالم، بل إن التركيز الإعلامي وحساسية الموقع قد يكون لها أثر في التركيز الجهوي على العمليات الإرهابية، من خلال إرهاب الأفراد من جهة، وإرهاب التنظيمات أو الجماعات من جهة أخرى، وإرهاب الدولة من جهة ثالثة [3] ، كما أنه يتجاهل أولئك المرتزقة من الغربيين الذين عاثوا في الأرض فسادًا [4] : (بلاك ووتر) الأميركية في العراق مثالًا. ليس هذا تسويغًا لقيام تخريب عربي، ولكن النسبة بين الفعلين غير قابلة للمقارنة،وإذا درسنا بعض أسباب هذه العمليات التخريبية العربية نرى أنها انبعثت عندما قدَّم الغرب التسهيلات والوعود والدعم لقيام دولة يهودية في قلب الأمة، تخلصًا من عُقَدٍ أوروبية على حساب شعب آخر، ونصره ظالمًا لا مظلومًا، وسعى إلى ترسيخه بكل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية، وليس هذا أيضًا مسوغًا لقيام العمليات التخريبية العربية، وإنما هو تتبُّع للبواعث والأسباب [5] . وليس العرب، وبالتالي المسلمون، تخريبيين، ولا دينهم ولا ثقافتهم المستمدة من الدين ولا آدابهم تدعو إلى الترويع والإرهاب، كما هو المفهوم الغربي للإرهاب [6] ، وليسوا كذلك متعطشين إلى الدماء، وليسوا همجيين متوحشين،وكل هذه وغيرها اتهامات ليست جديدة على الإسلام ولا على المسلمين، بل إنها جزء من تلك الحملة التي يهمها ألا يكون هناك تقارب بين الشرق/ المسلمين والغرب؛ رغبة في حماية الغربيين من الإسلام، ورغبة في الحد من انتشار الإسلام في الغرب وفي غير الغرب [7] . وهي حملة قديمة تتجدد وتتضافر فيها جهود مختلفة من تنصير واستشراق واحتلال وعلمانية [8] ، وأعانت عليها حركات محلية داخل المجتمع المسلم قامت بأعمال لا تتفق مع التوجه الإسلامي في الحكم على الأحداث والتعامل معها، فكانت القابلية لذلك،وكانت هذه الحركات وبعض الجماعات أرضًا خصبةً للتدليل على أن الإسلام والعرب ميَّالون إلى التخريب والترويع والهدم. وفي الوقت الذي ننحو فيه باللائمة على الغرب في تشويه الإسلام، نجد أنفسنا نعين على هذا التشويه؛ بسبب سوء فهم بعضنا نحن للإسلام، وبالتالي سوء تطبيقنا له على المستوى السياسي، وعلى مستوى العلاقات الدولية على الخصوص، ثم على المستويات الأخرى الفكرية والاجتماعية والسلوكية والمظهرية؛ مما أدى إلى اتهامنا واتهام ديننا واتهام علمائنا بالتركيز على الأحوال الشخصية فقط، والبعد عن الواقع وفقه الواقع [9] . وعليه، فإنه في هذا المحدِّد من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، يظهر أن المسؤولية مشتركةٌ بين الطرفين دونما تغليب طرف على الآخر؛ ذلك أنه عندما وفق من قبلنا في تقديم الإسلام كانت النتيجة قبوله من الآخر، والإقبال عليه. وممن وفِّق في تقديم الإسلام تقديمًا مناسبًا أولئك التجار المسلمون الذين لم يذهبوا قصدًا للدعوة، ولكنهم استخدموا الحكمة؛ فكانوا قدوة استطاعوا بها نشر الإسلام. يضاعف هذا من مسؤولية المسلمين من الدعاة وغيرهم وعلى مختلف الصُّعُد في حمل الإسلام إلى الآخر بصورته التي ينبغي أن يحمل عليها، وتخليصه من تلك الشبهات التي أثيرت حوله وحول معتنقيه، ومنها شبه التخريب والترويع والهدم؛ أي: شبهة الإرهاب بالمفهوم "الإعلامي" للإرهاب، عندها يمكن ضمان تقبُّل غير المسلمين له، وتلك مسؤولية عظيمة. [1] انظر في مناقشة هذا المفهوم: زين العابدين الركابي ، الأدمغة المفخخة - الرياض: غيناء للنشر، 1424هـ/ 2003م - ص 246. [2] انظر: عصام محفوظ ، الإرهاب بين السلام والإسلام - بيروت: دار الفارابي، 2003م - ص 181. [3] انظر: أحمد طحان ، عولمة الإرهاب: إسرائيل - أمريكا والإسلام - بيروت: دار المعرفة، 1424هـ/ 2003م - ص 455. [4] انظر: غازي عبدالرحمن القصيبي ، أمريكا والسعودية: حملة إعلامية أم مواجهة سياسية - ط4 - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002م - ص 135. [5] في البحث في أسباب الإرهاب انظر ص 35 - 53 - في: علي بن إبراهيم النملة ، فكر التصدي للإرهاب: المفهوم - الأسباب - الأوزار - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1428هـ/ 2007م - ص 115. [6] انظر: جابر عصفور ، مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب العربي المعاصر - بيروت: دار الفارابي، 2003م - ص 310 . [7] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة ، التنصير: المفهوم - الوسائل - المواجهة - ط 5 - الرياض: المؤلف، 1431هـ/ 2010م - ص 46 و53. [8] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة ، ظاهرة الاستشراق: دراسة في المفهوم والارتباطات - مرجع سابق ص 85 - 88. [9] انظر: سمير سليمان، (مشرف) ، العلاقات الإسلامية - المسيحية ، قراءات مرجعية في التاريخ والحاضر والمستقبل - بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1994م - ص367 ، وانظر كذلك: أليكسي جوارفسكي ، الإسلام والمسيحية - مرجع سابق - ص 236.
الحرية المهذبة بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [يونس: 99، 100]. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أنهى بشريعته استعباد الإنسان للإنسان، وهداه بها إلى عبادة الواحد الديان، والرضا عن آل بيته وصحبه الكرام، ومن اتبعهم إلى يوم الدين بإحسان؛ أما بعد: فالحريةُ ضَرورةُ حياةٍ، ومطلبُ استقرارٍ، ولا تستقيم حياة الفرد إلا بتحقُّقها، فليست الحرية كلمةً تجري على الألسن، ولا شعارًا ينادَى به على المنابر، بل إنها تشغلُ حيزًا كبيرًا من عقل البشرية، ومتجذرة بعمق في وِجدان الإنسان وتفكيره، فهي ذات قيمة إنسانية نفيسة، ولها حظٌّ من التقديس. وحرية الرأي والتعبير: حريتان متلازمتان، ومما يجب أن يحفظ ويُصان، فمن حقِّ كل إنسانٍ بغضِّ النظر عن لونه أو جنسه أن يتبنى رأيًا بمقتضى محاكمته العقلية، ثم يعبر عن وجهة نظره بمختلف وسائل التعبير. وعلى الرغم من هذا المفهوم الواسع لحرية الرأي والتعبير، لا يعني أنها حرية مطلقة، فلا شيء من أفكار الإنسان أو أفعاله يجوز أن يكون مطلقًا؛ إذ الإطلاق بكمال الإنسان يتنافى مع بشريته، ومن ثَمَّ فحريته لا يمكن أن تكون مطلقة، ويُخطئ مَن يظنُّ أن الحرية فرسٌ جامحةٌ، تندفعُ بمن يركبها يَمنةً ويَسرةً، بلا خِطام أو زمام، لا تعرف القيد أو تأْلَفه، وكأن الحرية عندهم ما أرادوا، وكيفما أرادوا، لا يبالون بضرب حريات غيرهم. والإسلام لا يُقِرُّ هكذا حرية، بل إن حرية الرأي والتعبير الحقة هي حريةٌ مهذبةٌ، مسؤولةٌ هادفةٌ، وليست حريةً عابثةً، أو لاهيةً سائبةً، بل هي حريةٌ تلتزم منظومة القيم الفاضلة، ولا تنتهك كرامة الإنسان، أو تعتدي على حُرمته، وتعمل على مصادرة حقوقه. إن ما نشهده اليوم من انتهاك صارخ لحرية المسلمين في تقديس مَن آمنوا به رسولًا للإنسانية، ومعلمًا للبشرية جمعاء من قِبل بعض سادة الغرب وقادتهم، ويزعمون أن إساءتهم له هي من حقهم في حرية التعبير، فهذه ليست حريةُ حقوقٍ، بل حرية فسوقٍ، وإنما وقع ذلك منهم بسبب خلْطهم بين حرية التعبير، والاعتداء على الآخر بالعنف اللفظي، وحُقَّ لنا أن نسميَ حريتهم هذه بالحرية الشاتمة، الغامزة اللامزة، وهذه الحرية تشكل خطرًا على الحرية ذاتها، وخطرًا على الأمن الإنساني العام الذي يجب أن يرتكز على منظومة القيم الإنسانية، والآداب العامة بالقبول بالآخر، وعدم الاعتداء عليه، واحترام رأيه وحقه في التعبير بصفته شريكًا اجتماعيًّا. فأي حرية تلك التي تبنَّاها سادة في الغرب، خارجين بها عن الأخلاق الفاضلة، وعلى دساتيرهم التي ما فتئوا يتعلقون بها، ويدافعون عنها باسم الإنسانية؟ ويكفي أن نطالع في هذا المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد وعرَض للتوقيع والتصديق بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، والنافذ في سنة 1976؛ وفيها: ( لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة ... لكل إنسان حق في حرية التعبير ... شريطة أن تكون محددة بنص القانون لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم )، فقد نصَّت هذه المادة على ممارسة الحق دون مضايقة للآخرين؛ لأنهم يتمتعون أيضًا بالحق نفسه. وعليه، فالحريةُ يجب أن تكون بدون ضررٍ ولا ضرار، وهذه هي القاعدة العامة في الإسلام، فأي حرية يترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تُمنع، ويجب أن تُقيد، فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك. فما تذرَّع أولئك المسيئون بالحرية فهذا بزعمهم، فعندما يُساء استخدام حرية التعبير إلى هذا الحد من الانحراف والفوضى الهدَّامة، والانسياق خلف النعوت الحاملة لكل المعاني السلبية والجارحة، فإن ذلك يمثل خروجًا عن القيم والآداب العامة، وهذا الأمر دليل على وجود خَلَلٍ بنيويٍّ كبير متغلغلٍ في عقولهم. وهذا على خلاف منهج الإسلام الذي فتح أُفُقَ الحرية المهذبة أمام الآخرين، فلم يصادر الإسلام رأيًا، وإن خالف أصوله ومبادئه، ولا كمَّم أفواهًا، وإن نطقت بما يعارض أُسسه ومقوماته، وإنما واجههم بقوة المنطق، وسداد الحجة، ونصاعة البرهان، فمثلًا نجد القرآن الكريم يعرض حُجَجَ المخالفين له، دون بترٍ أو اجتزاء، ثم يُحلِّلها، مفنِّدًا مضمونها، مبينًا مغالطات أصحابها، كل ذلك بالبراهين العلمية، والحجج العقلية، لا بالشتم والازدراء بالأشخاص. فهذا النمرود الذي ادعى الربوبية، سجَّل القرآن الكريم رأيه مما يناقض أصول الإيمان، وما يخالف جوهر التوحيد، ثم يذكر كيف أَلْجَمه سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلجامًا منطقيًّا؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، فإن كنتَ يا نمرود إلهًا قادرًا، وربًّا مسيطرًا، فاخرق قانون الكون، وغيِّر ناموسه، وأطْلِعْ لنا الشمس من مغربها، على غير ما يفعل الله بها، فبُهت بهذه الحجج الدامغة والبراهين الساطعة. وختامًا: هي دعوة لكل الجهات المعنية والمؤسسات الثقافية والمنظمات الإنسانية أن تأخذ دورها في تفنيد المزاعم المسيئة إلى الإسلام ونبيه الكريم التي تصدر من بعض المعادين للإسلام ولنبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، ورد الشبهات التي تُثار بين الفَينة والأخرى منهم، وبيان عوارها، وتأكيد حق الإنسان في العَيشِ الكريم، وإظهار ونشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي يعملون على تغطيتها وإخفائها، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
السعي الجميل للأجر الجزيل في شرح حديث سؤال جبريل لنعمان الطرسوسي صدر حديثًا كتاب "السعي الجميل للأجر الجزيل في شرح حديث سؤال جبريل"، تأليف: "نعمان بن أحمد بن عبدالله الطرسوسي"، تحقيق: د. "مصطفى محمد يسلم الأمين الجكني"، نشر: "دار الصالح للنشر والتوزيع". ويتناول هذا الكتاب دراسة لحديث ( ذاك جبريلُ جاءكم يُعلِّمُكم دينَكم )، وهذا الحديث أمُّ السُّنة وفاتحتها؛ لاشتماله على أصول الدين كلِّه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في آخره: ( (يعلمكم دينكم)) ؛ لذلك كان الاهتمام به من أوجب الواجبات، والعناية به من أولى المتعينات، وقد أفاض علماء الأمة في شرحه ضمن "الأربعين النووية" وغيرها، لا سيما هذا الكتاب لمؤلفه العلامة السيد نعمان الطرسوسي رحمه الله ونفع به، فإنه من أنفس شروح حديث جبريل وأبدعها. كما تعد هذه الدراسة للحديث من أطولها بيانًا وأوسعها؛ إذ شرح المؤلف فيه هذا الحديث إجمالًا، ثم تفصيلًا من واحد وثلاثين علمًا، فقال: "فلما كان هذا الحديث الشريف من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، نظر فيه العلماء، فتكلم فيه كل واحد منهم بحسب استعداده وفهمه، وتأملتُ فيه بفكري الفاتر، وعقلي القاصر، فذكرت فيه شيئًا يسيرًا من جهة علوم متنوعة، مثل: علم اللغة، وعلم الوضع، وعلم الاشتقاق، وعلم الصرف، وعلم النحو، والمعاني والبيان والبديع، والعروض، والفقه، والفرائض، وأصول الفقه، والتفسير، والتجويد، والحديث، وأصول الحديث، والآداب، والمنطق، والكلام، والحكمة، والهيئة والنجوم والميقات، والهندسة، والحساب، والطب، والتشريح، والتاريخ، والأخلاق والتصوف والحقيقة". وبذلك يورد المؤلف أوجه تميز شرحه بتنوعه وإحاطته بعلوم شتى، فهو شرح موسوعي بديع فريد، جاء فيه بدفائن المعاني، وغرائب اللطائف، ولا يعلم المحقق شرحًا لهذا الحديث أوسع منه. وصاحب الشرح السيد " نعمان بن أحمد بن عبدالله الطرسوسي " العثماني، فاضل من أهل العلم، كان حيًّا سنة 1120 هـ / 1708 م، لا يعرف الكثير عن ظروف حياته، وله في خزائن المخطوطات هذا الشرح الذي خرج للنور في هذه الطبعة المحققة.
أقوال مختارة لعيسى ابن مريم ورد أن عيسى عليه السلام نُبِّئ وهو ابن ثلاثين عامًا، ورُفع وهو ابن ثلاثة وثلاثين، وقد نعت النبيُّ صلى الله عليه وسلم عيسى؛ حيث رآه ليلة أسري به وعرج به إلى السماء، قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي لقيت موسى، قال: فنعته، فإذا رجل - حسبته قال: - مضطرب، رجِل الرأس، كأنه من رجال شنوءة، قال: ولقيت عيسى، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به))، وكانت مدة الدعوة ثلاث سنين، وأنها دعوة توحيد وسلام، وكانت في منطقة القدس وبيت لحم، وأن عيسى لم يخض من أجل هذه الدعوة حروبًا مع العدو المعاند رغم شراسة الممانعة والتعذيب وملاحقة عيسى لقتله، وها هم عندما قبضوا على الشبيه لم يرحموه، بل قتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى، وبناءً على هذا فهم قتلة الأنبياء والصالحين والدعاة. ورُوي أن عيسى عليه السلام رأى رجلًا يسرق، فقال: يا فلان، أسرقتَ؟! فقال: لا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني، وهذا مِن حُسن سجية عيسى وقبول أعذار الناس، وقال للحواريين: "يا معشر الحواريين، لا تحدثوا بالحِكم غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم"، وقال: "الأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيُّه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فردوا علمه إلى الله عز وجل"، وقال: "لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير؛ فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها؛ فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومَن لا يريدها شر من الخنزير"، وقال لأصحابه: "أنتم مِلح الأرض، فإذا فسدتم فلا دواء لكم"، وقيل له: من أشد الناس فتنة؟ قال: زلة العالم؛ فإن العالم إذا زل، يزِلُّ بزلَّته عالم كثير"، وقال مخاطبًا علماء السوء: "يا علماء السوء، جعلتم الدنيا على رؤوسكم، والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفلى، تُعجب من رآها، وتقتل من أكلها"، وقال لهم أيضًا: "يا علماء السوء، جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلوها ولا تدَعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه".
العلاقات الدولية بين الوفاق والصدام، الجزء الثاني النظريات التفسيرية للصراعات الدولية قبل الحرب الباردة توجد العديد من النظريات التي حاولت تقديم تفسير للصراعات والحروب الدولية، فعلى مستوى التنظير، برزت عدة اتجاهات أو مدارس لمحاولة تفسير ظاهرة الصراع في العلاقات الدولية، وكانت قد انحصرت دراسة الشؤون الدولية قبل الحرب الباردة في التنافس المستديم بين المنظورات الواقعية والليبرالية والراديكالية. أولًا: النظرية الواقعية: وتتلخص في أن العلاقات الدولية هي علاقات قوة، والتي تعني حل المنازعات الدولية بكل الوسائل التي تحقق فيها الدول أهدافها دون أية اعتبارات لمبادئ القانون الدولي العام والأخلاق... فهي تؤكد بأن السياسة الدولية هي صراع على القوة، بغض النظر عن أهدافها النهائية البعيدة [1] . وتزعم الواقعية الجديدة أن غياب سلطة عالمية لا يترك للدول خيارًا سوى التنافس فيما بينها من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المصالح من أجل البقاء، والنظام الدولي - حسب رأيهم - يتسم بالفوضى؛ نظرًا لافتقاره لسلطة عليا تقوم بفرض الاستقرار والانضباط داخل المجتمع الدولي؛ لأن الدول ذات سيادة وتتصرف بحرية تامة، وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث فوضى سياسية، ومن هنا فالدول هي دائمًا في نزاع من أجل القوة، وسعيٍ مستمر نحو حماية وتنمية مصالحها الوطنية، وفي تحليل الواقعيين لمصادر النزاعات الدولية يهمل الواقعيون المصادر الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للنزاعات، فالنزاع - حسب رأيهم - ظاهرة طبيعية تنتج من تنافس الدول في سعيها لاكتساب القوة وتحقيق مصالحها الوطنية التي تكون عادة متناقضة مع الأطراف الأخرى [2] . ويرى اتجاه داخل هذه الواقعية أن الحرب والنزاع ظاهرتان غير قابلتين للتجنب بسبب فوضوية النظام الدولي، وعدم وجود سلطة دولية عليا فوق الدول، ففي ظل هذه الفوضى تهتم الدول بالبحث عن الأمن اعتمادًا على القدرة الذاتية، وزيادة قدراتها العسكرية والاقتصادية من خلال التحالف مع القوى الكبرى [3] ، والواقعية ليست نظرية واحدة، كما أن الفكر الواقعي تبلور بالأساس خلال فترة الحرب الباردة، ويوجد نهجان متنافسان ضمن النموذج الواقعي ولكلٍّ منهما افتراضاته حول المعضلة الأمنية، وتأثيرها في احتمالات الحرب، وإمكانية التعاون بين الدول في سبيل التخفيف من آثار الفوضى في بنية النظام الدولي [4] : الواقعية الهجومية: وترى أن المعضلة الأمنية تتطلب من كل دولة أن تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من القوة الخاصة بها، ولا يقتصر هذا السعي على تعظيم أمنها، بل يتعداه لتحقيق الهيمنة والسيطرة على الدول الأخرى، وذلك نتيجة لعدم الثقة بنوايا الدول الأخرى. الواقعية الدفاعية: تشترك مع الواقعية الهجومية في أن الفوضوية في بنية النظام الدولي تفرض عدم الثقة بنوايا الدول الأخرى، والسعي لتحقيق قدر من القوة يفترض وجود عوامل عديدة؛ مثل: التكنولوجيا العسكرية، والجغرافيا، والمعتقدات، والإستراتيجية القومية الحديثة؛ ما قد يضاعف تكاليف الحرب الهجومية، ونتيجة لذلك فإن إستراتيجيات الدفاع أكثر جاذبية للدول من إستراتيجيات الهجوم. في غياب سلطة عليا على المستوى الدولي تستطيع أن تفرض النظام والانضباط، فإن كل دولة تعتمد على نفسها من أجل ضمان أمنها وبقائها، ولتحقيق ذلك يبقى عليها الحصول على مزيد من القوة، ولأن الدول متماثلة وظيفيًّا، فإنها تسعى إلى الهدف نفسه، ففي ظل حالة الشك وعدم تأكد الدول من نوايا بعضها البعض، فإن هذا يؤدي بالدول في الأخير إلى إمكانية أن تواجه بعضها البعض من خلال الحروب [5] . وقد عدَّ بعضهم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تجسِّد إلى حد كبير نظرية الفوضى؛ حيث دخل العالم عصرًا من الاضطرابات المؤثرة على مختلف التوازنات العالمية، وقد ظهر مصطلح الفوضى الخلاقة (البناءة) جليًّا في مسرح التداول السياسي والإعلامي بعد الغزو الأمريكي للعراق في عهد بوش الابن، وتعتبر نظرية الفوضى الخلَّاقة أن الاستقرار في العالم العربي يشكل عائقًا أساسيًّا أمام تقدم مصالح الغرب في المنطقة، لذا لا بد من الاعتماد على سلسلة من التدابير تضمن السيطرة والهيمنة، وهذا المفهوم أطلقه المحافظون الجدد في الولايات الأمريكية؛ حيث أكد هؤلاء في مجمل أطروحاتهم الفكرية والسياسية بأن المجتمعات العربية من المغرب وحتى حدود أفغانستان راكدة سياسيًّا، ولكي يتحرك ركودها لا بد من إحداث شيء من الفوضى حتى يحصل التغيير في هذه الدول نحو الأفضل، وقد تكرَّس هذا المصطلح مع وصول المحافظين الجدد [6] . تستند نظرية الفوضى الخلاقة على ركائز كثيرة؛ أهمها: التفكيك والتجزئة، ثم إعادة التشكيل والبناء في المنطقة العربية؛ لتحقيق المطامع والمصالح الأمريكية، ويعود تاريخ ظهور نظرية الفوضى الخلاقة إلى زمن طويل، والتي طرحها مشروع برنارد لويس عام 1980 بتقسيم منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها المنطقة العربية، فقد طرح هذا المشروع على الكونغرس الأمريكي وتم دراسته بعناية فائقة لتتم الموافقة عليه في 1983، والتي تقضي بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات صغيرة على أساس طائفي يسهل التحكم به [7] ، فهذه النظرية تعني في حقيقتها السعي الاستباقي نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترض أنها تشكل مصادرَ تهديدٍ لأمن ومصالح أمريكا في العالم، ويعتبر شعار نشر الديمقراطية لغزو المناطق التي تم احتلالها من أدوات هذه النظرية [8] . وفي عام 2005م أطلقت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في صحيفة الواشنطن بوست مصطلحًا جديدًا هو الفوضى الخلاقة؛ والذي يحمل رؤية إصلاحية لتغيير الشرق الأوسط نحو الأفضل بحسب الإدارة الأمريكية وقتها، وحسب رؤية وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس فإن الفوضى الخلاقة تعني التخلي عن مفاهيم الأمن والاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب إسقاط الأنظمة الحليفة والموالية للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بدعوى الإصلاح الديمقراطي [9] . وقد قدم المستشرق برنارد لويس - وهو منظر لسياسة التدخل الأمريكية في المنطقة العربية خلال إدارة جورج دبليو بوش للحرب ضد الإرهاب - مشروعًا يتضمن تقسيم الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية لحماية المصالح الأمريكية وإسرائيل ... حيث يرى لويس أن جميع الكيانات ستشلُّها الخلافات الطائفية والمذهبية، والصراع على النفط والمياه والحدود والحكم [10] ، ويتم ذلك من خلال إدخال شعوب المنطقة كافة في صراعات أيديولوجية إثنية طائفية دينية تجعل من العيش المشترك والتعايش السلمي أمرًا صعبًا جدًّا [11] . ولقد خلق هذا المشروع لبرنارد لويس مشاريع أخرى ظهرت على أساس هذا المشروع لتقسيم الشرق الأوسط، فقد تسربت عدة وثائق من الدوائر الإسرائيلية تؤكد نواياها في تجزئة المنطقة؛ وأهمها الخليج العربي [12] ، وقد أنشأت أميركا كثيرًا من المؤسسات المشتركة بينها وبين بلدان الشرق الأوسط؛ من أجل نشر الفوضى الخلاقة، ورصدت لها ملايين الدولارات والتي تعتمد على إثارة الحروب والاضطرابات الطائفية والعرقية في هذه البلدان [13] . ثانيًا: النظرية الراديكـالية: الراديكالية ويقصد بها: صلابة التوجه التي تصل إلى درجة التطرف بهدف إحداث تغيير جذري للواقع السياسي، أما مصطلح الليبرالية فهو يعني فلسفة سياسية تؤسس على أفكار الحرية والمساواة، وارتبط المصطلح بالغرب بشكل كبير؛ حيث شدد على الحرية في السياسة والمساواة الاجتماعية [14] . المقاربات الراديكالية - مثل النظرية الماركسية - ترى أن الرأسمالية هي السبب الأساس للنزاعات الدولية، فالدول الرأسمالية تحارب بعضها كنتيجة لصراعها الدائم من أجل الربح [15] . وتركز الماركسية على العوامل الاقتصادية والمادية في فهم الظاهرة الدولية، فالمذهب الماركسي يتلخص في كون التاريخ البشري منذ البدء إلى الآن هو تاريخ صراع الطبقات، وبأن العامل المادي المحدد لذلك هو أسلوب الإنتاج [16] ؛ فالصراعات والحروب بين الدول تحركها وبشكل أساسي الدوافع الاقتصادية، وخاصة في ضوء تنافسها مع الرأسمالية الغربية [17] ، وجادل الماركسيون أن من العوامل التي دفعت الرأسمالية نحو الاستعمارية البحث عن المواد الخام، والإنتاج الفائض الذي يتطلب البحث عن الأسواق، والتراكم الزائد عن الحاجة [18] . ويُوجَّه نقدٌ لكلا النظامين؛ فالرأسمالية بتركيزها على حافز الربح دون أي اعتبار آخر تحول المجتمعات إلى غابات وحوش، والشيوعية بتركيزها على مطلب المساواة دون أي اعتبار آخر تقوم بعملية أشبه ما تكون بتسطيح كل تضاريس الطبيعة البشرية، وهو ضَرْبٌ من المستحيلات [19] . وكما كانت تعتقد الماركسية بأن الحروب تنتهي إذا ما أصبحت كل الدول شيوعية، فإن الدول الرأسمالية ترى ذلك في تعميم نظامها الحر [20] ، لذلك فالمعْنِيِّون بالنظرية السياسية المعاصرة في الغرب - وبصفة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية - قد سعَوا سعيًا حثيثًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية نحو تقديم نظرية ليبرالية عامة وشاملة تفسر كل قطاعات المجتمع، وذلك في مواجهة النظرية الماركسية كنظرية عامة شاملة على المستوى النظري على الأقل، ولكن أخفقت كل محاولات أصحاب هذا الاتجاه في الوصول إلى نظرية ليبرالية عامة شاملة، تفسر شتى علاقات المجتمع، وانتهى بهم الأمر إلى تقديم نماذج نظرية (نظريات مصغرة)، وفي بعض الأحيان إلى نظريات جزئية تُعنَى بقطاع معين من قطاعات عالم السياسة، حتى أصبحت هذه النماذج والنظريات الجزئية هي السمة الغالبة في التحليلات السياسية المعاصرة [21] . ثالثًا: النظرية الليبرالية: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه لتفادي وحل النزاعات الدولية يجب أن يكون هناك حكومة عالمية هدفها المحافظة على السلام الدولي، وانتشار التجارة بين الدول، والليبرالية تقوم على ثلاثة أسس هي: الاعتماد المتبادل، والسلام الديمقراطي، والمؤسسات الدولية [22] : ♦ الاتجاه الاقتصادي أو الاعتماد المتبادل: ترى إحدى اتجاهات الليبرالية أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يُثْنِي الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض؛ لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين [23] ، لكن التعاون الدولي يعني تنامي الاحتكاك المباشر، وازدياد نسبة احتمال الصراعات العرضية؛ فالحروب الأهلية الطاحنة والحروب العالمية الأكثر دموية وقعت في فترات كانت مأهولة لشعوب متقاربة ومتشابهة، وشؤونها كانت أكثر ارتباطًا ببعضها من أي وقت آخر [24] . السلام الديمقراطي: وهو اتجاه منسوب للرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، ويرى أن انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحًا للسلام العالمي، ويستند هذا الرأي إلى الدعوة القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلًا للسلام من الدول التسلطية [25] ، وباعتقادهم أن غياب الديمقراطية هو سبب الحروب؛ لأن الدول غير الديمقراطية هي التي تنزع إلى الحرب؛ لذلك تفاءل أنصار السلم الديمقراطي أكثر بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتصار الرأسمالية الاقتصادية والديمقراطية الليبرالية، وبذلك راهنوا على إمكانية دمقرطة باقي النظم السياسية؛ ليعُمَّ الأمن والسلم كل العالم على قاعدة الافتراض القائل بأن الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها [26] ، لذلك أصبح السلام الديمقراطي قاعدة للسياسة الأمريكية [27] . فتبنِّي الدول للديمقراطية يعني أنها تصبح مقيدة في سلوكها الخارجي بقواعد وقوانين داخلية تحد من اندفاعها إلى إقرار الحرب كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، كما أنها تجعل من القرار السياسي الخارجي تحت رقابة ومشاركة مختلف القوى والفواعل الداخلية، مما يحول دون انفراد الحكام بأخذ قرارات مصيرية كقرار الحرب مثلًا، إضافة إلى أن اعتقاد الدول للمبادئ نفسها يزيد من فرص التفاهم والتعايش والتعاون، ويقلل من احتمالات اللجوء إلى استعمال القوة فيما بينها، فالديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، وهذا يزيد من فرص تحقيق السلام العالمي وإطالة أمده [28] . ♦ (الليبرالية المؤسساتية) أو المؤسسات الدولية: وهناك اتجاه ثالث - وهو الأحدث - يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي ... يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم [29] . [1] العلاقات الدولية دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والتاريخ والنظريات، ص: 148 - 155. [2] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 131. [3] البعد الديمغرافي في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، رسالة ماجستير في العلوم السياسية فرع العلاقات الدولية، إعداد: موسى بن قاصير، جامعة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، 2007 - 2008، ص: 19 - 21. [4] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 127. [5] المصدر نفسه، ص: 229. [6] المقدمة العامة لمشروع العلاقات الدولية في الإسلام، ص: 7. [7] نظرية الفوضى الخلاقة وأثرها على الأمن العربي، رسالة ماجستير، إعداد أسامة خليل محمود الكرد، إشراف الدكتور عبدالناصر محمد سرور، أكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا، جامعة الأقصى - غزة، فلسطين، 1437هـ - 2016م، ص: 13. [8] المصدر نفسه، ص: 11. [9] المصدر نفسه، ص: 234. [10] المحافظون الجدد والفوضى البناءة، النموذج اللبناني، تيري ميسان، 7/ 8/ 2006، نقلا عن الموقع: https://Loww.yoam7.com/ story/2016/2012/ [11] برنارد لويس ومشروع تقسيم الشرق الأوسط بين الماضي والحاضر، علي بشار بكر أغوان، كلية العلوم السياسية، جامعة النهرين، دنيا الوطن، تاريخ النشر 27/ 7/ 2011، نقلًا عن الموقع: https://pulpit.alwatanvoice.com/ [12] الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق، ص: 217. [13] الحكومة الإسلامية رؤية تطبيقية معاصرة، عبدالمجيد يوسف الشاذلي، دار الكلمة للنشر، القاهرة - مصر، ط1، 1433هـ - 2012م، ص: 213. [14] ينظر: www.almrsal.com/post/699400 ، تاريخ النشر 8/ 9/ 2018. [15] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة، والمفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، مارتن غريفيش وتيري أوكالاهان، مركز الخليج للأبحاث، دبي - الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2008، ص: 488. [16] العلاقات الدولية دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والتاريخ والنظريات، ص: 29. [17] إدارة الصراعات وفض المنازعات، ص: 139. [18] قراءة في كتاب نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع، ص: 129. [19] الزلزال السوفيتي، محمد حسنين هيكل، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط2، 1990، ص: 8. [20] دور الأطراف الخارجية في النزاعات الدولية دراسة حالة النزاع في إقليم دارفور 2003 - 2014، ص: 27. [21] النظرية السياسية المعاصرة، ص: 110. [22] البعد الديمغرافي في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، ص: 27. [23] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة، وفهم العلاقات الدولية، ص: 156. [24] نظرية الواقعية في العلاقات الدولية دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة، ص: 372. وتحليل العلاقات الدولية، كارل دويتش، ترجمة شعبان محمد محمود شعبان، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1983، ص: 232، وفهم العلاقات الدولية، ص: 216. [25] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة. [26] تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس، أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، إعداد عديلة محمد الطاهر، إشراف الدكتور عبدالناصر جندلي، جامعة الحاج لخضر - باتنة 2014 - 2015، ص: 388. [27] العلاقات الدولية عالم واحد، نظريات متعددة. [28] تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس، ص: 168. [29] العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة.
مسجدنا الأقصى مَسْرى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ومِنه مِعْراجُه إلى السماء. أولى القبلتين وثاني المسجدين. عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: المسجدُ الأقصى. قلتُ: كم بينهما؟ قال أربعون سنةً [1] . إنه ميراثُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ بَنَاهُ آدمُ عليه السلام وعمَّرَه إبراهيمُ عليه السلام ثم إسحاق ويعقوب عليهما السلام من بعده وجدَّد بِناءَه وهيَّئَهُ للعبادة سليمانُ عليه السلام، وعاش في أكنافه داود وزكريَّا ويحي وعيسى عليهم السلام. والمسلمون هم ورثة جميعِ الأنبياء، يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: « أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ » [2] . وقال-صلى الله عليه وسلم-: « أنا أولى الناس بعيسى بنِ مريمَ في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعَلَّاتٍ. أمهاتُهم شتى، ودينُهم واحدٌ » [3] . والمعنى: أن دينَهم واحدٌ وشرائعَهم مختلفة، كما ينتسب الأخوةُ من أمهاتٍ مُختلفاتٍ لأبٍ واحدٍ. فجميعُ الأنبياءِ والرسلِ دينُهم الإسلام؛ دينُ الله -عز وجل-؛ توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]. فنوحٌ-عليه السلام-يقول لقومه: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 72]. وإبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام-يقولان في دعائهما: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [البقرة: 128]. ويعقوب -عليه السلام- يوصِي أبناءَه قائلاً: ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]. وأبناء يعقوب -عليه السلام- يجيبون أباهم: ﴿ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]. ويوسف – عليه السلام - يقول: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]. وموسى– عليه السلام - يقول لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84]. والحواريون يقولون لعيسى–عليه السلام-: ﴿ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]. وسليمان – عليه السلام - يقول في رسالته لسبأ: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين ﴾ [النمل: 30]. فالدين عند الله هو الإسلام؛ وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. والله – عز وجل - قد بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم - بأتمِّ الإسلام وأكملِه، بعثَه بالتوحيدِ وبالبراءةِ من الشرك، وبشريعةٍ كاملةٍ صالحةٍ لكلِّ زمانٍ ومكان، شاملةٍ لكل شئون الحياة، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المادة: 3]. وقد جمع الله ببيت المقدس جميعَ الأنبياءِ والرسل مِن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وصلى بهم نبيُّنا إمامًا ليَعْلَمَ الناسُ أنَّه المقدَّم والإمام المعظم، وأنه الوريث وأمَّته من بعده لهؤلاء الأنبياء. إن الوراثةَ الحقيقية لجميعِ الأنبياءِ والرسلِ مبْنِيَّةٌ على العقيدة والإيمان لا على القومية أو الأنساب. ولهذا استحق بنوا إسرائيل الأرضَ المقدسة في زمن موسى- عليه السلام - لمَّا كانوا على الإسلام والإيمان، لكنهم لمَّا بدَّلوا دينَهم وكفروا برسلِهم وقتلوا أنبياءَهم وحرَّفوا كتاب ربِّهم؛ ما عاد لهم حقٌ في المسجد الأقصى، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]. جعلَ اللهُ وراثةَ الأرضِ لعبادِهِ المؤمنين الموحِّدين، ولهذا أورثَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه أراضي يهودِ المدينة وديارهم، قال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27]. ولهذا أيضًا خرج الصحابةُ - رضي الله عنهم - فاتحين لمشارقِ الأرضِ ومغاربِها ولم يكونوا قبل ذلك مالكين لشيء منها. فالأرض كلها مآلها لأهل الإسلام، وسيحصل هذا في آخر الزمان عندما ينزل عيسى - عليه الصلاة والسلام -ويحكم الأرض كلها بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن من تبقى من أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]. وقال صلى الله عليه وسلم: « واللهِ! ليَنزِلَنَّ ابنُ مريمَ حَكَمًا عادلًا. فلَيَكسِرَنَّ الصليبَ. ولَيَقتُلَنَّ الخِنزيرَ. ولَيَضَعَنَّ الجِزيَةَ » [4] . قال صلى الله عليه وسلم: « إنَّ اللهَ زوَى لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها فإنَّ أُمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زوَى لي منها » [5] . إنَّ المسجدَ الأقصى مسجدُنا ولن ننساه ولن نتنازل عنه، هذه عقيدتُنا، هذه قضيَّتُنا ليست قضية فلسطين ولا قضية العرب ولا قضية الشرق الأوسط، إنَّها قضيةُ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ على وجه الأرض. هل سيعود لنا المسجد الأقصى الذي بَشَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفتحه قبل أن يُفتح فَقَال: « اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ »، ثم ذكر منها: « فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ » [6] ؟ (نعلم أن المسجد الأقصى سيعود لأننا نؤمن بخبر الصادق المصدوق، فلقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة الإسلامية التي على منهاج النبوة ستعود للمسلمين وأن عودتها ستكون مِن بيت المقدس وأكنافه. سيعود بعد ملحمة مع اليهود، ينطق فيها الحجر والشجر وينادي: « يا مُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ ورائي، فاقْتُلْه » [7] . وأخبرنا بأن دين الله سيعم الأرض أو أكثرها، وليس بيت المقدس فحسب، فقال صلى الله عليه وسلم: « ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ » [8] . ولكن متى سيكون ذلك؟ الجواب: متى عُدْنَا إلى أسبابِ عزِّنا ومجدِنَا؛ عادَ لنَا بيتُ المقدس. فلقد تركنا أسبابَ العزِّ والنصرِ وانحرفنا عن طريق التمكين، فضللنا السبيل؟ وما هو طريق النصر والتمكين يا تُرى؟ أجاب عمر بن الخطاب عن هذا لسؤال يوم فتح بيت المقدس؛ فقال: « إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله » [9] . هذا هو السبب الحقيقي للنصر؛ التمسك بالإسلام، واتِّباع كتاب الله وسنَّة نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-عمليًّا وواقعيًّا، وليس بالكلام ولا بالادعاءات، فلنتبع الكتاب والسُّنة بفهم سلفِ الأمَّة وعلى طريقة الصحابة -رضي الله عنهم-الذين نصرهم الله، ومكَّن لهم في الأرض [10] . لن يعودَ إلينا المسجدُ الأقصى حتى نرفعَ لواءَ الشريعةِ فوقَ رؤوسِنا وندوسَ بأقدامِنَا كلَّ المناهج التي تخالف منهج الله -عز وجل-" الليبرالية، والعلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية والقومية والديمقراطية " وغيرها من مناهج المحتل. الليبرالية التي تعني الحرية المطلقة دون قيدٍ من دينٍ أو شرع، وشعارُها: " أنتَ حر ما لم تضر"، افعل ما تشاء ما لم تتعدَّ على حريَّات الآخرين! وتحت هذا الشعار رأينا حرية الكفر والإلحاد تحت مسمى الفكر والإبداع، وحرية الفسق والخلاعة تحت مسمى حرية المرأة، رأينا حرية خلع الحجاب، رأينا حرية الاختلاط في العمل والمواصلات والمدارس والجامعات وداخل البيوت والأسر، رأينا حرية العلاقات بين الشباب والبنات ونشر الفواحش والمنكرات والكلام عن الحب والغرام في المسلسلات والأفلام تحت مسمى حرية الفن والإمتاع. الليبرالية والعلمانية صناعة غربية، نادى بها الغرب نتيجة لاستبداد الكنيسة وسيطرتها على الحياة في أوربا في القرن السادس عشر، الكنيسة كانت تستولي على أموال الناس وتبيع لهم صكوك الغفران، وتحارب العلم وتقتل العلماء، تحلِّل وتحرِّم كما تشاء، الكنيسة هي من تعيِّن الحاكم الذي يحكم -كما يدَّعون- بأمر السماء (نظرية الحق الإلهي) وعلى الشعب السمع والطاعة العمياء. ثار الناس على هذا الظلم والطغيان، نادَوْا بالتحرر من سلطان الكنيسة ونبذوا الدين، نادَوْا بالعلمانية التي تعني فصل الدين عن الحياة، أن يكون الدين مجرد شعائر، أن يكون معزولا داخل جدران الكنائس والمعابد. هل نحن المسلمون نحتاج ذلك وعندنا الإسلام؟ هم نبذوا دينَهم بعد ما حرَّفوه أما نحنُ فدينُنَا دينُ الحقِّ و العدل ، دين الله الذي ارتضاه لعباده ، توحيد الله –عز و جل و إفراده بالعبادة و اتِّباع رسوله -صلى الله عليه و سلم- ليس فيه ظلمٌ ولا استبداد ولا اضطهاد ولا محاربة للعلم ولا تناقض مع العقل المهتدي بنور الشرع ، فالحاكم والمحكوم كلاهما له حقوق وعليه واجبات، وروي أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : اتق الله يا عمر، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله، فقال له عمر-رضي الله عنه- : دعه فلْيَقُلْهَا لي، نِعْمَ ما قال، ثم قال عمر :" لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم"، هذا هو الإسلام؛ دينُ العدل والمساواة، دينٌ صالحٌ لكلِّ زمانٍ و مكان ، شاملٌ لكلِّ أمورِ الحياة ، إنَّه الصراط المستقيم و الروح الحقيقية و النور الهادي، قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. هذا هو مصدر عزَّتِنا وقوَّتِنا الذي لابد أن نعرفَه جيدًا. ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]. لن يعودَ المسجدَ الأقصى حتى نعودَ إلى دِينِنَا، حتى نطهِّرَ قلوبَنا من رجسِ الشهواتِ والشُبُهات، حتى نصحِّحَ عقائدَنَا ونصلحَ عبادتَنا ونحسِّن أخلاقنا ونطهِّرَ قلوبَنَا من الرياء والغلِّ والحسد، حتى نقدِّمَ أمر الله على كل أحد، حتى نبذل لهذا الدين، حتى نعرفَ لله حقَّه ونوقِنَ بوعدِه، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]. واجبنا نحو الأقصى! [11] !: هل القضية تكون بتفريغ شحنة الغضب بحرق العلم الإسرائيلي أو بهتافاتٍ وشعاراتٍ رنانة، أو مظاهرات ووقفات احتجاجية، أو استنكارات وشجب وتنديد وبيانات، أو المطالبة بطرد السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية مع العدو الصهيوني والأمريكي أو في المقاطعة الاقتصادية للمنتجات اليهودية والأمريكية، وعدم التطبيع معهم وفقط؟! هل هذا كافيًا أم أن هناك واجبًا أعظم نحو مقدساتنا وثوابتنا الدينية في وسع كل فردٍ مِن أفراد أمتنا الإسلامية؟ ومن هذه الواجبات التي في استطاعتنا: 1 - إحياء القضية، ومكانة القدس والأقصى في نفوس أبنائنا وشبابنا والأجيال القادمة؛ حتى لا تُنسى، وأن نفهمها على وفق شرع الله؛ أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع دين وعقيدة وأن دفاعنا عن الأقصى ليس لأجل الأرض أو العروبة وإنما هو لإعلاء كلمة الله في الأرض. 2- الاهتمام بأمر المسلمين والتألم لآلامهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » [12] . 3- الدعاء: قال الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر:60]، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة:186]، وقال صلى الله عليه وسلم: « الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ » [13] ، فالله هو القوي القدير العزيز الذي لا يعجزه شيء. 4- التوكل على الله والافتقار والذل، والانكسار له والتضرع، وطلب العز منه، وليس مِن الشرق أو الغرب: قال الله عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، وقال: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]. 5- الطاعة والصلاة والإخلاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّما يَنْصُرُ اللهُ هذه الأُمَّةَ بِضَعِيفِها؛ بِدَعْوَتِهمْ وصلاتِهِمْ وإِخْلاصِهِمْ » [14] ، وقال عمر بن الخطاب t : "إننا ننتصر على عدونا بطاعتنا لله ومعصية عدونا له، فإذا استوينا في المعصية كانت لعدونا الغلبة بالعدد والعدة"، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]. 6- بث روح الأمل والرجاء والثقة في أن المستقبل للإسلام واليقين في وعد الله وعدم اليأس والإحباط ودفع روح الهزيمة النفسية: قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51]. وقال تعالى: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص:83]. 7- إحياء روح الجهاد: قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم » [15] ، وقال صلى الله عليه وسلم: « مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ » [16] . 8- مجاهدة النفس قبْل مجاهدة العدو، فمن خان حيَّ على الصلاة، خان حيَّ على الكفاح، خان حي على الجهاد: قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: « وأفضلُ المهاجرين من هجر ما نهى اللهُ تعالى عنه، وأفضلُ الجهادِ من جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ » [17] ، هل نزعت من قلبك شهوات النفس وأهوائها وجاهدتها أولاً حتى تستطيع أن تجاهد أعداء الله في الخارج، وأخرجت من قلبك حب الدنيا وملذاتها وكراهية الموت في سبيل الله. وكما قيل: " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم وفي بيوتكم، تقم على أرضكم ". 9- ترك الذنوب والمعاصي: فما نزل بلاء إلا بذنبٍ، وما رفع إلاّ بتوبة، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ألا نستحيي مِن أنفسنا على ما يحدث في مجتمعنا مِن إدمان الخمر والمخدرات، والتدخين والشيشة، وسماع الموسيقى ومشاهده القنوات الإباحية، وتضييع الصلوات ومعاكسة الفتيات، والرقص والمجون... ثم نقول أين النصر؟! ونتساءل؛ لماذا يحدث للمسلمين كل ما يحدث في كل مكان؟ دماء تسفك، وبلاد تحتل، وبيوت تهدم، وأمان يضيع ؟! 10- إحياء قضية الولاء والبراء، والحب والبغض على أساس العقيدة والدين، وليس الأرض والتراب: قال الله -تعالى-: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة:120]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]. وأخيرًا لابد لنا جميعًا من الدعوة إلى الله والعمل للدين، وحمل همّ الإسلام، والبذل والتضحية بالنفس، والمال، والوقت، وترك الانشغال بالدنيا والشهوات. إن قضية العمل للدين، والبذل في سبيل الله، وعودة الخلافة، وعودة هذه الأمة لقيادة الدنيا بدين الله عز وجل، وتعبيد الناس لرب الناس عز وجل ؛ ليست مسئولية شخص بعينه، وإنما مسئولية كل مسلم على حسب طاقاته وقدرته. في الختام يبشِّرُنَا نبيُّنَا صلى الله عليه وسلم بنصرِ الله ووعدِه، وبأن القدس -بإذن الله- سوف تكون مقبرةً لليهود، وحينها يؤذن لفجر الإسلام أن يعود، كما قال الصادق المصدوق: « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيُّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ » [18] . فاللهم طهِّر الأقصى مِن دنسِ اليهود، واجمعْ كلمةَ المسلمين، ووحِّد صفهم، وانصرهم على عدوِّكَ وعدوِّهِم. اللهم أقر أعينّنَا بنصرةِ دينِك وكتابِك وعبادِك المؤمنين، واحفظ مسجدَنَا الأقصى يا ربَّ العالمين. [1] صحيح البخاري (3366)، صحيح مسلم (520)، صحيح ابن حبان (6228). [2] صحيح البخاري (3397). [3] صحيح البخاري (3443)، صحيح مسلم (2365). [4] صحيح مسلم (155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . [5] صحيح ابن حبان (7238)، من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . [6] صحيح البخاري (3176) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. [7] رواه البخاري (3593)، ومسلم (2921) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . [8] مجمع الزوائد (6/ 17)، رجاله رجال الصحيح . [9] رواه الحاكم (1/ 130)، وصحَّحه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصَّحيحة)) (1/ 117) على شرط الشيخين . [10] هل يعود بيت المقدس للمسلمين، الشيخ سعيد محمود، بوابة الفتح الإلكترونية، (بتصرف). [11] واجبنا نحو الأقصى، د. أحمد حمدي، بوابة الفتح الإلكترونية، بتصرف وبعض إضافات. [12] صحيح مسلم (2586) . [13] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجة (3828)، وصححه الألباني. [14] صحيح الجامع (2388). [15] أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887)، والطبراني في مسند الشاميين (2417)، وصححه الألباني. [16] صحيح مسلم (1910) . [17] صحيح الجامع (1129) . [18] صحيح مسلم (2922).
السردية في الخطاب الترسلي العربي الحديث لطنف بن صقر العتيبي صدر حديثًا "السردية في الخطاب الترسلي العربي الحديث مقاربة سردية تداولية"، تأليف: د. "طنف بن صقر العتيبي"، نشر: "دار ملامح للنشر والتوزيع" بالإمارات. اعتنت هذه الدراسة بمعرفة خصائص الرسائل الأدبية في الأدب العربي الحديث والمعاصر، ودراسة أنماط الرسائل السردية من حيث النوع والغرض وعلاقات التواصل بين المتخاطبين، ومنزلة كل من المتكلم والمخاطب في الرسالة، ومن ثم معرفة مدى التكافؤ الثقافي بينهما. بالإضافة إلى ذلك، نستطيع من خلال هذه الدراسة معرفة خصائص الحكاية ومقوماتها السردية ضمن إطار الخطاب التراسلي، وكذلك إدراك خصائص الخطاب السردي، والكشف عن المؤشرات الزمنية الصريحة أو الضمنية الدالة على أثر الزمن في التلفظ بخطاب الرسالة. ولعل كل هذا ينقلنا إلى الكشف عن دور المرسل بوصفه راويًا أو محاورًا يتحكم في دفَّة السرد، زد على ذلك أن هذه الدراسة يمكن لها أن تبين لنا جانبًا مهمًّا يختص بقضية التداخل الأجناسي، خاصة إذا ما علمنا أن الرسالة لم تحتل موقعًا أجناسيًّا واضحًا في الأدب العربي ولم تحظ بدراسة نقدية وافية. ونجد أن الخطاب الترسلي المعاصر حظي بجدالات فكرية عديدة حول طغيان صوت الراوي أحيانًا في القصص الحديث، ولعل هذه الإشكاليات هي التي وجهت السرد الحديث نحو تقليم مخالب الراوي، والحد من صولاته وجولاته في النص، بإخماد صوته وإعلاء صوت الشخصيات، فيطغى الحوار ( بأنواعه المختلفة ) على السرد، وتضحى الرواية منطوقة ومعروضة على لسان الشخصيات لا مسرودة. والمؤلف هو د. "طنف بن صقر العتيبي" رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية بالمجمعة، له من البحوث: • "المقام التخاطبي في كتاب إحكام صنعة الكلام لأبي القاسم الكلاعي: مقاربة تداولية". • "أنماط الوصف ووظائفه في كتاب التاج في أخلاق الملوك للجاحظ: مقاربة إنشائية".
مصادر الحكم القضائي في الشريعة والقانون لمحمد عبدالرحمن الشماع صدر حديثًا "مصادر الحكم القضائي في الشريعة والقانون"، تأليف: د. "محمد عبدالرحمن الشماع"، نشر: "دار الفكر للنشر والتوزيع" دمشق- سوريا. وهذا الكتاب يبحث مسألة تعدُّد القوانين في الأنظمة الدستورية المعاصرة، بين القوانين الإلهية والقوانين البشرية، فما هو موقف القاضي عند تعارض الحكم الشرعي ونصِّ القانون؟ وما هو موقفه إذا وجد نص القانون لا يأتلف مع الحقِّ والعدالة في إحدى الوقائع؟ هل يمتنع القاضي عن تطبيق هذا النص لمخالفته الحكم الشرعي؟ أم عليه أن يتبع حرفية القانون، أو يمشي مع مقصد الشارع؟ هذه التساؤلات الإشكالية وغيرها يتطرق إليها هذا الكتاب، طارحًا الحلول والتطبيقات العملية بناء على الأحكام القضائية المعاصرة. وهو كتابٌ مرجعي وضروري لذوي الاختصاص، ولعامة القراء الذين يهتمون بهذا الموضوع. وجاء الكتاب في مقدمة وثلاثة فصول، تندرج تحتها عدة مباحث ومطالب على النحو التالي: الفصل الأول تمهيدي: مفهوم الحكم القضائي وشروطه: المبحث الأول: القضاء والأحكام تمهيد في تعريف القضاء. ثانيًا - القضاء شرعًا. ثالثًا - مشروعية القضاء. رابعًا - مكانة القضاء في الإسلام وأهميته. المطلب الأول: تعريفات الحكم عامة، والحكم القضائي خاصة. الفرع الأول: تعريف الحكم في اللغة. الفرع الثاني: إطلاقات الحكم واصطلاحاته. التعريف المختار للحكم الشرعي. أنواع الحكم الشرعي. الفرع الثالث: تعريف الحكم القضائي. • الحكم القضائي في اصطلاح علماء القانون. المطلب الثاني: الصلة بين الحكم الشرعي والحكم القضائي، وأهم الفروق بينهما. المطلب الثالث: الفرق بين الفتوى والحكم القضائي. المطلب الرابع: الفرق بين الحكم القضائي وحكم المحكِّم. المبحث الثاني: شروط الحكم القضائي وبطلانه. المطلب الأول: شروط الحكم في الشريعة الإسلامية. الشرط الأول: أن تسبقه دعوى صحيحة. الشرط الثاني: أن تسبقه خصومة حقيقية. الشرط الثالث : أن يصدر الحكم من صاحب ولاية. الشرط الرابع: أن تتحقق في القاضي شروطه. الشرط الخامس: أن يوجد سبب للحكم ووفق إجراء معين. الشرط السادس: أن يكون هذا الحكم صادرًا بصيغة الإلزام. الشرط السابع: أن يكون الحكم واضحًا في تحديد المحكوم والمحكوم له. الشرط الثامن: أن يصدر الحكم في حضرة الخصوم. الشرط التاسع: أن يكون الحكم موافقًا للحكم الشرعي غير مخالف للكتاب أو السُّنة - من الأحكام التي لم تُنسخ - أو الإجماع أو القياس الجلي. المطلب الثاني: شروط الحكم في القانون الوضعي. الفصل الثاني: الأُسس والمصادر التي يبنى عليها الحكم القضائي: المبحث الأول: مصادر الحكم القضائي في الشريعة الإسلامية. تمهيد: في معنى الشريعة الإسلامية ومعنى الفقه الإسلامي والموازنة بين مفهوم الشريعة ومفهوم الفقه. المطلب الأول: الحاكم والمشرع في الأحكام عند علماء المسلمين. المطلب الثاني: مصادر الحكم في التشريع الإسلامي. النوع الأول: مصادر الحكم القضائي للقاضي المجتهد. • المصادر الأساسية. • المصادر التبعية المختلف فيها. النوع الثاني: مصادر الحكم القضائي للقاضي المقلد. المبحث الثاني: الأدلة على وجوب أن يكون الحكم القضائي موافقًا للحكم الشرعي، والرَّد على المخالفين في ذلك. المبحث الثالث: مصادر الحكم القضائي في القانون ومصادر القاعدة القانونية. • تمهيد: تعريف القانون الوضعي. • أنواع التشريع الوضعي. • مصادر الحكم في القانون. المبحث الرابع: الموازنة بين مصادر الحكم القضائي في الشريعة والقانون. الفصل الثالث: العلاقة بين الأحكام الشرعية وأحكام القوانين. والمؤلف د. "محمد عبدالرحمن الشماع" هو أستاذ في الجامعة الافتراضية السورية، حائز على دكتوراه في الشريعة الإسلامية تخصص الفقه والأصول من جامعة دمشق، من مؤلفاته: • "الملا علي القاري: فهرس مؤلفاته وما كتب عنه". • "إعداد البحث الأدبي".
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها المحدد الثاني الإرهاب (1) المصطلح من محددات العلاقة بين الشرق والغرب هذه الظاهرة العالمية التي تعارف الناس عليها واختاروا لها مصطلح "الإرهاب"، المقابل السريع للمصطلح الأجنبي Terrorism ، الذي كان الأولى أن ينظر إليه على أنه أقرب إلى العنف منه إلى الإرهاب،ويمكن الادعاء أن الذين تصدوا للمصطلح الأجنبي وأعطوه المقابل العربي "الإرهاب" لم يكونوا دقيقين في الترجمة، لا سيما وأن إشاعة هذا المصطلح العربي قامت على أكتاف الإعلام، الذي روج لهذا المصطلح من دون النظر إلى الدقة في النقل عن المقابل الأجنبي [1] . ولم يتفق دوليًّا على تعريف الإرهاب، رغم محاولات البعض الوصول إلى صيغة مشتركة تجمع شتات الأفكار التي تتضمنها التعريفات الكثيرة، التي فاقت المائة وعشرة (110) تعريفات، بحيث قيل: إن وصف ظاهرة الإرهاب أسهل من تعريفها [2] . وهذا الاعتراض نابعٌ من أن المفهوم الإسلامي للإرهاب يختلف تمامًا، في المؤدى، عن المفهوم الشائع الآن؛ ذلك أن المسلمين مطالَبون بإعداد ما استطاعوا من قوة وعتاد ليرهبوا به عدو الله وعدوهم: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، والمعلوم لدى علماء الأمة المعتبرين أنه ليس المقصود هنا أن هذا الدين يدعو إلى الإرهاب بهذا المفهوم المتداول إعلاميًّا؛ ذلك أن الإسلام لا يقر هذا الإرهاب بحال من الأحوال،وقد فهم الناس الإرهاب على أنه استخدام العنف في التدمير والهدم والترويع والتعرض للأبرياء، من دون التفريق بين المستهدف وغير المستهدف، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ والشجر والبِيَع والكنائس والمنشآت المدنية والمنازل. ويكفي لإثبات أصالة هذا المنهج العودة إلى وصايا أبي بكر الصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما سنَّه لقُوَّاده في الغزوات التي انطلقت من المدينة المنورة، وما يسنه وإخوته من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم هو من سنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم ((...فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا، عَضُّوا عليها بالنواجذ؛ فإنما المؤمن كالجمل الأَنِفِ حيثما انقيد انقاد)) [3] ، وكذا وصيةُ خليفةِ خليفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إلى الفاتحين من القيادات العسكرية الإسلامية، فلا إرهاب في ذلك بالمفهوم الجديد المتداول حاليًّا للإرهاب، فلا عنف ولا ترويع ولا هدم ولا تعذيب ولا اغتصاب ولا اجتياح، ولا إهانة للمعابد ومؤسسات المجتمع المدني كافة. هذا في حال المواجهة الحربية التي تكون في أوج الرغبة في النصر واختصار الطريق إليه، ولكن ليس على حساب كرامة الإنسان والمساس بالضرورات الخمس التي أمر الله بحفظها له في كل الأحوال: النفس والمال والدين والنسل والعقل،وهي التي كما يقول الشاطبي: "لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة،وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين" [4] ،وهي التي، كما يقول أبو حامد الغزالي: "تتضمن حفظَ مقصودٍ من المقاصد الخمسة، وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل، التي جاءت الشرائع بالمحافظة عليها" [5] . أما في حال السلم، فالوضع أدق وأوضح منه في حال الحرب، فليس هناك ما يسوغ الترويع والعنف في أي حال [6] . ومنذ أن وقعت أحداث الحادي عشر من شهر أيلول/ سبتمبر من سنة 2001م (22/ 6/ 1422هـ) والأطروحات تترى حول موضوع لم يتفق عليه بعد، من حيث المفهوم، وإن اتفق عليه - تقريبًا - من حيث اللفظ لمصطلح "الإرهاب"، مع أن بعض الكتاب المسلمين لا يزالون مترددين في قبول المصطلح، كما مر بيانه في الوقفة السابقة؛ ذلك لأنه مصطلح أخف وطأة من المفهوم الذي يحمله، فهو اسم لم يوافق مسماه، ولفظ لم يطابق معناه، كما أنه ورد في القرآن الكريم المنزَّل من خالق عظيم، مما يعني أن له معنًى ومفهومًا غير المفهوم الذي يطلق المصطلح عليه، فإرعاب الناس وقتل الأبرياء وترويع الآمنين، كلُّ هذا أكثر من مجرد إرهاب. وعلى أي حال، يبدو أن المصطلح قد طغى على هذا المفهوم، بحيث أصبح أي نشاط غير عادي داخلًا في هذا المفهوم [7] . وإذا ما سلمنا جدلًا بالمصطلح المفهوم الحديث لهذه الكلمة "الإرهاب"، فإن علينا أن نتخلى عن المصطلح الشرعي للإرهاب؛ ولذا كان لزامًا علينا دائمًا أن تُحدَّد هذه الكلمة بمحدِّدات تنقلها عن المفهوم الشرعي،وكان الأولى أن نبحث عن المصطلح العربي المقابل للمصطلح الأجنبي، الذي لن يكون بحال "الإرهاب"، بل ربما "العنف" أو "التخريب"، أو أي مصطلح عربي ذي دلالة تخريبية ترويعية عنيفة، مع أنه حين ينقل إلى لغات أخرى يخشى ألا يُلتفَتَ إلى ذلك السعي للتفريق بين المفهوم الشرعي والمفهوم الإعلامي. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، إشكالية المصطلح في الفكر العربي: الاضطراب في النقل المعاصر للمفهومات - الرياض: المؤلف، 1431هـ/ 2010م ، ص 250. [2] انظر: أمل يازجي ومحمد عزيز شكري ، الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن - دمشق: دار الفكر، 1423هـ/ 2002م - ص 93. [3] الحديث رواه ابن ماجه في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين حديث رقم: 34 ، بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي . [4] إبراهيم اللخمي الشاطبي ، الموافقات في أصول الأحكام/ تعليق محمد خضر حسين، تصحيح محمد منير - القاهرة: المطبعة السلفية، 1341هـ - 2: 4. [5] انظر: محمد بن محمد الغزالي، أبو حامد ، المستصفى من علم الأصول - 1: 287. [6] انظر: كمال مجيد ، العنف: دراسة لأثر العولمة على الشعوب المقهورة - لندن: دار الحكمة، 2001م - ص 217. [7] انظر: جلبير الأشقر ، صدام الهمجيات: الإرهاب، الإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده - نقله إلى العربية: كميل داغر - بيروت: دار الطليعة، 2002م - ص 157.
التعامل مع وباء كورونا المستجد (كوفيد 19) من منظور شرعي مقدمة: الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، سبحانه بهرت عظمته قلوب العارفين، وأظهرت بدائعه لنواظر المتأملين، نصب الجبال فأرساها، وأرسل الرياح فأجراها، ورفع السماء فأعلاها، وبسط الأرض فدحاها، الملائكة من خشيته مشفقون، والرسل من هيبته خائفون، والجبابرة لعظمته خاضعون، ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [الروم: 26]، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، القيوم الصمد، الذي ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4]، لا مغيثَ غير الله، ولا مجيرَ غير الله، ولا معين غير الله، ولا ناصر غير الله، ولا رافع للبلاء غيره، ولا مانع لِما أعطى، ولا معطيَ لِما منع، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين؛ أما بعد: فالأحداث المتجددة في حياة الناس كثيرة، يحتاج الناس فيها إلى معرفة رأي الشرع، والعلماء بدورهم يقومون باستنباط الأحكام المناسبة من نصوص الشرع للحالة التي يحياها الناس؛ إيمانًا منهم أن الشريعة بشمولها، وكمالها، وتمامها، وعمومها، وخلودها، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أمور الحياة إلا وأشارت إليها على وجه التفصيل أو الإجمال، أو التنصيص على الاستعانة بأهل الاختصاص في ذلك، والرجوع إليهم وسؤالهم، وجلَّ الله الذي يقول: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]. وإذا كان الإنسان هو المقصود الأول بالشريعة أمرًا ونهيًا، فكان هو المقصود بالحماية والحفاظ عليه، وإزالة الضرر الواقع عليه، حتى يستطيع القيام بالتكاليف الشرعية الموجَّهة إليه. فجاءت الشريعة تحافظ على الكليات الخمس، وشرعت الحدود من أجل حمايتها، ومَنْعِ ما يكدرها، والحفاظ على النفس البشرية، و(من جملة الكليات الخمس: النفس، والدين، والنسب، والعقل، والمال، وشرعت الحدود حفظًا لهذه الأمور) [1] . وجاءت التعاليم الشرعية ثرية في هذا الباب حتى شملت الحديث عن صحة الإنسان، والتعامل مع الأمراض والأوبئة، وجعلت النظافة بأنواعها مبدأً عامًّا من المبادئ الإسلامية ينبغي الحرص عليه سلوكًا ونظامًا، والعمل على إيجاد البيئة الصالحة البعيدة عن التلوث حتى يُحاط الإنسان بسياج من الوقاية من الأمراض والأوجاع المهلكة، والتي هي نتيجة طبيعية لمثل هذه المواطن. وحتى يتعرف الناس على جمال الشريعة الإسلامية، وأنها نظام أحاط بأمور الدنيا والآخرة، وتصحيحًا لفهم من أخطأ فقَصَرَ الشريعة على أمور طقوسية شعائرية فقط، لا تمس دنيا الناس، وحصر الإسلام في علاقة الإنسان بربه فقط - وهو فهم قاصر ظالم لما جاء به الوحي الشريف - فكان هذا البحث ليجلي بوضوح حاجة الناس إلى السير في ضوء الشريعة، لصلاح عاجلهم وآجلهم. فجاء البحث بعنوان: التعامل مع وباء كورونا المستجد (كوفيد - 19) من منظور شرعي. وينقسم إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: التدابير الوقائية في الشريعة الإسلامية. المبحث الثاني: الحث على التداوي والعلاج في الشريعة الإسلامية. المبحث الثالث: كيفية التعامل مع وباء كورونا من منظور شرعي. وخاتمة تشتمل على أهم النتائج والتوصيات. التمهيد: أُصيب العالم أجمع شرقًا وغربًا، عربًا وعجمًا، على اختلاف لغاته، وألوانه، وأجناسه، وأديانه، وأطيافه، ومذاهبه، بوباء ( كورونا ). وهو كما عرَّفته منظمة الصحة العالمية: (مرض كوفيد - 19 هو مرض معدٍ يُسبِّبه آخر فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات كورونا، ولم يكن هناك أي علم بوجود هذا الفيروس الجديد ومرضه قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ ديسمبر 2019م، وقد تحول كوفيد - 19 الآن إلى جائحة تؤثر على العديد من بلدان العالم) [2] . وبعيدًا عن البحث في الأسباب التي نتج عنها، وهل هي طبيعية، أم صناعية، أم شرعية، فهذا ما لم يستطع أحد الجزم به إلى الآن، لأن كل واحد له منطلقاته الفكرية التي تصدر عنها آراؤه وأفكاره واتجاهاته، والواقع لم ينتصر لأحدها. فإذا قلنا: إن مردَّ الأمر صناعي من قبيل الحرب البيولوجية، فلم لم تتحرز منه دول الإنتاج والتصدير؟! وإذا قلنا: إن السبب شرعي من قبيل غضب الله على عباده، فلِمَ لم يُفرِّق بين المؤمن والكافر؟! فلقد أصاب الدول الإسلامية وغيرها على حد سواء. وبين هذه الحيرة والاضطراب في التفسيرات، وفي البحث عن الحلول والعلاج، ينبغي أن يكون للمؤمن موقف مختلف؛ انطلاقًا من مرجعيته الدينية الإسلامية؛ لأن للدين موقفًا ظاهرًا تجاه النوازل والمستجدات التي تواجه الإنسان. لقد جاء الإسلام ليشمل شؤون الدين والدنيا معًا، واشتملت أوامره على أحكام حاز بها قصب السبق في أمور الطب والعلم، ولا يزيده مرور الأيام إلا تصديقًا لِما جاء به. فكان للإسلام دور وقائي قبل دخول المرض ودور علاجي بعد الإصابة به، وأحكام لكل نازلة على حسب زمانها ومكانها، وذلك على النحو الذي يفصله هذا البحث. المبحث الأول: التدابير الوقائية في الشريعة الإسلامية: التدابير من دبَّر الأمر؛ بمعنى: ساسه ونظر في عاقبته [3] . والوقاية: ما وقيت به الشيء، وصُنْتُه وسترته عنه. وإذا كان تعريف الطب الوقائي هو : العلم المتعلق بمنع انتشار الأمراض الجرثومیة والنفسیة والعضویة؛ لتحسین أداء الأفراد والمجتمعات، وكل ما یقدمه العلم للحفاظ على الفرد جسمیًّا وسنيًّا، یسمى صحة الفرد، أما ما یقدمه للحفاظ على الجماعات والبیئة التي یعیشون فیها فیسمى صحة المجتمع . أما الطب الوقائي في الإسلام، فقد رست قواعده منذ ما یزید على أربعة عشر قرنًا من الزمان، یوم كان العالم یغطُّ في سبات عمیق، وقد جاءت هذه الأسس على شكل تعالیم عامة، تتضمن أوامرَ ونواهيَ، یمارسها المسلم تعبدًا لله تعالى، وإن كان لا یعلم حقیقة فوائدها الصحیة، وإنما یمارسها امتثالًا لأمر الله [4] . فلقد جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بالوقاية قبل العلاج، ومنع انتشار الأمراض أيًّا كان نوعها؛ حماية للإنسان من الهلاك جسدًا ونفسًا، فردًا، ومجتمعًا، ونجد هذا متفرقًا في إشارات من آيات القرآن الكريم، ونصوص صريحة من السنة النبوية، ومسائل كثيرة في كتب الفقه الإسلامي. ويؤكد هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: (وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها، ودفع آفاتها بطرق كلية قد وُكل تفصيلها إلى العقل الصحيح، والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه) [5] . في صور شتى أكتفي بذكرها دون ذكر نصوصها لشهرتها منها: 1- الأمر بالطهارة وضوءًا، وغسلًا، واستنجاءً للبدن، والثياب، والمكان، وغسل الآنية وتطهيرها من النجاسة. 2- الدعوة للمحافظة على الخصال الخمس، أو العشر على اختلاف النصوص في الزيادة والنقصان، وهي بمثابة قانون للنظافة الشخصية في أرقى معانيها. 3- الأمر بتطهير الآنية من النجاسات، والأمر بتغطيتها وعدم تركها عرضة للأمراض والأوبئة النازلة، أو الحشرات والهوامِّ. 4- النهي عن تلويث المياه، والبول في الماء الراكد أو في طريق الناس ومجالسهم. 5- الحث على تناول الأطعمة المباحة، والنهي عن الأكل من الأطعمة المحرمة، فالشريعة أحلَّت الطاهر النافع، وحرمت النجس الضار. 6- الالتزام بآداب الطعام والشراب، من عدم الإسراف في الأكل، وعدم الشرب من فيِّ السقاء، والتنفس خارج الإناء، وعدم النفخ فيه...؛ إلخ. 7- الالتزام بآداب العطاس عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بيده - أو بثوبه - وغض بها صوته)) [6] . وهنا يتجلى الإعجاز النبوي؛ حيث إن انتشار هذا المرض يكون عن طريق الفم كما أشارت منظمة الصحة العالمية: (وينتشر المرض بشكل أساسي من شخص إلى شخص عن طريق القطيرات الصغيرة التي يفرزها الشخص المصاب بكوفيد - 19 من أنفه أو فمه، عندما يسعل أو يعطس أو يتكلم) [7] . فمن رزقه الله حسن الفهم عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم استطاع أن يجد في الشريعة العلاج النافع والدواء الناجع. يقول عبدالحميد القضاة: (من یُرزَق تضلعًا في القرآن والسنة، یجد أن الإسلام لم یترك جزءًا من الطب الوقائي إلا وأشار إلیه بعمومیات، واضعًا بذلك الخطوة الأولى، تاركًا لعقل الإنسان ومختبراته أن یبحث على هداها [8] . المبحث الثاني: الحث على التداوي والعلاج في الشريعة الإسلامية: كما تعاملت الشريعة الإسلامية بالحث على الوقاية والاحتماء من المرض قبل وقوعه، وأخذ الاحتياطات اللازمة لذلك، حثَّت على العلاج والتداوي، وربط الأسباب بمسبباتها؛ طلبًا للشفاء، بل جعلت حقيقة التوكل لا تتم إلا بذلك، وأن تركه ينافي التوكل، وهذا من تنظيم الشريعة الإسلامية للحفاظ على النفس الإنسانية، وأن الإهمال في ذلك ليس من الشرع في شيء. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإنَّ تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا) [9] . فدور الشريعة الحفاظ على النفس البشرية، ودفع الاختلال الذي يقع عليها، أو المتوقع لها. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم) [10] . وجاءت أحاديث عديدة تحض الناس على التداوي والعلاج من الداء الذي ينزل بهم، وفي ذلك ردٌّ على من أنكر التداوي أو أهمل الأخذ بالأسباب، أو قلل من شأنها بحجة أن المرض قدر الله، فالعلاج أيضًا مما قدره الله عز وجل، والتوسط بين الطرفين أن يأخذ الإنسان بالسبب، ولا يعتقد فيه بذاته، ولا يعتمد عليه اعتمادًا يستغني به عن الله عز وجل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أُصيب دواءُ الداءِ، برأ بإذن الله عز وجل)) [11] . وفي الصحيحين: عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً)) [12] . وعن أسامة بن شريك، قال: ((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تداوَوا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهَرَم)) [13] . وفي لفظ: ((إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمه من علمه، وجهِله من جهله)) [14] . وهناك بعض القواعد الصحية التي أشارت إليها السنة النبوية؛ منها: قاعدة الحجر الصحي في الوباء العام: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، ((أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعون رجز أُرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه)) [15] . قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يُورِد ممرض على مصحٍّ)) [16] . النهي عن الدخول إلى الأرض الموبوءة أو الخروج منها: وذلك لئلا يُعرِّضَ الداخل نفسه للبلاء، وهو من باب حماية النفس عن الضرر والأذى. (وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حِكَمٍ: أحدها: تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها. الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد. الثالث: ألَّا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون. الرابع: ألَّا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك؛ فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم. الخامس: حمية النفوس عن الطِّيَرة والعدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطيرة على من تطير بها، وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية، والنهي عن التعرض لأسباب التلف) [17] . وأما منع المصاب من الخروج، ففيه حمل النفوس على الرضا بقضاء الله عز وجل، والتوكل عليه، والثقة به، وله مع ذلك الأجر العظيم لصبره واحتسابه. وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأول: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم [18] . المبحث الثالث: كيفية التعامل مع وباء كورونا من منظور شرعي: وفي إطار ما سبق ذكره لا بد من التعامل مع وباء كورونا من نواحٍ عديدة، فالطبيب يصدر عن مرجعيته الطبية، والداعية عن معلوماته الشرعية، وعالم الاجتماع والنفس عن دراسة المجتمعات ونفسيات أصحابها، والعمل على تهيئتها، وترويضها على التكيف مع الواقع والتعامل معه، وتحويل الخسائر إلى مكاسب. وإذا كانت الشريعة تشمل ذلك كله، فيكون الحديث على النحو الآتي: المطلب الأول: من الناحية العقدية والشرعية. المطلب الثاني: من الناحية الطبية. المطلب الثالث: وباء كورونا فوائد وثمرات. المطلب الأول: من الناحية العقدية والشرعية. أما الناحية العقدية: 1- الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومُرِّه، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. 2- أن الابتلاء سنة كونية أشار إليها القرآن الكريم في مواضع عديدة، وذلك للكافر استعتابًا، وللمؤمن ثوابًا. 3- أن التوكل على الله تعالى وهو من عبادات القلوب، لا بد فيه من الأخذ بالأسباب، وإلا صار تواكلًا مذمومًا، لا يقره الشرع. 4- المحافظة على الأذكار الشرعية - لا سيما في الصباح والمساء - مع الالتزام بالتعليمات الطبية؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الكلمات إذا أصبح وإذا أمسى: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي) [19] . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي)) [20] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك) [21] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من البَرَص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام) [22] . فالمسلم مع أخذه بالأسباب يعلم أن الله عز وجل هو الذي يشفي على الحقيقة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]. وأما من الناحية الشرعية: 1- النزوع إلى أهل الاختصاص وسؤالهم والاستعانة بهم. 2- قياس المتشابه من هذه الحوادث على ما سبق من مثيلاتها. 3- مرونة الشريعة في تغيير الحكم تبعًا للآثار المترتبة عليه، ووجود قواعد شرعية تؤصل لهذا، ومن غاياتها الحفاظ على النفس البشرية؛ كقاعدة: (الضرر يُزال، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، الضرورات تبيح المحظورات، لا واجب مع عجز...؛ إلخ). 4- عدم التعارض بين العلم الصريح والدين الصحيح، فليس هناك خصومة ألبتةَ فيما توصل إليه العلم الحقيقي، وما جاء به الدين الإسلامي. وما أُوهمَ أن فيه تعارضًا فهذا يرجع إلى ضعف الثقافة الدينية التي في مضمونها لا تخالف العلم، بل تقر بكل ما توصي به منظمات وهيئات الصحة في العالم، فتجد جمًّا غفيرًا من الناس لا يعرفون أن الحجر الصحي كان منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وأن نبينا حث عليه، بل واعتبره فرضًا من الدين في حالة دعت الضرورة إليه، وجعل المخالفين له بمثابة الفارين من الزحف، فهذا دليل على أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تَنَلْ من الاهتمام والاستفادة نصيبها [23] . المطلب الثاني: من الناحية الطبية: النبي صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلم في كل مجالات الحياة، وكان من هَدْيِه صلى الله عليه وسلم التداوي وطلب العلاج. يقول ابن القيم رحمه الله: (وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الطبيعية. والثاني: بالأدوية الإلهية. والثالث: بالمركب من الأمرين) [24] . وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الذهاب للطبيب، فكان الحارث بن كلدة واسمه عمير بن أبي سلمة بن عبدالعزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وكان طبيب العرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من كانت به علة أن يأتيَه فيسأله عن علته [25] . (فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه) [26] . وهنا تظهر ميزة الإسلام على غيره، فليس العلاج فيه جسديًّا فقط، ولا روحانيًّا نفسيًّا فقط، وإنما يمزج بينهما. وهذه التعليمات الاحترازية كما أوردتها منظمة الصحة العالمية: 1- واظب على تنظيف يديك جيدًا بفركهما بمطهر كحوليٍّ لليدين أو بغسلهما بالماء والصابون. 2- حافظ على مسافة متر واحد (3 أقدام) على الأقل بينك وبين الآخرين. 3- تجنب الأماكن المزدحمة. 4- تجنب لمس عينيك وأنفك وفمك. 5- تأكد من اتباعك أنت والمحيطين بك ممارسات النظافة التنفسية الجيدة؛ ويعني ذلك أن تغطي فمك وأنفك بثني المرفق أو بمنديل ورقي عند السعال أو العطس، تخلص من المنديل بعد استعماله فورًا. 6- الزم المنزل واعزل نفسك حتى لو كانت لديك أعراض خفيفة؛ مثل: السعال، والصداع، والحمى الخفيفة، إلى أن تتعافى، اطلب من شخص آخر أن يحضر لك مشترياتك، وإذا اضطررت إلى مغادرة المنزل، ضع كمامة لتجنب نقل العدوى إلى الآخرين. 7- إذا كنت مصابًا بالحمى والسعال وصعوبة التنفس، التمس الرعاية الطبية، واتصل بمقدم الرعاية إن أمكن قبل التوجه إليه، واتبع توجيهات السلطات الصحية المحلية. 8- الاتصال المسبق بمقدم الرعاية الصحية سيسمح له بتوجيهك سريعًا إلى المرفق الطبي المناسب، وسيساعد ذلك في حمايتك ومنع انتشار الفيروسات وسائر أنواع العدوى. 9- تابِعْ آخر المستجدات من مصادر موثوقة؛ مثل: منظمة الصحة العالمية، أو السلطات الصحية المحلية والوطنية. وبنظرة سريعة على هذه التعليمات وما يماثلها، يظهر جلال التآخي بين ما يقدمه العلم الصحيح، وشريعة الإسلام، في اتفاقهما على الحفاظ على صحة الإنسان، ووقايتها من الأمراض والهلاك. وهنا نقول: إن الالتزام بتعليمات الوقاية من فيروس كورونا، كما يوصي به الأطباء، ومنظمة الصحة العالمية واجب شرعي. ومع الالتزام بالأمور الطبية، وتعليمات الأطباء من أهل الاختصاص - وهي جزء من الشرع - يستبين للإنسان دورُ الإيمان في تقوية الحالة النفسية والروحية، والتي بدورها تقوي الجهاز المناعي الذي يدافع عن الجسم من الميكروبات الداخلة عليه. (فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد عُلم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجابًا، وأكثفهم نفسًا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية) [27] . المطلب الثالث: وباء كورونا فوائد وثمرات: لا شك أن المسلم يستثمر الأحداث، ويأخذ العبرة منها، ومهما كان الأمر شرًّا في ظاهره، فإن في طياته خيرًا كبيرًا، ومهما كان فيه من محن صحية واقتصادية ونفسية، فإن فيه منحًا وعطايا، فما منعنا الله منه لو رُزقنا الفهم فيه لعاد عين العطاء. ومن هذه الفوائد والثمرات: 1- زيادة إيمان المؤمن ويقينه بوجود الله عز وجل، فالعالم الذي تعالت فيه صيحات الإلحاد في الآونة الأخيرة، يؤمن بوجود الفيروس الذي لم يَرَهُ إلا من خلال آثاره. 2- في هذا الفيروس أكبر رد على المقدسين للعلم التجريبي حتى جعلوا منه دينًا يُدان به، فالعلم التجريبي عجز عن تقديم علاج ناجع، وتفسير مقبول، وكل ما صدر عنه جزء من التوعية المعلومة، والاحتياطات العامة التي تؤخذ في الاعتبار عند كل بلاء ومرض. 3- جاء في الوقت المناسب الذي أخذت فيه الأرض زخرفها وازَّيَّنت بالحضارة المبهرة، والمدنية الخاطفة للأبصار، والغطرسة المادية وافتتان الدول الكبرى بقوتها وإمكاناتها، لنزداد يقينًا أن الله قاهر فوق عباده. 4- إن هذا البلاء خير للمؤمن على كل حال، ومُثاب عليه إن صبر واحتسب الأجر من الله تعالى. 5- جعل كثيرًا من البيوت قِبلةً، فاتجه الناس يعبدون الله تعالى بعد أن كادت أن تكون البيوت قبورًا خاوية من العبادة والذكر. 6- التفات الإنسان إلى نعمتين عظيمتين: (الأمن والصحة) بعد أن ألِفهما ولم يؤدِّ حق شكرهما لله تعالى. 7- أن الإيمان هو الزاد الحقيقي في مواجهة الابتلاءات، وتجاوز العقبات، وأن خلوَّ الإنسان منه قد يصيب الإنسان بالأمراض النفسية، وقد يؤدي بالإنسان للانتحار. 8- الأخذ بالأسباب من الإجراءات الاحترازية، والتدابير الوقائية شريعة ربانية وسنة نبوية، وتاركها آثم شرعًا. 9- استغلال الدعاة إلى الله تعالى للوسائل الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، والمنصات الإلكترونية، وتوظيفها بالوجه الأمثل، وذلك بعدما حِيل بينهم وبين التواصل المباشر بينهم وبين الجمهور. الخاتمة وتشتمل على النتائج والتوصيات: أولًا: النتائج: 1- أن الشريعة جاءت للحفاظ على الضرورات الخمس، ويجب على الإنسان المكلف الحفاظ عليها، وتقصير الإنسان في ذلك يؤاخذ عليه شرعًا. 2- يجب عزل المريض مرضًا معديًا، حتى يتم شفاؤه، عملًا بالحجر الصحي، أو العزل الذاتي. 3- مشروعية الأخذ بالاحتياطات الوقائية، للحد من انتشار المرض. 4- الحث على طلب العلاج للمريض مطلب شرعي. 5- بيان جمال الشريعة الإسلامية في شمولها وكمالها. ثانيًا: التوصيات: أوصي العلماء وطلاب العلم، والمؤسسات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية بالآتي: 1- محاولة الغوص في فهم نصوص الشريعة، وسبر أغوارها، وربطها بالواقع ربطًا لا يخل بمضمونها. 2- الاستعانة بأهل الاختصاص في المسائل النازلة والمستجدة، سواء كانت من الناحية الصحية، أو النفسية، الاقتصادية، أو القانونية وغيرها، حتى يصدر الحكم عن تصور صحيح للمسألة بعيدًا عن التخبط عشوائيًّا، مما تسمو عنه الشريعة. 3- الربط بين التراث الإسلامي في افتراضاته وبين الوقائع المستجدة، بما يظهر سبق علماء الإسلام، وحدة ذكائهم، وقوة عقولهم. 4- التأكيد على أن العلم المادي وحده غير كافٍ في سدِّ حاجيات الإنسان، حتى يقترن بالشريعة الغراء. هذا... والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الخطأ والزلل، إنه على كل شيء قدير. [1] تحفة المحتاج في شرح المنهاج، لابن حجر الهيتمي (9/ 101). [2] موقع منظمة الصحة العالمية على شبكة الإنترنت. [3] مادة د ب ر: المعجم الوسيط، (278). [4] تفوق الطب الوقائي في الإسلام، عبدالحميد القضاة، ص6. [5] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 380) [6] المستدرك على الصحيحين، كتاب الأدب، أدب العطاس. [7] موقع منظمة الصحة العالمية على شبكة الإنترنت. [8] تفوق الطب الوقائي في الإسلام، عبدالحميد القضاة، ص6. [9] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 14). [10] الموافقات (2/ 18). [11] صحيح مسلم، كتاب السَّلَامِ، بَابُ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَاسْتِحْبَابِ التَّدَاوِي. [12] صحيح البخاري، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. [13] أخرجه أبو داود والترمذي والإمام أحمد وابن ماجه، في كتاب الطب. [14] رواه الحاكم، ونحوه للنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان. [15] سنن النسائي، كتاب الطب، باب الْخُرُوجُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي لَا تُلَائِمُهُ. [16] رواه البخاري. [17] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 40). [18] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 41). [19] رواه أبو داود والترمذي. [20] رواه أبو داود والترمذي. [21] رواه الإمام مسلم. [22] رواه أبو داود والنسائي وأحمد. [23] مقال: الحجر الصحي بين وصايا العلم وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، د/ ليلى السبيعي، موقع: https://www.raialyoum.com/ [24] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 22). [25] الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/ 47). [26] الطب النبوي لابن القيم (ص: 9). [27] زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 11).
العلاقات الدولية بين الوفاق والصدام الجزء الأول العلاقات الدولية هي علم من العلوم السياسية يهتم بدراسة كافة الظواهر التي تتجاوز الحدود الدولية، ومن خلالها يمكن دراسة وتحليل الظاهرة السياسية على المستوى الدولي بكل أبعادها النظرية والواقعية [1] ، وهي لا تقتصر على دراسة وتحليل الجوانب أو الأبعاد السياسية فقط والعلاقات بين الدول، وإنما تتعداها إلى مختلف الأبعاد الاقتصادية والعقائدية والثقافية والاجتماعية؛ فهي تشمل كل علاقة ذات طبيعة سياسية، أو من شأنها إحداث انعكاسات وآثارٍ سياسية تمتد إلى ما وراء الحدود الإقليمية لدولة واحدة، وتخصُّص العلاقات الدولية يركز على فهم حركة القوى المؤثرة في السياسة الدولية وتفسيرها [2] . ولأن العلاقات الدولية لم تصبح علمًا أكاديميًّا إلا بعد الحرب العالمية الأولى؛ فإن تعريفاتها ما زالت حديثة ومتغيرة، وبدون الغوص في التعاريف الكثيرة فإننا نختار تعريفًا للعلاقات الدولية ونُعرِّفها بأنها: كافة التفاعلات والروابط المتبادلة؛ سواء كانت سياسية أو غير سياسية بين الكيانات المختلفة في إطار المجتمع الدولي [3] ، فهي تفاعلات ومبادلات بين جانبي الحدود للدول المختلفة، كما أنها تشمل علاقات الدول والشعوب فيما بينها [4] . العلاقات الدولية قديمة قِدَمَ الإنسانية، غير أن هذه العلاقات كانت قائمة في الغالب على الحروب والتوسع، لذلك يرى الكثير من العلماء والباحثين - وبخاصة الغربيون منهم - أن العلاقات السياسية الدولية لم تنشأ إلا منذ مؤتمر وستفاليا، عندما ظهرت الدول القومية، فقد انبثق النظام السياسي الدولي بالشكل الذي نعرفه اليوم من النظام السياسي الأوروبي الذي ظهر في أعقاب انهيار الإقطاع في أوروبا [5] ، وبرزت الدولة القومية الحديثة التي هيأت الأساس نحو قيام النظام الدولي الأوروبي الذي تبلْوَرت معالمه وتحدَّد إطاره العام في هذه المعاهدة، والتي أنهت الحروب الدينية في أوروبا، مبتدِئة بذلك حِقبة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، فقد قامت الدول القومية في أوروبا على أنقاض النظام الإمبراطوري الذي كان سائدًا في العالم [6] . وعلى الرغم من أن ظاهرة الصراع ظاهرة قديمة قدم الإنسان، وهي من سمات البشر، فإن ظاهرة الصراع في العلاقات الدولية تختلف عن بقية ظواهر العلاقات الدولية؛ نظرًا لتنوع وكثرة أبعادها، وتعقُّد وتقاطُعِ الأسباب المؤدية لها التي تنتج عنها بطبيعة الحال نتائجُ مختلفة، فالصراع ظاهرة إنسانية تنشأ عن تعارض المصالح، أو رغبة طرفين أو أكثر في القيام بأعمال متعارضة فيما بينها، والصراع يجري مدفوعًا بمجموعة من الرغبات والحاجات الخاصة، فعندما تشعر الأطراف المتفاعلة أن ثمة مصالحَ يمكن أن تجنيَها من جراء الانخراط في الصراع، فإنها تُقدِم على الدخول فيه وتغريها تلك المصالح بكسر قواعد سابقة، أو المغامرة بانتهاك أعرافٍ عامة لإدارة الصراعات على المستويات المختلفة. الصراع موجود في الواقع بحكم توازنات وتعقد الواقع ذاته، غير أنه دائمًا ما يأتي ممتزجًا بالكثير من التبريرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهناك سبب أصيل لأي صراع، كما أن هناك تبريرًا مباشرًا لوجوده، فظاهرة الصراع الدولي ظاهرة معقدة لتعدد أسبابها ومظاهرها ومصادرها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة [7] ، وقد اتفق على ذلك معظم علماء التنظير في العلاقات الدولية؛ فالصراع ليس إلا تعارضًا عميقًا في المصالح والأهداف والقِيَمِ بين أطراف الصراع، وتكون الأطراف فيه على وعيٍ بإمكانية عدم التوافق لموضعها؛ حيث يرغب كل طرف في احتلال موضع لا يُرضِي ولا يتفق مع رغبات الطرف أو الأطراف الأخرى [8] . فالصراع هو وضع بين طرفين أو أكثر يوجد بينهما تناقض في المصالح، ويتم التعبير عن هذا التناقض من خلال اتجاهات عدائية، ومحاولة الحصول أو تحقيق هذه المصالح من خلال تصرفات أو إجراءات تؤدي إلى الإضرار بالأطراف الأخرى؛ سواء أكانت بين أفراد أو جماعات أو دول، وتتفرع هذه المصالح إما حول الموارد المادية، أو السلطة والنفوذ، أو الهوية، أو المكانة والكرامة، أو حول القيم بما ترتبط به من ثقافات وأديان [9] . فمفهوم الصراع هو بدايةً يفترض تناقض المصالح أو القيم بين طرفين أو أكثر، وهو ثانيًا يشترط إدراك أطراف الموقف ووعيها بهذا التناقض، ثم هو ثالثًا يتطلب توافر أو تحقق الرغبة من جانب طرف أو الأطراف في تبنِّي موقفٍ لا يتفق بالضرورة مع رغبات الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى، بل إن هذا الموقف قد يتصادم مع باقي هذه المواقف [10] . ويقف الصراع كمفهوم وممارسة بين مستويين؛ الأول: الاختلاف الطبيعي أو المصطنع والناجم عن التباين في العقائد أو الرؤى أو المصالح بين الجماعات الإنسانية، وهنا فإن الفشل في إيجاد مساحات من الفهم والقبول والتناغم المشترك يحوِّل الاختلاف إلى صراع بين تلك الجماعات للدفاع عن ذات ومصالح كل طرف، والمستوى الثاني: الأزمة؛ وهي مرحلة متقدمة من الصراع بين المجموعات المختلفة يصل بها إلى حد الاقتتال أو الانهيار العام للنظام الاجتماعي، وهنا فالصراع هو النزاع الناتج عن الاختلاف جراء تباين الرؤى والعقائد والأفكار والبرامج والمصالح بين مجموعتين أو أكثر، فجوهر حركة الصراع يتولد من الاختلاف أو الفشل في تسويته، أو إبداع الحلول المناسبة له [11] . وأسباب الصراع قد تكون سياسية أو اقتصادية أو إستراتيجية أو اجتماعية، وفي مجمل مظاهر الصراع لا تقع الحرب وإن كان الصراع يؤدي للحرب [12] . تنقسم الصراعات إلى صراعات داخلية ضمن إطار المجتمع والوطن والدولة الواحدة، كالصراعات السياسية والعِرقية والطائفية، وصراعات خارجية كما في صراع الدول على خلفيات وتنازعات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية [13] ، ويعتبر العنف إحدى آليات إدارة الصراع وحسمه، كما أن العدوانية والعنف ينتجان عن الصراع، والصراع قد يكون عنيفًا أو غير عنيف من الناحية المادية، وقد يكون شاملًا أو محدودًا [14] . وللصراع بعدان؛ بعد سلبي مرتبط بالتدمير والاستغلال، وبعد إيجابي يتمثل بـ(الدفع) نحو عمل أو حل مشكلات، أو التبادل الإيجابي بين الأطراف المعنية، فالصراع متضمن لدوافع الإنجاز والارتباط وغيرها من الدوافع الإيجابية؛ أي: إن الصراع في بعض أبعاده يمثل عنصرًا خلَّاقًا في العلاقات الإنسانية، فهو يمثل وسيلة للتغيير يمكن من خلالها تحقيق القيم الاجتماعية المتعلقة بالرفاهية والعدالة، وفرص تحقيق وتنمية الذات [15] . إن الصراع الدولي - كما يشير بعض الباحثين - ينشأ نتيجة إدراك متبادل متناقض بين دولتين أو أكثر حول المصالح المادية أو القيم الإنسانية، وهو يمس بوجه خاص قضايا؛ مثل: السيادة الوطنية، الأمن، الهوية، وغير ذلك، وقضايا الصراع الدولي أصبحت أكثر تعقيدًا بسبب تعدد الأطراف المتنازعة، وبتناقض المصالح أو الأهداف والدوافع فيما بينها [16] ، وقد مثَّلت ظاهرة الصراع الجانب الأكثر بروزًا في السياسة الدولية المعاصرة، فتحليل الواقع المعاصر يثبت غلبة العداء في عالم العلاقات الدولية، وإن البيئة الدولية صارت تتسم كبيئةِ حربٍ، وإن السلام في الواقع الدولي بدا وكأنه على سبيل التأقيت ونظرًا لمصلحة طالبيه [17] . يرى هانس مورغنثاو أن فكرة الصراع هي في الواقع جوهر السياسة ولبُّها، فالسياسة الدولية الخارجية والداخلية ليستا إلا وجهين مختلفين لظاهرة واحدة؛ هي الصراع من أجل السلطة؛ أي: القوة والهيمنة [18] ، فجوهر العلاقات الدولية عنده هو السياسة الدولية وهو الصراع بين الدول المستقلة من أجل القوة [19] ، ويفترض جيبلين بأن الطبيعة الجوهرية للعلاقات الدولية لم تتغير عبر آلاف السنين؛ إذ تستمر العلاقات الدولية في كونها صراعًا متكررًا على الثروة والقوة بين الأفراد المنشغلين في حالة الفوضى [20] . وقد ارتبط مفهوم الصراع بمفهوم الحرب بعد ظهور عدة مفاهيم في العلاقات الدولية، خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث اتسمت هذه المرحلة بالنمو الاقتصادي والتطور الثقافي؛ مما ولَّد تعارضًا في المصالح بين الدول؛ فكانت الحرب هي السمة الطابعة على العلاقات، ودليل ذلك قيام الحربين العالميتين: الأولى والثانية. كانت الحرب صفة أساسية للدول، واعتُبرت عملًا قانونيًّا تقوم به الدول لإثبات كيانها، فلم تكن الحرب نشاطًا محرمًا، خاصة مع اقترانها بالقيم الأخلاقية والدينية والدفاع عن السلطة السياسية [21] ، وقد اعتبر بعض المفكرين مثل كلسن الذي بحث في موضوع الحرب العادلة - اعتبر أن اللجوء إلى القوة في سبيل إقامة الحق أمرًا مشروعًا، وبيَّن بأن ليس كل عدوان أمرًا غير مشروع، كما أن كل حرب دفاعية لا تعتبر مشروعة إلا إذا توضح الهدف الذي ثارت من أجله هذه الحرب، وهي ظاهرة مرافقة للعلاقات الدولية [22] . كما يرى كلاوز فتز أن الحرب من أعمال العنف الذي يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا، فالحرب تعبر عن ظاهرة استخدام العنف والإكراه كوسيلة لحماية مصالح، أو لتوسيع نفوذ، أو لحسم خلاف حول مصالح متعارضة بين طرفين من البشر بوسيلة العنف، ولذلك فهي حالة استثنائية في حياة الدول؛ لأن الأصل فيها هو الحياة الطبيعية العادية؛ أي: السِّلم، في حين يعتقد البعض العكس؛ أي: إن الأصل هو الحرب، كما يقول ريمون آرون حسب المثل البريطاني بأن السلام ما هو إلا فترة راحة بين حربين [23] . ويُلاحَظ على الأدبيات الغربية لتحديدها لمفهوم الصراع بشكل عام، والصراع الدولي بشكل خاص أنها تنظر إلى العلاقات بين الدول على أنها قائمة على فكرة الهيمنة أو النفوذ والقوة والمصلحة الذاتية، مما يجعل الحالة الصراعية للعلاقات بين الدول هي الحالة الطبيعية؛ أي: إن الصراع الدولي وضع طبيعي، وهو الوضع المتوقع في العلاقات بين الدول المتباينة في القوة والمصالح، وذلك راجع إلى الفكر أو الرؤية الغربية المادية للحياة، وما ينتج عنها من الأنانية التي تُعنَى بالاهتمام بالمكاسب والمنافع الذاتية سواء المادية أو المعنوية [24] ، وبذلك أصبحت الحرب سمة طبيعية للعلاقات الدولية، فهي عمل ينطوي على استعمال العنف، وقد عبر كلاوز فيتز عن ذلك بكلمات شهيرة؛ حيث قال: إن الحرب ليست مجرد ممارسة سياسية، بل هي (أداة سياسية حقيقية) استمرارًا للعمل السياسي بوسائل أخرى [25] . عالم السياسة الآن - نظريًّا وتطبيقيًّا - هو عالم القوة والصراع، فالسياسة لا يمكن تصورها خارج ميدان الصراع، ولأن الصراع عملية سياسية؛ فلا بد لها من أكثر من طرف ضالع في العملية، وأن تكون هذه الأطراف متعارضة في نشاطاتها، ومن الطبيعي أن يستخدم كل طرف من الوسائل ما يكفل له تحقيق ما يريد [26] ، إذ إن التدافُعَ والصراع يستلزم قوتين، أو جبهتين كل جبهة تمثل مصالح معينة، إلا إن الصراع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فـ(العلاقات الدولية هي علاقات يمتزج فيها الصراع بالوفاق بنسب متفاوتة، والمعركة هي أحد مظاهر الصراع جنبًا إلى جنب مع الوسائل السياسية والاقتصادية والعقائدية) [27] ، والسلاح الوسيلة المجربة لتحقيق مطالب الدولة المحاربة، وأكثر من ذلك فهي تعتبر وعلى لسان الرئيس جورج بوش نفسه: (إن الحرب هي الوسيلة التي تكتشف بها الأمم مواردَ قوتها الداخلية قبل قوتها الخارجية، والبوتقة التي تتبلور فيها شخصيتها وتتجسد إرادتها، ثم هي بعد ذلك أوثق رباط لوحدتها وأقوى حافظٍ لتماسكها)، وهنا فليس في وظيفة الحروب حل المشاكل، ولكن في وظيفة الحروب أن تكسر الحواجز، وتفتح الأبواب، وتضبط موازين القوة بما يتيح للسياسة أن تؤدي دورها وتحقق هدفها بتصميم وعزم [28] . ليست قضية العنف والصراعات الدولية في حياة المجتمعات أمرًا نادر الحدوث، لا يتوقع المرء وقوعه في حياة المجتمعات والحضارات وتدافعاتها، بل إن التغيرات والمنعطفات الكبرى في التاريخ كثيرًا ما تقترن في الذهن بأحداث وصراعات دامية، ويُذكِي حركة هذا الصراع والتدافع الاجتماعي في الأمم ما يصيب علاقات الأمم وحضاراتها وطُرُقَ عَيشِها من الخلل الذي يدفع القويُّ الأقدر أو الأكثر توازنًا للاندفاع نحو مناطق الضعف والخلل لملئها والهجمة عليها [29] ، فالقانون ليس سيدًا في صراعات العالم، ولكن حقائق القوة لها السيادة طول الوقت [30] ، و(حكمة السياسة دومًا هي إدارة العلاقات لتعظيم المصالح وتقليل الخسائر) [31] . في علاقات الدول لا توجد عداوات دائمة أو صداقات دائمة، ولكن هناك دومًا مصالح دائمة، قد تلتقي أو تتعارض مع مصالح آخرين، فالصلح والعداء ليسا دائمين في السياسة، والمصالح أقوى دائمًا من الكلمات. الأمر المتوقع أن عالم المستقبل لن يكون عالمًا بلا نزاعات، وهذه النزاعات تمتد عبر الحدود القومية بسبب العوامل العرقية والدينية، وكذا حول الحدود السياسية، كما أن التباين في التطور الاقتصادي والتكنولوجي بين دول العالم يساهم في تأجيج الصراعات، وهذا لا ينفي أن بعضًا من الصراعات تتحكم فيها العوامل الحضارية والثقافية؛ فحروب الإبادة التي تمارَس ضد المسلمين في كثير من بقاع العالم كمسلمي ميانمار - مثلًا - ساندها التواطؤ الغربي، وتعتبر مؤشرًا على أن العامل الحضاري يبقى حاضرًا في صراعات العالم، ولكنه ليس العامل الوحيد [32] . ومن المتوقع أن الحروب القادمة ستأخذ الطابع الإقليمي؛ حيث تستطيع القوى الكبرى مواجهة بعضها خارج أراضيها، ودون أية خسائر مباشرة تقع على مدنها وسكانها ومواردها، وهي تستطيع عن طريق التوازن الإقليمي تعديل ميزان القوى العالمي لمصلحتها، سواء بالحفاظ عليه، أو تحطيمه [33] . تم اعتماد عدة وحدات لتحليل وتفسير الصراعات في مجال العلاقات الدولية؛ منها: الطبيعة الإنسانية، الدول الوطنية، المنظمات الدولية، النظام الدولي، الحضارات. فعند بعض الباحثين أن طبيعة العلاقات الدولية هي انعكاس واضح للطبيعة الإنسانية الميالة إلى الشر والأنانية، وحب السيطرة على الآخرين، والشك فيهم، والخوف منهم، وهي ثابتة لا تتغير، وعليه فالعلاقات التي تقوم بين مختلف البشر تكون محكومة كثيرًا بهذا السلوك، وهو ما يجعلها تميل إلى النزاعية بدلًا من التعاونية، ويلجأ فيها الأفراد لتحقيق مصالحهم المختلفة والمتناقضة في بعض الأحيان إلى مبدأ القوة الذي يكون في هذه الحالة مشروعًا بوصفه يؤمِّن بقاء الأفراد ويحقق مصالحهم، فسلوك الدول لا يختلف كثيرًا عن سلوك الأفراد عند بعض الباحثين، فالدول مدفوعة بعامل الشك وعدم الثقة في نوايا الآخرين، وبالرغبة في تحقيق مصالحها على حساب الآخرين تلجأ إلى استعمال القوة أو التهديد بها؛ ما يخلق جوًّا مناسبًا للأعمال العدائية، وبيئة خصبة لتنامي واستمرار النزاعات التي قد تتحول إلى حروب، فهو صراع مستمر من أجل القوة. بينما يرى آخرون أن هذه الطبيعة الصراعية والتنافسية متأصلة في سلوك الدول، وفي العلاقات بينها منذ الأزل، وهي مرشحة لأن تبقى كذلك في المستقبل؛ إذ لا يوجد ما يمكن أن يغيِّرها في نظر الباحثين. وعند بعض الباحثين لا ترتبط طبيعة السياسة الدولية بالطبيعة الإنسانية، وإنما ترتبط بعامل هيكلي يتمثل في مفهوم الفوضى الذي يعني غياب سلطة عليا تفوق سلطات الدول؛ مما يجعل وظيفة تأمين البقاء أو تحقيق الأمن تقع على عاتق الدول نفسها، وهذا ما يدفع الدول إلى تعزيز قدراتها العسكرية من أجل صيانة أمنها؛ إذًا وضع الفوضى هو الذي يخلق حالة الشك واللايقين في نوايا وسلوكيات الدول فيما بينها، ومن ثَمَّ فاحتمالات قيام الحروب تبقى دائمًا واردة في أجندة الدول، فالطبيعة الفوضوية ميزة أبدية وغير قابلة للتغير، ومفهوم الفوضى هو العنصر المميز والمحدد لطبيعة السياسة الدولية ككل، والتي لا يمكن أن تتغير إلا في حالة واحدة فقط؛ هي الخروج من حالة الفوضى إلى شكل جديد من أشكال التنظيم الدولي، وهنا يفقد مصطلح العلاقات الدولية مبررَ وجوده، فالتغيير هو السنة الكونية الطبيعية التي تعبر عن الاستمرار والبقاء [34] . إن البنية الفوضوية للنظام الدولي ترفع من درجات عدم الثقة والشكوك بين الدول؛ حيث إن احتمالات الحرب في الأنظمة الفوضوية تدفع الدول للحفاظ على الجيوش حتى في أوقات السلم، وبذلك تصبح الحرب سمة دائمة من سمات السياسات الدولية، ويجب على الدول في هذه الحالة أن تمنح اهتمامًا بقوتها [35] . ثم بدأ دور الدولة الوطنية يتراجع كوحدة تحليل أساسية وكفاعل مركزي في العلاقات الدولية، فالدولة الوطنية أصبحت تحت تأثير وضغط جبهتين: الجبهة الأولى: تتمثل في تقلص دورها ووظائفها بسبب العولمة التي أفرزت فواعلَ أخرى من غير الدولة؛ كالمنظمات الدولية والإقليمية والمؤسسات الدولية العالمية، أما الجبهة الثانية: فتتمثل في مطالب الأقليات الإثنية والعرقية بالاستقلال والبروز، بعدما تحول الصراع في العلاقات الدولية من صراع بين دول إلى صراع داخل الدول [36] . وبعد أن كانت الدول الفاعل الرئيس في احتضان البعد الديني داخل هوية الدولة،كثُر الفاعلون والمشاركون في التفاعلات الدولية من جماعات وحركات دينية، ولم تعد الدولة وحدها هي الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، بل أصبح هناك لاعبون آخرون كالمنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسية [37] ، وهذه الفواعل الجديدة تقوم بدور مساوٍ أو يفوق الدول كوحدة تحليل أساسية في العلاقات الدولية، ولا ننسى دور الجماعات الدينية؛ إذ إن تصاعد دورها سيؤدي إلى عدم استقرار النظام الدولي؛ نظرًا لقدرة هذه الجماعات على استخدام العنف في التعبير عن آرائها والتعبير عن وجهات نظرها المعارضة للنظام العالمي، وقدرتها على تجاوز دور الدولة، واحتلال مكانها في النظام الدولي، وتعبئة وتنشيط الانتماءات الدينية في سبيل البحث عن هوية دينية عالمية. [1] النظرية السياسية المعاصرة، د. عادل فتحي ثابت، مصر، 2006 - 2007، ص: 351. [2] قراءة في كتاب "نظريات العلاقات الدولية: التخصص والتنوع"، للمؤلف: تيم دان وميليا كوركي، وستيف سميث، المترجم: ديما الخضرا، ط1، أحمد قاسم حسين، باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة سياسات عربية، العدد 20، أيار/ مايو، 2016، ص: 154. [3] مقدمة في العلاقات الدولية، هايل عبدالمولى طشطوش، قسم العلوم السياسية، جامعة اليرموك، الأردن، 2010م، ص: 12، 13. [4] العلاقات الدولية: دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والتاريخ والنظريات، الدكتور علي عودة العقابي، بغداد، 2010م، ص: 27. [5] العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، الدكتور إسماعيل صبري مقلد، المكتبة الأكاديمية، القاهرة - مصر، 1991م، ص: 45. [6] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 41. [7] نحن والآخر والصراع، نبيل حاجي نائف، الحوار المتمدن، 13/ 8/ 2008. [8] إدارة الصراعات والأزمات الدولية، دكتور إسماعيل عبدالفتاح عبدالكافي، مصر، ص: 25. [9] إدارة الصراعات وفض المنازعات، سامي إبراهيم الخزندار، مركز الجزيرة للدراسات، دوحة - قطر، 1435هـ -2014م، ط1، ص: 62. [10] مفهوم الصراع: دراسة في الأصول النظرية للأسباب والأنواع، دكتور منير محمود بدوي، 24/ 3/ 2014، نقلًا عن الموقع : http://www.alma3raka.net/spip.php?article102 . [11] نحن والآخر والصراع. [12] إدارة الصراعات والأزمات الدولية، ص: 16. [13] نحن والآخر والصراع. [14] إدارة الصراعات والأزمات الدولية، ص: 26. [15] مفهوم الصراع: دراسة في الأصول النظرية للأسباب والأنواع. [16] إدارة الصراعات والأزمات الدولية، ص: 69. [17] العلاقات الدولية في الإسلام وقت الحرب، نادية محمود مصطفى ومجموعة باحثين، المعهد العالمي للفكر الإسلامي - القاهرة، ط1، 1417هـ - 1996م، ص: 132. [18] الصراع الدولي بعد الحرب الباردة، خالد المعيني، سوريا، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، ص: 150. [19] العلاقات الدولية دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والتاريخ والنظريات، ص: 28. [20] نظرية الواقعية في العلاقات الدولية دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة، الدكتور أنور محمد فرج، مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، السليمانية، 2007، ص: 374. [21] إدارة الصراعات والأزمات الدولية، ص: 13. [22] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 102، 103. [23] دور الأطراف الخارجية في النزاعات الدولية دراسة حالة النزاع في إقليم دارفور، 2003 - 2014، عبدالسلام جحيش، سليمان أبكر محمد، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين - ألمانيا، ط1، 2018، ص: 16، 20. [24] إدارة الصراعات وفض المنازعات، ص: 64، والعلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات، ص: 225. [25] فهم العلاقات الدولية، كريس براون، ترجمة ونشر مركز الخليج للأبحاث، دبي - الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2004، ص: 127، 129. [26] فلسفة الثورات العربية، سلمان بو نعمان، مركز نماء للبحوث والدراسات، ص: 3، 97، 152. [27] التحولات الإستراتيجية الخطيرة زلزال عاصفة الصحراء وتوابعه، أمين هويدي، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط1، 1418هـ - 1998م، ص: 152. [28] الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق، محمد حسنين هيكل، دار الشروق، القاهرة، ط3، 2004م، ص: 54. [29] العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي بين المبدأ والخيار، رؤية إسلامية، عبدالحميد أحمد أبو سليمان، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط1، 1423هـ - 2002م، ص: 4، 70. [30] حرب الخليج أوهام القوة والنصر، محمد حسنين هيكل، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، ط1، 1412-1992، ص: 16. [31] حرب الخليج والفكر العربي، دكتور عبدالمنعم سعيد، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1413هـ - 1993م، ص: 54. [32] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، دكتور فوزي نور الدين، مجلة العلوم الإنسانية - جامعة محمد خيضر - بسكرة، العدد 36/ 37، 11/ 2014، ص: 189. [33] الحروب وتوازن القوى دراسة شاملة لنظرية توازن القوى وعلاقتها الجدلية بالحرب والسلام، دكتور إبراهيم أبو خزام، الأهلية للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية الهاشمية - عمان، طبع في لبنان، ط1، 1999م، ص: 288. [34] دور الأطراف الخارجية في النزاعات الدولية دراسة حالة النزاع في إقليم دارفور، ص: 28، والعلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات، ص: 19. [35] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، ص: 180. [36] النظريات التفسيرية للعلاقات الدولية بين التكيف والتغير في ظل تحولات عالم ما بعد الحرب الباردة، الدكتور عبدالناصر جندلي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، مقالة في مجلة الفكر - العدد الخامس، ص: 124، 126. [37] مقدمة في العلاقات الدولية، ص: 35.
القول المبين في تلقيب الإمام النَّوويِّ بمحيي الدِّين الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فقد اشتُهر تلقيب شيخ الإسلام أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (631 هـ- 676 هـ) – تغمَّده الله بواسع رحمته- بـ: (مُحيي الدِّين) من أهل عصره، ولا يزال كذلك إلى عصرنا هذا، وهو ونحوه من قبيل الإضافة للسَّبب تفاؤلًا ودعاءً، بمعنى: مُحيي نفسه وأمَّته بالدِّين بتوفيق من الله تعالى ومنِّه. وبذلتُ جهدي في تتبُّع مَن لقَّبه بذلك في حياته وبعد مماته من شيوخه وأقرانه وتلامذته وطبقاتهم، ورتَّبتهم حسب وفياتهم؛ إيذانًا بأنَّه ذائع متداول مشهور، ورفعًا للحرج عمَّن توقَّف فيه بسبب مقالة نُسبت إليه تُوحي أنَّه محذور. وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة . شيوخ الإمام النَّووي وأقرانه وتلاميذه الذين لقَّبوه بمحيي الدِّين 1- شيخه الشَّيخ المقرئ ياسين بن يوسف المراكشي (المتوفَّى 687 هـ). [1] قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) (ص 44) : (ذَكَرَ لي الشَّيخُ ياسين بن يوسف المراكشي -ولي الله، رحمه الله- قال: رأيتُ الشَّيخ محيي الدِّين -وهو ابن عشر سنين- بنوى، والصِّبيان يُكرِهونه على اللَّعب معهم، وهو يهربُ منهم، ويبكي؛ لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوَقَعَ في قلبي محبَّته..) ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [3/أ] 2-الشَّيخ الفاضل إسماعيل البُسطي (المتوفَّى 676 هـ) . قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 131): (ورَثَاهُ الشَّيخُ الفاضلُ أبو محمَّد إسماعيل البُسطي -رضي الله عنه-، وتوفِّي -رحمه الله- بعد وفاة الشَّيخ بأربعة وعشرين يومًا، ودُفِن من يومه بدمشق: رزِيَّةُ مُحيي الدِّين قد عَمَّتِ الوَرَى *** فلَسْتَ تَرَى إلَّا حزينًا مُفَكِّرَا) ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [28/ب] 3-الشَّيخ الإمام الأديب محمَّد بن أحمد بن عمر ابن الظَّهير الإربلي الحنفي (602هـ-677 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 69): (وكَتَب شيخُنا أبو عبد الله محمَّد بن الظَّهير الحنفي الإربلي، شيخ الأدب في وقته -رحمه الله- كتاب العُمدة في تصحيح التَّنبيه للشَّيخ -قدَّس الله روحه-، وسألني مقابلته معه بنسختي؛ ليكون له روايةً عنه منِّي، فلمَّا فرغنا من ذلك، قال لي: "ما وصل الشَّيخ تقي الدِّين ابن الصَّلاح إلى ما وصَل إليه الشَّيخ محيي الدِّين من العلم في الفقه، والحديث، واللُّغة، وعذوبة اللَّفظ، والعبارة") ا.هـ. وقال أيضًا (ص 114-115): (قرأتُ على شيخِنا العلَّامة شيخ الأدب أبي عبد الله محمَّد بن أحمد ابن عمر بن أبي شاكر الحنفي الإِربلي -رحمه الله-، وكان مدرِّسًا للقايمازيَّة بدمشق: قُلتَ -رضي الله عنك- وكان ذلك في العشر الأوَّل من شعبان سنة ست وسبعين وست مئة) ا.هـ، ومنه: يا مُحْيي الدِّينِ كَمْ غادرْتَ مِن كبدٍ *** حرَّى عليك وعين دمعُها هَطَلُ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [10/أ، 18/ب، 19/ب] 4-الشَّيخ العالم المحدِّث محمَّد بن عربشاه بن أبي بكر الهمداني الدِّمشقي (607 هـ-677 هـ). كَتَبَ بخطِّه طبقة سماع للجزء الثَّاني من أمالي الإمام أبي الحُسين محمَّد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس ابن سمعون الواعظ في مجلسَين آخرهما يوم الثُّلاثاء 20 من شهر الله المحرَّم سنة 666 هـ بجامع دمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع : (والإمام محيي الدِّين أبو زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّواوي) ا.هـ. المجاميع العمرية، رقم (17) ، [42/أ] 5-الشَّيخ الزَّاهد علي بن أحمد بن بدر الجزري (المتوفَّى 680 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 66) : (ذَكَرَ لي شيخُنا، العَارفُ، القدوةُ، المسلك، وليُّ الدينِ أبو الحسن علي، المقيم بجامع بيت لهيا خارج دمشق -رحمه الله-، قال: كنتُ مريضًا بمرض يُسمَّى: النِّقْرِس، في رجليَّ، فَعادني الشَّيخُ محيي الدين -قدَّس الله روحه-..) ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [9] 6-الشَّيخ الزَّاهد محمَّد بن الحسن بن إسماعيل الإخميمي (المتوفَّى 684هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 69): (وقال لي الشَّيخ العارف المحقِّق المكاشَف أبو عبد الرَّحيم محمَّد الإخميمي -قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه-:"كان الشَّيخُ محيي الدِّين -رحمه الله- سالكًا منهاج الصَّحابة، رضي الله عنه، ولا أعلمُ أحدًا في عصرنا سالكًا على منهاجهم غيره") ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [10/أ] 7-تلميذه الشَّيخ الإمام المحدِّث يوسف بن محمَّد بن عبد الله ابن المهتار (610 هـ - 685 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 126-127): (ورَثاهُ قارئ دار الحديث الأشرفيَّة، والآخذ عنه، الشَّيخ، الفاضل، المحدِّث، أبو الفضل يوسف بن محمَّد بن عبد الله الكاتب الأديب المصري ثمَّ الدِّمشقي، وقال: "نظمتُها راثيًا مشايخي -رحمهم الله تعالى-"، وسمعتُها من لَفْظِهِ)ا.هـ، ومنه: وكذاكَ محيي الدِّين فاقَ بزُهدهِ *** وبفقهِهِ الفُقها مع الزُّهَّادِ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [25/ب، 26/أ] 8-تلميذه الشَّيخ الأديب أحمد بن إبراهيم بن عبد اللَّطيف بن مصعب الخزرجي الدِّمشقي (622 هـ-696 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 118-119): (وقَرَأَ الصَّدرُ الرئيسُ الفاضلُ أبو العبَّاس أحمد بن إبراهيم بن مصعب -رحمه الله- بدار الحديث النُّوريَّة مرثاةً، نظمها وأنا أسمعُ، وكان قَرأ على الشَّيخ -قدَّس الله روحه- قطعةً من "المنهاج في مختصر المحرَّر"، واستنسخ "الرَّوضة" له، وقابلتُ له بعضها مع الشَّيخِ، وأصلحتُ بإملائه -رحمه الله- مواضع منها) ا.هـ، ومنه: ولاحَ على وجهِ العلومِ كآبةٌ *** تُخبِّرُ أنَّ الدِّين قد مات مُحييهِ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [21] 9- تلميذه الشَّيخ الحافظ أحمد بن فَرح بن أحمد اللَّخمي الإشبيلي الدِّمشقي (625 هـ- 699 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 113): (قال لي المحدِّث أبو العبَّاس أحمد بن فرح الإشبيلي -رحمه الله-، وكان له ميعادٌ على الشَّيخ -قدَّس الله روحه- في الثُّلاثاء والسَّبت، يومٌ يشرح في صحيح البخاري، ويومٌ يشرح في صحيح مسلم، قال: "كان الشَّيخُ محيي الدِّين قد صار إليه ثلاث مراتب..) ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [18/ب] 10-الشَّيخ المحدِّث عبد الحافظ بن عبد المنعم بن غازي بن عمر المقدسي (المتوفَّى 703 هـ) [2] . كَتَبَ بخطِّه طبقة سماع لسنن ابن ماجه في مجالس آخرها يوم الاثنين 14 من شهر جمادى الآخرة سنة 662 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع: (ومحيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي) ا.هـ. (والإمام محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي) ا.هـ. وكَتَبَ بخطِّه طبقة سماع لجزء فيه من حديث الإمام وكيع بن الجرَّاح الرُّوَاسي في 27 من شهر ربيع الأوَّل سنة 664 هـ بدمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع: (محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي) ا.هـ. وكَتَبَ بخطِّه طبقة سماع للسفر الخامس من مسند أبي عوانة في مجالس آخرها 15 من شهر شوَّال سنة 665 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع: (والإمام العالم محيي الدِّين أبو زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي) ا.هـ. وكَتَبَ بخطِّه طبقة سماع للسفر السادس من مسند أبي عوانة في مجالس آخرها العشر الأوسط من شهر صفر سنة 666 هـ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع: (ومحيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي) ا.هـ. سنن ابن ماجه، دار الكتب المصريَّة، الخزانة التيمورية - الحديث، رقم (522) المجلَّد الأوَّل [436] والمجلَّد الثَّاني [242] جزء فيه من حديث الإمام وكيع بن الجرَّاح الرُّوَاسي، المجاميع العمرية، رقم (3)، [135/ب] السفر الخامس لمسند أبي عوانة، مكتبة فاضل أحمد باشا، رقم (403)، [271/ب] السفر السادس لمسند أبي عوانة، الزاوية العثمانية بطولقة، الجزائر 11-الشَّيخ الإمام المحدِّث المقرئ أحمد بن إبراهيم بن سباع الفَزَارِي (630 هـ-705 هـ). كَتَبَ بخطِّه طبقة سماع لكتاب (فضائل شهر رمضان وما فيه الأحكام والعلم وفضل صُوَّامه والتَّغليظ على من أفطر فيه متعمِّدًا من غير عذر) للإمام ابن شاهين في مجلس واحد في الخامس من شهر رمضان سنة 662 هـ بجامع دمشق، فَذَكَرَ من أسماء السَّامعين الذين حضروا مجلس السَّماع : (والشَّيخ محيي الدِّين أبو زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى بن حسن بن حسين النَّواوي) ا.هـ . فضائل شهر رمضان، المجاميع العمرية، رقم (20)، [203/أ] 12-الشَّاعر الحسين بن صدقة بن بدران الموصلي (المتوفَّى 705 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 139): (وَرَثَاهُ الحُسين بن صدقة الموصلي -عفا الله عنه-) ا.هـ، ومنه: يا محيي الدِّينِ الحَنيفِ سقا ثرىً *** واراكَ من كَرَمِ الإِلهِ عِهادُ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [33/ب] 13-تلميذه الشَّيخ العلَّامة المفتي إسماعيل بن عثمان بن محمَّد ابن المعلِّم الحنفي الدِّمشقي (623 هـ-714 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 66-67): (وذَكَرَ لي صاحبُنا في القراءة على الشَّيخ -رحمه الله- لمعرفة السُّنن والآثار للطحاوي؛ الشَّيخ العلَّامة المفتي رشيد الدِّين إسماعيل بن المعلّم الحنفي -فسح الله في مدَّته- قالَ: "عَذلتُ الشَّيخَ محيي الدِّين في عدم دخول الحمَّام، وتضييق عيشه في أكله، ولباسه، وجميع أحواله"..) ا.هـ. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [9/ب] 14-الشَّيخ القاضي الأديب أحمد بن محمَّد بن سالم التَّغلبي الدِّمشقي (655 هـ-723 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 120-121): (ورثاه الفقيهُ الفاضلُ الإمامُ الصَّدرُ الرئيسُ الأديبُ نجم الدِّين أبو العبَّاس أحمد ابن شيخنا عماد الدِّين أبي عبد الله محمَّد بن أمين الدِّين سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صَصْرى التَّغْلِبي -بالتاء المثنَّاة والغين المعجمة- البلدي، في شعبان سنة ست وسبعين وست مئة.. فلمَّا كان في سنة اثنتين وسبع مئة؛ وليَ قضاء القضاة بالشَّام، فتفضَّل، وحضر مجلسِي للحديث بدار الحديث النُّوريَّة -رحم الله واقفها-في جُمادى الأولى، فأمرتُ قارئ الحديث أن يقرأها عليه؛ ليسمعَها الحاضرون منه، وتبركًا بذكر الشَّيخ -قدَّس الله روحه- وسمعتُها معهم؛ لأرويها عنه لمن طلب ذلك -إن شاء الله تعالى-) ا.هـ، ومنه: أعَيْنَي جِدا بالدُّموعِ الهَوامِلِ وجُودِي بها كالسَّرياتِ الهَواطِلِ على الشَّيخ محيي الدِّين ذي الفضل والتقى ورَبِّ الهُدى والزُّهدِ حاوِي الفضائلِ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [22] 15-الشَّيخ الفقيه الشَّاعر الأديب محمَّد بن عمر بن أحمد المنبجي (قبل 650 هـ- 723 هـ). قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 125-126): (ورَثاهُ صاحبُنا الفقيهُ الفاضلُ أبو عبد الله محمَّد المنبجي -نفع الله به- أحدُ فقهاء المدرسة النَّاصرية بدمشق المحروسة والسَّاكن بها، شاعر، أديبٌ، مفلّق..) ا.هـ، ومنه: واسلُك كمُحيي الدِّينِ سُبْلَ سلامة *** تُقصيكَ من نارٍ يَدومُ عذابُها تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [24/ب، 25/ب] 16-تلميذه الشَّيخ الإمام علي بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار الدِّمشقي (654 هـ-724 هـ). أَفرَد مُصنَّفًا في ترجمة شيخه -هو عمدة كلّ من أتى بعده-، وجعل اللَّقب في صدر عنوانه، فسمَّاه بـ: (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين)، وورد فيه (26) مرَّة سواء من قوله كما في (ص 129): (شيخنا، الإمام، العلَّامة، الحافظ، المفتي، الزَّاهد، الورع، أنموذج الطّراز الأوَّل، محيي الدِّين يحيى النَّواوي الشَّافعي -رضي الله عنه) ا.هـ أو قول غيره [3] ، وفيه مراثي مشتملة على اللَّقب بعضها من مقروءاته أو مسموعاته على ناظميها [4] ، وله عناية بإقراء كتابه هذا في مجالس القراءة والسَّماع إلى قبل وفاته بأشهر [5] . وكان يُثبتُ هذا اللَّقب لشيخه: لفظًا، وخطًّا، وإقرارًا. أمَّا لفظًا: فقد قال العلَّامة محمَّد بن علي ابن الزَّمَلْكَانِي (المتوفَّى 727 هـ): (حدَّثنا الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، الحافظ، علاء الدِّين علي بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار، قال: أخبرنا الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، العلَّامة، الزَّاهد، الورع، محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى بن حسن النَّواوي -رحمه الله تعالى-، بقراءتي عليه) ا.هـ. وأمَّا خطًّا: فمنه ما في الجزء الثَّاني من (روضة الطَّالبين) مِن نَسْخِهِ، وفيه ما نصُّه: (اختصار: الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، العابد، الزَّاهد، الورع، الحافظ، الضابط، ذي الفضائل، مفتي المسلمين، ناصر السُّنَّة، محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَا بن حسن بن حسين بن محمَّد النَّواوي، رحمه الله تعالى، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته) ا.هـ. وأمَّا إقرارًا: فقد نَقَلَهُ في كتابه (تحفة الطَّالبين) عن غير واحد نَقْلَ إقرار من غير إنكار. تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [1/أ] تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [27/ب] الأذكار، مكتبة تشستربيتي، رقم (4962) [2/أ] بخطِّ ابن الزملكاني روضة الطالبين ومنهاج المفتين، مكتبة تشستربيتي، رقم (3255/2) [2/أ] بخطِّ علي ابن العطَّار 17-تلميذه الشَّيخ العالم الفقيه داود بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار الدِّمشقي (665 هـ-752 هـ). كان يُثبتُ هذا اللَّقب لشيخه، كما وصلنا بخطِّه في نَسخه لكتابَي (الأذكار) و(رياض الصَّالحين)، حيث قال عن الأوَّل: (تصنيف: الشَّيخ، الإمام، العلَّامة، الزَّاهد، العابد، الورع، المتقن، المحقِّق، الضابط، مفتي المسلمين، محيي الدِّين يحيى بن الشَّيخ الصَّالح شرف الدِّين شرف بن مِرَى بن حسن بن حسين بن محمَّد حزام النَّواوي الشَّافعي، رحمه الله، وغفر له، ولوالديه، ولوالدينا، وجميع أحبابنا، ومن أحسن إلينا، وجميع المسلمين) ا.هـ. وقال عن الثَّاني: (جمع: الشَّيخ، الإمام، العالم، العامل، العلَّامة، مفتي المسلمين، ذي الفضائل، محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى بن حسن النَّواوي، غفر الله له، ولوالديه، ولوالدينا، وجميع أحبابنا، ومن أحسن إلينا، وجميع المسلمين)ا.هـ. الأذكار، مكتبة عاطف أفندي، رقم (1524)، [1/أ] بخطِّ داود ابن العطَّار رياض الصالحين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (1835) [5/أ] بخطِّ داود ابن العطَّار 18-تلميذه الشَّيخ الفقيه المقرئ أحمد الضَّرير الواسطي. قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 133): (وَرَثَاهُ تلميذه الفقيه المقريء أبو العبَّاس أحمد الضَّرير الواسطي الملقَّب بالجلال) ا.هـ، ومنه: ويا أَسَفَى ضاعَت علومٌ كثيرةٌ *** لفقدكَ محيي الدِّين إنِّي مُصدَّقُ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [29/ب، 30/أ] 19-تلميذه الشَّيخ الفقيه الأديب الأمين سلطان إمام الرَّواحيَّة. قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 146-147): (ورثاه تلميذه الفقيه الأديب الأمين سلطان إمام الرَّواحيَّة) ا.ه، ومنه: يا مُحيِيًا للدِّينِ بَعدَ إماتَةٍ *** ومؤيِّدًا لشريعةٍ أَسماهَا ومنه: قَد كُنتَ محيي الدِّين حِصنًا مانِعًا *** عَنَّا فَوا أسَفا عليكَ وآهَا تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [37، 38/أ] 20-الفقيه سليمان بن أبي الحارث الأنصاري الحنفي [6] . قال ابن العطَّار في (تُحفة الطَّالبين) (ص 122-123): (ورَثاهُ بعض فضلاء الحنفيَّة -رحمهم الله أجمعين-) ا.هـ، ومنه: فأَصْبَحَتِ الأقطارُ والكَونُ كُلُّهُ *** لفقدك محيي الدِّين بَيداء سَمَلَّقَا تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [23/ب، 24/أ] 21-رثاه بعض الإخوان. قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 133-134): (وَرَثَاهُ بعض الإخوان أيضًا) ا.هـ، ومنه: مَن ذا يُقارِبُني في الحُزنِ بعدَكَ محـ *** يي الدِّين فالسُّقمُ أَصماني وأَضناني تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [30/أ] 22-رثاه بعض المحبِّين. قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 136-137): (وَرَثَاهُ بعض المحبِّين أيضًا) ا.هـ، ومنه: مَولايَ محيي الدِّين كم أَولَيتَ مِن *** نِعَمٍ تَعُمُّ العالَمينَ حُسامِ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [31/ب، 32/أ] 23-رثاه بعض الإخوان. قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 141): (وَرَثَاهُ أيضًا بعض الإخوان) ا.هـ، ومنه: لَو كان محيي الدِّينِ يَحيىَ يُفتَدى لَفديتُهُ بحُشاشتي خوف القَضا فعَلَيكَ محيي الدِّينِ أَولَى ما جرَى دمعٌ يَفِيضُ وفي الحَشَا جَمرُ الغَضَا تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [34/ب، 35/أ] 24-رثاه بعض المحبِّين. قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 148): (وَرَثَاهُ بعض المحبِّين -رحمه الله تعالى-) ا.هـ، ومنه: يا مخبِرٌ عن هُلكِ محيي الدِّينِ ما *** تَخشَى وتَستَحِيي به أن تَجهَرَا تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [38/ب] 25-رثاه بعض الفقهاء المحبِّين في الله تعالى. قال ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 151-152): (وَرَثَاهُ بعض الفقهاء المحبِّين في الله تعالى -رحمه الله تعالى-) ا.هـ، ومنه: يا محييَ الدِّين مُذْ فارَقتَنا عَجِلًا * قد هُدِّمَت لمشيد الدِّين أركانُ ومنه: قَد كُنتَ كاسْمِكَ محيي الدِّين مُجتَهِدًا * ومِن دُعائِكَ نالَ النَّصرَ فُرسانُ تحفة الطالبين، مكتبة جامعة توبنجن، رقم (18) [40، 41/أ] ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ وأمَّا مَن لقَّبه بمحيي الدِّين ممَّن لم يُدركه مِن أهل العلم، فهذا أشهر من أن يُذكر، وأكثر من أن يُحصر، واستيفاؤه يعسر. ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ وهناك مقولة منسوبة إلى الإمام النَّووي، ذَكَرها: 1- الشَّيخُ أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن محمَّد ابن الحاج العبدري (المتوفَّى 737 هـ)، فقال في (المدخل) (1/62) ما نصُّه: (ألا ترى إلى الإمام الحافظ النَّووي - رحمه الله - من المتأخِّرين لم يرض قطّ بهذا الاسم، وكان يكرهه كراهة شديدة على ما نُقِلَ عنه وصحَّ، وقد وَقَعَ في بعض الكُتب المنسوبة إليه - رحمه الله - أنَّه قال: "إنِّي لا أَجعلُ أحدًا في حِلٍّ ممَّن يُسمِّيني بمحيي الدِّين"، وكذلك غيره من العلماء العاملين بعلمهم، وقد رأيتُ بعض الفضلاء من الشَّافعية من أهل الخير والصَّلاح إذا حَكَى شيئًا عن النَّووي - رحمه الله – يقولُ: قال يحيى النَّووي، فسألتُهُ عن ذلك، فقال: إنَّا نكره أن نسمِّيه باسم كان يكرهه في حياته، فعلى هذا فهذه الأسماء إنَّما وُضِعَت عليهم تفعُّلًا، وهم برآء من ذلك) ا.هـ. 2- والشَّيخُ أبو عبد الله تقي الدِّين محمَّد بن الحسن بن علي اللَّخْمي ابن الصَّيْرَفي [7] (680 هـ-738 هـ)، فقال في (ترجمة الشَّيخ محيي الدِّين يحيى الحزامي النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي) (ص 72) ما نصُّه: (وصَحَّ عنهُ أنَّهُ قَالَ: " لَا أَجعَلُ في حِلٍّ مَن لَقَّبَنِي: مُحيي الدِّين " ) ا.هـ. المدخل، لابن الحاج ترجمة الإمام النووي، للتَّقي اللَّخمي، مكتبة جامعة برنستون، رقم (1896) [4/أ] أقول: في نسبة هذه المقالة إليه نظرٌ ظاهرٌ، وذلك من وجوه: الوجه الأوَّل: أنَّ ابن الحاج واللَّخمي تفرَّدَا بنسبتها إليه من بين سائر أهل العلم -ولعلَّ أحدهما نقل عن الآخر-، ولم يُدركاه، وذَكَر الأوَّل أنَّها وقعت في بعض الكتب المنسوبة إليه، ولا أثر لها إطلاقًا في أيّ من كتبه المعروفة المتداولة. الوجه الثَّاني: أنَّ تلميذه النَّجيب الشَّيخ علي ابن العطَّار -وهو أكثر النَّاس ملازمة له، وأعرفهم به، وراوية كتبه، وأشدّهم عناية وصلة بتراثه، الملقَّب بالنَّواوي الصَّغير أو مختصَر النَّووي أو المختصَر- لم يذكرها البتَّة في الكتاب المفرد في ترجمته ولا في غيره، بل أَثبتَ اللَّقب في عنوانه، وكرَّره فيه (26) مرَّة ، وكان يُثبتُهُ لشيخه لفظًا، وخطًّا، وإقرارًا ، ولو صحَّت تلك المقالة لديه لكان أوَّل الطَّائعين، ومن النَّاصحين فيه للآخرين. الوجه الثَّالث: أنَّه استفاض عن الأئمَّة الأعلام من طبقات شيوخه وأقرانه وتلامذته الذين مرَّ ذكرهم -ومن بعدهم- أنَّهم لقَّبوه به في حياته وحضوره وبعد مماته دون أدنى تحفُّظ أو تردُّد أو توقُّف. الوجه الرَّابع: أنَّ الإمام النَّووي أعفّ من أن يُطلق مثل هذه المقالة الشَّديدة في حقِّ شيوخه وأقرانه وتلاميذه، فبيْنه وبينهم معالم من الإجلال والتَّوقير والاحترام والتَّقدير. الوجه الخامس: أنَّ أهل العلم فهموا منها -لو صحَّت عنه- أنَّه قالها من باب التَّواضع والورع، ولم يقصد بها ظاهرها، وخير شاهد على ذلك استمرار تلقيبهم له به من زمانه إلى يومنا هذا؛ وذلك (لما أحيا الله به من سُنن، وأمات به من بدع، وأقام به من معروف، ودفع به من منكر، وما نفع الله به المسلمين من مؤلَّفات، ويأبى الله إلَّا أن يظهر هذا اللَّقب له؛ عرفانًا بحقِّه، وإشادةً بذكره) [8] . هذا والله أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] قال الإمام الذَّهبي في (تاريخ الإسلام) (15/601): (اتَّفق أنَّه سنة نيِّف وأربعين مرَّ بقرية نوَى، فرأى الشَّيخ محيي الدِّين النَّواوي، وهو صبي، فتفرَّس فيه النَّجابة، واجتمع بأبيه الحاج شرف، ووصَّاه به، وحرَّضه على حفظ القرآن والعلم، فكان الشَّيخُ فيما بعدُ يخرجُ إليه، ويتأدَّبُ معه، ويزورُهُ، ويرجو بركته، ويستشيره في أمور) ا.هـ، وانظر: (البداية والنِّهاية) (17/615)، و(المنهل العذب الرَّوي) (ص 66). [2] قال المؤرخ الصفدي في (أعيان العصر) (3/17): (وكان يَضبطُ أسماء السَّامعين، ويَكتبُ الطّباق) ا.هـ. [3] انظر: (ص 37، 44، 66، 67، 69، 113، 115، 119، 121، 123، 126، 127، 131، 133، 134، 137، 139، 141، 147، 148، 152). [4] انظر: (ص 114، 118، 120، 126). [5] انظر: (المنهل العذب الرَّوي) (ص 181-182). [6] سمَّاه الحافظ السُّيوطي في (المنهاج السَّوي) (ص 94). [7] الصَّحيح أنَّه هو الذي ذَكَرَها في جزئه المفرد المطبوع بتحقيقي، وَوَهِمَ فضيلة الشَّيخ عبد الغني الدّقر -وتبعه آخرون-، فقال في كتابه (الإمام النَّووي شيخ الإسلام والمسلمين وعمدة الفقهاء والمحدِّثين وصفوة الأولياء والصَّالحين) (ص 21): (هو أحمد بن فرح بن أحمد الإشبيلي، المحدِّث، وهو صاحب منظومة: غرامي صحيح، في المصطلح، توفي سنة 699 هـ) ا.هـ، وليس الأمر كما قال رحمه الله تعالى، بل صحَّ عن الإشبيلي أنَّه لقَّب شيخه به كما في الرقم (9). [8] قاله د. أحمد الحدَّاد في (الإمام النَّووي وأثره في علم الحديث وعلومه) (ص 19).
راموز الأحاديث لضياء الدين الكمشخانوي صدر حديثًا كتاب "راموز الأحاديث ( جامع للأحاديث النبوية والآثار المصطفوية على ترتيب حروف الهجاء )"، تأليف: الإمام " ضياء الدين أحمد بن مصطفى الكمشخانوي " (ت 1311 هـ)، تحقيق: " عبدالحفيظ بيضون "، نشر: " دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع "- بيروت: لبنان. وهذا الكتاب للإمام أحمد ضياء الدين الكُمُشْخَانَويّ الذي يعتبر خاتمة المحدثين، ومحدِّث الروم في عصره، يعد معجمًا مفهرسًا لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يحتوي هذا الكتاب على (7102) من الأحاديث الوجيزة مرتبة على حروف الهجاء، ويتكون من قسمين: • قسم فيه أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وعدد أحاديث القسم الأول (6401) حديث. • قسم آخر فيه الأحاديث في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم المباركة؛ وعدد أحاديث هذا القسم (701) حديث. وأما شأن الأحاديث من حيث صحتها، فالكتاب يحتوي على الصحيح والحسن والضعيف من الأحاديث، وأورد الضعيف في الترغيب في فضائل الأعمال، وأشار " الكُمُشْخَانَويّ " إلى مخارج الأحاديث، مبينًا أنواعها من حيث قوتها، وقد رمز للرواة بالحروف الهجائية كما كان في " الجامع الصغير ". وقد بيَّن المؤلف في مقدمة كتابه سبب تصنيفه هذا القاموس بأنه أراد جمع أحاديث من الكتب المعتبرة محذوفة الأسانيد، وظاهرة الأحكام والمآل، ومشتملة على قواعد عظيمة من قواعد الدين؛ ليسهل حفظها، ويعم نفعها. ونجد أن " راموز الأحاديث " قد أدى وظيفة مهمة للإصلاح الديني في الأناضول، بحيث إنه قد خُتِم مرارًا في كل أرجائها منذ ظهوره في عهد الدولة العثمانية، وهذه الموسوعة الحديثية البديعة قام مؤلِّفها " الكُمُشْخَانَويّ " نفسُه بوضع شرح نفيس عليها سماه " لوامع العقول شرح راموز الأحاديث "، وهو من أكبر كتبه حجمًا وفوائدَ في خمس مجلدات ضخمة. قال العلامة محمد أمين الشهير بشهري حافظ خواجة حضرة شهريار، وهو أستاذ الإمام الكُمُشْخَانَويّ: "عُرِضَ عليَّ هذا الأثر المعبر، والجمع المفتخر، واطلعت وتصفحت نبذًا مما يشتمله ويحويه، وجدتُ فيه فوائد عامة، ومنافع شاملة، وهو في غاية الاختصار، مع الرعاية فيه ذكر المخرج من الأئمة والرواة الكبار، مشيرًا إلى أنواع الحديث من الحسن والصحيح والضعيف والقوي، ومطابقًا على ما ذكره المحدثون من مسلكهم وفيه خير عظيم، ونفع جسيم...". والمؤلف هو " أحمد ضياء الدين بن مصطفى الكُمُشْخَانَوِي " المولود 1228هـ، والمتوفى 1311 هـ، محدث الروم، وخاتمة المحدثين، ولد سنة 1228هـ/1813م بحي أميرلَرْ من أحياء مدينة كمشخانة، ووالده مصطفى بن عبدالرحمن كان من أهل التجارة في بلده، بدأ تحصيل العلم في سن مبكرة، فقرأ القرآن الكريم على أساتذة بلده وهو ابن خمس سنين، ولما بلغ العاشرة كانت تنتظره حقبة جديدة صعبة في حياته… وذلك بنزوحه إلى طربزون مع أسرته من أجل تجارة أبيه، حيث كان الكمشخانوي يختلف إلى علماء طربزون بدون إخبار أبيه بذلك، وأخذ منهم الصرف والنحو والفقه والعلوم العديدة وسط مطالبات والده بالاهتمام بالتجارة. ثم دخل مدرسة بايزيد في سن الثامنة عشرة، حيث تلقى فيها العلوم الشرعية والتصوف، ودرس الكمشخانوي بمدرسة محمود باشا، وبعدما انتهى من دراسته في مدرسة محمود باشا عيِّن مدرِّسًا بمدرسة السلطان بايزيد خان، وقد استغرق تحصيله في إستانبول ثلاث عشرة سنة. قال محمد زاهد الكوثري: "حضر دروس أساتذة العصر، وبذل ما له من الجهد في اقتناص العلوم، حتى أصبح ناقد المنطوق والمفهوم، وخضعت لديه علماء الروم إذعانًا لوفور علمه، وسعة اطلاعه، وإيقانًا لاتقاد قريحته وطول باعه، ثم جلس على كرسي التدريس في جامع السلطان بايزيد خان، وحضر في حلقة تدريسه الفضلاء الأعيان، ودرسهم العلوم بتحقيق وإتقان، ولم يزل يفيد الطالبين على مقتضى الحال من إطناب وإيجاز؛ حتى أكمل النسخ والفنون المرتبة وأجاز، وحين ما كان يقرأ شرح العقائد قبل أن يجاز، بدأ التصنيف والتأليف في كل باب". وقد أخذ الكمشخانوي العلم بالآستانة من الأساتذة الكبار، ومن أشهرهم: العلامة السيد محمد أمين الإستانبولي الشهير بشهري حافظ خواجة حضرة شهرياري المتوفى سنة 1281هـ/1864م. ومنهم: العلامة عبدالرحمن الكردي المعروف بكرد خوجه - أي: الأستاذ الكردي - المتوفى سنة 1267هـ/1851م. وتعددت رحلات الكمشخانوي إلى الشام ومكة ومصر، يقول الكوثري عن إحدى رحلاته لمصر: "ثم ذهب إلى الحجاز مع أهله، وفي أثناء عودته مر بمصر وأقام ثلاث سنين، ولقي بعض أساتذة أستاذه كالشيخ مصطفى المبلط الأحمدي، وقرظ على راموز الأحاديث التي جمعها الشيخ المترجم في مجلد ضخم على ترتيب حروف الهجاء محذوفة الأسانيد مكتفيًا برموز مخرجيها، ودرس كتابه هذا في جامع السبطين مرة بعد أخرى، حتى خُتِم سبع مرات، وأجاز في كل مرة، وفي الختم الأخير كان في مجلس تدريسه مائتا رجل من الفضلاء، ولم يزل على ذلك حتى أقبلوا عليه غاية الإقبال، وألفوه بحر العلوم وخزانة الحال، فأخذ عنه كثير من الأخيار، ونشر طريقه في تلك الديار، وله خلفاء خمسة من أبناء العرب، أصحاب عوالي المقامات وسوامي الرتب". ونجد أنه عندما حدثت الحرب المعروفة بين روسيا والدولة العثمانية سنة 1294هـ/1877م التحق الكمشخانوي رحمه الله بتلك الحرب، فذهب مع طلابه ومريديه إلى جهة قارص وحاربوا الروس بها. وقد ألف الشيخ الكمشخانوي كتبًا في شتى العلوم المختلفة؛ كالحديث، والفقه، والتصوف، والكلام. واستغرقت مدة حياته التأليفية بين عامي 1264 و1292هـ (1848، و1875م). وطبعت معظم كتبه بطبعات قديمة. غير أن الشيخ قد اشتهر في علم الحديث خاصة، حتى لقب بخاتمة المحدثين ومحدث الروم، وألَّف في الحديث كتبًا عظيمة القدر، كبيرة الفائدة بحيث قد استفاد منها ملايين من الناس في بلاد عديدة، منها راموز الأحاديث الذي ألفه سنة 1274هـ/1858م وشرحه " لوامع العقول ". وكتاب " عجائب النبوة " أو " غرائب الأحاديث "، وكتاب " لطائف الحِكَم " وهو شرح موجز لغرائب الأحاديث. وكتاب " الأحاديث الأربعين " يحتوي على أحاديث قصار، وله " روح العارفين " و" نجاة الغافلين "، و" دواء المسلمين " في الأخلاق والتصوف. وله " جامع المناسك على أحسن المسالك " ذكر فيه عبادات الحج. و" جامع المتون " في العقيدة، وكتاب " مطلب المجاهدين " في آداب الجهاد وغيرها. وتوفي سنة 1311 هـ - 1893 م في التسعين من عمره. وقد حقق الكتاب الأستاذ " عبدالحفيظ بيضون " على طبعته الحجرية التي طبعت في الآستانة عام 1275 هـ، حيث تم مطابقة النص وترقيمه والتعليق على المواضع التي تحتاج زيادة إيضاح، أو بسط مسألة، أو بيان مشكل، مع عمل فهارس تفصيلية لأبواب الكتاب والتعريف بصاحبه.
عيسى ابن مريم عليه السلام (7) ماذا قالوا عن نهاية المسيح؟ قال الله تعالى: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [مريم: 37]، وقصد بالأحزاب اليهود والنصارى، وقالت اليهود: هو ساحر، ولم يعترفوا بنبوته، كما اتهموه بأنه ابن يوسف النجار، وما إلى ذلك من التهم، أما النصارى فقد اختلفوا على ثلاثة أقوال، فقسم منهم قالوا: كان فينا عبد الله ورسوله، فرفعه الله إلى السماء، وهم طائفة على الحق، وقسم قالوا: هو الله، وقسم قالوا: هو ابن الله، وقد تكلم القُرْآن عن هذه الطوائف، وبيَّن الأقوال الضالة، وتوعدهم بالعذاب الأليم، وحذر أن مثل هؤلاء لا نصير لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، لقد كفر أصحاب هذا الاعتقاد بقولهم: إن عيسى هو الله، مع بيان أن دعوة عيسى عليه السلام هي دعوة توحيد لله الخالق العظيم، وعدم الشرك به، أو إشراك أحد معه، وأن من يعتقد عقيدة الشرك فقد حرَّم الله عليه الجنة، وأن النار مثواه خالدًا فيها، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73]. تخطئة أخرى لفئة أخرى ضلت القصد وتاهت عن الطريق المستقيم، وألغتِ العقل والتفكير السوي، واتخذت من عقيدة التثليث منهجًا لها، وهذا بعيدٌ عن التفرد الإلهي والتصرف في الكون بلا منازع، وهي صفة الخالق التي ينبغي ألا تكون إلا له، وكيف تكون له وحده وقد جعلوه ثالث ثلاثة؛ ولهذا تلقوا الوعيد الشديد والعذاب الأليم إن أصروا على هذه العقيدة، وأما من اشتبه عليه الأمر من طريقة خَلْق عيسى بلا أب فعليه ألا يأخذه تفكيره إلى التصور الخاطئ بأن يوصله بالله بنسب أو قرابة، فهذا لا ينبغي أبدًا؛ فالله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وإنما ليتذكر كيفية خلق آدم بلا أب أو أم، ومع ذلك لم ينسب أحدٌ آدمَ إلى صلة قرابة أو نسب مع الله، رغم أن معجزة خلقه وتكوينه أكبر من معجزة خلق عيسى وتكوينه، وكلاهما هين على الله؛ ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلماذا الخطأ بشأن عيسى؛ ألِئَنَّ الشيطان لبس الأمر على مريديه فغالوا فيه بغير الحق فحرفهم عن الطريق السوي ومال بهم إلى الضلال والتيه؟ ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]؛ فهذا القول الحق الذي ينبغي أن يقال عن عيسى عليه السلام، ولا ينبغي الغلو في القول والافتراء، قد يكون أمر الرفع قد اشتبه على النصارى ورأوا المقتول أو المصلوب شبه عيسى، لكن غاب عنهم قول هذا الشبيه لهم وهو يتقدم إلى الموت بأنه ليس عيسى، وأنه هو الذي دلهم عليه فلم يصدقوه، وقد رآه وسمعه بعض الحواريين وعرفوا أن المصلوب ليس هو؛ بدليل افتقاد أهل الشبيه لولدهم فلم يرجع إليهم، كما يروى أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: أنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه فقتل وصلب، وهذا هو الراجح من الأقوال، وبهذا قالت الفرقة الناجية منهم: بأنه عبد الله ورسوله، رُفع إلى السماء، ولو أن الأمر فيه التباس لما قالت هذه الفرقة هذا القول؛ فمن أين أخذت العلم لو كان أمره معمًّى على الجميع؟ ولهذا جاء النداء من الله تعالى لأهل الكتاب بالعودة إلى الصواب وتصحيح ما أدخله عليهم المغرضون من أهل الزيغ والضلال، الذين اتبعوا أهواءهم بتلبيس الشيطان عليها، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]، ويلاحظ أنه في كل مرة يذكر فيها المسيح في القُرْآن الكريم يذكر باسمه الكامل؛ ليمنع اللبس والتأويل بأن المقصود هو عيسى ابن مريم نصًّا، فلا يستطيع بعض المغرضين وأهل الزيغ أن ينفُذوا من خلال النص لتحقيق مآربهم في الإضلال، مثلما أولوا في سورة يوسف: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ ﴾ [يوسف: 63]، فقالوا: إن اسم أخي يوسف نكتل، ونكتل: فعل مضارع مجزوم بفعل الطلب أرسل، وكذلك عندما ذكرت قصة موسى مع الخضر قالوا: ليس المقصود بموسى النبي، علمًا بأن موسى لم يذكر في القُرْآن الكريم إلا باسمه العلمي "موسى"، أما عيسى فقد ذكر عند المواقف الحساسة باسمه كاملًا؛ لمنع التأويل والتدليس. وتتابع الآيات ذكر عبودية عيسى لله؛ ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172]؛ أي: والملائكة المقربون لن يستنكفوا؛ فالكل عبيد مهما آتاهم الله من القوة وأحدث على أيديهم المعجزات، فهم أولًا وأخيرًا عبيد، فبأمر الله يُعطَوْن القوة، وبأمره يُسلَبونها، ﴿ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 172، 173]، وفي الصحيحين عن عبادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ورُوح منه، والجنة حق، والنار حق - أدخَله الله الجنة على ما كان من العمل ))، وقال عليه الصلاة والسلام: (( لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله )).
الترجمة في الوطن العربي لا بد لنا قبل البدء في تفصيل الموضوع أن نحدد مفهوم الترجمة، فعادةً ما ينظر إليها على أنها وساطة لغوية، في حين أنها تعمُّقٌ في الفكر وإبداع وإتيان بالجديد، وهي تتعلق أساسًا بمضمون النص. يعاني هذا التخصص في الوطن العربي من قلة توفير مناصب الشغل، وللمترجمين ثلاثة مجالات لهم أن ينشطوا فيها: الترجمة الأدبية، الترجمة القانونية، الترجمة المتخصصة؛ حيث إنه في الترجمة الأدبية، يأخذ المترجم على عاتقه ترجمة كتاب بالتعاون مع المدقق اللغوي وبرعاية دار النشر، أما الترجمة القانونية، فتُؤسَّس بافتتاح مكاتب ترجمة معتمدة، تتولى ترجمة الوثائق القانونية ومنحها الصبغة الرسمية، بينما الترجمة المتخصصة، فتكون على مستوى مؤسسات تقدم خدمات ترجمية مختلفة، وهي تتعلق أساسًا بالجانب الاقتصادي والشؤون المالية. دراسات الترجمة الحديثة قذفت بالترجمة إلى التخصصات العلمية الدقيقة، والناظر في الخلفية التاريخية لهذا التخصص، يجد أنه اصطبغ بالطابع الأدبي ثم تعلق باللسانيات، وبعدها تداخل مع العلوم المعرفية، ثم منحته الوسائل التكنولوجية بُعدًا مغايرًا بولوج القرن الحادي والعشرين. هذه الأفكار تراوح مكانها في الوطن العربي؛ حيث إن فهم المقصود من الترجمة لم يتم استيضاحه، فهناك ما يسمى بعلم الترجمة الذي يقود إلى الإبداع والابتكار في تخصصات ارتبطت به، سيَّما العلوم القانونية، بنشاط معتبر للمترجمين القانونيين، والاستنتاجات التي وصلوا إليها. لو أسسنا لتخصص الترجمة وفق هذا المنظور، لكانت له فائدة جمة في جميع التخصصات الجامعية الأخرى، لأننا نساهم في بناء هذه التخصصات بما توفر لدى المترجمين من معارف حصلوها، من خلال خبرتهم الميدانية وممارستهم للفعل الترجمي.
أصول التفكير النحوي قراءة في فكر نحاة القرن الرابع الهجري لمحمد بن ردة العمري صدر حديثًا "أصول التفكير النحوي: قراءة في فكر نحاة القرن الرابع الهجري"، تأليف: د. "محمد بن ردة بن عطية الله العمري"، نشر: "دار ملامح للنشر والتوزيع" بالإمارات. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في النحو والصرف، بكلية اللغة العربية- جامعة أم القرى، وأشرف على البحث أ.د. "سليمان بن إبراهيم بن محمد العايد"، وذلك عام 1430 هـ - 1431 هـ. وتتناول هذه الدراسة أهمَّ أصول التفكير التي قامت عليها الدراسةُ النحوية في القرن الرابع الهجري؛ بهدف الوصول إلى المدى الذي أصاب هذه الدراسة من التطور، وملاحظة معالمه، وعزوها إلى أصولها، مع تقويم النظرات التي تباينت حول صور هذا التطور وأسبابه. ويرى الكاتب أن هناك شبهَ إجماع على تأثر النحو العربي بالمنطق الأرسطي أو الفلسفة اليونانية عامة، وفي هذا القرن خاصة يبعث الظن بأن النحاة اكتفَوا ببيان المقولات الأرسطية، وأن معطيات النحو في هذا القرن هي في أساسها تكييف لهذا الفكر وتلك الفلسفة وحدها، وأن كثيرًا ممن يرمُون النحو العربي بالخضوع للفكر غير العربي يخصُّون هذا القرن باستحكام هذا الأثر، ويردون كل تجديد في النحو من حيث التبويب والتقسيم والميل إلى التيسير إلى آثار هذا القرن. ولا ريب في تلك الظاهرة، ولكنه كان أحد صور التفاعل الإيجابي المثمر مع الثقافة المنطقية اليونانية، مما جسده الفكر النحوي في القرن الرابع الهجري لدى شخصيات من أهم نحاة العربية الكبار: "ابن السراج"، و"الزجاجي"، و"السيرافي"، و"أبو علي الفارسي "، و"ابن جني"، ونجد رغم ذلك هجوم بعض النحاة على المنطق نظرًا، ونقدهم للنحاة المسرفين فيه فعلًا. ولعل أبرز من أسهم في هذا المجال "أبو علي الفارسي" في نقده لاتجاه "علي بن عيسى الرماني"، الذي يراعي فيه الحقائق المنطقية ويحرص على الاهتداء بها؛ إذ يقول "لو كان النحو ما يقوله الرماني، لم يكن معنا منه شيء"، ومن قبله أبو سعيد السيرافي الذي يرفض اعتبار المنطق مقياسًا صالحًا للاستخدام في كافة العلوم، وعلى رأسها النحو. وقد اتخذت تلك الدراسة الأصول الفكرية والاستدلالية والتفسيرية نماذجَ يمكن من خلالها معرفة موجِّهات التفكير وآثار هذه الموجهات، من خلال الحكم بأثرها سلبًا أو إيجابًا في الدرس النحوي، وتأثيرها على نُحاته في هذا القرن. وقد توصل البحث إلى أنه لا يمكن تجاهل ما ماج به القرن الرابع من صراعات وثقافات وجدل علميٍّ ألقى بظلاله على الدراسة النحوية، إلا أن أغلب نُحاته كانوا متبعين لسابقيهم، مكملين لدورهم، حيث توجهت الدراسة النحوية لديهم إلى التحليل والتطبيق أكثر منه إلى التنظير، مستفيدين من ثقافة العصر، متأثرين بروحه العامة. كما توصل البحث إلى أن كثيرًا من الدراسات والآراء الحديثة بالغت في تقدير الأصول المؤثرة على تفكير نحاة القرن الرابع الهجري، واتخذت ذلك سبيلًا لتبرير التجديد بأي صورة كانت، وفي أي عصر كان، وأن منطلق هذه الآراء هو الأهواء الشخصية دون اعتماد على أساس علميٍّ وثيق. كما كشف البحث عن وجود مبالغات من بعض المعتدلين في البحث النحوي من حيث الحكم على الأثر العقدي لنحاة القرن الرابع في توجيه الدرس النحوي، ومن حيث موقف النحاة فيه من علوم النقل الإسلامية، بما في ذلك القراءات القرآنية والحديث النبوي. وقام الباحث بهيكلة خطة الدراسة على ثلاثة فصول، يسبقها تمهيد عن القرن الرابع من جوانب متعددة؛ بهدف رسم صورة جليَّة لبيئة موضوع البحث، مع بيان بعض الحركات الفكرية والثقافية، والترجمة وأثرها في علوم هذا القرن، ويعقب تلك الفصولَ خاتمةٌ في النتائج الإجمالية للبحث، وكان أساس هذا التبويب لفصول الدراسة مبنيًّا على الأصول المتراتبة والتي يستلزم بعضها بعضًا، وذلك من باب إظهار الترابط الموضوعي بين هذه الفصول، مما يعكس صورة حقيقية لموضوع الدراسة، فكانت الفصول: الفصل الأول: الأصول الفكرية "الروافد والمنابع". وجاء مقسمًا على: أ- العلوم الإسلامية ب- علم الكلام جـ- الفلسفة. الفصل الثاني: الأصول التكوينية "الاستدلالية": أ- السماع ب- القياس. الفصل الثالث: الأصول التفسيرية: أ- العامل ب- التعليل جـ- التأويل. وقام الكاتب بحذف مبحث الأصول الإسلامية من الروافد لتشعبها، ولكون تأثر النحو والعربية عامةً بالروافد الإسلامية من الأمور المعروفة التي تم بيانها في كثير من الدراسات السابقة. وقام الكاتب باستقاء مادته من كثير من كتب نحاة القرن الرابع، ويشمل ذلك مؤلَّفات الأعلام الذين عُرفت لهم الرياسة في القرن الرابع في علم النحو؛ كابن السراج وأبي علي وابن جني والزجاجي والسيرافي والرماني والنحاس والوراق، وكذلك اعتمد على كتب المنطق والفلسفة والقراءات والتاريخ والتراجم، وأيضًا من مراجعه: دراسات المحدثين ومؤلفاتهم، وخصوصًا ما يتصل منها بالدراسة النحوية في هذا القرن. ولعل هذه الدراسة من الدراسات التحليلية الجادة في اكتشاف الفكر النحوي في القرن الرابع ورصد معالمه استقراءً عميقًا، وتحليلًا متأنيًا واعيًا، يمكن من خلاله استيضاح صور التطور وأصوله عن طريق المنهج الوصفي، وبيان خصائص القرن الرابع الفكرية التي بلورت مناهج البحث النحوي، وأثرت في تأليفه من خلال سيطرتها على تفكير النحاة واتجاهاتهم.
سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب الحمدُ لله الذي خَلَقَ السماوات والأرض، ولم يكن له شريك في الملك، وخَلَقَ كُلَّ شيء فقدره تقديرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا. أما بعد: فإن الحسين بن علي هو سيد شباب أهل الجنة؛ من أجل ذلك أحببت أن أُذَكِّرَ نفسي وإخواني الكرام بشيء من سيرته العطرة. الاسم والنسب: الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيٍّ. أم الحسين بن علي: فاطمةُ بنتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأمها: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِالعُزَّى بنِ قُصَيِّ؛   (متمم الطبقات الكبرى لابن سعد جـ1صـ369). ميلاد الحسين: كان مَوْلِدُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ فِي الخَامِسِ مِنْ شَعْبَانَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الهِجْرَةِ؛ (أسد الغابة لابن الأثير جـ2صـ24). تسمية الحسين بن علي: روى أحمدُ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالب قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا، قَالَ: "بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ"؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ2صـ159 حديث 769). عقيقة الحسين بن علي: روى أبو داودَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث:2466)، (الاستيعاب لابن عبدالبر جـ1صـ392). كنيته: أَبُو عَبْدِ اللهِ. أولاد الحسين بن علي: أَوْلَادُ الحُسَيْنِ ستةٌ، وهم: عَلِيٌّ الأَكْبَرُ (وهُو الَّذِي قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ بِكَرْبَلَاءَ)، وَعَلِيٌّ الأَصْغَرُ (وهُو عَلِيٌّ زِينُ العَابِدينَ، وَذُرِّيَتُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ)، وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُاللهِ، وَفَاطِمَةُ، وَسُكَيْنَةُ؛(صفة الصفوة لابن الجوزي جـ1صـ762/ سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ321). علم الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ: روى الحسين بن علي عن: جده النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أيضًا عن أبويه، وعمر بن الخطاب، وآخرين. روى عن الحسين بن علي: ولداه؛ علي وفاطمة، وعبيد بن حنين، وهمام الفرزدق، وعكرمة، والشعبي، وطلحة العقيلي، وابن أخيه؛ زيد بن الحسن، وابنته سكينة، وآخرون؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ280). مناقب الحسين بن علي: (1) روى البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: ((إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيلَ وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كل عينٍ لامَّةٍ))؛ (البخاري حديث 3371). (2) روى البخاري عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، أتي عبيد الله بن زيادٍ برأس الحسين عليه السلام، فجعل في طستٍ، فجعل ينكت (يضرب بقضيب على الأرض)، وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: "كان أشبههم (أي أشبه أهل بيته به) برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبًا (أي مصبوغًا) بالوسمة (نبات يميل إلى سواد يصبغ به"؛ (البخاري حديث: 3748). (3) روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: ((لقد قُدتُ بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين، بغلته الشهباء، حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قُدَّامَه وهذا خلفه)) (مسلم حديث: 2423). (4) روى الترمذي عن عبدالله بن عمر: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث:2967). (5) روى الترمذي عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2968). (6) روى الترمذي عن أسامة بن زيد، قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو، فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا حسنٌ وحسين على وركيه، فقال: ((هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أُحِبُّهما فأَحِبَّهما وأَحِبَّ من يحبهما))؛ (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني حديث2966). (7) روى ابن ماجه عن سعيد بن أبي راشد أن يعلى بن مرة حدَّثهم أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام دُعُوا له، فإذا حسين يلعب في السكة، قال: فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم، وبسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا، ويضاحكه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى في فأس رأسه فقبَّله وقال: ((حسين مني، وأنا من حسين، أحَبَّ اللهُ من أحَبَّ حسينًا، حسين سبط من الأسباط (أي ولد الولد)))؛ (حديث حسن) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث118). الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة: روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث:2965). روى الترمذي عن حذيفة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا ملَكٌ لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربَّه أن يسلِّم عليَّ ويبشِّرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))؛ (حديث صحيح)، (صحيح الترمذي للألباني حديث:2975). الحسين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: روى مسلم عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداةً (في الصباح) وعليه مرط مرحل، من شعر أسود (نوع من الثياب)، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]؛ (مسلم حديث: 2424). تكريم الصحابة للحسن بن علي: (1) قال محمد بن إبراهيم التيمي: لما دوَّن عمر بن الخطاب الديوان، وفرض العطاء، ألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بدر؛ لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرض لكل منهما خمسة آلاف درهم؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ13صـ:238). (2) روى ابن شبة عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال: "أتيت عمر رضي الله عنه وهو على المنبر فقلت: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك، قال: (إن أبي لم يكن له منبر)، وأجلسني بين يديه، وفي يدي حصًى فجعلت أقلِّبه، فلما نزل ذهب بي إلى منزله فقال لي: (يا بني، من علَّمك هذا؟))، قلت: ما علَّمنيه أحد، قال: (أي بني، حلفت تغشانا حلفت تأتينا)، قال: فأتيته يومًا وهو خالٍ بمعاوية رضي الله عنه، وابن عمر رضي الله عنه بالباب لم يدخل، فرجع ابن عمر رضي الله عنهما، فلما رأيته يرجع رجعت، فلقيني عمر رضي الله عنه بعد ذلك فقال: (أي بني، لم أرك أتيتنا؟)، قلت: قد جئتُ وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر يرجع فرجعتُ، قال: أنت أحقُّ بالإذن من ابن عمر، إنما أثبت في رؤوسنا ما هدى الله وأنتم، ووضع يده على رأسه"؛ (صحيح) (تاريخ المدينة لابن شبة جـ3صـ799)؛ (متمم الطبقات الكبرى لابن سعد جـ1صـ394). (3) كان عبدالله بن عباس يأخذ الركاب (ما يوضع على ظهر الخيل) للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ38). (4) قال العيزار بن حريث: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين بن عليٍّ مقبلًا، فقال: هذا أحبُّ أهلِ الأرض إلى أهل السماء؛(متمم الطبقات الكبرى لابن سعد جـ1صـ395). (5) كان الحسين بن علي يختم القرآن في شهر رمضان؛ (إسناده حسن)، (متمم الطبقات الكبرى لابن سعد جـ1صـ419). عبادة الحسين بن علي: كان الحسين بن علي فاضلًا كثير الصوم، والصلاة، والحج، والصدقة، وأفعال الخير جميعها؛ (أسد الغابة لابن الأثير جـ2صـ24). مبايعة أهل العراق للحسين: كان الحسين بن علي يعتقد أنه أولى الناس بالخلافة بعد موت معاوية بن أبي سفيان؛ ولذلك لم يبايع يزيد بن معاوية، وقد كثر ورود الكتب على الحسين من بلاد العراق يدعونه إليهم، وذلك حين بلَغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارًا من بيعة يزيد، وجاء وفد من العراق ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابًا إلى الحسين، ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي، ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، فاجتمعت الرسل كلُّها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم، ليبايعوه عوضًا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحدًا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم. فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق؛ ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتمًا وأمرًا حازمًا محكمًا، بعث مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة، فأخذ مسلم بن عقيلبيعة أهل الكوفة للحسين، وأرسل بذلك إلى الحسين؛ ولذا عزم الحسين على المسير إلى الكوفة؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ154). رسالة الحسين إلى أهل العراق: بعث الحسين بن عليٍّ قيسَ بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد خرجت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم وجدُّوا؛ فإني قادم عليكم في أيامي هذه، إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ170:169). نصيحة الصحابة للحسين بن علي: عبدالله بن عباس: قال عبدالله بن عباس: استشارني الحسين في الخروج، فقلت: لولا أن يستخف بي وبك، لنشبت يدي في رأسك، فقال الحسين: لأنْ أُقتَلَ بمكان كذا وكذا أحَبُّ إليَّ من أن أستحل حرمتها؛ يعني: مكة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ292). عبدالله بن عمر: قال الشعبي: كان ابن عمر قدم المدينة، فأُخبِر أن الحسين قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ليلتين، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه كتب، فقال: لا تأتهم، قال الحسين بن علي: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال أبو سعيد الخدري: إن الله خيَّر نبيَّه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا، وقال له ابن عمر أيضًا: إن أهل العراق قوم مناكير، قتَلوا أباك، وضربوا أخاك، وفعلوا، وفعلوا. فأبى الحسينُ بن علي، فاعتنقه ابن عمر، وقال: أستودعك الله من قتيل. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ292). وكان عبدالله بن عمر يقول: غلَبَنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرةً، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). أبو سعيد الخدري: جاء أبو سعيد الخدري إلى الحسين بن علي، فقال له: يا أبا عبدالله، إني لك ناصح ومشفق، وقد بلَغَني أنه كاتَبَك قوم من شيعتك، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاءً، ولا لهم ثبات ولا عزم ولا صبر على السيف؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ294). قال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين بن علي على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). محمد بن الحنفية: لما بايَعَ الناس معاوية ليزيد، كان الحسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إلى حسين يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى، فقدم منهم قومٌ إلى محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب) يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى وجاء إلى أخيه الحسين فأخبره بما عرضوا عليه، وقال: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويسيلوا دماءنا؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ163). أبو واقد الليثي: قال أبو واقد الليثي: بلغني خروجُ الحسين بن علي، فأدركته بملل، فناشدته اللهَ أن لا يخرج، فإنه يخرج في غيرِ وجهِ خروج، إنما خرج يقتُل نفسه، فقال: لا أرجع؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). جابر بن عبدالله: قال جابر بن عبدالله: كلَّمتُ حسينًا فقلتُ: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). المِسْوَر بن مَخْرمة: كتب المسور بن مخرمة إلى الحسين بن علي: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق وبقول ابن الزبير: الحَقْ بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرَم، فإنهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). نصيحة التابعين للحسين بن علي: أبو بكر بن عبدالرحمن: جاء أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال: يا ابن عم، إن الرحم تظأرني عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك، قال: يا أبا بكر، ما أنت ممن يستغش ولا يُتهم، فقل، قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحَبَّ إليه ممن ينصره، فأذكِّرك الله في نفسك، فقال: جزاك الله يا بن عم خيرًا، ومهما يقضِ الله من أمر يكن، فقال أبو بكر: إنَّا لله، عند الله نحتسب أبا عبدالله؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). عمرو بن سعيد بن العاص: كتب عمرو بن سعيد بن العاص نائب الحرمين إلى الحسين بن علي: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عما يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإن كنت خائفًا فأقبل إليَّ، فلك عندي الأمان والبر والصلة، فكتب إليه الحسين: إن كنتَ أردتَ بكتابك بري وصلتي فجُزيتَ خيرًا في الدنيا والآخرة، وإنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمان الآخرة عنده؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ165). رؤيا مقتل الحسين بن علي: روى أحمد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: "رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه أو يتتبع فيها شيئًا، قال: قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابِه لم أزل أتتبعه منذ اليوم"، قال عمار: "فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتِل ذلك اليوم"؛ (إسناده قوي)، (مسند أحمد جـ4صـ60حديث: 2165). صفة مقتل الحسين بن علي: جمع الحسين بن علي أصحابه ليلة عاشوراء، كان الحسين في خمسين رجلًا، منهم تسعة عشر من أهل بيته، فحمد الله، وقال: إني لا أحسب القوم إلا مقاتليكم غدًا، وقد أذنت لكم جميعًا، فأنتم في حلٍّ مني، وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له قوة، فليضم إليه رجلًا من أهل بيتي، وتفرَّقوا في سوادكم، فإنهم إنما يطلبونني، فإذا رأوني، لهوا عن طلبكم، فقال أهل بيته: لا أبقانا الله بعدك، والله لا نفارقك، وقال أصحابه كذلك، فلما أصبحوا، قال الحسين: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت فيما نزل بي ثقة، وأنت وليُّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، فلما جاء جيش عبيدالله بن زياد بقيادة عمر بن سعد، قال لهم الحسين بن علي: لا تعجلوا، والله ما أتيتكم حتى أتتني كتب أماثلكم بأن السُّنة قد أميتت، والنفاق قد نجم، والحدود قد عطلت، فاقدم، لعل الله يصلح بك الأمة، فأتيت فإذ كرهتم ذلك، فأنا راجع، فارجعوا إلى أنفسكم؛ هل يصلح لكم قتلي، أو يحل دمي؟ ألست ابنَ بنت نبيِّكم وابنَ ابنِ عمه؟ أوليس حمزة والعباس وجعفر عمومتي؟ ألم يبلغكم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيَّ وفي أخي: ((هذان سيدا شباب أهل الجنة))؟ فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول، فقال عمر بن سعد: لو كان أمرك إليَّ، لأجبت، وقال الحسين: يا عمر! ليكونن لما ترى يوم يسوءك، اللهم إن أهل العراق غرُّوني، وخدعوني، وصنعوا بأخي ما صنعوا، اللهم شتِّت عليهم أمرهم، وأحصهم عددًا. (وجاء في رواية أن الحسين خيَّر قائد جيش زياد بين ثلاثة أمور: قال الحسين بن علي: حين نزلوا كربلاء: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: كرب وبلاء، وبعث عبيدالله بن زياد عمر بن سعد يقاتلهم، فقال الحسين: يا عمر، اختر مني إحدى ثلاث خصال؛ إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم فيَّ ما رأى، فإن أبيت هذه فسيرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت، فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمَّ أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن: لا، إلا أن ينزل على حكمك. فأرسل إليه بذلك، فقال الحسين: والله لا أفعل )؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ171). فكان أول من قاتل مولى لعبيدالله بن زياد، فبرز له عبدالله بن تميم الكلبي، فقتله، والحسين جالس عليه جبة خز دكناء، والنبل يقع حوله، فوقعت نبلة في ولد له ابن ثلاث سنين، فلبس لأمَتَه، وقاتل حوله أصحابه، حتى قُتلوا جميعًا، وعطش حسين، فجاء رجل بماء، فتناوله، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فيه، فجعل يتلقى الدم بيده ويحمد الله، وتوجَّه نحو الفرات، فحالوا بينه وبين الماء، ورماه رجل بسهم، فأثبته في حنكه، وبقي عامة يومه لا يقدم عليه أحد، حتى أحاطت به الرجالة، وهو رابط الجأش، يقاتل قتال الفارس الشجاع، إن كان ليشدُّ عليهم، فينكشفون عنه انكشاف المعزى شد فيها الأسد، حتى صاح بهم شمر بن ذي الجوشن: ثكلتكم أمهاتكم! ماذا تنتظرون به؟ فانتهى إليه زرعة التميمي، فضرب كتفه، وضربه الحسين على عاتقه، فصرعه، وبرز سنان النخعي، فطعنه في ترقوته وفي صدره، فخر، ثم نزل ليحتز رأسه، ونزل خولي الأصبحي، فاحتز رأسه، وأتى به عبيدالله بن زياد، فلم يعطه شيئًا. ووُجد بالحسين ثلاث وثلاثون جراحةً، قُتل مع الحسين اثنان وسبعون رجلًا، منهم سبعة عشر من أهل بيت الحسين، ولم يفلت من أهل بيت الحسين سوى ولده عليٍّ الأصغر، كان مريضًا،قُتل الحسين وهو ابن سبع وخمسين سنة، والذي قتل الحسين هو: سنان بن أنس النخعي، (الاستيعاب لابن عبدالبر جـ1صـ393)، (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ3صـ303:301) (الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ1صـ333). قال محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب): قُتل مع الحسين سبعة عشر رجلًا، كلهم من أولاد فاطمة؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ191). غلو الشيعة في الحسين بن علي: (1) روى الكليني (أحد علماء الشيعة) عن أبي عبدالله جعفر الصادق (عليه السلام) قال: أشهد أن عليًّا إمام فرض الله طاعته، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته، وأن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن علي بن الحسين إمامٌ فرض الله طاعته، وأن محمد بن علي إمامٌ فرض الله طاعته. الكافي للكليني جـ 1صـ109 الطبعة الثالثة 1388هـ طهران). (2) روى ابن بابويه القمي (أحد علماء الشيعة) عن أبي عبدالله جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفًا بحقه، كان كمن حج مائة حجة مع النبي صلى الله عليه وآله؛ (كامل الزيارات لابن بابويه القمي ـ الطبعة الأولى 1417هـ). (3) روى العياشي (أحد علماء الشيعة) عن أبي عبدالله جعفر الصادق (عليه السلام): إن أول من يكر (يعود) إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه، ويزيد بن معاوية وأصحابه، فيقتلهم حذو القذة بالقذة؛ (تفسير العياشي جـ2 صـ280). (4) قال أبو جعفر الطوسي: يستحب أن يجعل مع الميت شيء من تربة الحسين عليه السلام؛ (النهاية في مجرد الفقه للطوسي صـ38 ـ طبعة دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الثانية 1400هـ). التربة الحسينية المقدسة: قلما يوجد بيت للشيعة لا توجد فيه التربة الحسينية المقدسة التي يسجد عليها الشيعة في صلواتهم، وهي من تراب كربلاء المدينة التي استُشهد الحسين بن علي فيها، ودفن بها. إن الكثير من الذين يسجدون على التربة الحسينية، يقبِّلونها ويتبركون بها، وفي بعض الأحيان يأكلون قليلًا من تربة كربلاء للشفاء، في حين أن أكل التراب حرام في الفقه الشيعي، لقد صنع الشيعة هيئات مختلفة من هذه التربة الحسينية، يحملونها في جيوبهم، وينقلونها معهم في أسفارهم، ويعاملونها معاملة تقديس وتكريم. إن ملايين الشيعة في مشارق الأرض ومغاربها يلتزم بالسجود على تربة كربلاء، ومساجدهم مملوءة بها، ويعملون بالتقية عندما يقيمون الصلاة في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى؛ حيث يخفونها ولا يظهرونها خوفًا من اعتراض غيرهم عليها، وقد التبس الأمر على كثير من غير الشيعة، فظنوا أن هذه التربة أصنام تسجد الشيعة عليها، وقد كادت الفتنة تحدث في مساجد البلاد التي لا تعرف شيئًا عن التربة الحسينية ومظاهرها. سؤال مهم نوجهه إلى كل شيعي: هل سجد الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء من تربة أرض كربلاء؟ هل سجد علي بن أبي طالب، والحسن والحسين والأئمة من بعدهم على تربة أرض كربلاء؟ إذا كانت الشيعة ترى نفسَها على حق في السجود على تربة كربلاء فلمَ تخشى من الجهر بهذا الأمر أمام باقي المسلمين من الفرق الأخرى، وكلهم يجمعهم كتاب واحد، ونبيٌّ واحد، وقِبلة واحدة، وصلاة واحدة؟! إن علماء الشيعة الأوائل الذين وضعوا أسس عقيدة الشيعة هم المسؤولون عن انتشار ظاهرة السجود على تربة أرض كربلاء؛ (الشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوي صـ115: صـ118). دعاء الحسين على الشيعة: روى محمد بن النعمان الملقب بالمفيد (أحد علماء الشيعة) عن الحسين بن علي أنه قال في دعائه على شيعته: اللهم إن متَّعتهم إلى حين ففرِّقهم فرقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعَوْنا لينصرونا، ثم عَدَوا علينا فقتَلونا؛ (الإرشاد للمفيد صـ241). رحم الله تعالى الحسين بن علي رحمةً واسعةً، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
بذل العسجد لسؤال المسجد للسيوطي تحقيق محمد عبدالقادر صدر حديثًا كتاب "بذل العسجد لسؤال المسجد"، للحافظ "جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي" (ت 911 هـ)، تحقيق: "محمد عبدالقادر عبدالرازق"، نشر: "دار اللؤلؤة للنشر والتوزيع"- المنصورة: مصر. وبمقدمة الرسالة للمحقق: رسالة "درر الأماجد لبيان أحكام الصدقة في المساجد". وهذه الرسالة للإمام السيوطي تتضمن أحكام السؤال في المسجد، وحكم إعطاء الصدقة في المساجد، وقد علَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا نشَدَ ضالَّتَه في المسجد فقال: ((إن المساجد لم تُبْنَ لهذا)). ومما يسيء لبيوت الله ويدنسها: التفافُ الشحاذين حول أبوابها، واقتحام بعض المتسولين لساحاتها، فأفرَدَ الحافظ السيوطي رسالته هذه (بذل العسجد لسؤال المسجد) بيانًا لأحكام التعامل مع هؤلاء المتسولين من حيث إعطاؤهم، أو زجرهم وطردهم من المساجد؛ تنزيهًا لها عن أن تصير مأكلةً ودكانًا للبعض، وامتثالًا لقول ربنا: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]. ويبدأ السيوطي رسالته بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. السؤال في المسجد مكروهٌ كراهة تنزيه، وإعطاء السائل فيه قُربةٌ يثاب عليها، وليس بمكروه فضلًا عن أن يكون حرامًا، هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث". ثم يبدأ السيوطي رحمه الله بجلب الأدلة من السنة النبوية وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، على كراهة السؤال في المسجد، من باب التسول وشَغلِ المصلِّين، وأنه لا تعارض بين الأحاديث التي رويت في كراهة طلب الصدقات واللقطة في المسجد، وبين الأحاديث التي رويت بها مواقف تدل على أخذ المسلمين الصدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد إنْ ثبت محمولٌ على الكراهة والتنزيه، وهذا صارف له عن الحرمة المطلقة. يقول السيوطي في خاتمة رسالته: "وما وقع في المدخل لابن الحاج من حديث: (من سأل في المساجد فاحرموه)، فإنه لا أصل له، وإنما قلنا بالكراهة أخذًا من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد، وقوله: ((إن المساجد لم تُبنَ لهذا))، قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه في البيع والشراء والإجارة ونحوها، وكراهة رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس إليه؛ لأنه مجمعهم، فلا بد لهم منه". وبذلك يجتهد الإمام السيوطي في جلب الأدلة على تلك المسألة المشكلة، ويورد الأقوال في نصرة الرأي الأصوب بشأن المسألة في المسجد وضوابطها، وقد قام المحقق بتحقيق الرسالة على أصولها الخطية، مقابلًا بينها، مخرجًا لأحاديثها، وأعلامها، ومزيدًا عليها برسالة موضحة لأحكام تلك المسألة: حكم الصدقة في المسجد، وطلبها من المحتاجين، منوهًا على مراعاة فقه الواقع وروح العصر في دوافع السائلين في هذا العصر، واتخاذها حرفة يأخذون بها صدقات المسلمين دون وجه حق. وصاحب الرسالة جلال الدين السيوطي هو عبدالرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد سابق الدين بن الخضيري الأسيوطي نسبةً إلى مدينة أسيوط في صعيد مصر، ولد السيوطي في القاهرة بعد المغرب ليلة يوم الأحد غرة شهر رجب سنة 849هـ/ أكتوبر 1445م، توفي والد السيوطي ولابنه من العمر ست سنوات، فنشأ الطفل يتيمًا، واتجه إلى حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة؛ مثل: العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك؛ فاتسعت مداركه، وزادت معارفه. وكان السيوطي محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم (الكمال بن الهمام الحنفي ) أحد كبار فقهاء عصره، وتأثر به الفتى تأثرًا كبيرًا، خاصةً في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة. ابتدأ في طلب العلم سنة (864هـ/ 1459م) ودرس الفقه والنحو والفرائض، ولم يمضِ عامان حتى أجيز بتدريس العربية، وألَّف في تلك السنة أول كتبه وهو في سن السابعة عشرة، فألف ( شرح الاستعاذة والبسملة) ، فأثنى عليه شيخه علم الدين البلقيني، وكان منهج السيوطي في الجلوس إلى المشايخ هو أنه يختار شيخًا واحدًا يجلس إليه، فإذا ما توفي انتقل إلى غيره، وكان عمدة شيوخه ( محيي الدين الكافيجي )، الذي لازمه السيوطي أربعة عشر عامًا كاملة، وأخذ منه أغلب علمه في التفسير والأصول والعربية والمعاني، وأطلق عليه لقب (أستاذ الوجود ). ومن شيوخه (شرف الدين المناوي) وأخذ عنه القرآن والفقه، و( تقي الدين الشبلي ) وأخذ عنه الحديث أربع سنين، وأخذ العلم أيضًا عن شيخ الحنفية ( الأقصرائي ) و( العز الحنبلي )، و( المرزباني ) و( جلال الدين المحلي ) و( تقي الدين الشمني ) و( علم الدين البلقيني )، وغيرهم. لم يقتصر تلقي السيوطي على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيوخ من النساء اللاتي بلغن الغاية في العلم، منهن ( آسية بنت جار الله بن صالح الطبري )، و( كمالية بنت عبدالله بن محمد الأصفهاني )، و( أم هانئ بنت الحافظ تقي الدين محمد بن محمد بن فهد المكي )، و( خديجة بنت فرج الزيلعي )، وغيرهن كثير. وتلاميذ السيوطي من الكثرة والنجابة بمكان، وأبرزهم ( شمس الدين الداودي) صاحب كتاب ( طبقات المفسرين ) الذي كتبه بمساعدة أستاذه السيوطي، و( شمس الدين بن طولون ) صاحب كتاب (مفاكهة الخلان)، و( شمس الدين الشامي ) صاحب كتاب (السيرة الشامية) ، والمؤرخ الكبير (ابن إياس ) صاحب كتاب ( بدائع الزهور) . كان الإمام جلال الدين السيوطي واسع العلم غزير المعرفة؛ قال عن نفسه: "قد رُزقت - ولله الحمد - التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع"، إضافةً إلى أصول الفقه والجدل والتصريف، والإنشاء والترسل والفرائض والقراءات التي تعلمها بنفسه، والطب، غير أنه لم يقترب من علمي الحساب والمنطق، وهذا واضح من مؤلفاته الكثيرة التي تزيد على الثلاثمائة كتاب ورسالة، وعدَّ له بروكلمان (415) مؤلفًا، وأحصى له حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون ) حوالي (576) مؤلفًا، ووصل بها البعض كابن إياس إلى (600) مؤلف. ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس، وخلا بنفسه في روضة المقياس، على النيل، منزويًا عن أصحابه جميعًا، كأنه لا يعرف أحدًا منهم، فألَّف أكثر كتبه. • وكان الأغنياء والأمراء يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردُّها، وطلبه السلطان مرارًا فلم يحضر إليه، وأرسل إليه هدايا فردَّها، وبقي على ذلك إلى أن توفي 911 هـ- 1505 م. من كتبه: • (الإتقان في علوم القرآن). • (إتمام الدراية لقراء النقاية). • (الأحاديث المنيفة). • (الأرج في الفرج). • (الازدهار في ما عقده الشعراء من الآثار). • (إسعاف المبطأ في رجال الموطأ). • (الأشباه والنظائر) في العربية. • (الأشباه والنظائر) في فروع الشافعية. • (الاقتراح) في أصول النحو. • (الإكليل في استنباط التنزيل). • (الألفاظ المعربة). • (الألفية في مصطلح الحديث). • (الألفية في النحو) واسمها (الفريدة) وله شرح عليها. • (إنباه الأذكياء لحياة الأنبياء) رسالة. وغيرها الكثير في علوم شتى.
النبوغ والنجومية في حياة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني [1] الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: حياكم الله، وبيَّاكم أيها الإخوة الكرام، وأيها المشايخ الأعزاء في هذه اللحظات الجميلة، وفي هذه الأوقات المباركة، في هذه العشر -أفضل أيام الدنيا- ونحن نتحدث عن إمام من أئمة المسلمين، وعالم من علماء المسلمين، وعلم من أعلام اليمن الكبار، الإمام المجتهد العلامة فضيلة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني رحمة الله تعالى عليه، سأبقى معكم في المحور المحدد لي، وهو: النجومية لدى القاضي العمراني، النبوغ والنجومية في حياة هذا الإمام العظيم، وكيف نبغ، وكيف أصبح نجمًا يشار إليه بالبنان. سأتحدث إليكم من عدَّة محاور: المحور الأول: الأم التي صنعت النجم: سنتحدث في هذا المحور عن تأثير أمِّه عليه، كيف أثَّرت فيه أمه؟ وكيف حرصت أشدَّ الحرص على أن يستفيد، وأن يكون عالمًا من علماء المسلمين، وأن يصبح نجمًا ونابغة؟ في السنة الرابعة بالتحديد من عمره أخذته أمُّه إلى الشيخ المقرئ الذي كان يقرئ في المسجد الذي بجوار بيتهم، وأرادت من هذا الشيخ أن يبدأ في تعليمه، ولكن هذا الشيخ اعتذر، وردَّه إلى أمِّه، وقال لها: أولًا علِّميه النطق. قال لها المدرس هذه العبارة لما رآه لا يستطيع النطق، أو يعاني صعوبة في النطق، كثير من الأولاد في عمر الثلاث سنوات يبدأ يتهجى الحروف، ويبدأ ينطق، في عمر أربع سنوات ينطق كثيرًا من الحروف نطقًا صحيحًا، بل جلها، ولكن هذا الولد ما كان يستطيع النطق! يا سبحان الله!! هذا الذي سيصبح إمامًا من أئمة المسلمين يردُّه أول أستاذ يجلس بين يديه، وفي القدر أن هذا الأستاذ لن يعرفه أحد بعد ذلك إلا من هم حوله، وهذا الصغير سيعرفه العالم وتتحدث عنه الدنيا ويبكي لفقده المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الأستاذ المقرئ رحمه الله ربما من درسهم في كل عمره عشرات، بينما هذا الطالب الذي صعب عليه النطق سيأخذ عنه العلم آلاف بل عشرات الآلاف من المسلمين، وسيجدد علم الشوكاني ويبعثه من جديد، وسيبقى اسمه خالدًا إلى أن يشاء الله. ما الذي حدث مع هذه الأم؟ رجعت به أمُّه مكسورة إلى البيت بعد أن أخبرها هذا الشيخ المقرئ أنه لا يمكن أن يقرئه؛ لصعوبة النطق لديه وأن الحروف لا تخرج من لسانه، ولا تتبين من مخارجها، رجعت به إلى البيت، واعتكفت على تعليمه إلى أن بلغ السابعة، وهنا لا يسعنا إلا أن نقول: رحم الله هذه الأم، هذه الأمُّ كأمِّ الشافعي، وكأم أحمد بن حنبل، وكأمِّ الإمام مالك، هذه أمٌّ عظيمة، الفضل -بعد الله تعالى- يعود لها في أنها حرصت أشدَّ الحرص على تنشئته هذه التنشئة الصالحة، مباشرة بعد السبع السنوات، فقد قضى في حضنها هذه الفترة إلى أن وصل إلى سن سبع سنوات وهي تعلمه كيف ينطق: ألف، وكيف ينطق: باء، وكيف ينطق: تاء، كيف ينطق الحروف كلها نطقًا صحيحًا؛ حتى تدخله المدرسة. المحور الثاني: تحفيز المجتمع: كان القاضي العمراني يلعب بجانب بيتهم مع الأطفال كما هو معلوم في حياة الطفولة، فكان إذا مرَّ به أحد من الناس أو تعرف عليه أحد قال له: ابن من أنت؟ يقول: أنا ابن إسماعيل. فيقول: أنت ابن القاضي إسماعيل؟ طبعًا كان أبوه والي أوقاف عَصِر، وكان فقيهًا، ورعًا، زاهدًا، وكان من الصالحين. أنت ابن القاضي إسماعيل، حفيد القاضي محمد - يعني: جده كان أيضًا عالمًا كبيرًا مجتهدًا من العلماء الكبار الذين قرؤوا الأمهات الست، وتبحروا في العلوم - حفيد القاضي محمد تلميذ الشوكاني؟ فالقاضي اسمه: محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن علي العمراني، فجده الذي هو أبو جده كان عالمًا مجتهدًا -سنأتي إلى ذكره بعد قليل - فيقول: كان كلما مرَّ عليه أحدٌ كان يقول له: أنت ابن القاضي إسماعيل؟ فيتشجع، فيقولون له: لا بد أن تمضي على نهج أبيك وجدك، فهم كانوا علماء كبارًا، وكانوا مجتهدين، وكانوا أصحاب شأن. فهنا من كثرة سماع مجد آبائه بدأ يرسم لنفسه خطًّا، خط الاجتهاد، وبدأ يرسم لنفسه خط النبوغ، وخط العبقرية، لكأني به يحدث نفسه ويقول: إنَّ أبي كان عالمًا، وجدي كان عالمًا، وقد كان أبو جدي أيضًا عالمًا كبيرًا [2] ، فلماذا لا أمشي على آثارهم؟! إن هذا يعد سببًا من أسباب علو همته، وهو سماع الكلمات الطيبة من الناس. يا أخي، رُبَّ كلمة تسمعها من إنسان تفعل فيك مفعولًا عجيبًا جدًّا، كثير من العلماء، مثل الذهبي، ومثل الإمام النووي، ومثل الإمام الشافعي، ومثل الإمام البخاري، هؤلاء العلماء أثَّرت فيهم كلمات، هذه الكلمات اليسيرات فعلت فيهم مفعولًا عجيبًا، فهو عندما كان يسمع هذه الكلمات الجميلة يطرب لها، وكان يتحمَّس، وكان يتشجَّع، ويرسم لنفسه طريقًا من خلال هذا التحفيز بهذه الكلمات، فلا تبخل على غيرك، إن رأيت إنسانًا مجتهدًا، أو شابًّا عليه علامات النبوغ، لا تبخل بكلمات التشجيع عليه، فتشجعه، وتحفزه، وتدفع به إلى الأمام. المحور الثالث: مدرسة الفليحي وصناعة النبوغ: حياة القاضي العمراني مليئة بالدروس والعبر، وهي حية مفعمة بالجد والاجتهاد، ولكم أن تقرؤوا في كتاب الحياة العلمية والدعوية للقاضي العمراني [3] ، والوجيز في سيرة القاضي العمراني [4] ، بعد أن قضى بصحبة أمه سبع سنوات تدرسه، وبالتحديد في السنة السابعة من العمر مباشرة بدأ الدخول في مدرسة الفليحي، وهذه المدرسة في صنعاء القديمة كانت مدرسة مشهورة، ومدرسة لها ذكر حسنٌ بين الناس، وكان الطلبة يهرعون إليها من كافة أحياء صنعاء، كانت مدرسة مرموقة معروفة، مدرسة نظامية يدخلها الأطفال لتلقي العلوم والمعارف في الهندسة، والحساب، والإنشاء، والخط، والصحة، هذه العلوم بدائية، ونحن عندما نتحدث عن علوم ما قبل مائة سنة لكم أن تتصوروا تلك العلوم التي كانت قبل مائة سنة، فمن الممكن أنت الآن في خلال أسبوع طفلك وعبر التقنية الحديثة تجعله يتقن كل تلك العلوم التي درسوها في سنوات عديدة. في هذه السن أدخلته أمه إلى هذه المدرسة، مدرسة الفليحي، ومن هنا بدأت تتفتح عقليته على الحياة، ويعرف ما حوله من الناس، بدأ يعرف قيمة العلم، وبدأ مرحلة جديدة من مرحلة التعليم، بعد أن كانت أمه هي الأستاذ وهي المربي وهي المدرسة، وكيف أنَّ أمَّه أنشأته التنشئة الصالحة، وحرصت أشدَّ الحرص على أن تنشئه التنشئة الربانية؛ ليكون عالمًا، ويكون له شأن في المستقبل. الآن المرحلة التي ولجها هي مرحلة مدرسة الفليحي؛ ومنها صنع من نفسه نجمًا للمستقبل، دخل مدرسة الفليحي ومكث فيها خمس سنوات، وفي هذه الخمس السنوات أيضًا كان يتردد على مدرسة تسمى مدرسة بير العزب، ومدرسة أخرى تسمى: مدرسة بير شمس، وكان يتردد أيضًا على مدرسة الروضة، هذه ثلاث مدارس، والمدرسة الرابعة هي مدرسة الفليحي، يطلب فيها جميعًا العلم وفي أوقات مختلفة عبر جدول مرتب محدد، محافظًا على كل ساعة وكل يوم يمر، لكم أن تتخيلوا: أربع مدارس في وقت واحد، سبحان الله! نوع من الاجتهاد عجيب، هذا الطفل الذي هو الآن بدأ يدرج إلى الثامنة، فالتاسعة، فالعاشرة، فالحادية عشرة، فالثانية عشرة، والثالثة عشرة؛ عنده همَّةٌ كأنه دائمًا يحفِّز نفسه بقوله تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، فبدأ يدرس دراسة جادَّة مرتبة تدف به أمه وشقيقه الأكبر، خمس سنوات من الدراسة الجادَّة، ومن المواظبة على هذه المدارس، كان يتنقل من مدرسة إلى مدرسة، وكان يتنقل من شيخٍ إلى شيخ، يستفيد منهم، ويتعلم منهم، ويرسم لنفسه طريقًا إلى النبوغ. بعد هذه المدارس الأربع، وبالتحديد: بعد خمس سنوات، يعني في عمر الثانية عشرة أكمل هذه الأربع المدارس، ثم دخل مدرسة الإصلاح، هذه المدرسة كانت أنشئت تلك السنة، عندما ضُغط حينها على الأئمة ليفتتحوا مدرسة جديدة، فافتتحوا مدرسة الإصلاح، وكانت أرقى المدارس النظامية الموجودة في صنعاء، هذه مدرسة الإصلاح دخل القاضي العمراني فيها، ومكث سنة كاملة أتقن فيها جميع العلوم التي كان قد أخذها من قبل، وأخذ فيها علومًا جديدة، يعاد قليلًا إلى الوراء للمراجعة، ثم انطلق، كالسهم إذا أطلقته لا بد أن ترجعه قليلًا إلى الوراء لينطلق، ويأخذ انطلاقة أكبر، كذلك الذي يريد أن يقتحم خندقًا لا بد أن يتراجع عدَّة خطوات؛ ثم يقتحم! في هذه السنة راجع العلوم التي كانت عنده، والمعارف، والثقافة التي كان أخذها من قبل، واستطاع أن يجوِّد القرآن، وحفظ أكبر قدرٍ ممكن من القرآن، ثم بعد ذلك خرج بشهادة راقية من هذه المدرسة، مدرسة الإصلاح، وللعلم فهذه المدرسة في التحرير حاليًّا، أصبحت بعد ذلك مكتبًا لوزارة التربية والتعليم، والآن حاليًّا حولت إلى مقرٍّ للهيئة العليا لمكافحة الفساد، فمقر هذه الهيئة كان مدرسة الإصلاح التي درس فيها القاضي العمراني، وتخرَّج منها بشهادة ممتازة؛ هذه مرحلة من المراحل التعليمية للدراسة النظامية للقاضي العمراني، وكان يجتهد اجتهادًا بالغًا في دراسته هذه، وكان يجتهد اجتهادًا بالغًا في الأخذ عن المدرسين، في التلقي عنهم، سواء كانت العلوم الشرعية، مثل: علوم القرآن، والتجويد، والتربية الإسلامية، والخط، والإنشاء، أو العلوم التطبيقية التي هي: كالهندسة، والجغرافيا، والصحة، والعلوم الأخرى، كان يحرص على أن يستفيد أكثر ويتميز على أقرانه، وهو في كل هذه المراحل يخطو خطوات الواثق من نفسه إلى صناعة مجد عظيم في الحياة، وكان عنده نهمٌ للمطالعة، وتولَّد لديه حبٌّ وشغفٌ عجيب للقراءة، فإذا عثر على كتاب لا بد أن يقرأه كاملًا، ولا بد أيضًا أن يلخصه، ويشرحه للآخرين، هذه الملَكة العجيبة عنده أهَّلته أن يكون نابغة، وأن يكون مجتهدًا، وأن يزاحم المجتهدين النوابغ بإصرار وعزم منقطع النظير. بعد أن انتهى من مدرسة الإصلاح، وأخذ منها شهادة راقية، دخل إلى الجامع الكبير وكان في سن الرابعة عشرة، وهنا كان الجامع الكبير موئلًا لطلبة العلم، ومدرسة الجامع الكبير كانت تعتبر المدرسة الأم لتعليم المذهب الزيدي الهادوي، وكانت تعتبر الأساس في تصدير العلماء الذين يحفظون أمهات المذهب الزيدي ويتقنونه، فمنه تخرَّجت أجيال من العلماء، والمتعلمين الحاملين للفكر الزيدي، والمنهج الزيدي الهادوي الحازم في الالتزام بمبادئه، وأصوله [5] ، فكان إلى هذا المسجد يتجه طلاب العلم لا سيما الطلبة المبتدئون، فإنهم كانوا عندما ينتهون من مدرسة الإصلاح، وغيرها من المدارس النظامية، مباشرة يتجهون إلى هذا المسجد؛ حتى يتعلموا أصول المذهب الزيدي، وينشؤون نشأة زيدية، الأمر الذي أنتج جمودًا، وتعصبًا عند غالب المنتمين لهذا المذهب، والمتبنين لهذا الفكر -حسب رؤية ونظر مخالفيهم وخصومهم- فمدرسة الجامع الكبير كانت تعتبر مدرسة كبيرة في صنعاء، بل كانت تعتبر المدرسة الأولى على مستوى صنعاء، بل ربما على مستوى المناطق الزيدية بالكامل، وفي المقابل كانت هناك مدارس للشافعية في اليمن كزبيد، والزيدية، والجند، وهناك مدارس في حضرموت، وأخرى متفرقة لبقية المذاهب الأربعة، ولكن هذه المدرسة كانت لا تنتج إلا علماء جامدين، متعصبين، الكثير منهم لا يمكن أن يقبلك متحررًا، ومنفتحًا على المذاهب؛ ولذلك ارتأى أنه لا بد أن يخرج من مدرسة الجامع الكبير، بعد أن درس فيها فترة زمنية قصيرة، وجوَّد القرآن على شيخ اسمه محمد بن إسحاق، والفقيه علي المراصبي، وعلامة ضرير اسمه يحيى الكبسي؛ هؤلاء القراء الثلاثة جوَّد عليهم القرآن وأتقنه، وألمَّ بعلم التجويد وبرع فيه، واستفاد بعض العلوم من الجامع الكبير أيضًا إضافة إلى إتقان القرآن، فقد ذكر من المؤرخين لسيرته أنه حفظ أثناء دراسته في الجامع الكبير متن الأزهار، وكان من قبل قد حفظ الكثير منه، وحفظ ملحة الإعراب، وحفظ ألفية ابن مالك، ثم خرج منه وفارقه. يقول عن نفسه: "ولم يعجبني الدراسة فيه؛ للجمود، والتعصب عن غالب من يدرِّس فيه". هذه من مقولاته وهي شهادة للتاريخ على حبه للاجتهاد وطموحه ونبوغه. لم يستطع أن يبقى في الجامع الكبير؛ رغم أن فيه مدرسة علمية ثقافية متمكنة متميزة عالية، يأتي إليها الطلاب من جميع أنحاء المناطق الزيدية، وهي موئل للعلماء الكبار من علماء المذهب الزيدي، ولكن رغم هذا فإنها لم تعجبه وضاق ذرعًا بها للتعصب الذي ينفح منها، فخرج إلى مدرسة أخرى، فيا ترى ما هذه المدرسة التي خرج إليها بعد ذلك؟ المدرسة التي خرج إليها بعد أن درس في الجامع الكبير فترة زمنية قصيرة، هي مسجد الفليحي، وهناك فرق كبير بين مدرسة الفليحي، ومسجد الفليحي، كثير من الذين كتبوا عن القاضي العمراني، سواء مقالات، أو شيئًا من السيرة الذاتية للقاضي العمراني، يخلطون خلطًا عجيبًا بين مدرسة الفليحي ومسجد الفليحي؛ فمدرسة الفليحي هي مدرسة نظامية تعلَّم فيها القاضي خمس سنوات، بدأ من سن السابعة، ثم بعد ذلك انتقل إلى مدرسة الإصلاح، ثم انتقل بعد ذلك إلى المسجد الكبير، ثم بعد ذلك إلى مسجد الفليحي، ومسجد الفليحي في مؤخرته مدرسة الفليحي، فهناك فرق بينه وبين المدرسة، فالمدرسة نظامية يأتي إليها الطلاب صباحًا وفيها مدرسون نظاميون، وعندهم وقت محدد، وعندهم مواد محددة، فيدرس الهندسة، ويدرس الإنشاء، والخط، والجغرافيا، والتاريخ، وعلومًا أخرى، مع قسط قليل محدود من العلوم الشرعية كثقافة مصاحبة لهذا الطالب مما لا يسع المسلمَ جهلُه، بينما في المسجد يدرس الطالب العلوم شرعية فقط؛ في المسجد يثني ركبتيه بين يدي العلماء، يتعلم منهم، ويستفيد منهم، ويتأدب بآدابهم، ويأخذ من هذا، ويأخذ من هذا، وينتقل إلى هذا، هذا يقرأ عليه القرآن، وهذا الحديث، وهذا اللغة، وهذا الفقه، وهكذا حتى يمضي أغلب يومه دون كلل أو ملل... إلخ. ومدرسة الفليحي تبعد عن الجامع الكبير أمتارًا، فهي ليست بعيدة عنه، فيمكنك أن تخطو بينهما مائة خطوة لقربهما، لكن هذه المدرسة تعد أنموذجًا منفتحًا على المدارس الفقهية الأخرى، ففي هذا المسجد كان يدرس إلى جانب المذهب الزيدي كتب الحديث، وكتب السنة النبوية، وكتب الأمهات الست، وسائر المسانيد، والمجامع الحديثية، بل يدرس في هذا المسجد كتب أئمة اليمن المجتهدين الذين تبنت مؤلفاتهم الردَّ على جملة واسعة من المسائل، والآراء المعتمدة في المذهب الزيدي الهادوي، كالإمام محمد بن إسماعيل الأمير، والإمام الشوكاني، والإمام محمد بن إبراهيم الوزير، والمقبلي، والجلال. فمن نعمة الله تعالى على القاضي محمد بن إسماعيل العمراني أن شرح الله صدره للدراسة في هذه المدرسة المعتدلة، والانصراف عن مواصلة الدراسة في المدرسة الأصولية المحافظة، التي هي مدرسة الجامع الكبير، بعد أن كان يمم وجهه نحوها في ريعان شبابه، ومقتبل عمره، وبداية حياته، وطراوة أفكاره، الأمر الذي كان سينتج لنا نسخة أخرى إضافية جديدة من أولئك المتقوقعين المحصورين داخل المذهب الزيدي، المنحصرين على كتبه وعلمائه، المتقيدين بفروعه ومسالكه، المتشبثين بقضاياه ومسائله، فلدراسته في مسجد الفليحي أثرٌ بارز لا يخفى في ميله لعلوم الاجتهاد، واهتمامه بدراسة وتدريس كتب الحديث، فمدرسة الفليحي أنتجت لنا القاضي العمراني، سبح في بحرها فأوصلته إلى شاطئ الإمام الشوكاني، فاستفاد منه العلماء، فقد كان علماء مسجد الفليحي عندهم نوع من الانفتاح، ونوع من التحرر، ونوع من عدم الانصياع والجمود لأقوال المذهب الزيدي، فاستفاد منهم، وتتلمذ على أيديهم، وتفتحت عقليته أكثر. أستطيع أن أقول: من هنا بدأت انطلاقة مرحلة الاجتهاد للقاضي العمراني، وقد كان يفخر أنه درس في جامع لا جامعة، يذكر هذا على سبيل المزاح مع طلابه، ولله در الشاعر حين قال: أثِّث لنفسك بيتَ علم وارعه لا تتركنَّ البيتَ غير مؤثث وإذا أتاك الوارثون فأَعطِهم إرثَ النبوة يا أجلَّ مورّثِ جاؤوا بجامعةٍ وجئتَ بجامعٍ شتَّان بين مُذكَّر ومؤنَّثِ المحور الرابع: عبدالكريم الأمير وصناعة النجومية: كان القاضي العمراني حريصًا على وقته، محافظًا على أيام زمانه، ملازمًا لأفاضل العلماء محبًّا لهم، فمن أسباب نبوغه أنْ هيأ الله له ابن خالته العلامة عبدالكريم الأمير [6] ؛ فقد كان من العلماء والأدباء الكبار، فمن نعم الله تعالى على القاضي العمراني أنْ هيَّأ له هذا العالم الشيخ عبدالكريم الأمير، العلامة الشهير، والأديب الشاعر المفلق، والصحفي البارع؛ فقد لازَمَه عشر سنوات كاملات نهل فيها من علمه، وتربَّى فيها على يديه، واستفاد منه في غالب العلوم، وكان مهتمًّا به، حفظ عنده غالب المتون وقرأها عليه، والمختصرات: مثل متن الأزهار، والكافل في الأصول، والكافية، وألفية ابن مالك، وملحة الإعراب في النحو، وقرأ عليه شرح قواعد الإعراب للأزهري، وشرح الفاكهي على ملحة الإعراب، وشرح قطر الندى، وبعض المتون في الصرف، وشرح الكافل لابن لقمان، ومغني اللبيب، والجوهر المكنون؛ هذه كلها درسها القاضي العمراني على شيخه الأمير. وقد قفز به قفزة عجيبة، وارتقى به رقيًّا مذهلًا، وطور من مداركه، وفتح عينه على العالم، وفتح له بيته ومكتبته العامرة التي كانت فيها حدائق ذات بهجة، ويكفيك أن تعلم أن مكتبة العلامة عبدالكريم الأمير كانت من ضمن أرقى المكتبات التي يمتلكها عالم في صنعاء، وقد قيل عن عبدالكريم مقولة مشهورة وهو "أنه أفنى أمواله وأموال أبيه وجده لجمع كتب هذه المكتبة"، فكان يفتح له المكتبة ويجعله يسيح فيها قاطفًا من ثمراتها الشهية الدانية، وأثناء تحضيره للدروس كان يعود إليها لاجئًا طالبًا المدد والعون، فيجد فيها بغيته فتطمئن نفسه وينشرح صدره وينفتح قلبه. وإذا أشكلت عليه مسألة ناقشها معه ووضع له النقاط على الحروف، وحل له المعضلات وأوقفه على الجواب، وأخذ بيده وأوقفه في المكتبة ومد يده إلى أحد أدراجها وأخرج له الكتاب الذي فيه عين الجواب وتفصيل حل المشكل، فيأخذ الكتاب متلهفًا لقراءته ويعتكف على مطالعته وتلخيصه. صراحةً هذا الشيخ الأمير يعتبر هدية من الله للقاضي العمراني؛ استغربت كثيرًا وأنا أقرأ رسالته، ولا أكتمكم سرًّا أني وقفت عند كل عبارة من عباراتها مدققًا محللًا متأملًا، وقلت: سبحان الله! أحيانًا يهيئ الله لك شخصًا، ويأخذ بيدك، ويرتقي بك في سلم المعالي، وهذا من عناية الله وكرمه إن رأى منك صدقًا وإقبالًا على طلب العلم. طبعًا للعلامة عبدالكريم الأمير رسالة بحثت عنها حتى وجدتها، وهي رسالة أرسلها إلى المؤرخ محمد محمد زبارة، رسالة شخصية تحدَّث فيها عن القاضي العمراني، وطلبه للعلم، وقد وجدتها في قمة الروعة، وفيها من حسن الوصف وجماله ما تطرب له، تخيَّل معي عندما يكتب في هذه الرسالة الطويلة: وإني أشكركم بلسان القاضي العزي محمد بن إسماعيل العمراني على حسن التفاتكم إليه... إلى أن يقول في هذه الرسالة الجميلة الماتعة واصفًا تلميذه القاضي العمراني: لا يرى لذة ولا هناء إلا إذا حقق مسألة أو دقق مشكلة، ولا يعتد بيوم لا يظفر فيه بفائدة، أو يقيد شاردة، وقد صادفَت منه هذه الصفاتُ همةً سامية تنفر من الراحة والسكون، وتستسهل كل صعب وتطمح إلى فوق كل غاية وعزيمة، وثابة لا تقر ولا تفتر ولا تقف عند حد، ورغبة زائدة في المطالعة والاستفادة مما يقرأ ويسمع، ومن كان كذلك لا بد من أن يتسع نطاق معارفه وتنمو مواهبه حتى يصير مضرب الأمثال، معدوم الأمثال، كل هذه الصفات الفائقة التي يندر أن تجتمع في شاب مثله هي التي جعلتني لا أملك إلا أن أحبه وأعطف عليه وأغمره بودي، وأحيطه بعنايتي ورعايتي، وأحْنو عليه حنوَّ الأم على ولدها الوحيد، وأحله في قلبي منزلة لا يحتلها غيره. ولا غرو: إذا ما أصولُ المرء طابت أرومة *** فلا عجبٌ إن أشبَهتْها فروعُها ثم وصفه قائلًا: ناصح حبيب القلب، رقيق حواس الطبع، شريف الأخلاق، مأمون البوائق، نبيل العاطفة، نقي الصفحة من الأوزار، بريء الساحة من المآثم، سليم اللسان والقلم، بعيد القدم عن مسالك التهم، وقَّاد الذكاء مرهف الإحساس، فياض الشعور، نير البصيرة، حلو المعاشرة، مليح المحاضرة، عصامي النفس، خفيف الظل، يجري في أقواله على الصدق، وفي معاملته على الإخلاص، وفي علاقته على الشرف، وله فوق ذلك طهارة الملائكة وعفة الأنبياء... إلخ. هذا الأستاذ الأمير يتحدث عن تلميذه القاضي العمراني، يصف هذا الشاب الذي أصبح مفتي الديار اليمنية. الحقيقة أني ما قرأت في حياتي وصفًا من شيخ لتلميذه مثل وصف الشيخ عبدالكريم الأمير تلميذه القاضي العمراني ، فقد وصفه بأوصاف عجيبة فريدة فخمة، وصف أخلاقه، وأظهر مكانته وعلمه وسمته واجتهاده وحرصه على وقته في هذه الرسالة التي أرسلها إلى العلامة المؤرخ محمد محمد زبارة، والخلاصة من هذه الرسالة أنه أظهر فيها نجوميته ونبوغه، فكيف يمكن أن يصف شيخٌ تلميذه ويذكر أنه أصبح مضرب الأمثال، معدوم الأمثال، وهو ما زال في التاسعة عشرة من عمره إلا وهو قد رأى منه نبوغًا واجتهادًا منقطع النظير. إن العلامة عبدالكريم الأمير وصف القاضي العمراني بدقة، وأخبر أنه مهتم به غاية الاهتمام، وأنه يحنو عليه حنو الأم على وحيدها، مبديًا رعايته له واهتمامه بشخصيته الفريدة. المحور الخامس: الاجتهاد الشخصي ونسخ الكتب والتحضير للدروس: هناك سر من أسرار نبوغ القاضي العمراني هو أنه نسخ الكتب بيديه، فنسخ شرح الملحة بيديه، وبعض الطلبة في هذا العصر يريد أن يكون عالمًا وما نسخ كتابًا، وما لخَّص كتابًا، فنقول له: يا أخي هل لخَّصت مثلًا شرح ملحة الإعراب؟ أو شرح قطر الندى؟ هل لخَّصت شيئًا من مغني اللبيب؟ القاضي العمراني تخيَّلوا معي: هذه الكتب كلها لخَّصها، أصلًا ما كان هناك كتب تباع إلا في النادر! الآن أنت بضغطة زر تنزل أي كتاب من النت، عشرات الشروح على ألفية ابن مالك، كان في عصر القاضي لا يوجد عندهم شروح! كان يندر أن تجد عند أحدهم شرحًا وقد دفع فيه ثمنًا عاليًا باهظًا، فكان القاضي العمراني ينسخ هذه الشروح، فنسخ ألفية ابن مالك، ونسخ ملحة الإعراب، وشرح الفاكهي على ملحة الإعراب، وشرح قطر الندى، وشرح الكافل لابن لقمان، ومغني اللبيب، والجوهر المكنون في البلاغة، وحتى كان لا يشرع في دراسة كتاب حتى يتم نسخه، فأول ما ينتهي من نسخه يبدأ الشيخ عبدالكريم الأمير في شرحه له، فكان هناك صعوبة في تحصيل الكتب، وصعوبة في تحصيل المراجع؛ الأمر الذي يكلف طالب العلم في ذلك الوقت الرحلةَ إلى خارج بلاده؛ لأجل تحصيل الكتاب الذي يدرسه أو يتعلمه، وقد ذكر القاضي العمراني ذات مرة قصة لأحد زملائه نزل إلى إب ماشيًا على قدميه وعاد ماشيًا في عدة أيام لشراء كتاب، وعندما جاء وقت الدرس فتح الطالب الكتاب، وكان لا يوجد كتاب في الحلقة إلا مع ذلك الطالب، فحدق الطلاب فيه أنظارهم، وكثرت عليه الأسئلة من أين عثر على الكتاب، وعندما عرفوا أنه مكث أيامًا ماشيًا وراجعًا - ربما أكثر من عشرة أيام - ازدادوا دهشة وإعجابًا من صبره وجَلَدِه على المشي، فكان القاضي العمراني يذكر هذه القصة واسم صاحبها يبين فيه ندرة الكتاب، وكان إن دخل مكتبة الجامع الكبير يخبر أنه لا يجد إلا تلك الكتب التي قد امتلأت بالحشرات والكتن، فيَلقى من لسعها ولدغها الشيء الكثير، فكان القاضي العمراني ينسخ بيده، ينسخ الكتاب أولًا، ثم بعد ذلك يأتي إلى الشيخ ليدرسه على يديه [7] . وهذه الكتب التي نسخها هي أمهات الكتب، منها في النحو شرح ابن عقيل، وشرح الفاكهي على ملحة الإعراب، وشرح وقواعد الإعراب للأزهري، وشرح قطر الندى لابن هشام، ومغني اللبيب، والكافل في الأصول، والكافية لابن الحاجب، وألفية ابن مالك؛ هذه أمهات كتب النحو، هذه الكتب استوعبها القاضي العمراني، نسخها، واستوعبها، ثم درسها على الشيخ، ثم درَّسها؛ ولذلك استطاع أن يكون بعد ذلك نجمًا، واستطاع أن يكون نابغة. ومن أسباب نبوغه تحضيره للدروس، فقد بدأ القاضي العمراني يدرِّس وهو في العشرين من عمره، يزيد سنة أو ينقص سنة، فكانت تمر عليه بعض المسائل فيجد فيها إلغازًا فيسهر الليل كله يحضر لدرسِ غدٍ؛ خوفًا من أن يسأله الطلاب فيتردد أو يتلكأ أو يجهل الإجابة، وكان أيضا يحضِّر من أجل التشبع بالعلم والاستفادة والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها؛ نهمة في العلم وحبًّا له ورغبة في الازدياد منه، وقد صرح ذات مرة بسببين من أسباب نبوغه، وذلك عندما سئل: ما أكثر شيء استفاد منه في حياته؟ فأجاب: المطالعة، وتحضير الدروس. فمن أراد أن يكون نابغة عليه بالتدريس؛ لأن ما سيدرسه سيثبت في ذاكرته. وفي شأن المطالعة فقد كان نهمًا للقراءة يقرأ كل ما وقعت يده عليه [8] ، وقد تقدم سابقًا كيف فتح له العلامة الأديب عبدالكريم الأمير مكتبته فكانت روضة غناء بالنسبة له ورحابًا واسعة يهيم فيها مع كتب أهل العلم، وهي بمثابة نزهة له كان يدخلها كلما شعر بالجوع نحو الكتب. المحور السادس: النجومية مع النجوم الخمسة: ما إن فتح عينه على الحياة وبدأ يستوعب ما حوله، حفزته همته ليعرف شيئًا عن أجداده الذين كان يفخر بهم ويسمع تنويه الناس بهم، فعرف أن جده الشهيد كان أنبل تلاميذ القاضي الشوكاني، فكان هذا هو المدخل لقراءة كتب الإمام الشوكاني وتأثره بها، وقد ذكر أنه تأثر بكتب الشوكاني كون جده كان تلميذًا عنده، والسبب الثاني تسلسل كتب الشوكاني وتنوعها وثراؤها، فهي في فنون متعددة، وفيها منهجية مثلى لطالب العلم، فبدأ بأول كتاب وهو "وبل الغمام"، ومع أن هذا الكتاب في أصله حاشية لكن أبدع الإمام الشوكاني في التعليق عليه والترتيب للأدلة، فأصبح الكتاب من مراجع كتب الزيدية حينها، ثم بعد الانتهاء من هذا الكتاب أخذ كتاب البدر الطالع فقرأه كاملًا، فأعجب بالسرد التاريخي عند الإمام الشوكاني وحسن أدبه وجمال بلاغته، ولست أدري كيف فرحته وإعجابه وهو يقرأ ترجمة جده في البدر الطالع، ثم كان الكتاب الثالث الذي قرأه للشوكاني هو كتاب "نيل الأوطار"، وهو عمدة كتب الشوكاني وخلاصة عمره وزبدة فقهه وفيه خلاصة اجتهاداته، فأعجب به وكرره مرات حتى أتقنه [9] ، ثم بعد ذلك انفتح على بقية كتبه فقرأها وأحاط بها، ثم وجد أن الإمام الشوكاني أثنى على بعض العلماء ووصفهم بأوصاف عجيبة مما تبين له أنهم نجوم متميزون، ونوابغ في ساحة الاجتهاد متفردون، فبدأ يقرأ لهم واحدًا واحدًا حتى أتى على كل كتبهم التي وقعت عليها يده، وتعرف على بعض أحفادهم وذراريهم وسمع الكثير من أخبارهم وزارهم في بيوتهم، ورأى مشاهد هؤلاء النجوم وآثارهم وأحبَّهم حبًّا بلغ مداه، وهؤلاء الأربعة هم الجلال والمقبلي وابن الوزير وابن الأمير، وخامسهم الإمام الشوكاني، اندمج معهم وكأني بهم وهو يعيش مع كتبهم يسامرهم ويحادثهم وقد نزل إلى قبور بعضهم، ونخل كتبهم وأبحاثهم واجتهاداتهم نخلًا، وأصبح يتحدث باجتهاداتهم في مجالسه ودروسه، وكان بعضهم مغمورًا حتى أتى القاضي العمراني فجعلهم حديث أهل اليمن؛ لمِا كان يكثر من ذكرهم وذكر اجتهاداتهم ومؤلفاتهم في الدروس والمحاضرات والجامعات. بعد هذه الحياة العامرة معهم شاء الله أن يصطف معهم كنجم سادس من نجوم أهل اليمن، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وصدق فيه قول الشاعر: رسى فوق هامِ النجم سامى مقامه فأضحى له بالفضلِ مرسى ومرسخُ له الكلم اللاتي بها السمعُ يزدهي وتعنو له شمُّ العلى وهي شُمَّخُ شمائلُ ما للمسك في الشم طيبُها بأنفاسها بردُ الشمال مضمَّخُ المحور السابع: محمد رشيد رضا وصناعة النبوغ: ليس بخافٍ على طلبة العلم أن العلامة الإمام محمد رشيد رضا كان من أعلام الأمة المجددين العباقرة، وقد لخص ما كان يفسره شيخه الإمام محمد عبده في الجامع الأزهر حتى بلغ سورة النساء، فلما توفي الإمام واصل رشيد رضا في تفسيره التجديدي حتى بلغ سورة يوسف وتوفي، كان لهذا التفسير الذي سمي "بالمنار" صدى واسعٌ حينها في أوساط العلماء وطلبة العلم، وكان لا يصدر عدد من أعداد مجلة المنار إلا تهافت عليه طلبة العلم من الأصقاع وطار في الآفاق، وكان القاضي محمد بن إسماعيل العمراني من رواد مكتبة الجامع الكبير، وكانت المكتبة حينها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم للمخطوطات، وقسم للكتب المنهجية، وقسم للكتب العصرية، وكانت تحتوي على ثلاث حجرات: حجرة للقراءة الفاحصة، وحجرة للمطالعة، وحجرة للنسخ، ويُمنع استعارة أي كتاب منها إلا إن دفع الطالب أضعاف قيمته، فكان القاضي العمراني يدخلها فإن دخلها أول ما يفتح تفسير المنار ويعجب من تأصيله وطريقة تفريعه وحسن تبويبه، وكان يلخص ويكتب إن وجد فائدة فقهية أو أصولية أو استنباطًا مدهشًا، بل ويعيد قراءة بعض المواضع مرات ومرات، فما يترك الكتاب من أعداد المنار حتى ينهيه، ولأن تفسير المنار صدر في اثني عشر جزءًا فقد تابع القاضي تلك الإصدارات بشغف، وأحاط بها إحاطة كاملة واستوعبها، وكان يناقش كثيرًا من مسائل رشيد رضا مع العلامة عبدالكريم الأمير ومع رفقاء دربه ويخبرهم بإعجابه بهذا الإمام المجتهد الذي يبقر العلم بقرًا، وكان رشيد رضا يذكر في كتابه بعض الأعلام ويشيد بهم وباجتهاداتهم، فيحفظ القاضي تلك الأسماء ويقوم بتتبع بحوثهم وكتبهم ويعود إليها فينتفع بها انتفاعًا كبيرًا ويعود راجعًا إلى المنار. ولعلك تعجب عندما أخبرك أن السيد رشيد رضا ليس متبعًا لمذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة، بل هو مجتهد من المجتهدين وأمة وحده، فمن هنا نشأ القاضي العمراني معجبًا بالسيد رشيد رضا، مستوعبًا لكتبه، عارفًا بمنهجيته، غير مقلِّد لأحد، وكانت لكتب السيد رشيد رضا واجتهاداته موقع بالغٌ منه، فقد أتقنها وتأثر في باكورة شبابه ومنها نهل ومن معينها استقى، حتى أصبح نجما يشار إليه بالبنان، نابغة من نوابغ زمنه، ولله در الشاعر حين قال: إمام قد سما هام الثريا ونال من العلا أعلى القداحِ إلى قصب المكارمِ حازَ سبقًا وجارى الغيث في بذل السماحِ وبحرٌ نهر مورده فراتٌ جرَتْ بعبابه سفنُ النجاحِ ورحم الله القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني ورفع درجته في عليين. [1] أصل هذه المادة كلمة ألقيت في أمسية "القاضي العمراني سيرة ومسيرة"، بتاريخ 7 ذي الحجة 1442 هـ الموافق 17 يوليو 2021 م، وقد ألقاها فضيلة الدكتور العلامة فضل مراد، وفضيلة الدكتور العلامة عبدالسلام المجيدي، والدكتور يوسف الرحمي، والشيخ عامر الخميسي. [2] كان العلامة الشهيد القاضي محمد بن علي بن العمراني الجد الأعلى للقاضي العمراني - والد جده - من أنبل تلاميذ القاضي الشوكاني، ولم يأتِ محدث في الديار اليمنية بعد عبدالرزاق الصنعاني مثله، وقد فاق أقرانه وعلماء زمانه في الحديث، وقل نظيره في من تقدمه بقرون، وقد قرأ الأمهات الست على الشيخ الشوكاني، ثم تبحر فيها حتى كان يعتمد عليه الإمام الشوكاني في تخريج الأحاديث ونسبتها، وكان لا يُقدم أحدًا عليه من محدثي زمانه، بل كان القاضي الشوكاني يعتبره من أقرانه لا من طلابه ويثني عليه ثناء بالغًا، وذكر القاضي الشوكاني في البدر الطالع أن هذا الإمام شرح سنن ابن ماجه في كتاب سماه" عجالة ذوي الحاجة بشرح سنن ابن ماجه"، جعله أولًا كالتخريج ثمَّ جاوز ذلك إلى شرح الكتاب، وكان من أمره أنه أفتى بفتاوى أغضبت أئمة صنعاء -وهذا بعد وفاة القاضي الشوكاني- فامتُحن بسبب هذه الفتاوى، وسُجن، ثم خرج من السجن، ثم طلبوه ليقتلوه، فرحل إلى زبيد متخفيًا هاربًا من القتل، فاستقبله علماؤها بالترحيب وعقدوا له مجالس للتدريس، ثم رحل إلى "أبو عريش" واشتهرت عنه عبارة: "إني لأعد رجال الأمهات الست كما أعد أصابع يدي"، فاستفادوا منه في شروح أمهات كتب الحديث، وكان لا يبارى ولا يجارى، بل عده بعضهم في منزلة ابن حجر، ثم عاد إلى زبيد، وكان استشهاده فيها، ولا زال قبره إلى الآن خارجها، وكثيرًا ما يسأل القاضي القادمين من زبيد عن اسم تلك المقبرة خارج زبيد ويقول لهم: "جدي مدفون هناك" - رفع الله منزلته في عليين، وكتبه من الشهداء وألحقه بالصالحين- وقد كان استشهاده بعد وفاة القاضي الشوكاني بخمس عشرة سنة تقريبًا، وانظر ترجمته في "البدر الطالع" (2/210). [3] هذا الكتاب هو عبارة عن رسالة ماجستير بعنوان: "القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني حياته العلمية والدعوية"، إعداد عبدالرحمن الأغبري، إشراف أ.د. محجوب الكردي، طبعت في مكتبة الإرشاد - صنعاء 1423ه- 2002م. [4] كتاب الوجيز من سيرة فقيد أهل اليمن العزيز، للشيخ محمد الكريمي، هو أجمع سيرة كتبت للقاضي العمراني، يربو على ألف صفحة، لا زال يتداوله طلبة العلم إلكترونيًّا - لم يطبع بعدُ حسب علمي. [5] كان المسجد الكبير حينها بمثابة كرسي الزيدية في اليمن - ولا يزال- رغم أن منبره اعتلاه وتولى الخطابة فيه من أمثال ابن الأمير الصنعاني العالم الكبير المجتهد، والقاضي الأديب أبي الأحرار محمد محمود الزبيري، والقاضي أحمد سلامة، والشيخ المجاهد عمر أحمد سيف، وكثير من المجتهدين العباقرة. [6] هو العلامة والأديب البليغ الشاعر عبدالكريم بن إبراهيم الأمير يعود نسبه إلى العلامة المجتهد ابن إسماعيل الأمير الصنعاني صاحب سلم السلام، وأحد أعلام اليمن الكبار، ولد بصنعاء سنة 1330 ه، وأخذ العلم عن عمه عبدالخالق الأمير والقاضي يحيى الإرياني، وكان من أبرز رجال الفكر والأدب وأطولهم باعًا، كتب في جريدة الإيمان وترأس تحريرها نهاية فترة الإمام يحيى حميد الدين، وفي فترة حكم الإمام أحمد، وكان بيته بمثابة منتدى أو ملتقى ثقافي يحضره العديد من أدباء اليمن الكبار؛ أمثال الأديب أحمد الشامي، والأستاذ عبدالكريم الخميسي، والشاعر عبدالعزيز المقالح وغيرهم.. وبعد قيام الثورة اليمنية سنة 1962م بفترة عين مستشارًا لوزارة الإعلام ثم انتقل للإقامة في مدينة جدة بالسعودية، وتوفي رحمه الله سنة 1420 ه 2000م -انظر ترجمته في سفينة العمراني- ص 733. [7] من العجائب أنه كان عندي طالب في صنعاء - أصبح مهندسًا كبيرًا الآن- لا يستطيع أن يحفظ الصفحة من القرآن إلا إذا كتبها، وقد وجدتُ هذا في السودان عندما يبدأ يكتب الطالب في اللوح ثم يحفظ ثم يقرؤه غيبًا على شيخه، وهذه الطريقة موجودة أيضًا في بلاد المغرب العربي، وهي تثبت المحفوظ تثبيتًا عجيبًا. [8] شاء الله أن ألتقي بعد هذه الأمسية بعدة ليالٍ بالشيخ العلامة إسماعيل عبدالباري واستمر اللقاء ساعتين، تحدث فيها بأشياء عجيبة عن القاضي العمراني، وكنت سألته عن سر تفوق القاضي العمراني فتحدث كثيرًا بتفاصيل مذهلة وعن علاقة معه استمرت ربع قرن، وكان مما ذكره ولا أنساه أنه قال: "لقد أتيح له من الاطلاع والقراءة في سن العشرين ما جعله يستحي أن يفتي بالمذاهب وهو لا زال في العشرين"، يعني هذا أنه أحاط وفي العشرينيات من العمر وقبل الوصول إلى سن الثلاثين بالمذاهب الأربعة، إضافة إلى مذهبه الأول الذي درسه وهو المذهب الزيدي. [9] مما ذكره لي ذات مرة د. فضل مراد حفظه الله أن الإمام الذهبي لو رأى كتاب نيل الأوطار، لعدَّه خامس تلك الأربعة الكتب التي لم يؤلف مثلها في الإسلام، ومن أدمن النظر فيها صار العالم حقًّا: "المحلى، والمغني، والسنن الكبير للبيهقي، والتمهيد".
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها المحدد الأول – الجهوية (2) المناهضة جرت الإشارة في الوقفة السابقة من هذا المحدد إلى أن الغرب لم يعد تلك الجهة الجغرافية التي تقع شمال البحر الأبيض المتوسط وغربه الشمالي؛ أي إن الغرب اليوم مفهومٌ ليس مقتصرًا على أوروبا وأمريكا، بل الغرب يعني ثقافات وأنماطَ حياة، إذا ما ذكرت بمصاحبة كلمة الإسلام أريد بها ما قد يناقض الإسلام ويتعارض معه، بل ربما يراد بها أكثر من ذلك، إذا ما نظرنا للتحديات التي يواجهها المسلمون من مفهوم الغرب. ومن المهم فهم الغرب بهذا المفهوم لمصلحة تكمن في عدم الرغبة في حصر الإسلام بالشرق في مقابل كلمة الغرب؛ فالإسلام اليوم في كل مكان بما في ذلك الغرب الجغرافي، بل إنه هناك في نمو مطرد، يشهد عليه الإقبال المتزايد من الغربيين ذكورًا وإناثًا، بمختلف خلفياتهم العرقية والعنصرية،ولم يكن الإسلام يومًا محصورًا بالمكان، ولن يكون كذلك. وعليه، فإن الحديث عن الغرب قد يقصد من ورائه الحديث عن أولئك الذين يتبنون الفكرة الغربية في النظر إلى الإسلام، حتى وإن كان الناظرون إليه في أقصى الشرق، بل وحتى إن كان الناظرون إليه في الوسط، حيث يتركز المسلمون العرب في الجزء الغربي من قارة آسيا، والجزء الشمالي من قارة إفريقيا، من دون التحديد الدقيق لهذه الأجزاء. ومن ناحية أخرى، لا يعني الغرب جغرافيًّا مناهضة الإسلام؛ فليس كل الغربيين يضمرون العداء للإسلام والمسلمين، بل إن فيهم المتعطشين إلى الحق، متى ما وفق أهله إلى تقديمه تقديمًا صحيحًا سليمًا، من حيث المضمون وأسلوب التقديم؛ ولذا فلا أصل لنظرة البعض في رفض كل ما هو غربي، وافتراض أنه يضمر للإسلام والمسلمين العداء. ولا تمنع هذه النظرة من أن يكون المرء كيِّسًا فطِنًا بعيدًا عن السذاجة، بحيث يميز من خلال الممارسات والأفعال، من دون الدخول في النيات، ودونما طرح الانطباعة المسبقة القائمة على النمطية في النظرة إلى الغرب. وإذا كان الغرب قد نظر إلى الإسلام والمسلمين بنمطية مؤداها سلبي، فليس من الحكمة ولا من الدعوة أن ينظر المسلمون إلى الغرب هذه النظرة القائمة على رد الفعل، ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [فاطر: 18]. وليس الهدف المجابهة والتصدي بقدر ما هو المواجهة والعمل على إقناع الآخر بعصمة ما نملك، رغبةً في إقباله عليه، لا رغبةً بالضرورة في التغلب عليه؛ ولذا فإن النظرة إلى الغرب ينبغي أن تؤكد على أنه أرضٌ خصبةٌ للدعوة من ناحية، وعلى أنه بحاجة إليها من ناحية أخرى. وينبغي التوكيد أن هناك من يتزعم السعي إلى تقليص رقعة الإسلام، ومن ثم تقليص عدد المسلمين بالوسائل المباشرة، أو بالوسائط المبطنة، باسم التنمية والحفاظ على سلامة الجنس البشري، وما إلى ذلك من الشعارات التي قد يبدو من ظاهرها الرحمة، وكأن الإنسان أرحم من الله تعالى بعباده، وكأنهم هم الذين يقسمون رحمة الله تعالى على البشر،﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]. وأولئك هم النخبة الدينية أو السياسية أو الثقافية أو الرأسمالية أو الاحتلالية " الاستعمارية "، التي لا تحب أن ترى الإسلام منتشرًا؛ لأنها تدرك أنه سيحول دون تحقيق رغبات خاصة، فردية أو طائفية أو حزبية أو طبقية، وسيجعل الناس سواسية؛ لأنه سينظر إلى الإنسان على أنه إنسان مجرد من أي وصف لاحق لإنسانيته؛ فهو بريء من العنصرية والإقليمية والطبقية والعِرقية، وهذا التجرد يتعارض مع بعض السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الغرب؛ ولذا فهي ترفض الإسلام.
شرحُ صحيح البخاريِّ للإمام قِوامِ السُّنّةِ التَّيميِّ الأصبهانيِّ صدرَ حديثًا: شرحُ صحيح الإمام البخاريِّ رحمه الله تعالى، للإمام الجليل أبي القاسم قِوامِ السُّنّةِ إسماعيل بن محمَّد التَّيميِّ الأصبهانيِّ الشَّافعيِّ رحمه الله تعالى ت:535هـ، مجدِّد المائة الخامسة، والملقَّب بشيخ الإسلام والحُفَّاظ. صدر الكتاب بتحقيق د. عبدالرَّحيم العزَّاويِّ، عن دار أسفار لنشر نفيس الكتب والرَّسائل، الكويت. وهو شرحٌ نفيس، جلَّ نفعُه، وعلا قدرُه، وكثُرت فوائدُه، وغزرت للطَّالبين مواردُه، والعجيب أنَّ أصله قام بتأليفه ابن المؤلِّف، ابنُ قِوامِ السُّنّةِ محمَّد بن إسماعيل أبي عبدالله، إلَّا أنِّ المنيَّة اخترمته رحمه الله وهو في بداية تأليفه، حيث شرحَ كتاب بدء الوحي والإيمان، ثمَّ أكمله أبوه قِوامُ السُّنَّةِ محبَّةً لولده ووفاءً له وسيرًا لما ابتدأ به وتحقيقًا لأمنيَّته، فكان هذا التَّأليف والشَّرح العظيم سببًا للانتفاع به، وموردًا علميًّا لشرَّاح صحيح الإمام البخاريِّ من بعده. وممَّا تميَّز به هذا الشَّرح: نقلُه عن المصادر المفقودة كالمناسك الكبير للإمام الشَّافعيِّ، والقسم المفقود من صحيح ابن خُزيمة، وبيان أوجه الفروق بين روايات صحيح البخاريِّ والتِّرجيح بينها، وبيان المناسبات للتَّراجم ومطابقتها للأحاديث مع ترتيبه لأبواب الصَّحيح، وتفسير الحديث وغريبه وضبط ألفاظه وفقهه وفوائده وأحكامه، مع إبراز عقيدته في نبذ طرائق المُتكلِّمينَ وتعقُّب مَن جانبَ الصَّواب وترجيح ما يراه مناسبًا، إلى غير ذلك من الفوائد المُنيفة، والفرائد اللَّطيفة.. رحمه الله تعالى ورحم ابنه، وغفر لهما وأجزل لهما الأجر والمثوبة، فالكتاب لقيَ استحسانًا وقبولًا، واستفاد الشُّرَّاح والعلماء منه كثيرًا منذ تأليفه، واستقوا من مَعينه وفُهومه خلال العصور.. بحرٌ من العلمِ لا زالت جداولُه...تزيلُ عن واردي ساحاته الظَّمأَ
حقيقة المخطوط المُعنون بـ "حاصل التحقيق" المنسوب إلى مجهول في " دار المخطوطات في بغداد " كتابٌ مخطوطٌ [1] مجهولُ المؤلِّف، ولم يَعرف الأستاذُ المفهرسُ الفاضلُ مؤلفَه، ووضعَ له عنوانًا أخذَه مِنْ تعبيرٍ في مقدمةِ الكتابِ ظانًّا أنَّه العنوان، ولم يَذكر أنَّ هذا العنوان مِنْ وضعهِ هو، ولم يسقْ الجُملة التي وردَ فيها ذلك التعبيرُ مِن المقدمة. وحقيقتُهُ أنه " المُصفَّى بأكفِّ أهلِ الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ " لابن الجوزي . وإليكم التفصيل: جاء في "فهرس مخطوطات علوم القرآن الكريم وتفاسيره في مكتبات العراق" [2] : " حاصل التحقيق . مجهول المؤلِّف. أوله: حمدًا لله [3] ذي النِّعم والعزِّ والرفيع [4] الشامخ، والصلاة على رسولهِ محمد ذي القدر المنيع الباذخ ... أنكرت ‌اليهودُ جوازَ النسخ .... وهي رسالةٌ في الناسخ والمنسوخ، رتّبها المؤلفُ على أبوابٍ وفصولٍ، واختصرَها في [5] كتاب "عمدة الراسخ" كما ذُكر في ديباجة هذه النسخة. نسخة جيدة كُتبتْ بخط النسخ. عدد الأوراق: 26. المقاس: 5, 21×14 سم. عدد الأسطر: 19. رقم الحفظ: 6992/3". ♦    ♦     ♦ ثم قال المفهرسُ الكريمُ [6] : "نسخة أخرى. كُتبتْ بخط النسخ. عدد الأوراق: 21. المقاس: 21×15 سم. عدد الأسطر: 24. اسم المكتبة: دار المخطوطات- بغداد. رقم الحفظ: 51063/2". ♦    ♦     ♦ أقولُ: ما نقله الأستاذُ المفهرسُ من ديباجة المخطوط هو جزءٌ مِن مقدمة كتاب ابن الجوزي الصغير في ناسخ القرآن ومنسوخه. ولابن الجوزي في ذلك كتابان، ذكرهما ابنُ رجب الحنبلي في ترجمته له، وهما: كبير هو: "عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ"، خمسة أجزاء [7] . وصغير هو: "المُصفَّى بأكفِّ أهلِ ‌الرُّسوخ مِنْ علم الناسخ والمنسوخ"، جزء [8] . وقد ذكرَهما هو لنفسه في كتابه « كتاب القُصّاص والمُذكّرين » فقال وهو يُعدد طرفًا مِنْ مؤلفاته [9] : «وكتاب " ناسخ القرآن ومنسوخه "، و"مختصره"». ♦    ♦     ♦ وهذه مقدمة المختصرِ كاملة: "بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعدَ حمدِ اللهِ ذي النِّعم والعزِّ الرفيعِ الشامخِ، والصلاةِ على رسولهِ محمدٍ ذي القدرِ المنيعِ الباذخِ. فهذا حاصلُ التحقيق في علم الناسخ والمنسوخ، وقد بالغتُ في اختصار لفظه، لأحثَّ الراغبَ على حفظه، فالتفتْ أيها الطالبُ لهذا العلم إليه، وأعرضْ عن جنسه تعويلًا عليه، ففيه كفاية، فإنْ آثرتَ زيادةَ بسطٍ، أو اخترتَ الاستظهارَ لقوة احتجاج، أو ملتَ إلى إسنادٍ فعليك بالكتاب الذي اختُصِرَ هذا منه، وهو كتابُ "عمدة الراسخ" ، والله الموفِّق. ‌‌باب ذكر فصولٍ تكونُ كالمقدمة لهذا الكتاب: فصلٌ: أنكرت ‌اليهودُ جواز النسخ وقالوا: هو البَداء. والفرقُ بينهما...". وقولُ المؤلف: "فهذا حاصلُ التحقيق" وصفٌ للكتاب، وليس عنوانًا، ويريدُ أنه حاصلُ جهدهِ وبحثهِ الماضي في كتابهِ الكبيرِ. ♦    ♦     ♦ ولكتاب "المُصفَّى" نسختان أُخريان في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد برقم (7932/2ح)، وبرقم (8492/5ح)، ذكرَهما المفهرسُ الكريمُ بعنوان: "المُصفَّى بأكفِّ أهلِ ‌الرُّسوخ من علم الناسخ والمنسوخ"، وقال في كلامه على الكتاب: "طُبع بتحقيق د. حاتم صالح الضامن - مجلة المورد - بغداد عدد (1) لسنة 1977م [10] " [11] . وقد نقلَ الديباجةَ الواردةَ في هاتين النسختين المَعروفتين، وهي كديباجةِ النسختينِ السابقتينِ اللتينِ وَضعَ لهما هذا العنوان: "حاصل التحقيق"، ولم يَعرفْ مؤلفَهما، ولو عرَضَ النظيرَ على النظير لظهرَ له الصواب، كما كان بإمكانه الاستفادةُ مِن قول المؤلِّف: "فعليك بالكتاب الذي اختُصر هذا منه، وهو كتابُ عمدة الراسخ". ♦    ♦     ♦ وللكتاب نُسخٌ: في المكتبة العبدلية في تونس ضمن مجموع برقم (563) [12] . وفي المسجد الأحمدي في طنطا. ومجموعة بغدادلي وهبي أفندي في السليمانية برقم (187). وجامعة ييل [13] . وفي مكتبة مكة في مكة. وفي الظاهرية بدمشق، برقم (3852)، وهذه نسخةٌ نفيسةٌ مقروءةٌ على المؤلِّف، وعليها خطُّه، وعليها سماعاتٌ، وأصلُها مِنْ وقف المدرسة الضيائية بسفح قاسيون. وفي التيمورية في دار الكتب المصرية، تحت عنوان: مختصر عمدة الناسخ [14] . وبهذا الاكتشافِ نكونُ أضفنا نُسختين أُخريين إلى نُسخهِ. والحمد لله ربِّ العالمين [15] . [1] وله نُسخةٌ أخرى كما سيأتي. [2] أعدَّه الأستاذ أسامة ناصر النقشبندي، وراجعه الأستاذ الدكتور عبدالستار الحَلْوجي، وصدر عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن سنة (1431-2010م). انظر ص 114-115. [3] الصواب: "أمّا بعدَ حمدِ اللهِ". [4] الصواب: "الرفيع" مِنْ غير واو. [5] الصواب: مِنْ. [6] ص 115. [7] طُبع بعنوان: "نواسخ القرآن"، وحبذا لو وُضع العنوانُ الذي وضعَه المؤلفُ، وإنْ لم يرد في النسختين المعتمدتين. [8] انظر: «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 491 طبعة العثيمين). [9] ص372. [10] ثم أخرَجه المحققُ وطبعَه في مؤسسة الرسالة، وصدرتْ له عدة طبعات، وفي المكتبة الشاملة الطبعة الثالثة، ١٤١٨- ١٩٩٨م. واعتمادُه على نسختَيْ أوقاف بغداد فحسب. [11] فهرس مخطوطات علوم القرآن الكريم وتفاسيره في مكتبات العراق ص 284-285. [12] انظر: مجلة المكتبة، العدد الثاني والستين، السنة الثامنة، (1968). وفيها أنها "القطعة الثانية ضمن المجموع، خطها مشرقي، وعدد أوراقها 5 ورقات، سطور الورقة 39، حجم 30× 21". [13] انظر: "مؤلفات ابن الجوزي" لعبدالحميد العَلَوْجي ص 181-182. [14] كما في مقدمة مُحقق "نواسخ القرآن" ص 61. [15] تمَّتْ كتابة هذا المقال في دبي، يومَ الخميس الرابع والعشرين من المحرّم (وفي تقاويم أخرى: الخامس والعشرين) سنة (1443)، الثاني من أيلول عام (2021م).
معاملة الإسلام للأسرى قال الله عز وجل: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 64]، بيان آخر لقبيحة أخرى من قبائح اليهود، وتأكيد على فساد قلوبهم، وأنها مليئة بالحقد والحسد والضغينة، ليس ذلك على المسلمين وحدهم، بل إنهم يُبغض بعضهم بعضًا، ويحسُد بعضهم بعضًا، ويحقد بعضهم على بعض، كما ذكر ذلك تبارك وتعالى في حق النصارى؛ حيث قال: ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 14]، وقال هنا في حق اليهود: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 64]، وكما قال عز وجل: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14]. وقوله تبارك وتعالى: ﴿ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [المائدة: 64]، وهذا بيان آخر لقبيحة أخرى من قبائحهم؛ حيث إنهم لا ينفكُّون عن محاولة إشعال الحروب وإثارة الفتن بين الأمم والشعوب، ولو تمكَّنوا من تنفيذ مخططاتهم الإجرامية لأهلَكوا الحرث والنسل، ولكن الله تبارك وتعالى يحبط كيدهم، ويحول بينهم وبين ما يشتهون. وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ﴾ [المائدة: 64]، بيان آخر لقبيحة أخرى من قبائحهم، وتأكيد لما انطوت عليه نفوسُهم الشريرة من حرصهم الشديد وسعيهم الحثيث للفساد في الأرض، وحرمان أهلها من أسباب الأمن والاستقرار؛ ولذلك نجد أصابع الدول في عصرنا تشير إليهم في أمريكا الجنوبية وهم يدربون العصابات لتجار المخدِّرات، كما تشير إليهم في جنوب إفريقيا وسائر أنحاء العالم وهم يمدُّون المنحرفين البغاة بأسباب استشراء شرورهم؛ ولذلك استحقوا غضب الله عليهم وبُغضه لهم؛ لأنه عز وجل يكره المفسدين في الأرض؛ ولذلك ذيَّل هذا المقام بقوله الكريم: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64]. أما الدليل على حُسن معاملة الإسلام للأسرى، فيتضح بما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصة بدر ثلاثةَ أيام، ركب ناقته وسار عليه الصلاة والسلام راجعًا إلى المدينة، وبعث بشيرينِ إلى المدينة بالنصر والفتح، وهما: عبدالله بن رواحة إلى عالية المدينة، وزيد بن حارثة إلى سافلتها، وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى موثقين ومعه الغنائم، وقد أمر بالإحسان للأُسارى، وقال: (( استوصوا بهم خيرًا )). وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه في الأسارى، قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعبُ بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شدَّ يديك به؛ فإن أمَّه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبَلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها، فيردها عليَّ ما يمسها. وقد نزلت سورة الأنفال أو معظمها في بدر. فقد روى البخاري في صحيحه من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر. ولقد جعل الله تبارك وتعالى الإحسان إلى الأسير من صفات الأبرار؛ حيث يقول الله تعالى في سورة الإنسان: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9].
التحف البهية من الأقوال والأمثال المكية لعبدالعزيز شلبي صدر حديثًا طبعة جديدة من كتاب "التحف البهية من الأقوال والأمثال المكية"، تأليف: "عبدالعزيز حسن شلبي"، نشر: "مكتبة كنوز المعرفة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب خلاصة جمع الكاتب وانتقائه للأمثال والأقوال المكية خلال أكثر من عشر سنوات؛ وذلك للمساهمة في حفظ جزء من تراث هذا البلد الأمين، "فبحفظ القديم من الأمثال والأقوال يستمر الجديد، وبمقارنة القديم بالجديد تقوى النكهة، ويحسن الطعم، وتزداد شهية الإقبال على هذا النوع من الأدب والتراث، فيستمر بمشيئة الله ويقوى عوده، ويصبح مجالًا للفخر والمنافسة"؛ كما يقول الكاتب في مقدمته للكتاب. وانقسمت هذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسة: القسم الأول: يستعرض الكثير من مصطلحات وأقوال أهل مكة المكرمة القديمة، التي قلَّ أو انتهى استعمال الكثير منها، بحيث أصبحت الآن مبهمة للكثير من شباب هذا الجيل، والتي يتوق الكثير منهم لمعرفة معانيها ومرادفاتها، وقد رُتِّبَتْ هذه الأقوال - في بداية الأمر - حسب المواضيع، فمصطلحات خاصة بالمنزل، وأخرى خاصة بالملابس وهكذا، إلا أن الكاتب ارتأى في نهاية الأمر ترتيبها حسب الحروف الأبجدية؛ حتى يسهل على القارئ إيجاد أيٍّ منها عند سماعه أو قراءته لها. والقسم الثاني: يستعرض الكثير من أمثال أهل مكة المكرمة القديمة، التي تم عرضها حسب المواضيع مرتبة حسب الحروف الأبجدية. والقسم الثالث: يستعرض الكثير من أمثال أهل مكة المكرمة القديمة، التي تم عرضها حسب الحروف الأبجدية. ويعتبر "المثل" ظاهرة فريدة ومتميزة في الآداب العالمية؛ نظرًا لطبيعته اللغوية والتركيبية، وإيجازه الشديد ودلالته العميقة، بالإضافة إلى أنه خلاصة تجربة يعبر عنها بالرمز أو الإيحاء أو الإشارة المباشرة في شتى ميادين الحياة اليومية، ويعالج حالاتها من خلال الوقائع والعادات والتقاليد والممارسات، وهو بكل صيغه يظل معبرًا عن حكمة الشعوب، وخلاصة تجاربهم، ورؤيتهم للأشياء المحيطة بهم، وما بأنفسهم وخباياهم، وقد أبرز الترمذيُّ طبيعة الأمثال بقوله على أنها: "نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار لتهدي النفوس بما أدركت عيانًا"، وهي بالنسبة إليه "مرآة النفوس". ونجد أن الأسلاف تركوا لنا تراثًا لغويًّا عاميًّا، تمثل في المأثورات والحكم والأمثال العامية، أضحى من موادِّ التأريخ لفهم طبيعتهم وذهنيتهم وقضايا مجتمعهم، ولأن اللغة المتداولة تعد تعبيرًا عن النسق الفكري السائد داخل المجتمع، وإذا ما تقصَّينا بعض كتب اللغة وما يتعلق بألفاظ العامة، يمكن أن نستشف ظواهرَ مهمة في حياة جماعةٍ ما، وهو ما رصده د. "عبدالعزيز شلبي" في هذه الدراسة الشائقة.
عيسى ابن مريم عليه السلام (6) حقيقة النهاية للمسيح قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55]، وفي سورة المائدة: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [المائدة: 110]، فهذه الآيات كلها تدل على الآتي: ♦ نفي القتل والصَّلب عن عيسى عليه السلام. ♦ فالذي جرى في ظاهر الأمر من حيث القتل والصلب على الشبيه، والله قادر على ذلك، وهو الذي يقول هذا في كتابه العزيز. ♦ من شهد حادثة القتل والصلب الذي وقع على الشبيه التبس عليه الأمر، فلم يفرِّق بين الأصل والشبيه، وكان في غالب ظنه أنه عيسى. ♦ فاليقين لمن كان حاضرًا الحادثة لو دقق في الأمر واستعاد ما قاله الشبيه حين قال: أنا لست عيسى، ولكن لم يسمعوا له؛ لأن الصورة واحدة، ولأنهم كانوا في هيجان لا يسكنه إلا القتل والانتقام. ♦ ثبوت الرفع إلى السماء بنص الكتاب: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158]. ♦ وعبارة: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [آل عمران: 55] لها معانٍ، وينبغي أخذ المعنى الذي يوافق سياق الآية في سورة النساء؛ لأن القُرْآن يؤيد بعضه بعضًا، ومن معاني متوفيك: النوم؛ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]؛ فكلمة ﴿ يَتَوَفَّى ﴾ أعطت في هذه الآية معنيين، الموت الحقيقي، والنوم، فالنائم بحكم المتوفى الذي حجزت روحه عن جسمه، فإذا لم يكن مع الميتين ترسل إليه روحه فيصحو من النوم، وورد عن ابن عباس قال: "للإنسان نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش، فإن كان ممن قضى عليه الموت قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ [الأنعام: 60]، وأما الوفاةُ بمعنى الموت فقد ورد فيها عدد من الآيات، منها: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾ [السجدة: 11]، وبمعنى توفية الحق: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [النحل: 111]. ♦ وعليه، قال أهل التفسير: إن الله ضرب النوم على عيسى عليه السلام ثم رفعه إلى السماء. ♦ كف الله أيدي الذين كفروا عن عيسى وحماه من شرهم، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وهو في السماء الأولى، وهذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج؛ فقد رأى عيسى عليه السلام ومعه يحيى بن زكريا. عظمة الحوار: لنعُدْ إلى الآيات من سورة المائدة ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]، تهمة افتراها أهل الكفر والضلال على عيسى عليه السلام بأن قال لهم: اتخذوني وأمي إلهين، والله تعالى هو الحكم العدل، وأمامه يقف الخصوم ويُدلي كل بما عنده، وبناءً على ما ادعاه أهل الضلال يقف عيسى عليه السلام للسؤال، ويعطى فرصة الدفاع عن نفسه، ولا ينبغي له السكوت بأن يقول: أنت يا رب عالم بما فعلت وبما تكلمت، وليس عندي ما أقول، وإنما عليه أن يدفع التهمة بتقديم براءته ورد التهمة بالحجة الدامغة؛ لذلك أجاب عيسى: ﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]، هذا القول ليس من حقي أن أدعيَه؛ فأنا عبدك ورسولك، وكذلك أمي العابدة الناسكة المعترفة بألوهيتك، ولم يكن ضمن دعوتي أن أدعي ما افتراه هؤلاء الخصوم أهل الأهواء والمصالح، ما أنا إلا عبد مأمور، قلت ما كُلِّفت به ولم أتجاوز الرسالة التي أمرت بأن أبلغها، ﴿ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، وبعد تقديم ما عنده من أدلة منطقية جعل اللهَ شهيدًا، وهو الحكَم العدل، ومع ذلك فهناك شهود أقوالهم معتبرة وذات قيمة لا يستهان بها، وهم مثال الصدق، وتأدية الشهادة على وجهها الحق، إنهم المسلمون أتباع الرسالة الخاتمة، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، وتأتي هذه الشهادة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعزيزًا لموقف عيسى عليه السلام، وتصديقًا لأقواله؛ بأنه أدى الرسالة كما أمره الله؛ فهم شهود عدول، ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم يزكي شهادتهم، وهذا مثل يحتذى في الدنيا بضرورة الحوار وإعطاء الفرصة للمتهم بأن يُظهر براءته بما يجد من وسيلة لذلك.
التحريرات والنكات على شرح المحلي للورقات لمحمد بن عبادة العدوي المالكي صدر حديثًا كتاب "التحريرات والنكات على شرح المحلي للورقات" للشيخ علي بن أحمد بن مكرم العدوي، جمع وتحرير: الشيخ "محمد بن عبادة العدوي المالكي"، دراسة وتحقيق: "أحمد فتحي عبدالرحمن حجازي" و"عبدالعزير سليمان معروف"، نشر: " دار الرياحين للنشر والتوزيع"، "نبراس - مشروع النبراس العلمي". وهذا الكتاب حاشية نافعة للعلامة العدوي المالكي على شرح المحلي على ورقات الإمام الجويني، سماها ( التحريرات والنكات)، وتُعَدُّ هذه الحاشية في مصافِّ الحواشي المهمة في علم أصول الفقه؛ لأنها تستمدُّ أهميتَها ومكانتها من كتاب "الورقات" لإمام الحرمين الجويني أولًا، ثم من شرح المحلي ثانيًا، ثم من المحشي الشيخ علي الصعيدي (ت 1189 هـ)، ومن حرَّر كلامه الشيخ "محمد عبادة"، فالجميع توافر على الورقات وشرحها، وإيضاح مباحثها، فما التبس وأُغلق من عبارة الشارح "المحلي" كشفه وفسَّره شارحه "الصعيدي" في درسه، وربما أثرى العبارة بالمناقشة، والرد على من شرح المحلي ولم يفهم مراد الشيخ، أو الرد على من شرح الورقات ولم يفهم مراد صاحبها، ثم يأتي "عبادة" ويسجل المجهود ويحرِّر ويفيد، ويناقش شيخه ويسأله ويدون جامعًا لكل هذه الفوائد، مما يجعل الحاشية تتبوأ مكانة مهمة في مكتبة الأصول. ونجد أن أصل هذا الكتاب هو " ورقات " إمام الحرمين الجويني، وهو علَمٌ شامخ من أعلام أصول الفقه، وله باع طويل في هذا المجال، ويظهر هذا جليًّا في مؤلفاته في علم أصول الفقه، وهي: 1) البرهان في أصول الفقه. 2) التلخيص في أصول الفقه. 3) الورقات في أصول الفقه. وكتاب الورقات على صغر حجمه، يعتبر من أهمِّ المختصرات في علم أصول الفقه. قال ابن قاوان في ( التحقيقات في شرح الورقات ) ما نصه: ( وكان أحسن ما صنِّف فيه - أصول الفقه - وأنفع للمبتدئ من المختصرات، وأجمع وأنقح وألخص لما في المطولات، ورقات إمام الدنيا والدين، ناصر الإسلام والمسلمين، أبي المعالي عبدالملك ابن الشيخ أبي محمد الملقب بإمام الحرمين ... ). واحتوى كتاب الورقات على معظم مباحث علم أصول الفقه، وقدَّم إمام الحرمين له بمقدمة، ثم ذكر أبواب أصول الفقه. وقد احتوت المقدمة على ما يلي: ♦ معنى أصول الفقه. ♦ تعريف الأصل. ♦ تعريف الفرع. ♦ تعريف الفقه. ♦ أنواع الحكم السبعة، وهي: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور، والمكروه، والصحيح، والباطل. ♦ بيان الفرق بين الفقه والعلم والظن والشك. ثم ذكر أبواب أصول الفقه التالية: 1) أقسام الكلام. 2) الأمر والنهي. 3) العام والخاص. 4) المجمل والمبين. 5) الظاهر والمؤول. 6) الأفعال. 7) الناسخ والمنسوخ. 8) الإجماع. 9) الأخبار. 10) القياس. 11) الحظر والإباحة. 12) ترتيب الأدلة. 13) صفة المفتي والمستفتي. 14) أحكام المجتهدين. وقد لقي كتاب الورقات عناية فائقة من العلماء؛ لوجازته ونفعه، فشرَحَه جماعة منهم، وقد وقف المحققون على أكثر من ثلاثين عملًا، ما بين شرح وحاشية ونظم، ومن ضمن تلك الشروح شرح الشيخ جلال الدين المحلي، ويعتبر شرح جلال الدين المحلي أهم شروح الورقات وأحسنها؛ حيث إنه كثير الفوائد والنكت، انتفع به أكثر الطلاب، واستفاد منه كثير من شرَّاح الورقات الذين جاؤوا بعده، ولكن شرح المحلي صعب العبارة، غامض الإشارة؛ لذلك كان بحاجة إلى شرح آخر، يحلُّ غوامضه، ويبين المراد من عبارته، فتصدى لذلك بعض العلماء، فمنهم من شرحه، ومنهم من وضع حاشية عليه، فمن هؤلاء: الشيخ " علي العدوي " ( الصعيدي ) من فقهاء المالكية المتأخرين المشهورين، وله حواشٍ وتعليقات نفيسة على شروح مهمة في الفقه المالكي، وقد وضع حاشية على شرح " الجلال المحلي " ضمَّنها تعليقاتِه وتنقيحاته في أكثر من موضع على كلام " الجلال المحلي " و" الجويني ". ثم جاء الشيخ " محمد بن عبادة العدوي المالكي " المتوفي سنة (1193هـ) رحمه الله، فوضع تلك الحاشية على تلك الشروح والتي عنونها بـ " التحريرات والنكات على شرح المحلي للورقات ". والشيخ " محمد بن عبادة العدوي " فاضل مصري، نسبته إلى ( بني عدي ) من بلاد الصعيد، من منفلوط، جاور بالأزهر (سنة 1164) وتوفي بالقاهرة، ولديه عدة حواشٍ على متون عدة في اللغة والفقه، ومنها: ( حاشية على شرح الشذور ) في النحو، و( حاشية على شرح الهدهدي ) في التوحيد، و( شرح الحكم العطائية ) في التصوف، و( حاشية عبادة العدوي على المولد النبوي لابن حجر الهيتمي )، و( حاشية عبادة على كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني )، و( حاشية عبادة على زوال الترح شرح ابن جماعة على منظومة ابن فرح )، و( حاشية عبادة على مولد النبي صلى الله عليه وسلم للمدابغي )، و( حاشية عبادة على قصة المعراج الصغرى للغيطي ). وتأتي تلك الجهود العلمية من باب عناية المالكية بمتن الورقات لإمام الحرمين. وقد قام المحققان بتحقيق تلك الرسالة، مع توضيح كلام كل مؤلِّف من هؤلاء الأعلام، والتقدمة للتحقيق بمقدمات نافعة عن أهمية متن الورقات، والشروح والحواشي والتعليقات التي بُنيتْ على متنه، مع الترجمة لأعلام الرسالة.
إشكالية الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير من الخصائص والإشكاليات التي يمكن أن تبين معالم المنظور الإسلامي من خلال البحث فيها، فمسألة الفصل بين الثابت والمتغير من القواعد والأسس الدينية الإسلامية التي تعطي للإسلام حيويةً وفاعلية كبيرة في مجال الاستجابة لمتطلبات الواقع الإنساني المتغير، والإسلام يفتح المجال للاجتهاد في الفكر الديني التطبيقي، والاستجابة لكثير من متطلبات الواقع دون المساس بالثابت والمطلق. جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها تُرجِّح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما [1] ، وقد راعت الشريعة الضرورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فقدَّرتْها حق قدرها، وشرعت لها أحكامًا استثنائية تناسبها وفقًا لاتجاهها العام في التيسير على الخلق، ورفع الآصار والأغلال التي كانت عليهم في بعض الشرائع السابقة، ورعاية الإسلام للأوضاع الاستثنائية التي تحِلُّ بالمكلفين أكسبتْهم القدرة على السير مع التكاليف في جميع الحالات، وهي عامل من عوامل سَعَتِها ومرونتها [2] ، الإسلام كدين إلهي هو مثال، وإن إقامة البشر وتطبيقاتهم للدين واقعٌ، وستظل دائمًا هناك مسافة بين الواقع والمثال، فتطبيق الشريعة هو فعل وممارسة بشرية، والممارسة لا يمكن أن تكون الشريعة ذاتها؛ لأنها غير معصومة فتبقى في محل النقد المستمر [3] . تُقسم الأحكام الشرعية من حيث الثبوت والتغير إلى قسمين؛ هما: الأحكام الثابتة، والأحكام المتغيرة، والأحكام الثابتة يقصد بها تلك الأحكام التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ بمعنى أنها لا تخضع لتغيرات الواقع، ومثل ذلك الأحكام القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها، ولا تحتمل التأويل، أما الأحكام المتغيرة، فهي الأحكام المبنية على الأعراف، أو العلل المتبدلة، أو المصالح المتغيرة، أو قاعدة الضرورات والحاجات (قاعدة الضرورة وكذلك قاعدة الحاجة هما المدخلان الوحيدان لتغير الأحكام الثابتة، فإذا زالت الضرورة أو الحاجة، زال التغير عن الحكم الثابت) [4] ، ونحو ذلك، ويؤكد ابن القيم هذا التقسيم في كتابه "إغاثة اللهفان"؛ حيث يقول: "الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة"، ثم يقول رحمه الله في بيان أن هذه المعاني قد تخفى على كثير من الناس: "وهذا باب واسع اشتُبه فيه على كثير من الناس، الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودًا وعدمًا" [5] . إن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغير عُرْفِ أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقيَ الحكم على ما كان عليه أولًا للزِم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتمِّ نظام وأحسن إحكام [6] ، فالتطبيق العملي قد تتولد منه مشاكلُ تتطلب حلولًا في ظل الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو أوسع وأرحب منها، طبقًا لروح الشريعة وقواعدها الكلية، وهذا هو ما تكفَّلت به السياسة الشرعية. إن العمل بالشرع ليس مطابقة، بل تقريبًا قدر الإمكان؛ من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ [النساء: 129]، وقد أكدت الشريعة وجوب العدل بين الزوجات، وجاء فيه الوعيد الشديد، وفي نفس الوقت يُنبِّه القرآن أن العدل في كل شيء بين الزوجات متعذرٌ وخارج عن الاستطاعة، فالشارع نبَّه على عدل مستطاع، وعدل غير مستطاع، فأمر بالمستطاع، وعفا عن غير المستطاع [7] ، وكذلك يجمع الله في مواضعَ بين الأمر بالعدل، والتنبيه على العفو عند العجز وعدم الوسع؛ كقول الله عز وجل: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [الأنعام: 152]، ونبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على أن العمل بالشرع ليس مطابقة بل تقريبًا قدر الإمكان بتأصيل شرعي عام؛ ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فسددوا وقاربوا)) [8] ، وقوله ((وقاربوا)): أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه [9] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن العمل البشري لا يمكن أن يطابق المطلوب الإلهي، ولكن يقارب الإنسان ويُسدِّد، ومن ذلك أن أهل العلم ذكروا شروطًا للولايات والمناصب، ولكن إذا جئنا نطبقها على الواقع نعتبر الأمثل فالأمثل؛ كما يقول ابن تيمية رحمه الله: "يجب على كل وليِّ أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك، استعان بالأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاقَ لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، فإن تعذر وجود الأصلح يختار الأمثل فالأمثل" [10] . نقل العلماء الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، ولكن إذا افتقروا إلى إمام يُقدِّمونه لجريان الأحكام، وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهدٍ؛ لأنَّا بين أمرين؛ إما أن نترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهَرْجِ، وإما أن يقدمونه، فيزول الفساد به، ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد، هذا وإن كان ظاهره مخالفًا لما نقلوا من الإجماع، فإن الإجماع في الحقيقة إنما انعقد على فرض ألَّا يخلوَ الزمان من مجتهد، فصار مثل هذه المسألة مما لم يُنصَّ عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة، فالثمرة المطلوبة من الإمامة تَطْفِئةُ الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة [11] . ويتبين من هذه الأمثلة أننا عندما نريد تطبيق الشروط الفقهية على الواقع، فإن العمل الذهني لا يبحث عن المطابقة بين الشرط والواقع، بل يبحث عن التقريب بين الشرط الفقهي وأقرب النماذج الواقعية له، وهذا يعني أن العمل على تحكيم الشريعة هو عمل واقعي يدور على مفهوم الأقرب لا مفهوم المطابقة؛ لأن العدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، والواجب إقامة الشرع بحسب القدرة والإمكان [12] . [1] مجموع فتاوى بن تيمية، (20/ 48). [2] السياسة الشرعية حالة غياب حكم إسلامي عن ديار المسلمين، (ص: 232). [3] العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، (ص: 57، 58). [4] الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، (ص: 17، 18). [5] إغاثة اللهفان، (1/ 570 - 574). [6] مجموعة رسائل ابن عابدين (2/ 125). [7] كيف نطبق الشروط الفقهية على الواقع، إبراهيم السكران، صحيفة المدينة، 5/ 4/ 2013. [8] صحيح البخاري، الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256هـ)، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، حديث (39)، ص: 20. [9] شرح الجامع الصحيح للبخاري من رواية أبي ذر الهروي عن مشايخه الثلاثة الكشميهني والمستملي والسرخسي، (ص: 1/ 118). [10] مجموع فتاوى بن تيمية، (28/ 24، 145، 728). [11] الاعتصام، لأبي إبراهيم بن موسى الشاطبي توفي 579هـ، (3/ 42 - 47). [12] كيف نطبق الشروط الفقهية على الواقع؟
المختصر الفقهي الكبير لعبدالله بن عبدالحكم صدر حديثًا كتاب "المختصر الفقهي الكبير"، لعبدالله بن عبدالحكم المصري المالكي، تحقيق ودراسة: أ.د. "حميد لحمر" أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبدالله- فاس بالمغرب، نشر: "دار الكلمة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب صنف فيه "ابن عبدالحكم" رحمه الله مختصرًا فقهيًّا واسعًا، وقصد به اختصار كتب أشهب رحمه الله، وحوى حوالي ١٨٠٠٠ مسألة، وهو مُعَوَّل مالكيَّة بغداد، قال ابن عبدالبر رحمه الله: "صنَّف عبدالله بن عبدالحكم كتابًا اختصر فيه أَسْمِعَتَه من ابن القاسم وابن وهب وأشهب، ثم اختصر من ذلك كتابًا صغيرًا، وعلى الكتابين مع غيرهما معول البغداديين المالكية في المدارسة، وإياهما شرح القاضي أبو بكر الأبهري". وقد دُرِّس هذا السفر النفيس في الأندلس، قال ابن بشكوال رحمه الله في ترجمة ابن أبي زمنين رحمه الله: "قرأ ببَجّانة على سعيد بن فحلون مختصر ابن عبدالحكم" [الصلة: ١/١٤٥]. ونجد أن ممن شرحه: الأبهري والخفاف وابن الجصاص رحمهم الله. وقد انتشرت مختصرات ابن عبدالحكم في الفقه في العالم الإسلامي، وانتقلت مع العلماء من الشرق للغرب، حيث نلاحظ دخول مختصرات ابن عبدالحكم وشروح الأبهري عليها إلى المغرب، جاء في [الصلة لابن بشكوال: ١/١٦٧]: "وأخذه محمد بن يوسف التاجر القرطبي من أبي بكر الأبهري لما رحل إليه ببغداد، فرواه عنه مع شروحه على المختصر الكبير والصغير". وقد قام ابن عبدالحكم بتصنيف مختصر أصغر من مختصره الفقهي الكبير؛ لاختصاره وسهولة تلقِّيه، واقتصر فيه على قول مالك رحمه الله، ثم أدخل فيه "البرقي" خلاف أبي حنيفة والشافعي والثوري وابن راهويه والأوزاعي والنخعي رحمهم الله، وأدخل فيه عبيد البغدادي الشافعي مذهبَ داود بن علية، وأدخل فيه ابن رمضان الزيات أقوال بعض الفقهاء ممن فات البرقيَّ ذِكرُ خلافهم. وممن شرح المختصر الصغير أيضًا: أبو بكر الأبهري وابن الجهم المالكي. وممن اختصر هذا المختصر: ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله. وبذلك يعتبر هذا المصنَّف من أقدم المختصرات الفقهية المالكية الأمهات، اختصر فيه شيخ المالكية بمصر عبدالله بن عبدالحكم المصري (ت 214 هـ) سماعاتِه عن شيخه الإمام مالك بن أنس وتلامذته الكبار: • عبدالرحمن بن القاسم العتقي المصري (ت 191هـ). • وعبدالله بن وهب المصري (ت 197هـ). • وأشهب بن عبدالعزيز المصري (ت 204هـ). وقد كان محل عناية واهتمام،من قِبَلِ كبار علماء المالكية، حيث اعتكفوا على شرحه وتوضيح معانيه، والتعليق على نصوصه، منهم: الشيخ أبو بكر الأبهري، كبير فقهاء المالكية بالعراق. وقد بلغت مسائله ثمانية عشر ألف مسألة، أغلبها لها شواهد من الكتاب والسُّنة، يقول عبدالله البريكاني: "عرضت مختصر عبدالله بن عبدالحكم على كتاب الله وسنة رسوله، فوجدت لكلٍّ أصلًا، إلا اثنتي عشرة مسألة لم أجد لها أصلًا". وتعتبر هذه القطعة المحقَّقةُ آخرَ ما تبقى من مجموع الكتاب، مما تحتفظ به خزانة جامع القرويين العتيق بفاس المحروسة بالمغرب الأقصى، وقد سلم من الضياع، وبقي محفوظًا إلى وقتنا هذا، والحمد لله أنْ يسَّر سبحانه في إنقاذه وإخراجه إلى الوجود على يد المحقق. وصاحب المختصر هو الإمام " عبدالله بن عبدالحكم بن أعين بن ليث بن رافع"، يكنى أبا محمد (150 - 214 هـ = 767 - 829 م)، الإمام الفقيه مفتي الديار المصرية، صاحب مالك، ويقال: إنه من موالي عثمان رضي الله عنه. سمع مالكًا، والليث، وبكر بن مضر، وعبدالرزاق، والقعنبي، وابن لهيعة، وابن علية، وإسماعيل بن أبي عياش، ويعقوب بن عبدالرحمن الزهري، والعطاف بن خالد، وابن عيينة. وروى عنه: بنوه الأئمة محمد وسعد وعبدالرحمن وعبدالحكم، وابن نمير، وهارون بن إسحاق، والمقدام بن داود، وأبو يزيد القراطيسي، والربيع بن سليمان، وابن المواز، والعداس، وأحمد بن زكير، وابن حبيب، وأحمد بن صالح، ومحمد بن مسلم، وغير واحد. وقال ابن واره: كان شيخ أهل مصر. وقال أحمد العجلي: لم أرَ بمصر أعقل منه ومن سعيد بن أبي مريم. قال أبو عمر بن عبدالبر: كان ابن عبدالحكم رجلًا صالحًا، ثقة محققًا بمذهب مالك. قال الكندي: كان فقيهًا. قال أبو زرعة الرازي: هو صدوق ثقة. قال محمد بن مسلم: كتبت عنه وهو شيخ مصر. قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. قال أحمد بن عبدالله الكوفي: عاقل حليم ثقة، كتبت عنه. قال الشيرازي: وإليه أفضت الرئاسة بمصر بعد أشهب، وكان أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله، ولابن عبدالحكم سماع من مالك الموطأ، ونحو ثلاثة أجزاء. قال بشر بن بكر: رأيت مالكًا في النوم بعد الممات بأيام، فقال لي ببلدكم رجل، يقال له: ابن عبدالحكم، فخذوا عنه؛ فإنه ثقة. قال ابن عبدالبر: وكان عبدالله صديقًا للشافعي، وعليه نزل إذ جاء من بغداد، فأكرم مثواه وبالغ الغاية في برِّه، وعنده مات. قال الشيرازي: يقال: إنه دفع للشافعي ألف دينار. قال ابن عبدالبر: وقد روى عبدالله عن الشافعي وكتب كتبه بنفسه ولبنيه وضم ابنه محمد إليه. ومن تواليف عبدالله بن عبدالحكم المختصر الكبير يقال: إنه نحا به اختصار كتب أشهب، والمختصر الأوسط، والمختصر الأصغر قصره على علم الموطأ، والمختصر الأوسط صنفان: فالذي في رواية القراطيسي فيه زيادة الآثار خلاف الذي من رواية محمد ابنه وسعيد بن حسان. ولمحمد بن عبدالله بن عبدالحكم في الصغير زيادة خلاف الشافعي وأبي حنيفة……ذكر بعضهم أن مسائل المختصر الكبير ثمانية عشر ألف مسألة، وفي الأوسط أربعة آلاف مسألة، وفي الصغير ألف ومائتا مسألة. وله أيضًا كتاب الأهوال، وكتاب القضاء في البنيان، وكتاب فضائل عمر بن عبدالعزيز، وكتاب المناسك. وقد اعتنى الناس بمختصراته ما لم يُعتن بكتاب من كتب المذهب بعد الموطأ والمدوَّنة. مات عبدالله لإحدى وعشرين ليلة خلت من رمضان سنة أربع عشرة ومائتين وهو ابن ستين سنة. وقيل: مولده بمصر سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة ست في السنة التي وُلد فيها الحارث بن مسكين، وعبدالله أكبر منه بشهرين. وقيل: سنة خمسين ومائة.
وقفة على أطلال مقدمة الكتاب العربي مقدمة الكتاب أو خطبته - كما كان يسميها السلفُ - من النفائس التي أصبحت مهجورة بين القراء، ولا يلتفت إليها اليوم إلا من طرف ثُلة قليلة قد عرَفت التبر من التراب، أو من طرف أصحاب الدراسات العليا في إعداد بحوثهم الجافة، ولا زلت أعجَب ممن يتخطاها – المقدمة - ويجعلها مرمى ظهرانيه، كيف له أن يجد لذة الكتاب وطعمه ولبَّه، فمن المقدمة يتبيَّن لك منهج المؤلف في كتابه وهدفه، وسبب تأليف الكتاب سواء كان باعثًا نفسيًّا، أو دعت إليه الضرورة، أو استجابة لطلب قرين أو خليل أو أمير، وفوائد أخرى يعرفها حق المعرفة من يرخي عِنانه في ذلك المقام. من أجمل المقدمات التي قرأتها : مقدمة كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري: وهي والله مقدمة بديعة يفوح منها شذى الحسن والجمال، وزيادة على ذلك فإن فيها فوائدَ وحِكمًا تُكتَب بماء الذهب! مقدمة كتاب لسان العرب لابن منظور الإفريقي: وهي مقدمة ممتعة يغلب عليها السجع، ومن أغرب الغرائب أن ابن منظور شكى فيها دروس عهد العلم، وهجر الناس للغة العربية! مقدمة المحاضرات في اللغة والأدب للحسن بن مسعود اليوسي: وهذا الكتاب من أوائل ما قرأت من كنوز الأجداد والتراث. واليوسي أديب مغربي له بيان ساحر، ومن قرأ هذا الكتاب وجد برهان ما أقول. ويتفاوت حسن المقدمات تبعًا لأسلوب صاحبها، و "استخدامه لهذه الأداة" ، فبعضهم يوجزها في كلمات غلاظ ثقال، وبعضهم يُخرجها في ثوب أخضر من سندس، فتميل إليها الأعناق ميلًا، كأنما عقد السحر قد نفثت فيها، ويا لا سحر الأدب!! وأشهر المقدمات بلا ريب مقدمة ابن خلدون لتاريخه - المسمى العبر - وهي المؤسسة لعلم الاجتماع، وقد طبعت في كتاب مستقل، وهي مقدمة بديعة الحسن وأسلوبها عال علو السحاب. هذه خاطرة جاءت على عجل باكية على أطلال "مقدمة الكتاب" ، فمتى يرجع الناس النظر إلى نفائس المقدمات، لعل خاطرة أحرى تبرز لنا مبتهجة لا باكية؟
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها المحدد الأول – الجهوية (1) الالتقاء جرى التوكيد في القسم الأول من هذه المقالات عند مناقشة منطلقات العلاقة بين الشرق والغرب على إغفال الجغرافيا أو الجهة؛ ذلك أن نعت الطرفين بصورة قابلة للمقارنة يؤيد هذا الإغفال، وهما طرفان في ظاهرهما غير متقابلين، فالغرب، جهة، والشرق في هذا الاستخدام الاصطلاحي يمثل دينًا لا يعترف بالجهات من حيث التأثير،ولعل من أسباب التوكيد على استخدام كلمة الإسلام في مقابل الغرب الإيعاز الفعلي بأن الغرب ثقافة، وبالتالي الابتعاد عن المقابل الجغرافي، وهو الشرق،والحديث لا ينصب على الغرب في مقابل الشرق، بل على الإسلام الدين في مقابل الغرب الثقافة والتوَجُّه. والابتعاد عن الشرق الجهة والثقافة الشرقية مقصود أيضًا بالتوكيد على الإسلام؛ لأن مدار الحديث هو المقابلة بين الإسلام؛ لكونه اليوم متركزًا أكثر في الشرق بالنسبة للغرب، ولكون الشرق أيضًا مليئًا بالثقافات والملل والنحل الأخرى غير الإسلام. ويؤيد هذا التوزيع زعم بعض مفكري الغرب، وهو الشاعر روديارد كيبلنج (1865 - 1936م)، بمقولته المشهورة: إن الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان،وهو يعني بهذا أنهما سيظلان مختلفين، فسيظل الشرق شرقًا بمعطياته الثقافية والحضارية والآثارية والتراثية، وسيظل الغرب غربًا بمعطياته الثقافية والحضارية والتقانة والنظام [1] . ويزعم هذا الادعاء أن الشرق قد أدى دوره في الحياة، ثم تنازل للغرب الذي يقود اليوم مسيرة الحضارة،وبقي الشرق على ما هو عليه في ماضيه وتاريخه مجالًا للدراسة والسياحة، والهروب من الغرب ومادياته في رحلات استجمام، وتعرف على التراث، واطلاع على الآثار، ثم يعود الغرب ليواصل البناء بعد أن قضى مدة من الراحة والاستجمام. ثم ينهل الشرق من الغرب عندما يهاجر الشرقيون هجراتٍ دائمةً أو موقتة إلى الغرب، فينصهرون فيه ويتمثلون معطياته متنازلين عن ماضيهم وعراقتهم، إلا في مجالات العروض في مناسبات شعبية يكون فيها لباسٌ شعبي أو أكلات أو رقصات شعبية وغناء شعبي، وكأن الشرق لم يكن يجيد سوى هذه المظاهر التي لا تعبر عنه، وإن كانت قد أضحت جزءًا من تراثه،وهذا التوجه هو جزء من حملة التغريب [2] التي هي محدد آتٍ من هذه المحددات [3] . ثم يأتي التوكيد على عدم الخوض في الشرق في مقابل الغرب؛ ذلك أن الحديث عن الشرق/ الإسلام والغرب أثبت النزوع إلى المقارنة دون النظر إلى الجهة، فالإسلام اليوم قد سرى في الغرب، وأمسى هناك في الغرب مسلمون كثيرون في عددهم، مهمون في تأثيرهم، فانتشرت المساجد والمراكز الإسلامية والمدارس والمؤسسات الأخرى التجارية والثقافية. ولا تزال المساجد تقام في عواصم الغرب ومدنه الأخرى على شكل قوي، مدعوم من بعض الدول الإسلامية بحكم المسؤولية، ومن بعض الدول الغربية بحكم القانون، ومن الجاليات بحكم الحاجة، ولا يزال المغتربون المسلمون في الغرب يحرصون على إقامة مؤسساتهم الدينية والعلمية بدعم من المسلمين في الشرق، ومن دون دعم منهم كذلك في حالات لا يستهان بها. ثم قامت المؤسسات السياسية للجاليات المسلمة المغتربة، وخاضت غمار التأثير السياسي من خلال قيام مفهوم الدهلزة العربية والإسلامية [4] ، وأضحى هناك نوابٌ مسلمون، وعمد مسلمون للمدن الصغيرة والكبيرة، وافتتحت بعض البرلمانات دوراتها بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، وحصلت حالات اعتذار من جهات تجارية أو ثقافية عند حدوث إهانة ضد الإسلام والمسلمين، في دعاية أو إعلان أو منتج ثقافي، وذلك بفضل تأثير الدهلزة العربية الإسلامية. ولم تلاقِ هذه الأساليب ترحيبًا من بعض المسلمين أنفسهم، في البدء لأسباب مختلفة [5] ،وعندما ظهر تأثيرها الإيجابي بدأ الاعتراف بها على استحياء،وهي على أي حال تسير الآن سيرًا حسنًا، تؤيدها وتدعمها في تلك الجهود بعض البعثات الدبلوماسية العربية والإسلامية في البلاد الغربية التي لا يخفى تأثيرها كلما وفقت إلى رجال واعين مدركين، يتمتعون بمصداقية وبثقة عالية بمبادئهم ومُثُلهم وسلوكياتهم. والحق أن البعثات الدبلوماسية قد سبقت مفهوم الدهلزة المنظمة، باتباع هذا الأسلوب من قبل، فكأنها هي التي مهدت الطريق إلى القبول، ولا يلتفت إلى تلك الممارسات غير المسؤولة من بعض رجال البعثات الذين أرادوا التنصل من هويتهم والالتصاق بالغرب، أولئك التغريبيون الذين لم ينالوا الاحترام والتقدير من الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية في الغرب؛ لأنهم أخلوا بمهماتهم التي جاؤوا من أجلها. ودخول المسلمين في الوسط الغربي إنما هو امتداد لانتشار الإسلام في العالم،وإبراز المسلمين الإسلام إبرازًا موضوعيًّا إنما هو شكل من أشكال الدعوة، يسهم في التقليص من المحددات السلبية في العلاقة بين الشرق والغرب، ويبرز الإسلام للغرب بالصورة التي لم يعتد الغرب عليها، مما كان سببًا في نفوره من الإسلام، الذي صوره له الآخرون بصور بشعة غير حضارية متخلفة، إلى آخر هذه الأوصاف التي لا يراها الغربيون في المسلمين المقيمين بينهم، بل إنهم يرون أن الإسلام أضحى خطرًا يهدد العلمانية والديموقراطية، مما أظهر مصطلحًا جديدًا متداولًا في الإعلام الغربي اليوم هو "الخوف من الإسلام" [6] . وقد أثبت الإسلام، في الزمان الماضي وفي الوقت الحاضر، بطلان نظرية الشاعر روديارد كيبلنج في أن الشرق شرق والغرب غرب، فأمكن للمسلمين أن يعيشوا في الغرب ويتعايشوا مع أهله، مع احتفاظهم الكامل بهويتهم وتأثيرهم إيجابًا على أهل الغرب، الأمر الذي فرض احترام الغربيين للمسلمين، ومراعاة مشاعرهم في المناسبات الدينية؛ كالصلاة والصيام والعيدين والزواج ونحوها،ولا اعتبار لبعض الحركات التي اتسمت بالتضايق من الوجود الإسلامي بالغرب [7] . يثبت هذا موضوعيًّا أن الغرب ليس كله متحاملًا على الإسلام والمسلمين، وأن الخير باقٍ في الناس، حتى لو قام بينهم اختلاف في المنطلقات، هذا مع عدم إغفال النصوص الشرعية الصريحة "المحكمة" التي تؤكد على عدم الاتفاق مع الخلفية الثقافية الغربية، القائمة على مرتكزات نصرانية ويهودية؛ من مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82]. ولا تأتي هذه المناقشات لتتجاهل، في سبيل التقريب بين الشرق والغرب، هذه الآيات ومدلولاتها، بل إنها تحذر من ذلك، حتى لو كان الزمان زمانَ معايشة وتطبيع وحوار، إلا أن هذا كله لا يأتي على حساب ما نؤمن به ونعتقده جازمين من استمرار هذه المواقف المبدئية من اليهود والنصارى على تباينٍ في درجات الاختلاف. من هنا، ومن واقع هذا التأثير الإيجابي داخل الغرب نفسه، ندرك حكمةً من حكَم الله تعالى في إغفال الجهوية لهذا الدين، وبالتالي تستمر مسؤولية المسلمين في كل مكان من هذا الكون في نشر الإسلام لمصلحة الكون، بصورته الناصعة البعيدة عن التحزبات التي يحكمها الهوى، وتتنازعها الميول الحزبية التي ربما غلَّبت البُعد السياسي على الأبعاد الأخرى لهذا الدين،ويتم نشر الإسلام بالوسائل المناسبة والمقبولة والمؤثرة، وقبل ذلك تمثُّل المسلمين إسلامهم في أنفسهم وفي مجتمعهم، وذلك ليبدؤوا بالوسيلة التي أثبتت جدارتها وجدواها عندما يكونون قدوة للآخرين في سلوكياتهم وتعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم. [1] انظر: إدوارد سعيد ، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق - مرجع سابق - ص ، 103، 349، 351، 353 . [2] انظر: محمد محمد حسين ، الإسلام والحضارة الغربية - ط 5 - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1402هـ/ 1982م - ص278 ، حيث يركز الكتاب على التغريب . [3] انظر: محمد عبدالحليم مرسي ، التغريب في التعليم في العالم الإسلامي - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1409هـ/ 1988م - ص 92 - (سلسلة من ينابيع الثقافة: 19). [4] يعبر عنها بكلمة " Lobbying " ، أو جماعات الضغط والتأثير. [5] هناك فئة من المسلمين المقيمين في الغرب ترفض التعايش معه، وترى أنه سبب المصائب التي حلت ببلاد المسلمين، ومن ثم هجرة هذه الفئة، فتحجم عن المشاركات الاجتماعية والسياسية. [6] انظر: فنسان جيسير ، الإسلاموفوبيا - مرجع سابق - ص192. [7] انظر: علي بن إبراهيم النملة ، مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب - الرياض: المؤلف، 1431هـ/ 2010م - ص 179.
القراءات بين الإهمال والإعجام لهادي حسين الحرباوي صدر حديثًا كتاب " القراءات بين الإهمال والإعجام وأثرها في المعنى "، تأليف: د. " هادي حسين عبدالله الحرباوي "، نشر: " دار خير زاد للنشر والتوزيع ". وهي دراسة تتناول القراءات التي يدور الخلاف القرائيُّ فيها بين الإهمال والإعجام، وهو موضوع ذو صلة وثيقة بكتاب الله تعالى. يقول الكاتب: "أثناء مطالعتي لبعض الكتب التي تُعنى بالقراءات متواترها وشاذها، استوقفتني عبارات بعض المؤلِّفين في وصفهم وضبطهم وتقييدهم للقراءات، وخاصة الحروف المتفقة في الصورة؛ كالدال والذال، والراء والزاي... وغيرها بالذال المعجمة والدال المهملة والزاي المعجمة؛ كقوله: قرئ فشرد بالدال المهملة، وفشرذ بالذال المعجمة، وننشزها بالزاي المعجمة، والراء المهملة... وهكذا، فأردت أن أجمع هذه القراءات، وأوضح المعانيَ المترتبة على هذا الاختلاف، مع بيان العلاقة بين هذه القراءات". وتبرز أهمية هذا الموضوع في جِدَّتِه؛ حيث لم يجد المصنِّف من أفرده بالتصنيف أو الجمع غير كلام مبثوث في بعض كتب التوجيه والتفسير. ويهدف هذا البحث إلى ما يلي: • توضيح معنى الإهمال والإعجام. • جمع القراءات التي يدور الخلاف القرائي فيها بين الإعجام والإهمال مع اتفاق في الصورة في كتاب واحد يسهل على الباحثين الرجوعُ إليه. • إظهار أثر هذه القراءات في تعدد المعاني، أو تبيين المجمل، وتقييد المطلق، وإزالة الإشكال، ودفع مطاعن بعض المستشرقين... إلى غير ذلك. • التأكيد على أن اختلاف القراءات في هذا النوع مع كثرته وتنوعه لم يتطرق إليه تضادٌّ ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدِّق بعضُه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط وأسلوب واحد. • بيان إعجاز القرآن الكريم، فبمجرد إعجام الحرف أو إهماله دون تغيير في صورة الكلمة تعددت القراءات وتنوعت المعاني، فقام ذلك مقام آية أو آيات أخرى. اعتمد الباحث في كتابة هذا البحث على المنهج الاستقرائي التحليلي تماشيًا مع طبيعة الموضوع التي تتطلب حصر واستقراء للمواضع التي يدور الخلاف القرائي فيها حول الإهمال والإعجام مع اتفاق في الصور، وقد بلغت خمسة وعشرين موضعًا، ثم تحليلها وتوجيهها من كتب اللغة والتفسير وغيرها. اقتضت طبيعة هذا البحث أن يتكون من مقدمة وتمهيد وسبعة مباحث وخاتمة. أما المقدمة: فتناولت أهمية الموضوع، وأهدافه، والدراسات السابقة، ومنهج البحث وخطته. وأما التمهيد: فضمَّنه الكاتب التعريف بمصطلحات البحث وهي القراءات، والقراءات المتواترة والشاذة، والإعجام والإهمال. وأما المبحث الأول فجاء تحت عنوان: القراءات بين الحاء والجيم، وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: ننحيك. ننجيك. المطلب الثاني: فحاسوا. فجاسوا. المطلب الثالث: ولا تحسسوا. ولا تجسسوا. المبحث الثاني: القراءات بين الحاء والخاء، وتحته مطلب واحد، وهو: سبحا. سبخا. وأما المبحث الثالث: فهو القراءات بين الدال والذال، وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: فشرد. فشرذ. المطلب الثاني: كدب. كذب. المطلب الثالث: حادرون. حاذرون. وأما المبحث الرابع: فهو القراءات بين الراء والزاي، وتحته أربعة مطالب: المطلب الأول: ننشرها. ننشزها. المطلب الثاني: ورئيًا. وزيًا. المطلب الثالث: فُرع. فُزع. المطلب الرابع: وتعزروه. وتعززوه. وأما المبحث الخامس: فهو القراءات بين السين والشين، وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: أساء. أشاء. المطلب الثاني: سعفها. شغفها. المطلب الثالث: وأهس. وأهش. وأما المبحث السادس: فهو القراءات بين الصاد والضاد، وتحته سبعة مطالب: المطلب الأول: يقص. يقض. المطلب الثاني: فصلناه. فضلناه. المطلب الثالث: حرص. حرض. المطلب الرابع: ينقصوكم. ينقضوكم. المطلب الخامس: فقبصت قبصة. فقبضت قبضة. المطلب السادس: حصب. حضب. المطلب السابع: صللنا. ضللنا. وأما المبحث السابع: فهو القراءات بين العين والغين، وتحته أربعة مطالب: المطلب الأول: صواع. صواغ. المطلب الثاني: ألا تعلوا. ألا تغلوا. المطلب الثالث: فأعشيناهم. فأغشيناهم. المطلب الرابع: يعنيه. يغنيه. وأما الخاتمة: فتتضمن أهم نتائج البحث. ثم ذيل الكاتب البحث بفهرس لأهم المصادر والمراجع، وآخر للموضوعات. د. "هادي حسين عبدالله الحرباوي": أستاذ القراءات وعلومها المساعد، ووكيل كلية القرآن الكريم للدراسات العليا والبحوث بجامعة الأزهر الشريف، له من المؤلفات: 1- كتاب " معايير الاختيار عند الإمام أبي بكر أحمد بن عبيدالله بن إدريس من خلال كتابه (المختار في معاني قراءات أهل الأمصار) ". 2- كتاب " توجيه القراءات للإمام ابن الجزري.. جمع ودراسة ". 3- كتاب " اختيارات الإمام الداني في الوقف والابتداء ". 4- كتاب " جهود العلماء المصريين في علم الوقف والابتداء ". 5- كتاب " القراءات بين الإهمال والإعجام وأثرها في المعن ى".
عيسى ابن مريم عليه السلام (5) رفع عيسى عليه السلام إلى السماء قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، لقد بدأ المعادون للدعوة في الكيد لها وعيسى ما يزال بين أظهرهم يدعوهم إلى الله؛ فقد استغلوا ما آتاه الله لعيسى من الخوارق المؤيدة لدعوته، فلبَسوا الأمر على الناس بقولهم: هذا إله، ولو لم يكن كذلك لما أحيا الموتى، ويشكل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، وهكذا، كما ورد أنه كان يمشي فوق الماء، فقد قيل لعيسى ابن مريم: يا عيسى، بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت وأيقنَّا كما أيقنت، قال: فامشوا إذًا، قال: فمشوا معه في الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: ما لكم؟ قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج، قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حصى - تراب - فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب، قال: فإنهما عندي سواء. وفي رواية قال إبليس لعيسى: إنه لا ينبغي أن تكون عبدًا، إن غضبك ليس بغضب عبد؛ فإني أدعوك لأمر هو لك، آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلهًا ليس معه إله، ولكن الله يكون إلهًا في السماء، وتكون أنت إلهًا في الأرض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط، فنظر إليه جبريل وميكائيل، فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه أخرى فأقبل إبليس يهوي، فمر بعيسى وهو يقول: يا عيسى، لقد لقيتُ فيك اليوم تعبًا شديدًا، ثم لم يعد إليه بعد ذلك. إن إبليس حاول جاهدًا إغواء عيسى وصرفه عن التوحيد بأن زين له أنه الإله، ولكن عيسى النبي العابد الموحِّد زجره وأعانه الله عليه بالملائكة، ولما يئس من إغواء عيسى مال إلى الناس ليبث فيهم هذا الاعتقاد المنحرف، فلما كان عيسى عليه السلام يداوي المرضى بالدعاء ومسحه عليهم بيده المباركة، حضر إبليس في هيئة رجل وسيم ثري ومعه بعض أعوانه، فبدأ يتكلم ويخبر الناس بالأعاجيب، فلما التفت الناس إليه قال: إن شأن هذا الرجل لعجيب، تكلم في المهد وأحيا الموتى وأنبأ عن الغيب وشفى المريض، فهذا الله، قال صاحبه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت، لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد ولا يسكن الأرحام ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله، وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلاكما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدًا، ولكنه إله معه، ثم غابوا بعد أن بثوا هذه السموم وبلبلة أفكار الدهماء من الناس والمغرضين، وعيسى لا يزال مقيمًا بينهم، فكيف بعد أن غادرهم؟ لذلك كان رد عيسى عليه السلام: ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]؛ فليس من حقي أن أقول مثل هذا الكلام؛ لأن الرسالة التي كلفتني بإبلاغها لم تتضمن هذا الكلام، وأنا التزمت بنص الرسالة ودعوتهم إلى توحيدك وعبادتك وحدك لا شريك لك، ومع ذلك ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 116، 117]، ومعنى توفيتني في هذه الآية: قبضتَني إليك بالرفع إلى السماء؛ فعيسى لم يترك وراءه في الدنيا إلا دعوة الحق والخير، دعوة كل الأنبياء من لدن آدم وحتى محمد عليه الصلاة والسلام، ألم يأتِ مبشرًا برسولنا الكريم: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، فكانت رسالتُه مكملة لرسالة موسى وعلى خطها وخُطاها، مع بعض التعديلات التي كتبت على بني إسرائيل بسبب تعنتهم وتشددهم وسؤالهم الأنبياء عن أشياء سكت الشارع الحكيم عنها وأرادوا هم معرفتها مفصلة بكل تفصيلاتها دون الاعتماد على الأساسيات وترك المسألة لاجتهاد المجتهدين، ومثال ذلك ما طلبوه من مواصفات البقرة الدقيقة التي أمروا بذبحها، وقد كانت تجزئهم أية بقرة، وكان من نتائج ذلك أن حددت لهم بقرة بصفات لا تشتبه مع غيرها، فامتنع الاختيار، فدفعوا الثمن باهظًا، فكان مسير عيسى على مسار الرسل السابقين توحيدًا وعبادة، متواصلًا مع الرسالة الخاتمة التي بشر بها وبرسولها محمد صلى الله عليه وسلم. فكيف انقلب المتنفذون في بني إسرائيل على عيسى وقرروا قتله؟ لقد أصبح بنو إسرائيل مضرب المثل في قتل الأنبياء وتعذيبهم وتصفيتهم جسديًّا، وكانوا في عهد عيسى قد بلغوا القمة في هذا الشأن دون خوف من وازع أو ضمير، وقتل يحيى وزكريا ليس ببعيد، ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]؛ ولهذا ليس غريبًا عليهم أن يُجمعوا أمرهم على قتل عيسى ويزهقوا روح هذا النبي الطاهرة، لقد جهد ما وسعه الجهد في أن يحمل همومهم وأن يكون معهم ينصحهم ويأخذ بأيديهم إلى السعادة في الدارين، فهو لم يطلب منهم مالًا ولا أجرًا، كان يلبس الصوف والشعر، وتكفيه اللقمة واللقمتان، ولم يكن جبارًا ولا طاغية، لكن لسانه لسان الحق، وقوله الحكمة، وميزانه العدل، وليس الذي حرك عليه رؤوس الكفر هذا التواضع، وإنما جرأة في الحق ونهي عن المنكر، ولو أمسك لسانه عن الحق واقتنى الغلمان والجواري وكنز الذهب والفضة لكان عندهم مقربًا، وطاعته واجبة، فهذا مقياسهم في المسالمة والمحاربة، وقد قيل في سبب طلب اليهود عيسى ليقتلوه، أن مجموعة من اليهود الأفاكين تلقوا عيسى في بعض الطرقات وانهالوا عليه شتمًا وقذفًا لأمه، وقالوا: هذا الساحر ابن الفاعلة - يعنون الزانية - فسمع قذفهم له وحاول الصبر والتريث ومقابلة الإساءة بالصفح؛ لعل هذه الأخلاق تردهم وتزجرهم، لكنهم زادوا في التمادي والإيذاء، فدعا عليهم فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلما رأى ذلك المتنفذون من الكهنة أجمعوا أمرهم على قتله، وإلا حل بالجميع السخط والمسخ، واستقر أمرهم على ذلك وطلبوا المرتزقة من القتلة الذين لا يرحمون صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلًا ولا امرأة، وإنما معبودهم المال، وبالمال ينفذون ما يطلب منهم مهما كان العمل قذرًا ودونًا أو مستهجنًا، فقام هؤلاء السفلة يطلبون عيسى في كل مكان يغلب على ظنهم أنه فيه، ومع القتلة رأس الكهنة ليكون الموت تحت إشرافه، ولما وجدوه قال لهم: يا بني إسرائيل، إن الله يبغضكم، فتبعوه للإمساك به، فأخذه جبريل وأدخله بيتًا فيه روزنة - طاقة علوية - في السقف، ومنها رفعه الله إلى السماء، وتبعه رجل منهم - قطيبانوس - ليقتله، فألقى الله عليه شبه المسيح، ولما دخل البقية لم يجدوا إلا هذا، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، وكان يصرخ بأنه ليس عيسى، فلم يلتفتوا إلى دعواه، وقد وردت روايات أخرى في هذه الحادثة، منها: أن الله أعلمه بأنه خارج من الدنيا فجزع من الموت فدعا الحواريين فصنع لهم طعامًا، فقال: احضروني الليلة؛ فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: من يرد علي الليلة شيئًا مما أصنع فليس مني، فأقروه حتى فرغ من ذلك - تركوه يقوم بخدمتهم - ثم قال: أما ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة، فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأما حاجتي التي أستعينكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء أخذهم النوم حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة! قالوا: والله ما ندري ما لنا؛ كنا نسمر فنكثر السمر وما نقدر عليه الليلة، وكلما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي، ويتفرق الغنم، وجعل ينعى نفسه، ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، ولَيبيعَنِّي أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه - أي يبحثون عن عيسى لقتله - فأخذوا أحد الحواريين - شمعون - وقالوا: هذا صاحبه، فأنكر، وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون - ممن يطلبون عيسى لقتله - فجحد أنه من أصحابه، ثم سمع صوت الديك فبكى - لأن ما قاله عيسى لهم قد تحقق - فهذا الذي كفر به - ثم أتاهم من الصباح أحد الحواريين فقال: ما تجعلون لي إن أنا دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلهم عليه - فهذا الذي باعه - ولكن الله ألقى عليه شبه عيسى، فقبضوا عليه وأوثقوه وقتلوه ثم صلبوه. أقول: إنه يظهر في ثنايا هذه القصة تلفيق ظاهر، فليس عيسى الذي يجزع من الموت، فقد عاش متقشفًا لا زوج له ولا ولد، ورأى كثيرًا من خزي بني إسرائيل، فلمَ الخوف من الموت وما عند الله له أفضل وأحسن؟! فليس عنده من مظاهر الدنيا ما يغريه للتمسك بها، ولو أراد ذلك لطلب من ربه أن يزيد في أجله ولا حاجة ليلجأ إلى أصحابه ليتوسطوا له عند ربه بأن يزيد في أجله وهو يعلم أن أحد أصحابه سيبيعه والآخر سيرتد جاحدًا، أبمثل هؤلاء يرجو شفاعتهم عند ربه؟ ثم إن قصة هذين الخائنين من أصحابه فيها لا تصح؛ فالحواريون قد مدحهم الله وجعلهم صفوة الأتباع وهم اثنا عشر حواريًّا، وضرب بهم المثل في التضحية: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53]، فلمَ يشوهون سمعتهم بالخيانة؟ وهذا من تلفيق اليهود؛ كيلا يقال في المتدينين خير، وليبقى المتدينون موضع شك وتهمة، ولقد اتهموا الأنبياء من قبل بكل قبيح؛ ولذلك فإن هذه القصة ملفَّقة لا ترقى إلى الصحة والتصديق.
الاقتصاد الإسلامي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أما بعد: فقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، والاستخلاف المذكور في الآية يُراد به أمران؛ الأول: العبادة، والثاني: التعمير والتشييد والبناء، فكلما استقر قوم في مكان، فإنهم يقومون بتنظيم شؤونهم تلقائيًّا حسب المعطيات الطبيعية (التضاريس، المناخ)، والمعطيات الثقافية (التقاليد، العبادات)، والمعطيات العسكرية (الدفاع)، والمعطيات الاقتصادية (الإنتاج، المبادلات). من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة : حفظ المال؛ فلقد اعتنت به الشريعة الغرَّاء اعتناءً عظيمًا؛ حيث جعل له الشارع الحكيم قواعدَ وضوابط؛ كتحريم الربا ووجوب الزكاة والحث على الصدقة، على سبيل المثال لا الحصر؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، وقال تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152]. يعتبر الإسلام المال - بمفهومه العام - قوامًا للدنيا، ولم يسمح بالتصرف فيه بصفة مطلقة، بل يقيد الإنسان في احتيازه، ويرشده في كيفية إنفاقه، فعلى الإنسان أن ينظر من أين يكتسبه وفيما ينفقه؛ لحديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟)) ؛ [رواه البخاري ومسلم]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4]، وقال عز وجل: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56]، إذا كانت الزكاة حقًّا مفروضًا بقوة الشريعة، فإن الإسلام حث كذلك على فضيلة الصدقة، وهي موكولة لضمير الفرد بلا حساب أو مقدار، فإنها تثمر التراحم والإخاء، والتضامن والتعاضد والائتلاف و(الروح العائلي) ولا شك؛ قال الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وعلى هذا يوجه الإسلام إلى الصدقة والبر، ويُحبِّب في الإنفاق طوعًا واحتسابًا، وانتظارًا لمرضاة الله في الدنيا ولثوابه في الآخرة، وهذا عكس الرأسمالية؛ حيث إن غايتها هي الربح إلى الحد، وتراكم رأس مالها، وتعتبر النظرية الرأسمالية رأس المال مستحقًّا دائمًا للربح وبلا مقابل، ومن هنا أجازوا الربا والميسر واليانصيب والبغاء ونحو ذلك. فأما الاقتصاد الإسلامي، فإنه يمنح الأرباح والطيبات من جهة، ومرضات الله من الجهة الأخرى؛ قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أغْبَرَ يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، ومَلْبَسُهُ حرام، وغُذِّيَ بالحرام فأنَّى يُستجاب له ))؛ [أخرجه الترميذي (2419) في صفة القيامة، وقال: هذا حديث حسن صحيح]. وعلى هذا يرتبط الاقتصاد الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بدين الإسلام، عقيدة وشريعة؛ حيث لا يستطيع الدارس للمفهوم الإسلامي الخاص بالجوانب الاقتصادية أن يدرسه مستقلًّا عن عقيدة الإسلام وشريعته؛ ذلك لأن النظام الاقتصادي الإسلامي جزء لا يتجزأ من الشريعة، ويرتبطان معًا بالعقيدة الإسلامية ارتباطًا بيِّنًا واضحًا، ولعل ذلك يبدو في خاصية الحلال والحرام التي تميز الشخصية المسلمة في حركته الحياتية، عند إقدام المسلم للتعامل في محيط الحياة اليومية. فإن أيَّ مذهبٍ اقتصادي يجب أن يتناول من ناحية طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط بها؛ فإذا درسنا - مثلًا - المذهب الرأسمالي القائل بالحرية الاقتصادية، كان لزامًا علينا أن نبحث عن الأفكار والمفاهيم الأساسية التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحرية، وبتعبير آخر: إن قضية التنمية الاقتصادية ليست قضية اقتصاد فقط، كما قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس، ولكنها أيضًا قضية عقيدة وثقافة وسياسة وأخلاق، ولا بد لإطلاقها واستمرارها من توافر البيئة أو المحيط الملائم لها؛ إذ بغير قيام هذه البيئة أو ذلك المحيط، لا يمكن أن نتصور انطلاقًا للحضارة في جانبها المدني المرتبط بحاجات الإنسان الأساسية. فالمذاهب المسيطرة في مجال الاقتصاد والقرارات العامة لا تأخذ بعين الاعتبار إلا الأسواق والمال، غير أن الإسلام هو وحده الذي يأخذ في الحسبان المجتمع ككل بالنظر إلى غاياته المنشودة، وعلى هذا فالرجوع إلى الإسلام له أهمية قصوى؛ حيث إن القرارات الاقتصادية تأخذ في محيط يسود فيه الاضطرابات والحيرة. والإسلام هو الذي يتضمن التصور الكلي الشامل المتناسق مع الوجود والحياة، ويقيم التكافل الاجتماعي في محيط الإنسان مقام الصراع والتطاحن، ويجعل للحياة قاعدة روحية تصلها بالخالق في السماء، وتسيطر على اتجاهها في الأرض، ولا تنتهي بالحياة إلى تحقيق أغراض مادية بحتة، وإن كان النشاط المادي المثمر عبادة من عبادات الإسلام. كما أن بناء النظام الاقتصادي، وتسييره في خط مستقيم، لا يمكن إدراكه بغير وازع ديني ومحرك داخلي من ذاتية الفرد؛ ألا وهي العقيدة الصحيحة والسليمة؛ فهو يبدأ من الفرد وينتهي دائمًا إلى الفرد، وهذه المهمة تقتضي تغيير الرجال، كما تقتضي في نفس الوقت إصلاح المؤسسات، والقرآن الكريم يقر هذا ويرد على دعاة التغيير، الذين استثنَوا أنفسهم منه؛ كالثوريين وأصحاب الانقلابات والانتهازيين؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، أما الاقتصاد الرأسمالي فهو الوجه الآخر المهمين على جزء كبير من خارطة الحضارة المعاصرة، ويرتكز المذهب الرأسمالي على ثلاثة أركان رئيسية، يتألف منها كيانه العضوي الخاص الذي يميزه عن الكيانات المذهبية الأخرى؛ وهذه الأركان هي : أولًا : الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود، وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملك وتسمح للملكية الخاصة بغزوِ جميع عناصر الإنتاج. ثانيًا : فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكيته وإمكاناته: وذلك على الوجه الذي يروق له، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها، وبذلك أصبح الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، ويصبح لكل فرد الفرصة الكافية لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغل به ماله، (وهذا الذي أنتج الفردية). ثالثًا : ضمان حرية الاستهلاك، كما تضمن حرية الاستغلال، فلكل شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته. وعلى هذا فإن العالم الغربي لم يصبح كافرًا فقط، بل هو مشرك؛ فكل فرد أو مجموعة يتخذ ملذات لنفسه إلهًا كل ما يشتهيه، جاعلًا المال والحكم والتقنية والجنسية والأمة والإيديولوجية والنمو الاقتصادي غاية بحدِّ ذاتها، وقيمة أصلية، وإلهًا باطلًا مفترسًا ومتعصبًا ومتوحشًا؛ حيث يدوس بلا شفقة كل قيمة أخرى، وكل إنسان يقف أمام انتشاره. وفي هذا الباب؛ قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: "تعِسَ عبدُ الدينار وعبدُ الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضيَ، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"؛ [رواه مسلم (1015)]، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما ذكر التقديس المالَ، وهكذا أصبح المال نوعًا من الصنم يُعبَد من دون الله، أما الذي يستعمله كوسيلة في ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"؛ [ رواه البخاري (2886)]. لم أتطرق إلى النظام الشيوعي، فقد ظهر فشله؛ حيث انهار كليًّا في سنة 1989م، وكفى الله المؤمنين القتال. وعلى هذا نستطيع أن نقول – بلا ريب - أن تثقيف الأمة عن طريق نشر القيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية، يجعل الفرد المسلم عضوًا فعَّالًا إيجابيًّا. الملكية الفردية: إن الحقوق الاقتصادية داخلة في حقوق الإنسان، والإسلام أعم من حقوق الإنسان، لذا فعلى الإنسان أن يتصرف فيها عن طريق التجارة أو الإنتاج وفقًا للقواعد والأحكام الشرعية، وعلى هذا حرم الشارع الحكيم الربا واكتناز المال؛ لأن التعامل بهما يخالف مبادئ وقيم ديننا الحنيف، وهذان من الأشياء التي تخل بالتماسك والتضامن اللذين من الضروري أن يسودا في المجتمع؛ ولهذا جعل الله تعالى وعيدًا شديدًا للمتعاملين بالربا والذين يكنزون المال؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ [التوبة: 34، 35]. يقرر الإسلام حق الملكية الفردية للمال بوسائل التملك المشروعة ويضع الحدود الرادعة لكفالة ذلك، فوق ما يضع من التوجيهات التهذيبية لكفِّ النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها، وما هو داخل في ملك الآخرين، وهي حق التصرف في هذا المال، بالبيع والإجارة والرهن والهبة والوصية إلى آخر حقوق التصرف الحلال، وهذا الحق قاعدة للاقتصاد الإسلامي؛ قال الله عز وجل: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ [النساء: 32]. قال بعض العلماء: إن حيازة الإنسان للمال - وفق الرؤية الإسلامية - تعتبر وظيفة أكثر منها امتلاكًا، ذلك لأنه - من خلال النصوص المنزلة - وكيلٌ في هذا المال عن الجماعة؛ لأن المال أصلًا حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله الذي لا مالكَ لشيء سواه: ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]. والإسلام يرفض تمامًا أن يحبس المال في أيدي فئة خاصة من الناس يتداول بينهم، ولا يجده الآخرون؛ قال تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]،كما وضع للملكية أسبابًا لاكتسابها، وضع لها أيضًا قيودًا لتنميتها وحقوقًا عليها. كما منح الإسلام للرجل حقًّا في التملك، منح أيضًا للمرأة حقًّا في التملك؛ يقول الأستاذ مولاي ملياني بغدادي: "منح الإسلام للمرأة حقًّا في التملك والتصرف والإرث والهبة، فمتى بلغت المرأة سن الزواج، وهي رشيدة، كان لها حق في أن تتصرف في مالها بالبيع والشراء والهبة والوصية مستقلة بجميع التصرفات الخاصة بها: العقدية والقولية والفعلية"؛ [انتهى كلامه]. وعلى هذا إذا كانت الرأسمالية قد أباحت حرية التملك وتداول رأس المال بلا ضوابط، وإذا كانت الشيوعية تعطي حق الدولة أو الحزب في السيطرة والتوجيه، لكل ما يمت للعملية الاقتصادية بصِلةٍ، فإن الإسلام يرفض كلا المنهجين، وذلك عن طريق سياسته الخاصة في مسألة الملكية، كما سبق بيانه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبِس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس))؛ [ أخرجه أحمد (4/ 197)]. العمل مورد الدخل: يعتبر الإسلام العمل بكل أنواعه وألوانه - كالزراعة والصناعة والثقافة على سبيل المثال - من أهم الوسائل لنَيلِ حق التملك، وتتوارد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قداسة العمل، فيقول: ((ما أكل أحدكم طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ))؛ [رواه مسلم (2959) ]، كذلك يراعي الإسلام إتاحة العمل الملائم لكل فرد مسلم - باعتبار العمل حقًّا له وواجبًا عليه - وتهيئة التكوين والتعليم الكافيَيْنِ لكل طالبِ علمٍ لتحسين مستواه العلمي والفني والتقني، وبذلك يستطيع كل قادر على العمل أن يكفي نفسه بنفسه، وتحريم الصدقات والمعونات الاجتماعية تحريمًا باتًّا على كل متعطل عن العمل الملائم له باختياره، امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ))؛ [ رواه البخاري (2072)]. كما أن الإسلام يوجه طاقات الأفراد جميعًا نحو الإنتاج؛ لأنه لا يسمح لأحد أن يكسب عن طريق لا يعطي إنتاجًا حقيقيًّا، كالقمار واليانصيب والبغاء. قال ابن تيمية: "قال السلف: أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت من نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت من نصيبك من الآخرة مرَّ على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58] . فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة، أو بناية أو حراثة، أو غير ذلك، فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئًا عامًّا، لكن إذا عنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فإن فيها البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كرامة شرعية"؛ [انتهى كلامه]. وحقيقة الأمر أن الشعوب الإسلامية تستطيع أن ترفع تحديات العصر من خلق مناصب الشغل للشباب وتكافؤ الفرص والحصول على النمو الاقتصادي الهائل الذي سيفتح – إن شاء الله - فرصًا للعمل؛ حيث تمتلك هذه الدول ثروات طبيعية ومعدنية وموارد طاقوية كبيرة، لكن الموارد الحقيقية للشعوب الإسلامية هي رصيدها الروحي والثقافي، فإن بعض هذه الشعوب - خاصة العرب - لهم ماضٍ زاهر يشهد لهم بالتشوق إلى العلم، وبالأهلية بلا جدال للبحث العلمي، وهو المبعث الأساسي لكل نمو اقتصادي، ولكل حضارة في جانبها المدني أو العمراني. تنوع المراجع والتراث: في وقت ما كان يشك في وجود التأمل أو الفكر الاقتصادي الإسلامي، ربما كنا ضحية تأثير المركزية الأوروبية الثقافية، ولكن هذه الحجة وحدها غير كافية، والسبب الآخر والأكثر وزنًا هو أن الأمر يتعلق بميدان جديد لم يدرس بشكل وافٍ، والأكثر من ذلك هو أنه تجري منذ السنوات الأخيرة دراسات في هذا المجال تناولت مواضيع سطحية كموضوع "الاستثمار بلا ربا"، و"النظم المالية في الاقتصاد". ولا ننكر أن هذه المواضيع شائكة، ولكن لا بد لنا أن نلاحظ أن هذه الاجتهادات الفذة انصرفت ضمنًا إلى محاولة توفيق بين الإسلام والرأسمالية، كأنما هذه النظم (البنوك) هي الأمر الأساسي في الاقتصاد، بينما هي - سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا - لا تمثل إلا جانبًا من عالم الاقتصاد. يقول الأستاذ محمد الأخضر بن حسين: "إن تراث المجتمعات العربية الإسلامية كميدان هامٌّ ينبغي أن يُخَصَّ باقتراب سليم وعلمي في ذات الوقت، نحن لسنا بحاجة لا إلى المدح ولا إلى التحقير (الذم) الضمني أو الصريح لهذا الرصيد الثقافي والعلمي الذي بواسطته ظلت لمدة قرون تسيِّر التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة في هذا الجزء من العالم"، وقال أيضًا: "هذا الفكر الاقتصادي هو فكر اقتصادي من نوع سلعي، ولم نعثر من خلال قراءتنا على تأمل حول الاقتصاد الطبيعي، فهذا هو إذًا المحور الرئيسي لذلك الفكر، وهو يتنوع؛ أي: إنها تكتشف أقطاب تأملها ومصالحها، وذلك حسب مختلف جوانب النشاط السلعي، فالميادين التي يغطيها إذًا تتعلق بالنقود، والتجارة وتنظيمها". ولأخذ نظرة صحيحة عن الاقتصاد من اللازم الرجوع إلى أمهات الكتب: في الدرجة الأولى الكتاب والسنة، ثم يليها التأليف التي تعطي الاقتصاد صبغته الأخلاقية ومختلف المدارس المذهبية التي تقترح تقنين الأفعال الاقتصادية للدولة والأفراد انطلاقًا من تصورها لتفسير النصوص، وهذا بطبيعة الحال في أبواب المعاملات الاقتصادية؛ مثل: البيوع والشركات والزكاة؛ إلخ. هناك نوع آخر من المؤلفات المتخصصة في الأموال والحياة الاقتصادية وتنظيم الدولة واقتصادها، وتعين على تدقيق كثير من المفاهيم وتطلعنا على جوانب متعددة من الواقع الاقتصادي، كما تحتوي هذه الأعمال على تأمل كامل حول الضرائب وإجراءات توزيع ناتج النشاط الاقتصادي، نذكر هنا كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب (الخراج) للقاضي أبي يوسف، وكتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، وكتاب (تنظيم الدولة) لصاحبه نظام الملك أو مؤلَّف الماوردي بعنوان (الأحكام السلطانية)، ولا ننسى كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية، ويرى د. عبدالمجيد مزيان أن هذه الكتب - وإن كانت من الأمهات التي تنتسب إلى الفقه - فإنها لا تخلو من تدقيقات وملاحظات واقعية تارة، وأخلاقية تارة أخرى، ولا يمكن للباحث أن يستغني عنها، ليقارن بين التشريع والأوضاع الاقتصادية المتفقة مع الشرع أو المخالفة له. وهناك كتب حول الممارسة الاقتصادية، وخاصة منها تنظيم التجارة الداخلية؛ منها مؤلف الدمشقي بعنوان: "كتاب محاسن التجارة"، كما أنه يمكن إضافة كتب الحسبة إلى هذه الفئة، سواء منها ما كُتب في الشرق مثل: "معالم القربة في أحكام الحسبة"؛ لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الإخوة، و"الحسبة في الإسلام" لابن تيمية، أو في الغرب مثل: كتاب "تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر" لمحمد بن أحمد العقباني، فإنها تعطينا صورة حية عن الصنائع في المدن الإسلامية، وعن التنظيمات الإدارية التي تسير الاقتصاد، كما تعطينا في بعض الأحيان نظرة عن المقاييس والمكاييل والنقود المتعامل بها، وكل هذا بالإضافة إلى النظريات الفقهية المتعلقة بالأموال والمعاملات المتعددة في أمصار العصر الوسيط. وزاد الأستاذ محمد الأخضر بن حسين: مؤلفات ذات مستوى نضج نسبي، مثل: مقدمة ابن خلدون، ومؤلفات المقريزي كـ"إغاثة الأمة بكشف الغمة"، و"شذور العقود في ذكر النقود"، وكذلك كتاب "الخطط"، ولا ننسى كتب التاريخ؛ مثل: كتاب الطبري واليعقوبي والمسعودي بصفتهم المؤرخين الأولين، وكذلك كتب الرحالين والجغرافيين الذين يمزجون التاريخ بوصف المدن والأمصار، فإنها بالغة الأهمية لأنها تكاد تكون متخصصة في الجغرافيا البشرية، وفي معاش الأمم، وفي وصف طرق التبادل التجاري على الخصوص في إطار العلاقات الخارجية بين الدولة الإسلامية وباقي الأجزاء العالم، كما ذكره كلود كاهن ( Claude Cahen ) بأنه لا يمكننا، لطبيعة الموضوع أن نستقصي كل مؤلفات الأقدمين التي تنبئ عن الواقع الاقتصادي، ولسنا نذكر هنا إلا نماذج منها، مخافة التطويل، ويجدر الإشارة إلى أن هناك دراسات وبحوثًا قام بها بعض المستشرقين وطائفة من علماء الشريعة المعاصرين أو مَن حَذا حَذْوهم من المتخصصين في الحضارة الإسلامية مثل أبي زهرة،، وضياء الدين الريس، وعلال الفاسي، والنبهان، ومالك بن نبي، والأستاذ محمد الفائز، على سبيل المثال لا الحصر. الخاتمة: ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعو إلى الحلول الوسطى دائمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143] . وهذه محاولة محتشمة للكشف عن آفاق جديدة في كيفية تشغيل الطاقات الاجتماعية، آفاق يتأتى الانطلاق منها لاقتصاد يمكِّن المسلم من مواجهة ظروف التخلف، والانحطاط، وضرورات العصر في الحدود المشروعة، على كتاب الله وسنة رسوله. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تاريخ ابن زنبل الرمال بتحقيق جديد صدر حديثًا كتاب: "تاريخ مصر المحروسة حوادث سنة 928-975 هـ، قطعة من كتاب انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان" ، لشهاب الدين أحمد بن علي زنبل المحلي (ت بعد 975 هـ) ، ويليه تتمة تاريخ مصر المحروسة، أخبار مجموعة من كتاب قانون الدنيا وعجائبها، دراسة وتحقيق: د. "محمد جمال حامد الشوربجي" ، نشر: "دار نور حوران للدراسات والنشر والتراث" . وهذا الكتاب يعرف بتاريخ ابن زنبل الرمّال، وهو مؤرخ مصري مسلم عاش في القرن الخامس عشر، ساهم ابن زنبل في توثيق تاريخ مصر في نهاية العصر المملوكي وبداية الحكم العثماني، حيث وصف في كتبه دخول السلطان العثماني سليم الأول إلى القاهرة عام 1517م. يعتبر كتاب تاريخ ابن زنبل الرمّال، أو ما سماه (انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان) ، وطبع باسم (آخرة المماليك وواقعة السلطان سليم العثماني مع قانصوه الغوري) أهم كتبه على الإطلاق؛ إذ روى فيها بأسلوب أدبي هزيمة قانصوه الغوري الحاكم المملوكي لمصر على يد السلطان العثماني سليم الأول في موقعة مرج دابق عام 1516م، واحتلال السلطان سليم لسوريا وغزوه مصر في معركة الريدانية، وتاريخ الولاة العثمانيين الأوائل على مصر. وقد كان منهج ابن زنبل يقوم على الدقة العلمية في جمع التفاصيل، وإسناد الأخبار وذكر المصادر وبسط الحقائق دون مبالغة أو إسراف، فأصبح بذلك أحد كبار المؤرخين العرب وأضاف حقائق كثيرة كانت تعتبر في طي الكتمان. وقد شرع ابن زنبل سنة 944 هـ تقريبًا في تأليف هذا الكتاب الذي أرخ فيه للوقائع التي جرت بين المماليك والسلطان العثماني، ورغم أن الوقائع حازت على ثلثي الكتاب، إلا أنه لم يكتف بذلك، بل أرخ لما تلاها من حوادث حتى أواخر سنة 975 هـ، وأشهرها تمرد جان بردي الغزالي سنة 926-927 هـ، وفتح جزيرة رودس سنة 928 هـ، وتمرد الأميرين جانم وأينال في أول سنة 929 هـ، ثم تمرد الوالي العثماني أحمد باشا، وإعلان تسلطنه في مصر سنة 930 هـ، كما أرخ لولاية محمود باشا، ثم مقتله سنة 975 هـ، وبتلك الحادثة يختتم الكتاب. ونجد أنه نثر عددًا من أخبار الديار المصرية في كتابه الآخر "قانون الدنيا وعجائبها من مشرقها لمغربها" ؛ ضمها الكاتب لهذا التوليف التاريخي. ولا تكمن أهمية كتابات ابن زنبل التاريخية فقط في التأريخ لما جرى بين المماليك وسليم العثماني في قالب روائي ممتاز، بل فيما أرخه من حوادث من قبيل سنة 928 هـ حتى نهاية سنة 975 هـ، ولم تكمن قيمتها في انفراده بالتأريخ لما بعد 928 هـ فقط؛ بل لأنه كان شاهد عيان على بعضها، وراوي عن شهود عيان رأوا تلك الحوادث وشاركوا فيها، وأفضل مثال على ذلك ما كتبه عن تمرد أحمد باشا سنة 930 هـ. وهذا التحقيق لتلك الحوادث التي وقعت ما بين سنة (928 - 975 هـ) من مؤلفات ابن زنبل الرمال وتأريخه يعد من الأعمال التي تحتاجها المكتبة التاريخية لإعادة تسليط الضوء على تلك الفترة الهامة من تاريخ مصر، وعلاقتها بما تلاها من أحداث. والمصنف هو ابن زنبل أحمد بن علي الرمّال، لا تحدد المصادر تاريخ ميلاد ابن زنبل، لذا يُقدر الباحثون - استنادًا على ما ذكره في كتابه المسمى بالتحفة - أنه ولد في مدينة المحلة في الدلتا عام 1500م تقريبًا ويقدر بعضهم تاريخ وفاته بعام 1572م. ويُعتقد أن ابن زنبل قد خدم محمود باشا وعمل لديه رمّالًا ومفسرًا للأحلام، ولذلك سمّي بالرمّال، حيث كان يتعاطى النظر في الرمل والنجامة، ويعد ابن زنبل الرمال أحد المشاهير المؤرخين من العرب المسلمين، ورغم أنه كان موظفًا بديوان الجيش العثماني؛ إلا أنه قد أولى التاريخ عناية كبيرة، ولا سيما أنه كان مشاركًا وفاعلًا في صنع أحداثه. ولابن زنبل مؤلفات أخرى منها، كتاب في التاريخ باللغة التركية التي كان يتقنها، وهو يشتمل على حكام مصر العثمانيين على أيامه، وكتاب "تحفة الملوك والرغائب لما في البر والبحر من العجائب والغرائب" تصنف في علم الكونيات ، وهو في علم الجغرافيا، وكتاب "المقالات في حل المشكلات" ، وهو في علم الخط والرمل والتنجيم. وله رسالة "القانون والدنيا" في الجغرافيا والتنجيم التي أورد فيها حلمًا تنبأ باغتيال الوالي العثماني على مصر محمود باشا عام 1567م. ومن أعماله التي اندثرت رسالة عن الزايرجه، وهو وسيلة تستخدم لقراءة الطالع، ورسالة عن المهدي.
الانحراف الجنسي التحدي الكبير لمجتمعنا كم هي شائكة قضية الشذوذ الجنسي! وكم هو مرهق للنفس الحديث في تفصيلاتها! ولكن شئنا أم أبينا، فنحن - كأمة أصحاب رسالة - جزء رئيسي من هذا العالم، والأعين مُسلَّطة علينا من كل فِجاج الأرض لاستجلاء موقفنا من هذه القضية؛ لارتباطه الوثيق بديننا المنتشر في كل أطراف المعمورة أولًا، ثم أعرافنا وتقاليدنا المحافظة كمجتمعات عربية ومسلمة، فلا بد من تبيان موقفنا الواضح والصريح والدفاع عن قيمنا، خصوصًا بعد أن اعترفت كثير من البلدان - بعضها قوية ومؤثرة على الصعيد الدولي - بفئة الشواذ كأشخاص طبيعيين، ومنحتهم كاملَ الحقوق كغيرهم، خصوصًا حقهم في الزواج الرسمي وتبنِّي الأطفال، واعتمدت تسمية المثلية بدلًا من الشذوذ؛ تضامنًا معهم ومراعاة لشعورهم كنوع من التخفيف من حِدَّةِ المصطلح الأخير؛ الذي يشير بوضوح لانحراف عن الوضع الطبيعي السليم، وكأن الأمر ليس كذلك بالفعل. ولتكريس الحماية لهذا التشريع بشكل أكبر استحدثوا مصطلح رهاب المثلية؛ لترهيب كل من يُناهِض توجهاتهم، ويعترض على خططهم. اعتمدت الدول التي شرعنت المثلية الجنسية على بعض دراسات طبية ونفسية، بيَّنت أن كثيرًا من حالات الشعور بالرغبة الجنسية تجاه ذات الجنس تعود لأسباب وراثية، وأن النزعة المثلية تولد مع الإنسان؛ ومن ثَمَّ فهو سلوك طبيعي، ولا يعد مرضًا، ولا بد للمجتمعات من تقبل هذه الفئات على ما هي عليه، وأن بعض الحالات لا جدوى من محاولة تغييرها، وأن أضرار ذلك أكثر من فوائده. بطبيعة الحال هناك أيضًا بالمقابل دراسات أكثر تؤكد أن الميل الجنسي المنحرف مكتسَبٌ معظمه من ظروف اجتماعية وبيئية، وغيرها من العوامل التي تؤثر في نفسية الإنسان وسلوكه، وإحدى أشهر الجمعيات النفسية في الولايات المتحدة أكدت عدم ثبوت العامل الوراثي في التوجه الجنسي للفرد، مع أنها جهة داعمة لحرية المثليين. أنا لست هنا بصدد الانتصار لرأي، أو ترجيح رأي على آخر على أسس طبية وعلمية، فلستُ مؤهلًا لذلك، ولكني أتساءل كمتابع: إن كان الشخص العادي معرضًا للتغيير والانحراف في مَيله الجنسي إن وُضع في بيئة ترتفع فيها نسبة الشاذين، كما في السجون غير المنضبطة، فلماذا لا يكون العكس صحيحًا إن وُضع المنحرف في بيئة مناسبة، وتلقى العلاج النفسي والسلوكي والدوائي، وكل ما هو متاح للمساعدة. وإن اعتبرنا العامل الوراثي سببًا في منحهم حريةَ ممارسة الشذوذ، فماذا عن الجينات التي تُنتج الإجرام والسادية عند البشر، إن ثبت وجودها­، هل ستكون هذه أيضًا ذريعة لإعفاء أصحابها من العقوبة؟ مع العلم أن هناك أبحاثًا أكدت بالفعل وجود جين مسؤول عن تغذية نزعة العنف في النفس البشرية. ثم أليس من حقنا أن تُساوِرنا الشكوك في حيادية مثل هذه الدراسات، بعد أن صار معروفًا للقاصي والداني مع انفتاح وسائل الإعلام التأثيرُ التمويلي والسياسي الضاغط للجهات الداعمة لحقوق هذه الفئات على نتائج الدراسات، وعلى صانعي القرار في هذه الدول على أرفع المستويات، خصوصًا في مثل هذه المواضيع التي لها علاقة بالدين؛ حيث تهيمن الأغلبية الملحدة التي تناهض بشدة أيَّ دور للدين من ناحية المبدأ لديهم؛ فهم لا يريدون للدين أي دور بأي شكل كان، حتى لو أتى الرأي الديني موافقًا لأطروحاتهم، فهم يَرَون هذا من باب المصادفة، فلا أدري ما سر هذه الكلمة عندهم، فهي بمثابة مفتاح سحري لفكِّ كثيرٍ من الألغاز لتغطية الحُفَرِ والمطبات في نظرية التطور الداروينية؛ فهي محور دعم أساسي لها، وها هي في ذات الوقت تستخدم كأداة للرد على ما يَرَونهم خصومًا لهم. ولكن بفرض أن البعض يولدون فعلًا بهذا الانحراف، فنحن كمسلمين نرى أن من واجب من يشعر بذلك أن يكتم الأمر ويستر نفسه، ويتعامل معه كابتلاء ليس له معه سوى الصبر والاحتساب، ويعتبر نفسه كشخص مصاب بمرض عضال يصعب شفاؤه، ولا يدخر جهدًا في طلب العون والعلاج، راجيًا من الله أن يعينَهُ ويخفف عنه ما هو فيه، كما يفعل كلُّ مَن نزل بهم البلاء بأشكال أخرى. تلك الدول التي تركت لهذه الفئات الحبلَ على الغارب بأن يمارسوا انحرافهم على أعين الناس بذريعة الحقوق، ألَا تخشى على مجتمعاتها في ظل هذه الحرية المفتوحة من زيادة تفشي هذه الظاهرة بتأثيرهم على الآخرين على الأقل للأسباب المكتسبة، أم أن شيئًا كهذا لا يقُضُّ مضاجعهم؟ وكذلك بخصوص حقهم في تبني الأطفال وتربيتهم، فنتساءل: كيف هو الحال المتوقع لطفل يربيه أبوان من نفس الجنس؟ أليس في ذلك تعدٍّ على حرية هذا الطفل الذي لا يملك حق الاختيار، بدفعه للعيش في جوٍّ أقل ما يمكن القول فيه أنه غير صحي نفسيًّا، وحرمانه من ظروف تربية طبيعية نسبيًّا، ولو في دارٍ للأيتام.
الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية لمحمد بن عبد الله الجرداني صدر حديثًا كتاب "الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية"، تأليف: الإمام "محمد بن عبدالله الجرداني"، تحقيق: "عبدالحفيظ بيضون"، نشر: دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع - بيروت بلبنان. وهو كتاب في شرح الحديث تناول فيه المؤلِّفُ الأربعين النووية للإمام النووي بالشرح والدراسة والتفسير، فأبرز معانيَ هذه الأحاديث، وفسَّر الغريب من ألفاظها؛ ليسهل فهمُها على القراء . ويتميز هذا الشرح بأن مؤلِّفه جمع فيه تقريبًا كل النكت والدرر للشارحين الذين سبقوه للأربعين النووية. فقد ذكر مؤلِّفه أنه ملخص من شرح العلامة ابن حجر الهيتمي، وشرح العلامة الشبرخيتي، وشرح العلامة أحمد السحيمي، وشرح العلامة الشيخ أحمد الفشني، وشرح العلامة الشيخ محمد الشبشيري، وشرح العلامة الشيخ الشرنوبي، وحاشية العلامة الشيخ عبدالله النبراوي، وهوامش العلامة الشيخ حسين برادة. ونجد أن الإمام محمد بن عبد الله الجرداني قدَّم فيه شرحًا وجيزًا، جامعًا لما تفرَّق، راجيًا أن يحصل به عظيم النفع، وعميم الفائدة. فقد عمد المؤلِّف رحمه الله تعالى إلى كل حديث من "الأربعين" فترجم راويَه ترجمة موجزة مفيدة، ثم إلى متن الحديث فشرحه بإيجاز، جاليًا معانيه، وضابطًا ما يحتاج إلى الضبط من ألفاظه، ذاكرًا للروايات إن وجدت، مضيفًا إلى ذلك بعض الفوائد من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والأحكام المهمة، وحكايات الصالحين المنطوية على العبرة والموعظة. كل ذلك بأسلوب واضح بيِّن، خالٍ من التعقيد والإطناب، الأمر الذي يجعل هذا السِّفر اللطيف متعة لقارئه، ونزهة لمرتاده. والإمام محمد بن عبدالله بن عبداللطيف الحسيني الجرداني الشافعي الدمياطي، (... - 1331 هـ = ... - 1913 م)، فقيه مصري من فضلاء الشافعية، سكن دمياط وتوفي بها، من آثاره: "نيل المرام من أحاديث خير الأنام"، و"مصباح الظلام وبهجة الأنام شرح نيل المرام"، و"مرشد الأنام إلى ما يجب معرفته من العقائد والأحكام"، و"فتح العلام شرح مرشد الأنام"، و"إتحاف الناسك ببيان المناسك"، و"البهجة السنية في صحيح حديث خير البرية"، وشرحه "النفحة المسكية". وقد قام المحقِّق بنسخ النص نسخًا علميًّا دقيقًا مقدِّمًا له بمقدمة مختصرة، مع ضبط أحاديث الأربعين ضبطًا كاملًا بالشكل، وتخريجها من كتب السُّنة المطهرة، والتعليق على المواضع التي تحتاج زيادة إيضاح، أو بسط مسألة، أو بيان مشكل. مع التعريف بمتن الأربعين النووية وعناية العلماء به، مع إدراج باب خاص بضبطِ خفيِّ ألفاظ الأربعين الذي وضعه الإمام النووي مباشرة بعد الحديث النبوي الشريف؛ ليسهل للقارئ وطالب العلم الانتفاعُ بهذه المادة، مع وضع عنوان لكل حديث، وأضاف لكل حديثٍ الدروسَ المستفادة من هذا الحديث، وقد أخذها من كلام العلماء السابقين الذين شرحوا الأربعين، مع تزويد الكتاب بفهارس تفصيلية لخدمة المتن.
أعمام الإمام مالك رحمه الله للإمام مالك ثلاثة أعمام، وهذه هي أسماؤهم وشيء من أخبارهم: 1- أُويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي. 2- ربيع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي. 3- نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي. وأكبر ولد مالك: أنس والد الإمام، ثم أويس، ثم نافع، ثم الربيع رحمهم الله جميعًا [1] . 1- أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي [2] . ♦ ذكره ابن حبان في الثقات. ♦ هو جد أبي أويس المدني: عبدِالله بن عبدالله بن أويس بن مالك بن أبي عامر (م 4) [3] . ♦ وهو جد إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله المتقدم، المعروف بإسماعيل بن أبي أويس. (خ م د ت ق) [4] . ♦ وهو جد عبدالحميد بن عبدالله بن عبدالله المتقدم. (خ م د ت س) [5] . 2- ربيع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي [6] . ♦ قال أبو حاتم: لم يُرو عنه العلم. ♦ قال ابن أبي أويس: مات بعد سنة ستين ومائة. 3- نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل (ع) [7] . ♦ روى عن أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، وعبدالله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبدالعزيز، وأبيه مالك بن أبي عامر، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وغيرهم. ♦ روى عنه جماعة، منهم: داود بن عطاء، وعاصم بن عبدالعزيز الأشجعي، وعبدالعزيز بن محمد الدَّراوَرْدي، وابن أخيه مالك بن أنس، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وغيرهم. ♦ قال الواقدي: كان يؤخذ عنه القراءة بالمدينة، وقال الإمام أحمد: كان من الثقات، ووثَّقه أبو حاتم والنسائي وابن حجر، وذكره ابن حبان في ثقاته، وقال ابن خراش: صدوق، وقال الذهبي: ثقة مقرئ. ♦ من أخباره أنه قال: قال لي عمر بن عبدالعزيز من فيه إلى أذني: ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟ قلتُ: أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم. فقال عمر: ذلك الرأيُ فيهم، والله لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة لكفت: ﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 161 - 163] [8] ، وهو رأي مالك فيهم [9] . ♦ وقد سئل الإمام مالك: ما تقول في أبيك؟ قال: كان عمي أبو سهيل نافع بن مالك ثقةً [10] . ♦ وقال ابن عبدالبر بعد أن أورد الذي سئل عنه مالك: (لمالك عنه في الموطأ حديثان، أحدهما مسند، والآخر موقوف في الموطأ، وهو مرفوع من وجوه صحاح)، وابن عبدالبر رحمه الله يعني الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا ففي الموطأ لمالك عن عمه مرويات أخرى عن الصحابة ومن دونهم من التابعين. والله تعالى أعلم. [1] التاريخ الكبير للبخاري (3794) و(1661). [2] الجرح والتعديل (1246)، الثقات (6/ص: 84). [3] تهذيب الكمال (3361). [4] تهذيب الكمال (459). [5] تهذيب الكمال (3721). [6] التاريخ الكبير للبخاري (3794)، الجرح والتعديل (2098). [7] السنن الكبرى (311)، العلل ومعرفة الرجال (4406)، الجرح والتعديل (2072)، الثقات (5/ص: 471)، الكاشف (4/ص: 383)، تهذيب الكمال (6368)، تقريب التهذيب (1/ص: 996). [8] الشريعة للآجري (513، و: 2067). [9] موطأ الإمام مالك (3342)، والشريعة (511، و: 2066). [10] التمهيد (10/ص: 187).
مرشد المبتدئين إلى معرفة معاني ألفاظ الرسالة لسعيد بن سليمان الكرامي صدر حديثًا كتاب "مرشد المبتدئين إلى معرفة معاني ألفاظ الرسالة"، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تأليف: الإمام "سعيد بن سليمان الكرامي السملالي الجزولي"، حققه وضبط نصه: د. "خالد بن عمر اللوزي"، في ست مجلدات، نشر: "دار السمان للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب المسمى بـ (مرشد المبتدئين إلى معرفة معاني ألفاظ الرسالة) ، لأبي محمد سعيد بن سُليمان بن سعيد الكرَّامي - بالكاف المعقودة - السملالي الجَزُولِي (ت882هـ) ، من أوسع الشروح السوسية مادةً، وأغزرها فائدة ونُكَتًا، تصدَّى فيه صاحبه لشرح كتاب رسالة "ابن أبي زيد"، الذي يُعَدُّ من أعتق المصادر المعتمد عليها عند جمهور فقهاء المذهب المالكي شرقًا وغربًا، تدريسًا وحفظًا. ويأتي تأليف هذا الشرح من صاحبه مُرشدًا ونِبراسًا لأولاده خاصة، ثم لأبناء المسلمين عامَّة، وقد قدَّم له رحمه الله بمقدمة طَوَاها في اثني عشر فصلًا، بَيَّن فيها فضائل البسملة ومعانيَها، وفضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيها، ثم التعريف بمؤلِّف الرسالة، وفضائل كتابه، وعدد ما فيه من المسائل والأبواب، ثم بَيَّن شروط المتعلم، وشروط المعلم، وفضل العلم والعلماء، ثم بعد هذا شرع في شرح مضامين المباحث العقديَّة التي افتَتَح بها ابن أبي زيد رسالته، ليعرِّج على الأبواب الفقهية التي اشملت عليها بالبيان والتفصيل. وكتاب "الرسالة" لابن أبي زيد القيرواني هي أول مؤلَّفاته؛ ولهذا قالوا: "هي باكورة السَّعْدِ، وزبدة المذهب"، وقد كتبها استجابة لرغبة بَلَدِيِّهِ، مُؤَدِّبِ الصِّبْيَةِ، ومعلِّمهم القرآن الكريم: أبي محفوظ مُحرز بن خلف البكري التونسي المالكي (ت 413 هـ) . وقيل: بل إن الذي طلب منه تأليفها هو: السبائي: إبراهيم بن محمد. وهي أول مختصر في مذهب المالكية. وهي تنتظم أبواب الشريعة في: التوحيد، والفقه، والآداب، وقد حوت نحو أربعة آلاف مسألة. وعكف عليها المالكية: دراسة، وتدريسًا، وتلقينًا، وحفظًا، وشرحًا، ونظمًا؛ حتى بلغت شروحها نحو ثلاثين، بل قال زَرُّوق، المتوفى سنة 899 هـ رحمه الله تعالى في شرحه لها (1/ 3) : "حتى لقد ذُكر أنها منذ وجدت حتى الآن، يخرُجُ لها في كل سنة شرحٌ وتبيان". فتكون شروحها والبيانات عنها بالمئات حتى إن علي بن محمد بن خلف المنوفي المتوفى سنة 939 هـ له ستة شروح على الرسالة. ولشدة الحفاوة بها كُتبت بالذهب، وبيعتْ أول نسخة منها في حلقة شيخه بالإجازة، شيخ المالكية ببغداد: أبي بكر محمد بن عبدالله التميمي الأبهري، المتوفَّى سنة 375 هـ رحمه الله تعالى، بيعت بعشرين دينارًا ذهبًا. ولشدة الحفاوة بها أيضًا، كان أخذ التلاميذ لها عن الأشياخ بالإسناد والإجازة إلى مؤلفها، وأسانيدُها مثبتة في الأثبات، والمشيخات، والفهارس حتى عصرنا. ومقدمة هذه الرسالة على وجازتها، حاويةٌ لأصول الاعتقاد في الإسلام على طريقة سلف هذه الأُمة وخيارها من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، في بيان حقيقة الإيمان وأركانه الستة، وتقرير توحيد الله سبحانه في أسمائه وصفاته كالاستواء، وإثباتها على حقيقتها، وتفويض كيفيتها، إثباتًا من غير تفويض للحقيقة، ولا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل. وقد قام د. "خالد بن عمر اللوزي" بتحقيق متن الكتاب على تسع نسخ خطيَّة، قابل بينها، وأثبت الفروق، وضبط نصه، وقدم له بدراسة وافية عن الشرح وصاحبه، وكتاب "الرسالة" أصل الشرح، مع ترجمة وافية لابن أبي زيد القيرواني "مالك الصغير". وقدم لهذا التحقيق والكتاب الدكتور "ميمون باريش". وشارح هذه الرسالة "سعيد بن سليمان الكرامي السملالي الجزولي"، فقيه ومفتٍ مالكي، الكرَّامِي نسبةً إلى أسرة الكرَّاميين بسوس، وهم الشرفاء أو الصلحاء، رأس أسرة علمية عاشت في القرن الهجري التاسع وصدر القرن العاشر ينتسبون إلى ابن العربي المعافري، ومساكن الكراميين بتازموت من سملالة بالأطلس الصغير، وما تزال قبور مشاهيرهم هنالك معروفة. وُلد في بيت علم ودين، ولم تلمح المصادر إلى تاريخ ولادته ولا مكانها، ويبدو أن المترجم تلقى تعليمه الأوليَّ على يد والده أو أعمامه كما هي عادة أهل المغرب قديمًا وحديثًا، وجاء عند المختار السوسي أنه درس بالأندلس، وبالضبط بغرناطة، على علمائها، ولم يذكر اسم واحد من مشايخه، ثم عاد بعدها إلى قريته، وحمل لواء العلم في جبال جزولة. تَصَدَّرَ للتعليم والإرشاد والتأليف والإفتاء في مدرسة تازموت السملالية، وكانت مشارطته جل حياته بقرية الأحدونيني إزاء سوق الثلاثاء الأكمارية المشهورة بعقيلة، وقد تخرَّج على يديه جمعٌ من العلماء، أبرزهم أبناؤه: يحيى، وإبراهيم، ومحمد، وأحفاده، وغيرهم ممن يصعب حصرهم. وكانت للفقيه سعيد مكانة عالية بين أهله وأصحابه وأقرانه؛ إذ يصفه كلُّ من ترجم له بأنه "العالم المتفنن، فقيه زمانه وزاهده وورعه"، وحكى عنه صاحب بشارة الزائرين كرامات غريبة لا تكاد تدرك بالعقل، وعلَّق عليها المختار السوسي - بعد أن ساقها - فقال: "ولا يعزبنَّ عن عاقل ما يقوله الأصوليون في أمثال هذه الأخبار، من أن الذي روى آحادًا وهو لو وقع لا يروى إلا متواترًا، كسقوط الخطيب من المنبر أثناء الخطبة يوم الجمعة - مدفوعٌ لا يُقبَل، وذلك أمر ظاهر غير خفي، فسامح الله مؤلف (بشارة الزائرين) ". خلَّف الإمام سعيد آثارًا جمَّةً في الفقه، والحديث، والقراءات، واللغة، والفلك، وغير ذلك، ويغلب على بعضها الطابعُ التعليمي، مما يؤكد ما ذكرنا من عكوفه على التدريس مدة طويلة من حياته، من هذه المؤلفات: "مرشد المبتدئين إلى معرفة معاني ألفاظ الرسالة"، و"إعانة المبتدئين على ألفاظ مورد الظمآن"، و"تعريف معاني الضبط في شرح رسم الخط"، و"شرح البردة"، و"تقريب الفلاح من اختصار الشراح على ابن الحاجب"، و"شرح على أرجوزة الولدان في الفرض والمسنون"، و"إعانة الصبيان على عمدة البيان"، و"اختصار شرح ابن البنا على منظومه ابن مقرع"، و"هداية السالك إلى فهم ألفاظ ألفية ابن مالك". توفي الإمام سعيد بن سليمان عن سنٍّ عالية وحُسن حال يوم السادس عشر من شعبان عام (882هـ) ، وأرَّخ وفاته ابن القاضي عام (899هـ) ، وهو مدفون بمسجد تازمورت بسملالة مع أولاده الثلاثة المشهورين وامرأته في عرصة واحدة.
جحا بين الحقيقة والوهم كثيرة هي القصص والحكايات الساخرة التي تحكى عن جحا، فهل كل هذه القصص والحكايات كانت من أرض الواقع أم من نسج الخيال؟ وهل جحا شخصية واقعية أم مجرد أسطورة؟ 1- من هو جحا؟ الأمر الذي قد لا يعلمه الكثيرون أن جحا تابعي عاش في قرن من خير القرون. اسمه الحقيقي: دجين بن ثابت، اليربوعي، البصري، أبو الغصن، الكوفي الفزاري. عاش في القرن الثاني من الهجرة، وقد ذكر الزركلي في الأعلام أنه توفي حوالي سنة 130هــ = 747م [1] . وقيل: ولد عام 60 من الهجرة، وتوفي عام 160هـــ. وقد عاش معظم حياته في الكوفة، وذكر بعض أهل العلم والسير كالحافظ ابن عساكر أنه عاش أكثر من مائة سنة. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "رأى دجين أنسًا، وروى عن أسلم، وهشام بن عروة شيئًا يسيرًا. وعنه: ابن المبارك، ومسلم بن إبراهيم، وأبو جابر محمد بن عبد الملك، والأصمعي، وبشر بن محمد السكري، وأبو عمر الحوضي" [2] اهــــــ. وجحا اسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر، يقال: جحا يجحو جحوًا إذا رمى [3] . وقد اختلف في دجين بن ثابت فذهب جمع من الأئمة إلى أن دجين بن ثابت هو جحا، منهم أحمد الشيرازي في "الألقاب"، وروي ذلك عن يحيى بن معين، وذكره الحافظ الذهبي في "السير" بقوله: "جحا أبو الغصن، صاحب النوادر، دجين بن ثابت، اليربوعي، البصري" [4] . وممن خالف الحافظ ابن حجر حيث قال في "الميزان" و"تعجيل المنفعة" كلاهما له: "هو الذي يتوهم أحداث أصحابنا انه جحا وليس كذلك" [5] ، وكذلك ابن الصلاح فقد جاء في تاج العروس: "قالَ ابنُ الصَّلاح: قيلَ: إنَّه جُحا المَعْروفُ، والأَصحّ أنَّه غيرُهُ؛ قالَ: وعلى الأَوّل مَشَى الشِّيرازِيُّ في الأَلْقابِ ورَواهُ عن ابنِ معينٍ". [6] اهــــ. ونقل المرتضى الزبيدي ما ورد في كتابِ المنهج المطهر للقلْب والفُؤادِ للقطبِ الشَّعْراني وهذا نَصَّه: "جُحا هو تابِعيٌّ كما رأَيْتُه بخطِّ الجلالِ السّيوطيّ، قالَ: وكانتْ أُمُّه خادِمَةً لأُمِّ أَنَس بنِ مالِكٍ، وكانَ الغالِبُ عليه السَّماحَة وصَفَاء السَّرِيرَةِ، فلا يَنْبغِي لأَحدٍ أَنْ يَسْخَر به إذا سَمِع ما يُضافُ إليه مِن الحِكَاياتِ المُضْحِكَة، بل يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعه ببَرَكاتِه. قالَ الجلالُ: وغالِبُ ما يُذْكَر عنه مِن الحِكَاياتِ المُضْحِكَة لا أَصْل له" [7] . اهـ. وقد روى الشيرازي في الألقاب عن مكي بن إبراهيم قال: "رأيت جحا الذي يقال فيه: مكذوب عليه، وكان فتى ظريفًا، وكان له جيران مخنثون يمازحونه، ويزيدون عليه" [8] . وفي رواية أخرى: "رأيت جحا وكان لبيبًا فاضلا عاقلا وليس مما يقول الناس شيئًا" [9] . وروي عن قبيصة بن عقبة قال: اجتزت بجحا وهو جالس على الطريق يأكل خبزًا فقلت له: يا أبا الغصن تجالس جعفر بن محمد وتأكل على الطريق؟ فقال: حدثني جعفر بن محمد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مطل الغني ظلم فطالبتني نفسي بالمأكول وخبزي في كمي فلم أحب أن أمنعها فأمطلها فألقى الله ظالما" [10] . وعن عباد بن صهيب: حدثنا أبو الغصن جحا وما رأيت أعقل منه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى معلقًا: "لعله كان يمزح أيام الشبيبة، فلما شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدثون" [11] . وفي مخطوطة حديثة سميت (قطعة من تراجم أعيان الدنيا الحسان) في المكتبة الشرقية اليسوعية ببيروت: كان أبو الغصن جحا البغدادي صاحب مداعبة ومزاح ونوادر [12] . جاء في "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي: "ومنهم جحا ويكنى أبا الغصن، وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقد قيل إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات والله اعلم. عن مكي بن ابراهيم أنه يقول: رأيت جحا رجلا كيسًا ظريفًا وهذا الذي يقال عنه مكذوب عليه وكان له جيران مخنثون يمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه. وعن أبي بكر الكلبي أنه قال خرجت من البصرة فلما قدمت الكوفة إذا أنا بشيخ جالس في الشمس فقلت: يا شيخ أين منزل الحكم؟ فقال لي: وراءك فرجعت إلى خلفي، فقال: يا سبحان الله أقول لك وراءك وترجل إلى خلفك، أخبرني عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]، قال: بين أيديهم. فقلت أبو من؟ قال: أبو الغصن، فقلت: الاسم؟ قال: جحا... قال المصنف وجمهور ما يروى عن حجا تغفيل" [13] . وقد ذكر بعضهم أن الجاحظ كان أول مؤلف عربي ذكر جحا في مؤلفاته، ذكره في رسالة عن علي والحكمين، وذكره في كتاب البغال [14] . 2- خطورة الكلام في المسلم بما ليس فيه: بعد تتبعي لترجمة دجين بن ثابت في كتب التراجم يظهر أن هناك خلاف في صحة نسبة هذا الاسم لجحا. ومهما يكن فهناك احتمال قوي أن تكون شخصية جحا التي تؤلف حولها الحكايات الساخرة وتنقل عنها القصص والنكت المضحكة أن تكون هي شخصية ذلك التابعي الجليل دجين بن ثابت الذي لقي أنسًا رضي الله عنه. ولا يخفى ما للمسلم عمومًا من حرمة فكيف إذا كان هذا المسلم من القرون التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وأخبر عنها بالأفضلية. يقول صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني. وفي راية: "خير الناس قرني ثم الثاني ثم الثالث ثم يجيء قوم لا خير فيهم"؛ رواه الطبراني وصححه الألباني. وفي رواية: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". فهذا ثناء على القرون الثلاثة المباركة: قرن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين. ولا شك أن ما ينقل عن جحا (دجين بن ثابت) هو من البهتان في حقه لأن تلك الحكايات تنسب إليه على أنه صاحبها أو قائلها مع أنه بريء من كل ذلك. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"؛ صحيح سنن أبي داود. والبهتان من أعظم الظلم في حق من بهت لأنه كذب وافتراء عليه. ثم إن في تلك السخرية بشخص جحا ازدراء له وتحقير له. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"؛ مسلم. أي: يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم وإن لم يضف إليه شر آخر ليس فيه، فكيف إذا نسب إليه أشياء وأشياء ليست فيه؟ وهنا لا بأس أن أذكر قصة تبين عظم حرمة المسلم ففيها عبرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا"؛ صحيح سنن أبي داود. إن كانت مجرد كلمة قالتها الصديقة بنت الصديق في حق صفية رضي الله عنها، يخبر الصادق المصدوق أنها لو مزجت بماء البحر لمزجته، فكيف بالحكايات الساخرة والنكت المضحكة التي تحكى وتنسج حول التابعي الجليل دجين بن ثابت الملقب بجحا، والتي لا يعلم عددها - من كثرتها - إلا الله سبحانه؟ ثم إن وعيدًا شديدًا قد يلحق كل من تناقل تلك الحكايات الساخرة بغية إضحاك الناس، إذا كان عالمًا بعدم صحة نسبتها لجحا وأنها كذب عليه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له"؛ صحيح سنن أبي داود. يقول العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله تعالى: "هذا فيه التحذير من الكذب... وذلك بالتعبير بالويل: [(ويل له ويل له!)] وتكرار ذلك، فهو يكذب ويتعمد الكذب لأجل أن يضحك الناس بالكذب الذي يخبر به وهو غير صادق، بل هو كاذب، وهذا كذب سواء كان للإضحاك أو كان لغير الإضحاك؛ لأن الكذب محرم مطلقًا كما مر في الحديث السابق: (إياكم والكذب). فعلى الإنسان أن يتجنب الكذب ويحذر الكذب. ثم أيضًا هذا يدل على تحريم التمثيل الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان؛ لأن التمثيل مبني على الكذب، وعلى أخبار غير واقعة. إذا حدث الرجل بقصة أو بطرفة وهي لا حقيقة لها وليس لها أساس، فالمحظور قائم؛ لأنه إخبار بشيء لا حقيقة له، ويكون قد صرح لهم بأنه كذاب. وقد كرر فيه ذكر الويل ثلاث مرات" [15] . 3- كيف نسبت كل تلك الحكايات الساخرة والنوادر المضحكة لجحا؟ سؤال مهم يطرح نفسه بقوة: إذا كان دجين بن ثابت الملقب بجحا رجلا صالحا عاقلا لبيبا فطنا، فكيف نسبت له كل تلك الحكايات الساخرة والنوادر المضحكة؟ هناك أمور يمكن أن تكون أسبابًا لهذه النسبة: أ- قيل: إن جحا كان له جيران يمازحهم ويمازحونه، ويزيدون عليه وينسبون له ما هو منه برئ من الحكايات والنوادر. ب- وقيل: إن جحا كان له أعداء - وقل من يسلم من الأعداء -، فأرادوا النيل منه فوضعوا له حكايات مكذوبة هو منها براء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. ت- وقيل: إنه رغم عقله الراجح وفطنته إلا أنه كان عنده شيء من المرح والمزاح والدعابة زمن الشباب، لكنه ترك كل ذلك عند كبر سنه وأقبل على الجد في شأنه كله وترك الهزل والمزاح بالكلية، لكن ذلك لم يشفع له عند البعض ممن سجل عليه ما كان منه زمن شبابه، وروج تلك الحكايات والنوادر التي كان قد تبرأ منها. ح- ومن الأسباب كذلك ما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه "إرشاد من نحا إلى نوادر جحا"، فقد وصفه بأنه كان يتمتع بصفاء النفس والسماحة وأكد على أن معظم القصص التي تروى عنه ليست حقيقية وإنما هي من تأليف أشخاص آخرين عاشوا بعد عصر جحا، فألفوا هذه الحكايات ونسبوها إليه كي يضمنوا لها الانتشار، وخصوصا تلك التي تظهر جحا في صورة إنسان مستهتر أو شخص يتصف بالحمق والغباء. وهؤلاء الأشخاص مجهولون، كما ذكر ابن النديم في فهرسته: "أسماء قوم.. ألف في نوادرهم الكتب لا يعلم من ألفها (منها) نوادر جحا" [16] . ج- وقد ظهر لي سبب أخر لا أستبعده، وهو الخلط الذي ربما وقع في نسبة تلك النوادر والحكايات، فدجين بن ثابت كان عربيًّا بلا شك فهو جحا العربي، لكن هناك جحا رومي يلقب بخوجة نصر الدين (التركي)، فلعل الكثير من تلك الحكايات والنوادر إنما هي متعلقة بهذا الأخير فنسبها بعض الكتاب بقصد أو بغير قصد لدجين بن ثابت (جحا العربي). وقد تكون خاصة بشخصيات أخرى تحمل نفس اللقب (جحا) فنسبت لدجين بن ثابت التابعي، فالأمر الذي يجب اعتقاده هو أنه ليست هناك شخصية واحدة تحمل اسم جحا بل أكثر من شخصية واحدة، وهذا ما أشار إليه الدكتور عباس العقاد رحمه الله تعالى حيث يقول: "يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي أو عصر تيمورلنك..." [17] . وقد أشار ابن النديم في كتابه الفهرست أن من الكتب المصنفة في أخبار المغفلين (نوادر حجا) وعلق الزركلي صاحب الأعلام بقوله: "هذا حتما غير كتاب (نوادر جحا) المطبوع بمصر وبيروت المترجم عن التركية، المنسوبة أخباره إلى جحا الرومي المعروف بخوجه نصر الدين" [18] . 4- تحذير وتذكير: ألا فليتق الله تعالى مروجو هذه الحكايات وناقليها، وليوقنوا أنهم سيقفون بين يدي الله تعالى وأن جحا سيكون خصمهم بين يديه سبحانه، حيث القصاص من الظالم للمظلوم. وأخيرًا أقول هب أن تلك الحكايات تصح نسبتها إلى جحا. أليس هو قد مات وأفضى إلى ما قدم؟ ألسنا مأمورين بذكر موتانا بخير؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه"؛ صحيح سنن أبي داود. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم و كفوا عن مساويهم"؛ لكنه ضعيف ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"؛ رواه النسائي وغيره وصححه الألباني. قد يقول قائل: وأين السب في مثل هذه الحكايات التي تروى عن جحا؟ فالجواب أن جعل شخصية جحا محورًا لهذه الحكايات الساخرة والقصص المضحكة التي تمثله كالأبله أو الأحمق هو كالسب بل ربما أعظم من السب والشتم. وأخيرًا أذكر نفسي وإخواني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة"؛ صحيح الترمذي. فأسأل الله تعالى أن تكون كلماتي تلك ردًّا عن عرض التابعي الجليل دجين بن ثابت الفزاري، ألقى بها ربي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم. [1] الأعلام للزركلي: 2/ 112. [2] سير أعلام النبلاء: 8/ 172. [3] حياة الحيوان الكبرى 1/ 330. [4] نفسه. [5] تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: 1/ 508. [6] تاج العروس: 37/ 325. [7] نفسه. [8] سير أعلام النبلاء: 8/ 173. [9] توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم: 3/ 138. [10] نفسه. [11] سير أعلام النبلاء: 8/ 173. [12] الأعلام للزركلي: 2/ 113. [13] أخبار الحمقى والمغفلين: 44 - 45. [14] الأعلام للزركلي: 2/ 112. [15] شرح سنن أبي داود. [16] الفهرست: 435. [17] جحا الضاحك المضحك: 91/ 92. [18] الأعلام للزركلي: 2/ 112.
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (التسويغ) يصعب على المرء أن يمر في هذا الظرف المؤلم المتمثل في أحداث الثاني والعشرين من جمادى الثانية 1422هـ الموافق الحادي عشر من سبتمبر 2001م وتداعياتها من دون أن تظهر علامات الاستنكار المكتوبة أو المذاعة حوله،والذين يقرؤون بعض الكتابات الغربية في الصحافة الغربية يقرؤون عجبًا من القول؛ إذ جُنِّدت أقلام للتعليق على الحدث النتيجة الذي تضررت منه الحضارة اليوم، وأعادت التفكير في هذا التقدم المادي الذي بدت عليه الهشاشة، لا سيما أنه تقدم قام على حساب المثل والمعطيات الروحية للأمم. ولقد قيل كثيرًا من قبل: إن هذه الحضارة التي نعيشها اليوم إنما تؤكد على البعد المادي للحياة، ومن ثم فإنها حضارة الضياع،وتبع هذا تجاهل ما أنجزته هذه الحضارة من صنوف الثقافة والسلوكيات الإنسانية التي تتمناها بعض الشعوب، وكانت هناك دعوات ولا تزال إلى الالتفات إلى البعد الروحي للحياة دونما إغفال الأبعاد المادية. ومن الصعب على المرء أن يقف موقفًا ذاتيًّا غير موضوعي حول هذا الظرف المؤلم الذي يمر به العالم الإسلامي خصوصًا، ويمر به العالم عمومًا، فمهما قيل على المستوى الرسمي إلا أن الطرح الإعلامي والسلوكيات الشعبية في أوروبا وأمريكا ثم في أستراليا وما جاورها، حمَّلَتِ الإسلام مسؤولية ما حدث، وهذا يذكر بالدعوة الملحة إلى أن تصرفات المسلم، أيًّا كان هذا المسلم، ليست دائمًا هي حجة على الإسلام، بل إن الإسلام نفسه هو الحجة على تصرفات المسلمين وسلوكياتهم. ومع بساطة هذا الطرح إلا أنه لم يؤخذ في الحسبان عند النظر والتحليل إلى الأحداث التخريبية الترويعية، التي يزعم أنها قامت بسبب من أفراد مشتبه فيهم ينتمون للإسلام،يقول عبدالوهاب المؤدب: "ليس الإسلام أصلَ الداء الذي أقصد تناولَه؛ فأولئك الذين اعتنقوا الإسلام عملوا على إبدال حتى بنية الحضارة، فليس الإسلام بالتالي هو أصلَ المصيبة، بل المصيبة هي ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام" [1] . وتعلو المرءَ الدهشةُ من إخوة غير متخصصين في علوم الشرع ينبرون على المنابر وفي وسائل الإعلام بجرأة غير مسبوقة في طرح آرائهم واعتقاداتهم حول موقف من المواقف أو حادثة من الحوادث، ويجعلون من هذه الآراء أحكامًا شرعية صريحة قاطعة، في الوقت الذي لا نجد فيه لهم حظًّا من العلم الشرعي، وإن كانوا نوابغ في تخصصات علمية أخرى،ولا يراد من هذا الاستنكارِ على هذه الفئة الحجرُ على الآراء والأفكار؛ لأنه قد يفهم ذلك من هذا الطرح. ولقد سمعت أستاذًا في الفلسفة في جامعة عربية ومن خلال قناة فضائية ينفي تمامًا استمرارية الجهاد، وأنه شعيرةٌ انتهت بانتهاء انتشار الإسلام، ولم يعد هناك جهادٌ إلا ما يتداول من بقاء الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس،أما الجهاد بمفهوم القتال ونشر الدين والدفاع عن الأرض والمقدسات من منطلقات شرعية واضحة فهو عند هذا الأستاذ قد انتهى [2] . وفي مثل هذه الأقوال فتش عن المستشرقين وأثرهم على المفكرين المسلمين،فهم الذين روجوا لتعطيل الجهاد بمفهوم القتال؛ لأنه كان ولا يزال الوسيلة التي يخشاها المحتلون "المستعمرون"، الذين احتلوا بلادًا كثيرة، من بينها معظم بلاد المسلمين، فظهرت الأقوال التي بُنِيَت عليها فرق داخل المسلمين؛ كالأحمدية [3] ، تدعو إلى تعطيل الجهاد؛ رغبة في عدم مقاومة المحتلين،والدخول في هذا الموضوع يستدعي سياحة علمية فكرية تطول، ولعل الفرصة تتاح لمواصلة طرح هذا الموضوع بقدر عالٍ من الموضوعية المنشودة. [1] انظر: عبدالوهاب المؤدب ، أوهام الإسلام السياسي/ نقله إلى العربية محمد بنيس وعبدالوهاب المؤدب - بيروت: دار النهار، 2002م - ص 8. [2] قسَّم ابن القيم الجهاد إلى أربع مراتب، وتحت كل مرتبة مراتب فرعية، بحيث أعطى الجهاد ثلاث عشرة مرتبة، ولم يُغفِل القتال كإحدى هذه المراتب ، انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي ، زاد المعاد في هدي خير العباد/ حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط - 5 مج - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399هـ/ 1978م - 3: 9 - 11. [3] انظر: محمد بن إبراهيم الحمد ، القاديانية - الرياض: دار القاسم، 1417هـ/ ؟996م - ص 32 - (سلسلة رسائل في الأديان والمذاهب والفرق، 3) وانظر أيضًا: القاديانية - ص 416 - 420 - في: الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة/ بإشراف مانع بن حماد الجهني - ط 5 - 2 مج - الرياض: دار الندوة العالمية، 1424هـ/ 2003م - ص1224 .
نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر بتحقيق جديد صدر حديثًا تحقيق جديد لكتاب: "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، تحقيق: د. "عبدالمحسن بن محمد القاسم"، إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف، في سلسلة متون طالب العلم. وتميز هذا التحقيق باعتماده على إحدى عشر نسخة خطية، هي من أجود وأرفع النسخ التي وقف عليها المحقق لهذا الكتاب، سبع منها كُتِبتْ في حياة المصنف، وأربع منها قُرئت عليه وعليه خطه، ومنها نسخ بخط تلاميذه، أو مقروءة عليهم وعليها إجازاتهم، وأكثر هذه النسخ لم يعتمد في تحقيق طبعات الكتاب السابقة. كما تميز التحقيق بالإفادة من شروح الكتاب في الترجيح بين فروق النسخ. مع تخريج الأحاديث، وشرح الغريب، وبيان المهمل. إلى جانب ثرائه بنكت مفيدة وتعقبات واستدراكات على كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني. وحسن تقسيم الكتاب بإضافة عناوين جانبية توضح مسائل الكتاب. وكتاب " نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر " للحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 هـ), جمع المؤلف ووعى كل ما ألف قبله من مصطلحات علم الحديث، وقدمه بإيجاز واختصار، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة الكتاب: "فإِن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرَت، وبسطت واختصرت، فسألني بعض الإِخوان أن ألخّص لهم المهم من ذلك، فأجبته إِلى سؤاله؛ رجاء الاندراج في تلك المسالك". ويتضح من استقراء كتاب " نخبة الفكر " انه ملخص لمقدمة ابن الصلاح في علم الحديث النبوي على طريقة ابتكرها ابن حجر. وقد بسط الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المختصر في شرحٍ له كذلك سماه " نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر "، قال في مقدمتها: "فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ، فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ، سَمّيتها: "نُخْبَةَ الْفِكَرِ في مصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ ابتكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شوارِد الفرائدِ، وزوائدِ الفوائدِ. فَرَغِبَ إليَّ، ثانيًا، أنْ أضَعَ عَليها شرحًا يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِّح ما خَفِيَ على المُبْتَدئ مِن ذلك، فأجبتُهُ إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلك المسالِك، فبالغتُ في شَرْحِها، في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونَبَّهتُ على خفايا زواياها؛ لأنَّ صاحبَ البيتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إيرادَهُ على صورةِ الْبَسْطِ أَلْيَقُ، ودمْجَها ضِمْن توضيحها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ". وتتضح في " النزهة " تضلع ابن حجر العسقلاني في علوم الحديث، وصفاته العلمية؛ إذْ جاءت "النزهة": مختصرة، شاملةً، مبتكرةً في طريقة عرْضها لعلوم الحديث وتقسيمات علوم الحديث عند المحدِّثين، كما أنها عُنِي فيها مؤلفها بالتحقيق والترجيح العلميّ الرصين في مختلف مسائل هذا العلم. وكان ابن حجر واسع الاطّلاع، صاحب باع طويل في المشاركة في مختلف أنواع علوم الحديث، ومن الأدلة على هذا: أنه قَلَّ أن يَذْكر في "النزهة" فَنًّا من فنون علوم الحديث إلا ويَذْكر أنه قد كَتَبَ فيه. وتمتاز هذه الرسالة بما اشتملت عليه من تحقيقات علمية رصينة لا توجد في سِواها من مؤلفات هذا الفن، و"تمحيص المسائل المختلف فيها، والقضايا الشائكة، واستخراج زبدة التحقيق فيها، وذلك كثير في هذا الكتاب على إيجازه واختصاره". وقد فرغ المؤلف -رحمه الله- من تأليفها سنة 818هـ بطلب جماعة من طلاب الحديث، منهم شمس الدين الزركشي، أَيْ أنّ تأليفها جاء بعْد نُضْجه العلميّ. وكان قد أَلّف أصلها "نُخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر"، وهو مسافر، في سنة 812 هـ. والمصنف هو ابن حَجَر العَسْقلاني (773 - 852 هـ = 1372 - 1449 م)، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حَجَر. • من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. • ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ. • وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاويّ: ( انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر ). • وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. • عَنيّ ابن حجر عناية فائقة بالتدريس واشتغل به ولم يكن يصرفه عنه شيء حتى أيام توليه القضاء. • وغلب عليه تدريس عدة فنون، أشهرها: التفسير: اشتغل ابن حجر بتدريس التفسير بالمدرسة الحسنيّة، والقبة المنصورية. الحديث: درّس ابن حجر الحديث بشتي علومه حتي اشتهر به وغلب عليه، ولقد كثرت المدارس التي تولى تدريس الحديث فيها. وكانت الشيخونية هي أوَّل مكان ولي فيه تدريس الحديث، بأمر السلطان فرج بن برقوق وذلك في شوال سنة 808هـ، يليها قبة الخانقاه البيبرسية، والمدرسة الجمالية المستجدَّة، والجامع الطُّولوني، والقبة المنصورية، كما ولي مشيخة الحديث بالمدرسة الزينية سنة 851هـ، ومشيخة إسماع الحديث بالمدرسة المحمودية، وولي أيضًا مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق. الفقه: درّس ابن حجر الفقه بالشيخونية، والمدرسة الشَّريفية الفخرية، والكهاريَّة، وولي تدريس فقه الشافعية بالمؤيدية أوَّل ما فُتحت في ثالث جمادى الأولى سنة 822هـ، كما درّسه بالمدرسة الخروبية البدرية بمصر، والصَّالحية النجمية، والمدرسة الصلاحية المجاورة لقبة الإمام الشافعي. • وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. • وصفه تلميذه ابن تغري بردي بقوله: "وكان عفا الله عنه ذا شيبة نيرة ووقار وأبهة، ومهابة، هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة والدربة بالأحكام ومداراة الناس، قل أن يخاطب الشخص بما يكره، بل كان يحسن لمن يسيء إِلَيْهِ ويتجاوز عمن قدر عليه، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة والبرّ والصدقات؛ وبالجملة فإنه أحد من أدركنا من الأفراد". وقال تلميذه برهان الدين البقاعي وهو ممن لازمه طويلًا: "وهو أعجوبة في سرعة الفهم، وغاية في الحفظ، وآية في حسن التصور، له حدس يظن أنه الكشف، وفكر كأن وقته خفي اللطف، وتأمل يرفع الأستار من غوامض الأسرار، وصبر متين، وجلد مبين، وقلب على نوب الأيام ثابت، وجنان من صروف الدهر غير طائش. ما رأيت أكظم منه للغيظ بحيث لا يظهر عليه الغضب إلا نادرًا، ولا أجلد على ريب الزمان، يتلقاه بصدر واسع، ويظهر البشاشة حتى يظن من لا خبرة له أنه سر بذلك، يستعين على الشدائد بالصبر والصلاة". أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها: • (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة). • (لسان الميزان). • (الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام). • (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف). • (ذيل الدرر الكامنة). • (ألقاب الرواة). • (تقريب التهذيب) في أسماء رجال الحديث. • (الإصابة في تمييز أسماء الصحابة). • (تهذيب التهذيب) في رجال الحديث. • (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة). • (تعريف أهل التقديس) ويعرف بطبقات المدلّسين. • (بلوغ المرام من أدلة الأحكام). • (المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس) جزآن، أسانيد وكتب. • (تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث). • (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) في اصطلاح الحديث. • (القول المسدَّد في الذب عن مسند الإمام أحمد). • (تسديد القوس في مختصر الفردوس للديلي). • (تبصير المنتبه في تحرير المشتبه). • (رفع الإصر عن قضاة مصر). • (إنباء الغمر بأنباء العمر). • (إتحاف المَهرة بأطراف العشرة). • (الإعلام في من ولي مصر في الإسلام). • (نزهة الألباب في الألقاب). • (فتح الباري في شرح صحيح البخاري). • (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير). • (تغليق التعليق)، في الحديث. ولتلميذه السخاوي كتاب في ترجمته سماه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) في مجلد ضخم.
أثر البعد الدولي في الفكر الإسلامي ينظر المفكرون الغربيون إلى الحروب الدينية في أوروبا بوصفها صراعًا بين الكاثوليك والبروتستانت؛ بسبب الاعتقادات الدينية، وأن المخرج منها كان صعود الدولة العلمانية الحديثة، فقد برزت الحاجة إلى الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية لتحقيق السلام الداخلي، وقد اقتنع قادة المجتمع الغربي ومفكروه أن لا طريقَ لإحلال السلام بين الفرق الدينية المتصارعة ما لم يقبل الجميعُ الاحتكامَ إلى عدد من المبادئ السياسية المشتركة التي توفر الحقوق والعدل، وتَحُول دون سيطرة فرقة دينية محددة على السلطة، ومن ثَمَّ استخدامها لفرض رؤية ضيقة على الجميع [1] ، وقد تأثرت المجتمعات الإسلامية خلال القرن العشرين بمفهوم العلمانية بشكل كبير، وقد رفض الكثيرون في العالم الإسلامي فكرة إبعاد الدين عن السياسة؛ لذلك انقسم الفكر السياسي في بلاد المسلمين من حيث العلاقة بين الدين والدولة إلى من يؤيِّد ويناصر مبدأ الفصل بين الدين والدولة، ويُسمَّون بالعلمانيين، ومن يعتبر الإسلام دينًا ودولة بغض النظر عن شكل الحكم. العلمانية (فصل الدين عن الدولة) من الأفكار المستوردة الغريبة عن المجتمع الإسلامي، وهي تعني ببساطة اللادينية، ويبقى الفارق الأساسي بين الإسلام وبين العلمانية أن سلطة الأمة في الإسلام مقيدة بسيادة الشريعة وحاكمية القرآن والسنة، فليس لها أن تحلَّ حرامًا، أو أن تحرم حلالًا، أو أن تُشرع من الدين ما لم يأذن به الله، أما سلطة الأمة في العلمانية، فهي مطلقة من كل قيد؛ فهي التي تصنع الحلال والحرام، وهي التي تقرر ما تشاء من الشرائع بلا حريجة دينية، ولا تقيد بشريعة سماوية [2] . اتفق العلماء والمفكرون المسلمون على أن المفهوم الغربي لسيادة الأمة ليس له وجود في الإسلام، فقد برز مصطلح سيادة الشعب أو سيادة الأمة من خلال الصراع العنيف في التاريخ الأوروبي مع الكنيسة [3] ، أما في الإسلام، فنظام الحكم نظام متميز، ولا وجود في الإسلام لطبقة رجال الدين،؛ ولهذا يستحيل أن يوجد في الإسلام مؤسسة تشبه الكنيسة النصرانية التي تختص بأسرار الدين وطقوسه [4] . وكذلك الأمة الإسلامية تختلف من حيث تكوينها وثقافتها وتصوراتها وقِيَمِها عن الأمم الأخرى [5] ، وعلى الرغم من أن الدولة المدنية في الدول الغربية هي دولة مؤسسات تسود فيها سلطة القانون، وسيادة الشعب، وتقوم على التعددية السياسية وتداول السلطة، لكن من المؤاخذات على الدولة العلمانية الحديثة أنه لا يوجد فيها مفهوم ثابت يمكن به التمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، فالمقياس الوحيد في مثل هذه الدول هو مصلحة الأمة، وفي حالة عدم وجود ميزان ثابت للقيم الخلقية فإن الأفراد - حتى في حدود الأمة الواحدة - تصبح لديهم - ومن الطبيعي أن تصبح لديهم - وجهات نظر متباينة كل التباين حول ما يخدم مصالح الأمة على أحسن وجه [6] ، فمفهوم المصلحة في الدولة العلمانية يحدده الرغبة والأهواء وجمهور الناخبين، أما الدولة الإسلامية، فالمصلحة لها اعتبارات مختلفة؛ فهي لا تخضع للأهواء والمصالح، إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع، فالشرع قد جاء لبيان ما تصلح به أحوال العباد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها [7] . وقد اتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على أن تصرفات الحاكم المسلم منوطة بالمصلحة؛ أي: إن جميع تصرفات الحكام مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة، كانت باطلة [8] ، والمصلحة لا تعتبر إلا إذا كانت حقيقية لا متوهمة، وأن تكون كلية لا جزئية؛ أي: عامة لا خاصة، وألَّا تُعارِض المصلحة حكمًا أو قاعدة ثبتت بالنص أو الإجماع. تسربت العلمانية إلى العالم الإسلامي عن طريق بعض الأشخاص والأفكار التي قدموها للناس، شرع الشيخ محمد عبده في مهاجمة ونقد الأزهر، وقد كان مصيبًا في جزء غير قليل من نقده، ولكن مؤسسة الأزهر مع ما فيها من القصور والخلل كانت تنفر من المستعمر والعمل معه تحت أي ستار [9] ، كانت أفكار محمد عبده تمثل حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، وقد قال (جب) عنه: قد كان تلاميذه الحقيقيون من صفوف العلمانيين [10] ، وقد صوَّر محمد المويلحي في عمله المعنون (حديث عيسى بن هشام) شيئًا من ذلك على لسان أبطال الرواية؛ إذ يسأل أحدهم متعجبًا: كيف ساغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة؟ فيُجيب الآخر بأن المفتي أقسم بالله بأن هذا القانون الفرنسي غير مخالف للشرع الإسلامي [11] . وكان نابليون قد وضع في فترة إقامته في مصر قانونًا جديدًا يحكم به المسلمون غير شريعة الله، قانونًا مستمدًا من التشريع الفرنسي، وحصر تشريع الله في أمور الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث، وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ المسلمين التي يحكمهم فيها قانون غير قانون الله وضعه ونفَّذه قوم غير مسلمين [12] ، وكان كرومر [13] يرى أن أهمية محمد عبده ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة بين المسلمين والغرب، وأنه هو وتلاميذه خليقون بالعَون والتشجيع؛ لأنهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي، وبعد عودة محمد عبده إلى مصر عام 1889 عيَّنه كرومر قاضيًا في المحاكم الأهلية في مدينة بنها، وفي عام 1899م تولى منصب المفتي العام للديار المصرية [14] . يقول مفتي الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري رحمه الله من حديث طويل: (... وكان مما لا يطوف ببال أحد أن يُنكر وجود الملائكة ووجود الشيطان الرجيم... حتى جاء محمد عبده فوضع منهاجًا عجيبًا لتأويل النصوص، قائلًا: إن وجود شيء في القرآن لا يقتضي صحته، وقد ارتكزت فكرة إنكار معجزات الأنبياء في قلوب العلماء الأزهريين من تلامذة الإمام، وفيهم من تولى مشيخة الأزهر، وقد فتح الأستاذ الأمام لهم طريقًا معبَّدة رغم خطرها في كل أمن وحصانة، وهي طريق التأويل وتفسير النصوص تفسيرًا يؤدي إلى إلغائها) [15] ، ومن المآخذ على محمد عبده اقتصاره من الإسلام على الإصلاح عن طريق التعليم، وليته في هذا الجانب استطاع أن يصلح! ثم إن الرجل وهو في موضع القدوة للمسلمين مالأ الكافرين الذين غصبوا الديار وما بعد الديار [16] ، وكان محمد عبده يصدر الفتوى بإباحة ربا صندوق البريد، ويصدر الفتاوى التي تعين مجلس شورى القوانين على إصدار القوانين المخالفة للشريعة [17] . أما جمال الدين الأفغاني أستاذ محمد عبده، فقد كانت له شطحات عقلية في تفسير بعض آيات القرآن الكريم؛ إذ فسر الربا المحرم في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130] بجواز الربا المعقول الذي لا يصير أضعافًا مضاعفة، ومن المآخذ عليه أيضًا ثنيه للسلطان عبدالحميد عن عزمه إرسال علماء مسلمين لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطورها؛ بحجة أن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفروا الكافرين، وبذلك لم تكن دعوة الأفغاني تجديدية بالمفهوم الشرعي للتجديد، بل هي دعوة للتحرر من الدين، وتقليد الغرب في نظامه الاجتماعي والسياسي [18] . وطه حسين ليس ببعيدٍ عن ذلك؛ فقد كان في مقدمة الذين أعلنوا الإعجاب والتقدير لمناهج المستشرقين، ويعتبر حامل لواء الدفاع عنهم وعن أهوائهم... وقد كانت أمانته للفكر الغربي ولمذاهب الاستشراق تفوق أمانة المستشرقين أنفسهم [19] . أما دعوات تحرير المرأة ومساواتها بالمرأة الفرنسية، فكان من دعاتها قاسم أمين، ورفاعة الطهطاوي؛ الذي كان أول زعيم للإصلاح في مصر الحديثة، وهدى الشعراوي، وصفية زغلول زوجة سعد زغلول اللاتي خلعن الحجاب مع تجمع للنسوة أمام ثُكْنات الإنجليز في ميدان الإسماعيلية؛ حتى سُمِّيَ ميدان الإسماعيلية الذي تحللت فيه المرأة من حجابها الإسلامي ميدان التحرير تخليدًا لهذه الذكرى العظيمة! [20] ، وفي عام 1899 نشر قاسم أمين (1865 - 1908) كتابًا صغيرًا عن تحرير المرأة، وكان قاسم أمين ذا تربية فرنسية، وقد عمل قاضيًا ودعا إلى نزع الحجاب [21] . وكانت مصر قد ابتُليت في تاريخها الحديث بثلاثة صالونات لثلاث نساء - والصالون مكان يستقبل فيه الناس من عشاق لون معين من ألوان الفن أو الفكر أو الثقافة - ونازلي فاضل كان صالونها أخطر الثلاثة، كانت نازلي أميرة متحررة من أميرات أسرة محمد علي، تعلمت على الطريقة الغربية، وتخلقت بأخلاق الغرب، وجعلت من بيتها صالونًا، فكان من أكبر زبائنها هو اللورد كرومر الحاكم المطلق في مصر، وكان من رواد هذا الصالون لطفي السيد، وسعد زغلول، ومصطفى فهمي والد صفية زوجة سعد زغلول، ومحمد عبده، وقاسم أمين الذين مثَّلوا في الحقيقة تحولًا خطيرًا في حياة الأمة، وسعد زغلول ( الذي كان من تلاميذ الأفغاني ) [22] ، وهو الذي حوَّل الثورة المصرية ضد الإنجليز من ثورة دينية إسلامية إلى ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين، فقال: الدين لله... والوطن للجميع، بعد عودته من المنفى قبل وقْفِ الثورة على أساس التفاوض مع الإنجليز، وقد قال بعد فشل المفاوضات: "خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز"، و"الإنجليز خصوم شرفاء معقولون"! ورضيت بذلك الجماهير! تحوَّل سعد إلى أسطورة بفضل براعته الخطابية، ومن ثَمَّ نفيه وإعادته إلى الوطن... فتصفق الجماهير إعجابًا للزعيم الكبير [23] . كل هؤلاء الأشخاص أو الرموز وما يمثلونه من أفكار قد شكلوا جسرًا عبرت منه العلمانية إلى بلاد المسلمين، ومن ثَمَّ لم ينجح تطبيق برامجهم في إصلاح الأمة، وبذلك نلاحظ تضافر التحديات الداخلية والخارجية التي أدت إلى إضعاف الأمة الإسلامية، وإخراجها من معادلة التفاعل الدولي، وكيف أن أسباب الضعف الداخلي ترتبط مع الخارج مؤدية إلى حالة التدهور التي وصل إليها العالم الإسلامي، ولم ينفع معها محاولات المصلحين التي بذلت لإصلاح أحواله؛ كونها غير نابعة وغير متناسقة مع عقيدة وواقع الأمة الإسلامية. [1] الإسلام والعلمانية ... تأملات في مستقبل التعددية، لؤي صافي، الفجر نيوز، 28/ 1/ 2010، على الرابط: https://www.turess.com/alfajrnews/26433 . [2] يسألونك عن الشريعة، دكتور صلاح الصاوي، مصر، 1432 - 2011، ص: 94. [3] الدين والهوية إشكالات الصدام والحوار والسلطة، السيد ولد أباه، جداول للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط: 1، 2010، ص: 171. [4] منهاج الإسلام في الحكم، محمد أسد، نقله إلى العربية منصور محمد ماضي، دار العلم للملايين، بيروت، ط: 5، 1978، ص: 52. [5] العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، لؤي صافي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ط: 1، 1416هـ - 1996م، ص: 48. [6] منهاج الإسلام في الحكم، ص: 22. [7] الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ت: 790هـ، 1/ 35، 53. [8] قضايا إسلامية معاصرة، الدكتور محمد الزحيلي، دار المكتبي للطباعة والنشر، سوريا - دمشق، 5/ 634. [9] الدين والهوية إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص: 92. [10] دراسات في حضارة الإسلام، هاملتون جب، ترجمة الدكتور إحسان عباس وآخرون، دار العلم للملايين، بيروت، ط: 3، 1979، ص: 330. [11] حديث عيسى بن هشام، محمد المويلحي، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة - مصر، ط: 4، 2013، ص: 40. [12] هل نحن مسلمون، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط: 6، 1423هـ - 2002م، ص: 117. [13] اللورد كرومر واسمه الحقيقي ايفلن بارنغ 1841 - 1917، وزير مالية الهند 1880 - 1884م ثم مندوب بريطانيا السامي في مصر 1883 - 1907؛ حيث صار الحاكم الفعلي لها، وطد تبعية مصر السياسية والاقتصادية لبلاده؛ [ينظر: الإسلام الذي يريده الغرب، دكتور صالح عبدالله حساب الغامدي، مركز الفكر المعاصر، السعودية، ط: 3، 1436، ص: 179]. [14] الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939، ألبرت حوراني، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت - لبنان، 1968، ص: 195. [15] ينظر: منهج المدرسة الحديثة في التفسير، فهد عبدالرحمن الرومي، 1 / 144 - 149 ومصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، 1/ 346 - 349 نقلًا عن الإسلام الذي يريده الغرب، ص: 180، 181، 187. [16] أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، الدكتور علي محمد جريشة ومحمد شريف الزيبق، دار الاعتصام للطبع والنشر، القاهرة، ط: 3، 1399هـ - 1979م، ص: 204. [17] ينظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط: 1، 1418 - 1997، ص: 314، والإسلام في القرن العشرين حاضره ومستقبله، عباس محمود العقاد، ص: 85. [18] منهج المدرسة العقلية في التفسير، 1/ 75 - 108، وكذلك دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، مصطفى فوزي غزال، دار طيبة - الرياض، ط: 1، 1403ه، ص: 381 - 387، نقلًا عن الإسلام الذي يريده الغرب، ص: 177، 178. [19] أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، ص: 23. [20] واقعنا المعاصر، ص: 243، 245. [21] الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939، ص: 201 - 203. [22] المصدر نفسه، ص: 254. [23] ينظر: واقعنا المعاصر، ص: 308، والفكر العربي في عصر النهضة، ص: 262 - 266، 292 - 294، 304، 307.
صدور كتاب التنجيم وقراءة الأبراج في ميزان الإسلام والعلم الحديث للدكتور راجح السباتين استعراض وتلخيص الكتاب وأبرز ما جاء فيه
سؤالات المحدثين وقيمتها العلمية لسارة العتيبي صدر حديثًا كتاب "سؤالات المحدثين وقيمتها العلمية"، تأليف: د. "سارة مطر ثابت عمر العتيبي"، نشر: "مكتبة الذهبي" في الكويت، و"التراث الذهبي للنشر والتوزيع" في الرياض. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّمت بها الباحثة لنيل درجة الماجستير في الحديث الشريف وعلومه من كلية الدراسات العليا بجامعة الكويت، تحت إشراف أ.د. " السيد محمد السيد نوح "، وذلك عام 1420 هـ - 1999 م. وتهدف هذه الدراسة تمكين الباحثين من معرفة محتوى سؤالات المحدثين، ومعرفة قيمتها العلمية، ومدى تأثيرها على الكتب الأخرى، كما أن كتب السؤالات عند المحدثين تعد مصدرًا من مصادر كتب الجرح والتعديل التي لا ينبغي إغفالها في تطور علوم الحديث. كما أن الحاجة ماسة لدراسة كتب سؤالات المحدثين دراسة تحليلية، واستخراج ما وراء السطور في هيئة قواعد وأصول تفيد الباحثين في مجال الحديث وعلومه، بل وفي مجالات العلوم الأخرى. وقد قامت الكاتبة بتحديد الموضوعات التي جمعتها السؤالات، مع استخراج فوائدها من خلال استقرائها لها، مع مقارنة أجوبة علماء الحديث في هذه السؤالات مع أجوبتهم في غيرها من الكتب؛ لاستخراج الإجابات المختلفة للعالِم، مع بيان سبب هذا الاختلاف. وقسمت الدراسة إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة: بينت الكاتبة في المقدمة: أهمية الموضوع وفوائده، وسبب اختيار الموضوع، ومنهج الدراسة والبحث، مع بيان الجديد الذي سيضيفه هذا البحث إلى المكتبة الحديثية. الباب الأول: سؤالات المحدثين: ماهيتها وحقيقتها: ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: ماهية السؤالات وحقيقتها في الكتاب والسنة. الفصل الثاني: موضوع السؤالات، وفوائدها. الفصل الثالث: نشأة السؤالات، وتطورها، وأشهر مصنفاتها. الباب الثاني: دراسة تحليلية لأشهر كتب السؤالات: وفيه ستة فصول: الفصل الأول: سؤالات يحيى بن معين من كتاب معرفة الرجال، وسؤالات إبراهيم بن عبدالله الجنيد الختلي ليحيى بن معين. الفصل الثاني: سؤالات علي بن المديني من كتاب أسئلة من أبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة لعلي بن المديني. الفصل الثالث: سؤالات أبي حاتم من كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. الفصل الرابع: سؤالات أبي زرعة من كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. الفصل الخامس: سؤالات الدارقطني من كتابي سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني، وسؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدارقطني. الفصل السادس: سؤالات المنذري من كتاب جواب الحافظ أبي محمد عبدالعظيم المنذري المصري عن أسئلة في الجرح والتعديل. الباب الثالث: أثر سؤالات المحدثين على المكتبة الحديثية: وهو يحتوي على أربعة فصول: الفصل الأول: أثر سؤالات المحدثين على الرواة، والجرح والتعديل. الفصل الثاني: أثر سؤالات المحدثين على كتب فقه الحديث. الفصل الثالث: أثر سؤالات المحدثين على كتب علوم الحديث. الفصل الرابع: أثر سؤالات المحدثين على كتب في فنون أخرى. أما الجديد الذي أضافته هذه الرسالة للمكتبة الحديثية: 1- جمع أجوبة العلماء الذين اختلفوا فيها مع الوقوف على أسباب هذا الاختلاف إن وجد، وإلا علَّلت الكاتبة سبب هذا الاختلاف باجتهادها. 2- تقديم إحصاءات بالأرقام بما تحتويه هذه السؤالات من أسئلة. 3- كما نوهت أن هذه السؤالات وإن كانت مشهورة باسم عالم معيَّن إلا أنها تحتوي على أسئلة لعلماء آخرين، ولكن غلب اسم هذا العالم على غيره؛ لكثرة الأسئلة الموجَّهة له في هذا السِّفر. 4- بيَّنت أن سؤالات المحدثين في أغلب مواضيعها عبارة عن أسئلة في الجرح والتعديل، ولكن هناك أسئلة ليست بالقليلة في فروع العلم الأخرى، من تفسير وفلك ولغة وغيرها.
عيسى ابن مريم عليه السلام (4) الحواريُّون هم النُّخبة مِن أتباع عيسى عليه السلام؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]، والحواريون مفردها حواري، وحواريُّ الرجل: صفوته وخلاصته، وهو النصير، والحور في الأصل البياض، ويعني بياض الثياب، أو من يعمل في تبييض الثياب، وهم القصَّارون، وقد مر من قبل أن عيسى عليه السلام عمل في صباه عند أحدهم، ولما بدأ عيسى دعوته انضم إليه هذا القصَّار وأهل مهنته، وهم الحواريون، وورد أن عيسى عليه السلام كان يُطعم الحواريين ويعطي كل واحد منهم طعامًا مختلفًا عن الآخر، فاستمروا كذلك فترة، ثم قالوا: أي الطعام أطيب؟ قصدوا بذلك الطعام الذي كان يوزعه عليهم، فقال عيسى: ما كان من كسب اليد، فانتبهوا لما هم فيه من البَطالة، فعملوا قصَّارين، والله أعلم. وأصبح الحواريون من خاصة عيسى وأتباعه المقربين والملازمين له، الذين يتلقون عنه العلم، ويرسلهم نيابة عنه للدعوة وتعليم الشريعة للمؤمنين، وقد ذُكروا في القُرْآن الكريم في أكثر من موضع، فعندما دعا عيسى بني إسرائيل للإيمان وشعر بعدم استجابتهم وغدرهم، قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 51، 53]. ♦    ♦    ♦ المائدة: وعلى الرغم من أن الحواريين يمثِّلون الصفوة لكن كان لهم أحيانًا طلبات طلبوها من عيسى فيها غرابة، ومثلهم كان ينبغي ألا تكون هذه طلباتهم، ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 111، 112]، هذا طلب عجيب غريب، وقولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ [المائدة: 112] فيه غرابة أكثر، فهل ما زالوا مترددين في الإيمان والتسليم حتى قالوا: ﴿ رَبُّكَ ﴾؟ ولو أن إيمانهم كان قويًّا لقالوا: ربنا، كما أن طرح السؤال وفق هذه الصيغة فيه نوع من الشك بقدرة ربهم، ولو كانوا تمنوا لكان أجدى لهم؛ فإبراهيم قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260]، ولم يقل: أتستطيع أن تحيي الموتى؟ وكان هذا ديدنهم من قبل مع موسى، ولكن عيسى استهجن منهم هذا الطلب؛ فلا يطلبه مؤمن راسخ الإيمان، ألم يقل مؤمنوهم لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ﴾ [المائدة: 24]، ولم هذا الطلب؟ ﴿ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 113]، إذًا ما زال في النفس شيء من دعوة عيسى رغم الآيات الباهرة الواضحة في شفاء المرضى وذوي العاهات المزمنة وإحياء الموتى.. فلمَ هذه المائدة؟ هل سيكون إنزالها أقوى معجزة في اعتقادهم من إحياء الموتى؟ وقيل: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كرِه ذلك منهم، فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء؛ فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود من حين سألوا نبيهم آية فابتُلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها؛ فلذلك قالوا: ﴿ نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ [المائدة: 113]، وأمام هذا الإصرار لم يجد عيسى بدًّا من دعاء الله لتلبية طلبهم؛ لتكون آية عظيمة، جاعلًا منها مناسبة دينية على مدى الزمان، قالوا: فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود وجبة من شَعر وعباءة من شَعر، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام مستقبلًا القبلة وصفَّ قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ووضع اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك، دعا الله، ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المائدة: 114]، وجاءت تلبية طلبهم مشروطةً بتحذير قوي؛ لأنها معجزة ظاهرة مشهودة، جاءت وفق طلبهم، ولكيلا تكون طلباتهم متكررة لمجرد التشهي نريد كذا ونريد كذا بلا ضابط أو التزام، وكل واحد يطلب ما يتخيل ويشتهي، ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115]، قال: فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها أن يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين، وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم ولا تجعلها عذابًا، ثم ذكر أنها كانت مغطاة بمنديل وطلبوا من عيسى كشفه، فكشفه، فإذا عليها حوت كبير مشوي، ويحدق به البقول من كل صنف مع خل وملح وخبز وزيتون وخمس رمانات وبضع تمرات، ثم قالوا لعيسى: ابدأ الأكل لنأكل بعدك - كأنهم خافوا - فقال: معاذ الله أن أبدأ، ليبدأ من سألها؛ فهو أولى، وهنا امتنعوا عن الأكل، فدعا عيسى الفقراء والمرضى ومن به عاهة فأكلوا منها فشفوا جميعًا، واستمرت تنزل أربعين يومًا وقت ارتفاع النهار، ثم بدأ الناس يشككون في أمرها، وقذف الشيطان وساوسه في القلوب حتى مرجوا في أمرها، فرفعها الله، وعذَّب المكذِّبين بأن مسخهم خنازير. هذا ما كان في التفاسير، ولكن سياق الآيات لا يوحي بذلك؛ فالذين طلبوها هم من الحواريين خلصاء عيسى عليه السلام، ومن غير المعقول بعد تعهدهم لعيسى بالتصديق بها وأنها ستكون آية يرون فيها قدرة الله تأتيهم عيانًا من السماء ألا يكونوا قد أكلوا منها، ومعنى عدم أكلهم منها هلاكهم، ولم نسمع بأن الحواريين كانوا أهل شقاق وتكذيب، بل هم مضرب المثل بالطاعة والتقوى والتدين، وتزكيهم آيات كثيرة في القُرْآن، والآية لا تدل على أنهم عذبوا، وإنما شرطت أن من يكفر بعد مشاهدة الآية يعذب، ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115]، وورد في حديث ليس بالقوي: "أنهم أمروا حين أنزلت المائدة ألا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا؛ فمُسخوا قردةً وخنازيرَ". هناك مَن قال: إن المائدة لم تنزل، فعندما علموا الشرط توقفوا عن طلب نزولها وقالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل، وقيل: إن المائدة لم تذكر في كتبهم، لكن رأي جمهور العلماء المسلمين أنها نزلت، وتعد مثل هذه الآياتُ آياتِ امتحان واستدراج، وقد روي أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، "فاختار عليه الصلاة والسلام باب الرحمة والتوبة". أقول فيما ورد بشأن المائدة، حيث ورد " أن الذين طلبوها امتنعوا عن الأكل منها وكذلك عيسى " وإني أشك في هذا القول؛ فالحواريون هم صفوة أتباع عيسى عليه السلام، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 52]، وهل يمتنع مؤمن عن طعام قدمه الله لهم بعد أن طلبوه؟ ولماذا يمتنع عيسى أيضًا عن هذا الطعام؟ فإن مما يقبله العقل أن يُقبِل عيسى وحواريوه على الأكل منها، شاكرين الله على ما أنعم عليهم، متبرِّكين بهذا الطعام الرباني المنزل من السماء، متنعمين بلذته؛ فهو شفاء للأسقام، وعافية للأبدان، ولا يمتنع عن الأكل منها إلا مكابر غير معترف بهذه المنحة الربانية، والمعجزة الخالدة.
استعراض وتحليل نتائج دراسات مخاطر الإنترنت على مستوى الوطن العربي مقدمة: اطلعنا على دراسة لبنانية وهي عبارة عن مشروع وطني بعنوان: "سلامة الأطفال على الإنترنت"، وتعد دراسة وطنية حول تأثير الإنترنت على الأطفال في لبنان، وأجرى هذه الدراسة المركز التربوي للبحوث والإنماء بلبنان بإشراف د. ندى عويجان رئيسة المركز، واستشارة د. روي أبي جودة رئيس جمعية "الإنمائيون اللبنانيون"، وتهدف الدراسة إلى خلق بيئة سلامة عند استخدام الأطفال الإنترنت ومعرفة مشكلة سوء استخدام الإنترنت، ورفع وعي الناس حول فوائد الإنترنت، وتطوير مهارات مقدمي الرعاية للأطفال، وتفعيل دور الدولة في حماية الأطفال عبر الإنترنت، وعائدات أو ما يتوقع من هذه الدراسة: تحديد مستوى وعي الناس، وبناء مادة تدريبية بشأن الاستخدام الآمن، ومساعدة أصحاب القرار في اختيار الحلول لمشكلة الدراسة، وإصدار دليل للمدارس والأهالي والأطفال بهذا الشان، وإدخال المفاهيم بالمناهج التعليمية. تناولت الدراسة في الإطار النظري تاريخ الإنترنت على مستوى العالم وعلى مستوى لبنان، والمخاطر التي تواجه الناس باستخدام مواقع الإنترنت، وفي الإطار الميداني أُجريت استطلاعات رأي التلاميذ (أعمارهم بين 12 و18 سنة) وأهاليهم والهيئة التعليمية وأصحاب مقاهي الإنترنت، بشأن غاية استخدام الإنترنت، ومدة الاستخدام، ووتيرة الاستخدام، وأماكن الاستخدام، وطلب المساعدة بمخاطر الإنترنت والمضايقات ونتائج الدردشات. كذلك استعرضنا بعض نتائج الدراسات التي أجريت في بعض الدول العربية، وهذه النتائج تعكس لنا مخاطر الإنترنت، وحاول الباحثون التأكيد على أن دول العالم - وليست الدول العربية فقط - تعاني من هذه المخاطر، لذا خصصنا قسمًا من التقرير لنتائج هذه الدراسات على مستوى العالم العربي. الأهداف: يهدف التقرير إلى استعراض نتائج هذه الدراسات لمعرفة أهمية وخطورة المخاطر والتحديات التي تواجه سكان البلدان العربية، لا سيما فئات الأطفال والشباب. التعرف على نتائج الدراسات العربية بهذا الشأن، وما تقوم به الدول العربية للحد من هذه المخاطر. تحليل نتائج دراسات سابقة: نتناول في هذا القسم بعض الدراسات العربية التي تتعلق بمخاطر الأجهزة المحمولة؛ بهدف بيان ما يجري في هذه الدول من مخاطر هذه الأجهزة، ومدى أهمية هذه الدراسات لو طُبِّقت نتائجها للحد من هذه المخاطر بعد تعليقنا على هذه الدراسات، وأخيرًا - كما مرَّ ذكر أهداف التقرير - بيان أهمية وخطورة التحديات التي تواجه شعوب الدول العربية عند استخدام الأجهزة المحمولة، مع الحد من هذه التحديات. استعرضت جريدة الحدث الإلكترونية مقالة لكاتب كويتي (24/ 2/ 2020) الذي أكد خطورة الهواتف الذكية على الناس، وأشارت بعض إحصائيات رسمية بالكويت أن غالبية الناس بالكويت تمتلك هواتف ذكية، ويستخدمون الإنترنت، ويدخلون مواقع التواصل الاجتماعي، وأن اشتراكات الهواتف والراوتر تجاوزت ملايين الدنانير، وتطرق الكاتب إلى السلبيات من استخدام هذه الهواتف؛ مثل: حالة الإدمان، وخطورة الإشعاعات الصادرة من هذه الهواتف على صحة الإنسان. أقول: إن امتلاك الناس هواتف ذكية دون توجيه إرشادات كيفية الاستخدام، وتجنب مخاطر بعض التطبيقات، فإنهم سوف يعانون من بعض السلبيات، خاصة الأطفال والشباب؛ مثل: الإدمان، وتأثير إشعاعات هذه الهواتف على صحتهم، ومن ثَمَّ فلا بد من إلزام شركات الاتصالات، ومزودي الإنترنت بإعطاء كتيب ودليل إرشاد وتوعية لمستخدمي هذه الهواتف. أجرى د. محمد حيدر من كلية العلوم بجامعة الكويت استطلاعَ رأيٍ بشأن قياس كفاءة خدمة الإنترنت في دولة الكويت 2020م، تبين أن صرف الطالب على الإنترنت تجاوز 150 دينارًا، ناهيك عن شراء الأجهزة اللوحية لاستخدامها في التعليم عن بُعْدٍ بعدَ انتشار جائحة كورونا. أقول: طالبت الدراسة وزارة المواصلات أو شركات الاتصالات أو مزودي خدمة الإنترنت بتوفير أفضل وأجود خدمة لطلبة وموظفي الجامعة؛ ليعود ذلك إيجابًا على كفاءة العملية التعليمية، وأظن أن على وزارة المواصلات أن تجبر شركات الاتصالات على خفض سعر وتكلفة الإنترنت، خاصة لطلبة المدارس والجامعات التي تدرس عبر التعليم عن بعد. كشف تقرير حديث صدر عن مؤسسة هوتسويت ( Hootsuite ) الكندية بشأن واقع العالم الرقمي للعام 2019 عن أرقام مثيرة للاهتمام؛ من أبرزها أن ثمة فارقًا كبيرًا في مدة استخدام الإنترنت على الهواتف المحمولة بين الدول النامية - ومنها الدول العربية - والدول المتقدمة، فالأُولى تفوق الثانية بأكثر من ساعة ونصف يوميًّا على الأقل، وذلك بالنسبة للفئة العمرية 16 - 64 عامًا؛ [موقع الجزيرة]. أقول: يؤكد هذا التقرير على تقليل من مدة استخدام الإنترنت؛ وذلك كي يخفف الناس لا سيما فئة الأطفال والشباب من استعمال الأجهزة المحمولة، وذلك من طرح أسبوع خالٍ من الإنترنت والأجهزة المحمولة على مستوى الدولة وهيئاتها والقطاع الخاص، مع تطبيق بدائل مثل الأنشطة البدنية (اللعب ومسابقات الركض وركوب الدراجة...). دراسة "هل يؤثر الإنترنت سلبًا على التحصيل الدراسي للطالب؟": دراسة (رافيزا، سوزان) أُجريت في الأردن، موقع الغد فبراير 2017، يشتكي الوالدان من كثرة استخدام الأطفال للأجهزة المحمولة، وحالة الإدمان التي أصابت أطفالهم، وكيف أثر ذلك على الطلبة دراسيًّا؛ لذا فإن بعض الأولياء يمنعون استخدام أطفالهم للإنترنت أثناء الامتحان، بعد أن انخفضت درجات الطلبة بالامتحان، وبعض الآباء يضعون شروطًا لاستخدام الإنترنت بعد إهمال أطفالهم للواجبات المنزلية، وهناك من الأطفال من حُرم النوم نتيجة استخدام الأجهزة المحمولة ليلًا، لأن إشعاعات هذه الأجهزة تمنع من إفراز هرمون المولامين الذي يمنح الجسم استرخاء وراحة أثناء النوم، وأيضًا تمنع هذه الأجهزة انتباه وتركيز لدى الطالب أثناء الدراسة وشرح المعلم. أقول: صحيحٌ أن لدور أولياء الأمور أهميةً في إرشاد أطفالهم؛ حتى لا يعانوا من حالة إدمان استخدام الأجهزة المحمولة، لكن حسب الدراسات التي تُجرَى في الدول العربية والدول الغربية، فإن هذه الإرشادات قد لا تُجدي ما لم يُفتح باب الحوار والمناقشة مع الأطفال والمراهقين. حملة مواجهة إدمان أطفال غزة (أغسطس 2019): أطلق فريق من الاستشاريين والمرشدين التربويين في غزة حملة لمواجهة إدمان الأطفال على الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية، بعدما تنبؤوا بخطورة الانعكاسات السلبية على سلوكيات الأطفال، وسط ملاحظة كبيرة للأطفال في المدارس، والسلوكيات العامة التي استنبطوها خلال متابعتهم بمشاركة أولياء أمورهم ضمن جلسات مستمرة، وهذه الحملة وصلت إلى (15) دولة عربية. دراسة "إدمان الإنترنت وعلاقته بالتواصل الاجتماعي والتحصيل الدراسي لدى طلبة جامعة نزوى"، (سلطنة عمان، 2014)، الباحثة/ أمل بنت علي ناصر الزيدي. وهي رسالة ماجستير، وتهدف الدراسة إلى التعرف على العلاقة بين إدمان الإنترنت وكلٍّ من التواصل الاجتماعي والتحصيل الدراسي لدى طلبة جامعة نزوى، واستخدمت الباحثة مقياس إدمان الإنترنت ومقياس التواصل الاجتماعي على أفراد العينة من الطلاب والطالبات بالجامعة ويعاني 9،7% منهم من هذا الإدمان. أقول: نحن نؤيد عقد وتنظيم حملات توعية وإرشاد بشأن بيان سلبيات ومخاطر وإدمان استخدام الهواتف الذكية، ولكن أيضًا ضرورة التعاون والتنسيق الجاد بين الدول، وجعل هذه الحملات مستمرة مرتين كل عام، لا سيما في المدارس والجامعات. مجلة أسيوط للدراسات البيئية - العدد التاسع والعشرون (يوليو ٢٠٠٥): "التأثيرات الصحية الناجمة عن شبكات التليفون المحمول في التجمعات السكانية"، الأستاذ الدكتور/ أحمد محمد محمود حاني، أستاذ الصحة العامة والطب الوقائي وطب الصناعات، كلية الطب - جامعة أسـيوط، كشفت الدراسة عن خطر الأمواج الكهرومغناطيسية على صحة الإنسان، وأنواع هذه الأمواج الصادرة من أبراج الراديو والتلفاز والأجهزة المحمولة، وتتمثل أهم هذه المخاطر في اضطرابات في القلب، واضطرابات النوم والتعب المزمن، والإصابة بالسرطان، واضطراب في نشاط المخ، وتهتُّك الكروموزومات، وموت الخلايا، وانخفاض كفاءة جهاز المناعة، والتشويش على أجهزة القلب لمرضى القلب. أقول: أجرى هذه الدراسة أستاذ الصحة العامة والطب الوقائي في كلية الطب بمصر، وللتأكيد على مخاطر الأمواج الكهرومغناطيسية على صحة الإنسان، لا سيما في مصر، وبيان جهود الدول الغربية للتقليل من هذه الأمواج، والاستفادة من هذه الجهود. تحليل بعض آراء أفراد العينة في الدراسة اللبنانية: التوعية في المدارس حول سوء استخدام الإنترنت: أُعطي 49 من أصل 335 مديرًا ومعلمًا؛ أي: ما يعادل 14،6% من الهيئة التعليمية محاضراتٍ حول سوء استخدام الإنترنت؛ لذا نلاحظ أن نسبة المديرين والمعلمين ضئيلة جدًّا مقارنة مع أهمية الموضوع. أقول: إن نسبة التوعية بالمدارس في بقية الدول العربية بشأن سوء استخدام الإنترنت أيضًا ضئيلة؛ حيث إن المناهج التعليمية في الدول العربية لا تتطور بالسرعة المطلوبة، بل تجد أن كثيرًا من المعلومات والحقائق لم تتغير في المواد الأدبية، عكس المناهج التعليمية بالدول الغربية التي تمتاز بالمرونة والتجديد، وإعطاء صلاحية لمديري ومعلمي المدارس بتطوير التعليم، ثم إن الدول العربية لا تعتمد بشكل موسع على نتائج وتوصيات الدراسات المتعلقة بسلبيات الأجهزة المحمولة التي تُجرى في مجال التعليم؛ فمع أن هناك كثيرًا من الدراسات التي أُجريت في الدول العربية بشأن مخاطر الإنترنت، ولكن لم نسمع عن بناء مادة دراسية تتناول هذه المخاطر، وفي هذه الدراسة اللبنانية نجد أن هناك قلة من المحاضرات تُقدَّم للطلبة، هذا وقد اقترحنا مقترحَين: مقترح إدخال موضوعات سوء استخدام الطلبة أجهزة التكنولوجيا، ومقترح بناء مقرر دراسي باسم سلبيات أجهزة التكنولوجيا، كذلك أجرينا استطلاع رأي أولياء الأمور بشأن بناء مقرر دراسي بالمدارس والجامعات بدولة الكويت، واستطلعنا رأي أولياء الأمور حول بناء مادة دراسية بالمدارس والجامعات، وأشارت الدراسة إلى أهمية هذه المادة في حياة الطلبة، وفي مقال لنا مترجم بعنوان: "منهج مدرسِيٌّ ضد العنف بالمدارس"، 2009م، طرح في ولاية ستايل مشروع شامل لتأليف مواد دراسية تركز على الاستخدام الآمن للإنترنت بشكل خاص، وتجنب التسلط عبر الإنترنت، 2012. تحت عنوان المؤثرات: يسهم الإنترنت في تحسين العلاقات، وشد الأواصر بين الطلبة، ذكر طالب في الصف الثالث الثانوي أنه من الصعب أن أمضيَ الكثير من الوقت مع أصدقائي في الخارج؛ وذلك بسبب الدراسة، ولكن لا بد من التواصل معهم، وبوجود الإنترنت حُلَّت المشكلة؛ فهو الوسيلة المثلى للتواصل مع الأصدقاء أينما كانوا، عبر MSN وفيسبوك دون الاضطرار إلى الخروج من المنزل. تعرَّف على فتاة عبر الإنترنت بعنوان التعارف والصداقة، وبعد فترة استدرجها واغتصبها، وبدأت المحاكم وما زالت مستمرة. أقول: الصداقة مهمة جدًّا في حياة الأطفال والمراهقين، فقبل عصر الإنترنت يقضي الأطفال والمراهقون وقت اللعب خارج المنزل مع أصدقائهم، ونادرًا ما تجد طفلًا لا يلعب مع زملائه، وإلا فهو معقد نفسيًّا كما يُطلَق عليه، ولكن مع اختراع الإنترنت وألعاب الفيديو، فقد قلت حركة خروج الأطفال من المنازل، ومن ثَمَّ كان الطفل يصادق أصدقاء أثناء الدردشة والمحادثة، أو أثناء ممارسة الألعاب الإلكترونية، وهذا مؤشر خطِرٌ عندما يُهمَل الطفل، ويتركه الوالدان مع أجهزة الشاشة لساعات طويلة، وقد يصادق الطفل أو المراهق من الجنسين زميلًا له وفي سنه، لكنه يكتشف هو أو أهله أن طفلهم قد صادق شابًّا أو رجلًا، وذلك بعد الاعتداء جنسيًّا عليه. في دراسة مترجمة لنا بعنوان: "كيفية حماية الأطفال من مفترسي الإنترنت"، فإن مستخدمي الإنترنت في سن المراهقة هم الشريحة الأسرع نموًّا بين مستخدمي الإنترنت، هؤلاء المراهقون معرضون لخطر الاعتداء الجنسي من المحتالين عبر الإنترنت، وهناك أسباب وراء هذا التحرش الجنسي مثل: نقص الدعم الأبوي، عدم الكشف عن هويته على الإنترنت، الشعور بالوحدة لدى المراهقين، مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، شخصية المراهق (الانطوائية والانبساطية)، تمرد المراهقين، حاجة المراهقين للعلاقات، الإشباع الفوري بين المراهقين، تدني احترام الذات لدى المراهقين، تحسين الدعم الأبوي، وتحسين التعليم، وإنفاذ القانون، والظروف الإضافية التي أدت إلى ظاهرة الاعتداء الجنسي على الإنترنت للمراهقين. على الصعيد النفسي: تعلقت فتاة بأحد الشبان من خلال الدردشة واستمرت العلاقة 3 سنين، والصدمة الكبرى علمت الفتاة أن هذا الشاب فتاة تحب الدردشة مع الفتيات، وأُصيبت بالاكتئاب، وتراجعت في تحصيلها الدراسي، واحتاجت إلى تدخل خارجي كجلسات علاج نفسي. قال أحدهم: دخلت في غرفة الدردشة للتعارف، فوجدت أنهم يعرضون صورًا إباحية لهم ويطلبون بالمقابل أن نعرض صورًا لنا. وقالت فتاة: في بداية استخدامي للإنترنت تعرفت في أحد الأيام على فتاة، وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حاولت تلك الفتاة التواصل معي عبر sms بهدف إغوائي، ودفعي بارتكابي الفاحشة، والقيام بأشياء غير أخلاقية، وصولًا إلى ابتزازي، والحصول على رصيد لهاتفها، وبعد جدال طويل وعناد مني في الحديث معها، اعتذرت إليَّ، واعترفت أنها شاب كان يحاول الحصول على مال ورصيد للهاتف، وشكرني على أخلاقي. قال أحد الوالدين: إن الطفل يتصفح الإنترنت، أو يلعب لعبة إلكترونية، فتظهر له فجأة صور إباحية لفتيات. أقول: ذكرنا في دراستنا سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي: حذَّر مدير إدارة حماية الأحداث في وزارة الداخلية بدولة الكويت من مغبة الجرائم الإلكترونية، نتيجة لتعدد أشكالها وتنوع مخاطرها على أفراد الأسرة كافة، مشيرًا إلى أن متوسط أعمار مشاهدي الأفلام الإباحية في الكويت أقل من 10 سنوات، بينما متوسط أعمال الأطفال عالميًّا ما بين 15 و17 سنة، وذكر وجود مواقع كثيرة، منها مواقع مشهورة تبث الأفلام الإباحية من أجل الربح المادي، وقد يلجأ منظمو المواقع الإباحية إلى بعض شخصيات رسوم كرتونية محببة للأطفال تُستَغَل لاصطيادهم للمواقع الجنسية، و25% من الأطفال اعترفوا بتعرضهم لهذا الابتزاز. أقول: أجرينا دراسة "غرفة الدردشة: سلبيات... حلول 2012"، وتشير إلى أن معظم الشباب من الجنسين يدخلون غرفة الدردشة، ومن أسباب وقوع الشاب في المحظور الوازع الديني، وفقدان الحوار بين الشاب وأهله، وانعدام الصراحة بين الشاب وأهله، وضبابية مفهوم الاختلاط بين الشباب؛ فمثلًا قالت إحدى الفتيات: استخدمت الإنترنت (غرفة الدردشة/ التعارف)، فتعرفت على شخص، وتحدثنا بعض الوقت، وبعدها بدأ يطلب مني أن أقوم بأشياء غريبة وغير أخلاقية، وجنسية فاضحة، فقمت بصدِّه وحذفه من لائحة أصدقائي، ولم يتوقف عند هذا الحد؛ لأن والدي كان يضع برنامج تجسس على الحاسوب، وعندما قرأ ما دار بيني وبينه، ما كان منه إلا أن منعني من استخدام الحاسوب والإنترنت. قضية إدمان استخدام مواقع التواصل الاجتماعي: أشعر أحيانًا أنني مدمنة على استخدام الإنترنت، ولا يمكنني العيش من دون الإنترنت، وأشعر أني أموت عند انقطاع الإنترنت قليلًا، وأشعر بالتوتر وأكلم رفقائي لأعلم ما يدور في حسابي في فيسبوك. أصبحت اليوم في وضع لا أُحسد عليه من الناحية الاجتماعية، فأنا إنسان يفتقر لمعنى الحياة الاجتماعية في حياتي التي تقوم على التوحد، فلولا وجود المدرسة التي لا بد من ارتيادها، لكنت اليوم في غرفة مقفلة أداعب جهازي المحمول طول النهار، ناهيك عن التفكك العائلي الذي وصلنا إليه اليوم، فجميع أفراد عائلتي مدمنون على الإنترنت، فلا نجد وقتًا للتحدث، ولا نمضي أوقاتًا عائلية بكل معنى الكلمة، وإن حدث، فالكل يضع المحمول في حِضنه. أقول: ظهر مصطلح "الإدمان الإلكتروني" حديثًا في عصر الإنترنت، ويعني هذا المصطلح: عدم قدرة النفس على مقاومة تصفح المواقع الإلكترونية، مع ترك الأمور الضرورية دون إنجاز، وتمت مناقشة مسألة هذا الإدمان في المؤتمرات العلمية والطبية، وتوصل العلماء أن الدماغ يستجيب لأجهزة التكنولوجيا بنفس الطريقة التي يستجيب لها للمواد المخدرة التي تسبب الإدمان؛ لذا مع ضرورة استخدام الأجهزة المحمولة في مجال العمل والدراسة، فإن الإدمان على استخدام هذه الأجهزة تشكل تحديًا في عصرنا هذا؛ إذ إن ألعاب التسلية الإلكترونية عامل أساس في إدمان الأطفال والشباب، وبدأت بعض الدول تضع برامج لعلاج هذا الإدمان، بل واهتمت مراكز الرعاية الصحية والنفسية الخاصة أيضًا. الجرائم الإلكترونية: وفقا للرائد المهندس "سوزان الحاج حبيش" رئيس مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، وحماية الملكية الفردية في لبنان، وبعد إجراء إحصاء على المحاضر التي تمت معالجتها خلال الأعوام الثلاثة الماضية في هذا الموضوع، تبين أن جرائم المعلوماتية التي يقع ضحيتها الأطفال نسبتها أكبر من الجرائم التي ترتكبونها وأخطر. ورد خلال هذه الأعوام إلى مكتب 42 مِلفَ شكاوى ومحاضر بموضوع: 1- قرصنة المواقع الإلكترونية، والدخول في صفحات الأصدقاء عبر فيسبوك، وطلب دولارات هاتفية. 2- انتحال صفة وتشويه سمعة. 3- تهديد وقدح وذم وتشهير وكلام بذيء عبر الإنترنت. 4- تركيب صور إباحية للفتيات ونشرها. كما وردت 24 معاملة من الإنتربول شديدة الخطورة؛ كونها تتضمن قيام أشخاص بالتحرش الجنسي، ونشر صور إباحية للأطفال عبر الإنترنت، وهذه المعاملات من دول عديدة: كندا، إيطاليا، بريطانيا، روسيا، فرنسا، إيرلندا، بيلاروسيا. نسبة جرائم المعلوماتية التي يرتكبها الأطفال، ويقعون ضحيتها في تزايد؛ نظرًا لتزايد عدد المشتركين في الإنترنت، ولغياب رقابة فاعلة. أقول: ظهر مصطلح الجرائم الإلكترونية حديثًا أيضًا في عصر الإنترنت، وقد يرتكب مستخدم الجهاز أو الهاتف المحمول جريمة أو أكثر من جريمة، دون أن يشعر بذلك؛ لأنه يجهل أن سلوكه وفعله يعد جريمة من الناحية القانونية، وكذلك يجهل التشريعات والقوانين المتعلقة بتنظيم هذه الجرائم، نجد أن أكثر التشريعات قد سُنَّت لمخالفة وتجريم الكبار وارتكابهم هذه الجرائم، بينما نجد أن الأطفال دون السن (18) قد يرتكبون نفس هذه الجرائم دون أن يُعاقَبوا، ولو أن هناك تشريعاتٍ لجرائم الأحداث، لكن أكثرها تتناول الجرائم غير الإلكترونية، خاصة في أكثر الدول العربية، هذا ونجد أن أكثر الجرائم الإلكترونية التي يرتكبها هؤلاء الأطفال التسلط عبر الإنترنت، أو العنف الإلكتروني؛ ومن صور وأشكال هذا التسلط: تهديد وقدح وذم وتشهير وكلام بذيء عبر الإنترنت، وبدأت بعض الدول الغربية في إدخال قضايا التسلط عبر الإنترنت بالمناهج المدرسية والجامعية، بينما نادينا مرارًا بإدخال الجرائم الإلكترونية التي يرتكبها طلبة المدارس؛ مثل: الإساءة إلى زملائهم ومعلميهم عبر الإنترنت، بالمناهج المدرسية. على الصعيد الدراسي: بصفتي مدير مدرسة تبين لي أن بعض التلاميذ يتغيبون عن المدرسة من دون عذر رسمي، وتبين فيما بعد أنهم يداومون في مقاهي الإنترنت من دون علم الوالدين، أو إدارة المدرسة، مع اعتقاد الوالدين أن أبناءهم بالمدرسة، واعتقاد المدرسة أنهم في المنزل. أقول: مقهى الإنترنت عبارة عن صالةٍ تشبه المقهى العادي، ولكنها تحتوي على أجهزة حواسيب منفصلة وملحقاتها، تؤمن خدمة الاتصال بشبكة الإنترنت مقابل مبلغ مادي معين على الأغلب، وتكون هذه الخدمة عامةً وغير محصورةٍ بفئةٍ محددةٍ من الناس، ويهدف صاحبها للتجارة والاستثمار، ويمكن للمستخدمين الاشتراك شهريًّا، أو أسبوعيًّا، أو بالساعة حسب الرغبة، وحسب الخدمة المقدمة من المقهى. من سلبيات هذه المقاهي على الأطفال والشباب: إضاعة وقتهم خاصة عندما يتغيبون عن المدرسة أو في فترة المساء؛ حيث إن هناك مقاهيَ تفتح أبوابها على مدار الساعة، ويرتكب هذه الفئات العمرية جرائم إلكترونية وهم في مقاهي الإنترنت دون رقيب، كذلك موت بعض الشباب إثر مواصلة اللعب عبر الإنترنت أكثر من يوم. تحت عنوان الاقتراحات: على صعيد الأهالي: كنا نضع الحاسوب في غرفة الجلوس (الصالة)، وهذا يشكل قيدًا على الأطفال في حال استخدام الإنترنت بطريقة غير سليمة، وأما الآن فقد أصبحت الهواتف الذكية موصولة بالإنترنت، ولا سبيل لمراقبتهم. لحماية ابني من الإنترنت، أسعى لكي أوقف الإنترنت بالمنزل، ولكن للأسف هذا لا يمنع ابني من الذهاب لأي مكان فيه الإنترنت، أو تنزيل خدمة محمول (الإنترنت) على هاتفه، يقول أحد الوالدين: عشت تجربة مرة مع ولديَّ الكبيرين، فكانا يتصفحان المواقع غير الأخلاقية ليلًا، ويلعبان البوكر؛ لذا أوقفت الإنترنت في المنزل لأتمكن من تربية ولديَّ الآخرين، وأتفادى ما حصل سابقًا. أقول: في بداية ظهور الأجهزة المحمولة والمرتبطة بالإنترنت كان الناس - لا سيما أولياء الأمور - يتجاهلون سلبيات ومخاطر مواقع الإنترنت عليهم وعلى أطفالهم، ومع ظهور سلبيات أكثر وانتشار الدراسات التي تحذر أولياء الأمور من مخاطر المواقع الكثيرة بالشبكة العنكبوتية - فقد بدأ بعض الأولياء يضع الجهاز في غرفة الجلوس، ولكن مع ظهور الهواتف الذكية والمرتبطة بالإنترنت، فَقَدَ الأولياء السيطرة على أطفالهم مع استخدام الأطفال لهذه الأجهزة ومميزاتها، ومعرفة أكثر من والديهم، وفي المقابل ابتُليَ الكبار والصغار بإدمان استخدام الأجهزة المحمولة. على صعيد المدرسة: تم استدراج إحدى الفتيات إراديًّا عبر موقع سكايب ( Skype ) وطُلب منها كشف الحجاب، وأقنعها الشاب بأنها أصبحت زوجته، والدليل على ذلك قول عقد الزواج: (زوجتك نفسي...)، وجعلها تقوم بعرض إباحي كامرأة متزوجة، وسجَّل هذه المشاهد على أشرطة فيديو، وتاجر بها ونشرها على صفحات الإنترنت، وأنشأ موقعًا باسمها. بصفتي مدير مدرسة، وخلال مراقبتي لتلامذة مدرستي، تبين لي أن بعضهم يتغيب عن المدرسة من دون عذر، ويداومون في مقاهي الإنترنت من دون علم أهاليهم أو إدارة المدرسة، وأيضًا تمكنت تلميذة من إدخال هاتف إلى الصف، وصورت المعلمة دون علمها، ونشرت الفيلم عبر فيسبوك، وكانت النتيجة أن حُوِّلت التلميذة إلى مجلس تأديبي، وذلك بعد إجبارها بسحب الفيلم والاعتذار للمعلمة، ولاحقًا تم اكتشاف قرص مدمج يحوي عروضًا إباحية تم تحميلها عبر الإنترنت، وكان التلاميذ يتداولونها، فما كان منا إلا أن سحبنا القرص المدمج وأجرينا اللازم. أقول: إن الرقابة على الأطفال من الجنسين مطلب مُلِحٌّ، وضرورة قصوى مع كثرة الحوادث المؤسفة التي نسمع عنها عبر الشبكة العنكبوتية، والأدهى من ذلك تغيير المفاهيم التي يغرسها الكبار في الصغار؛ لذا نسمع أن الأطفال (جيل الإنترنت) تغيرت المفاهيم عندهم، حتى المفاهيم والعادات والثقافات التي تربى عليها آباؤهم نسَوها في قبالة مفاهيم وثقافة الإنترنت، وبدأت بعض المواقع الإلكترونية تدعو الفئات الشابة إلى التمرد على الأديان وأخلاقياتها وعادات وتقاليد المجتمع. أثر استخدام الإنترنت على تحصيل الأطفال الدراسي، فعندما يأتون إلى المدرسة فإنهم غير قادرين على التركيز بسبب قلة النوم ليلًا بالمنزل. أقول: ذكر الباحثون مع بداية ظهور سلبيات مواقع الإنترنت والهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت عدمَ وضع الأجهزة المحمولة والتلفاز بغرف الأطفال، ويجب أن توضع في صالة الجلوس؛ كي يُراقِبَ الوالدان أطفالهم ويحموهم من مخاطر المواقع المشبوهة، ويتبين أن وجود الأجهزة في غرف الأطفال وسهرهم طوال الليل جعل بعضهم لا يستطيع التركيز في الفصل وهو بالمدرسة، ويشعر بالنعاس، ولعل بعض الدراسات تشير إلى شكوى المعلمين من بعض الطلبة الكبار بعدم الانتباه أو التركيز عندما يشرحون الدروس لطلبتهم. مراقبة الأهل أطفالهم عبر الإنترنت: جاء ذلك في الاقتراحات على صعيد الأهالي: توجد برامج وتطبيقات يمكن مساعدة أولياء الأمور من خلالها حماية أطفالهم: ما يسمح به من تحميل: الموسيقى، الأفلام، الألعاب عبر downloads . مراقبة تاريخ تصفح المواقع، برامج مراقبة الأهل التي يمكن الحصول عليها من قبل مشغل الإنترنت: Internet Service Provider ISP . تحديد أوقات استخدام الإنترنت والمدة وضبطهما. مراقبة الأطفال عند استخدام الإنترنت إما بصورة مباشرة أو من خلال استخدام برامج الفلترة والمراقبة الأبوية Filtering and parental control التي تسمح بمراقبة البرامج غير المرغوبة وتصفيتها. تحذير الأطفال من التواصل مع أشخاص غرباء، وعدم إرسال أية صورة للعائلة أو معلومات خاصة بها، أو استخدام الكاميرا خلال المحادثة. تفعيل الخط الساخن التابع للدولة لشكاوي الناس حول ما يتعرضون له من مشكلات عبر الإنترنت، والحد من هذه المشكلات. وضع دليل شامل لأولياء الأمور عن مخاطر الإنترنت والاستخدام الآمن. وضع دليل شامل لإدارة المدرسة والمعلمين عن مخاطر الإنترنت والاستخدام الآمن. أقول: بعد تزايد معدلات مخاطر مواقع الإنترنت، أخذت الدول تضغط على شركات الاتصالات والإنترنت على بناء برامج حماية للناس، ولكن للأسف نجد أن هذه البرامج قليلة جدًّا على مستوى الدول العربية، ولذا بدأ التعاون بين دول العالم في مجال توفير الحماية عبر مواقع الإنترنت، وذلك ببناء برامج وتطبيقات حماية على مستوى مرافق الدولة والمدارس، والجهات الأهلية والأهالي. تشير نتائج الدراسة اللبنانية أن أقل من نصف عدد الأهالي يراقبون أطفالهم عند استخدام الأجهزة المحمولة، وأكثر من نصف عدد الأهالي يعلمون ما يفعله أطفالهم، ومع تحذير الأهالي والمعلمين وغيرهم لطلبة المدارس بمخاطر مواقع الإنترنت، فإن هناك مخاطرَ حقيقية يعاني منها هؤلاء الطلبة، وبعضهم يجهل خطورة هذه المخاطر عليهم، وتؤكد الدراسة على ضرورة المراقبة والحماية الذاتية لدى الأطفال بعد تحذيرهم وتوعيتهم من قبل الأهالي والمدرسة، لماذا؟ وكما ذكرنا في إحدى حلقات بشأن نصائح أولياء الأمور بالحد من هذه المخاطر في موقع اليوتيوب أن الأطفال يلعبون بالنار؛ لأن النار تحرق من يقترب منها، كذلك الإنترنت من يدخل بعض مواقعه، فإنه عرضة لمواجهة هذه المخاطر. الختام: مع تزايد استخدام الناس للأجهزة المحمولة، فإن هناك تحديات تواجههم وتشكل خطرًا عليهم، ولأن شبكة الإنترنت أصبحت شبكة عالمية تتداول بين دول العالم، فإن هذه التحديات توجد في هذه الدول دون استثناء، ولذا تحاول الدول التغلب على هذه التحديات لا سيما الدول الغربية، التي شهدت أولًا الطفرة العنكبوتية (الإنترنت)؛ بسبب كثرة الجرائم الإلكترونية، ثم بدأت بقية الدول تباعًا تستفيد من تجارب الدول الغربية في هذا المجال، ومنها الدول العربية، لكن يرى الباحث أن جهود الدول العربية ليس بالطموح المطلوب، ولعل هذا التقرير الذي بين أيدينا يهدف إلى أهمية الاستفادة من الدول لمواجهة المخاطر التي تواجه الصغار والكبار، وتم تناول هذه التحديات والقضايا في هذا التقرير؛ مثل: إدمان استخدام الأجهزة والهواتف، وخطورة الإشعاعات الصادرة من الأجهزة، والتكلفة المالية على شراء الأجهزة وخدمة الإنترنت، وأهمية البدائل والحلول للتقليل من استخدامات الأجهزة، وانخفاض أداء الطلبة بالمدارس والجامعات بسبب استخدام الأجهزة، وقلة برامج التوعية والإرشاد على مستوى الدول العربية عن مخاطر مواقع الإنترنت، وأهمية بناء مادة دراسية لتوعية الطلبة بمخاطر وتحديات الأجهزة، وأهمية عقد الصداقة في حياة الأطفال والشباب، والتحرش أو الاعتداء الجنسي والتسلط عبر الإنترنت. المصادر: ♦ حيدر، محمد، قياس كفاءة خدمة الإنترنت في دولة الكويت، من كلية العلوم بجامعة الكويت، 2020. ♦ سعادة، جاد، سلامة الأطفال على الإنترنت في لبنان، المركز التربوي للبحوث والإنماء، 2019. ♦ الزيدي، أمل، دراسة إدمان الإنترنت وعلاقته بالتواصل الاجتماعي والتحصيل الدراسي لدى طلبة جامعة نزوى (سلطنة عمان، 2014). ♦ رافيزا، سوزان، دراسة هل يؤثر الإنترنت سلبًا على التحصيل الدراسي للطالب؟ عمان، الأردن 2017. ♦ دراسة (حاني، أحمد) التأثيرات الصحية الناجمة عن شبكات التليفون المحمول، مجلة أسيوط للدراسات البيئية، العدد 29، كلية الطب، جامعة أسيوط، يوليو 2005 . ♦ منهج مدرسي ضد العنف بالمدارس، 2009 م، طرح في ولاية ستايل مشروع شامل لتأليف مواد دراسية تركز على الاستخدام الآمن للإنترنت بشكل خاص تجنب التسلط عبر الإنترنت. ♦ حملة مواجهة إدمان أطفال غزة (أغسطس 2019). ♦ Rodney Alexander , How To Protect Children From Internet Predators: A Phenomenological Study Article in Studies in Health Technology and Informatics. ♦ سبتي، عباس، سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي واقع... نتائج... طموح، مارس 2021. ♦ سبتي، عباس، دراسة غرفة الدردشة: سلبيات... حلول 2012. ♦ سبتي، عباس، استطلاع رأي أولياء الأمور بشأن بناء مقرر دراسي بسوء استخدام الأجهزة المحمولة، يناير 2021.
محاضرات في شرح الموطأ لإلياس دردور صدر حديثًا الجزء الثاني من كتاب " محاضرات في شرح الموطأ "، تأليف: د. " إلياس دردور "، نشر: " دار ابن حزم للنشر والتوزيع ". ويحوي هذا المجلد تكملة شرح كتاب " الموطأ " الذي بدأه د. " إلياس دردور "  كدورة علمية، في صورة محاضرات مرئية في شرح هذا السفر الجليل كان يلقيها على طلابه كلَّ يوم أحد بجامع السلام بخزامة سوسة بتونس الخضراء، وهذه الدورة العلمية كان يلقي محاضراتها تحت عنوان " سلسلة روائع البيان فيما وقع في الموطأ من المعاني والأحكام ". وجدير بالذكر أن الجزء الأول المطبوع من تلك المحاضرات في شرح الموطأ قد صدر عن نفس الدار عام 2018 م. و" الموطأ " من أشهر كتب الحديث، وهو من تصنيف الإمام " مالك بن أنس " الحميري، الأصبحي، المدَني، إمام دار الهجرة، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة، وهو من أهمِّ ذخائر كتب الحديث المدونة، ومن أقواها متنًا، وأعلاها سندًا، وأغزرها فقهًا؛ ولذا تلقَّاه عنه خلق من تلامذته، ونشروه في الآفاق، وحرص المصنِّفون في السنن والآثار على رواية الكثير من مروياته من طرق كثيرة، وروايات متنوعة، كما تناوَلَه بالخدمة جم غفير من المحدثين والفقهاء، تمثَّل في شرحه، وتفسير ألفاظه، واختصاره وتهذيبه، وبيان أطرافه، ووصل منقطعاته وبلاغاته، وتوضيح رجاله وأسانيده، وغير ذلك. وكان لعلماء الأندلس وأهل المغرب النصيبُ الوافر في خدمة هذا الكتاب العظيم، فألَّفوا فيه تآليفَ كثيرة، استعرضها بعض المؤلِّفين قديمًا وحديثًا. ويضم هذا الشرح للدكتور " إلياس دردور " فوائدَ ولطائف في تفسير كلام الإمام مالك، وشرح غريب الألفاظ، مع استنباط الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وتكملة باب العبادات، وأحكام الأسرة والمعاملات. ولا تخلو تعليقات الأستاذ "إلياس دردور" من تفسير لُغَويٍّ، أو تَوْجِيه نحْويٍّ ضمن تعليقاته على أبواب كتاب الموطأ، مع شرح لألفاظ الأبواب، وبيان مسائلها، والأحكام المستفادة من الباب، مع ذكر أقوال الأئمة المالكية في اختياراتهم الفقهية، والكتاب بشكل عام يعدُّ مدخلًا ميسرًا لمن أراد التوسع في البحث في الفقه المالكي من خلال الكتاب الأشهَر لإمام المذهب " مالك بن أنس ". والمؤلف هو د. "إلياس دردور" أستاذ محاضر ورئيس قسم الشريعة والقانون بالمعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة، وأستاذ زائر في فقه المعاملات المالية لقسم الماجستير بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس. له مهام في عديد من المؤسسات المالية؛ فهو نائب رئيس هيئة مراقبة معايير الصيرفة الإسلامية لبنك البركة بتونس، وعضو هيئة الرقابة الشرعية بشركة الأمانة تكافل، وعضو هيئة الرقابة الشرعية بمؤسسة الزيتونة تمكين للتمويل الأصغر. من مؤلفاته: • "تاريخ الفقه الإسلامي دراسة تأريخية - نظرة تحليلية - مقاربات نقدية في تاريخ الفقه الإسلامي ورجاله". • "أثر الاختلاف في القياس في اختلاف الفقهاء". • "القواعد الفقهية". • "تاريخ الفقه الإسلامي". • "علم أصول الفقه". • "تصرفات المكلف عند العسر وعموم البلوى وعلاقتها بالضرورة". • "سجالات علمية وردود فقهية في مسألة جدولة الديون ودعوى تقاسم الأضرار بين الحرفاء والمؤسسات المالية في عقود المرابحات المصرفية".
التعبيرات السياقية في معجم الألفاظ لابن السكيت لسلطان طاسجي صدر حديثًا "التعبيرات السياقية في معجم الألفاظ لابن السكيت - دراسة نظرية تطبيقية"، تأليف: د. "سلطان بن سعود عبدالعزيز طاسجي"، نشر: "دار ملامح للنشر والتوزيع" بالإمارات. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في اللغويات، بكلية اللغة العربية - الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأشرف على البحث أ.د. "عبدالحفيظ السيد أحمد بكري"، وذلك عام 2016 م. جاء عنوان الرسالة: "التَّعبيرات السِّياقية في معجم الألفاظ لابن السِّكِّيت - دراسة نظرية تطبيقية"؛ للدلالة على البحث في "التعبيرات السياقية"، التي يعني بها الكاتب التراكيبَ ذات الوحدات المتعددة لا يفهم معناها بفهم أجزائها، حيث يمثل التعبير وحدة متماسكة "مسكوكة"، له معنًى محدَّد لدى الجماعة اللغوية يختلف عن المعنى المعجمي لكلمات التعبير منفردة، وذلك في معجم (الألفاظ لابن السِّكِّيت) الذي توفي سنة (244هـ) أي: في القرن الثالث الهجري، (دراسة نظرية تطبيقية): فكلُّ كلام غامض أو غير واضح لا بد أن يُضرب له مثلٌ لكي يتضح، وكما قيل: "بالمثال يتضح المقال". ومثال ذلك: "أسلَمَ رِجلَيْه للريح"؛ الدلالة المعجمية: أعطى رجليه للريح، لكنّ دلالته عند العرب لا تعني هذا المعنى؛ وإنما تفيد هرب الإنسان مسرعًا، أو فراره من أمرٍ من الأمور، وقد أتت هذه الدلالة من اتفاق الجماعة اللغوية العربية على تحميله هذا المعنى. وظاهرة التَّعبيرات السِّياقية من الظواهر المعروفة السائدة في علوم اللغة، وهي التي تُظهر جمال اللغة ودقتها وتآلف ألفاظها، وقد أفرد اللغويون القدماء هذا النوع من التَّعبيرات في رسائل خاصة، وبعضهم يذكرها عامَّة دون تخصيص - كما في كتب المعاجم - وإنَّما يشيرون إليها إشارات فقط، ويوردونها عرضًا عند تفسير معاني بعض الكلمات. وحظيت هذه التَّعبيرات أيضًا باهتمام عددٍ لا بأس به من الباحثين المعاصرين، ولما كانت دراسة التَّعبيرات السِّياقية شِبه شائكة وغير واضحة؛ رأى الباحث إلقاء مزيد من الضوء عليها؛ بأنْ يخصص هذا البحث لدراسة التَّعبيرات السِّياقية دراسة نظرية بالتأصيل النظري لهذه الظاهرة، ثم دراستها دراسة تطبيقية من خلال كتاب الألفاظ لابن السِّكِّيت، واعتمد الكاتب على تحقيق الأستاذ الدكتور فخر الدِّين قباوة، طبعة مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1998م. و"معجم الألفاظ" لابن السكيت من أقدم المعاني أو الموضوعات التي تصنف المفردات فيها حسب دلالاتها ومعانيها، حيث توجَّه "ابن السكيت" إلى الإرث اللغوي من زاوية موضوعية، وضع فيها مصنَّفه "الألفاظ"؛ فقد بسط أمامه ذلك الإرث، واختار له توزيعًا تنتظمه الموضوعات العامة التي تملأ حياة العرب، ثم عرض في كل منها ما كان من الألفاظ والعبارات، تحت عناوين محددة؛ كالغِنى والخصب، والتفرق، والشجاعة، والمياه، والدعوات، والثياب... مع التفسير والتوضيح والاستدلال، بنصوص من أبلغ البيان. وبهذا جمَعَ حصيلة ما خلفه رواد البحث اللغوي في حياة العرب، فنقل إلينا عن أبناء القبائل ورجالات العلم زادًا سائغًا، بأسانيد موثقة، وتنسيق دقيق، وتلقى العلماء نسخ "الألفاظ" بالعناية، تفسيرًا وتنمية، وتوجيهًا ونقدًا، في حواشٍ وتعليقات وافرة، زادته غنًى وسَعةَ أفق ودقةَ بيان، ووظفوه فيما صنَّفوا من معاجم المفردات والمعاني، وصار كتابنا هذا رافدًا ورائدًا وموجهًا للأجيال في المعاجم اللغوية الموضوعية. وصاحب معجم الألفاظ شيخ العربية، أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق بن السكيت الدروقي الأهوازي، البغدادي النحوي المؤدب، مؤلف كتاب "إصلاح المنطق"، ديِّن خيِّر، حُجَّة في العربية. أخذ عن: أبي عمرو الشيباني، وطائفة. وكان أبوه مؤدبًا، فتعلم يعقوب، وبرع في النحو واللغة، وأدَّب أولاد الأمير محمد بن عبدالله بن طاهر، ثم ارتفع محله، فطلب إليه المتوكل العباسي تأديبَ ولديه المعتز والمؤيد، فأدَّبهما خير أدب، ويروى أن المتوكل نظر إلى ابنيه المعتز والمؤيد، فلما رأى من ابنيه أحسن الأدب، قال لابن السكيت، وقد علم بتشيُّعه: مَن أحَبَّ إليك: هما، أو الحسن والحسين؟ فقال: بل "قَنْبَرٌ" خادم "علي" رضي الله عنه خيرٌ منك ومن ابنيك"، فأمر حرسه من الأتراك، فداسوا بطنه، فمات بعد يوم. وقيل: حمل ميتًا في بساط. وكان في المتوكل نَصْبٌ، وقيل بأنَّ المتوكل أمرهم أن يستلُّوا لسانه، فسلُّوه فمات من فوره، وكان ذلك في الخامس من شهر رجب سنة 244هـ. قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني، وكان عازمًا على أن يملي نوادره ضعف ما أملى، فقال يومًا: تقول العرب: "مثقل استعان بذقنه"، فقام إليه ابن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن، إنما هو "مثقل استعان بدفيه"، يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه، فقطعا الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: "وهو جاري مكاشري"، فقام له ابن السكيت فقال: أعزك الله، وما معنى مكاشري؟ إنما هو "هو مكاسري، كسر بيتي إلى كسر بيته"، قال: فقطع اللحياني الإملاء، فما أملى بعد ذلك شيئًا. وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابًا أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق. وقال أبو العباس ثعلب: كان ابن السكيت يتصرف في أنواع العلوم، وكان أبوه رجلًا صالحًا، وكان من أصحاب الكسائي، حسن المعرفة بالعربية. وكان سبب قعود يعقوب للناس وقصدهم إياه أنه عمل شعر أبي النجم العجلي وجرده، فقال: ادفعه لي لأنسخه، فقال: يا أبا العباس، حلفت بالطلاق أنه لا يخرج من يدي، ولكنه بين يديك فانسخه، واحضر يوم الخميس، فلما وصلت إليه عرف بي، فحضر بحضوري قوم، ثم انتشر ذلك فحضر الناس. وقال ثعلب أيضًا: أجمع أصحابُنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ - يريد من العلوم - فقال المعتز: بالانصراف، قال يعقوب: فأقوم، قال المعتز: فأنا أخفُّ نهوضًا منك، وقام فاستعجل فعثر بسراويله فسقط، والتفت إلى يعقوب خجلًا وقد احمرَّ وجهه، فأنشد يعقوب: يُصابُ الفتى مِن عَثْرةٍ بلسانِهِ وليس يُصابُ المرءُ مِن عَثرةِ الرِّجْلِ فعثْرتُه في القول تُذهِبُ رأسه وعثْرتُه بالرِّجلِ تَبْرَا على مهلِ فلما كان من الغد دخل يعقوب على المتوكل فأخبره بما جرى، فأمر له بخمسين ألف درهم وقال: قد بلغني البيتان. وكان يعقوب يقول: أنا أعلم من أبي بالنحو، وأبي أعلم مني بالشعر واللغة. وصنف ابن السكيت كتاب "إصلاح المنطق"، و"كتاب القلب والإبدال"، و"كتاب النوادر"، و"كتاب الألفاظ"، و"كتاب فعل وأفعل"، و"كتاب الأضداد"، و"كتاب الأجناس الكبير"، و"كتاب الفرق"، و"كتاب الأمثال"، و"كتاب البحث"، و"كتاب الزبرج"، و"كتاب الإبل"، و"كتاب السرج واللجام"، و"كتاب الوحوش"، و"كتاب الحشرات"، و"كتاب النبات والشجر"، و"كتاب الأيام والليالي"، و"كتاب سرقات الشعراء وما تواردوا عليه"، و"كتاب معاني الشعر الكبير"، و"كتاب معاني الشعر الصغير"... وغير ذلك.
دعوة إلى التخفيف من استعمال الهاتف الجوال تظهر في وقتنا الراهن، طفرة غنيّة عن التعريف في تطوّر وسائل الاتصالات، التي قرّبتْ البعيد، وحوّلتْ العالم كما يقال إلى قرية صغيرة، يسهل على أبنائها الاتصال فيما بينهم، وتداول الأخبار والمستجدّات، عبر وسائل متنوّعة وعديدة، بدأتْ على استحياء، وسرعان ما أخذتْ ترمي عنها ثوب الخجل، لتُثْبت حضورًا قويًّا وجريئًا، ما يزال يتطوّر يومًا بعد يوم. وممّا زاد في الآونة الأخيرة من وسائل الاتصال: استخدام الهاتف الجوّال ( النقّال أو الخليوي كما هو معروف في بعض الدول العربية )، ولا تكاد دولة حول العالم، تنجو من زحفه المستمر، وغدا الأمر ظاهرة ملحوظة، فتكاد تدخل أجهزته إلى كلّ منزل، وبخاصة إذا علمنا أنّ التقديرات تشير إلى زيادة عدد مستخدمي الهاتف الجوال، فوق المليار قبل حلول عام 2005م، ولا شكّ في أنّ هذا العدد يزيد شيئًا فشيئًا بصورة مطّردة. وممّا يشهد على كلامنا ذلك زيادة الشركات التي تدخل مجال الاستثمار في عالم الاتصالات، والتي أحاطتْ إعلاناتها بنا من كل جانب، وهي تحثّ المستهلك الجديد، وترحّب به للدخول إلى عالم الاتصالات الفسيح. ونتيجة لذلك، فقد أحاطتْ بنا أبراج تقوية بثّ الهاتف الجوال من هنا وهناك، ودعا هذا الحضورُ القويّ العلماءَ، إلى دراسة التأثيرات الحيويّة الناتجة عن تعرّض الجسم لما ينبعث من الجوال وأبراجه، من إشعاعات قد تَحمل بين طيّاتها خطرًا صحيًا كامنًا، من المحتمل أن يتمّ اكتشافه والتعرّف عليه في القريب العاجل. تنصّ كتب فيزياء الأشعة، على أنّ هناك علاقة إرسال واستقبال بين الهاتف الجوال وأبراج تقوية البثّ الخاصة به، وبالتحديد فإنّ هذه العلاقة تخضع لتأثير مستويات منخفضة من أشعة الراديو ( Radio frequency radiation )، وهي التي تقع الآن محطّ أنظار الباحثين الذين يحاولون كشف ما قد تحمله هذه الأشعة من مخاطر ومضار. تنشأ في البيئة المحيطة بنا، والتي تكثر فيها أعداد أجهزة الجوّال وأبراج تقوية إرساله، حقول مغناطيسية كهربائيّة من الموجات الصغيرة المعروفة بموجات الميكروويف، وهي المسؤولة عن التأثيرات المرضيّة الحيويّة التي تشاهد في المرضى المعرّضين لتلك الموجات، وتعتمد شدة تلك التأثيرات على عدّة عوامل، أهمّها مدة التعرّض للإشعاع، فكلما زادتْ هذه المدة زاد الأثر السلبي الناتج عنها. تقترح بعض التقارير الطبيّة الحديثة، وجود رابط وثيق بين استخدام الهاتف الجوال من جهة، وإصابة الجسم ببعض الاضطرابات المرضيّة العابرة من جهة أخرى، وبخاصة في مستوى الجهاز العصبي، مثل الشعور بالإرهاق والصداع والدوار، واضطرابات النوم، وخلل في وظيفة الذاكرة وضعف التركيز، والإحساس ببعض الخدر والتنميل، والشعور بالغثيان. إلاّ أنّ بعض التقارير الأخرى، تُظهر بعض التخوّف والقلق، ولنقل بعض التشاؤم، بشأن توقّعات بوجود علاقة بين كثرة استخدام الهاتف الجوال، وظهور بعض الأعراض الخطيرة، مثل الإصابة بأورام الدماغ، وارتفاع ضغط الدم، والتعرّض لنوبات الصرع لدى الأطفال. لم تَظهر حتى الآن، دراسات مفصّلة تختصّ بأبعاد الأضرار السمعيّة (المتعلّقة بالأذن) الناتجة عن الحقل الكهربائي المغناطيسي ( Electromagnetic field )، الذي ينبعث عن أجهزة الهواتف الجوالة وأبراج التقوية، ولا يتعدّى الأمر بعض التقارير التي تظهر بين فينة وأخرى. وبين أيدينا الآن حالة جديدة، تمّ وصفها من قبل الدكتور سريع الدوسري، المحاضر في مستشفى جامعة الملك عبد العزيز، وقد تم نشر هذه المقالة الهامّة في المجلة الطبية السعودية. تدور أحداث القصة حول رجل أعمال في الثانية والأربعين من عمره، تمّ تحويله إلى مستشفى جامعة الملك عبد العزيز بالرياض، وقد كانت الشكوى الرئيسة لهذا المريض، ضعف حاسة السمع في الأذن اليمنى منذ ثلاثة أشهر، قبل حضوره إلى المستشفى، بالإضافة إلى الشعور ببعض الألم داخل الأذن وحولها، عقب استخدام الهاتف الجوّال، وبعض الأعراض التحسّسية في الأنف، وأخيرًا نوبات من الصداع المتتالي. يواصل المريض عرض شكواه، ويَذكر أنّ الأعراض المرضيّة تبدأ عادة بعد استخدام الجوال بدقائق، وقد تستمر في بعض الأحيان مدة ساعة متواصلة، كما لاحظ المريض أنّ استخدامه لهاتف المنزل العادي، لا يسبّب له في العادة مثل تلك الأعراض المزعجة. وبسؤال المريض حول مدة استعماله للهاتف الجوّال يوميًّا، أفاد بأنّ هذه المدّة تصل في الغالب المتوسّط إلى ساعة ونصف، كما أنّه اعتاد على استخدام الأذن اليمنى تحديدًا لسماع صوت المكالمات. تمّ إجراء فحص طبي كامل للمريض المذكور، مع التركيز على فحص الأذن المصابة، وأجري تقييم لقياس حدّة حاسة السمع باستخدام أجهزة متخصّصة، تكشف ما يُصيب هذه الحاسّة من خلل واضطرابات، وقد جاءتْ النتائج مشخّصة لحدوث حالة مرضيّة تُعرف بفقد السمع الحسي العصبي ( Sensorineural hearing loss )، في الأذن اليمنى التي اعتاد المريض استخدامها، أثناء إجراء المكالمات الهاتفية عبر جهازه الجوال. تمّ لاحقًا متابعة تطوّر حالة المريض الصحيّة، مرّة واحدة كلّ ثلاثة أشهر، وقد لوحظ تدهور مستوى السمع لدى المريض، مع استمراره باستعمال هاتفه الجوال على وتيرته السابقة، وفي إحدى الزيارات اللاحقة، اقترح الطبيب المعالج أن يستخدم المريض أذنه اليسرى لتلقي المكالمات الهاتفيّة، وإيقاف استخدام الأذن اليمنى لهذا الغرض، واستمرّ الوضع الجديد على هذه الحال مدة ستة أشهر، تمّ بعدها إجراء تقييم جديد للحالة الصحيّة للأذنين معًا. وجاءتْ النتائج مدهشة، إذ تحسّنتْ حالة الأذن اليمنى بصورة ملحوظة، وذلك لعدم استخدام صاحبها لها أثناء حديثه عبر الجوّال، بينما بدأتْ حالة الأذن اليسرى تتدهور تدريجيًا لتصاب بأعراض فقد السمع الحسيّ العصبيّ سابق الذكر. جاءتْ الخطوة التالية بعد ذلك، باقتراح من الطبيب بأن يتمّ الرجوع إلى الأذن اليمنى من جديد، وإيقاف استخدام الأذن اليسرى لسماع المكالمات الهاتفية، وبعد ثلاثة أشهر لوحظ عودة الأخيرة إلى حالتها الطبيعية من جديد، وعادتْ وظائف الأذن اليمنى لتتدهور من جديد. أصدر هنا الطبيب تعليمات جديدة إلى مريضه، مفادها ضرورة الحدّ من استخدام الجوال، واستجاب المريض لذلك، فلم يتجاوز مجمل مكالماته الهاتفيّة اليوميّة خمس عشرة دقيقة، واستخدم لذلك سمّاعة خاصّة ومكبّرًا للصوت، ويكون بذلك قد قلّل من مدّة التعرّض للجوال، بالإضافة إلى بُعد المسافة الفاصلة بين الجسم والجهاز، وتمّ فحص المريض لاحقًا فلوحظ تحسن وظيفة السمع لدى أذنه اليمنى من جديد. أوضحتْ الدراسات الطبيّة الحديثة، أنّ لقوقعة الأذن ( Cochlea )، المقدرة على امتصاص جزء كبير من الموجات الناتجة عن الحقل الكهربائيّ المغناطيسيّ، ويقود هذا إلى ارتفاع ملحوظ في درجة حرارة أنسجة القوقعة وما جاورها، وهذا بدوره يؤثّر سلبًا في صحّة خلايا خاصّة، تعرف بالخلايا الشعرية ( air cells )، ممّا يضعف حاسة السمع بصورة تدريجيّة ملحوظة. بقي لنا أن نختم حديثنا هذا، بأنّ أصابع اتّهام قوية أخذتْ في الآونة الأخيرة، تشير نحو جهاز الجوال، واصفة إياه بالخطر الكامن الذي شرع يتّضح شيئًا فشيئًا، ولعلّنا قد لاحظنا أنّ جانبًا كبيرًا من ذلك يقترب نحو الصواب، ولذلك يجب أن ننوّه إلى أهمية التخفيف من استخدام هذا الجهاز، والاقتصار على ذلك عند الحاجة إليه، مع ضرورة استخدام السمّاعات الخاصة التي تُبعد عن أجسامنا هذا الجهاز، والتشجيع على التحدّث عبر خط الهاتف الأرضي ما أمكن ذلك. وعلينا أن نذكر دائمًا أنّ جهاز الجوال لا يزال بعد اختراعًا حديثًا نسبيًّا، والدراسات ما تزال محدودة حول ضرره، ولم يتمّ حتى الآن إعطاء الموضوع حقّه من البحث، لأنّ ذلك يحتاج إلى مدّة طويلة وإلى المزيد من التنقيب، وقد تكشف قادمات الأيام المزيد من الأضرار في هذا المجال.
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (الجغرافيا) انطلق الاهتمام بالبعد الجهوي الجغرافي منذ القدم، حيث العلاقات بين الفرس والروم من جهة، والعلاقات بين الهنود والروم من جهة أخرى،وهي وإن لم تكن علاقات ظاهرة وقوية إلا أنها تعد الانطلاقة التي روعيت فيها الجهوية بين الشرق والغرب، وكتب يوهان فلفجانج جوته (1749 - 1832) ديوان الشرق والغرب، وكتب فريدريش عن لغة الهند وحكمتها [1] ،ثم زاد المفهوم الجهوي بوضوح أكثر في القرون الأولى لظهور الإسلام، عندما بدأ الاهتمام بصياغة علاقة جهوية بين الشرق والغرب، وكتب نورمان دانييل كتابًا أعطاه هذا العنوان: الإسلام والغرب [2] . ولقد كُتِب الكثير عن الشرق والغرب من كتب ومقالات ومحاضرات،ولا يزال الموضوع يزداد حيوية بازدياد الحوار بين الشرق والغرب، أو بين المسلمين والغرب على وجه التحديد، مهما أخذ الحوار من أشكال كان من آخرها ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية (نيويورك وواشنطن)، في الثلث الأخير من السنة الميلادية 2001م، (الثلاثاء 11/ 9/ 2001م)، الموافق 22/ 6/ 1422هـ. وسعيًا إلى استبعاد البعد الجغرافي في هذا النقاش، نجد أنه يعيش الآن في الغرب ما يزيد على سبعة وخمسين مليونًا وستمائة وخمسين ألف (57،650،000) مسلم ومسلمة، لهم أماكنهم التي يؤدون فيها عباداتهم، وأوجه نشاطهم الأخرى، ومنها آلاف المساجد التي تقدر في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بأكثر من ستة آلاف (6000) مسجد [3] ، وفي فرنسا حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة (3،500) مسجد، منها مائة وعشرة (110) مساجد في باريس الكبرى، هذا عدا عن المدارس الرسمية والخاصة، والمقابر والمجازر والمحلات التجارية والنوادي والمكتبات. واعترفت بعض الدول الغربية بالدين الإسلامي، وكونِه في دول أخرى يكون الدين الثاني في الدولة؛ كما في بلجيكا،ودخل المسلمون المعترك السياسي في الحكومات المحلية والمجالس البلدية؛ كما في فرنسا وبريطانيا، مما يوحي ذلك كله أن هناك تأثيرًا للمسلمين في الغرب يفوق حادثة عارضة حسبت على المسلمين، مهما كانت آثارها السلبية التي خلفتها،وهذا يدل على مزيد من التنامي للإسلام في الغرب. وفي ضوء هذا التنامي المستمر للإسلام بفعل التأثير الطيب والحكمة والممارسة الجادة للإسلام من قبل أهله وترسيخ مفهوم القدوة في السلوكيات، ينتشر الإسلام في الغرب، كما انتشر من قبل في الشرق، وفي جنوب العالم القديم. ومما يطرح الآن في الإعلام أن حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001م، قد كان لها أثرها السلبي على انتشار الإسلام في الغرب،وهذا هو التوجه السائد عند طرح هذا الموضوع، والتوجه غير السائد هو أن الحادثة مهما كانت قوتها ومهما كان وقعها ومهما ألصقت بالمسلمين، إلا أنه لا ينتظر لها أن تؤثر سلبًا. ومما ذكر في هذا المجال ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس، وكان يؤدي عملًا علميًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، في خطبة له في المركز الإسلامي بواشنطن العاصمة؛ إذ ألقى في أحد أيام الجمعة خطبةً مؤداها ومنطلقها قوله تبارك وتعالى في حديث الإفك: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]،وليس هذا تقليلًا من آثار ما حدث، ولكنه حدث على أي الأحوال، ولا تزال ظروفه التي حدث بها موضع غموض وجدل وحوار [4] . ويظهر أن هذا الغموض والجدل والحوار سيدوم طويلًا، وسينتج عنه تعضيدٌ لحركة الاستشراق السياسي، التي مر عليها حين من الدهر كانت فيه راكدة، فجاءت الأحداث لتعيد لهذه الظاهرة شيئًا من حيويتها وبريقها الذي كانت عليه، بما في ذلك تركيزها على الظاهرات الاجتماعية، واتخاذ الأنثروبولوجيا مرتعًا خصبًا لها [5] ، بدلًا من الاهتمام بشؤون الإسلام الأخرى التي سبقت تغطيتها من قِبل المستشرقين الأوائل، الذين لم يكونوا جميعًا بالضرورة إيجابيين مع القضايا الإسلامية [6] ، وستثري المكتبة العالمية، ومنها العربية والإسلامية، بالمزيد من الكتب والدراسات والبحوث التي ستتحدث عن الإسلام والمسلمين، وبيان الموقف الإسلامي من الأحداث القائمة التي تلت حادث يوم الثلاثاء 22/ 6/ 1422هـ الموافق 11/ 9/ 2009م، وبيان الموقف الإسلامي المؤصل من العنف والتخريب، والتخويف والإرهاب. وسيكون هناك طرح من المدرسة اليهودية/ الصهيونية في الاستشراق في محاولة لبيان أن هذا هو الإسلام، وستكون هناك ردود فعل من المتلقين من غير اليهود، وربما من بعض اليهود الذين سبروا اليهودية/ الصهيونية، وقد تعرفوا على موقفهم من العرب والمسلمين. [1] انظر: إدوارد سعيد ، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق/ ترجمة محمد عناني - القاهرة: رؤية، 2006م - ص 76 . [2] لا بد من التفكير في وضع قائمة وراقية (ببليوجرافية) تحليلية حول ما كتب عن موضوع الشرق والغرب، عن طريق مراكز البحث العلمية؛ إذ إن مثل هذا الجهد العلمي يحتاج إلى عمل مؤسسي، ولا يتصور أن يضطلع به شخص بعينه، حتى مع هذا التطور الهائل في تقانة المعلومات ونقلها إلكترونيًّا . [3] انظر: نشرة أصفار ، أوسع دراسة عن الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية: صيرورة المستقبل من "أمة الإسلام" إلى مرحلة "الإخوان المسلمين" إلى عصر المؤسسات والجامعات - أصفار - ع 68 (تموز 2004م) - ص 5. [4] انظر على سبيل المثال: تيري ميسان ، 11 أيلول 2001: الخديعة المرعبة/ ترجمة سوزان قازان ومايا سلمان - دمشق: دار كنعان، 2002م - ص218 ، وانظر كذلك التقرير الرسمي عن هذا الحدث الذي صدر عن الكونجرس الأمريكي لسنة 2004م في 600 صفحة . [5] أعدت مجلة الاجتهاد، التي تصدر من بيروت، ويرأس تحريرها كلٌّ من الأستاذ الدكتور الفضل شلق والأستاذ الدكتور رضوان السيد: ملفًّا موسعًا عن الاستشراق والأنثروبولوجيا، غطى خمسة أعداد 47 و48 و49 و50 و51 للسنتين صيف وخريف 1421 إلى ربيع وصيف 1422هـ، الموافق 2000 - 2001م ، والمؤلم علميًّا وفكريًّا أن تتوقف هذه المطبوعة عن الصدور . [6] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة ، ظاهرة الاستشراق: دراسة في المفهوم والارتباطات - الرياض: مكتبة التوبة، 1424هـ/ 2003م - ص 210 .
تأثيرات العولمة الاقتصادية على واقع المصرفية الإسلامية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد: فإن للفتوى الشرعية ضوابط معلومة، يضاف إليها مراعاة الزمان والمكان والعرف فيما لا نص فيه، وقد استقرت دول كثيرة وأقاليم منذُ قرون على تعبد الله عز وجل وفق إحدى المذاهب الفقهية المعتبرة، وكما هو معلوم فإن مدارس المذاهب الفقهية الإسلامية اختلفت في بعض فروع الفقه، ومن الطبيعي أن نشأ عن ذلك عدم اتفاقهم على جواز بعض المعاملات المالية التي كانت تخضع لطبيعة التعاملات الخاصة بكل إقليم من الأقاليم، وتوارثتها الأجيال. وجريًا على ما تقدم فقد استمر الخلاف في المدارس الفقهية الممتدة للمذاهب الفقهية المعتبرة، فيما استجد من المعاملات المالية المعاصرة وفقا للقواعد العامة المحددة لطبيعة أصول هذا المذهب الفقهي أو ذاك، وربما كان هناك خلاف في المذهب الفقهي الواحد نفسه حول جواز بعض المعاملات أو منعها، ومن هنا برزت أهمية مكانة القول المعتمد في كل مذهب. والذي يبدو أن هذا الأمر لم يراع في واقع المصرفية الإسلامية المعاصرة، بحكم العولمة الاقتصادية؛ لانتشار المعاملات المالية والتجارة الإلكترونية في أغلب دول العالم، وعدم اقتصارها على دول وأقاليم بعينها، وإنما عبرت كثير من هذه المعاملات للقارات والمحيطات. وقد واجهت بعض الإدارات العامة لهذه المؤسسات المالية الإسلامية إشكالية شيوع ثقافة مجتمعية رافضة لبعض هذه المعاملة المالية أو تلك؛ استنادًا لأصول مذهبهم الفقهي الإسلامي المعتبر السائد في بلادهم وإقليمهم بشكل عام، والذي لا يكاد يخرج عن فتاوى وتوجيهات وأقوال المعاصرين من أهل العلم في هذه البلدان عن منع هذه المعاملة، مما اضطر بعض القائمين على هذه الإدارات إلى استقدام علماء من دول أخرى وربما أقاليم بعيدة، عن هذه البلاد وثقافة مذهبها الفقهي السائد، والذي يتعبد اللهَ تعالى أهلهُ فيه منذُ قرون، أو التعامل مع هؤلاء العلماء عن بعد، ممن يقول بجواز هذه المعاملة أو تلك ويدعمها بالقرارات المجمعية والفتاوى الصادرة في كثير من البلاد الإسلامية الأخرى؛ والتي ربما تتلاءم تمامًا مع واقع دول وأقاليم لها خلفيات فقهية واسعة؛ تعتمد التنوع الفقهي والخلاف المذهبي منطلقًا لعباداتها ومعاملاتها بشكل عام،  ولا ترى إشكالا في التلفيق الفقهي، الذي بُنيت عليه مشاريع عملاقة ضخمة، وجدت الحلول المرحلية المثلى لإشكالات العمل المصرفي الإسلامي المعاصر، وتعمل جاهدة على تكوين مرجعية موحدة لتقريب وجهات نظر الخلاف حول ما استجد من معاملات. وهذا الموضوع يمكن أن يدرس ويستقصي واقع أهم المعاملات المالية المعاصرة الشهيرة وتطبيقاتها في دول العالم، وانعكاساتها على واقع جمهور المتعاملين معها وفق القول بجوازها أو منعها. والله تعالى أعلم.
أين كتاب "الغيث المُغدق في تحريم المَنطق" للسيوطي؟ بقلم عبدالحكيم الأنيس [1] توجَّه جلالُ الدّين السيوطي إلى التأليف في سنٍّ مُبكرةٍ، ومِنْ مؤلَّفاته المتقدِّمة: "الغيث المُغدق في تحريم المَنطق"، ولتأليفه قصةٌ يحكيها هو في كتابه "التحدُّث بنعمة الله" فيقول: "ووقعتْ لي في أيامهِ [أي في أيام شيخه علَم الدين البُلقيني] واقعةُ تحريمِ المَنطقِ، وهو [2] أولُ وقائعي التي قامَ الناسُ عليَّ فيها، وذلك أني كنتُ اشتغلتُ به فقرأتُ "إيساغوجي"، و"شرحَه" على الشيخِ شمسِ الدين الحنفيِّ خازنِ الكتبِ بالشيخونيةِ، وعلى قاضي طرسوس علاءِ الدين - رجلٌ روميٌّ قدم علينا "الشيخونيةَ" فنزلَ عند شيخنا الكافِيَجي - وكنتُ إذ ذاك اختصرتُ «ورقاتِ» إمام الحرمينِ في مقدمةٍ لطيفةٍ فرآها معي القاضي المذكورُ، فأخذَها ثم لم يردَّها إليَّ، وربما توهمتُ أنه يريدُ نسبتَها لنفسهِ إذا ذهبَ إلى البلادِ فسقطَ مِنْ عيني، وكنتُ أبحثُ معه في المسائلِ الشرعيَّةِ فأجدُه عاريًا منها فازدريتُ المَنطقَ جملةً، ثم وقعتُ على كلامِ العلماءِ في ذمِّه وما أفتى به ابنُ الصلاحِ، فملتُ عن المَنطقِ، فألَّفتُ كراسةً سمَّيتُها "الغيثَ المُغدق في تحريمِ المَنطق" ، وكتبها إنسانٌ مِنْ طلبةِ شيخِنا البلقينيِّ، ومشتْ في البلدِ، وقامتِ الغوغاءُ، وثارتْ نارٌ كبرى، فسألتُ شيخَنا البلقينيَّ: ما تقولونَ في المَنطق؟ فقال: حرامٌ، ومدَّ بها صوتَه، فتركتُه لذلكَ، فعوَّضني اللهُ علمَ الحديثِ الذي هو أشرفُ العلومِ" [3] . ومعنى هذا أنه ألَّفَ هذا الكتابَ "الغيث المُغدق" في أثناءِ أخذهِ عن البلقيني، وقد صّرحَ أنه بدأ القراءةَ عليه في شوال سنة (٨٦٥) [4] ، وتوفي الشيخ يوم الأربعاء ٥ من رجب سنة (٨٦٨) [5] . ثم رأيتُه قالَ في رسالته "الاستيقاظ والتوبة" [6] : "ألَّفتُ في ذم المَنطق وأنا ابن ثماني عشرة سنة". أي سنة (867). ♦♦ ♦♦ ♦♦ ولكننا لا نجد بعدُ ذكرًا لهذا الكتابِ في قوائم مؤلفاتهِ الثلاث، لا في "حُسن المحاضرة"، ولا "التحدُّث بنعمة الله"، ولا "فهرست مؤلفاتي"، فأين ذهب؟ تتبعتُ هذا الأمر، فتبيَّن لي ما يلي: ذكرَ السيوطي لنفسه في قوائم مؤلفاته الثلاث كتابًا بعنوان: "القول المُشرق في تحريم الاشتغال بالمَنطق" [7] . ويبدو لي أنَّ السيوطي طوَّرَ كتابَه الأولَ "الغيث المُغدق" -الذي ألَّفَه سنة (867)- إلى هذا الكتابِ، وغيّرَ العنوانَ. والدليلُ على هذا أننا نجدُ في "القول المُشرق" نقلًا مِنْ كتاب "نصيحة المسلم المشفق لمَن ابتلي بحُبِّ المَنطق" للمُحدِّث سراج الدين عمر بن علي القزويني (٦٨٣-٧٥٠)، وهذا الكتابُ إنما وقفَ السيوطي عليه في مكة المكرمة، كما قال في الجزء السادس مِنْ تذكرته "الفلك المشحون" (الورقة ٣٢-٣٣). وأولُ حجّاتِ السيوطي كانتْ سنة (٨٦٩)، فيكون إدخالُ هذا النقل عن ذلك الكتاب بعد حجِّهِ ذاك، وقد عاد منه إلى مصر في أول سنة (٨٧٠) [8] . وفي "القول المُشرق" بديباجتهِ، وبمصادرهِ، وصياغتهِ ما يدلُّ على أنَّ مؤلِّفه قد تقدّمَ في العلم تقدمًا ملحوظًا. وقد ذَكَرَ فيه شيخَه المُناوي، وقال: "أعزَّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه"، ووفاةُ الشيخ المناوي ليلة الاثنين في جمادى الآخرة سنة (٨٧١). وذكر شيخه تقي الدين الشُّمُنِّي، وقال: "أعزَّه اللهُ تعالى"، ووفاة الشيخ الشمني ليلة الأحد (٢٧) من ذي الحجة سنة (٨٧٢). وهذا يعني أنها كانا حيين وقتَ التأليف. إذن أصبح "القول المُشرق" هو الوريث لـ "الغيث المُغدق"، وصار السيوطي إذا ذَكَرَ "الغيث المُغدق" يذكرُه باسمهِ الجديدِ وصياغتهِ الجديدةِ، ومِنْ هذا قولُه في مقدمة كتابه "صون المَنطق والكلام عن فنِّ المَنطق والكلام": "كنتُ قديمًا في سنة سبع أو ثمان وستين [9] وثماني مئة ألَّفتُ كتابًا في تحريم الاشتغال بفنِّ المَنطق، سمَّيتُه: "القول المُشرق" ضمَّنته نقول أئمة الإسلام…". والصحيح: سمَّيتُهُ: "الغيث المُغدق" كما قال في "التحدُّث بنعمة الله". فالذي ألَّفه في تلك السنة ليس "القول المشرق". أو يكون المراد: "سمَّيتُه [أي فيما بعدُ]: القول المُشرق". ويشهدُ لهذا أنَّ السيوطي عُرف عنه تعديلُ عناوين مؤلفاته، وتحت يدي عدةُ أمثلة على ذلك [10] . وقد حصلَ له في كتابه "الحبل الوثيق في نصرة الصديق" كما حصلَ له في ذكرهِ "القول المُشرق"، فقد قال في سيرته "التحدُّث بنعمة الله" [11] : "ألَّفتُ كتابًا سمَّيته: الحبل الوثيق في نُصرة الصِّدِّيق"، مع أنه ذكرَه في قائمةِ كتبهِ في الكتابِ نفسهِ [12] باسم: "نُصرة الصِّدِّيق على الجاهل الزنديق"، وبالاسمِ الثاني (الحبل الوثيق) أوردَه في كتابه "الحاوي للفتاوي" [13] . ♦♦ ♦♦ ♦♦ الخلاصة: ألَّفَ السيوطي "الغيث المُغدق" سنة (٨٦٧) [14] ، ثم عدَّلَ العنوانَ والمضمونَ إلى "القول المُشرق"، وهذا التعديلُ في العنوانِ والمضمونِ حصلَ -ولا بدَّ- بعد حجِّ السيوطي الأولِّ الذي كان سنة (٨٦٩)، ورُبما لقربِ العهدِ بين صياغَتَي الكتابِ لم يجد السيوطي حرَجًا أنْ يقول ما قال في مقدمة "صون المَنطق"، ولو قال: "سمَّيتُه أولًا: الغيث المُغدق" لكان أدق، وكانَ أجابَ على السؤال الذي يراودُ أذهانَ الباحثين عن مصير "الغيث المُغدق" الذي ذكرَه في أول سيرته "التحدُّث بنعمة الله". وللبيان فإنَّ أعمالَ السيوطي في المَنطق تكون كالآتي: ١- الغيث المُغدق في تحريم المَنطق. ألَّفه سنة (٨٦٧). ٢- القول المُشرق في تحريم الاشتغال بالمَنطق. ألَّفه بديلًا عن الأول ما بين سنتيْ (٨٧٠-٨٧١). ٣- جهد القريحة في تجريد النصيحة - اختصار كتاب "نصيحة ذوي الإيمان" للشيخ ابن تيمية. ألَّفه في السنةِ التي ادَّعى فيها الاجتهاد. وهي سنة (888) كما تبيَّن لي. ٤- صون المَنطق والكلام عن فنِّ المَنطق والكلام. ألَّفه سنة (888). بعد الكتب السابقة. ٥- فتوى في تحريم المَنطق. أوردَها في "الحاوي للفتاوي". وقد سُمِّيتْ هذه الفتوى في "الحاوي للفتاوي" بـ "القول المُشرق"، وهذا خطأ [15] . وهذه الفتوى آخرُ كلامه في هذا الموضوع، وقد ذكرَ فيها كتابيه "جهد القريحة"، و"صون المَنطق والكلام" [16] . تتمات: قد يَسأل سائلٌ: 1- هل يغني كتابٌ من هذه الكتب الأربعة [17] عن الآخر؟ الجواب: لا، ففي كل واحدٍ منها ما لا يُوجد في الآخر. ♦♦ ♦♦ ♦♦ 2- لم غيَّرَ السيوطي عنوانَ ذلك الكتاب؟ الجواب: ربما غيَّره لأنَّ للسخاوي يدًا فيه، فقد قال في ترجمته له في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" [18] : «‌وأولُ ‌ما ‌أبرزَ جزءٌ له في تحريم المَنطق جرده مِنْ مصنَّفٍ لابن تيمية [19] ، واستعان بي في أكثره، فقامَ عليه الفضلاءُ بحيث كفَّهُ العلَمُ البلقيني عنه، وأخذَ ما كان استكتبه به في المسألة [20] ، ولولا تلطفي بالجماعة كالأبناسي، وابن الفالاتي، وابن قاسم، لكان ما لا خير فيه». أو غيَّرَ العنوانَ لأنه كبيرٌ (الغيث المُغدق) والمضمونُ قليلٌ، إذ وصفه بأنه كراسةٌ. ♦♦ ♦♦ ♦♦ مصادر السيوطي في كتابه "القول المُشرق في تحريم علم المَنطق". ولتمام أخذ التصوُّر عن هذا الكتاب، وحصولِ الفائدةِ، أسوقُ مصادرَهُ فيه مرتبةً على الوفيات: 1- صحيح البخاري (256). 2- الزُّبير بن بكّار (256). ولم يَذكرْ كتابًا. 3- صحيح مسلم (261). 4- فضل العلم لأحمد بن علي المُرْهِبي (مِنْ أهل القرن الرابع) [21] . 5- السُّنن الكبرى للبيهقي (458). 6- ابن عبدالبر (463). ولم يذكر كتابًا. 7- المُستصفى للغزالي (505). 8- معجم السَّفر للسلفي (576). 9- الناسخ والمنسوخ لأبي الحسن بن الحصار -من أئمة المالكية- (611). 10- الشرح الكبير للرافعي (623). 11- الشرح الصغير، [له]. 12- معجم الأدباء لياقوت (626). 13- الفتاوى لابن الصلاح (643). 14- [خطبة] المُؤمَّل في الردِّ إلى الأمر الأول لأبي شامة المقدسي (665). 15- طبقات الأطباء لابن أبي الأصبع (668). 16- الروضة للنووي (676). 17- شرح المهذَّب [المجموع]، له. 18- طبقات الشافعية، له. 19- [الاقتراح في بيان الاصطلاح] لابن دقيق العيد (702). 20- الصلة لابن الزُّبير (708). 21- الرحلة لابن رُشيد (721). 22- النُّضار لأبي حيّان (745). والنقل مِنْ خطِّه. 23- زَغَل العلم، للذهبي (748). والنقل مِنْ خطِّه. 24- سِير النُّبلاء، له. 25- معجم الشيوخ، له. 26- تاريخ الإسلام، له. 27- فرائد الفوائد للأُدفوي (748). 28- نصيحة المسلم المُشفق لمن ابتلي بحبِّ علم المَنطق للسراج القزويني (750). 29- فتاوى تقي الدين السبكي (756). 30- حفظ الصيام مِنْ فوت التمام، له، "ضمن الفتاوى". 31- شرح لامية العجم للصفدي (764). 32- طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي (771). 33- المُهمّات [في شرح الروضة والرافعي] للإسنوي (772). 34- شرح المنهاج، له. 35- ولي الدين الملَّوي (774). نقلَ عنه ولم يذكر كتابًا. 36- التنبيهات [على أوهام المُهمّات] للأذرعي (783). 37- شرح المنهاج للزركشي (794). 38- طبقات الشعراء لعز الدين عبدالعزيز بن جماعة (819). 39- ضوء الشمس [في أحوال النَّفس]، له. 40- مختصر المُهمّات لوليّ الدين بن العراقي (826). 41- النُّكت، له. 42- [تفسير] جلال الدين المَحلِّي (864). 43- نقلٌ شفويٌّ عن علَم الدين البلقيني (869). 44- حاشية شرح البهجة لشرف الدين المُناوي (871). ونقلٌ شفويٌّ عنه. 45- مجموع عند تقيّ الدين الشُّمُنِّي (872) [22] . [1] تمَّ يوم السبت الثاني عشر من المُحرَّم سنة (1443)، الموافق (21) من أغسطس عام (2021م). [2] أي تحريم المَنطق. [3] التحدث بنعمة الله ص (52-53). [4] التحدث بنعمة الله ص (50). [5] انظر "التحدث بنعمة الله" ص (86)، والمنجم في المعجم ص (127). [6] نشرتُها ملحقة بـ "بهجة العابدين"، انظر ص (215). [7] التحدث بنعمة الله ص (141)، وحسن المحاضرة (1/295)، و"فهرست مؤلفاتي" ضمن "بهجة العابدين" ص (163). [8] انظر "التحدث بنعمة الله" ص (108-112). [9] جزمَ كما قدَّمتُ في "الاستيقاظ والتوبة" -وهي رسالةٌ متأخرةٌ عن كتاب "صون المَنطق والكلام"- أن عمرَه كان ثماني عشرة سنة، أي (867). [10] منها قولُه عن دعاء القنوت في «الحاوي للفتاوي» (1/ 51): "وألَّفتُ في ذلك مؤلفًا سمّيتُه أولًا: الإعراض والتولي عمَّن لا يُحسن يصلي، ثم عدلتُ عن هذا الاسم وسمّيتُه: ‌الثبوت في ضبط القنوت". [11] ص (206). وذكرَه بهذا الاسم ص (178) أيضًا. [12] ص (149). [13] الحاوي (1/505-515). [14] أو سنة (868) إذا اعتبرنا التردُّد. [15] أفادَني بخطأ هذه التسمية الأستاذُ محمد خلوف العبدالله، وقد ظهرَ له هذا مِن تتبُّع نُسَخ "الحاوي للفتاوي" ووقوفهِ على "القول المُشرق" المستقلِّ. وأشكرُه كثيرًا لإرسالهِ نسخة هذا الكتاب. جزاه الله خيرًا. [16] انظر (1/394). [17] لم أعدَّ "الغيث المُغدق" فلم أقل: الخمسة؛ لكونه صارَ "القول المُشرق". [18] (4/ 66). [19] هذا اجتهادٌ من السخاوي، وإلا فإنَّ السيوطي يصرِّحُ في مقدمة "صون المَنطق والكلام" أنه لم يكن رأى كتاب ابن تيمية في ذلك. ونصُّه (ص33): «الحمد ‌لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعدُ: فقد كنتُ قديمًا في سنة سبع أو ثمان وستين وثماني مئة ألَّفتُ كتابًا في تحريم الاشتغال بفنِّ المَنطق، سمَّيتُه: "القول المُشرق" ضمَّنتُه نقولَ أئمة الإسلام في ذمِّه وتحريمه، وذكرتُ فيه أنَّ شيخَ الإسلام أحدَ المجتهدين تقيّ الدين بن تيميّة ألفَ كتابًا في نقض قواعده، ولم أكنْ إذ ذاك وقفتُ عليه، ومضى على ذلك عشرون سنة، فلما كان في هذا العام وتحدَّثتُ بما أنعم اللهُ به عليَّ من الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ذكرَ ذاكرٌ أن مِن شروط الاجتهاد معرفة فنِّ المَنطق -يعني وقد فُقِدَ هذا الشرط عندي بزعمه-». [20] الذي قاله السيوطي في "القول المُشرق": "سألتُ عنه شيخَنا قاضي القضاة علَم الدين البلقيني، فبادر بقوله: حرام، وٍسألتُه أنْ يكتبَ خطَّه بذلك، فاجتمع إليه العامّة، وسألوه أنْ لا يكتب، فلم يكتبْ، مع بقائهِ على القول بتحريمه". [21] قال الكتاني في "الرسالة المستطرفة" ص (56): "لم أقف الآن على وفاته". قلتُ: هو مِنْ شيوخ أبي نُعيم الأصبهاني (336-430)، روى عنه في كتابه "صفة النفاق" ص (108)، وغيرِهِ، فهو مِنْ أهل القرن الرابع. [22] مصادر المقال: من مؤلفات السيوطي: 1-الاستيقاظ والتوبة. ملحق بـ "بهجة العابدين". 2-التحدُّث بنعمة الله، تحقيق: عبدالحكيم الأنيس، دار اللباب، بيروت، ط1(1443-2021). 3-جهد القريحة في تجريد النصيحة، تحقيق: علي سامي النشار وسعاد علي عبدالرازق، مجمع البحوث الإسلامية، مصر. مع "صون المنطق" الآتي. 4-الحاوي للفتاوي، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، العصرية، بيروت (1411-1990). 5-حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة (1997م). 6-صون المنطق والكلام عن فنِّ المنطق والكلام، تحقيق: علي سامي النشار وسعاد علي عبدالرازق، مجمع البحوث الإسلامية، مصر. 7-الفلك المشحون، الجزء السادس. مخطوط. 8-فهرست مؤلفاتي، ضمن "بهجة العابدين". 9-القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق، نسخة في دار اللباب. 10-المنجم في المعجم، تحقيق: إبراهيم باجس عبدالمجيد، دار ابن حزم، بيروت، ط1(1415-1995م). ومن مؤلفات غيره: 11-بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين لعبدالقادر الشاذلي، تحقيق: عبدالحكيم الأنيس، دار اللباب، بيروت، ط1 (1443-2021م). 12-الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السُّنة المشرفة للكتاني، تحقيق: محمد المنتصر الكتاني، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط6(1421-2000). 13-صفة النفاق ونعت المنافقين لأبي نُعيم الأصبهاني، تحقيق: عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1 (1422-2001). 14-الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
"نحن أحق بموسى" وفقه الانفتاح والمعايشة " نحن أحق بموسى... " جزء من حديث نبوي متفقٌ عليه، يجسد فيه النبي صلى الله عليه وسلم -من خلال تطبيق عملي حي- بعضًا من قواعد الإسلام في فقه الانفتاح والتعايش مع الآخر، كما يؤكد على ضرورة تحديد المرجعية النبوية والاهتداء بها في ضبط العلاقات مع الآخرين -وبخاصة- أفراد المجتمع الواحد عند اختلاف الدين والثقافات بينهم. يقول ابن عباس رضي الله عنه: " قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ؛ هذا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قالَ: فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ، فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ ". وفي هذا المقال يحاول الكاتب أن يلتقط بعضًا من هدي النبوة في الانفتاح والتعايش مع الآخر، وبخاصة المسالم وغير المعتدي. معرفة ثقافة الآخر والإحاطة بعاداته وتقاليده: لقد أتاح النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه رؤية الغير في ممارسة شكل من العبادة داخل المجتمع، فشارك أصحابه فيما لفت انتباهه، ثم صنع حدثًا تربويًا تعليميًا، وذلك عن طريق سؤاله المباشر لأصحابه، كما تفيد رواية الإمام مسلم، قائلا: ما هذا الصيام؟، وواضح أن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالحدث وسؤاله عنه قد تجاوز الحضور من كبار الصحابة ليصل إلى صغارهم كابن عباس الذي يعتبر أهم رواة هذا الحديث؛ وفي ذلك إشارة إلى أهمية توريث هذه المعاني ونشرها بين الشباب، فالمسلم قارئ يقظ لواقعه، متابع لما يدور حوله من عادات الناس ومناسباتهم الدينية والتاريخية، مدرك لوسائل التواصل وأهمية تنوعها في التعامل مع الآخرين. الحوار والمناقشة بداية الانفتاح وطريق للمعايشة: من أهم القواعد القرآنية التي دعا إليها الإسلام في توجيهاتٍ متكررة للمؤمنين، هو الأخذ بزمام المبادرة في الحديث مع الآخر ومناقشة المخالفين في الاعتقاد. يفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ... ﴾ [آل عمران: 64]. وهذا الحديث يترجم هذه القاعدة القرآنية في صورة واقعية، فقد توحه النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال -وهو وسيلة الحوار الأولى- عن سبب الصيام إلى بعض اليهود مباشرة، كما تشير رواية الإمام البخاري. وعلى رواية الإمام مسلم -التي تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلف بعضًا من أصحابه بالسؤال ومعرفة السبب- يكون معنى المبادرة بالحوار مع الآخر أكثر وضوحًا وتأكيدًا؛ ففيه توجيه مباشر وتدريب هادف لمن حوله من الصحابة من خلال التفاعل العملي في صناعة الحدث والتمكن من روايته عبر الأجيال، ولا شك أن ذلك يعد من أقوى وسائل دعم المبادئ وترسيخ المفاهيم بين الأتباع. إبراز عناصر الاتفاق والتأكيد على نقاط الالتقاء: لا يمكن التأسيس للانفتاح الإيجابي عن طريق إثارة الموضوعات الخلافية أو النقاشات الصدامية، إنما دليل صدق النية في الانفتاح على الآخر، هو الحرص على التقاط المشتركات والبناء عليها، وهذا ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد التقط -أثناء سماعه للمبرارات التاريخية لصيام هذا اليوم - اسم النبي موسى عليه السلام، رمز الصمود والتحدي لأقوى ظاهرة فرعونية في تاريخ الطغاة، وهذا مما لا يختلف حوله أحد من طرفي السائل أو المسؤول، فعبر عن احترامه وتقديره له، وأعلن أحقيته في الاحتفال به؛ مما يبعث في نفس الآخر قدرًا من التقارب والتآلف. ونلحظ في هذا لتصرف النبوي -أيضًا- تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على قيمة عليا لا يتنافر حولها قلب سليم، إنها الفرح لنصرة المظلوم، أيًّا كان زمانه ومكانه، ونجاته من بطش الظالم كائنًا من كان. الانفتاح والتعايش لا يعني التنازل أو الذوبان: الانفتاح الحقيقي ينطلق على قاعدة الفهم الواعي لقواعد الإسلام والتزام مرجعيته والتمسك بها في جميع شؤون الحياة، أما التنازل عن المبدأ أو الذوبان على حساب القيم، فهذا من النفاق والتلون الذي لا يمكن أن تقوم عليهما علاقة مثمرة أو سلم اجتماعي منشود. ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم -بعد مبادرته بالسؤال وبعد التأكيد على القواسم المشتركة - يبدأ بالتشريع لأمته في صيام هذا اليوم على منهجية الاتباع لأمره واقتفاء سنته، تقول الرواية: " فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ "، وفي ذلك بيان واضح أن تعليل صيام المسلمين لهذا اليوم هو من باب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وتلبية لأمره الذي يُحمل على الندب هنا. وبناءً على هذا المبدأ العام، يمكن فهم الروايات الأخرى التي حث فيها النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم قبل عاشوراء أو بعده؛ فهذه الأحاديث مجتمعة تؤكد على ضرورة المخالفة وعدم الذوبان، وتدعو إلى التميز باتباع منهج الإسلام وقواعده، من أجل انفتاح صادق ومعايشة خالصة. ما أحوج الأمة االمسلمة المعاصرة إلى هذا الهدي النبوي وغيره من الأحاديث الشريفة، لتكون على بصيرة من أمرها ونور من ربها؛ فترتقي وعيًا وفكرًا، وتعصم أجيالها من الانحرافات الفكرية والغزوات الثقافية.
عقيدة الإمام البخاري لسعد بجاد العتيبي صدر حديثًا كتاب " عقيدة الإمام البخاري "، تأليف: د. " سعد بن بجاد بن مصلح العتيبي "، نشر: " دار المحدث للنشر والتوزيع "، و" دار الأوراق للنشر والتوزيع ". وأصل الكتاب أطروحة علمية تَقدَّم بها المؤلِّف لنيل درجة الماجستير في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك بعنوان " منهج الإمام البخاري في تقرير العقيدة والدفاع عنها "، وذلك تحت إشراف د. " محمد بن عبدالله السمهري "، وذلك عام 1420 هـ. وتتناول هذه الدراسةُ إبراز منهج الإمام البخاري في تقرير العقيدة، وبيان تميُّزِه بالدقة والعمق، وكان الدافع لهذا الموضوع الحاجة الماسة لجمع أقوال الإمام البخاري في العقيدة ودراستِها؛ لأن معظم شراح صحيح البخاري وقعوا في التأويل أثناء شرحهم لأحاديث الصحيح. كما أن الكاتب لم يقف على دراسة أفرَدَتْ منهج الإمام البخاري في العقيدة بالبحث والدراسة. ونجد أن الإمام البخاريَّ كما أنه إمام في الحديث والفقه، فهو إمام في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والدفاع عنها، وله منهج متميز في ذلك يمتاز بالدقة والعناية بالحديث والأثر، وقد حصلت له الفتنة المشهورة في مسألة اللفظ بالقرآن، ونُسبت إليه البدعة بسبب عدم فهم منهجه الدقيق؛ لذا من حقه رحمه الله أن يُولَى منهجه في تقرير العقيدة والدفاع عنها العنايةَ الكاملة والدراسة المستحَقة. واشتملت خطة البحث على مقدمة، وتمهيد، وخمسة أبواب، وخاتمة، وفهارس: تناول الكاتب في المقدمة أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وخطة البحث. أما التمهيد، فتناول ترجمة موجزة للإمام البخاري، وفيه مبحثان: المبحث الأول: عصر الإمام البخاري. المبحث الثاني: حياة الإمام البخاري. الباب الأول: أصول الاستدلال على مسائل العقيدة عند الإمام البخاري، وفيه ستة فصول: الفصل الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة. الفصل الثاني: إجماع السلف. الفصل الثالث: قبول خبر الواحد. الفصل الرابع: الحقيقة والمجاز. الفصل الخامس: ذم التأويل. الفصل السادس: ذم البدع والمراء والجدل في الدين، وفيه مبحثان: المبحث الأول: ذم البدع. المبحث الثاني: ذم المراء والجدل في الدين. الباب الثاني: أصول الإيمان عند الإمام البخاري، وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: الإيمان، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: مسمى الإيمان. المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الثالث: الإيمان والإسلام. المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة. الفصل الثاني: الإيمان بالله، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بربوبية الله. المبحث الثاني: الإيمان بألوهية الله. المبحث الثالث: الإيمان بأسماء الله وصفاته. الفصل الثالث: الإيمان بالملائكة. الفصل الرابع: الإيمان بالكتب. الفصل الخامس: الإيمان بالأنبياء. الفصل السادس: الإيمان باليوم الآخر، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: نعيم القبر وعذابه. المبحث الثاني: الساعة. المبحث الثالث: الجنة والنار. الفصل السابع: الإيمان بالقدر، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: معنى الإيمان بالقضاء والقدر. المبحث الثاني: أفعال العباد. المبحث الثالث: الهداية ومراتبها. المبحث الرابع: حكم أولاد المسلمين وأولاد المشركين. المبحث الخامس: محذورات في باب القدر. الباب الثالث: نواقض الإيمان عند الإمام البخاري، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: الكفر، وفيه مبحثان: المبحث الأول: أنواع الكفر. المبحث الثاني: تكفير المعين. الفصل الثاني: الشرك. الفصل الثالث: النفاق. الباب الرابع: موقف الإمام البخاري من الفِرَق الضالة، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: موقفه من الخوارج. الفصل الثاني: موقفه من الرافضة. الفصل الثالث: موقفه من القدَرية. الفصل الرابع: موقفه من المرجئة. الباب الخامس: مسألة خَلْق القرآن، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: مذهب السلف في مسألة خلق القرآن. الفصل الثاني: موقف الإمام البخاري من مسألة خلق القرآن، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: إثبات صفة الكلام. المبحث الثاني: القرآن كلام الله غير مخلوق. المبحث الثالث: إثبات الصوت والحرف في كلام الله. المبحث الرابع: كلام الله متعلِّق بمشيئته واختياره. المبحث الخامس: القرآن كلام الله المنزل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم. الفصل الثالث: موقف الإمام البخاري من مسألة اللفظ. الفصل الرابع: حكم القائلين بخلق القرآن. والخاتمة فيها أهم النتائج التي توصل إليها الكاتب في البحث. ونجد أن الباحث جمَعَ أقوال الإمام البخاري المتعلقة بالعقيدة من كتبه والكتب التي نقَلتْ عنه شيئًا من أقواله، مبيِّنًا مصادره، مرتبًا هذه الأقوالَ على مسائل العقيدة، ثم قام بدراسة هذه المسائل مبتدئًا بعرض مجمل لمذهب أهل السنة والجماعة في المسألة مع ذكر شيء من أدلة القرآن والسنة، ثم بعد ذلك يذكر ما ورد عن الإمام البخاري في المسألة. ونجد أن الإمام البخاريَّ سلك منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقيدة والدفاع عنها، ويعد منهجه أصلًا من أصول تقرير العقيدة وتنقيحها من آراء الفرق الضالة، حيث ردَّ على الخوارج والرافضة والقدرية في بعض عقائدهم، وتميَّزت أقواله بالدقة والثبوت المعروفِ بهما في جامعه الصحيح. والكاتب "سعد بن بجاد العتيبي" أستاذ مساعد في الثقافة الإسلامية في كلية المجتمع في الرياض - جامعة الملك سعود من 4 /8 /1430هـ إلى الآن. وخطيب جامع عثمان بن عفان من عام 1421 هـ إلى الآن. وعضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب. من مؤلفاته وأبحاثه: • "منهج الإمام البخاري في تقرير العقيدة والمذاهب المعاصرة" (رسالة الماجستير). • "موقف الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر من النص الشرعي" (رسالة الدكتوراه). • "الإمام جابر بن زيد والحركة الإباضية". • "طريقة الإمام أحمد في رده على الجهمية". • "كتاب المعتزلة لزهدي نجار - عرض ونقد". • "الجوانب العدوانية في العقيدة اليهودية". • "التقريب بين الأديان". • "العذر بالجهل". • "المنطق عند د. زكي نجيب محمود". • "الموقف الشرعي من مصطلح الآخر".
عيسى ابن مريم عليه السلام (3) الرسالة أجمع المفسرون على أن عيسى عليه السلام نُبِّئ وهو في سن الثلاثين، وقام بالأمر مدة ثلاث سنين؛ حيث تعرضت حياته للخطر، وسعى بنو إسرائيل لقتله، فرفعه الله إليه، وقد زوده الله تبارك وتعالى بآيات إعجازية مؤيدة له ولدعوته، وكانت خارقة تناسب ما كان في عصره من حضارة وتقدم، وهذه الآيات تتفوق عليها بالطبع؛ فقد بدأت الآيات المعجزة بالكلام وهو في المهد، ثم توقفت هذه الآية، وكانت آيات في فترة صباه، منها إخبار الناس عن أمور غيبية وجَّهت إليه الأنظار وعرضته للخطر، فاضطرت والدته إلى إخفائه عن العيون درءًا لهذا الخطر، وكانت المعجزات التي زوده الله بها فترة النبوة مهمة جدًّا، منها كما ذكرها القُرْآن الكريم: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]، عملُ طيرٍ من الطين ثم النفخ فيه ليكون طيرًا بلحم ودم وريش وحياة كاملة: عملٌ يذكِّر الناس بخلق آدم من الطين ابتداء بلا أب أو أم، وكذلك هذه الطيور التي تخلق بإذن الله ابتداءً كخلقها الأول على غير ما عرَفه الناس من البيضة، جملة من الآيات المعجزة التي أيد الله بها عيسى هي على درجة كبيرة من الأهمية والنفع للناس في مجتمعه، ويبدو أن الزَّمْنى من الناس وأهل العاهات قد كثروا في مجتمعه وأصبحوا بحاجة ماسة إلى العلاج، ولكن دون جدوى؛ لعجز الطب المتقدم عن شفاء هذه الأمراض. ولخطورة هؤلاء المرضى فقد ملَّهم الناس وهجروهم وأبعدوهم خشية العدوى، فلم يخالطوهم أو يؤاكلوهم أو يشاربوهم، وكان من أخطر هذه الأمراض الأكمه، وهو الذي فقد سمعه وبصره ومسحت معالم وجهه، وكذلك الأبرص الذي اشتد بياض جلده ورشحت منه مياه منتنة وقروح لا تلتئم، وذكر أيضًا الجذام وهو مرض معدٍ يفتك بالإنسان فتتآكل أعضاؤه من الأطراف زاحفة نحو الجسم حتى تقضي عليه، وقد وفد أهل العاهات على عيسى بأعداد كبيرة فكان يداويهم ويمسح عليهم فيتم لهم البُرء والشفاء بإذن الله، وكان مَن لا يستطيع القدوم إليه يذهب هو إليهم ويمسحهم، وكان كل هؤلاء يصبحون من أتباعه، مما أغاظ أهل المصالح الدنيوية من الأحبار؛ حيث تعطلت مصالحهم وما كانوا يجنون مِن مناصبهم الدينية، وأما إحياؤه للموتى فكان بأعداد محدودة حسب الحاجة لإحياء هذا الميت، فمنهم من كان إحياؤه لفترة محدودة لسؤاله عن أمر ما ثم يموت، ومنهم ما يطول به العمر لسنوات، فعلى سبيل المثال طلب منه الحواريون أن يحييَ لهم سام بن نوح ليسألوه عن السفينة وشكلها، فأتى قبره فأحياه لهم بإذن الله وسألوه ما خطر لهم من أسئلة حول السفينة، حتى إذا ما كونوا فكرة تامة عنها قالوا لعيسى عليه السلام: دعه ليأتي معنا، فقال: كيف يأتي معكم من لا رزق له؟ ورُوي أن امرأة كانت تبكي عند قبر بكاء شديدًا، فسألها عيسى عمَّ يبكيها؟ فقالت: ماتت ابنة لي ولم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي ألا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم، فصلى عيسى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى: يا فلانة، قومي بإذن الرحمن فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟ فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملَكًا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجعت إليَّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني - أهداب - مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه، ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه، اصبري واحتسبي؛ فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته، سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضبًا، هذا نموذج ممن أحياهم بإذن الله لفترة قصيرة. وأما نموذج من أحياه بإذن الله فكان صديق عيسى عازر، فقد مرض، فأرسلت أخته إلى عيسى أن عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش وبقي حتى ولد له، وأحيا بإذن الله امرأة وعاشت ووُلد لها. معجزات خارقة أيد الله بها عبده عيسى، وذكر ابن كثير تعليقًا طريفًا على هذه المعجزات، قال: "كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان؛ فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بالآيات التي بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخوارق على يديه تصديقًا له - أسلموا سراعًا ولم يتلعثموا، وهكذا عيسى ابن مريم بُعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأُرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومَن به مرض مزمن؟ وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟ هذا مما يعلمه كل أحد أنه معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله، ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]، وقد بيَّن لهم أنه لم يكن بدعًا؛ فهو على شريعة موسى مصدقًا بالتوراة؛ فقد علمه الله إياها وعلمه أحكامها، وزاد عليها للتجديد كتاب الإنجيل، كما بعثه الله لتخفيف بعض الأحكام التي كان بنو إسرائيل قد ألزَموا بها أنفسهم، وهذا يدل على أن عيسى قد أرسل إليهم رحمة وإنقاذًا لحالهم المتردي دينًا وخلقًا، فقد سرى الكفر والإلحاد بين الناس، وابتعدوا عن منهج الدين الحق، وكان رأس هذا الانحراف الكهنة ورجال الدين الذين مالوا بالدين حسب الهوى والمصلحة الخاصة بهم؛ ليقيموا لهم كيانًا مسيطرًا على الحياة في بني إسرائيل، فكان لا بد - وفق سنة الله - من منقذ ومخلص ومسدد للنهج ومصحح للمسار، وكان عيسى هو النبي المختار لهذا الأمر بما آتاه الله من الآيات المعجزة من حيث طريقة خلقه المتفردة ومعجزاته التي لا يتردد مَن يراها في الإيمان الراسخ والتسليم لله طاعة وخضوعًا، ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]، كان المتنفِّذون الخادعون للشعب ما تزال لهم الكلمة في مجتمعهم؛ لسيطرتهم على سبل المعيشة والنفوذ الاقتصادي والمالي والسيطرة السياسية، وقد بثوا الدعايات ضد عيسى، فلم يقروا يومًا بولادته بلا أب بهذه المعجزة الخالدة وكلامه في المهد، ولقد أكثر اليهود القول فيه وفي أمه، وكانوا يسمونه ابن البغية، ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 156]، ويروى أن إبليس اللعين عرض لعيسى ابن مريم فقال له: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك؟ فارْقَ بذروة هذا الجبل فتردَّ منه فانظر هل تعيش أم لا؟ فقال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال: "لا يجربني عبدي؛ فإني أفعل ما شئت"، وروي أنه قال: "إن العبد لا يَبتلي - يختبر - ربه، ولكن الله يبتلي عبده"، وفي رواية أخرى: أن عيسى عليه السلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي يزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال عيسى: نعم، قال: فألقِ نفسك من هذا الجبل وقل: قُدِّر عليَّ، فقال: يا لعين، الله يختبر العباد، وليس العباد يختبرون الله عز وجل.
نصائح للمشتغلين بتحقيق المخطوطات سأذكر في هذا المقال لمحات من المنهج المأمول [1] في تحقيق تراث الأمة، انتقيتها من كلام أهل هذا الشأن لتكون نبراسًا نقتفي أثره، ولنسعى في سبيل الارتقاء بجهودنا العلمية إلىٰ هذا المنهج المأمول، سائلًا المولىٰ الجليل أن ينفع بها وأن يجعلها في موازين الحسنات. اللمحة الأُولىٰ: خطورة تحقيق المتن: ذكر الأستاذ عبد السلام هارون [2] - رحمه الله - أن التحقيق أمر جليل، وهو يحتاج من الجهد والعناية أكثر مما يحتاج إليه التأليف، واستشهد بمقولة الجاحظ: (ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتىٰ يرده إلىٰ موضعه من اتصال الكلام) [3] . اللمحة الثانية: التراث الإسلامي أمانة يجب أن نحافظ عليها: يقول الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: (هذا التراث في حياة المسلمين أمانة تحت أيديهم هم مستحفظون عليها، ولعلمائهم العاملين حق القوامة عليها بحملها وتبليغها من بعدهم لقوله صلىٰ الله عليه وسلم: « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين») [4] . اللمحة الثالثة: لكي نحافظ علىٰ التراث لابد من توفر الأهلية والكفاءة: فينبغي لمن انبرىٰ للاشتغال بالتراث الإسلامي أن يكون قويًا في العلوم الشرعية والعربية، يقول الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: (من وجوه العبث بالتراث سَطْوُ فاقدي الكفاءة في العلوم الشرعية واللسانية علىٰ تراث سلف الأمة وإخراجه باسم التحقيق، فالطبيب والبيطري والصيدلي والمهندس والزراعي والكهربائي والحداد وأصحاب الحرف المهنية الأخرىٰ ممن لا تستغني الأمة عنهم في مجالهم تطاولوا علىٰ كتب السلف في التفسير والحديث والفقه فَنَفَذَ فيهم قول النبي صلىٰ الله عليه وسلم «اتخذ الناس رُؤوسا جهالًا » ولا نَشُكُّ في حُسن نية بعض هؤلاء، لكن من دخل في غير فنِّه أفسده، والمُتَعيِّن إيصادُ البابِ لتَعَسُّر التمييز بين الفريقين، وحتىٰ لا يُفتح باب الإذن لمن عَرِيَ عن نيةٍ حسنة، ونقول لهؤلاء لابد من مرحلة الطلب للعلوم الشرعية نظير مرحلة الطلب لهذه الحرف الأخرىٰ) [5] . اللمحة الرابعة: من أراد أن يأكل الخُبز بالعلم فَلْتَبْكِ عليه البواكي [6] : التحقيق هو وسيلة لتحصيل العلم ونشره فينبغي لمن اشتغل به أن يبتغي بذلك الثواب من الله، وأن يحذر من الحرص على المال والشهرة، يقول الشيخ عبد العظيم الديب [7] - رحمه الله -: (عمَلُ المحققِ وجُهْده الذي يَصِلُ فيه الليل بالنهار دائمًا خلف سِتَار، فهو دائمًا متوارٍ في الظل، خلف النصِّ الذي يحققه، لا يراه الناس، ولا ذكر له عندهم، ومن وفَّقَه الله يَسْعَدُ بهذا، ولا بأس عليه، ويحتسبه عند الله مسرورًا بأن لم يذكره أحد، فهو بذلك قد نجا بدينه من أحد الذئبين الجائعين اللذين حذَّر منهما المصطفىٰ صلىٰ الله عليه وسلم...) ثم يقول: (ورضي الله عن إمامنا الشافعي فقد كان يقول: وددت لو أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم ينسبوا إليَّ منه حرفا). اللمحة الخامسة: المعنىٰ الحقيقي لتحقيق التراث: ذكر الشيخ عبد العظيم الديب - رحمه الله - أن منهج التحقيق المبني علىٰ المفهوم الدقيق لمعنىٰ التحقيق يقوم علىٰ أصلٍ واحدٍ هو: إخراج الكتاب علىٰ الصورة التي أرادها له مؤَلِّفُه، فإذا لم يتيسر أو بالأحرىٰ إذا استحال ذلك فليكن علىٰ أقرب الصور إليها، ثم قال: (وهذا ليس بالعمل الهين، بل هو الميدان حقا الذي بذل فيه العلماء من شيوخ هذا الفن وفرسانه جهودهم، وظهرت فيه آثارهم) [8] ، ويقول: (التحقيقُ إقامةٌ وإضاءة، نعني بذلك: إقامةُ النصِّ صحيحًا سليمًا مستقيمًا، لا تصحيف ولا تحريف، ولا عوج ولا اضطراب، ولا قلق ولا خلل، ونعني بالإضاءةِ: إيضاح ما أُبْهِم من لفظٍ أو عبارة، بسبب غرابةٍ في المفرداتِ، أو دقةٍ في الصياغة، أو خفاءٍ في المعنىٰ المراد) [9] . ويقول في موضع آخر: (أما معاناة النص المخطوط قراءةً وفهمًا وتقويمًا وتوضيحًا وإضاءةً لغوامضه وحلًا لمشكلاته وجلاءً لمعوصاته فهذا هو عمل المحقق علىٰ الحقيقة... إلخ) [10] . اللمحة السادسة: بعض الواجبات التي يجب علىٰ المحقق أن يلتزم بها [11] : 1- رعاية حرمة النص: فالمحقق يتكلم إلىٰ الناس بلسان صاحب الكتاب، فعليه أن يتأنىٰ ويتريث ويتلبَّث حتىٰ لا يُنطِق الكتاب بغير ما قاله صاحبُه، فهذا يكون كذبًا وتزييفًا والعياذ بالله. 2- أن يحذر من التصحيف والتحريف وهذا في الحقيقة أُسُّ العملِ وصُلْبُه، ودواعيه كثيرة، وأبوابه متعددة، ولا منجىٰ منه إلا بتوفيق الله سبحانه وإلهامه الذي يهبه لمن يشاء كفاء إخلاصهم وصبرهم ومصابرتهم ومثابرتهم. 3- التعليقات، والتعليق علىٰ المخطوطات فنٌ قائمٌ بذاته، يحتاج إلىٰ دربة وحذقٍ بما يحتاج التعليق وبما لا يحتاج، كما يحتاج إلىٰ مهارة بارعة وقدرة فائقة علىٰ الإيجاز، فمن الصفحات الكثيرة التي يقرؤها المحقق عن عَلَمٍ من الأعلام، أو حادثة من الحوادث؛ يحتاج إلىٰ بضعة أسطر، بل بضعة جمل من هذه الصفحات، وهنا تكون المهارة، ويكون الحِسُّ الصادق، ومن قبل ومن بعد يكون توفيق الله سبحانه فيما يختار وفيما يدع [12] . 4- إثبات فروق النسخ وهذا من أهون أعمال المحقق وأقلها شأنًا، وقد نَبَّه إلىٰ هذا شيوخ الفنِّ وروادُه، وبعض محققي العصر يُفْرِغُون في هذا الموضوع جهدهم، ويشغلون به هامش الكتاب بصورة قد تصل إلىٰ نصف الصفحات أحيانًا، وهذا عمل غير مقبول، ولا سائغ. اللمحة السابعة: بعض الأخطاء المنهجية في التحقيق: يقول الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -: (من التعالم: نفخ الكتاب بالترف العلمي والتطويل الذي ليس فيه من طائل، بل هو كالضرب في حديد بارد، وذلك في أعقاب ثورة الإنتاج الطباعي، تحت شعار التحقيق، بحيث يكون الأصل لو وضع في ظرف لوسعه، ثم يأتي مُحَضِّر نصوص أو ورَّاقٌ نظيف باسم: التحقيق، ويزيد في الطنبور نَغْمَةً، وكده الإثقال بالحواشي والتعليقات متوحلًا في خضخاضٍ من الأغلاط) [13] . ويقول الشيخ عبد العظيم الديب [14] وهو يصف ما تطلع به المطابع الآن من تحقيقات : (... يهولك منظرها، ويعجبك مرآها، وتقلب النص بين يديك فتجد الفتىٰ قد افتات علىٰ مؤلف الكتاب، وأثقل هوامشه إثقالا بتعليقات لأدنىٰ ملابسة - كما يقولون - بل بدون ملابسة، وتجد النص الأصلي ممزقًا في رؤوس الصفحات، مبعثرًا بين أرقام الهوامش، وتحاول أن تقرأ النص الذي هو موضوع الكتاب، وعماده ومعموده، فتجده غير مستقيم، به من خلل التصحيف والسقط ما به، مع فواصل وعلامات إن ساعدتك علىٰ قراءة النص مرة تضلك مرات ومرات...). ويقول رحمه الله: (وراج عند الناس هذا المنهج، حتىٰ إنك لتجد أحدهم يقلب الكتاب بين يديه، فإذا وجده مثقلًا مظلمًا بالتعليقات، تزدحم حواشيه بأسماء المراجع والمصادر، وأرقام الأجزاء والصفحات، قال في إعجاب، وهو يضغط علىٰ ألفاظه: هذا كتاب مخدوم!، للأسف راجت العملة الرديئة). ومن الأخطاء المنهجية في التحقيق ما نبه عليه الشيخ صالح الفوزان في تعليقه المختصر علىٰ نونية ابن القيم حيث قال: (من المعلوم أن الإمام ابن القيم رحمه الله إمام حافظ حجة في الحديث، وهو يورد في مضامين هذه القصيدة مدلولات أحاديث كثيرة محتجًا بها قد يكون لغيره وجهة نظر في بعض أسانيدها. ثم يأتي بعض الباحثين فيعلق عليها – شأنهم مع الكتب الأخرىٰ التي تعقبوا مؤلفيها فشوهوها وأسقطوا قيمتها مع أن مؤلفيها أئمة في الحديث رأوها صالحة للاستدلال بها وإن كان للآخرين رأي آخر فيها، ولم يتدخل أحد في تلك الكتب وبقيت لها حرمتها ومكانتها ولمؤلفيها رأيهم – بينما نرىٰ بعض الباحثين المعاصرين خالفوا هذا المنهج فسطوا علىٰ كتب الأئمة، وجرحوا أدلتها، وأسقطوا مكانتها، وأساءوا الأدب مع مؤلفيها، وجاءوا بآراء غيرهم ليلزموهم بها، فجَنَوا علىٰ كتب العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب الكف عن هذا العمل واحترام كتب الأئمة...) [15] . [1] ولا أزعم أني استقرأت ما في الساحة من مؤلفات اعتنت بهذا الجانب وإنما هي فوائد جمعتها لنفسي من بطون عدد من الكتب قبل سنوات وأحببت أن أنشرها الآن ليعم النفع بها. [2] انظر: تحقيق النصوص ونشرها ص52-53. [3] الحيوان (1/79). [4] المجموعة العلمية ( الرقابة على التراث ) ص278. [5] المجموعة العلمية ( الرقابة على التراث ) ص284. [6] مقولة نقلها أبو القاسم الزمخشري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (باب العلم والحكمة والأدب والكتاب والقلم)، وانظر: المجموعة العلمية للشيخ بكر أبو زيد (التعالم وأثره على الفكر) ص96. [7] انظر: مقدمة تحقيقه لكتاب نهاية المطلب ص352. [8] المصدر السابق ص347. [9] المصدر السابق ص354. [10] المصدر السابق ص25. [11] ملخصة مع تصرف يسير من المصدر السابق ص356. [12] انظر: المصدر السابق ص64. [13] المجموعة العلمية ص76. [14] انظر: مقدمة تحقيقه لنهاية المطلب ص348. [15] التعليق المختصر على القصيدة النونية للشيخ صالح الفوزان (التنبيه الأول بعد صفحة العنوان).
المتشابه اللفظي في القرآن الكريم لمحسن بن علي الشهري صدر حديثًا كتاب: "المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، دراسة بلاغية في تفسير روح المعاني للألوسي"، تأليف: د. "محسن بن علي الشهري"، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع". وأصل هذه الدراسة أطروحة علمية تقدم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في قسم الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية عام 1441هـ، وعنوان الأطروحة: " متشابه اللفظ القرآني في روح المعاني للألوسي؛ دراسة بلاغية مقارنة ". وتأتي هذه الدراسة لآيات المتشابه اللفظي في القرآن الكريم من خلال تتبعها واستقرائها في تفسير " روح المعاني " للألوسي، وهو من التفاسير المتأخرة التي جمع فيها الألوسي آراء متعددة من كتب التفاسير، وكتب علماء المتشابه اللفظي، فجاء تفسيره ثريًا بالشواهد والآراء. وقد انطلق البحث من عرض رأي الألوسي في آيات المتشابه اللفظي، وعزو الآراء المطروحة في تفسيره إلى مصادرها ما أمكن، ثم تحليل الآيات وإبراز ما فيها من نكات بلاغية وأسرار بيانية في المشابهة والمخالفة مع الموازنة والمقارنة بين ما أورده الألوسي وآراء من سبقه من العلماء والمفسرين، ومن جاء بعده، ثم اجتهاد الباحث في استثمار ما أمكن من الأدوات البلاغية، والمقام، والسياق والقريب والبعيد، واسم السورة والمقصد منها للكشف عن علل وأسرار يطمئن لها، وأسرار الكتاب لا تنفذ. وتفسير " روح المعان ي" لمؤلِّفه محمود الألوسي البغدادي، أبو الثناء شهاب الدين، من علماء القرن الثالث عشر الهجري، ويلقب بـ "الألوسي الكبير" تمييزًا له عن باقي العلماء الألوسيين الذين انحدروا من هذه الأسرة التي اشتهر أهلها بالعلم، وهو من التفاسير التي اعتمد فيها الألوسي على إبراز معاني البديع والأوجه البلاغية، وهو موسوعة تفسيرية قيِّمة، جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير المتقدمين، وامتازت بالنقد الحر، والترجيح المعتمد على الدليل، والرأي البنَّاء، والاتزان في تناول المسائل التفسيرية وغيرها، مما له ارتباط بموضوع التفسير. ويُلاحظ أن للألوسي عناية ملحوظة بذكر أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مع تعرضه لذكر أسباب النزول، لفهم الآيات وفق أسباب نزولها. وكان له استطراد أيضًا في ذكر المسائل النحوية، إذ كان يتوسع بها أحيانًا إلى درجة يكاد يخرج بها عن وصف كونه مفسرًا. وقد حرصت الدراسة عند ورود الآيات القرآنية، أن تبدأ بمقدمة يسيرة تبين المعنى العام الذي اشتركت فيهما الآيتان، وبيان موطن الشاهد فيهما، وختام هذه المقدمة اليسيرة بأسلوب الاستفهام، لبيان وإيضاح الشاهد أكثر، وربط القارئ بما يأتي من تحليل بعد ذلك. كما تقوم هذه الدراسة على إبراز علم من العلوم القرآنية، وهو علم المتشابه اللفظي الذي نشأ في رحاب علوم القرآن الكريم، ثم ازدهر بعد ذلك في حقل البلاغة؛ لكشف الأسرار البلاغية والجمالية التي تشتمل عليها هذه الآيات التي يتقارب تشكيلها اللغوي الظاهري، وتنفتح آفاقها الدلالية المتنوعة.
العقل العربي والمعرفة لا يمكن لأي أحد في أي مجتمع بشري أن يُنْكِر دورَ المعرفةِ بشتى أنواعها؛ علمية كانت أو أدبية، أو فـكرية أو فنية أو تراثية... في بناء الحضارة وصناعة المستقبل، فمنذ فجر التاريخ والإنسان يتطلع عبر الملاحظة الدائبة تدفَعُه روح الاستكشاف إلى سَبْر أغْوار الوجودِ، ومعرفة أسرار الكون والحياة والطبيعة، وفهم العناصر المُشَكِّلة لها، وكيفية انتظامِها وتأليفِها، وإدراكِ خواصِّها، وفهْم الجُزئِيَّات التي تشكلها، وغيرِ ذلك من دقائقِ المعْرفةِ التي أخذَت في التطور عبر العصور، مستفيدة من التراكمات المعرفيَّة التي أنتجتها العبقريَّاتُ الإنسانية التي كمَّل بعضُها بعضًا، وفقًا - بالطَّبع - لخصوصِيَّات الحضارة التي عاشت فيها؛ إذ كان لكل حضارة نصيب وافر من الإسهامات المعرفية التي ترجمت خصوصيات هاته الحضارات، ومنحتها طابعها المتميز، ففي تربة اليونان نمت شجرة الفلسفة والمنطق والمسرح مثلًا، وفي البيئة العربية كان الشعر ديوانًا ضاربًا أوتاده، وباتت الخطابة غارسة جذورها هناك، لتأتيَ المعرفة اللغوية عبر الدرس النحوي والمعجمي، والصرفي والصوتي، والعروضي والبلاغي، مستلهمة من التفكير الفلسفي مقوماتها، ومن المنطق والمعرفة العلمية الرياضية تحديدًا دعاماتِها في إرساء التفكير اللغوي، أما المعرفة العلمية التي بَنَتِ النظريات الممهدة لتطوير العلوم، فقد كان لها شأن آخر في رُقِيِّ الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها معرفة منفتحة على الكون والحياة، بخلاف المعرفة اللغوية المتسمة بطابع الانغلاق النسبي على الثقافة العربية، وإن كان لبعض المستعربين ممن انسجموا مع حضارتنا بعد الفتح الإسلامي الكبير - أقصد الشعوبيين تحديدًا من أبناء فارس، دون أن ننسى الروم والزنوج وغيرهم - دورٌ في تقدم هاته المعرفة؛ ذلك أن المعرفة العلمية تتسم بطابع الامتداد، والقدرة على الانفتاح بشكل أوسعَ؛ لتعانق الوجود الإنساني بكل تمفصُلاتِهِ، ولا يعني كلامنا التقليل من شأن المعرفة اللغوية مطلقًا؛ فقد كانت هاته الأخيرة اللبنة الأساسية التي رفعت المعرفة العلمية ومكَّنتها من الرقي باعتبارها أداة من أدوات الاشتغال، فقد كان كثيرٌ من علماء المسلمين لغويين ويجيدون لغة العلوم فالبيروني (362ه - 440 ه) عالم الجغرافيا والفلك والجيولوجيا والرياضيات... كان لغويًّا، وكان ابن سينا (370 ه – 427 ه) شاعرًا وله قصيدة معروفة في النفس، وقصائد جُمعت في ديوان خاص، وكتب في العلوم الآلية التي تشتمل على كتب المنطق، وما يلحق بها من كتب الشعر... وغيرهما من العلماء ممن كان لهم باعٌ ليس باليسير في المجال اللغوي... لكن مقصدنا محمول على الدور الفاعل للمعرفة العلمية في تطور الإنسانية كلها، أما المعرفة اللغوية بشتى صنوفها، فهي تظل رهينة الثقافة التي نشأت فيها، وامتداداتها إلى ثقافات أخرى مغايرة تظل محصورة في الجوانب الأكاديمية مُحْتَضَنَةً في كنف المعرفة العالمة لا غير. لقد كانت ترجمة كتب اليونان مفتاحًا فَكَّ مغاليقَ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية، فأوقدت منها مصباحها الوهَّاج الذي أنار الطريق للعقل الغربي، الذي تلقَّفَ الهدية العربية على طبقٍ من ذَهَبٍ زيَّنَه المنهج العلمي وطرائقُ البحث الدقيق، ولم يتوانَ لحظة في الأخذ بما صنعته العبقربات العربية الرائدة، التي عبَّدتِ الطريقَ أمام العقلِ الغربي للانطلاق قُدمًا نحو صناعة الحضارة المتقدمة اليوم، في الوقت الذي تراجع فيه العقل العربي لأسباب سياسية وتاريخية عميقة، كان لها أبلغ الأثر في فقدان حضارتنا لبريقها المعرفي، الذي ظل مجرد سطور في صفحات التاريخ ننْدُبُه وننُوحُ عليه كلَّما ذكَرْناه، لذلك فالعقل العربيُّ يُلامُ اليَوم - أكثر من أيِّ وقتٍ مضى - لأنَّه لم يسْتثمرِ الموارد المتاحة في صناعةِ المعْرفةِ وتدارُكِ الفراغ التَّاريخيِّ المهولِ الذي يفْصِلهُ عن العقلِ الغربيِّ، فظلَّ بذلك يتلقَّفُ ما تجودُ به قرائحُ ومُنجَزاتُ الحَضارةِ الغربيَّة يستهلكها، دون أن يمتَلكَ القُدرَة ولا حتى مُقَوِّماتِها من أجل الإنتاجِ والإبداعِ. لا نريد من كلامنا هذا أن يُؤْخَذ على محْملِ التنقيصِ وتبْخِيسِ الحقِّ، فالعبقريَّةُ العربيَّة كائنةٌ ولا يُمكِن لأيٍّ كان أن يُنْكِرَ ذلك، لكنَّ حُضورَها يَظلُّ باهِتًا وضَئيلًا بسبب عدم الاعتناءِ بصناعَةِ العقلِ العربيِّ وغيابِ التربةِ الخصبة، التي تستطيعُ فيها هاته العبقريَّاتُ أنْ تزرعَ فيها بذورَ الإبداع، لذلك لا نستغرب إذا ما وجدنا بعض المبدعين في المجال الأدبي، قد رفضتهم بلدانهم وتلقفتهم بلدان عربية أو غربية أخرى، أو علماءَ كبارًا احتضنتهم بلدان الغرب، فاتحة لهم ذراعيها ليسهموا إسهامًا لا حدَّ له في بناءِ حضارتِها وتقدم علومِها، ولعلَّ ما زاد الطينَ بَلَّةً في الوقتِ الراهن الذي جَرَفَتْ فيه العولمةُ كلَّ شيء بموجاتِها الهادِرَة، حتَّى الهُويَّات الثقافيَّة غير المُحَصَّنَة لمْ تسْلمْ منها، خاصة مع الفراغ الروحيِّ الذي يعاني منه الجيل الحالي الذي شرع ينْهَلُ من منابِع المعرفةِ الجاهزةِ عبر الوسائل الرقميَّة التي باتت متاحة للكل، الأمر الذي سيجعل من الأجيال الحالية والقادمة نُسَخًا متشابهةً غيرَ قادرة على التفكير والابتكار، والإبداع والاستدلال، والمُوازنة والحُكْمِ، والاستقراء والتذوق الجماليِّ؛ فيفقدون بذلك القُدرة على الكثير من المهارات العقلية، ويُعَطِّلونَ فيهم الملكاتِ الإسْتيطيقيَّة؛ ممَّا سيؤدي حتْمًا إلى تعطيلِ الذائقة الجمالية، وما سينتج عن ذلك من عدم القدرة على التفكير بالمعنى الوجودي، ومَنْطَقَةِ الأشياء، وصناعة النص الأدبي الذي يتطلب المقْدِرَة على الإبداع، لذلك فالعقل العربي سيكون حتمًا - بعد عِقْدين أو ثلاثة على الأكثر - على موعد للدخول إلى مقبرة التاريخ بشكل رسمي، إذا لم يتدارك الأمر قبل فوات الأوان، عبر النظر في هذا النوع من المعارف التي يتلقاها الأبناء على مرأى من المثقف، من المفكر، من المدرس... من كل من أخَذَ بحَظٍّ منَ المعرفَة، إنَّه ناقوسُ الخطر بدأ يدقُّ أبْواب العقلِ العربيِّ الذي شَرع يتخَبَّطُ في متاهَةٍ لنْ يَعْرفَ الخروجَ منها ما لم يُشَمِّرْ عن ساعِديْه عبْر نشْر الوعْيِ الجَماعيِّ عبر الخطاب الإعلامي والخطاب التربوي، ومكونات المجتمع الثقافي المدنِيِّ لتتضافر الجهودُ وتتكتَّلَ القُوى من أجل إعادة العقل العربي إلى رشده، ليعود قادرًا على الحركة من جديد، وبعث دماء التفكير الفلسفي في شرايينه، وجعله قادرًا على الخلق والابتكار، عبر زرع الروح الإبداعية في قلبه لينبض من جديد بالحياة، كما كان في سالف العهود.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها المسلمات تنطلق المسلمات الآتية من خلال عدد من النقاط التي يمكن أن ينظر إليها على أنها كذلك، أو على أقل تقدير ينبغي أن ينظر إليها على أنها الأرضية التي تمهد لهذه المسلمات، على ألا ينظر إليها على أنها موجهات بقدر ما هي تحديد للهوية التي تنطلق منها،ويمكن النظر إلى هذه المسلمات من خلال الآتي: أولًا : أن الحديث عن الإسلام وعلاقته بالثقافات الأخرى السابقة والقائمة واللاحقة حديث طويل ومتفرع، ويخضع للرأي في كثير من الأحوال، إلا أن ضابطه دائمًا، من وجهة نظرنا نحن المسلمين، مبدأ الولاء والبراء من جهة [1] ، والتعامل المطلوب والتفاعل المتوقع القائم على السماحة والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، دون الذل والتهاون من جهة ثانية. ثانيًا : لم تعد كلمة الغرب توحي بالجهة المقابلة للشرق، ولكنها أضحت مدلولًا اصطلاحيًّا يعني ثقافةً غربية، بغض النظر عن الجهة،وأمست هذه الثقافة الغربية تفضي إلى مناقضة الإسلام، مما يدعو إلى اتخاذ موقف من هذه الثقافة،ومما يدعو أيضًا إلى تصحيح هذا المفهوم القائم على التناقض. ثالثًا : أن الموقف المتخذ تجاه الغرب قد يكون على أنواع ثلاثة: فالنوع الأول: هو الذي يلفظ الغربَ، بكل ما توحيه الكلمة من ثقافة مستعلية، بل وأعراق تزعم الفوقية، إلى درجة القول: إن الغربيين أنصاف آلهة، وغيرهم من الملونين أنصاف بشر! والنوع الثاني: هو ذلك الموقف الذي يتقرب إلى الغرب، ويحاول تطويع الإسلام له، لا تطويعَه للإسلام، ويعتذر للغرب إذا كان في الإسلام ما لا يتفق مع الثقافة الغربية. والنوع الثالث: هو ذلك الموقف الذي يرى أن الغرب ساحةٌ مفتوحة، متعطشة إلى الاستقرار الروحي والذهني والاجتماعي، وأن الفرصة مؤاتية لتقديم هذا الاستقرار بأنواعه من خلال الإسلام. رابعًا : أن الغرب ينظر إلى الإسلام على أنه القوة الكامنة، أو العدو القادم، أو الخطر القائم [2] ،وهو على ما يبدو يخشى هذه القوة القادمة؛ لِما يعتقد من أنها ستؤثر مباشرة في معطيات الحضارة الغربية، وسترجع الشعوب والحضارات إلى الوراء، وما يتبع ذلك من خسران للتجربة الديمقراطية الغربية في المنزل والمكتب والمدينة والمقاطعة والولاية والدولة. خامسًا : أن الغرب بعلاقته بالشرق، وهو الإسلام هنا، يقوم على فكرة استشراقية قديمة تتجدد، بُنِيت على تشويه الإسلام، ذلك التشويه الذي أججته مواقف المسلمين من الحروب الصليبية، وعدم سماحهم للحملات بالنجاح على حساب المسلمين. سادسًا : أن الغرب بعلاقته بالشرق، وهم المسلمون هنا، يقوم أيضًا على فكرة التنصير، وأن الشرق ينبغي أن يكون غربًا في المفهوم الديني كذلك، وأنه في سبيل إنقاذ الشرق من أي شر لا بد أن يتحول الشرق إلى عالم نصراني. سابعًا : أن الغرب بعلاقته بالشرق، وهي البلاد الإسلامية هنا، يقوم كذلك على خلفية احتلالية "استعمارية"، كانت في يوم من الأيام هي المسيطرة على الشرق، حينما كان الشرق نائمًا لا يملك قدرات بشرية تفكر وتقود وتعمل. ثامنًا : أن الغرب بعلاقته بالشرق، وهي البلاد الأخرى هنا، يقوم أيضًا على نظرة عرقية، مُفادها تفوُّق الأعراق الأوروبية من آرية وغيرها على الأعراق الأخرى، بل والأجناس الأخرى؛ كالسامية، فيما يتعلق بالعرب من المسلمين،وهذه النظرة وما قبلها أَمْلَتْ على الغرب الشعور بالفوقية والسمو على الأجناس الأخرى. تاسعًا : أن الشرق الآن، والعالم الإسلامي منه بخاصة، يعيش حالةً من النهوض نسميها بالصحوة، أو بالعودة إلى الدين، مما يجعل نوع العلاقة مع الغرب يأخذ شكلًا آخر هو أقرب إلى الأشكال التي قامت عليها العلاقة قبل الحملات الصليبية التسع، وأثناءها، وبعدها قليلًا. عاشرًا : أننا لا نزال حقيقةً في حوار ذاتي داخلي حول العلاقة مع الغرب، من منطلق الأنواع الثلاثة التي ذكرت من قبل في "ثالثًا"،ويعتمد الأمر عندنا على فهم الشرق وفهم الغرب في آنٍ واحد، مما يوحي بالتخصصية هنا. من هذه النقاط العشر السابقة ينطلق النقاش حول المحددات، في معالجة العلاقة بين الشرق والغرب من وجهة نظر فريدة سوف تسعى إلى أن تقف عند كل فقرة من الفقرات أو النقاط أو المحددات، وتناقشها مناقشة تعبر عن ذاتية المناقش المبنية على قاعدة علمية موضوعية، مما يجعلها نفسها قابلة للنقاش، ومن باب أَوْلى قابلة للأخذ والرد. [1] الولاء والبراء مفهوم شرعي، ذو صلةٍ بعقيدة المسلم في علاقته مع الغير ، وهناك جدلٌ قائمٌ حول معناه ومبناه ، كما أن هناك تفسيرات قد يظهر عليها التشدد، وأخرى قد يظهر عليها التسامح في التعامل مع الآخر، لا سيما مع أولئك الذين هم ليسوا في حالة حرب مع المسلمين ، وهذا ما يأخذ به هذا الكتاب ، انظر: محمد بن سعيد بن سالم القحطاني ، الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف - الرياض: دار طيبة، 1405هـ/ 1985م - ص 476 ، [2] انظر: فنسان جيسير ، الإسلاموفوبيا/ ترجمة محمد صالح ناجي الغامدي وقسم السيد آدم بله - الرياض: المجلة العربية، 1430هـ/ 2009م - ص192.
ترجمة مختصرة للشيخ عبد الرحمن بن فُرَيّان (1348-1424) هو فضيلة الشيخ العالم العَلَم، خادم القرآن وأهله، وشيخ الدعاة والمحتَسِبين، المُحْسِن، الزاهد، القُدوة، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حَمَد بن عبد الله بن فُرَيّان الهاجِري القَحْطاني. وُلد في الرياض سنة 1348 تقريبًا كما أخبر عن نفسه -وقال في موضعٍ 1344- في أسرة خيرٍ وفضل، من أهل الرياض القدماء، وكان أبوه ( ت1372 ) وجَّهَه للحفظ والطلب مبكرًا، وكذا وجَّهَتْه والدته، وكانت من الصالحات من آل الحَمّادي. قرأ القرآن نظرًا في كتّاب صالح ابن مُصَيبيح بمسجد دُخْنة، ثم حفظ القرآن وعمره 15 سنة، وقرأه على أبيه غيبًا، ثم قرأ نصفه على الشيخ علي اليَمَاني في مدرسته عند مسجد الجفرة، فلما توفي أكمله على خَلَفه في المدرسة الشيخ محمد بن أحمد بن سِنَان. وكان أراد آنذاك يبدأ في القراءة على الشيخ محمد بن إبراهيم، فطلب منه أن ينهي القرآن على ابن سنان ثم يبدأ عليه. فقرأ على المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ -منذ حدود سنة 1363- المختصرات الأولية: ثلاثة الأصول، وشروط الصلاة، والقواعد الأربع، والأربعين النووية، وآداب المشي إلى الصلاة، وكشف الشبهات، ثم كتاب التوحيد، والواسطية، وزاد المستقنع، وعمدة الأحكام، ثم بلوغ المرام، والآجرومية، فقطر الندى، فألفية ابن مالك، كلها حفظًا وشرحًا. وبعد المغرب كان يقرأ على الشيخ عبد اللطيف -أخي المفتي- الرحبية في الفرائض بتوسع. ولازم الشيخ محمد بن إبراهيم لما فُتح معهد إمام الدعوة سنة 1374 وغيره من المدرّسين، وأنهى الدراسة في الكلية سنة 1382 دون حضور الاختبارات النهائية، تهرُّبًا من الشهادة والتعرُّض بعدها للقضاء. وقرأ في المطوّلات على الشيخ محمد بن إبراهيم، فسَرَد عليه الصحيحَيْن، واقتضاء الصراط المستقيم، وشرح التوحيد، مع التعليق. وكان الشيخ يحبُّه ويقدّمُه. وقرأ أيضًا على الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ( ت1367 ) في تفسير ابن الجَوْزي، ثم مسند أبي داود الطَّيَالِسي، ثم مسند الدارِمي، سردًا مع التعليق. وقرأ وسمع على الشيخ عبد العزيز أبو حبيب الشَّثْري في رحلتهما الدعوية إلى الشمال سنة 1380، ومن ذلك في تفسير ابن كثير، وجامع العلوم والحكم، وتفسير أضواء البيان للشنقيطي، وصحيح البخاري، والداء والدواء، وتحقيق التوحيد، ورسائل البابطين، والكبائر للذهبي، وفي النونية لابن القيم. وقرأ على الشيخ ابن باز نونية ابن القيم وغيرها. وقرأ على الشيخ عبد الله بن حُميد. ومن شيوخه في المعهد: إسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرحمن المَقْوَشي، وعبد الحميد عمار الجزائري، ومحمد البَيْحاني، وعبد العزيز بن ناصر بن رَشيد، وغيرهم. وحصَّل، وتميّز، وكان جيد الحافظة، مستحضرًا للمتون، معروفًا بسَلَامة لغته، وجَوْدة أسلوبه. عُرض عليه القضاء، والعمل في الإفتاء، وغير ذلك: فامتنع، ولكنه تولى إمامة مسجدهم في حي مِعْكال وخطابته من سنة 1366 لأواخر حياته، وكذا من أيام طلبه كان يواظب على الحِسْبة من نحو سنة 1376 لآخر عمره. وبعد عودته من رحلة الشَّمال جاءته فكرة مع الشيخ الصالح التاجر محمد بن يوسف سيتي الباكستاني في تأسيس ونشر حلقات تحفيظ القرآن بشكل واسع، وعَرَضا الفكرة على سماحة المفتي، فوافق عليها، وتأسست الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم سنة 1386، وتولى المترجم إشرافها وإدارتها، وأنشئت عشر حَلْقات في الرياض أول سنة 1387، تَلَتْها حَلْقات في المنطقة الشرقية، وغيرها. واستقدم القُرّاء من باكستان ومصر وغيرهما، ودَعَمه ولاةُ الأمر في مسيرته، ومَكَّنوه، وتوسّع الأمر، وبورك في المساعي، وأيضًا في مدارس البنات، وحصل إقبالٌ عظيم في كلِّ مكان، وصارت نهضة عامة كبيرة في العناية بحفظ القرآن. وكان يسعى في دعم الحَلْقات والجوائز من الحكومة والأمراء والتجار، ومن ماله، وكلُّه في صحيفته، وصار اسمه مقرونًا بخدمة القرآن وتعليمه وإكرام حَمَلته، وكانت عنايته في نَشْر القرآن تتعدى المدارس والحَلْقات والمساجد والهيئات الحكومية، ووصلت إلى السجون، وبسَعْيِه جاء أمرٌ مَلَكي في تخفيض عقوبة من يحفظ القرآن في السِّجْن. وأيضًا فقد استحصل على إذن من وزير المعارف في زيارات المدارس وإلقاء المحاضرات والكلمات فيها، فكان يُكثر من زياراتها، وهو من أوائل من نشر ثقافة المحاضرات قبل انتشارها على يد الدعاة، بل كثير منهم يقول إنه أول شيخٍ حَضَر عنده. وهو من مؤسسي مكتبة ابن تيمية العامة للمطالعة سنة 1389، ومن مؤسسي ندوة الجامع الكبير في الرياض كل خميس، وله مساهمات في بناء عشرات المساجد في الرياض وغيرها. وكان أيضًا صاحب جهد بارز في الحِسْبة، والمناصحة، والدعوة، فكان رمزًا فيها كذلك، يجوب البلاد ولا يفتُر عن ذلك، يخصص ثلاثة أشهر في السَّنَة للدعوة في المناطق، ويتنقَّل أيضًا في المساجد والمدارس واعظًا وناصحًا، أفنى حياته في ذلك، سوى مشاركاته الدعوية في الإعلام والصُّحف. وله هَيْبَة ووَقْعٌ كبير في القلوب، وقَبولٌ عند الخاص والعام، ويُرجى أنه انعكاسٌ لصَلَاحه وصدق نيّته، ونفع الله به الجمّ الغفير. وكان أيضًا صاحب برٍّ وإحسان وتفريجٍ لكربات الناس والفقراء، وكفالة الأيتام، ويساعد طلبة العلم، ويبذل جاهه في الشفاعات والإصلاح. وكان صاحب عبادة، وخشوع، ودمعة، وغيرة، ويداوم على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وقيام الليل. وكان زاهدًا، متواضعًا، قريبًا إلى الناس، يعيش ببَسَاطة وقناعة. وكان بارًّا بوالديه ومشايخه، ومنه أنه بقي يزور شيخه ابن سِنَان وهو في غيبوبة أربع سنوات، إلى أن أقعده المرض، وكان يتعاهد معارفه وأصحابه، بل وبعض تلامذته، ومنه شهدتُ زيارته لشيخنا الفقيه عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم أواخر عمره. توالت عليه الأمراض والأسقام أواخر عمره، وبقي متابعًا لأمور الجمعية وأعمال الخير لآخر أيامه مع تعبه، وذُكر أن أواخر أعماله قبل سويعات من وفاته: قام الليلة التي قبلها، وأرسل خطابًا يومها لأحد كبار الأمراء في دعم عَمَلٍ خَيْري، وأيضًا فقد تكفَّل الشيخ بمصاريف ولادة زوجة أحد العُمّال عنده، وولدت المغرب قبل قليل من وفاته. ثم توفي بعد منتصف الليل، ليلة الخميس سابع رجب سنة 1424 في الرياض، بعد أن تشهَّد متوجهًا للقبلة، وصلّى عليه عصرًا جمعٌ غفير في مسجد عُتيقة، وامتلأ على سَعَته، حتى صلّى الناس خارجه، وحضر كبار الأمراء والعلماء وغيرهم من جميع الفئات والأجناس، ودُفن في مقبرة العَوْد. وكثر التأسُّف عليه، ورُثي بمقالات وكلمات عديدة. ألّف رسائل صغيرة، وله ديوان خطبٍ مطبوع. وخلّف ذريّةً طيّبة، فيهم عددٌ من أهل العلم والفضل والخير. واستمرت حسناتُه بعد وفاته عبر وقفٍ، وجمعية خيرية باسمه، سوى ما خلّفه من علمٍ وثمار دعوية. حضرتُ بعض محاضراته ونصائحه في الدِّرْعِيَّة وأنا فتى، وهو من أوائل من حضرتُ محاضراته من العلماء، وقد أثّر فيّ كلامُه وسَمْتُه. وآخر ما لقيتُه لما زار مكتبة شيخنا ابن قاسم قبل أشهر من وفاته. رحمه الله تعالى، وتغمده بواسع رحمته، وأخلف على الأمة من أمثاله. ومن عيون مصادر ترجمته: • لقاء إذاعي معه سنة 1421 ضمن برنامج « في موكب الدعوة »، قام به د. محمد المشوَّح. • ولقاء معه قبل وفاته، قام بتسجيله ابنه الأستاذ خالد، ونُشر بجريدة الرياض [1] . • وأيضًا كلمات زميله الوفيّ شيخنا عبد الله ابن جِبْرين المتعددة عنه، ومنها محاضرة في مسجد العُبيكان في حي شُبْرا بتاريخ 7 جمادى الأولى 1425. • وتغريدات في حساب باسمه في « تويتر » بإشراف أحد أبنائه. • وجمع بعض أولاده الكرام كتابًا عنه في مجلد بعنوان: « خادم القرآن ». • وللشيخ إبراهيم بن عبد الله العيد رسالة بعنوان: « ابن فريّان بين القرآن والدعوة ». راجعها وقدَّم لها شيخنا ابن جبرين. • وأصدرت قناة المجد حَلْقة وثائقيّة عنه بُعيد وفاته بعنوان: « رجلٌ فقدناه » بتاريخ 16 رجب 1424، ومن أبرز من شارك فيه شيخنا ابن جبرين، رحمهما الله وإيانا والمسلمين. [1] مع ملاحظة أن التواريخ في المقابلة الأخيرة يبدو أنها أقل دقة مما في المقابلة الإذاعية والشيخ في صحّته.
السمات المميزة لكتاب الاكتفا للكلاعي (ت634 هـ -1237م) مقدمة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: لقد حظيت الأمة الإسلامية بالأفضلية على باقي الأمم، وحازت المعالي فبارت القمم، ولم تكن لها يد في تلك الخيرية لكنه فضل من الله يؤتيه من يشاء؛ أكرمها بخاتم أنبيائه النبي المجتبى صلى الله عليه وسلم فأصبحت خير أمة أخرجت للناس، فخرجت من مشارع الجهالة ومنازع الضلالة إلى أنوار الإيمان ومراغم النجاة. فلا عجب من شدة غضب المسلمين حين تلمس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم قلامة ظفر، أو من استمرار القلم في الكتابة عن سيرته وأحواله منذ البعثة إلى الآن؛ فقد كتب عنه صلى الله عليه وسلم العرب والعجم، الحبيب والعدو... ولازالت التصانيف تؤلف في هذا الشأن الجلل. ولا جرم أن علماء الغرب الإسلامي لم يألوا جهدًا في سبيل التعريف بالحبيب صلى الله عليه وسلم، وهم المعروفون بالتصنيفات الفريدة، رغم أن المعول في القرنين الأولين كان على كتابات المشارقة لأنهم كانوا أقرب معاينة لمهبط الوحي ومشاهدة لناقلي الأحاديث والأحداث - ( المشاهد كما يسميها المغاربة ) - فلم يكتفي المغاربة بالنقل أو الاختصار، بل أضافوا ونقحوا حتى أصبح المشارقة يعتبرون مؤلفاتهم من أمهات الكتب التي لا يستغنى عنها، فبرز جهابذة في الشروح النحوية لغريب السيرة ( كالسهيلي في الروض، والخشني في غريب السير... )، وآخرون تفردوا بتصانيف لم يسبقوا إليها منهجًا ومضمونا (كالقاضي عياض في الشفا)، ومنهم من جمع فأوعى ثم حذف وأضاف فنسج سيرة متكاملة لا يستغني عنها المنتهي فضلا عن المبتدي، كالإمام العلامة أبي الربيع سليمان الكلاعي صاحب"الاكتفا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفا". وهذا المقال هو خلاصة قراءة عجلة، حاولت فيها استخراج أهم السمات التي ميزت منهج الإمام الكلاعي في مصنفه السيري، وقد اعتمدت على نسختين مطبوعتين للكتاب؛ الأولى بتحقيق الدكتور محمد كمال الدين عز الدين علي، والثانية أقدم منها بتحقيق الدكتورمصطفى عبد الواحد. ولا أدعي فيه الإحاطة بكل السمات بل هو جهد المقل، فعسى أن تكون هذه المحاولة بداية لدراسات أخرى جادة حول هذا المصنف الذي لم يلق اهتمامًا يليق بمقامه وبمقام صاحبه، وقد ضمنته نبذًا مختصرة لتراجم الأعلام المذكورة فيه بغية الزيادة في الاستفادة وللدعاء والترحم عليهم، وهذا أقل ما يمكننا مجازاتهم به - رحمهم الله جميعًا. وأسأل الله الكريم أن يزيدنا علمًا بفضله وجوده، وينفعنا بما علمنا. عليه توكلنا هو حسبنا ونعم الوكيل. ترجمة المؤلف: هو: الإمام العلامة أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الحميري الكلاعي البلنسي [1] ، من كبار أئمة الحديث، قال عنه الإمام الذهبي: (الحافظ المجود الأديب البليغ شيخ الحديث والبلاغة بالاندلس) [2] . النشأة: ولد سنة 565هج خارج مرسية ثم سيق إلى بلنسية ونشأ بها. التكوين : تعلم على يد أعلام الأندلس آنذاك [3] ، وقد كانت له رحلة إلى الإسكندرية وسبتة، لكن المعول في تكوينه على علماء محتده. الوفاة: استشهد بمعركة"أنيشة"مقبلا غير مدبر سنة634 هج، يحث المجاهدين الفارين بقولته الخالدة التي ينبغي أن تحفر بماء الذهب"أمن الجنة تفرون ! "فرحمه الله رحمة واسعة. بعض السمات المميزة لمنهج الكلاعي في كتابه: إن كتاب الاكتفا ليس فقط اختصارا لكتاب المغازي لابن إسحاق(ت151ه)-كما صرح بذلك البعض- بل هو جمع فريد وترتيب بديع لأحداث السيرة النيوية، حيث واءم فيه مؤلفه بين الأقوال المختلفة مع الفصل بينها والترجيح، ليؤلف لنا بصنيعه سيرة متسقة متكاملة لاانقطاع فيها ولا حشو، وقد تنوعت مصادره كما صرح بذلك في مقدمته فأخذ من: • كتاب "المغازي" لابن إسحاق [4] (80ه-151ه): وقد أكثر من الأخذ عنه لأنه"شرب ماء هذا الشأن (يقصد المغازي) فأنقع"، لكنه لم يكن حاطب ليل يجمع الغث والسمين، بل انتقى واستقى ما هو بالتقييد حقيق وحذف ما ليس بالمقام يليق؛ قال:"لذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضروري الحثيث، ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث، حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة وخلاصة المغازي التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة". • كتاب"المغازي" لموسى بن عقبة [5] (ت141ه): رغم اختصاره فقد اختاره كمصدر لأنه أحسن العبارة، و"أتى مواضع من المغازي حذاها بسطه و حماها اختصاره". • كتاب"المبعث" لمحمد بن عمر الواقدي [6] (130ه-207ه): أخذ منه لأنه استوعب واستوفى فيه، أما كتابه "المغازي" فقد أشار إلى أنه وقف عليه لكنه فضل عليه مغازي ابن إسحاق في الفصاحة والبيان. • كتاب "التاريخ الكبير" لأبي بكر بن أبي خيثمة [7] (160ه-234ه): وصفه بالبحر الذي لا تكدره الدلاء. • كتاب الزبير بن أبي بكر [8] (172ه-256ه): أخذ منه ما يتعلق بأنساب قريش، وصرح بأنه يستحق وصف الواصف.ين له بأنه "كتاب عجب لا كتاب نسب". • كتاب "الدلائل" للقاسم بن ثابت العوفي [9] (255ه-302ه): استعان به ليكمل بعض الأحداث التي لم يجدها في المصادر الأخرى، كقصة الجان المسلم الذي هتف في مكة يوم غزوة بدر. جاء في الاكتفا: "وذكر قاسم بن ثابت في دلائله، أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة...وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه" [10] . • كتاب"الاستيعاب" لابن عبد البر [11] (368ه-463ه): وهو من المصادر التي استعان بها في بعض المسائل، ولم يذكرهافي مقدمته ضمن الكتب التي اعتمدها كثيرا، لأنه كان يستعين بها في الاستشهادات في بعض الأحيان ولم يكن عليه المعول، وقد ذكر الامام ابن عبد البر دون ذكر الكتاب الذي اقتبس منه، فقال: "وقد قال أبو عمر بن عبد البر" [12] ثم سرد حديثه. • قصيدة "معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب في ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه" لأبي عبد الله بن أبي الخصال [13] (465ه-540ه): لم يشر إليها أيضا في مقدمته ضمن مصادره، لكنه أورد منها ما رآه لصيقا بنسب الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة الاختصار. من خلال المصادر التي انتقاها ودوافعه لذلك، تتضح لنا معالم بارزة لمنهجه الذي سلكه في تصنيف، نذكر منها: 1- تقيده بشرط مصطلح "السيرة" حين أغفل ما لاينبغي ذكره وذكر ما لا يسع إغفاله (هذا أيضا كان صنيع ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن اسحاق)، فقد حذف كل ما هو خارج عن أحداث السيرة؛ كالأنساب والأشعار التي لا صلة لها بالرسول صلى الله عليه وسلم لامن قريب ولا بعيد، رغم أننا نجده يورد الكثير من الأشعار اللصيقة بشرط المصطلح، الذي حدده في عدة نقاط بقوله: "وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع، وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم، وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه، وكثير من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه، وأيامه من لدن مولده إلى أن استاثر الله به وقبض روحه الطيبة". 2- منهجه في نقد كتاب المغازي لابن إسحاق ينبئ عن شخصية متميزة برقي الحوار والخلاف، فانتقاده غلف أدبا وحف غاية الإنصاف [14] ، وهذا مما ينبغي توسمه وسلوكه في عصرنا الحالي الذي أصبح فيه الخلاف بؤرة للصراعات والمشاحنات وسوء الأدب. فبعد مدحه لابن إسحاق ومصنفه بقوله"فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع، ووقع كتابه في نفوس الخاص و العام أجل موقع"عرج على ذكر ما تخلل المغازي من قواطع "تقدح عند الجمهور في إمتاعه وتقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه"، لكنه لم يعتبرها زيادات دون فائدة بل كان منصفا أيما انصاف، فاعتبر تلك القواطع من الأصول العريقة في نسب العلم، ومن الضروري تدوينها لكن في كتب مستقلة تليق بموضوعها، قال:"فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص، إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الايراد له و النص". 3- كان يفضل الكلام المنظوم وذلك واضح من صنيعه حين أورد قصيدة"معراج المناقب"، قال في سبب إيراده للنسب الشريف نظما بأنه"أعذب جريا على الألسن وأهذب رأيا في الإفادة بالمستحسن" [15] 4- كذلك ذكر منها ما يوفي بالقصد دون حشو زائد ولا اختصار مخل"اكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد" [16] أما من ناحية المضمون فقد برزت شخصية تعرف ما تأتي و ما تذر، ترجح و توجه الأحداث بأسلوب العالم المحدث المتمكن الواثق، الذي جعل نصب عينيه مقصده الأول "وجهه الكريم"ونفع الناس بما يمكنهم أن يسلموا به في الدنيا و الآخرة، من ذلك: • ترجيحه وتوجيهه لبعض الأحداث، من ذلك قوله:"هكذا ذهب ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة و لم يعين مدة توجيهه إياه إليهم، وقد يوهم ظاهره أن ذلك كان بحدثان إسلامهم و لايصح ذلك"ثم دلل بقوله"إذ الوليد من مسلمة الفتح وإنما كان الفتح في سنة ثمان بعد غزوة بني المصطلق وإسلامهم بسنتين، فلا يكون هذا التوجيه إلا بعد ذلك و لا بد" [17] ثم استشهد بقول ابن عبد البر. • ترجيحه بين أقوال العلماء: رجح قول الزبير بن بكار على قول ابن إسحاق الذي ذهب إلى أن أبناءه صلى الله عليه وسلم الذكور هلكوا في الجاهلية، لكن الصحيح هو أن عبد الله وهو الطاهر و الطيب ولد بعد النبوة و مات صغيرا [18] ثم أورد ما يعضد هذا الترجيح من مسند الفريابي الذي ذكر أنه مات قبل أن تتم رضاعته وبعد النبوة. • دحضه واعتراضه على قول ابن هشام في شعر حسان، حيث ذهب إلى أن الشعر قيل في فتح مكة وليس قبلها كما ظن ابن هشام [19] ، بأسلوب مهذب قال:"وقول ابن هشام إن حسان قال هذا الشعر قبل الفتح ظاهر في غير ما شيء من مقتضياته" [20] مع استشهاده بأقوال علماء راسخي القدم في هذا الشأن. • ذكره لأحداث لا توجد في كتاب "المغازي" لابن إسحاق، مع الإشارة إلى أنه يرويها بإسناده، من ذلك قصة تنبؤ سيف بن ذي يزن بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وذكر أوصافه لجده عبد المطلب؛ قال: "وحديث سيف بن ذي يزن هذا عن غير بن إسحاق وهو عندنا بالاسناد" [21] . المصادر: ♦ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبوعمر يوسف بن عبد البر، ت: محمد علي البجاوي، دار الجيل، ط.1[1412ه-1992م]. ♦ الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي، ت: مصطفى عبد الواحد، مكتبة الخانجي، ط[1387ه-1968م]. ♦ الاكتفاب بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، أبوالربيع سليمان بن موسى الكلاعي، ت: محمد كمال الدين عزالدين علي، عالم الكتب، ط.1[1418ه-1997م]. ♦ تذكرة الحفاظ، محمد بن أحمد الذهبي، ت: عبدالرحمان المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، ط[1374ه]. [1] انظر ترجمته في: التكملة لابن الابار (ج2/ 708)، تذكرة الحفاظ (ج4/ ص1417)، وسير أعلام النبلاء (ج23/ ص134) كلاهما للذهبي... [2] سير أعلام النبلاء (ج23/ ص134). [3] من الأعلام: أبو القاسم ابن حبيش(585ه)، أبوبكر ابن الجد محمد بن فرج الفهري (586ه)، أبوبكر ابن جزي (583ه)، أبو جعفر القيسي (598ه) سمع عليه "الشفا" للقاضي عياض عن مؤلفه. [4] أبو بكر محمد بن اسحاق بن يسار، ولد بالمدينة وبها نشأ، وكان فتى جميلا وقرأ على علمائها ومحدثيها. كان جده يسار من سبي قرية عين التمر حين أفتتحها المسلمون في خلافة أبو بكر الصديق، سنة 12 هـ، وقد وجده خالد بن الوليد في كنيسة عين التمر من بين الغلمان الذين كانوا رهنا في يد كسرى فأخذه خالد إلى المدينة. [5] أبو محمد موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي مولاهم، ولد بالمدينة وبها توفي. عالم بالسير والمغازي، من ثقات رجال الحديث لم تشر المصادر إلى تاريخ مولده، إلا أنه حدث عن نفسه فقال: " حججت وابن عمر بمكة، عام حج نجدة الحروري " وحجة الحروري هذه كانت سنة (68ه) وعليه فمولده يكون قبل هذه الحجة بزمن يكون فيه مؤهلاً للحج. يعد من صغار التابعين ، لم يدرك إلا عدداً قليلاً من الصحابة منهم ابن عمر ، وجابر ، وأنس بن مالك ، وحدث عن الصحابية أم خالد زوجة الزبير بن العوام . حديثا أخرجه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده. [6] أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي، من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفاظ الحديث . راوية ومؤرخ سكن بغداد . كان إلى حفظه المنتهى في الأخبار والسير والمغازي والحوادث وأيام الناس والفقه . له عدة مصنفات منها: كتاب التاريخ والمغازي، المغازي النبوية (مطبوع)، أخبار مكة. [7] زهير بن حرب بن شداد الحرشي النسائي، ثم البغدادي الحافظ الحجة، أحد أعلام الحديث. نزل بغداد بعد أن أكثر التطواف في العلم، وجمع وصنف، وبرع في هذا الشأن هو وابنه وحفيده محمد بن أحمد. [8] أبو عبد الله بن أبي بكر بكار، من سلالة الزبير بن العوام. العلامة الحافظ النسابة، قاضي مكة وعالمها، كان ثقة ثبتا عالما بالنسب وأخبار المتقدمين. كانت امرأته تقول له: "والله هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر". توفي بمكة بسبب وقوعه من فوق سطحه، فمكث يومين لا يتكلم ثم مات (انكسرت ترقوته ووركه). [9] أبو محمد القاسم بن ثابت، فقيه ومحدث أندلسي سرقسطي، رحل مع أبيه إلى المشرق، فسمع من النسائي والبزار بمصر، ومن الجارود والجوهري بمكة. ألف «الدلائل على معاني الحديث بالشاهد والمثل» عني فيه بغريب الحديث، لكنه مات قبل إتمامه فأكمله والده. عرض عليه القضاء في سرقسطة وحاول أبوه أن يكرهه عليه، فاستمهله ثلاثة أيام ليستخير ومات قبل انقضاء تلك الأيام. [10] انظر ج2/ ص47. [11] أبو عمر يوسف بن عبد الله، حافظ المغرب، شيخ الإسلام. ولد بقرطبة في بيت علم (كان أبوه فقيها محدثا)، سمع من جلة العلماء كابن الفرضي، الباجي... طال عمره وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثق وضعف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان، حتى نعته بعضهم ببخاري المغرب. من تصانيفه: الدرر، التمهيد، الإنباه على قبائل الرواة.... [12] الاكتفاء ج2/ ص222(وجدت مقالة بن عبد البر بكتاب الاستيعاب ج1/ ص249). [13] أبو عبد الله محمد بن مسعود، وزير أندلسي ، شاعر، أديب، يلقب بذي الوزارتين، ولد بقرية (فرغليط) من قرى شقورة ، عاش في قرطبة وغرناطة وأقام مدة في فاس ، وتفقه وتأدب حتى قيل: لم ينطلق اسم كاتب بالأندلس على مثل ابن أبي الخصال. من تصانيفه: "ظل الغمامة" في مناقب بعض الصحابة هناك من ذكره بعنوان" ظل السحاب "عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه، "مناقب العشرة وعمّي رسول الله"، وهما مخطوطان، حسب اطلاعي القاصر. [14] عبارة كان يستعملها أستاذي الدكتور عبد الرزاق مرزوك أثناء إلقاء محاضراته في السيرة النبوية. [15] الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، ج1/ ص32. [16] المصدر نفسه: ج1/ ص37. [17] المصدر نفسه: ج2/ ص221-222. [18] المصدر نفسه: ج1/ ص199. [19] المصدر نفسه: ج1/ ص311. [20] المصدر نفسه: ج1/ ص313. [21] المصدر نفسه: ج1/ ص182.
عيسى ابن مريم عليه السلام (2) فترة حياته قبل التكليف بالرسالة والبدء في الدعوة ورد عند كتَّاب السير أن لمريم ابن عم اسمه يوسف النجار، وقيل: ابن خالها، وهو الأرجح - كان يعمل معها في خدمة المسجد في النظافة وتأمين المياه والفرش والصيانة - فلما رأى حالها وحال مولودها وهو يعرف طهارتها وتقواها من خلال العمل معها في المسجد - قرر أن يساعدها ويبعدها عن أعين بني إسرائيل؛ حفاظًا عليها وعلى ابنها من مكرهم، فأحضر حمارًا له فأركبها وابنها، واتجه بهما إلى مصر، وهذا وجه من أوجه تفسير الآية: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]، وقيل: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وروي أن مريم مكثت في مصر اثنتي عشرة سنة حتى شب ولدها عيسى، وكانت تلتقط السنابل من الأرض بعد الحصاد فتجمع ما يتركه الناس استقلالًا له وتطعمه ولدها، وورد أنها نزلت في دار دهقان خصص غرفًا ضيافة للمساكين يقيمون فيها ما شاؤوا، وقد كان له خزنة في الحائط سرقت فحزن عليها، وحزنت مريم لحزنه، فقال عيسى لأمه: يا أمه، أتريدين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بني، قال: قولي له أن يجمع مساكين الدار، فقالت للدهقان، فجمعهم، فقال: هذا المُقعَد وهذا الأعمى، لقد حمل الأعمى المُقعَد على عاتقه فوصل إلى الخزانة فسرقها، فكانت السرقة نتيجة التعاون بين الأعمى القوي والمقعد الذي يبصر، ولعاهتيهما لم يكونا موضع شك من الدهقان أو أي أحد غيره، فأسقط في أيديهما، وأعادا المال المسروق، فقال الدهقان: يا مريم، خذي نصف المال، فقالت: إني لم أخلق لذلك، قال: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنًا، وزار الدهقانَ قومٌ من الشام ولم يكن قد استعد لشرابهم، فدخل عيسى بيته وفيه جرار فارغة فأمَرَّ يده عليها فامتلأت شرابًا، ولما ظهر أمره في مصر وهو في هذه السن خافت أمه عليه، فأوحى الله إلى أمه أن عودي به إلى الشام، وفي الشام مر بعدد من الأعمال، فقد روي أنه عمل قصَّارًا - صبَّاغًا - للثياب، وأعطاه ربُّ عمله مجموعة من الثياب ليصبغها وقد وضع خيطًا ملونًا على كل ثوب لكي يصبغ بمثل لون الخيط، وأوصاه بإنجاز العمل، ثم انصرف رب العمل لحاجة له، ورُوي أن عيسى عليه السلام رماها كلها في مصبغة واحدة فيها لون واحد وتركها إلى أن عاد رب عمله، فقال له: صبغت الأثواب كما قلت لك؟ قال: نعم، وها هي في المصبغة، فقال: كلها بلون واحد! لقد خرَّبت الثياب على أصحابها، وكاد أن يتكلم كلامًا لا يليق بحق عيسى، فقال عيسى: لا تعجل، أخرجها من المصبغة، فأخرجها، فوجد ألوانها كما أراد، وكل ثوب وفق علامته، وكان عيسى يلعب مع الصبيان، فكان يقول لهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم، فيخبره، فيذهب الغلام إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأتِ لي، فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا، بما أخبره به عيسى، فتعجب أمه وتقول: من أخبرك؟ فيقول: عيسى، فخاف الناس على أولادهم أن يفسدهم عليهم، فمنعوهم من مخالطة عيسى، وكان يروي العجائب في صباه، وفشا ذلك في بني إسرائيل، حتى هموا بإيذائه، فخافت عليه أمه، فأخفَتْه عن العيون، وهكذا عاش عيسى في فترة شبابه حياة حرجة إلى أن بعث.
محمد رسول الرحمة لمارتن لينجز صدر حديثًا كتاب "محمد رسول الرحمة - دراسة مستقاة من الوثائق"، تأليف: "مارتن لينجز"، ترجمة وتحقيق: "أحمد حيدر القاضي"، نشر: "الدار الأهلية للنشر والتوزيع". وتعد هذه الدراسة للمستشرق "مارتن لينجز " أو الشيخ " أبو بكر سراج الدين " من الدراسات المبكرة في تلمُّسِ مواطن الرحمة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الكاتب يترصد الجوانب العاطفية من السيرة النبوية؛ ليعرضها بلغةٍ أدبية عميقة، تلج إلى حنايا النص، وتستخرج مكامن التأثير فيه، وهو بذلك يخرج عن الصورة التاريخية النمطيَّة التي صنعها الاستشراق، الذي كان مولعًا بإظهار القسوة في السيرة النبوية تحريفًا وافتعالًا واقتطاعًا للسياقات؛ ليصنع درعًا من الأوهام حول العقل الغربيِّ يحُول به دون النظر المنصف، والقراءة بتؤدة وتفكُّرٍ وتأمُّل، تكون حصيلته المقارنات العادلة، وربما اعتناق الإسلام أحيانًا. هكذا كان قلم الكاتب هنا بمنزلة مُجَلٍّ للحقائق، ومبدِّد للأوهام، ومعيدٍ مواطنَ الاعتبار الأخلاقي للنبي صلى الله عليه وسلم لما انقطع من نسب الفطرة بين خبر النبيِّ المعصوم صلى الله عليه وسلم وفطرة القارئ الغربي، الذي أفسد عليه الكذب والتزييف، دون أن يُبصِر الحقَّ والجمال الصادق في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. وصاحب الكتاب هو المستشرق الإنجليزي " مارتن لينجز "، وُلِد في لانكشاير بإنجلترا في يناير عام 1909م، وأمضى طفولته الباكرة في أمريكا حيث كان يعمل والده، وكان يَدِينُ بالنصرانية شأن أسرته التي لا تعرف عن الدين شيئًا إلا أنها نصرانيَّةٌ بالوراثة، وهكذا نشأ هو خاليَ النفس من أية عقيدة يؤمن بها حقَّ الإيمان. ولدى عودته إلى وطنه التحق بكلية كلينتون، حيث ظهرت عليه مواهب قيادية واضحة، رفعته إلى موقع رئيس الطلبة، ثم انتقل منها إلى أكسفورد لدراسة اللغة والأدب الإنجليزي، وبدأت سمات نضجه الفكري تتضح بعد حصوله على شهادة الـ " A-B " في الآداب الإنجليزية؛ فقد أخذ ينقب في كتب التراث عن الديانات المنتشرة في العالم؛ ليقرأ عنها جميعًا، فاستوقَفَه دينُ الإسلام كشريعة لها منهاج يتفق مع المنطق والعقل، وآداب تستسيغها النفس والوجدان. سافر بعد ذلك إلى ليتوانيا لتدريس الإنجليزية الأنجلوساكسونية وإنجليزية العصر الوسيط، واهتم في الوقت ذاته بالتراث القديم للبلاد من خلال الأغاني الشعبية والشِّعر. وفي عام 1940م سافر إلى مصر لزيارة صديق قديم له في جامعة القاهرة ( فؤاد الأول آنذاك )، ولدراسة الإسلام واللغة العربية، ولكن تُوُفِّي صديقُه في حادث فروسية، وعُرِضَ عليه أن يتولَّى المنصب الذي كان يشغله بالجامعة. وأثناء لُبثِه بمصر قرر " لينجز " اعتناق الإسلام بعد لقائه بالعديد من الصوفيين، وسرعان ما تجلى فيه أثر التدين والتصوف، وصار صديقًا مقرَّبًا للكاتب الفرنسي المسلم الصوفي عبدالواحد يحيى (رينيه جينو)؛ إذ اقتنع تمامًا بصحة نقده القاسي للحضارة الغربية. ويُذكَر أنه قد أشهر إسلامه على يد شيخ جزائري اسمه الشيخ "أحمد العلوي"، التقى به في سويسرا التي كان يعمل بها مدرسًا، بعدها قام بتغيير اسمه من "مارتن لينجز" إلى اسم "أبي بكر سراج الدين". وقد كان لرينيه جينو تأثيرٌ حاسم على فكر لينجز، ويقول عن ذلك: "إن ما أثر عليَّ وجعلني أهتمُّ بالإسلام، هو كتب مؤلِّف كبير كان مثلي اعتنق الإسلام وأصبح من قمم المتصوفة، إنه الشيخ (عبدالواحد يحيى)، لقد تأثرتُ بكتبه التي صنَّفها عن الإسلام، حتى إنني لم أقرأ كتبًا من قبل في مثل عظمة كُتُبِه؛ مما دفعني لأن أسعى لمقابلة مَن كان سببًا في إسلامي، فجئت إلى مصر حيث كان يعيش فيها وقتئذٍ". ويذكر لينجز سبب إسلامه قائلًا في بعض لقاءاته: "شاء الله لي أن أكون مسلمًا، وعندما يشاء الله فلا رادَّ لقضائه، وهذا هو سبب إسلامي أولًا وقبل كل شيء". وقد استقر لينجز في مصر طوال فترة الأربعينيات، حيث درَّسَ لطلبة كلية الآداب فكر وأدب شكسبير، ولكن أعقبت ثورة 1952م مظاهرات معادية للبريطانيين؛ نتيجة استمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتدخل بريطانيا في شؤون مصر الداخلية، وإفسادها لجميع مظاهر الحياة، وكثرة الضحايا الذين سقطوا برصاص الاحتلال دون شفقة أو رحمة، وقد قُتِل في هذه المظاهرات ثلاثة من زملاء لينجز في الجامعة، وجرى تسريح الأساتذة الإنجليز من الجامعة دون تعويض. وكانت العودة إلى لندن عام 1952م، وهناك استكمل لينجز دراسته للعربية في المدرسة الخاصة بالدراسات الشرقية والإفريقية بلندن، وفي عام 1962م حصل على الدكتوراه، وكان موضوعها "الشيخ أحمد العلوي"، ونشرها في كتابٍ بعنوان "ولي صوفي من القرن العشرين"، كان من أعمق كتبه أثرًا بوصفه منظورًا فريدًا للروحانية الإسلامية من داخلها، وتمَّ نشرها بعد ذلك في كتب مترجمة إلى الفرنسية والإسبانية وغيرها، ومنذ ذلك الوقت اعتُبِرَ لينجز أحدَ المؤرخين الأساسيين للتصوف الإسلامي. عمل لينجز عام 1955م بالمتحف البريطاني، حيث عُيِّن مسؤولَ خزانةِ المخطوطات الشرقية في المتحف الإنجليزي، وأصبح مسؤولًا أيضًا عن المخطوطات الشريفة للقرآن، وهو الأمر الذي أدَّى إلى لَفْت انتباهه إلى الخط القرآني، وتبلْوُر كتابه "الفن القرآني في الخط والتذهيب"، وقد توافق صدوره مع قيام مؤسسة مهرجان العالم الإسلامي عام 1976م، وكان له صلة وثيقة بها. كما قام أيضًا بإخراج كتالوجين عن هذه المخطوطات العربية، تم وضعهما في المتحف البريطاني عام 1959م، والمكتبة البريطانية عام 1976م. ونجد أن العلامة " حمد الجسر " يذكُرُ في رحلته إلى المتحف البريطاني قصة لقائه بمارتن لينجز، وأنه لما عرَفَ أن الشيخ عربيُّ الأصل ساعَدَه في إيجاد ما يبحث عنه من مخطوطات ومصادر، وتحدث معه بالعربية بطلاقة، وأنه لما أحبَّ الشيخ "حمد الجسر" التعرف عليه، ذكر له قصة إسلامه وعمله في مصر في خمسينيات القرن العشرين. ونجد أن كتاب "مُحمَّدٌ: حياتُه وفقًا للمصادر القديمة" ( Muhammad: His Life Based On The Earliest Sources ) من أهمِّ كتبه، وأكثرها ثراءً وروحانية، وتعتبر من روائع مؤلَّفات المستشرقين عن السيرة النبوية، كتبه عام 1973م، ونال عنه جائزة الرئيس الباكستاني. وقد اشتهر مارتن لينجز بهذا الكتاب، حتى إن البعض من المؤرخين يذكره بـ"المعروف بصاحب كتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم"؛ وذلك أنه من أوائل الكتب التي كتبها مستشرقون إنجليز عن الإسلام والسيرة المحمدية بحق، اعتمادًا على المصادر والدلائل، دون افتراء أو نظرة تعصبية مسبقة. ورحل "المؤرخ" أبو بكر سراج الدين ( مارتن لينجز ) عنَّا صباح الثاني عشر من مايو 2005م، بعد احتفاله بمناسبة مولده السادس والتسعين. وقد قام المترجم " أحمد القاضي " بترجمة وافية لهذا الكتاب المبكر لهذا العَلَم غير المعروف إلا لطائفة المتخصصين في علوم الاستشراق والباحثين فيه، وقام بالتقدمة للكتاب بالتعريف بجهود "مارتن لينجز" وإسهاماته العلمية في الدفاع عن الحضارة الإسلامية والإسلام، كما نوَّه بمواطن التميز في هذه السيرة النبوية، وأهميتها في حقل الدراسات الاستشراقية.
هرمون النمو.. أمل العلاج الجديد تتكون أجسامنا من أجهزة عديدة، تتآزر فيما بينها في نسق فريد، حتى يتمكن الإنسان من أداء وظائفه على الوجه الأكمل، والقيام بمهامه ورسالته التي أنيطت به في هذه الحياة. وجهاز الغدد الصماء ( Endocrine system ) أحد أهم أجهزة أجسامنا قاطبة، وهو الذي يقوم بمهام التحكم، وتنظيم أداء باقي أجهزة الجسم، وذلك عبر إطلاق مواد كيماوية بالغة التعقيد والدقة، تُعْرف علميًّا باسم الهرمونات. وثمة العديد من الغدد الصماء في الجسم، ولكلٍّ منها وظيفتها، كما أن لكلّ منها هرموناتها الخاصة، فسبحان الذي أحسن كلّ شيء خلقه. ومن أهم الغدد الصماء في جسم الإنسان: الغدة النخامية ( Pituitary gland ) التي تستقرّ داخل جمجمة الرأس في منطقة تعرف تشريحيًّا باسم "السرج التركي" ( Sella turcica ) وتضبط هذه الغدة عملَ بعض غدد الجسم الأخرى، فغدت بذلك قائدَ الفرقة الذي يتحكم بأعضائها. وتفرز الغدة النخامية هذه سبعة هرمونات تقوم بوظائف حيوية هامة في الجسم، وأهم هذه الهرمونات: هرمون النمو ( Growth hormone ). ( وهذا هو موضوع بحثنا )، والهرمون الموجّه للغدة الدرقية المعروف بهرمون ( TSH ) الذي يقوم بتنظيم أداء الغدة الدرقية، وتنظيم إفرازها لهرموناتها الخاصة، والهرمون الموجّه للمبيض المعروف بهرمون ( FSH ) الذي يؤثر في مبيض المرأة الذي يفرز الهرمونات الجنسية، ومن الهرمونات الأخرى: البرولاكتين ( Prolactin ) الذي له أثر كبير في تنظيم عملية الرضاعة الطبيعية. وما يهمنا في مقامنا هذا هو هرمون النمو، الذي يتضح من اسمه أن له دورًا هامًا في عملية نمو الجسم. ويتم إفراز هذا الهرمون بمعدلات فائقة الدقة، إذ إنه لو زادت تلك المعدلات أو حتى قلت: ( ولو بنسب صغيرة جدًّا ) فإن الجسم سيتأثر، وستظهر فيه تغيرات مرضية، فلو قلّ -على سبيل المثال- إفراز هذا الهرمون لقلّ نمو الجسم بشكل ملحوظ، ولأصيب الطفل بقصر القامة، فيغدو أقصر من أقرانه بشكل ملحوظ. وعلى العكس من ذلك فلو زاد إفراز الهرمون فوق حده الطبيعي فإن الجسم يصاب بما يعرف بالعملقة، وهنا يغدو المريض ضخم الجسد والأطراف بصورة ملحوظة، ويصاحب ذلك مظاهر مرضية أخرى، مثل: كثرة التعرق، وآلام المفاصل والعضلات، وقد يظهر الداء السكري، وارتفاع ضغط الدم. وثمة دراسات أجريت حديثًا، واستهدفتْ معالجة المسنّين عبر إعطائهم هرمون النمو الذي تمّ تطويره في المختبر، وقد جاءت نتائج تلك الأبحاث مبشّرة، إذ أدى ذلك إلى زيادة ملحوظة في كثافة عظام أجسام هؤلاء المرضى وكتلتها، وزيادة قوة العضلات، وتقليل كتلة الدهون في الجسم، بالإضافة إلى زيادة مستويات الطاقة في الجسم، وزيادة معدل استهلاكها، مما أدى إلى إعطاء شعور مفعم بالصحة والنشاط والعافية. ونتيجة لذلك شاع اعتقاد بين صفوف العلماء بأن الطب تمكن أخيرًا من إعادة ينبوع الشباب إلى المسنّين، عبر حقنهم بدواء سحري يُعْرف بهرمون النمو. إلا أن العناوين البراقة التي قادت إلى ظهور حملة دعائية ضخمة بشأن هذا العقار مبالغ بها بعض الشيء، إذ إن هذا العقار لن ينجح حتمًا في وقف ساعات الشيخوخة عند حد معين، إلا أنّ هذا بالطبع لا يعني عدم حدوث تحسن في علاج حالات تقدم السن المرتبطة ببعض التغيرات الفسيولوجية والمرضية المشاهدة في قطاع كبير من مجتمع المسنين. حول هرمون النمو: يُفرَز هرمون النمو من الفص الأمامي للغدة النخامية في صورة دفعات عدة تتواتر في اليوم والليلة. وتحدث الدفعة الأقوى من دفعات إفراز هرمون النمو عقب بداية النوم العميق بفترة قصيرة، ولا يتأثر عدد الدفعات المفرَزة باختلاف الجنس أو العمر، إلا أن هذه العملية الفسيولوجية تتناقص تدريجيًّا مع تقدم العمر، ويقلّ بصورة ملحوظة إنتاج الهرمون بعد سن الخمسين، ويوقف الإنتاج تمامًا لدى 50 % من الناس بعد هذه السن. وبانخفاض إنتاج هرمون النمو مع تقدم عمر الإنسان تعتريه العديد من التغيرات الفسيولوجية والمرضية في جسمه، ومن ذلك: 1- تنخفض كثافة العظام وكتلتها من 15% لدى الشباب، لتصبح 8 % لدى المسنين فوق سن السبعين. 2- تنخفض كتلة عضلات الجسم من 40 % لتصبح 30 %. 3- يزيد حجم النسيج الدهني للجسم من 20 % إلى 40 %. 4- يصغر حجم بعض أعضاء الجسم الداخلية كالكلية والمعدة والأمعاء الدقيقة والكبد والطحال. 5- تضعف بعض وظائف جهاز المناعة في الجسم، ويترافق هذا مع ارتخاء الجلد، بسبب حدوث بعض التفاعلات المناعية. تطورات تصنيع هرمون النمو: تمّ في مطلع هذا القرن التعرف على هرمون النمو، ومعرفة دوره في نمو الجسم وبنائه. وبعد خمسين سنة من اكتشاف هذا الهرمون تمكن العلماء من الحصول على خلاصته النقية من الغدة النخامية بغية إجراء التجارب المعملية عليها. وتمت أول تجربة علاج ناجحة بوصف هذا الهرمون في عام 1958م، حينما تم إعطاء خلاصة الهرمون المستخلصة من الغدة النخامية إلى طفل مصاب بأعراض مرضية ناتجة عن قلة إفراز جسمه لهذا الهرمون. وفي مطلع الثمانينيات، تم استبدال الهرمون المستخرج من الجثث بهرمون صناعي تم تصنيعه معمليًا، وأطلق عليه اسم "هرمون النمو الإنساني المصنّع" Recombinant human growth hormone الذي يتمّ إعطاؤه حاليًا لمعالجة الأطفال المصابين بتأخر النمو الناتج عن نقص مستويات هرمون النمو في أجسامهم. استخدامات هرمون النمو المصنّع: نظرًا لصعوبة الحصول على هرمون النمو الطبيعي المستخلص من الغدة النخامية فقد اقتصر على استعماله في علاج الأطفال المصابين بنقص إفراز هرمون النمو. وفي أواسط الثمانينيات حدثت في هذا المجال نهضة علمية كبيرة طورت قدرة التصنيع المعملي للهرمون بشكل ملحوظ، مما أدى إلى استخدامه بشكل أوسع، وفي مجالات علمية أخرى. وفي ذلك الوقت وضع العلماء فرضيتهم التي نصّت على أن العديد من التغيرات الفسيولوجية والوظيفية المشاهدة في الأشخاص المسنّين تنشأ عن ضعف مقدرة أجسامهم على إنتاج هرمون النمو. وتمّ في تجارب علمية أخرى دراسة حالات مرضية تعطل لديها إفراز هرمون النمو، وقد تم فيها إعطاء هرمون النمو في صورة حقن عضلية، وهو ما أدى إلى تقليل دهون الجسم، وتحسن ملحوظ في أداء وظائف الجسم عمومًا وخلايا الجسم المناعية على وجه الخصوص. كما قلت مستويات الكولسترول لدى تلك الفئة المستهدفة بهذا العلاج، ولوحظ تنشيط عملية صناعة خلايا الدم المختلفة، وزادت كثافة عظام أجسامهم، وأوزان كتلة العضلات فيها. كما دلت تجارب أخرى حديثة على إمكان استخدام هذا الهرمون في علاج بعض حالات الحروق، إذ أن الجسم يحتاج في حالة إصابته بحرق ما إلى مواد فسيولوجية تساعده في عملية بناء أنسجته المصابة من جديد، وتعويض ما فقد من خلايا، وهي خواص فريدة تتوافر في هرمون النمو. التأثيرات الجانبية لهرمون النمو المصنّع: ثمة القليل من التأثيرات الجانبية التي تمت ملاحظتها في التجارب المجراة عقب استخدام هرمون النمو المصنّع، إلا أنّ تلك التأثيرات قصيرة الأمد، وسرعان ما يزول أثرها من جسد المريض. ومما لوحظ من تأثيرات جانبية في هذا المجال: حدوث احتباس مؤقت للسوائل في أنسجة الجسم، وإصابة بعض المرضى بآلام المفاصل، وإصابة آخرين بارتفاع مستوى السكر في الدم، وزيادة ضغط الدم. وعلى الرغم من عظم الفائدة التي تقدمها المعالجة بهرمون النمو، إلا أن استخداماته الطبية لا تزال ضمن حدود ضيقة، ولم يفتح الباب حتى الآن على مصراعيه أمام الألوف من الأشخاص الذين يرغبون في إعادة روح الشباب والحيوية إلى أجسامهم من جديد، فالرؤية لم تتضح حتى الآن بشأن سلامة الدواء وأمانه التام في أجسام مستخدميه، إلا أن قادمات الأيام قد تكون حبلى بالمفاجآت السارة في هذا المجال.
نخبتنا تموت مملوءة العنوان خطير لكن الواقع أخطر، يحدث هذا في ظل الوقت الكبير الضائع بين غياهب وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تسرق منا عمرًا لا يرجع ولحظاتٍ لا تعود، لم نعد نستمتع بحديثنا مع الكبار إذ صار الهاتف الذكي بين أيدينا طوال الوقت، نتفقده من لحظة إلى أخرى خوفًا من أن يفوتنا خبر من أخبار هذا العالم الافتراضي الكاذب والحامل للطالح أكثر من الصالح، فلم نعد نستمتع باللحظة الجميلة؛ لأننا نريد أن يشاهدها العالم بغايه التفاخر أو المشاركة، ولكن نسينا الأهم وهو الاستمتاع بها لأن الخبر المؤكد هو أنها لن تعود... وفي خضم كل هذا وذاك، ساعتنا تمر، يومنا يمر وعمرنا يتناقص. نزلت نسبه المطالعة العالمية إلى نسبة مخيفة جدًّا تنبئ بجيل قادم سطحي جدًّا، لا الكتاب رفيقه ولا الجديد المفيد هدفه، وصارت نخبة الجيل القديم تصارع من أجل ترميم ما أُفسد ولكن دون جدوى. نخبة الجيل السابق من حفظة القرآن المعتدلين والباحثين العاشقين لكل مختبر بحث والكتَّاب الرائعين والفنانين المبدعين أصبحت مخنوقة من كثره تدفق الأفكار في جعبتها، فكل الأبواب صارت مغلقة في وجهها لأن الحصص الثقافية والتربوية والعلمية أصبحت مملة جدًّا للجيل الجديد، وأضحت تسبب له حالة من التخمة الدائمة من العلوم بشتى أنواعها، وكنتيجة صارت نسبة مشاهدة هذه الحصص في الحضيض وأصبح معظم مالكي القنوات يلجئون إلى البحث عما يزيد من نسبة المشاهدة وما يدر بالأموال على القنوات ولو على حساب الذوق العام الذي أصبح في تردٍ مستمر لأن لغة المال طغت وعمت القلوب. اشتقنا لرؤية النخبة على شاشات التليفزيونات والهواتف وسئمنا الرداءة في كل شيء، وحتى كلمة صباح الخير لم يعد لها معنى، فأي خير في أمة تموت نخبتها مملوءة بالعلم والتسامح والفن والثقافة والأدب والتربية وأي خير في زمان لا يتحسر على فقدان عالم دون الاستفادة من علمه. يقول الكاتب (تود هنري): لا تذهب إلى قبرك وأفضل عمل لك مازال بداخلك، مُت فارغًا. Don't go to the Grave with your best work still inside of you. Die empty .(Todd Henry) اسألوا من فضلكم أبناء وأصدقاء النخبة عن كمية المشاريع المدفونة مع أحبابهم وذويهم وإجاباتهم ستكون كفيلة بالحسرة الأبدية .
تلخيص (كتاب الطب) من فتح الباري، للإمام بن حجر العسقلاني ت 852 هجري. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبعد: قال ابن حجر: اعلم - رحمك الله - أن الطب نوعان: 1- طب قلب: فهذا معالجته بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- وطب بدن: وهو المراد هنا، وغالبه راجع لتجربة. (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء». في هذا الحديث تأكيد على فعل الأسباب، وأن الشافي هو الله، وانما التداوي كدفع الجوع بالأكل والعطش بالماء. (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة، في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي». • لم يٌرد النبي صلى الله عليه وسلم حصر العلاج في هذه الثلاثة إنما هي أصول العلاج. ♦ أولًا: في الحديث عن الحجامة: • الحجامة أنجح هذه الثلاث عند هيجان الدم. قلت: يقول الدكتور جبر الواقدي – المختص في أمراض الروماتيزم – الحجامة عملية تنظيف وتطهير للجسم من السموم والدماء الزائدة التي تعتبر من فضلات الدماء بداخل الجسم الذي يسعى لتخلص منها، والحجامة تقول بتحريك الدورة الدموية، وتنشيط خلايا الكبد، وهي علاج مهم لأمراض القلب والسرطان والضعف الجنسي [1] . ثم قال ابن حجر: • الحجامة في وسط الرأس نافعة جدًّا. • والحجامة على الكاهل - أعلى الظهر وتحت العنق - نافعة في وجع المنكب والحلق. والحجامة على الأخدعين - عرقان بجانب العنق، أسفل الأذنين - نافعة في أمراض الرأس والوجه كالأذنين، والعينين والأسنان والأنف والحلق. • وأسباب الصداع كثيرة منها ما يكون من ورم في المعدة، أو ريح غليظة فيها، أو بسبب أعراض نفسية كالهم والحزن، والحجامة نافعة في الشقيقة والصداع [2] . • وعلاج الشقيقة بالحجامة، ويكون أيضا بشد الرأس فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه. ♦ ثانيًا: في الحديث عن العسل: • يجلوا الأوساخ التي في العروق والأمعاء ويدفع الفضلات، ويغسل خمل المعدة. • يساهم في إدرار البول، وينفع في السعال الكائن من البلغم. ♦ ثالثًا: في الحديث عن الكي: • الكي يستعمل فيما لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا كانت العرب تقول: (آخر الدواء الكي). • نهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا ليس لتحريم، يدل على ذلك حديث جابر: رُمي سعد بن معاذ على أكحله فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الحبة السوداء –: « شفاء من كل داء إلا السام »؛ أي: الموت. من فوائد الحبة السوداء أنها مذهبة للنفخ، والبلغم. قلت: عُمل بحث عن الحبة السوداء في السعودية ووصلوا إلى أن العدد 7 له تأثير طبي أوضحته المختبرات الطبية [3] . ووجد أن الحبة السوداء تقلل من الأمراض السرطانية، ولها تأثير في علاج الربو، وتساعد في رفع المناعة [4] . (4) روي عن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر بالتلبين للمريض والمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن). قلت: طريقة عمل التلبينة: طحين الشعير يوضع عليه حليب ثم يوضع على النار حتى تثخن. فوائدها: • تريح الفؤاد وتزيل الهم. • روي عن عائشة قالت كان رسول الله إذا أخذ أهله الوعك، أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم بالحساء منه ثم قال: « إنه يرتوي فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها بالماء. (5) باب الإثمد والكحل من الرمد: روي عن ابن عباس رضي الله عنه اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلوا البصر وينبت الشعر. [1] مجلة الأسرة، العدد 27، صفحة 782. [2] الصداع كامل الرأس، والشقيقة تسمى اليوم (الصداع النصفي). [3] ذكر ذلك البرفسور جابر القحطاني، في برنامج في الصورة مع المديفر، الحلقة 18. [4] https://youtu.be/UrwUvhSUZNo .
من تاريخ التعليم القرآني بالأندلس والمغرب لعبدالعزيز العيادي صدر حديثًا كتاب "من تاريخ التعليم القرآني بالأندلس والمغرب"، تأليف: د. "عبدالعزيز العيادي العروسي"، أشرف على التحقيق: د. "عبدالفتاح الزينيفي"، دراسة ومراجعة: د. "حمزة بن علي الكتاني"، في 13 مجلدًا، نشر: "دار سليكي أخوين للنشر والتوزيع"، بطنجة. وتضمن هذا الكتاب دراسة صوتية إحصائية وزنية ضبطية لمبحث التنوين، أحد المباحث في علوم القرآن والتجويد، حيث تضمنت موضوعات الكتاب: • دراسة صوتية لإبراز الأصوات المختلفة الناتجة عن إصدار التنوين (نون ساكنة) على مستوى الاتصال والانفصال، والإظهار والإدغام، والغُنة، والإقلاب والإخفاء. • دراسة ضبطية لإبراز الأماكن المخصصة لوضع التنوين من الكلمة المنونة، وأماكن الائتلاف والاختلاف، معزَّزة بالأنصاص الضابطة. • دراسة إحصائية تبرز خريطة الكلمات المنونة في القرآن الكريم المفردات والثنائيات والثلاثيات... إلخ، بالنصب والرفع والكسر، وأماكن وجودها مدعمة بالأنصاص القرآنية. • دراسة وزنية، تبرز الكلمات المنونة المشتركة في التفعيلة الصرفية. كما قام الباحث بإدراج بعض أنصاص الرواية المتداولة بشمال المغرب بداية القرن العشرين بخصوص توجيه القراءات القرآنية بواسطة هذه الأنصاص. كما وضع الكاتب بعض الاستراحات التربوية التي تعطي للقارئ نكتًا وفوائدَ تربوية نافعة في ثنايا البحث. والكاتب هو د. "عبدالعزيز العيادي العروسي" متخصص في علوم القراءات القرآنية ودراساتها، نال درجة الدبلوم العالي وذلك عن دراسته "الأنصاص القرآنية" (مجلدين) ، ومن مؤلفاته الأخرى: • مصحف الأنصاص (مجلدين) . • الحطيَّة والاتصال (4 مجلدات) . • كناوية. • المنهاج في شرح الرجراج. • حروف الاستعلاء. • المعمرة: المدرسة الأولى. • الجامع في رسم مصحف ورش. • السُّلكة. • المازوري: أيقونة الحفاظ. • الوقفة الهبطية. وخارج إطار القراءات له من المؤلفات: • فلسفة الفعل - من محاولات التأسيس إلى آفاق النقد. • المولد (الموروث الشفوي) . • طوائف الزوايا (مترجم) . • دليل الإمام الخطيب. • حقوق الطفل في الإسلام. • المعمرة- أدبيات القراءة واكتساب الأخلاق.
كيف يكون الحرير علاجا؟ بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. لقد سمح رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في موضع بلبس الحرير لاثنين من الصحابة اشتكيا من حكة بهما، في حين أنه حرَّم لبس الحرير للرجال في موضعٍ آخر؛ ففي "الصحيحين" من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام رضي الله تعالى عنهما في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما. وفى صحيح البخاري عن حُذَيفة، قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن لُبْس الحرير والدِّيباجِ، وأن يُجلَسَ عليه. وقال: « هُو لهم في الدُّنيا، ولكم في الآخِرَة ». فما هو سر ترخيص استعمال الحرير للرجال؟ لقد استخدمت خيوط الحرير كنسيج منذ آلاف السنين وهذا لخصائصها الفريدة، فالحرير يتميز بالقوة الميكانيكية والتحكم في الرطوبة واللمعان والملمس الناعم والشعور اللطيف. ويتم إنتاج الحرير من طرف العديد من الحشرات والفراشات والعناكب، لكن ليس كل أنواع الحرير قابلة للاستعمال كأنسجة للباس. كما استخدم الحرير كمواد خياطة جراحية لعدة عقود، خاصة للبشرة والعيون. وفي العصر الحالي تم استخدامه في الطب والعلوم الحيوية مثل هندسة الأنسجة وتوصيل الأدوية، فهو يمتلك الخواص المطلوبة لتطبيقات المواد الحيوية، بما في ذلك التوافق الحيوي، نقص السمية والتهيج، وكذا الخصائص الميكانيكية الممتازة، التي يمكن أن تؤدى في ظروف مختلفة من الرطوبة ودرجة الحرارة. وعندما يستعمل الحرير كدعامة في الهندسة الخلوية فإنه يظهر توافق مع الخلايا الجذعية الوسيطة البشرية في المختبر، وهذه الدعامات تضاهي دعامات الكولاجين؛ بحيث تشبه بنية ألياف الحرير تمامًا بنية شعر الإنسان (97٪ من البروتينات و 3٪ من الدهون والمواد الشمعية)، مما يسمح باستخدامه في الجراحة وعلى جلد الحرقى مباشرةً. إضافة إلى هذا، يمكن معالجة الحرير وتشكيله إلى مجموعة متنوعة من المواد، مثل المساحيق، الأغشية الرقيقة، الألياف، المواد الهلامية، الرغاوي، والأغلفة حسب الاستعمال. ونظرًا لهذه الخصائص الفريدة، هناك اهتمام متزايد باستخدام الحرير في التطبيقات البيولوجية. ومن المتوقع أن تكون ألياف الحرير المتوافقة حيوياً مادة "حيوية ذكية" للاستخدام الطبي مستقبلا. وخيوط الحرير شديدة المقاومة وسلسة تمامًا وأسطوانية ولا تسبب احتكاكًا على الجلد. كما يساعد الحرير في الحفاظ على درجة حرارة الجسم عن طريق تقليل التعرق الزائد وفقدان رطوبة الجسم الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الإصابة بجفاف الجلد. تُظهِر بعض الدراسات العلمية، بعد فحص آثار غشاء حريري على جروح الجلد بسمك كامل، أن الجروح المغطاة بطبقة حرير تلتئم سبعة أيام أسرع من الجروح المغطاة بمواد تقليدية. وذُكِر أنه يمكن بسهولة إنتاج وتعقيم الغشاء الحريري كضماد للجلد، كما أنه يعزز تصنيع الكولاجين ويقلل التورم وآثار الجروح بفضل الاستجابة الالتهابية ويعزز النسيج الطلائي. أما المرضى طريحي الفراش الذين يعانون من القرحة الناقبة، فقد كان استعمال هلام مصنوع من الحرير وكذا أفرشة حريرية جد نافع لحالتهم، مقارنة مع الأفرشة القطنية التي تزيد من معامل الاحتكاك وبالتالي تلف الجلد. وللألياف الحريرية استعمالات أخرى، مثل خاصية ربط جيدة تستخدم في الأوتار والأربطة الاصطناعية. تمت صناعة أوعية دموية باستعمال ألياف حرير أنبوبية منسوجة وجربت على حيوانات المخبر.كما أن التعديل الكيميائي للحرير يضيف استخدامات طبية جديدة، مثل الكبريتات لصنع حرير مضاد للتخثر ومواد مضادة لفيروس السيدا. وهكذا يتضح جزء من أسرار لبس الحرير لرجلين كانا يشكوان الحكة، من خلال خواص قماش الحرير الذي يقلل الاحتكاك مع الجلد فيقل الالتهاب والحكة. وهو سبق للسنة النبوية في استعمال أقمشة طبية. وقد تُكتشَف حقائق أخرى لترخيص لبس الحرير. فالحمد لله الذي جعل الحرير علاجًا في الدنيا ولباسًا لأهل الجنة في الآخرة، القائل في كتابه العزيز: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [ف اطر: 35]. مراجع: ♦ الطب النبوي لابن القيم الجوزية (نسخة إلكترونية). ♦ U.-C. Hipler, P. Elsner (eds), (2006) Biofunftional Textiles and the Skin. Curr Probl Dermatol, Basel, Karger, vol 33, pp 1-16, 127-143. ♦ D. Dawson (2013) Introduction to Biotribology, In , Q.J. Wang and Y.-W. Chung (eds.) Encyclopedia of Tribology, pp 1841-1849. Springer Science N.Y. ♦ G.W. Stachowiak (2017) How tribology has been helping us to advance and to survive. Friction 5(3), 233-247. ♦ K. E. Beschorner (2013) Biotribology and human tribology. In : P.L. Menezes et al. (eds) Tribology for Scientists and Engineers: From Basics to Advanced Concepts, pp 583-603. Springer Science N.Y. ♦ S. Rajendran, S.C. Anand (2006) Contribution of textiles to medical and healthcare products and developing innovative medical devices. Indian Journal of Fibre and Textile Research, 31, 215-229. ♦ Y. Cao, B. Wang (2009) Biodegradation of Silk Biomaterials. International Journal of Molecular Sciences, 10, 1514-1524. ♦ A.J. Rigby and S.C. Anand (2000) Medical textiles, In : A.R. Horrocks, S.C. Anand (Eds) Handbook of Technical Textiles. CRC Press-Woodhead Publishing LTD. pp 407-424. ♦ Y. Tamada, K. Kojima (2014) Silk Fibers as Smart Materials Toward Medical Textiles. In : X. Tao (Eds) Handbook of Smart Textiles. Springer, Singapore. ♦ M.S. Zafar, K.H. Al-Samadani (2014) Potential use of natural silk for bio-dental applications. Journal of Taibah University Medical Sciences. 9 (3), 171-177. ♦ S. Kawabata, N. Kanda, Y. Hirasawa, K. Noda, Y. Matsuura, S. Suzuki, K. Kawai, (2018) The Utility of Silk-elastin Hydrogel as a New Material for Wound Healing. Plast Reconstr Surg Glob Open;6:e1778. ♦ J. Twersky, T. Montgomery, R. Sloane, M. Weiner, S. Doyle, K. Mathur, M. Francis, K. Schmader (2012) A Randomized, Controlled Study to Assess the Effect of Silk-like Textiles and High-absorbency Adult Incontinence Briefs on Pressure Ulcer Prevention. Ostomy Wound Management; 58 (12), 18–24.
١٠٠٠ فائدة وخاطرة لأحمد بن براك الهيفي صدر حديثًا كتاب "١٠٠٠ فائدة وخاطرة"، جمع وإعداد: د. "أحمد بن براك الهيفي"، تقديم الشيخ الدكتور: "عبدالعزي ز بن محمد السدحان"، نشر: " دار التراث الذهبي للنشر والتوزيع" بالرياض، "مكتبة الإمام الذهبي" بالكويت. وهذا الكتاب فوائدُ علميَّة منتقاة، وخواطر لطيفة، جمع فيه مصنِّفُه 1000 فائدة من فنون منوعة، حيث زان تلك الفوائدَ والخواطر حسنُ الانتقاء وحسن الاختصار في السرد، ونجد أن من مناهج تقييد العلم: إفراد مصنَّفات تتضمن فوائد علمية، تكون حصيلة عمل الكاتب ونظراته في الكتب على مدار سنوات عديدة، وتكون تلك المصنَّفات تارة مقصورة على فوائدَ في علم مخصوص، وتارة تكون فوائد في علوم كثيرة. وهي من نوع الكتب التي يبدأ بها طالب العلم المبتدئ، وكمدخل لمن أراد حبَّ القراءة، والنظر في الكتب، خاصةً الناشئة، حيث يمكن أن يُقرأ هذا الكتاب في الجلسات التعليمية، وحلقات العلم في المساجد، وغيرها من المنتديات، حيث تعتمد على الإيجاز والتنويع لعدم الإملال، ولسهولة الحفظ والمدارسة. وقد قال الكاتب في مقدمته أنه بدأ بجمع تلك الفوائد والخواطر منذ ما يقارب عشر سنين، حيث كان قدوته في تقييد وجمع ما يمر عليه من فوائد شيوخه "عبدالعزيز بن محمد السدحان"، والشيخ "محمد بن سليمان السنين"، حيث كثيرًا ما تحدَّثا عن أهمية تقييد هذه الفوائد وحفظها لطالب العلم. وهي فوائد متنوعة في مجالات شتَّى، قسمها الكاتب على النحو التالي: 1- فوائد في العقيدة. 2- فوائد في التفسير. 3- فوائد في الحديث. 4- فوائد في الفقه. 5- فوائد في الأخلاق والآداب. 6- فوائد متنوعة. هذا إلى جانب مجموعة من الخواطر بسبب موقف ما، أو موضوع قرأه المؤلِّف، أو قضية تُطرح على الساحة، والموقف الشرعي تجاهها. ومن تلك الفوائد قول المؤلِّف: فائدة : آية جمَعَتِ الطبَّ كلَّه: عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال: قد جمع الله الطب كلَّه في آية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31]. وقول المؤلِّف: فائدة : من تدعو لهم الملائكة عليهم السلام؟ 1- من عاد مريضًا. 2- من زار أخًا له في الله تعالى. 3- منتظر الصلاة. 4- من دعا لأخيه بظهر الغيب. 5- المتصدِّق. 6- من نام على طهارة. 7- معلِّم الناس الخير. 8- من وصَلَ صفًّا. [الدليل العلمي، للشيخ د. عبدالعزيز السدحان]. وقول المؤلِّف: فائدة : مراحل تدرج العلم: ﴿ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 13]. قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع ثم الفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر. [القرطبي] ومن تلك الفوائد المقيَّدة أيضًا التي جمعها المؤلِّف: قال صلى الله عليه وسلم: ((من أتَى عرَّافًا أو كاهنًا، فصدَّقه بما يقولُ، فقد كفر بما أُنزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم)). "من أتى": الإتيان له صور عديدة: بالذهاب إليه. بالجلوس إلى قارئة الكف. أو الفنجان. أو صاحبة الودع. بمطالعة أبراج الحظ بمشاهدة بعض الفضائيات والصحف. [الشيخ صالح الفوزان] ومن تلك الخواطر قول المؤلِّف: خاطرة : ليس كل ما يُعلَم يُقال: ليس كل ما يُعلم يُقال، وليس كل ما يُقال يُقال لأي أحد، وليس كل ما يُقال يُقال في أي مكان أو أي وقت. والمؤلف د. "أحمد بن براك الهيفي" عمل لدى ‏وزارة الدولة لشؤون مجلس الأمة‏ بالكويت، من مصنَّفاته: • "ما اتفق عليه أئمة التابعين في التفسير ووافق الرأي من خلال تفسير الطبري سورتي الفاتحة والبقرة". • "1000 فائدة من تفسير أضواء البيان".
المراعاة الثقافية وسبب ثالث يمكن النظر إليه من خلال قابلية هذه المواثيق للتطبيق دون التصادُم المباشر مع الثقافات الأخرى التي لا تقف بالضرورة ضدَّ الفكرة من حيث المبدأ، ولكنها تتحفَّظ على بعض التفاصيل في موادِّ هذه المواثيق، وتجد أنها تتعارض مع مسلمات ثقافية يتعذَّر التنازُل عنها [1] ،ولا يعني هذا رفض هذه المواثيق جملة وتفصيلًا، كما هي حال بعض ردود الأفعال المتسرعة، ولكنه يعني بالضرورة إشراك جميع الثقافات بالاستقراء في صياغة مواثيقَ متفق عليها من حيث المبدأ. لدينا في ثقافتنا الإسلامية أن الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها، ومن ذلك البحث عن نماذج حقوقية تفصيلية ذات شمولية في التطبيق، والتماشي مع الاتفاقيات الدولية حول حقوق الإنسان ما لم تُفْضِ إلى تناقض أو تعارض مع البديل الإسلامي الذي نعتقد أنه الأولى والأكمل، ومن ثم فإنه في عمومه هو النموذج الحي الذي ينبغي تبنِّيه عند صياغة أي إعلان عالمي يكفُل واقعية التطبيق، لا سيما أنه يترك التفصيلات والفروع للبيئة المراد تطبيق العموميات الحقوقية فيها، دون الخروج عن السمت العام للحقوق الفطرية للحقوق. يقوم هذا البديل على القاعدة الأصولية في الفقه الإسلامي، التي تنصُّ على أن مقاصد الأحكام مصالح الأنام،ومن هنا نجد أن مفهوم الحقوق في الثقافة الإسلامية يشمل مصلحة الشخص على الشخص، أو الشخص على الجماعة، أو الجماعة على الجماعة، أو الجماعة على الشخص،وعليه فإن الحقوق في الإسلام هي حقوق خالصة لله تعالى، وحقوق للعبد، وحقوق لهما معًا، مع تفصيل في مسألة تقديم حق أحدهما على الآخر [2] ، بما يكفُل تحقيق مصالح الأنام،وأداء الحقوق يخضع للممارسة العملية التي ينبني عليها ثواب، كما ينبني على التقصير في أدائها عقاب، بحسب تفصيل علماء الشريعة في ذلك، وتقوم الدولة على تطبيق ذلك دون تمييز [3] ،بمعنى أنها ليست تطلُّعاتٍ وأمانيَّ يُتفاخر بها في المحافل الدولية، وتكون مجالًا للمساومات أو الضغوط السياسية، وتطبيقها لا يخضع للكيل بمكيالين، كما هي الحال اليوم في مثل تقرير جولدستون بشأن ما حصل في غزَّة سنة 1429هـ/ 2008م. وتقتضي مصالح الأنام تحقيق حقوق الأفراد والجماعة بقدر من التوازن، لا يسمح بطغيان أحدهما على الآخر،فلا حقوق للفرد على حساب الجماعة، ولا حقوق للجماعة على حساب الفرد، ولا حقوق للفرد على حساب فرد آخر، ولا حقوق لجماعة على حساب جماعة أو جماعات أخرى [4] . التمييز والعنصرية والعرقية " الإثنية " والتفضيل بين أفراد المجتمع الواحد من هذه المنطلقات يتنافى مع حقيقة حقوق الإنسان،بل إن إيذاء الحيوان دون مسوِّغ يتنافى كذلك مع حقوق الحيوان؛ولذا تمنع بعض الثقافات - كالثقافة الإسلامية - الصيد لغير حاجة الإنسان، وتبيحه بحدود، إذا ما قامت الحاجة لذلك؛ مِن أكل أو لبس أو فرش؛قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل عصفورًا عبثًا، عَجَّ إلى الله عز وجل يوم القيامة منه، يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثًا، ولم يقتُلْني لمنفعةٍ)) [5] . ويدخل في هذا المفهوم النهيُ عن إيذاء البيئة دون مسوِّغ الحاجة الفعلية، حتى في أصعب المناسبات كالحروب، ففي الحروب ما يزيد عن عشرة أنواع ينهى الإسلام عن المساس بها، ومنها عدم التعرُّض لغير المحاربين والنساء والأطفال والكبار والنسَّاك والأنعام وقطع الأشجار والعبث بالبيئة،وهذا مما يدخل في مفهوم آداب الحروب وأخلاقياتها - على ما مرَّ ذكره. وعلى أي حال، ليس المقام هنا الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام، فهذا موضوع قد أُشبع بحثًا من المتخصصين في المجالات ذات العلاقة بالحقوق،ويكفي القول هنا: إن لفظة "الإنسان" وما يدور في فلكها (إنسان، الناس، الإنس، أناسي) قد وردت في دستور الأمة القرآن الكريم أكثرَ من 326مرة [6] ، وإن أمين الأمة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم قد شارك في حِلف في الجاهلية سُمِّي حِلْفَ الفضول؛ حيث تحالفت العرب على أن تردَّ الفضول إلى أهلها، وألا يَعُزَّ - أي يغلِب - ظالمٌ مظلومًا،وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جُدعان حِلفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبتُ، تحالفوا أن يردُّوا الفضول إلى أهلها، وألا يَعُزَّ ظالمٌ مظلومًا)) [7] ، مما يعني أن الحقوق متأصلة في الناس، فيأتي الإسلام ليؤكد عليها ويوجهها الوجهة القابلة للتحقيق، حيث تتماشى مع فطرة الإنسان التي فطر الناس عليها، بخلاف بعض المنظمات الحقوقية المتأخرة التي تفضي بدعوتها إلى قدر من الانحلال الخُلُقي، بما في ذلك إشاعة الشذوذ، مما أدى إلى التفات المسلمين بمنظمات حقوقية تصل إلى مائة وثلاث (103) منظمات حقوقية إسلامية، خاصة منها ما له علاقة بالمرأة والطفل، وهما المجال الأرحب للتعدِّي على الحقوق، لتحذِّر هذه المنظمات المسلمة، ومنها اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، المنبثقة عن المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة بالقاهرة، من بعض الوثائق التي تخرج عن مؤتمرات دولية تعقدها الأمم المتحدة، وتعبِّر عن وجهة نظر غربية في مفهوم الحقوق العامة، وحقوق المرأة والطفل خاصة. كما أوضحت رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل المهندسة كاميليا حلمي أن المنظمات الإسلامية، لا سيما النسوية منها، تتعرض للضغوط والإغراءات المالية من أجل ترويج للأفكار المشبوهة في حق المرأة والطفل، التي تفضي إلى تصدع مفهوم الأسرة وتقويض عُرَاها [8] . [1] وقد تحفظت المملكة العربية السعودية على الفقرة الأولى من المادة السادسة عشرة والمادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونصهما كالآتي: الفقرة (1) من المادة 16: "للرجل والمرأة متى بلغَا سنَّ الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج، وأثناء قيامه، وعند انحلاله"، والمادة 18: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحقُّ حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة". [2] انظر: مفرح بن سليمان بن عبدالله القوسي. حقوق الإنسان في مجال الأسرة من منظور إسلامي - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1429هـ/ 2008م - ص 13. [3] انظر: عدنان بن محمد بن عبدالعزيز الوزان. موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام وسماتها في المملكة العربية السعودية - 8 مج - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1425هـ/ 2005م - 1: 44 - 49. [4] انظر: محمد فائق. حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية - ص 195 - 208 - في: مركز دراسات الوحدة العربية. حقوق الإنسان العربي/ إعداد نخبة من المفكرين العرب - بيروت: المركز، 1999م - 300ص. [5] أخرجه النسائي وابن حبَّان والإمام أحمد والبغوي. [6] انظر: مفرِّح بن سليمان بن عبدالله القوسي. حقوق الإنسان في مجال الأسرة من منظور إسلامي - مرجع سابق - ص 14 - 15. [7] انظر: ابن كثير، أبا الفداء إسماعيل (ت 774هـ). السيرة النبوية/ تحقيق مصطفى عبدالواحد - 4مج - بيروت: دار المعرفة، 1396هـ/ 1976م - 1: 257 - 262. [8] نشر موقع الإسلام اليوم تقريرًا حول هذا التوجه بعنوان/ منظمات إسلامية تكشف دور الأمم المتحدة في هدم الأسر ونَشْر الشذوذ، انظر: info@islamgdaily.org (16/ 9/ 1430هـ - 6/ 9/ 2009م).
كيف تضع اسمك في تعيينات مناصب الخدمة الوطنية؟ قرأتُ واطلعت قبل أسابيع معدودة على قرارات التعيينات الآخيرة لمناصب ووظائف مختلفة في مرافق عدَّة في الدولة، وأصارحكم بشعور غريب تسلل بداخلي، وانتابني وأنا أقرأ تلك القائمة الطويلة من أسماء المعينين ومناصبهم المختلفة، لقد باغتني إحساس وتساؤل محير وأنا أدقق وأرجع البصر في تلكم الأسماء، فوجدتني – بلا نية أو سابق توجه – أبحث عن اسمي بين أسماء من حظوا بتلك التعيينات، فوجئت ودهشت من ذلك التساؤل، فتوقفت متعجبًا، واتهمت نفسي لبرهة بالحسد، ثم حدثت نفسي بفكرة مغايرة، واتبعتها سؤالًا تقريريًّا لعل البعض يراه أغرب وأعجب من الإحساس الذي راودني، وعندها قدح شرر الإلهام، ودفعني لمزيد من التأمل والكتابة. أنا لا أحتاج تعيينًا من أحدٍ، فلم لا أخط بيدي اسمي الثلاثي مع المعينين؟ ألم أقل لكم أن ما جال بفكري هو أعجب من إحساسي الأول، وكأني ببعضكم - وهو معذور - يتهمني في عجل بالجرأة والخيال العابث، ولعل الآخرين يسخرون من سؤالي هذا، ولا لوم على الفريقين، فهما لا يعرفان مقصدي من هذا القول، وأخبرهم وإياكم ابتداء أن المقصود غير مباشر، ويحتاج إيضاحًا من جهتي وصبرًا وتأملا من جهتهم. ما قصدته من قولي وسؤالي هو أن مهام وأهداف المعينين المعنيين تصب في خدمة الدولة من خلال تسخير معارفهم وخبراتهم وجهدهم وإخلاصهم لنفع العباد، وصحيح أن لهذه المهام معينون محددون ومعنيون بتنفيذها ومتابعتها، ولكن هذا لا يعني بحال أن الفكر والعطاء حكر مقصور على المعينين. هنا يتجلى مقصود التساؤل التقريري المذكور آنفًا، فبوسع الراغب والعارف المجتهد أن يسهم في العمل على هذه المهام وسبر بعض أغوارها وإثرائها من جوانب تنطلق من خبرته ومنظوره، ثم يهدي عصارة أفكاره وثمرة دراسته وبحثه للمعينين المعنيين، ولسان حاله يقول أقصد بعملي وجه الله ولا أزكي نفسي، وما أبتغى منكم جزاء وثناء أو شكورًا، فهي لبنة لكم أن تضيفوها في زاوية من صرح نجاحكم، وإن لم ترق لكم فلا ضير، فلعلها تلهمكم وترشدكم، وحسبي مما عملت ويكفيني شرف المحاولة، إن عملي مثل لبنة أتعلم منها سر إنكار الذات وتذوق مقامات الإخلاص، وأتدرب بعرضها على تقديم النفع العام على حظ نفسي الضعيفة. تخيل معي يا عزيزي القاريء مجتمعًا يثرى فيه العطاء الوطني على مهام جسام ضخام بتلاقح الفكر والعمل والابداع بين فريقين ظاهرهما التضاد وحقيقتهما التكامل صفتهما: 1) موظفون معينون رسميون ومعنيون و 2) عاملون مساهمون لم ينتظروا تعيينًا ولا يحتاجون إذنًا ليفكروا ويبدعوا ويساهموا في خدمة وطنهم وأهلهم. يكمن في لب التساؤل المطروح للتأمل في هذا المقال حقيقة ناصعة، لعلها غابت لشدة ظهورها، وعمينا عنها لسطوع نورها، وهي أن الفريق الثاني من المساهمين غير المعينين - إذا ما قورنوا بفريق المعينين في التعيينات المحددة والمخصصة - لا يُعْفَون من مهامهم، أو يُعزلون من مناصبهم، أو يُحالون للانسحاب، وليس لهم تاريخ لانتهاء عطائهم بحال من الأحوال. وخير ما أختم به سؤالي لنفسي ولمن شاء: في أي الفريقين أنت؟ وما تختارين؟ وهل تقنعين بما تختارين؟ ولماذا؟ سؤال بل أسئلة قديمة ومتجددة، تمور في نفس تتقلب في حالات وأطوار، قد نجهل بعضها أو ننساها ونتناساها.
إبراهيم بن أحمد الحمد أمير الزلفي لمحمد بن إبراهيم الحمد صدر حديثًا كتاب "إبراهيم بن أحمد الحمد (١٣١١- ١٤٠٤هـ) أمير الزلفي من عام ١٣٦١-١٣٧٠هـ، سيرته - أعماله - أرشيفه" ، تأليف: نجله د. " محمد بن إبراهيم الحمد "، نشر: " دار الحضارة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب ترجمة ثريَّة دسمة لسيرة "إبراهيم بن أحمد الحمد " أمير منطقة الزلفي (ت 1404 هـ) في قرابة ألف صفحة، تضمَّنت أبرز محطات حياته، ومنها تولِّيه إمارة الزلفي عام (1361 - 1370 هـ)، مدعمة بعدد كبير من الوثائق المهمة تاريخيًّا، كما احتوى الكتاب على عدد من الصور الملونة عالية الدقة لبعض الأماكن. واتبَع الباحث في بحثه المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي التوثيقي، ويغطي فترة مهمة من تاريخ المملكة من خلال تداخل عمل والده الإداري مع الأحداث المهمة في المنطقة في تلك الفترة، وقد حرَص الكاتب على صحة المعلومات، وتوثيقها، والتأكد من الأسماء، والترجمة لأعلام المرحلة، والانتصاف لوالده، ونوَّهَ في مقدمته أن كتابه الضخم هذا من باب البرِّ بوالده بعد مماته، وبيان منجزاته خلال فترة إمارته. وبيَّن الكاتب أهمية تدوين سِيَرِ الأُسَر والآباء والأعيان، وخطورة قلة التدوين، وأثره السلبي في ضياع كثير من التاريخ والمآثر المطلوب حفظُها، والاستفادة منها دروسًا وعبرًا يحتاجها كلٌّ منا. وترجع أهمية الكتاب في أن كاتبه أرَّخ فيه لمحافظة الزلفي وأعيانها، بشكل عام موسَّع، وحوى الكثير من الوثائق التاريخية لتلك الحقبة. كما أن أرشيف أمير الزلفي إبراهيم بن أحمد الحمد رحمه الله، المنشورَ بعضه في هذه الدراسة - احتوى وثائق ومكاتبات نادرة تخص أُسَرًا كثيرة من جماعة وأعيان أهل الزلفي، وقد ترجم المؤلِّف بجدارة ومهارة لأغلب أصحابها. وفي الكتاب ما يربو على 511 وثيقة إلى جانب 96 صورة معظمها عالية الجودة. وقد جاء الكتاب في مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، تنتظم تحتها عدة فصول ومباحث: حيث تضمَّنت المقدمة الحديثَ عن فكرة الكتاب، والكتابة عن الآباء، ومنهج البحث، وخُطته. أما التمهيد، فكان عن: بيئة إبراهيم الحمد (الزلفي)، وتضمن دراسة عن موقع الزلفي، ومناخها، وما تشتهر به، وولع أهل الزلفي بها، والزلفي في عيون من زاروها، وطبائع أهل الزلفي وأخلاقهم. أما الأبواب، فتضمَّنت ترجمة للأمير إبراهيم الحمد، وبيان سيرة إبراهيم الحمد: نشأته وحياته، وصفاته الخلقية، وسيرته مع الناس وأصدقائه ومجلسه، ثم تناولت إمارة إبراهيم الحمد للزلفي، وظروف توليته للإمارة، ومنجزاته، وسنوات ولايته، كما تحدث الكاتب عن أهمِّ الأسر العلمية في مدينة الزلفي المعاصرة للمترجَم له، وبيان أوجه تأثير الأمير إبراهيم الحمد في معاصريه. والكاتب هو "محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد " وُلد في منطقة الرياض، وبالتحديد في محافظة الزلفي 1385هـ، وتربَّى في رعاية والدته ووالده إبراهيم الحمد أمير الزلفي، التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتخرج فيها عام 1409 /1410هـ، ثم التحق بقسم العقيدة بجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، وحصل على درجة الماجستير بتقدير ممتاز في كتاب الإيمان بالقضاء والقدر، ثم قدم رسالة الدكتوراه في الجامعة المذكورة في كتاب القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية دراسة وتحقيق وشرح، وحضر العديد من حلقات ابن باز في الرياض، وابن عثيمين في القصيم. بعد تخرُّجه في جامعة الإمام عين مدرسًا بالمعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في محافظة الغاط، ثم انتقل إلى المعهد العلمي بمحافظة الزلفي عام 1413هـ، وأصبح وكيلًا للمعهد، ثم رجع إلى التدريس 1418هـ، بعد ذلك طُلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم، التي أصبحت فيما بعد جامعة القصيم، ليصبح من أعضاء هيئة التدريس بقسم العقيدة بكلية الشريعة وأصول الدين. من مؤلفاته: • "التوبة وظيفة العمر". • "مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة". • "الإيمان بالله". • "لا إله إلا الله - معناها - أركانها - فضائلها - شروطها". • "توحيد الربوبية". • "توحيد الألوهية". • "توحيد الأسماء والصفات". • "الإيمان بالكتب". • "الطريق إلى الإسلام". • "كلمات في المحبة والخوف والرجاء". • "الطيرة". • "عقوق الوالدين - أسبابه - مظاهره - سبل العلاج". • "قطيعة الرحم.. المظاهر- الأسباب - سبل العلاج". • "التقصير في حقوق الجار". • "الكذب - مظاهره - علاجه". • "لماذا تدخن؟". • "إلى بائع الدخان". • "الجريمة الخلقية - عمل قوم لوط". • "العشق. حقيقته. خطره. أسبابه. علاجه". • "الطريق إلى التوبة". • "رسالة إلى طالب نجيب". • "الهجرة دروس وفوائد". • "توبة الأمة". • "الارتقاء بالكتابة". • "الصداقة بين العلماء - نماذج تطبيقية معاصرة -". • "التقصير في تربية الأولاد". • "الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة". • "الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول". • "الجوال آداب وتنبيهات". • "أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة". • "معالم في التعامل مع الفتن". • "لطائف في السفر". • "ارتسامات". • "خواطر". • "ومضات". • "مروءات معاصرة".
قصة أيُّوب عليه السلام أيُّوب عليه السلام نبي من أنبياء الله، ينتسب إلى إبراهيم عليه السلام، نبي كان مجال دعوته في منطقة البثنية بين دمشق وأذرعات، أو ما يعرف الآن بمنطقة حوران، ومن نسبه يتبين أنه كان في الفترة بين يوسف وموسى، وقيل: عاصَر يعقوب، كان دينه التوحيد والإصلاح بين الناس، وإذا أراد حاجة سجد لله ثم طلبها. كان أيُّوب ذا مال من الأغنام والأراضي الزراعية والخدم والعبيد الذين يعملون فيها، ومع هذا الثراء فقد كان يتفانى في عبادة الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، وعليه فإن أيوب نبي من أنبياء الله موحًى إليه، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84]، مِن هاتين الآيتين نجد أن أيوب قد ذكر في جملة الأنبياء بلا تفصيل لدعوته وقومه الذين عاش معهم، غير أن هناك آيات ذكرت أيوب في معرض الصبر على البلاء؛ فقد أخذت جانبًا مهمًّا من حياته الشخصية مثلًا على صبر الأنبياء، ولعل هذا هو الأبرز في حياته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، وهذا بعد ثلاثَ عشرة سنة من الصبر على البلاء، فخرجت الشكوى من أيوب، وهي أنه مريض أو مكلوم، أُوذي ضررًا بما لا يستطيع تحمله بشر، فما كان له إلا الالتجاء إلى ربه بآهةِ محزون وتضرع مستجير ورجاء كَلٍّ، وهذه الأنَّات لا تخرج عادة من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد مزيد صبر وقوة تحمل، فإذا ما بلغ الأمر حدًّا لا يطاق من التحمل والصبر وبلغ "الحزام الطبيين"، فإن النفس لا تفتأ تجيش بما في داخلها، وتلجأ بقوة إلى بارئها، فلا تجد في الكون إلا هو، وسِع كرسيه السموات والأرض، فتفيض تعبيرًا بالدموع والأنَّات؛ شعورًا منها بالضعف والذل إلى الخالق لنيل الرحمة، فإذا أعلن الإنسان عن ضعفه أمام خالقه، وأوكل أمره إليه حيث لا ينفعه شيء سواه، فلا الأصدقاء ولا المقربون ولا الدواء له نفع. فكل شيء من هؤلاء قد أعلن عن ضعفه وامتنع عن إحداث الأثر الشافي في جسم ذلك العليل المتهاوي ضعفًا، الذي يئن ألمًا وتوجعًا، وليس من سكن له إلا الله البارئ الشافي، فقد انقطع رجاؤه من كل مخلوق إلا إلى الله رب العالمين، لقد عملت زوجته الشريفة التي هي من معدن الطيبة والنبوة خادمة في البيوت كي تطعمه، ولما خشي أولئك الذين تعمل عندهم من نقل العدوى إليهم بسبب احتكاكها بأيوب منعوها من العمل، فلم تجد معها ما تشتري به الطعام لأيوب، فباعت إحدى ضفائرها وأحضرت له طعامًا طيبًا، فحلف ألا يأكل منه حتى تخبره من أين حصلت على الطعام، فكشفت عن رأسها وأشارت إلى مكان ضفيرتها فاشتد حزنه، وقال: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، رب العالمين الذي وهب الحياة للخلق جميعًا محسنهم ومسيئهم، فهل يتخلى عن أنبيائه وعباده الصالحين القانتين اللائذين العائذين به؟ حاشا وكلا: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]. لقد استجاب الله لدعاء أيوب وكشف عنه الضر وعوَّضه عن الصبر بأن أعاد له عزَّه وغناه وأهله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84]، لقد برهَن أيوب على صبره ونجح في الامتحان، ففاز وعلت مكانته عند ربه، وارتفعت درجتُه، فكان في فترة البلاء مثالَ العابد الطائع الذي اتهم نفسه بالتقصير تجاه ربه، فزاد من العبادة والتسبيح والتقرب إلى الله، وفي سورة "ص - 41" - تبين الآية أن ما شكاه أيوب كان من كيد الشيطان له بالتعب والإرهاق، ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41]، وهذا ما جعل بعض المفسرين يقولون: إن إبليس - لعنه الله - استرق السمع لملائكة السماء فسمعهم يثنون على أيوب ويمتدحون عبادته وكثرة تسبيحه وذكره لله، فحسده اللعين على هذه المكانة والمنزلة التي وصل إليها، فطلب من ربه أن يسلطه عليه ليفتنه، فكان له ما أراد؛ فالله الخبير العليم بعبده أيوب كان يعلم أن أيوب سينجح في الامتحان، وأن إبليس سيبوء بالفشل؛ ليريَه نموذجًا من المؤمنين الذين يثبتون على الإيمان؛ لقوة اليقين عندهم، فلا تَثنيهم العقبات ولا تقلُّبات ظروف الدهر، فهم في طريق الإيمان ماضون. وهكذا بدأ إبليس يتفنن في إيذاء أيوب، فسلطه الله على ماله فأفناه، فما كان من أيوب إلا الصبر والإقبال على العبادة، ثم تسلط على ولده، فبادوا، فصبر أيوب، ثم تسلط على جسد أيوب ونفخ في منخره فأوذي وأنتن جسمه حتى أخرجه قومُه من بلدهم؛ خشية العدوى، ولم يصبر معه سوى زوجته، فقامت على خدمته، وكان قد آمن معه ثلاثة نفر، فلما رأوه على هذه الحال بدأ الشك يأخذ مأخذه عندهم، وقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به ما صنع، وأيوب صابر شاكر، لكنه خشي أن يكون فتنة يظن الناس في دِينه السوء وفي غيره من الشرك الخير، وهنا لجأ إلى الله بالدعاء؛ خشية فتنة الناس أن يقيسوا حاله بالمقياس الدنيوي الخاطئ؛ فاستجاب الله دعاءه: ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]؛ أي: اضرب الأرض برجلك فيتفجر ينبوع حار، فاغتسل بمائه، فتشفى به القروح ففعل، ويتفجر آخر باردًا فاشرب فتشفى به الباطنة، ففعل ذلك فشفي مما كان فيه من علل بإذن الله، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 43]؛ فقد أعاد الله أولاده على أحسن صورة، ثم وعده المزيد منهم، فكان له ذلك، وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أيوب يغتسل عريانًا خرَّ عليه رِجْل جراد - رف جراد - من ذهب، فجعل يحثي - يلتقط - في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك))، ورُوي أنه كان له أندران - مخزنان - أحدهما للقمح وآخر للشعير، فبعث الله سحابة فأفرغت في أندر القمح ذهبًا حتى فاض، وفي أندر الشعير فضة حتى فاض، وأنه أعاد زوجته إلى شبابها فولدت له ستًّا وعشرين ولدًا ذكرًا، ولكن ما قصة زوجته الوفية التي لازمته وهو في أشد حالات المرض؟ ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]، قيل عن زوجته: إنها جاءته بزيادة عما كانت تجلبه له من الخبز، فشك أن تكون باعت للحاجة عِرضها، وقيل: أقنعها الشيطان أن يذبح أيوب سخلة - أنثى الماعز وهي صغيرة - تقربًا إليه ليشفى، وهذا فعل الجهلاء الذين يستبطئون المرض فيحاولون فعل أي شيء، ولو فيه مخالفة شرعية طلبًا للشفاء، ونسوا بأن الشافي هو الله، وقيل: باعت ذؤابتيها - ضفائر شعرها - برغيفين مضطرة لكي تأتيه بالطعام، وكان أيوب يتعلق بهما إذا أراد القيام، وقيل: أتاها إبليس في هيئة طبيب فقال: أنا أشفيه إذا اعترف بأني أنا الذي شفيته ولا أريد أجرًا غير هذا، لأجل واحدة من هذه الأمور أو أكثر حلف إن شفاه الله أن يضربها مائة جلدة، ولكن الله علم إخلاصها، وأنها لا تستحق هذه المعاملة، فجعله يبَرُّ بيمينه بأن حمل حزمة فيها مائة من الأعواد والحشائش ويضربها بها، وقد امتدح الله أيوب بأنه أوَّاب رجَّاع إلى الله تعالى. توفي أيوب بعد عمر مديد بلغ ثلاثًا وتسعين سنة، وكان معاصرًا لنبي الله يعقوب، وقيل: كان بعد شعيب، وقيل: بعد سليمان.
المرأة بين ضلالات دوستويفسكي وهَدْيِ محمد صلى الله عليه وسلم فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821 - 1881)، روائي وكاتب قصص قصيرة، وصحفي، وفيلسوف روسي، وهو واحد من أشهر الكتاب والمؤلفين حول العالم، وقد تم تصنيفه أحدَ أكثر علماء النفس تأثيرًا في عالم الأدب، وأكثر أعماله شهرة هي: "الإخوة كارامازوف"، و"الجريمة والعقاب"، و"الأبله"، و"الشياطين". تزوج دوستويفسكي من الأرملة ماريا ديمترييفنا إساييفا Maria Dmitrievna Isaeva في عام 1857، كانت علاقتهما متوترة، بسبب الطبيعة المعقدة لكلٍّ من الزوجين، بعد وفاة زوجته الأولى، تزوج من آنا جريجورييفنا سنيتكينا Anna Grigoryevna Snitkina . كان دوستويفسكي شخصية متناقضة، وقد أُصيب بالصرع، وكان مدمنًا على القمار؛ مما جعله يسقط في هاوية الديون، وفوق ذلك كان يعيش حياة زوجية تعيسة، وقد انعكست كل هذه الظروف على أفكاره ونظرته للمرأة. ومن أقواله في المرأة: 1- "المرأة مخلوقة لا يعرف إلا الشيطان ما في نفسها". 2- "إن تناقضات كثيرة تجتمع لدى النساء". 3- "إنني لا أُطيق النساء، يكفي أن يسمعن نعيقَ غراب حتى يأخذن يسألن: ما هذا؟ ولماذا؟". فهو يحتقر المرأة ويُشيطنُها، ويرى أنها مخلوقة متناقضة، ومزعجة، لدرجة أنها لا تُطاق. وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: ((إنما النساء شقائقُ الرجال))؛ [رواه أبو داود، وحسنه الألباني]؛ ومعنى الشقائق: أي: نظائرهم وأمثالهم في الخُلُقِ والطِّباع، فكأنهن شُقِقْنَ من الرجال. قال ابن الأثير: "أي: نظائرهم وأمثالهم كأنهن شُقِقْنَ منهم، ولأن حواءَ خُلقت من آدمَ عليه الصلاة والسلام، وشقيق الرجل أخوه لأبيه ولأمه؛ لأنه شُقَّ نسبه من نسبه"؛ [عون المعبود، ج: 1]. أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء في خطبة الوداع، فقال: ((استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضِلَعٍ، وإن أعوجَ شيء في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمه كسرته، وإن تركته لم يَزَلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنساء))؛ [رواه البخاري]. ومعنى: ((استوصوا بالنساء خيرًا))؛ أي: إن الإنسان يقوم عليها خيرَ قيام، فيُحسن عِشرتها ومخالطتها، ويُنفق عليها بالمعروف، ويغفر لها الزلة والخطأ، ويتجاوز ويعفو ويصفح، ولا يقف عند كل صغيرة وكبيرة، ولا يستوفي حقه منها، وإنما يترك بعض الشيء، ويُفوِّت بعض التقصير، ولا يقف عند كل جليل وحقير ودقيق. وأعلن حُبَّه للنساء؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطِّيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة))؛ [رواه النسائي، وصححه الحاكم والذهبي]. وحب النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يُفهم على وجهين: الأول : هو الحب الفطري الذي يكون بين الرجل والمرأة، فالرجل لا يستغني عن المرأة، ولا المرأة يمكن أن تستغنيَ عن الرجل، فكلاهما محتاجٌ للآخر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محبًّا لنسائه، حريصًا على رضاهن، قائمًا على راحتهن، وكان يعاونهن في أمور بيوتهن؛ رأفة ورحمة بهن. الثاني : حُبِّب إليه النساء لينقلْنَ عنه ما لا يطَّلِعُ عليه الرجال من أحواله، ويُخجَلُ من ذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس حياءً، وكان حياؤه أشدَّ من حياء العذراء في خِدْرها، فحُبِّب الله إليه النساء لينقلنَ من الشرع ما يَرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة. ومن أسوأ مقالات دوستويفسكي عن المرأة قوله: "أسهل طريقة لنسيان امرأة تحبها هي أن تتزوجها غير ذلك ستبقى تُحبها". وبعض الناس تعجبهم هذه المقولة لشعورهم أنها تعبر عن واقع وينسَون أو يتناسَون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم نَرَ للمتحابين مثل النكاح))؛ أي: الزواج؛ [رواه ابن ماجه (1847)، وصحَّحه البوصيري، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (624)]. إن مقولة ديستويفسكي الخبيثة جعلت كثيرًا من الشباب ينفرون من الزواج؛ بدعوى أن الزواج هو الصخرة التي يتحطم عليها الحب، فيقبل الواحد منهم الاستمرار في علاقة محرمة، ويصوِّر له شيطانه أنه يفعل ذلك لمصلحة الحب. ليس الزواج هو الذي يطرد الحب من البيوت، وليس الزواج هو سبب فساد العلاقة بين الزوجين، وإنما هي تصرفاتنا الخاطئة، وبُعدنا عن الدين، وعدم وجود مرجعية لحل الخلافات. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، إن النساء عندكم عَوَانٌ، أخذتموهن بأمانة الله، واستحلَلْتُم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حقٌّ، ومن حقكم عليهن ألَّا يُوطِئنَ فُرُشَكم أحدًا، ولا يَعْصِينكم في معروف، فإذا فعلن ذلك، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف))؛ [رواه ابن جرير الطبري بإسناد صحيح]. إن البيوت تنشأ بأمانة الله، والفروج تُستحلُّ بكلمة الله، ولو عاش الزوجان على منهجٍ، فلن يبقى هناك مكان للخلافات، وإذا حدثت، فسوف تحل سريعًا، إن الحياة في ظلال منهج الله تملأ البيوت سعادة، وتزيد من الرحمة والمودة بين الزوجين. وما أجمل قول الله عز وجل: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: كلا الزوجين يسكن إلى صاحبه، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له، وكانت العرب تسمي المرأة لباسًا، والآية تعبير رائع وبليغ عن القرب والملاصقة، والستر والتجميل، والغطاء والمتعة، والوقاء من الحر والبرد، ويرتفع بمشاعر الإنسان عن المستوى البهيمي، في الوقت الذي يلبي فيه متطلبات جسده، فكلا الزوجين بهذا المعنى لصاحبه. هذا هو هديُ محمد صلى الله عليه وسلم في سموِّه وروعته، وواقعيته ووضوحه، وهذه ضلالات المقامر البائس الذي يراه بنو قومه عالِمًا من علماء النفس. الزوجة في ديننا هي الحب والدفء والحنان، هي ريحانة البيت، ومصباح الدار، هي الواحة التي يستريح فيها الرجل بعد عناء العمل، والكدح من أجل لقمة العيش، هي الجنة والحصن الذي يمنع الرجل من الوقوع في الرذيلة، وهي مصدر الحياة، تعطي حياتها لزوجها وأولادها، فكيف بالله عليكم نطيع فيها دوستويفسكي، ونعصي محمدًا صلى الله عليه وسلم.
كلمات في رثاء فقيهِ الطَّائفِ ومُسندِها انتقل إلى جوار ربِّه، ضحى اليوم الثلاثاء: الثَّاني عشر من شهر ذي القعدة 1442ھ، فقيهُ الطَّائفِ ومسندُها العلَّامة المعمَّر الشَّيخ عبدالرَّحمن بن سعد العيَّاف الودعاني، رحمه الله رحمة واسعة، مولده سنة 1343ھ في روضة سُدير بنجد، وهو من العلماء المُفيدين، والدُّعاة الغيورين، والزُّهَّاد العابدين، ومن أخصِّ تلامذة الفقيه القاضي الشَّيخ إبراهيم بن عبدالله الهويش [ 1319- 1405هـ ]، والمُحدِّث الفقيه الأثريِّ الشَّيخ سليمان بن عبد الرَّحمن بن حمدان [1322- 1397هـ ]. زرته عام تسعٍ وعشرين في مسجده بالطَّائف، وأكرمني بالقراءة عليه في عدَّة رسائل والإجازة بأسانيده ومرويَّاته، وكان بديعَ التَّقرير متينَ التَّحقيق، أعجوبةً في التَّواضع وعلومه الجمَّة، وشهامة طِباع، وجودة ذهنٍ وكمال اطِّلاع، سالكًا طريق السَّلف الأخيار، ناهجًا سبيل السُّنَّة والآثار، متمسِّكًا بواجب البيان والنُّصح لكلِّ مسلم، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، مثابرًا على تعلُّمِ العلم وتعليمه، وتوضيحه وتفهيمه، متقنِّعًا بالقناعة والعفاف، مشتملًا على النَّزاهة والكفاف، فانتفع الطَّلبة بعلومه المُتقنة البهيَّة، وفوائده المُتفنِّنة الزَّهيَّة، ولم يزل على صلاحٍ ظاهر، ودأبٍ على السُّنَّة باهر، إلى أن حالَ حينَ وفاتِه، ودعَته المنيَّة لمماتِه، غفرَ الله له وأعلى في المَدارج مُرتقاه، وجعلَ الجنَّة مثواه ومأواه، وأحسن الله عزاء أهله وتلامذته ومحبِّيه، وعوَّض الأمَّة بفقد علمائها، وأخلف على المسلمين خيرًا، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]. تغمَّده الرَّحمنُ بالعفو والرِّضا *** وجادت ثراه ديمة الرَّحماتِ
قولٌ نُسِبَ إلى الإمام أحمد بن حنبل وهمًا الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعد: فإنَّ مِن ضرورة طالب العلم التثبتَ فيما يَقرأ ويَدرس، والبحثَ عن مصدر الأقوال والنقول والفهوم، وكثيرٌ من الأوهام لا تنكشفُ إلا بمراجعة المصادر، والنُّسخ المتعددة، والطبعات المختلفة. وقد ذَكرَ العلماءُ من صور الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم الوضع خطأ، ومثّلوا له بحديث: مَن كثرتْ صلاته بالليل حسنَ وجهُه بالنهار، والبحثُ معروفٌ في كتبه المختصة. وهناك أقوالٌ عُزِيتْ إلى الأئمة وهمًا، ولها أسبابٌ وصورٌ، ومن الصور العجيبة التي وقفتُ عليها: تركيبُ قولٍ على قولٍ، ونسبةُ ذلك إلى قائلٍ لم يقله، بسببِ جمعِ أوراقِ مخطوطٍ تناثرتْ أوراقُه، ثم جُمِعتْ على غير هدى. وأذكرُ هنا هذا المثالَ العجيبَ: جاء في كتاب "المُقلق" لابن الجوزي رحمه الله ص (94) [1] : "قال أحمد [بن حنبل]: وحدَّثنا موسى بنُ داود فبينا هو يُحدِّثني تضاءلَ حتى صارَ صغيرَ الخلقة فقلتُ: ما لك؟ فقال: قد صاحوا بي، وما أدري ما يُريدون مني". قرأتُ هذا القول فاستغربتُه واستنكرتُه، وموسى بن داود شيخُ الإمام أحمد هو الضبي الكوفي، سكنَ بغداد، ووليَ قضاء طرسوس، وتوفي فيها سنة (216) أو (217)، وكان ثقة زاهدًا صاحبَ حديث مُكثرًا مُصنِّفًا مأمونًا [2] . وذهبتُ أبحثُ عن هذا الخبر فلم أرَ له وجودًا، ثم رجعتُ إلى نسخةٍ خطيةٍ أخرى من "المقلق" لابن الجوزي في خزانة الفاتح -لم يَرجعْ إليها ناشرُ الطبعة الأولى مِن هذا الكتاب-، فانكشفَ الخطأ، وظهرَ الصوابُ، وعُرِفَ كيف حصلَ هذا التركيب! وإليكم البيان: رَجَعَ ناشرُ كتاب "المقلق" في نشره إلى نسخة المكتبة التيمورية في دار الكتب المِصرية، وهذه النسخةُ كان قد انفرطَ تجليدُها، وتناثرتْ أوراقُها، واضطربتْ اضطرابًا شديدًا، وجُمِعَتْ على غير ترتيبٍ صحيحٍ بعد أن ضاع قسمٌ منها، ولم ينتبه الناشرُ إلى ذلك. وقد جاء في آخر صفحةٍ منها: "قال أحمدُ: وحدَّثنا موسى بنُ داود". وجاء في أول صفحةٍ أخرى مِن موضعٍ آخرَ من الكتاب: "فبينا هو يُحدِّثني تضاءلَ..."، فوُضِعَتْ هذه الصفحة البعيدة عن تلك الصفحة بعدَها، ورُكِّبَ هذا القول على ذلك القول، ونُسِبَ إلى الإمام أحمد بن حنبل وهمًا، وساعدَ على هذا الوهم السياقُ: " حدَّثنا موسى... فبينا هو يُحدِّثني ". والحقيقة أنه لا علاقة لهذا القول بالإمام أحمد، ولا علاقة لشيخه موسى بنِ داود بهذا الخبر. والصوابُ كما جاءَ في كتاب "المقلق" نسخة الفاتح (الورقة 171 ب): « ‌قال أحمد: حدَّثنا ‌موسى ‌بنُ ‌داود، قال: حدَّثنا ‌محمد ‌بن ‌جابر، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتري، عن حذيفة قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ، فلما انتهينا إلى القبر قعدَ على شفتهِ، فجعلَ يُردِّدُ بصرَه فيه ثم قال: "يُضغط المؤمنُ فيه ضغطةً تزولُ منها حمائلُه، ويُملأ على الكافر نارًا » [3] . أمّا جملة: "فبينا هو يُحدِّثني تضاءلَ" فهي جملةٌ مِن منامٍ رآه شخصٌ، وحكاه المؤلفُ ابنُ الجوزي عنه، وقد سقط أولُ الخبر من النسخة المِصرية فيما سقطَ مِن أوراقِها: جاء في "المقلق" (نسخة الفاتح الورقة 197 ب): " حدَّثني ابنُ أبي الثناء البزّارُ قال: رأيتُ صديقًا لي بعد موته في المنام وكان... وكان يغسلُ بعضَ رجلهِ في الوضوء، فقلتُ له: كيف أنتَ؟ فقال: قَوَّرُوا [كأنه يَقصدُ ملائكة العذاب] هذا المكانَ بسكينٍ وقالوا: كنتَ تزني -وأومأَ إلى عانتهِ وما حولَها- ثم قال: وقطعوا هذا الموضعَ -وأومأَ إلى مفصلِ قدمهِ- وقالوا: لمَ لمْ توصل الماءَ في الغُسل إلى هذا الموضع؟ قال: فبينا هو يُحدِّثني تضاءلَ حتى صارَ صغيرَ الخلقة فقلتُ: ما لك؟ فقال: قد صاحوني [4] وما أدري ما يريدون مني ". ♦   ♦   ♦ وبعد: فمن المؤسف أنَّ تلك النشرة الناقصة المضطربة مِن كتاب "المقلق" قد شاعتْ، وأُدخلتْ في المكتبة الشاملة، وتُرجم الكتابُ عنها إلى اللغة الإنجليزية، فليُنتبهْ إلى ما فيها من أخطاءٍ وأخطارٍ [5] ، وليُحْذَرْ مِن نسبةِ هذا القولِ المركَّبِ إلى الإمام أحمد، وإلصاقِ ذاك الخبرِ بالمُحدِّث موسى بن داود. [1] طبعة دار الصحابة للتراث في طنطا، الطبعة الأولى (1411-1991). [2] انظر ترجمته في "تاريخ مدينة السلام" (15/21). [3] مسند أحمد (38/ 444 ط الرسالة). وأولُ هذا الحديث: ‌(قال أحمد: حدَّثنا ‌موسى ‌بنُ ‌داود) جاء في المطبوع من "المقلق" ص (94)، وما بعدَه: ( قال: حدَّثنا ‌محمد ‌بن ‌جابر، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتري، عن حذيفة...) جاء ص (57) مركبًا على إسناد آخر! [4] هكذا في هذه النسخة، وفي النسخة المصرية: صاحوا بي. [5] هناك سندان مركبان آخران، رُكِّبا بسببِ عدمِ ترتيبِ الأوراقِ ترتيبًا صحيحًا.
الوقفة الثالثة مع حقوق الإنسان الادِّعاءات لعله مِن نافلة النقاش القول: إن جميع الثقافات والأفكار، مهما شط بعض منها وتطرف وتعمق في المحلية والضيق في الانتشار، تتبنى الادعاء بأنها تحمي حقوق الإنسان والحيوان والبيئة،والادعاء سهل، وإنما المحكُّ في التطبيق على أرض الواقع بشمولية تخدم الجميع دون تمييز مِن لون أو عِرق أو جِنس أو دِين، مما يعني أن يكون الادعاء قابلًا للتمثُّل على البيئة التي تخدمها هذه الثقافة، ومن ثم يكون قابلًا للتمثل الأعم إقليميًّا ودوليًّا، مِن خلال تصدير هذه الأفهام وإقناع الآخرين بها والعمل على تمثُّلها. يقود هذا الطرح إلى الدعوة إلى تقويم المرحلة المنتهية بمرور أكثر من ستين سنة على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان (8/ 2/ 1368هـ - 10/ 12/ 1948م) بمواده الثلاثين (انظر الملحق)، ومعرفة مدى ما تحقق من بنود هذا الإعلان، وتقويم أداء المنظمات والجمعيات المحلية والإقليمية والدولية التي أفادت منه في صياغاتها، وتقويم جوانب التقصير التي صاحبت مراحل التنفيذ، والبحث في أسباب التقصير التي تكون في الإعلان العالمي نفسه، كما تكون في البيئات التي يُراد تطبيق الإعلان العالمي عليها، دون التركيز على الأبعاد السياسية التي قد ينظر إليها على أنها هي التي تحُولُ دون التطبيق المثالي للإعلان إذا ما استثنيت إجراءات التطبيق وأساليبه؛ إذ إن هناك أسبابًا في الإعلان نفسه تقتضي المراجعة الدورية، أخذًا في الحسبان الخصوصيات الثقافية والاجتماعية المتأصلة في المجتمعات، لا سيما تلك التي تلقَى تمثُّلًا واقعيًّا مِن تلك المجتمعات، لا تلك التي يدعو المصلِحون والمفكرون والعلماء إلى نَبْذِها على أنها عاداتٌ وتقاليدُ بالية [1] . ربما يكون من أسباب ضعف التطبيق: الطموح الزائد، القريب من المثالية في الأفكار المفضية إلى الاتفاقيات والإشعار بالإلزام القسري لا الاختياري، بما في ذلك صياغة عنواناتها التي تبدأ مثلًا بكلمة القضاء على أنواع التمييز،ويبدو أن فكرة القضاء بهذا الإطلاق غير متحققة على الواقع المعيش حتى في أرقى الدول تقدمًا ونبذًا للعنصرية في قوانينها المكتوبة، لا في تطبيقها في الحياة اليومية،والأولى السعي إلى الحد من التمييز بأنواعه، وليس بالضرورة القضاء عليه،وفرق بين الحد من الظاهرة المتأصلة في بعض المجتمعات والقضاء عليها قضاءً نهائيًّا يستحيل تحقيقه داخل النفوس البشرية؛ إذ سيظل التمييز بأنواعه قائمًا في حياتنا، وإن لم تقرَّه الأديان والثقافات والمواثيق الدولية، وإنما المقدور عليه هو محاصرته والتضييق عليه، وسنُّ القوانين والنظُم العقابية القابلة للتطبيق، التي تحدُّ من انتشاره،وهذا مثال واحد مما يمكن أن يكون خللًا في المواثيق الدولية عندما تُقوَّم مسيرتها. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة. الاستثناء الثقافي في مواجهة الكونية: ثنائية الخصوصية والعولمة - بحث مقدم إلى مؤتمر اتحاد المؤرخين العرب القاهرة 14 - 15 ذو القعدة 1429هـ الموافق 12 - 13 نوفمبر 2008م - 38ص. (الفصل الثاني من هذا الكتاب).
الطب والدرج لستُ طبيبًا ولكنْ أكتبُ شيئًا لفتَ نظري، وهو ضررُ صعود الدرج، والكلامٌ عليه قديمٌ حديثٌ، ووددتُّ مشاركة الأطباء والباحثين والأدباء فيه. كان الطبيبُ رضي الدين الرَّحبي ثم الدمشقي (٥٣٤-٦٣١) يتوخى أبدًا أنه لا يصعدُ في سلمٍ ( درج ). وإذا كان له مريضٌ يفتقدُهُ إنْ لم يكنْ في موضعٍ يُصْعَدُ [1] إليه إذا أتاهُ في سُلمٍ، وإلا لم يقربْه. وكان يصفُ السُّلمَ بأنه ( منشار العمر ) ! قال المؤرخُ ابنُ أبي أصيبعة بعد أنْ حكى هذا: "ومِنْ أعجبِ ما حكى لأبي مِنْ ذلك أنه قال: إنني منذ اشتريتُ هذه ‌القاعة التي أنا ساكنٌ فيها أكثر مِن خمس وعشرين سنة ما أعرفُ إنني طلعتُ إلى الحُجرة التي فوقَها إلا وقتَ استعرضتُ الدارَ واشتريتُها، وما عدتُ طلعتُ إلى الحُجرة بعد ذلك إلى يومي هذا" [2] . وحدَّثني الشيخ مطيع الحافظ أنَّ عمه الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت كان لا يحبُّ الدرج ويقول عنه: هو (منشار القلب) . ورأيتُ الشيخَ مطيعًا يتجنبُ الدرج لا سيما حين النزول. ♦   ♦   ♦ مِن جهةٍ أخرى: جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ‌سقطَ ‌عن ‌فرسه فجُحِشتْ [3] ساقُه -أو كتفُه- وآلى مِن نسائه شهرًا، فجلسَ في مشرُبةٍ له درجتُها من جُذوع، فأتاه أصحابُه يعودونه، فصلى بهم جالسًا وهم قيامٌ، فلما سلَّم قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإنْ صلى قائمًا فصلوا قيامًا» ونزل لتسعٍ وعشرين، فقالوا: يا رسول الله، إنك آليتَ شهرًا، فقال: «إنَّ الشهر تسع وعشرون» [4] . فهذه مشربةٌ لها درج. وكان الإمام إلكيا الهَرّاسي: علي بن محمد النيسابوري ثم البغدادي (٤٥٠-٥٠٤) يستخدمُ الدرج لتعداد مرات قراءة درسه، يحكي عن نفسه حين كان طالبًا يقول: "كانت في مدرسة سَرْهنك بنيسابور قناةٌ لها سبعون درجة، وكنتُ إذا حفظتُ الدرسَ أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة مرة، في الصعود والنزول، وكذا كنتُ أفعلُ في كل درسٍ حفظتُه" [5] ! وكانت في العراق مدارس معلَّقةٌ، أي لا بد مِن درجٍ للوصول إليها، قال العلامة موفق الدين عبداللطيف البغدادي (ت: ٦٢٩) في حديثه عن نشأته وتحصيله: "وفي أثناء ذلك لا أغفل سماع الحديث، والتفقُّه على شيخنا ابن فضلان بدار الذهب، وهي مدرسةٌ معلقةٌ بناها فخر الدولة بن المطلب" [6] أي هي في طابق ثان، بدليل قوله هو أيضًا في حديثه عن نفسه إذ رحلَ إلى الموصل: "وعُرِضتْ عليَّ مناصبُ فاخترتُ منها مدرسة ابن مهاجر المعلقة، ودار الحديث التي تحتَها" [7] . فكان يصعد وينزل إذن، إذ لا مصاعد آنذاك. وقال الحافظ السخاوي في ترجمة الشاعر الأديب الناسخ بدر الدين محمد بن إبراهيم البشتكي (748-830): «وعلتْ سنُّهُ وهو مقيمٌ بخلوةٍ علو "المنصورية" يرتقى إليها بسبعين درجة ، فعرَضَ عليه شيخُنا [الحافظ ابنُ حجر] أنْ يعطيَه خلوته السُّفلية قصدَ التخفيف للمشقة عليه فما أجابَ، بل صرَّحَ بما لا يُناسبُ» [8] . وحكى -السخاوي- عن شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني خبرًا قال: "صعدنا في خدمته قُبيلَ وفاتهِ (توفي ابن حجر سنة ٨٥٢ عن ٧٩ سنة) لعيادة الشيخ يحيى العجيسي بـ "الناصرية" فصارَ يصعدُ درجتين درجتين ويقول: إنَّ ذلك أروحُ له" [9] . وهذه لقطةٌ جميلةٌ عن لطافة ابن حجر. والمؤذنون -قبل- كانوا مضطرين للصعود والنزول عشر مرات كل يوم وليلة، وبعض المنائر شاهقة في الطول. ( انظروا إلى منارة قطب الدين في "دهلي" مثلًا ). أمّا فرعون فكان مُدلسًا إذ قال لهامان: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]، وما أرادَ بناءً ولا صعودًا ولكنه يخدعُ شعبه. ♦   ♦   ♦ وينصحُ بعضُ الأطباء اليومَ باستخدام الدرج بدلًا من المصعد الكهربائي لتحريك الدم في الجسم. والناس في صعود الأدراج متفاوتون، فبعضهم يعتادُهُ ويفضله، وبعضهم يكرهُهُ ويأنفُ منه. وللرُّهاب من المصاعد الكهربائية المُغلقة دخلٌ في ذلك. وحدَّثني الشيخ عبدالباسط حمد الله المفتي في دائرة الشؤون الإسلامية بدبي أن شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1335-1416) كان يسكنُ في شقة مستأجرة في الطابق الثالث من بناية قديمة لا مصعد فيها، وكان يستخدمُ الدرج صعودًا ونزولًا حتى وفاته. وكانت للوالدة خالةٌ -وهي زوجة خالي أيضًا- ( اسمها فاطمة قلعجي، نسبة إلى قلعة حلب ) عُمِّرتْ فوق التسعين، وكانت تسكنُ في شقة في طابق عال، مِن بناية لا مصعد فيها، وظلتْ تصعد وتنزل من غير مشقةٍ عليها حتى آخر عمرها، وكنّا نزورهم فنسأم من الصعود، وكانت بنايتها قرب القلعة، وكانت تتباهى أنها تطلُّ مِن شقتها العالية على القلعة، وعلى مدرسة الملك الظاهر الأيوبي، وعلى الجامع الأثري المعروف بجامع الأطروش ( الذي صلى فيه السلطانُ سليم حين أخذ حلب ). وللشيخ علي الطنطاوي كلامٌ طريفٌ ذكرَ فيه الدرجَ فقال في كلامه على ( أثر الكلمة ): «وممّا وقع لي من هذا الباب أنني عملت سنة 1956 عمليات كثيرة في بطني سأعرضُ لذكرها إذا جاءتْ مناسبتها، وكان الشقّ لا يزال مفتوحاً ولكنني هربتُ من المستشفى وجئتُ إلى بيتي وذهبتُ لزياراتي المعتادة، لأن مَن يقيم في المستشفى لا يجد إلاّ ما يذكّره بالمرض ويُبعِد عنه الشفاء، فلما خرجتُ وخالطتُ الناس كما كنت أفعل، ودخلتُ في مناظرات علمية وأحاديث اجتماعية نسيتُ مرضي. وذهبتُ وأنا في هذه الحال أزور صديقاً لنا كان مسكنه في الطبقة الرابعة، ولم يكن للعمارة مصعد ف صعدتُ الأدراجَ كلها على قدمي ، فلما ضمّنا المجلسُ عرّفنا بولد له عاد حديثاً من دراسة الطبّ والاختصاص في الجراحة، فأحببتُ أن أناقله الحديث فلم أجد إلاّ أنْ أصف له ما أُحِسّ به وما يقع لي، فما فتح الله عليه بشيء إلاّ أن قال لي: إن ما وقع لك ربما يؤدي إلى سُلّ في العمود الفقري. لم أستطع أن أفهم بقية الكلام لأنَّ الرعب الذي أدخله عليّ سدّ مسالك الفهم أمامي، وكنت قاعداً مستوي الظهر أتكلّم كما يتكلّم الأصحاب، فما أحسست إلاّ وقد سقطت منهاراً، ولم أعُد أقدر على النزول إلى الشارع إلاّ بمساعدة الإخوان، يمسكون بكتفي ويعينونني على النزول، مع أنني صعدت على قدمي كما يصعد الناس. وعدت إلى المستشفى أُخبِر الطبيب الذي كان يقوم عليّ والذي أجرى العمليات لي ( وهو جرّاح ماهر اسمه الدكتور مظهر المهايني ) وكبير أطبّاء الشام الدكتور حسني سبح ( رئيس مجمع اللغة العربية الآن في دمشق ) والأستاذ الكبير الدكتور حمدي الخياط ... فلبثوا جميعاً أياماً حتّى استطاعوا أن يُزيلوا من نفسي أثر هذه الكلمة التي قالها الطبيبُ الشابُّ، جهلاً مِن غير علم ومن غير تحقيق» [10] . ♦    ♦    ♦ ويقولُ الحافظُ أبو بكر الخطيب البغدادي: «وأجودُ أماكن الحفظ: ‌الغرفُ دون السفل » [11] . ويقولُ ابنُ الجوزي -وهو آيةٌ في الحفظ-: "والأماكن العالية للحفظ خيرٌ من السوافل" [12] . ويقول في ذلك أيضًا: "والمناظر العالية أحمدُ من السافلة" [13] . وهذه يلزمها درج. ♦    ♦    ♦ ولا ننسى أنَّ في الآخرة درجات، فقد جاء في الحديث: "‌الجنة ‌مئة ‌درجة، ما بين كل درجتين مئة عام" [14] . وجاء: «إنَّ صاحب القرآن يُقال له يوم القيامة: ‌اقرأ، وارقَ في الدرجات، ‌ورتِّلْ كما كنتَ ترتل في الدنيا، فإنَّ منزلك عند آخر آية معك» [15] . ولكن الدنيا لا تُقاس على الجنة. فما قولُ الأطباء والباحثين والأدباء؟ دبي: مساء الأربعاء (23) من رجب سنة (1441) = (18) من مارس عام (2020م). ♦  ♦  ♦ وقد قرأ هذا المقالَ عددٌ من أهل العلم والأدب والفضل مِن تخصصات متنوعة فكتبوا إليَّ تعليقاتٍ تثري الموضوع، وهذه هي، أسوقُها لإلقاء مزيد من الضوء عليه: الحكيم د. عباس زغنون: ليس هذا اختصاصي، ولكنني أعلمُ منه القليل: 1- صعود الدرج أو نزوله رياضة، وعلى ذلك فنحن ننصح بها عامةً. 2- فيها تقوية لعضلات الرجلين وغيرها، وكذلك لمفاصلها. وإذا لم يكن مِن عادة الشخص استعمال الدرج فقد يجد صعوبة باستعماله في البداية، وينصح ما لم يكن هناك مانعٌ بالتدرج في استعمال الدرج حتى يستطيع ذلك بخفة ورشاقة! 3- و كأي رياضة فهي تساعد على لياقة البدن والقلب والأوعية الدموية، ومما يساعد على تخفيف الوزن. 4- الإكثار من ذلك قد يُرهق مفاصل البدين، إذ إن زيادة العبء عليهما يسارع في تآكل غضاريفها! 5- لا ينصح مَن له سابق إصابة في المفاصل أو تشوه في الرجلين من الإكثار من استعمال الدرج لأنَّ ذلك أيضاً مما يسارع في تآكل غضاريفها. ولعل اختلاف الناس في رغبتهم أو بُعدهم عن الدرج هو بسبب اختلاف أحوالهم كما سبق. هذا تعليق مبدئي، والله أعلم. تعليق: شأنُه صلى الله عليه وآله وسلم في صعود المشربة أو نزولها شأنُه في مشيه، كأنما يتحدر من صبب... ♦  ♦  ♦ الشيخ أحمد عز الدين ويس: وصفُ الدرج ( بمنشار القلب ) نقله لي الأخُ الشيخ بكري ششمان عن والده الدكتور النطاسي محمد عبيد ششمان رحمه الله تعالى. ومِن باب الشيء بالشيء يُذكر حدَّثنا الدكتور محمود برشة الدمشقي -وهو طبيبٌ مختص بأمراض القلب- لازم في الثمانينيات الميلادية العلامة الشيخ محمد حمزة رحمه الله تعالى وهو من أفاضل علماء دمشق وكان يقرأ عليه بعض العلوم وخاصة الفقه. قال: كنّا ذات يوم في المصعد فتعطل وحُبسنا داخله، وعلمنا أن تصليحه يحتاج إلى ساعتين وقد تزيد، فقال لي الشيخ محمد حمزة: افتح الكتاب -وكان مع الدكتور كتاب الدرس- قال: ففتحته وصرت أقرأ والشيخ يشرح! وهذه القصة تصلح مثلاً للحرص على الوقت وعدم إضاعة شيء منه. ♦  ♦  ♦ د. وليد فائق الحسيني: أقول تتمة لموضوعكم شيخنا: اتصل بي شيخنا د. محمد عُبيد الكبيسي -وهو الآن جاري في محلة باشاق شهير في إسطنبول- وطلبَ مني أن أذهب به إلى المستشفى لأجل عينيه، فتشرفتُ بصحبته إلى هناك، وكان القسم في الطابق الثاني، فصعدنا من السلم، لأن المصعد الكهربائي مزدحم.. وعند إكمالنا أمور الفحص والعلاج، قال شيخنا حفظه الله: يجب أن نذهب إلى المصعد الكهربائي حتى لو كان مزدحمًا.. وذلك لأنَّ نظره ضعيف، والنزول من السلم صعب عليه.. فقلتُ له ممازحًا: شيخي أنت ( ما شاء الله ) شباب، فقد ارتقيتَ السلم بسهولة، والنزول أسهل، فقال: (النزول عليَّ صعب). وهي كلمة بليغة، يعني أنَّ مثلي لا ينزل.. ثم قال: كان شيخُنا محمد أبو زهرة يمشي مع الشيخ حسنين مخلوف رحمهما الله في كلية الشريعة في الجامع الأزهر، فنزلا من السلم فعثر الشيخ أبو زهرة، فقال له الشيخ مخلوف ممازحًا: كبرت يا شيخ، فرد عليه: لا ما كبرتش ( لم أكبر ) ولكن النزول علي صعب.. ثم قال شيخُنا بعدها: وهذه كلمة عظيمة، وجواب بارع، ارتجله في ذلك الموقف.. وبعدها سألتُه: شيخنَا رأيت ذلك بنفسك أم بلغتك، قال: لا لم أرها لكن بلغتني حين كنت أدرس هناك. ♦  ♦  ♦ د. أحمد شاكر: رأيتُ أثر صعود الدرج (منشار القلب) على الدكتور فرج توفيق الوليد رحمه الله حتى كان سببًا في وفاته. ♦  ♦  ♦ المنهدس أ. صباح شعبان: شيخنا الفاضل: الأطباء يقولون: أفضل رياضة هي صعود الدرج. ♦  ♦  ♦ الشيخ حمد المري: الشيخ محمد فؤاد طه الدمشقي مُعمَّر كبير، ويصعد الدرج على كبر سنِّه. ♦  ♦  ♦ الصيدلانية فاطمة الأنيس: مقالة جميلة استمتعت بقراءتها. حالياً التوصيات تختلف حسب الحالة الصحية للشخص.. فإذا كان الشخص عنده مشكلات في الركبة أو عنده قابلية لحدوث مشكلات في الركبة بسبب الوزن الزائد جداً فالأفضل أن يتجنب الدرج، أمّا بالنسبة للشخص العادي السليم فيعتبر الدرج خيارًا ممتازًا للمحافظة على اللياقة البدنية بشكل يومي. ♦  ♦  ♦ أ. رامي كلاوي: الأطباء ينصحون باستعمال الدرج لمن ليس عندهم زيادة في الوزن أو مشكلات في المفاصل.. ممكن نقول: الدرج مفيد للشباب كوقاية من بعض المشكلات الصحية التي يعاني منها الكبار، ولكنه ليس مناسبًا لمن أصابتهم تلك المشكلات. ♦  ♦  ♦ الشيخ عبدالرحمن أبو ضاهر: كان جدي لوالدتي مؤذنًا مدة خمسين سنة، يصعد مئذنة المسجد بدرج ملتف حول عمود المئذنة خمس مرات باليوم قرابة أربعين عامًا، ومات في الثمانين من عمره.. ♦  ♦  ♦ أ. د. أحمد الهيب: العادة طبيعة ثانية، فمن اعتاد صعود الدرج صار الصعود عاديًا له كالمشي للماشي، ورحم الله مَن قال: مَن شبَّ على شيء شابَ عليه. ♦  ♦  ♦ أ. د. عمر عبدالعزيز العاني: هناك ثلاثُ ثلاثيات من الموروث الشعبي، أحفظ مِن كل واحدة اثنتين: ثلاثة تطيل العمر: نكاح البنات، والمشي وسط النبات. ثلاثة تقصّر العمر: كثرة الزواج، وصعود الأدراج. ثلاثة تورث الهمّ: نكاح العجائز، والأكل بالفايز، أي الربا. ♦  ♦  ♦ الشيخ محمد زياد التكلة: إذا كانت المفاصل سليمة فهي نعمة حركية في ظل السجون المكتبية. والتفاؤل بأن الجنة درجات فيُطلب أعلاها. وتوجد آلات رياضية تحاكي صعود السلالم. وعند أهل الرياضة البدنية: أكثر ما يحرق السعرات تمارينُ الصعود للجبل أو الدرج. ♦  ♦  ♦ الشيخ طريف ركن السند: كنتُ أظن أن صعود السلم أو الدرج أشق على البدن وعلى العمود الفقري من الهبوط، حتى أخبرني أحدُ أطباء العظام عكس ما ظننت، وعلى ذلك فإن الهبوط يستلزم وضع ثقل الجسم كاملًا على القدمين، ويزيد الضغط على العمود الفقري، ولذا -كما قال هذا الطبيب- لا ينصح بصعود أو هبوط الدرج لمن لديه مشكلات في العمود الفقري. عافانا الله وإياكم من كل مكروه. ♦  ♦  ♦ الشيخ يوسف الأوزبكي: جميل وطريف بارك الله فيكم شيخنا. ولا شك اليوم أن الدرج من أسباب ذوبان غضروف الركبة. والله أعلم. ♦  ♦  ♦ الشيخ ناصر الموصلي: يقال: إن الطريق إلى الله صعودًا من الأسفل إلى الأعلى. وهذه قصيدةٌ لابن الرومي في الدرج: يا بَانِيَ الدَّرج الذي أولى به هدمُ الدَّرَجْ بئس البُنَا هِي في المسا جد والديار فلا تَلِجْ لاسِيما لأبي البنا تِ الناظرات من الفُرَجْ وإخالُ أنك قائلٌ فيها لنسوتنا فَرَجْ وكذاك أنتُم معشرٌ في عُودِ غَيْرَتِكُمْ عِوَجْ لو أنَّ قمل رؤوسكم ذات القرون إذا درجْ شاء العُرُوجَ إلى السما ء على قرونكُمُ عَرَجْ لولا الجوارُ وحفظُهُ حدَّثتُ عنك ولا حرجْ ♦  ♦  ♦ الشيخ مجد مكي: علق أحدُ أطباء العظام على هذا بقوله: الدرج منشار العمر لأنه بصعود الدرج يحصل نوعٌ من الاجهاد بعضلة القلب، وربما أدى ذلك لاحتشاء العضلة والوفاة إذا كان الشخصُ مصابًا بضعف تروية القلب الدموية. مثله كمَن لا يمارس الرياضة ولعبَ مباراة بكرة القدم. أمّا ممارسة الرياضة وصعود الدرج باستمرار ففيه من الفائدة الطبية الكثيرُ، ويفضل التدرُّج في ذلك لمن لم يعتده. طبعًا بعض المصابين بتنكس مفاصل الركبة والحوض سيُسبب لهم صعود الدرج ونزوله من الآلام ما يبعدهم عنه! باختصار: إنْ كنت من الشباب أو الاقل شبابًا فصعود الدرج ونزوله لا يضر. وقيل: هو كالزواج من الثانية والثالثة ربما لا يضير مَن يستطيع. انتهى. وعلق طبيبٌ آخر بقوله: مسألة الدرج هي بشكل عام غير محبذة، وخاصة لمن يشكو من ألم في الركبتين (مرض تنكس مفصل الركبة) فهؤلاء يجب أنْ يسكنوا منازل أرضية بدون درج على الإطلاق. وعند سليمي الجسم يمكن اعتبار صعود الدرج نوعًا من الرياضة المفيدة خصوصاً لمَن لا يتحركون كثيراً ولا يمشون. ♦  ♦  ♦ الشيخ أحمد يوسف: لعل الأمر كالأطعمة: ما ناسبَ شخصًا قد لا يناسب غيره! وبالنسبة لتحريك عضلات الجسم.. فما كان تحريكًا للعضل بكلفة وبغير كلفة فهو طيب إن شاء الله.. أما إذا وصل التمرين إلى الاعتماد على المفاصل والأعصاب فهنا قد يبدأ الضرر.. وربما للتنفس في التمرين مع مراعاة التدرج أهمية ما في سلامة التمرين. والله تعالى أعلم. وقد حذَّر بعضهم من النعل والحذاء اللين جدًا.. لأنه يجعل العضلة شبه معلقة لا تستفيد من المشي وقد تصل بعد مدة إلى حالة من الترهل أو نحوه. وإنما أستعمل مثلها إن وجدت عند شدة التعب مع الاضطرار للمشي لقضاء حاجة ما مثلا.. والتوسط هو أفضل الأمور وقد لا يُتَحصَّل! لذلك لا بد من دوام تصحيح اليقين والعلاقة مع الخالق سبحانه قبل كل شيء وبعده وأثناءه. ♦  ♦  ♦ الشيخ عمر مَهْمندار: كلا الرأيين صحيح، أحيانا يكون صعود الدرج ونزوله سهلًا، ويعتبر رياضة لمن تعود عليه ولم يكن فيه علة في ركبتيه. وأما مَن لم يتعود على ذلك يظن أن فيه علة وهو صحيح القلب والجسم. أو من كان فيه علة، وعنده خشونة في مفاصله، فعدوه الأول صعود الدرج، ونزوله أشد عليه من الصعود. ومِن هنا ينصحُ أطباءُ العظام بالتقليل من صعود الدرج ونزوله أو منعه نهائيًا، وأنا ممن منعَه الأطباء من صعود الدرج، ولكن عندما أكون في المدرسة أصعد وأنزل كل يوم عشر مرات تقريبًا، وأنا مكره بذلك، بسبب أن بعض الصفوف في الطابق العلوي، وكذلك غرفتي الخاصة، وعندما يحين موعد الصعود والنزول أدعو الله أن تمر بخير وسلام، مستعينًا ببعض الطلبة في حمل حقيبتي المدرسية، والحمد لله وجدت في هذه الأيام شيئًا من الراحة مع أخذ بعض الأدوية المقوية والمعالجة لخشونة المفاصل، والأمور بخير بفضل الله وعنايته. ♦  ♦  ♦ أ. خولة عابدين: المصعد اليوم هو المفضَّل بزمن السرعة. ♦  ♦  ♦ أ. د. أكرم عبدالوهاب ملا يوسف: ولعل مَن صعد الدر ج .. درج في الكفن. ♦  ♦  ♦ الشيخ محمود عبدالمولى: لقد خدعنا خادعٌ من المقاولين أنا وأسرتي فاشترينا شقة بالدور التاسع في برجٍ له منذ سبع سنين نصعد ونهبط الدرج، وهربَ دون إكمال خدمات البناية فلا مصعد لها. وحسبنا الله ونعم الوكيل. [1] في مصدر النقل: "لا يصعد"! [2] عيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص674). [3] جاء في «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (4/ 105): «بضم الجيم وكسر الحاء المهملة: من الجحش، وهو سجح الجلد وهو الخدش، يقال: جحشه يجحشه جحشًا: خدشه. وقيل: أن يصيبه شيء ينسجح كالخدش أو أكبر من ذلك. وقيل: الجحش فوق الخدش. وقال الخطابي: معناه أنه قد انسجح جلده، وقد يكون ما أصاب رسولَ الله من ذلك السقوط مع الخدش رضٌّ في الأعضاء وتوجعٌ، فلذلك منعَه القيامَ إلى الصلاة». [4] رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري. [5] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (7/ 232). [6] عيون الأنباء (ص684). [7] عيون الأنباء (ص686). [8] الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (6/ 278). [9] الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (3/ 1054). [10] ذكريات علي الطنطاوي (4/ 284-285). [11] الفقيه والمتفقه (2/ 208). [12] صيد الخاطر (ص192) ط دار القلم. [13] الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ (ص45). [14] مسند أحمد (13/ 300 ط الرسالة). [15] المعجم الأوسط (6/ 51). وأتيتُ به منه للتصريح بالدرجات.
الإمام: مسلم بن الحجاج الحمد لله، القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على البشير النذير، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإن الإمام مسلم بن الحجاج، هو أحد أئمة الحديث المشهورين، من أجل ذلك أحببت أن أُذكرَ نفسي وطلاب العِلم الكرام بشيء من سيرته المباركة. فأقول وبالله تعالى التوفيق: الاسم والنسب: هو: مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُوْرِيُّ. مُسْلِمُ بن الحجَّاج بن مُسْلِم القُشَيري النيسابوري. كنيته : أَبُو الحُسَيْنِ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ558) ميلاد مسلم : وُلِدَ مُسْلِمُ بن الحجَّاج سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمائَتَيْنِ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ558) عصر الإمام مسلم: عاش مُسْلِمُ بن الحجَّاج في القرن الهجري الثالث إلى العقد السادس منه. وقد كان هذا القرن حاسمًا في تاريخ الفكر الإسلامي، كان عصرًا نشيطاُ نيرًا، ازدهرت فيه الثقافة العربية ازدهارًا قويًا، ونمت العلوم، ووضعت أشهر الكتب في مختلف المعارف، وفيه لمعت شخصيات فذة، ونبغ مفكرون عظماء وعلماء مشهورون في مختلف البقاع العربية والإسلامية: فهو عصر يحيى بن مَعِين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وابن ماجه، والترمذي، وأبي داود وغيرهم في الحديث. وهو عصر محمد بن سعد، والبلاذري، وابن جرير الطبري في التاريخ. وهو عصر الدينوري، وابن قُتيبة، والجاحظ، وابن دُريد، وابن السُّكَيت، والمازني في العلم واللغة والأدب والنحو. وهو عصر كثير غير هؤلاء من الأعلام في كل عِلم وفن. ولئن لم تكن الأقطار الإسلامية تدين كلها لخليفة واحد، فإن الصلات لم تنقطع بين أهل تلك البلاد، على تباعدهم فيما بينهم، ولم يؤَثِر في صلاتهم اتساع أطراف الأقاليم، التي امتدت إلى حدود الهند والصين شرقًا، وإلى المغرب الأقصى (مراكش) غربًا. فأما الخلفاء العباسيون الذين عاصرهم الإمام مسلم فهم تسعة خلفاء حكموا بين سنتي (279:198هجرية) وهم: المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد. (الإمام مسلم، حياته وصحيحه لمحمود فاخوري صـ34:33) رحلة مسلم في طلب العلم: أول سماع مُسْلِمِ بنِ الحجَّاج للعِلم في سنة ثَمَانِ عَشْرَةَ من حياته، مِنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى التَّمِيْمِيِّ. ورحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر في طلب العلم. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 100) (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ558) شيوخ مسلم: القعنبي وأحمد بن يونس وإسماعيل بن أبي أويس وداود بن عمرو الضبي ويحيى بن يحيى والهيثم بن خارجة وسعيد بن منصور وشيبان بن فروخ، وآخرون كثير. (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ5صـ426) تلاميذ مسلم: روى عن مسلم الترمذي وأبو الفضل أحمد بن سلمة وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عمرو الخفاف وحسين بن محمد القباني وأبو عمرو المستملي وصالح بن محمد الحافظ وعلي بن الحسن الهلالي ومحمد بن عبد الوهاب الفرَّاء وهما من شيوخه وعلي بن الحسين بن الجنيد وابن خزيمة وابن صاعد والسراج ومحمد بن عبد بن حميد وأبو حامد وعبد الله ابنا الشرقي وعلي بن إسماعيل الصَّفار وأبو محمد بن أبي حاتم الرازي وإبراهيم بن محمد بن سفيان ومحمد بن مخلد الدوري وإبراهيم بن محمد بن حمزة وأبو عوانة الإسفرائني ومحمد بن إسحاق الفاكهي في كتاب مكة وأبو حامد الأعمشي وأبو حامد بن حُسْنويه وآخرون. (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ5صـ426) أقوال العلماء في مسلم: (1) قال مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار: حُفَّاظ الدُّنْيَا أَرْبَعَة: أَبُو زُرْعَةَ بِالرَّيّ، وَمُسْلِم بِنَيْسَابُوْرَ، وَعَبْد اللهِ الدَّارِمِيّ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُحَمَّد بن إِسْمَاعِيْلَ بِبُخَارَى. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ2صـ 16) (2) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ الأَخْرَم الحَافِظ: إِنَّمَا أَخْرَجَتْ نَيْسَابُوْرُ ثَلاَثَةَ رِجَال: مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَمُسْلِم بن الحَجَّاجِ، وَإِبْرَاهِيْم بن أَبِي طَالِبٍ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 565) (3) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: كَانَ مُسْلِم ثِقَة مِنَ الحُفَّاظِ، كَتَبْتُ عَنْهُ بِالرَّيّ، وَسُئِلَ أَبِي عَنهُ، فَقَالَ: صَدُوْقٌ. (تذكرة الحفاظ للذهبي جـ2صـ 589) (4) قال إِسْحَاقُ الكَوْسَج: لَنْ نعْدم الخَيْر مَا أَبقَاك الله لِلْمُسْلِمِيْنَ. (تذكرة الحفاظ للذهبي جـ2صـ 589) (5) قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا زُرعة وأبا حاتم يقدِّمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 101) (6) قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ: رَأَيْتُ شَيْخًا حسن الوَجْه وَالثِّيَاب، عَلَيْهِ رِدَاء حسن، وَعِمَامَة قَدْ أَرخَاهَا بَيْنَ كَتفيهِ. فَقِيْلَ: هَذَا مُسْلِم. فَتَقَدَّم أَصْحَاب السُّلْطَان، فَقَالُوا: قَدْ أَمر أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ أَنْ يَكُوْنَ مُسْلِم بن الحَجَّاجِ إِمَام المُسْلِمِيْنَ، فَقَدَّمُوهُ فِي الجَامِع، فكبَّر، وَصَلَّى بِالنَّاسِ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 566) (7) قال محمد بن أحمد بن حمدان الحيري: سألت أبا العباس بن سعيد بن عقدة: أيهما أحفظ البخاري أو مسلم؟ فقال: كان محمد عالمًا ومسلم عالمًا، فأعدت عليه مرارًا فقال: يقع لمحمد الغلط في أهل الشام وذلك لأنه أخذ كتبهم ونظر فيها فربما ذكر الرجل بكُنيته ويُذكر في موضع آخر باسمه يظنهما اثنين، وأما مسلم فقلما يُوجد له غلط في العِلل لأنه كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع ولا المراسيل. (المقصود بالمقاطيع أقوال الصحابة والتابعين في الفقه والتفسير) (تذكرة الحفاظ للذهبي جـ2صـ 589) (8) قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ الفَرَّاء: كَانَ مُسْلِم بن الحَجَّاجِ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاس، وَمِن أَوْعِيَة العِلْم. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 579) (9) قال مسلمة بن قاسم:كان مسلم ثقةٌ، جليلُ القَدْر، من الأئمة. (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ5صـ427) (10) قال ابنُ حجر العسقلاني: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مُفْرِط لم يحصل لأحدٍ مثله بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جميع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى وقد نسج على منواله جماعةٌ عن النيسابوريين فلم يبلغوا منزلة مسلم. وحفظت منهم أكثر من عشرين إمامًا ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب. (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ5صـ427) علاقة مسلم بالبخاري: (1) جَاءَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ، إِلَى البُخَارِيِّ فَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلْ رجليكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِين، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِيْنَ، وَطبيبَ الحَدِيْثِ فِي عِلَلِهِ. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 102) (2) كان مسلم يدافع عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين شيخه محمد بن يحيى الذهلي بسبب البخاري. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 103) (3) قال أبو عبد الله محمد بن يعقوب: لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور أكثر مُسْلِمُ بن الحجَّاج الذهاب إليه فلما وقع بين محمد بن يحيى الذُّهْلي والبخاري ما وقع، من محنة اللفظ بالقرآن، ومُنع الناس من الذهاب إليه حتى هجر الناس البخاري، وخرج من نيسابور في تلك المحنة وقاطعه أكثر الناس غير مسلم فإنه لم يتخلف عن زيارته فبلغ محمد بن يحيى الذُّهْلي أن مسلم بن الحجاج على مذهب البخاري، قديمًا وحديثًا وأنه عُوتِبَ على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رؤوس الناس وخرج من مجلسه وجمع كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمَّال إلى باب محمد بن يحيى فاستحكمت بذلك الوحشة وتخلف عن مجلس الذَُهْلي، وعن زيارته. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 103) مؤلفات الإمام مسلم: مؤلفات الإمام مسلم كثيرة منها: كِتَاب (المُسْنَد الكَبِيْر) عَلَى الرِّجَال، كِتَاب (الجَامِع عَلَى الأَبْوَاب)، رَأَيْت بَعْضه بِخَطِّهِ، كِتَاب (الأَسَامِي (1) وَالكنَى)، كِتَاب (المُسْنَد الصَّحِيْح)، كِتَاب (التمِييز)، كِتَاب (العِلَل)، كِتَاب (الوُحْدَان)، كِتَاب (الأَفرَاد)، كِتَاب (الأَقْرَان)، كِتَاب (سُؤَالاَته أَحْمَد بن حَنْبَلٍ)، كِتَاب (عَمْرو بن شُعَيْبٍ)، كِتَاب (الاَنتفَاع بِأُهُب السِّبَاع)، كِتَاب (مَشَايِخ مَالِك)، كِتَاب (مَشَايِخ الثَّوْرِيّ)، كِتَاب (مَشَايِخ شُعْبَة)، كِتَاب (مِنْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَاو وَاحِد)، كِتَاب (المخضرمِيْن)، كِتَاب (أَوْلاَد الصَّحَابَة)، كِتَاب (أَوهَام المُحَدِّثِيْنَ)، كِتَاب (الطَّبَقَات)، كِتَاب (أَفرَاد الشَّامِيّين) (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 579) صحيح الإمام مسلم: (1) قَالَ أَحْمَد بن سَلَمَةَ: كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف (صَحِيْحه) خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 566) (2) قال مسلم بن الحجاج: صنَّفْتُ هَذَا (المُسْنَد الصَّحِيْح) مِنْ ثَلاَث مائَة أَلْف حَدِيْث مَسْمُوْعَة. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 101) (3) قَالَ مَكِّيّ بن عبدَان: سَمِعْتُ مسلمًا يَقُوْلُ: عرضت كِتَابِي هَذَا (المُسْنَد) عَلَى أَبِي زُرْعَةَ، فُكُلُّ مَا أَشَار عليّ فِي هَذَا الكِتَاب أَن لَهُ عِلَّة وَسببًا تركته، وَكُلّ مَا قَالَ: إِنَّهُ صَحِيْح لَيْسَ لَهُ علَّة، فَهُوَ الَّذِي أَخرجت. وَلَوْ أَنَّ أَهْل الحَدِيْث يَكْتُبُوْنَ الحَدِيْث مَائَتَي سنَة، فمدَارهُم عَلَى هَذَا المُسْنَد. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 568) (4) عَدَدُ أحاديث صحيح مسلم: أربعة آلاف حديث دون المكرر، وبالمكرر: اثنا عشر ألف حديث. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ40) مميزات صحيح مسلم: (1) انفرد مسلمُ بفائدة حسنة وهي كونه أسهل متناولًا من حيث أنه جعل لكل حديث موضعًا واحدًا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها واختار ذكرها وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فيسهل على الطالب النظر في وجوهه واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه بخلاف البخاري فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به وذلك لدقيقة يفهمها البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طُرق الحديث. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ31) (2) قال أبو عمرو بن الصلاح (رحمه الله): شرط مسلم (رحمه الله تعالى) في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالمًا من الشذوذ والعِلة، وهذا حد الصحيح، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الشروط فهو صحيحٌ بلا خِلاف بين أهل الحديث، وما اختلفوا في صحته من الأحاديث فقد يكون سبب اختلافهم انتفاء شرط من هذه الشروط. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ32) (3) قال أبو عمرو بن الصلاح (رحمه الله) جميع ما حَكَمَ مسلمُ (رحمه الله) بصحته في هذا الكتاب فهو مقطوعٌ بصحته، والعِلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حَكَمَ البخاريُّ بصحته في كتابه وذلك لان الأمة تلقت ذلك بالقبول. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ38) دقة الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه: سلك مُسْلِمُ بن الحجَّاج (رحمه الله) في صحيحه طرقًا بالغة في الاحتياط والإتقان والوَرَع والمعرفة وذلك مصرح بكمال ورعة وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه بحفظه، وتمكنه من أنواع معارفه وتميزه في صناعته، وعُلو محله في التمييز بين دقائق علومه،التي لا يهتدي إليها إلا أفراد. ولا يعرف حقيقة حال مسلم إلا مَن أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة كالفقه واللغة العربية وأسماء الرجال ودقائق علم الأسانيد والتاريخ ومعاشرة أهل هذه الصنعة ومباحثتهم، ومع حُسْنِ الفِكْر ونباهة الذهن ومداومة الاشتغال به وغير ذلك من الأدوات. (1) من تحري مُسْلِم بن الحجَّاج اعتناؤه بالتمييز بين حدثنا وأخبرنا وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته وكان من مذهبه رحمه الله الفرق بينهما وأن حدثنا لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، وأخبرنا لما قُرِئ على الشيخ. وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق. قال محمد بن الحسن الجوهري المصري وهو مذهب أكثر أصحاب الحديث، الذين لا يحصيهم أحدٌ. ورُوِى هذا المذهب أيضًا عن ابن جُريج والأوزاعي وابن وهب والنسائي، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ41) (2) اعتنى الإمام مُسْلِمُ بن الحجَّاج بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان،قال أو قالا حدثنا فلان، وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف من متن الحديث أو صِفة الراوي أو نَسَبه أو نحو ذلك فإنه يبينه، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى وربما كان في بعضه اختلاف في المعنى ولكن كان خفيًا لا يتفطن له إلا ماهرٌ في علوم الحديث. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ:42:41) (3) يظهر تحري مسلم في صحيحه في مثل قوله: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان (يعنى بن بلال) عن يحيى وهو (ابن سعيد) فلم يستجز الإمام أن يقول سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد لكون لم يقع في روايته منسوبًا، فلو قاله منسوبًا لكان مخبرًا عن شيخه أنه أخبره بنَسَبه ولم يخبره. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ:43:42) (4) احتاط مسلمُ في تلخيص الطرق وتحول الأسانيد مع إيجاز العبارة وكمال حُسنها. (5) يمتاز مسلم بحُسْنِ ترتيبه للأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العِلم وأصول القواعد وخفيات عِلم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ43) شبة ورد عليها: قال الإمام النووي (رحمه الله تعالى): عَابَ عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: (1) أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده ولا يُقالُ الجرح مقدمٌ على التعديل، لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يُقبل الجرح إذا لم يكن كذا. وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة عُلم الطعن فيهم من غيرهم محمولٌ على أنه لم يثبت الطَّعن المؤثر. (2) أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف، رجاله ثقات ويجعله أصلًا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدَّمه. (3) أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخْذه عنه باختلاط حَدَثَ عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الرازق وغيرهما ممن اختلط آخرا ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. (4) أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفه أهل الشأن في ذلك وهذا العذر قد رُويناه عنه تنصيصًا، وهو خِلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولًا ثم أتبعه بمن دونهم متابعة وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ47:45) الكتب المخَرَّجة على صحيح مسلم: صنف جماعة من الحفَّاظ على صحيح مسلم كتبًا، وكان هؤلاء تأخروا عن مسلم وأدركوا الأسانيد العالية وفيهم من أدرك بعض شيوخ مسلم فخرَّجوا أحاديث مسلم في مصنفاتهم المذكورة بأسانيدهم تلك. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح (رحمه الله):هذه الكتب المخرَّجة تلتحق بصحيح مسلم في أن لها سمة الصحيح وإن لم تلتحق به في خصائصه كلها، ويستفاد من مخرَّجاتهم ثلاث فوائد علو الإسناد وزيادة قوة الحديث بكثرة طرقه وزيادة ألفاظ صحيحة مفيدة ثم أنهم لم يلتزموا موافقته في اللفظ لكونهم يروونها بأسانيد أخر فيقع في بعضها تفاوت فمن هذه الكتب المخرجة على صحيح مسلم كتاب أبى جعفر أحمد بن أحمد بن حمدان النيسابوري الزاهد العابد، ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن محمد بن رجا النيسابوري الحافظ، وهو متقدم يشارك مسلمًا في أكثر شيوخه، ومنها مختصر المسند الصحيح المؤلف على كتاب مسلم للحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرايني، روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم ومنها كتاب أبي حامد الشازكي الفقيه الشافعي الهروي، يروى عن أبي يعلى الموصلي، ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقي النيسابوري الشافعي، ومنها المسند المستخرج على كتاب مسلم للحافظ المصنف أبى نُعَيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ومنها المخرَّج على صحيح مسلم للإمام أبي الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه الشافعي وغير ذلك والله أعلم. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ48) وفاة الإمام مسلم: قال أحمد بن سلمة: عُقِدَ لمسلم بن الحجاج مجلسٌ للمذاكرة، فذُكِرَ له حديث لم يعرفه فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحدٌ منكم هذه الغرفة، فقِيل له أُهديت لنا سَلة فيها تمر، فقال: قدموها إليَّ، فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها فأصبح وقد فني التمر، ووجد الحديث. فقِيل إن الإمام مسلم مات بسبب ذلك. تُوفي مُسلم بن الحجاج بنيسابور عشية يوم الأحد ودُفِنَ يوم الاثنين الخامس والعشرون من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين من الهجرة. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 103) رحم اللهُ تعالى مُسلمَ بن الحجاج، رحمة واسعة، وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهُ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ، وصحبهِ، والتابعينَ لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قصة سليمان بن داود عليه السلام (6) وفاة سليمان كان مِن عادة سليمان إذا صلى الفجر أن يرى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيء أنتِ؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة. فقال لها: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس. فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت، فقلعها، ثم قال: اللهم عمِّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكان يقيم في بيت المقدس للعبادة لمدد متطاولة، وبينما كان قائمًا يصلي متوكئًا على عصاه أتاه أجله، فمات، ولم تعلم الشياطين بموته مدة سنة حتى أكلت الأرَضةُ عصاه فانكسرت فسقط على الأرض، وهنا علمت الجن بموته. فلماذا كان الجن يتلهَّفون لموته؟ كان سليمان يشغلهم في أقسى الأعمال وأشقها، يعملون بلا هوادة، ومن يتمرد على العمل فإن سليمان يوقع به أشد العقوبات، فقد كانوا يعملون له كارهين عن غير رضا، فقد سخرهم الله له، فسيطر عليهم؛ لذلك ورد في القُرْآن حسرتهم أنهم لم يعلموا بوفاته إلا بعد حين: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14]. ولقد ورَد في سورة البقرة: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]، اتهم في مرحلة من المراحل أن سليمان يستعمل السحر في إدارة مملكته وقهر خصومه وسيطرته على الجن والشياطين، وذلك كما روي أن سليمان عليه السلام قد اكتشف أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع - يستَرِقون السمع - فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فيحدِّث الكهنةُ الناسَ فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحدًا يذكر الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربتُ عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا؟! قالوا: نعم، قال: فاحفِروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادنُ، فقال: لا، ولكنني ها هنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا، فلما جاء الإسلام وذكر نبوة سليمان عارضته اليهود؛ فأنزل الله تبرئة سليمان: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].
أصول المسائل الصرفية لصلاح بن عبدالله بو جليع صدر حديثًا كتاب "أصول المسائل الصرفية"، تأليف: د. "صلاح بن عبدالله بو جليع"، نشر: "دار التميز والإبداع للنشر". وهذا الكتاب يضم قواعد سهلة وتطبيقات ممتعة في علم الصرف، وضعه المؤلف للمتوسطين في طلب هذا العلم، وصاغه بطريقة تساعد الطالب على فهم هذا العلم في قواعد سهلة يسهل حفظها، وتشجيرات مفيدة تساعد على تمكين المعلومة، وإبراز تقسيمات هذا العلم في ذهن القارئ، كما زادها الكاتب تدريبات عقب نهاية كل مسألة لكي يطمئن بها الطالب على فهمه وقدر إدراكه. يقول الكاتب: "لما كانت آفة الطلاب في الطلب أنهم يتجاوزون المسألة أحيانًا من غير فهم، فتجتمع عليهم المسائل غير المفهومة، فيشعر الطالب بصعوبة هذا العلم، جعلت التدريبات بعد كل مسألة، وليس في نهاية كل باب؛ حتى لا يتجاوز الطالب أي مسألة في الصرف إلا بعد معرفة قواعدها والتدريب عليها". وقد اقتصر الكاتب في كتابه على أصول المسائل الصرفية التي اتفق عليها الشيخ "أحمد الحملاوي" في مصنفه "شذا العرف في فن الصرف"، حيث ابتعد عن الشواذ والنوادر، والخلاف إلا الضروري منه، والتفريعات الكثيرة التي يندر استعمالها، وتضيع الأصول بسببها، وبعض المسائل المذكورة في علم النحو، كالحديث عن الكلمة وأنواعها، وعلامة كل نوع. والمؤلف هو أستاذ النحو والصرف المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو المجلس العلمي بالجامعة، ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الشريعة بالأحساء. له من المصنفات: • "اللمحة البدرية في علم العربية"، لأبي حيان الأندلسي - تحقيق ودراسة. • "آراء ابن درستويه النحوية والتصريفية جمعًا ودراسة وتقويمًا"- رسالة ماجستير. • "اختيارات ابن فلاح النحوية والتصريفية جمعًا ودراسة وتقويمًا"- رسالة دكتوراه. • تحقيق ودراسة "رسالة في بيان الإعراب والاستثناء في لا إله إلا الله" للعلامة عبد الله بن حجازي الشرقاوي. • "الأزهرية في علم العربية" لخالد بن عبدالله الأزهري (ت 905 هـ)؛ تحقيق ودراسة. • "الأصول الثلاثة في النحو العربي: قواعد وتدريبات". • "التجريد في إعراب كلمة التوحيد وما يتعلق بمعناه من التمجيد" لعلي بن سلطان محمد القاري الهروي (ت 1014 هـ)؛ تحقيق ودراسة. • "المغني في مسائل الخلاف النحوي والصرفي". • "كيف تكتب الهمزة من دون أخطاء، حقيبة تدريبية محكمة". • "الوافية نظم الكافية" لابن الحاجب؛ تحقيق ودراسة. • "الدرر البهية في القواعد النحوية" لعبدالفتاح محمد على الحنفي المنشاوي؛ تحقيق ودراسة. • "نظرية تشومسكي اللغوية" حقيقتها وصلتها بالنحو العربي (بحث علمي محكم). • "متن شذور الذهب في معرفة كلام العرب" لابن هشام الأنصاري؛ تحقيق ودراسة. • "المتممة لمسائل الجرومية" للرعيني الشهير بالحطاب؛ تحقيق ودراسة.
الإعجاز في فرش الأرض ورَدتْ آيتانِ في القرآن الكريم تتحدثان عن فرش الأرض؛ في قول الله تعالى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]، وقوله تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [الذاريات: 48]. والملاحظ في آية سورة البقرة أن هناك ترتيبًا زمنيًّا معينًا يشير إلى: 1 - أولًا فرش الأرض وبناء السماء، وفرش الأرض يشير إلى تكوين قشرة لها، أو غلاف صخري لها. 2 - إنزال المطر من السماء بعد فرش الأرض. 3 - إخراج الثمرات عقب إنزال الماء، كما يُفهَم من حرف "الفاء" الذي يشير إلى الترتيب مع التعقيب. والآية تشير إلى مراحل تكوُّنِ أغلفة الأرض، وهي: 1 - الغلاف الصخري ( Lithospher ). 2 - الغلاف الجوي ( Atmosphere ). 3 - الغلاف المائي: ( Hydrosphere ). 4 - الغلاف الحياتي: ( Biosphere ). وتشير الآية إلى مراحل تكوين تلك الأغلفة، وهذا هو المستقر علميًّا عند أهل التخصص الدارسين لعلم الأرض (الجيولوجيا)، وهذا الترتيب الزمنيُّ في حدِّ ذاته يمثِّل إعجازًا علميًّا سبق به القرآنُ العِلمَ. أما الموضع الآخر، الذي يذكر فيه فرش الأرض، فقد ورد في سورة الذاريات، بعد الإشارة إلى اتساع السماء المستمر، وقبل خلق الأزواج. وآية البقرة تأمُر في نهايتها إلى عدم الشرك بالله، ويختتم سياق الآيات الكونية في سورة الذاريات بالفِرار إلى الله على منهاج النبوة الرشيدة. وعن تفسير آيات فرش الأرض قال العلماء: • ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا ﴾ : مهَدْناها وبسَطْناها كالفِراش للاستقرار عليها. • ﴿ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾: بِساطًا ووطاء للاستقرار عليها، وقيل: أي مهدًا كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات. وذكر المفسِّرون أنَّ "جعل" في قوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾، والفعل يأتي أيضًا بمعنى (خلق)، ويأتي بمعنى (سمَّى). ويقول القرطبي معنًى جميلًا لقوله تعالى: ﴿ فِرَاشًا ﴾ ؛ أي: وطاء يفترشونها ويستقرون عليها، ويضيف: أن ما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها؛ لأن الجبال كالأوتاد، والبحار تركب إلى صالح سائر منافعها. ومن حكم المؤكد يَسبِقُ فرشَ الأرضِ تكوُّنُ كلٍّ مِن غلافها الصخري أولًا، ثم غلافها الجوي والمائي، والغلافُ الأول هو الأقدم في التكوين؛ فقد نشأ منذ قرابة 4000 مليون سنة، ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، أخذ الغلافان الأخيران يمارسان نشاطيهما في تفتيت سطح قشرة الأرض الصُّلبة؛ عن طريق وسائل التجوية الكيميائية والميكانيكية، وتكوَّن من جراء تلك العمليات الخارجية رواسبُ وصخور فتاتية من مثل الرمال والحصى والطين وصخورها من الأحجار الرملية والرواهض والمدملكات والطفلة، هذا بالإضافة إلى نشاط العمليات الداخلية من براكين وزلازل وخلافه. ومن ثم نشطت الدورةُ الجيولوجية بأجنحتها الثلاثة: من دورة الصخر، والدورة المائية، ودورة القارة العظمي، وقدمت الدورة الأولى منها مادة الرواسب والصخور التي فرشت الأرض؛ وذلك في أثناء التحول من الصهارة إلى الصخور النارية والرسوبية والمتحولة في دورة متكررة، وقد أسهمتْ عناصر الغلاف الجوي والمائي والحياتي في دورة الصخر السابقة وتشكيل سطح الأرض. وبناء على ما تقدم: فإن فرش الأرض يتمثَّل في تكوين غلافها الصخري أولًا، ثم تشكيل سطح الأرض وتضاريسها بفعل العمليات الخارجية من دورات تحات وتجوية، وبتأثير عملياتها الداخلية من البراكين وقوى الرفع. ومع استمرار نمو الأرض، عبر فترة زمنية طويلة؛ تقدَّر بحوالي 4600 مليون سنة؛ أي: عبر عمر الأرض؛ حيث أخَذَتِ الأرضُ زُخرُفَها الذي نعهده اليوم، بجبالها العالية، وأخاديدها العميقة، وأنهارها السارحة، وسبلها المذلَّلة، وبحارها الواسعة، ودوابها المبثوثة، وغلافها الجوي المتزن في مكوناته ونِسَبِه، وأصبحَتِ الأرضُ فِراشًا ومهادًا، نعمة من الخالق الذي خلَقَ كلَّ شيء بقدر. ويرى الدكتور زغلول النجار أن تعبير "فِراشًا" تعبير حقيقي.. فإذا علمنا أن أعلى نقطةٍ على اليابسة اليوم هي قمة إفرست، والبالغ ارتفاعها أقلَّ قليلًا من تسعة كيلومترات (884.8م)، وأن منسوب أعمق أغوار المحيطات هو 11 ألف كيلومتر، يكون الفرق بينهما - وهو عشرون كيلومترًا تقريبًا - سمكًا قليلًا لو قُورِنَ بنصف قطر الأرض المقدَّر بحوالي 6371 كيلومتر؛ أي لا يتعدي 3.0 في المائة من طول نصف قطر الأرض، وهذا يظهر أن سطح الأرض بتضاريسه بين أقصى علوٍّ وأدنى انخفاض في المتوسط العام يشكِّل نسبة مقدارها 007.%؛ أي: يمثِّل فِراشًا.