text
stringlengths
0
254k
نصائح لتجنب الأخطاء الطبية امتلأت المؤلفات وعموم الكتابات التي تناولت الأخطاء الطبية بالنصائح والتدابير الواقية -بفضل الله - من الوقوع في الخطأ الطبي، إلا أنَّ مِنْ أبرز ما ذُكر في هذا الصدد ما سطَّرته يَرَاعَةُ العلَّامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-، فقد ذكر أن هناك عشرين أمرًا ينبغي للطبيب الماهر والممارس الصحي الحاذِق مراعاتُها والأخذ بها؛ ليكون تطبيبه -بعون الله وتوفيقه- صائبا، وعلاجه -بإذن الله- نافعا ناجعا: قال: "والطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرًا" . وسأقتصر على ذكر أبرزها وأهمها في رأيي، ومن رامها كلها فليرجع -إن أحب- إلى الجزء الرابع من السِّفْر ذي الشهرة الطائلة "زاد المعاد في هدي خير العِبَاد" . وإليك هذه الأمور: • النظر في نوع المرض من أيِّ الأمراض هو؟ • النظر في سببه، من أيِّ شيء حَدَث؟ والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي؟ • قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعف منه؟ فإن كانت مقاوِمة للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرضَ، ولم يحرِّك بالدواء ساكنًا. - • سن المريض (فلسن المريض مثلا اعتبار ووزن في تحديد جرعة التخدير زيادة ونقصا) ، وعادته، والوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به، و بلد المريض وتربته، و حال الهواء في وقت المرض، و النظر في الدواء المضاد لتلك العلة، النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض. • ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العلة فقط، بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوثَ أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يؤمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب. • أن يعالج بالأسهل فالأسهل، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره، ولا ينتقل إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذر الدواء البسيط، فمن حِذْقِ الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركبة. • أن ينظر في العلة هل هي مما يمكن علاجها أو لا؟ فإن لم يمكن علاجها، حَفِظَ صناعته وحُرمته، ولا يحمله الطمع على علاجٍ لا يفيد شيئًا. وإن أمكن علاجها نظَر هل يمكن زوالها أم لا؟ فإن عَلِمَ أنه لا يمكن زوالها، نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلها، ورأى أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها، قَصَدَ بالعلاج ذلك. • أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها. وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفًا بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك -وإن كان حاذقًا في علاج الطبيعة وأحوال البدن- نصفُ طبيب. وكل طبيب لا يداوي العليل، بتفقد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقواه بالصَّدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّب قاصر. ومن أعظم علاجات المرض: فعلُ الخير، والإحسان، والذِّكر، والدعاء، والتضرع، والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأمور تأثيرٌ في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس، وقبولها، وعقيدتها في ذلك ونفعه. • التلطف بالمريض، والرفق به، كالتلطف بالصبي. • أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل (واليوم يقولون: الجسم السليم في التخيل السليم) ، فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعينٍ. ولا غرابة فهناك اليوم ما يسمى العلاج بالتصور، حتى أن الذين استخدموا التخيل جنبا إلى جنب مع العلاج الطبي عاشوا مدة أطول -بمقدار الضعف- من الذين تلقوا رعاية طبية فحسب، ولا شك أنها آجالهم. الأمر العشرون وهو الأخير مما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله قال: وهو ملاك أمر الطبيب أن يجعل علاجه وتدبيره دائرًا على ستة أركان: حفظ الصحة الموجودة، ورَدّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه آخِيَّتَهُ (أي: أصلًا وقاعدةً له يرجع إليها) التي يرجع إليها، فليس بطبيب. والله أعلم.
يوسف بن يعقوب بن إسحاق (2) ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30] وبالرغم من التكتيم عما حدث فإن ما يجري في البيوت الكبيرة ودور المسؤولين لا يبقى طي الكتمان، فلا بد من تسرُّبه؛ لأنها دائمًا محط أنظار كثير من الناس، وتسلط عليها الأضواء؛ ليصنع من حركاتها الخبر، وتكون للعامة ملح التندر والسهر، "قال الملك، وفعل الملك، وقالت زوجة الملك، وابنة الملك الوحيدة المدللة، وكل حكايات الناس عن الملك وحاشية الملك". وشاع خبر امرأة العزيز في عشقها لفتاها؛ أي: مملوكها، وقالوا: قد شغفها حبًّا، وهذه العبارة تمثل قيمة البلاغة في التعبير عن تملك الحب في القلوب بأنه دخل في شغاف القلب وغلب عليه، فهذه لوعة الحب، وإذا وصل الحال بالمرأة إلى هذا الحد فقد خضعت المرأة بلا إرادة لهذا العشق الذي لا فكاك منه، فلا ترى الحبيب إلا من خلاله، ولا تسعد إلا به، حتى ولو اكتوت بناره التي تراها بردًا وسلامًا، وذكر أن من نشر الخبر نسوة ممن كن يعملن داخل القصر، وهن "امرأة ساقي العزيز، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه، وامرأة خبازه"، فكن خمسة نسوة خرج السر من عندهن وشاع في المدينة، وقد خطأها الجميع ولم يعذِرْنها، ولا أظن أنهن كن سيتصرفن خلاف ما تصرفت لو كن في مثل حالها، والنساء أكثر من يعرف هذا، لكن أردن التشهير ونيل الحكمة والشرف من الحط بها وبما فعلت، لكأن لسان حالهن يقول: لا تستأهل هذا العز ونحن من يستأهله؛ فلسنا مثلها تعشق فتاها الكنعاني، يا ويح ما فعلت! ويا سوء ما اقترفت!. ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31] ولما شاع الخبر، وبدأت القالة ضدها، واغتَبْنَها أشد الغِيبة، لم ترد القول بالقول، أو تنفِ ما قيل، بل أرادت أن تثبت لهن بالممارسة العملية دون أن يدرين ما ترمي إليه، فدعتهن إلى حفلة، وزادت عدد المدعوات حتى بلغن أربعين، ثم أعدت لهن متكأ ليجلسن جلسات الأكابر المترفات، وأعدت طعامًا وفاكهة لا يصلح تناولها إلا باتخاذ السكين للقطع، ولما اطمأنت إلى أنهن أخذن أماكنهن، قالت: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، وقد ألبسَتْه فاخر الثياب والحُلَل البهية الفاتنة، فكان فتنة للنساء اللاتي يعشقن بفطرتهن جمال الرجال، ويذُبْنَ هوًى وشغفًا في افتتان، ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، وكانت المفاجأة الكبرى، هذا الفتى الذي تكلمن عنه يخرج الآن كأجمل ما يكون عليه الرجال، فلما رأينه أكبرنه وأعظمن شأنه، وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق، وعرَفْنَ من سيما يوسف أنه عريق المحتد، من أصل طيب رفيع، وليس مكانه أن يكون رقيقًا، فهذا الجمال لا شك ملائكي، فقد نزهن الله عن الشريك ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ [يوسف: 31]! ولهول الدهشة قطعن أيديهن؛ أي: جرَحْنها دون شعور بما يفعلن، فلم يحسسن بألم الجراح، فقد خلب اللب بجماله، وفتنت العقول بطلعته الوضاءة، فعذَرْنَ زليخا أن وقعت في غرامه، وهي التي تراه كل يوم ويجاورها في أكلها وشربها ومنامها، أليس غلامها القائم على خدمتها؟! فقد غلبها حبه. وفي الحديث الشريف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مررتُ بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: يوسف))، فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال: ((كالقمر ليلةَ البدر)). فهل ستتخلى زليخا عن يوسف - وهو الذي شغفها حبًّا - بعد هذا؟ لقد تمسكت بموقفها أكثر من ذي قبل، وأعلنت بلا خفاء أنها تحبه، وما زال طلبها قائمًا، ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32] ، وكأن هذه الحفلةَ قد أعطتها المبرر لما أقدمت عليه، فازدادت جرأتها على التصريح بطلب الفاحشة، وقد ضربت بالقيَم والمثل السائدة في مجتمعها عرض الحائط، إنها لا ترى سوى الاستئثار بيوسف والاستمتاع به؛ لذلك التفتت إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن قائلة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ [يوسف: 32]، أألام بعشقه؟ ولم تقل: أهذا، وهو قريب منها مشاهد غير غائب، فأشارت إليه باسم الإشارة للبعيد؛ رفعًا لقدره وشأنه، وأنها عشقت فتى يستحق هذا العشق، وأنه بالرغم مما حدث من ممانعة لما دعوته إليَّ وتكبر على طلبي، فإنه ما زال في شغاف قلبي، يأسره بقوة لا فكاك عنها إلا بأن يستجيب لي، نعم أقول الآن بمنتهى الصراحة: أنا الذي راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع وأبى أشد الإباء، وبعد افتتانكن به علق قلبي به أكثر وأكثر، وإن لم يفعل ما آمره به لأنكلن به فينقلب حبي بغضًا يخالطه الانتقام لكبريائي الذي جرحه، لأسجننه وليكونًا في هذا السجن ذليلًا صاغرًا بعد أن كان في بيتي عزيزًا منعمًا، وهكذا أعادت عليه طلب مواقعتها مع تقديم إغراءات في رفع لمنزلته ليكون وجيهًا من وجهاء بلدها، وقد خيرته بين الأمرين، فقال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، لقد فضَّل السجن على ارتكاب الإثم، وهو هنا أقوى إرادة وتمنعًا مما كان عليه يوم خلت به وقالت: هئت لك، فلما مر ذلك الامتحان الصعب بسلام كان ما بعده أسهل، فليس ما يأتي من كلام في الحب والعشق بعد الصدمة الأولى يثمر مع يوسف، فقد سبق أن قلاه عند قمة الإغراء، وها هو ذا يختار السجن، بل ويقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [يوسف: 33]، لكأنه يستجير بالسجن تخلصًا من إغراء زليخا، وهروبًا من ملاحقتها له، وهو يدرك وحشة السجن وظلمته، لكنه فضله على فعل الفاحشة، أو قل: فضَّل سجن الجسد على سجن النفس، فلو طاوعها لكن سجن نفسه عندها وأصبح رهين هذه المرأة التي لا تعرف إلا إرواء ما تأجج عندها من عُرَام الجنس، ثم شكا أمره إلى الله، وطلب عونه: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، وهنا لم يذكر زليخا بضمير المفرد، ﴿ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 33]، فهل تحول اللاتي قطعن أيديهن كلهن إلى راغبات فيه، طالبات منه اللذة والهوى؟ رُوي أن كل واحدة من النسوة طلبت منه معاشرتها، وقالت: ما لك وزليخا أنا أجمل منها؟! فعلى هذه الرواية يصح شكواه منهن جميعًا، وروي أن النسوة قالوا له: أطِعْ سيدتك، وعلى هذا تصح شكواه منهن، ويصح أيضًا أنه عد زليخا نموذجًا لكل النساء، فكانت شكواه منها تمثل الشكوى من جميع النسوة، لقد طلب المعونة من الله بأن يصرف عنه كيد زليخا ومَن آزرها من النسوة، وإلا يصبُ إليهن؛ أي: يَمِلْ إليهن، وينسَقْ في طريقهن، وهذا ما لا يريده، ويطلب من الله العصمة؛ ليبقى نزيهًا طاهرًا، فلا يهمه غربة السجن ولا ظلماته؛ حبًّا لله وطاعة له: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34] ، وجاء عونُ الله يوسفَ، فلم يتخلَّ عن عبده، وهو معه، ولن يجعل لإبليس وأعوانه عليه سلطانًا، وعملت زليخا بعد هذا الصد من يوسف عملها في الكيد له، وانقلب عشقها له بغضًا، وزفراتٍ غضبى، كالنار تود لو تصليه بها، ثم أقنعت زوجها بسجنه متظلمة باكية شاكية؛ فقد أصبحت - بسبب تعرضه لها بالسوء كما ادعت - يلوكها كل لسان، ولن يسكت صوت الناس الغمازين واللمازين لها إلا بالتخلص من يوسف وتغييبه في السجن، ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]؛ فكل الدلالات تظهر عفة يوسف وبراءته، وزوجها يعرف ذلك، ولكن لا يرد لها طلبًا؛ فهو المقصر معها جنسيًّا، وبهذه العلة أصبح مطواعًا لها، وأرى أنه طاوعها على سجن يوسف ليكسب من هذا السجن أمرين، الأول: تنفيذ رغبتها، والثاني: إبعاد يوسف عنها؛ لعلها تنساه، فهو يدرك أنها هي التي تسعى وراءه وتراوده عن نفسه، وأظن أنه لم يخفَ عليه أمر النسوة واجتماعهن وفشو أمرهن وهو الذي له منصب كبير يستوجب أن يكون له عيون تنقل له الأخبار، وهذا سمة لكل صاحب منصب خطير، وبهذا يكون العزيز قد رأى أنه من مصلحة الجميع تغييب يوسف في السجن حتى حين، واستعمال كلمة حين تؤيد هذا الاتجاه؛ لأنها كلمة تتسع وتضيق، وهي لا تحدد مقدار الزمن، وهذا يعني لحين نسيان أمره من قبل زليخا، وينقطع فيه كلام الناس، فقد تطول المدة وقد تقصر، وقد وردت (حين) في القُرْآن بمعنى أربعين سنة: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ووردت بمعنى الدهر بطوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]، ووردت بأنها تساوي سنة: ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]، ووردت بأنها تساوي يومًا: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17]، وكانت تجرِبة قاسية لنبي في السجن، لكن ترافَق دخول يوسف السجن مع اثنين من خدم الملك؛ صاحب خبزه، وصاحب شرابه، وقد نمي إلى الملك أنهما أرادا دس السم في طعامه وشرابه فزجهما في السجن ليرى فيهما رأيه، وربما كان ممن آنسَا يوسف بوجودهما؛ كيلا يستوحش من ظلمات السجن، وكان يوسف كثير الذكر لوالده ولمعتقده ودينه، ويدعو إليه، وكان يعطي الأمل للمسجونين أن مع الصبر الفرَج، ونيل الثواب والأجر، فكانوا يقولون له: ما أحسن وجهك! وما أحسن خُلقك! ويقال: إن رئيس السجانين قد أحبه ورق لحاله، وقال له: لو استطعت خليت سبيلك، وما بمقدوري هو أن أحسن جوارك ومعاملتك، وخيَّره في أي بيوت السجن يحب أن يُقيم فليُقم، وكان يفسر لنزلاء السجن الأحلام مدة إقامته، فسر حلم الفتيين اللذين دخلا السجن معه: ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، فقصَّ كل واحد منهما حُلمه الذي رآه، وانتظرا التفسير؛ ثقة منهما بيوسف وخُلقه ودينه، فقال يوسف بلُغةِ الواثق من تفسير الحلم بالاعتماد على الله تعالى الذي أعطاه هذه الميزة وعلَّمه تفسير الأحلام، ثم قدم لهما مقدمة تعريفية مختصرة عن الإيمان، وأن الله تعالى آتاه تفسير الأحلام وأوحى إليه بالنبوة: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَب ﴾ [يوسف: 37]؛ فالإنباءُ عن المغيَّبات لم يكن ليوسف قبل هذا، ولكن بعد دخوله السجن ذكر النبوة والإنباء، وأن الله علمه ذلك بكشف هذه المغيبات له، فقد أخبر السجينين بأن أي طعام يأتيهما إلى السجن فإنه يستطيع بإذن الله أن يخبرهما بنوع الطعام قبل أن يصل إليهما، وهذا ليس من الرجم بالغيب أو السحر؛ إنه مؤكد؛ لأن الله أخبره به وأطلعه عليه، وهذا العلم هو من الآيات المؤيدة لنبوة يوسف عليه السلام، ثم أخبرهما بأنه ينتمي إلى ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا ينتمي إلى هؤلاء الذين يعيش بينهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، حتى حينما أصبح عزيز مصر فيما بعدُ عمِل بجد وأمانة لصالح أهل مصر، لكنه لم يفلح معهم في نشر دعوة التوحيد؛ حيث أصروا على دينهم، وقد أكد القُرْآن ذلك في سورة (غافر): ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34] ، فهذه الآية أعطت موجزًا عن دعوة يوسف في مصر، التي لا نعرف عنها الكثير، ونعود إلى السجينين، وتركيز يوسف على تعليمهما التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40]، وهنا مال إلى المنطق في عرض دين التوحيد، والمقارنة بين اتخاذ أربابٍ متفرقين من الأصنام التي صنعها البشر بأيديهم بأشكال مختلفة وتصورات خيالية خاطئة بعيدة عن الواقع، وقد منحها الإنسان بنفسه أسماءً وألقابًا، فهل يمكن لهذه المصنوعة الحقيرة أن تكون أربابًا صانعة خالقة؟ لا يقول بهذا إلا ضعيف العقل والتفكير، نزل بفكره إلى درجة منحطة أدنى من الحيوانات، فاعلما أن الحكم لله لا لغيره؛ فهو الذي أمرنا بعبادته وحده؛ لأنه دين الله القيِّم، والناس بغفلتهم منشغلون عنه لاهون، قد غشهم ما عند المعابد الوثنية من هيمنات الكهَّان، وزخرفات الرسامين والنحاتين، الذين خدعوا الناس بهذه البهرجات والطقوس، فمالوا إليها وخدعوا بحقيقتها، وكان هذا الدرس لهما؛ لأنه علم من الرؤيا التي قصاها عليه أن أحدهما هالك، فأراد أن يفيده في آخرته ليسلَم، وهذا من الرحمة التي غرسها الله في الأنبياء، وبعد هذا الدرس الجلي عن التوحيد التفت إلى تفسير رؤيا صاحبيه في السجن: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، وهكذا أبلغ كلًّا منهما عن تفسير حُلمه بمنتهى الصراحة، ولم يُخفِ شيئًا من التفسير، بل قال للذي سينجو: إنك ناجٍ، وستعود لتكون ساقي الملك، وقال للذي سيهلِك: إنك هالك، وستُصلَب حتى الموت، وستأتي الطيور الجارحة لتأكل من رأسك، وأن هذا الأمر قد قدره الله، وحكم به، فهو مَقْضِيٌّ واقع لا محالة، وجاء العفو من الملك للساقي، وأذن له بالعودة إلى عمله، فخرج من السجن فرحًا مغتبطًا، وأوصاه يوسف أن يرفع قضيته إلى الملك ويخبره بأن يوسف سجين مظلوم، فوعده الساقي بإخبار الملك بأمره، واقتيد الخباز إلى خشبة الصَّلب، فصُلب، وأكلت الطير من رأسه، ومضت عدة سنين غرق فيها الساقي بنعيم الملك وأبهة القص،ر فنسي السجن وأيام السجن، ونسي ما وعد به يوسف، وكان ذلك النسيان من عمل الشيطان؛ وذلك للكيد ليوسف العابد الموحد؛ فإن الشيطان عدو الناس، وعدو المؤمنين بشكل أخص، فطال سجن يوسف لهذا النسيان بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث والتسع، ورُوِي أنه مكث سبع سنين، ولم يذكر الساقي يوسف إلا عندما رأى الملك رؤيا هالَتْه وألحت عليه، فاهتم لها وطلب من يعبر له هذه الرؤيا، وكلما أتوه بمعبر عجز عن فهمها، حتى قالوا له: أضغاث أحلام لا تفسير لها؛ أي: إن ما رأيت هو أخلاط وأباطيل، وربما كانت من حديث النفس وأحلام اليقظة ووسوسة الشيطان، وهذه الأنواع من الأحلام لا تفسير لها عندنا، لكن الملك كان مهتمًّا لتفسير هذا الحُلم، وكان يراوده كثيرًا، ويود لو أفلح أحدٌ في تفسيره، لقد شغل به كثيرًا حتى أثر على مزاجه، فلم يعُدْ يطلب الشراب كما كان، وهنا فطن الساقي إلى أمر يوسف وقدرته على تأويل الرؤيا، وعليَّ أن أخبر الملك بأمر يوسف: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45] ، أرسِلوني إلى يوسف في السجن؛ فهو العالم بتأويل الرؤى، وسُرَّ الملِكُ لهذا الخبر المبشر بتأويل رؤياه، فأذن له، وانطلق سريعًا إلى السجن: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ﴾ [يوسف: 46]، وذلك مِن فرحة الساقي؛ لأنه ذكر يوسف بعد نسيان، فكان هذا النعت ليوسف بالصِّدِّيقية بمثابة اعتذار له عن النسيان؛ لأنه سيحظى عند الملك وترتقي مكانته إن عاد له بتفسير الحُلم: ﴿ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 46]، فما كان من يوسف إلا أن أجاب هذا الساقي لصحبة السجن، ولم يخيِّب أمله، أو يشرط له شروطًا تعجيزية أو مكاسب شخصية؛ لأنه يعُدُّ تأويل الرؤى لمن سأله التعبير واجب الأداء، وبلا مقابل؛ لذلك أسرع إلى الإجابة، فقال: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 47 - 49]، وقد زاد على التأويل علمًا مستنبطًا؛ زيادة في توفية الرؤيا حقَّها، وإيحاءً لهم أنه يؤولها بالوحي، لا بالاجتهاد الشخصي؛ وذلك لبيان أمور لم تكن في الرؤيا لصالح الرؤيا، وكمال الصورة لأحداث هذا الحُلم، ومنها: ♦ ﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم بالعمل الجاد وعدم التراخي في العمل لما يرونه من وفرة المحاصيل؛ فإن لها ما بعدها من السنين العِجاف. ♦ ﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم كيلا يسوس في مدة التخزين الطويلة فيما لو درسوه. • البشارة بالعام الثامن بأنه عام خير وبركة على غير أعوام الخصب الأخرى؛ لأن الناس فيه سيكونون في بحبوحة ورغد، فيغاثون بالماء، فيزرعون ويحصدون غلالهم ويعصرون عنبهم وزيتونهم وسمسمهم، ويكون هذا العام كأحسن الأعوام خصبًا ووفرة نماء. وما إن وصل هذا التأويل إلى الملك حتى سُرِّي عنه، وزال عن كاهله حملٌ ثقيل وعبء أطَّ له ظهرُه، وما شعر بالراحة وهدوء البال إلا بعد سماع هذا التأويل؛ لذلك نادى بملء صوته: ائتوني به، ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ [يوسف: 50]، مخاطبًا أعوانه المقربين والساقي معًا؛ لكي يخرجوه بأمر الملك، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﴾ [يوسف: 50]، رسول الملك الذي هو الساقي؛ لأنه هو الواسطة بينهما، جاء يحمل البشارة ليوسف بالعفو عنه والبشر والسرور على محياه، ألم يبشره يوسف برضا الملك عنه وعودته إلى السقاية واسترداد مركزه الذي أحبه وقربه من الملك؟ فجاءه بالبشارة مكفرًا عن نسيانه ومغتبطًا برؤيته يخرج من السجن ليتنسم عبير الحرية، لكن يوسف كان له رأي آخر وهو مظلوم متهم بالتحرش الجنسي بزوجة العزيز، إنه لا يهتم بالحرية - مع أنها غالية ومطلب كل إنسان - إلا أن براءته والاعتراف من المسؤولين عن زجه في السجن ظلمًا دون ذنب جناه، بل كان على هؤلاء المسؤولين أن يكرموه لعفته ونزاهته، فالبراءة مما اتهم به هي الأهم من الخروج من السجن، ولو تنازل عنها لكانت وصمة لا تمحى أبد الدهر، إنه يعرف براءة نفسه، ولكن من يقنع الناس ببراءته وهو النبي الداعية إلى الإيمان وإلى الطهر والعفاف؟ أقلها أن يقول الجاهلون: لولا أنه ارتكب ما يدعو إلى العقاب لما عوقب، وهل يصلح لإصلاح الناس نبي متهم؟ وبماذا يختلف عن بعض قياديي اليوم من ذوي التاريخ الملوث الذين يتصدون للقيادة، حتى وإن كان سجله ملوثًا؟ قد تكون أبواق دعايتهم تعمل لحين ما على تطهيرهم، لكن يوسف ليس أمامه إلا ما أشيع بين الناس: ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 50]، وعلى هذا الجواب ربما يكون قد أطفأ البسمة على شفتي الساقي، ولسان حال يوسف يقول: إذا كنت أنت قد تعجلت في الخروج وفرحت بالعفو فلم تخفِ بالغ سرورك، لهذا لم تسأل الملك: لِم اتهمك وزجك في السجن طالما أنك بريء؟ فأنت لا تهمك سمعتك، فأنا نبي ابن نبي، سمعتي مهمة، ولا بد من البراءة والاعتذار، وإعطائي المكانة التي أستحقها، وعاد الساقي وصحبُه إلى الملك يحملون له هذا النبأ: لن يخرج يوسف إلا بتبرئته مما نسب إليه، وذكر أمر النسوة، ولم يذكر صاحبة المشكلة، قيل: لأنها من الأسرة المالكة؛ كيلا يسيء إليها فيتأثر الملك بذلك، ولكن أرى أنه ذكر النسوة؛ لأنهن الأقدر على قول الحق، ولأنهن سمعن من امرأة العزيز اعترافها بأنها هي التي راودته عن نفسه: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]، وما كان يظن عودة زليخا إلى رشدها؛ لذلك استبعدها من المساءلة، ولأن الملك متمسك بقدوم يوسف إليه ليكرمه على تأويله، جمع النسوة ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾ [يوسف: 51]، وهكذا صدقت النساء، وزكَّيْنَ يوسف، وهذه التزكية تظهر كذب زليخا وتهمتها الباطلة له؛ لذلك ما كان منها إلا أن سارعت وفاهت بالحقيقة، وربما عمم حين سأل كيلا يجرح شعور زليخا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وأخيرًا نطقت بالحق، وبرأت يوسف مما اتهمته، ووصفته بالصدق، وهذا تحول خطير في موقفها، فما الذي طرأ عليها؟ لعله عامل السن وتقدمها في العمر قد كبح من عنفوان جماحها، وفتَّ من دفق شهوتها، فعادت لتُعمِل العقل بدل العاطفة: ﴿ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ [يوسف: 51] ظهَر ووضح، ﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [يوسف: 51]، اعتراف صريح أرادت به تطهير نفسها من الذنب، وبه برأت يوسف منه أمام الناس، وهذا ما كان يريده ويستعين بالله على نيله، حقًّا لقد صبر ودفع ثمن الصبر والحصول على هذه البراءة، التأخر في الخروج من السجن، وكان ربما لن يخرج منه لو تراجع الملك عن طلبه لسبب ما، وأردفت زليخا بعد هذا الاعتراف بكلام قد يرقق قلب يوسف عليها فلا توصد الباب للأبد: ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وهنا وقف يوسف بعزة المسلم القوي في دينه وإيمانه ليقول بعدما بلغته هذه البراءة: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52]، وهذا خطاب للعزيز زوج زليخا بأن يوسف لم يخُنِ العزيز في غيابه، وأنه حافظ على طهر بيته، ويرجع هذا إلى أن يوسف مؤمن ينتسب إلى بيت النبوة الطاهر، وأنه نبي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو رد للجميل والمعاملة الطيبة والعز الذي لقيه من العزيز، فقد أبى عليه هذا الكرم وهذه المعاملة أن يكون ذئبًا غادرًا لا ينفع معه الجميل، ثم أردف يوسف يقول: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]؛ فالنفس تستجيب للشهوات؛ فهي أمارة بالسوء ﴿ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]؛ فقد كبح جماح نفسي، وعصمني بفضله ورحمته بي، ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وهكذا أظهر عجزه أمام الإغراء، وأن الله تعالى شمله برحمته فعصمه وحماه، وهذه دعوة غير مباشرة للإيمان بالله الواحد القادر، وقيل: هذا الكلام لزليخا بأنها اتهمت نفسها بالمراودة، وهذا توجيه جيد، وقيل: هذا قول العزيز جوابًا على كلام يوسف الذي بين أنه لم يخنه بالغيب، فاتهم العزيز نفسه بأنه شك في صدق يوسف ولام النفس الأمارة بالسوء، وبعد تصفية القلوب لكافة المعنيين والخروج من هذا الاجتماع ببراءة يوسف، ورأى الملك تزكية يوسف من الذين اتهموه سابقًا، فأضاف هذا رصيدًا ليوسف عند الملك عما كان كوَّنه عنه من حدة في الذكاء وأمانة نادرة في هذا المجتمع المادي الذي عزَّت فيه مثل هذه الصفات، فأراد أن يستفيد من هذه الطاقة الشبابية المتوقدة في يوسف، فقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [يوسف: 54]، وهُرع المبشرون إلى يوسف بقرار الملك في طلبه ليكون مستشاره الخاص، ولبى يوسف هذه المرة دعوة الملك فاغتسل ولبس أفضل الثياب ووضع الطيب ثم انتقل إلى الملك، فقربه الملك منه وأجلسه قريبًا على سريره، وبعد الترحيب ورؤية يوسف بهذا البهاء والرزانة، قال له الملك: إني أحب أن أسمع منك تأويل رؤياي، ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ [يوسف: 54] عن الرؤيا بأروع بيان وأفصح عبارة خلبت لب الملك وتمسك بيوسف أكثر، ﴿ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف: 54]، فلما طمأنه برفع مكانته وأعطاه الأمان والتمكين، اختار يوسف أهم منصب يقدم فيه خدمات جليلة للناس؛ لعِلمه بما سيحصل في أعوام المجاعة ليقود الدولة في هذه المرحلة الحساسة فلا يعطي المجال للمحتكرين والانتهازيين الذين يستغلون مثل هذه الأزمات للإثراء على حساب حاجة الناس للأقوات، ويشرف على التوزيع المتكافئ من الغلال، وفي مثل هذه الأزمات يخسر الفقراء، ويكونون هم الضحية الأولى؛ لذلك أراد أن يقف إلى صفهم ويعمل جهده لحمايتهم من المجاعة القادمة، وفي هذه المكانة فرصة مواتية للدعوة إلى الله التي كلف بها يوسف، فقال للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55] بمثابة وزير المالية والزراعة والتموين، فوافق الملك على هذا الطلب، وعيَّنه كما طلب: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]، وبهذا المنصب قوِي مركز يوسف عليه السلام، وأصبحت مصر تحت تصرفه في أمورها كلها، وقيل: حتى الملك كان يصدُرُ عن رأيه، ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، وهذا الإنعام والإحسان من الله تعالى الذي خص به يوسف ورفع مكانته في الدنيا وبوأه هذه المنزلة مع أنه غريب مملوك، فالله سبحانه وتعالى حفه بالعناية والرعاية في كافة أحواله إلى أن أوصله إلى سلَّم المجد، فهذا في الدنيا، ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 57]، وجاءت سنوات الخصب ترفل بهية بالخضرة والنضرة والعطاء السخي، وكانت تجمع بإشراف يوسف، وتخزن في مخازن الطعام التي استُحدثت للتصدي لسنوات الجفاف، وقد جد العاملون والزرَّاع في العمل، وهم في كل عام يشهدون صحة تفسير الحُلم فيرونه تباعًا حسب ما أخبر به يوسف إلى أن مرت هذه السنوات رخية هنيئة تمتع الناس بها وجمعوا مما فاض استعدادًا للآتي، ثم أقبلت السنين العجاف، شح في المياه، وندرة للمطر، وغبار وأتربة ورياح سموم لا تبقي على نبت أخضر إلا جعلته هشيمًا تذروه هنا وهناك، وتقضي عليه، وتحيله هباءً منثورًا، وأمام هذه الشدة والبلوى العامة التي شملت مع مصر ما جاورها من البلدان، اضطر ساكنو الشام وفلسطين للقدوم إلى مصر لشراء القمح والشعير، وقد علموا بوفرة الخير فيها، فهم لم يتخذوا من الإجراءات ما اتخذته مصر؛ لذلك حلَّت عندهم المجاعة.
كتاب العصا للأمير أسامة بن منقذ تحقيق محمد بن يوسف القاضي صدر حديثًا "كتاب العصا" ، تأليف : الأمير " أسامة بن منقذ" (ت 584 هـ) ، تحقيق : "محمد بن يوسف القاضي" ، نشر "مكتبة الثقافة الدينية" - القاهرة. وهذا الكتاب أحد مؤلفات الأمير المؤرخ الأديب الشاعر "أسامة بن منقذ" القليلة التي وصلتنا، والتي جمع فيها المؤلف توليفة من أجمل ما كتب عن العصا من أحاديث نبوية وحكم وأمثال وآثار وأشعار، ضمنها بعض أشعاره - هو نفسه - مما نظمه في صفة العصا، وما يرتبط بها من معاني الشيخوخة والهرم.. وما إلى ذلك. ووضع المؤلف فصلًا لغويًا عن اشتقاق كلمة "العصا" بمفرداتها المختلفة، بيَّنَ فيها كثيرًا من المفردات المتعلقة بالعصا، وما ذكره علماء اللغة في أصل الكلمة ومعانيها. ونجد أن هذا الكتاب على صغر حجمه قد حُقِّقَ من قبل على يد الأستاذ "عبدالسلام هارون" في نسخة خطية غير كاملة، وصدرت له محاولة تحقيقية أخرى بتحقيق واعتناء الأستاذ "حسن عباس" . قال الشيخ "أحمد محمد شاكر": "وأسامة بن منقذ رجل فذٌّ ممتاز، يمثل فروسية العرب وشهامتهم، وكرمهم وشجاعتهم، ويمثل عصره وبيئته أصدق تمثيل، وعنه وعن أمثاله اقتبس الإفرنج في الحروب الصليبية كثيرًا من محاسن العرب وتقاليد الإسلام. قلتُ في وصفه في ترجمته التي أوجزتها في أول "لباب الآداب" ص 20 - 21: «نشأ أسامة في كنف أبويه وعمته وجدته، وفي وسط أسرة من أعظم الأسر العربية، أكثر رجالها فرسان محاربون من الطبقة الأولى، وبعد ولادته بنحو سنتين بدأت الحروب الصليبية في بلاد الشام سنة 490، ورباه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرَّنه على الفروسية والقتال، وكان يخرجه معه إلى الصيد، ويدفع به بين لهوات الأسود، فأخرج منه فارسًا كاملًا، وسياسيًّا ماهرًا، ورجلًا ثابتًا كالرواسي، لا تزعزعه الأعاصير، ولا تهوله النكبات والرزايا، فهو يقول عن نفسه بعد أن جاوز التسعين، إذ يحكي بعض ما لقي من الأهوال: «فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته، وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نُكبتها، سلمتْ فيها النفس لتوقيت الآجال، وأجحفتْ بهلاك المال». (الاعتبار ص 3). ويقول أيضًا: «فلا يظن ظان أن الموت يقدِّمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدَّة الحذر، ففي بقائي أوضحُ معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيتُ الفرسان، وقَتلت الأسود، وضُربت بالسيوف، وطُعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروح، وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغتُ تمام التسعين... فأنا كما قلت: مع الثَّمانينَ عاثَ الدَّهْرُ في جَلَدِي وساءَنِي ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَدِي إذا كَتَبْتُ فَخَطِّي جِدُّ مضطربٌ كَخَطِّ مُرْتَعِشِ الْكَفَّيْنِ مُرْتَعِدِ فاعْجَبْ لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِها قَلَمًا مِنْ بَعْدِ حَطْمِ الْقَنا فِي لُبَّةِ الْأَسَدِ وَإِنْ مَشيتُ وفِي كَفِّي الْعَصا ثَقُلَتْ رِجْلي، كأنِّي أَخُوضُ الْوَحلَ فِي الجلدِ فَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ: هَذِي عَواقِبُ طُولِ الْعُمْرِ والْمَدَدِ (الاعتبار ص 163 - 164). وقد عمَّر أسامة عمرًا طويلًا، عاش 25 يوم 2 شهر 96 سنة؛ لأنه ولد يوم الأحد 27 جمادى الآخرة سنة 488 (يوليو سنة 1095) ومات ليلة الثلاثاء 23 رمضان سنة 584 (نوفمبر سنة 1188). و كان المستشار الحربي لصلاح الدين الأيوبي، بما نال من خبرة طويلة، في الحرب والسياسة، وبما خاض من غمار الحروب الصليبية، وقد نشأ في عنفوانها، نقل أبو شامة في " الروضتين" (ج 1 ص 264) عن العماد الكاتب، مؤرخ صلاح الدين ولسانه الناطق، يصف مجيء أسامة إلى دمشق باستدعاء صلاح الدين - وهو شيخ قد جاوز الثمانين - قال: «فلما جاء مؤيد الدولة - يعني أسامة، فذا لقبه - أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملَّكه من أعمال المعرفة ضيعة زعم أنها كانت قديمًا تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق دارًا وإدارًا، وإذا كان - يعني السلطان صلاح الدين - بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحُنْكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غياهبه، وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحل مشكلاته». وهذا التحقيق الجديد للكتاب راعى النقص السابق في مخطوطات الكتاب والمقابلة بينها، والتقديم للكتاب بمقدمات عن موضوعه وصاحبه.
الشعوبية قال الجوهري في "الصحاح" (1/ 155) : "الشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم" . وقال الزمخشري في أساس البلاغة (ص: 330) : "فلان شعوبيٌّ ومن الشعوبية؛ وهم الذين يصغرون شأن العرب، ولا يَرَون لهم فضلًا على غيرهم" . وقال الزبيدي في "تاج العروس" (3/ 144) : "الشعوبية وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم، ولا ترى لهم فضلًا على غيرهم" . وفي "المعجم الوسيط" الصادر عن مجمع اللغة العربية (1/ 484): "الشعوبية نزعة في العصر العباسي تنكر تفضيل العرب على غيرهم، وتحاول الحطَّ منهم، وأصحاب هذه النزعة الواحد شعوبي". وفي "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (7/ 183) : ذهبت فرقة من الناس إلى أنه لا فضلَ لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمَّون الشعوبية؛ لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل. وبعض العلماء عرَّف الشعوبية بكونهم يُبغضون العرب أو يُفضِّلون العجم على العرب. قال عبدالقاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" (ص: 285) : "الشعوبية الذين يَرَون تفضيل العجم على العرب، ويتمنَّون عود المُلك إلى العجم" . وقال القرطبي في "تفسيره" (11/ 189) : "الشعوبية تُبغض العرب وتُفضِّل العجم" . وقال الفيومي في "المصباح المنير" (1/ 314) : "الشعوبية بالضم فرقةٌ تُفضل العجم على العرب" . وفي "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (10/ 123) : "الشعوب في غير العرب لا أنسابَ لهم، ومِنَ الناس مَن فضَّلهم على العرب، وهو مذهب الشعوبية، وهو غلط، العرب أفضل، إلا أن الفضل الحقيقي بالتقوى" . يتبين مما سبق أن الشعوبية هم الذين يحقرون شأن العرب، ولا يَرَون لهم فضلًا على العجم، وبعضهم غلا ففضَّل العجم على العرب، وأبغض العرب، مع أن الله سبحانه جعل خاتم الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب، وجعل القرآن العظيم، وهو خير الكتب بلغة العرب، فكل مسلم وإن كان عجميًّا يحب العرب، ويحب لغة العرب، وعدم الاعتراف بفضل العرب على العجم من حيث الجملة قولٌ مبتدع عند أهل العلم، مخالف لِما هو معلوم ومقرر عند أهل السنة والجماعة. قال ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" (1/ 419، 420) : "الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسًا، وأفضلهم نسبًا، وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسًا ونسبًا، وإلا لزم الدور؛ ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، صاحب الإمام أحمد، في وصفه للسنة التي قال فيها: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدَى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز والشام وغيرهم عليها، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم وعبدالله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية، وساق كلامًا طويلًا... إلى أن قال: ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم". وقال ابن تيمية أيضًا كما في "مجموع الفتاوى" (19/ 29، 30) : "قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله اصطفى كِنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفسًا، وخيركم نسبًا))، وجمهور العلماء على أن جنس العرب خيرٌ من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا))، لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلقًا كثيرًا خيرٌ من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم". وقال ابن تيمية أيضًا في "منهاج السنة النبوية" (4/ 600) : "ذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس، وهذا قول طائفة من أهل الكلام؛ كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد، وهذا القول يُقال له: مذهب الشعوبية، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع، كما بسط في موضعه، وبيَّنا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك، بل في القرن الثالث من هو خير من كثير من القرن الثاني، وإنما تنازع العلماء: هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم؟ على قولين، ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم، وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك، فالصلاة عليهم من هذا الباب، فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم، وإن لم يكن رجلًا صالحًا، بل كان عاصيًا، وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عز وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى - فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]"؛ [انتهى كلام ابن تيمية]. وبهذا يتبين أن التفضيل من حيث الجملة لا يلزم منه تفضيل الأفراد؛ فمثلًا: أحاديث فضائل أهل اليمن كحديث: ((اﻹيمان يمان، والحكمة يمانية) )، وحديث: ((أتاكم أهل اليمن هم خير أهل الأرض) )، هي من باب التفضيل بالمجموع وليس باﻷفراد، فليس كل يمنيٍّ له هذا الفضل. وهكذا التفضيل للرجال على النساء هو من باب التفضيل للمجموع، وليس لكل فرد من الرجال، فمن النساء من هي أفضل من مائة رجل بالتقوى والعمل الصالح. وهكذا تفضيل بني إسرائيل على عالمي زمانهم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 122]، هو من حيث الجملة. وقد جمعت آية واحدة التفضيل للجنس، وبيان أنه لا يلزم منه تفضيل كل الأفراد؛ فقال سبحانه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 113]، ففي أول الآية بيان تفضيل الله سبحانه لجنس ذرية إبراهيم وإسحاق، وأن الله بارك فيها، وفي آخر الآية بيان أن من ذريتهما محسن وظالم. وهكذا كل تفضيل من حيث الجنس لا يلزم منه تفضيل الأفراد، وهذا واضح جدًّا. وتأمل قول الله سبحانه: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 32]، فالتفضيل يشمل التفضيل في الذكورة والرزق، والنسب والجمال، ونحو ذلك، والموفق يسأل الله الوهاب المنان من فضله العظيم. ولا شك أنه لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس أتقاهم، وأنه لا يصح الافتخار بالنسب، وأن الفخر بالأنساب من الجاهلية، وأن من بطَّأ به عمله، لم يُسرع به نسبه؛ كما جاء كل ذلك في النصوص الثابتة المعروفة، فلنحرص جميعًا على تحقيق الإيمان والتقوى، والعمل الصالح الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة.
أهمية الحوار الحضاري الحوار بين الناس والحضارات والأفراد، هو ما سمَّاه القرآن التعارف في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، بما يقتضيه التعارف من تبادل الخبرات والمعارف، وتحقيقِ التفاهم والود والتعاون... هذا الحوار ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية وبقاء الحضارات؛ ولهذا كانت فترات السلام هي الأصل في بناء الحضارات واستمرارها، أما الحرب فشذوذ يؤدي إلى إزهاق الأرواح وتبديد الإمكانات، وما يُنفَق عليها قد يُسعِد الجنس البشري كلَّه قرونًا، كما نرى في حجم الإنفاق العسكري في العصر الحديث. ومن هنا يكتسب الحوار أهميتَه البالغة من كون الوجود الاجتماعيِّ الإنساني لا يتحقَّق إلا بوجود (الآخر المختلف)، الذي يمكن أن تتعرف عليه، وتتبادل معه الخبراتِ وصورَ التعاون؛ وبالتالي تستطيعان معًا - بالالتقاء والحوار - إنتاجَ المعرفة، وتوليد الأفكار الجديدة؛ حتى تتضح المعاني، وتغنى المفاهيم؛ لأن الحوار في مستوياته العليا إنما هو نوع من إنتاج المعرفة الراقية، التي تتحاور مع كافة ضروب المعرفة الإنسانية. وبالتزام الحوار، وتواصُلِه بين الأطراف المختلفة؛ تتقلص شُقَّةُ الخلاف شيئًا فشيئًا، وبفضله تتسع قدرات العقل، وتتعمق مداركه، وفي أجواء الحوار ينمو العقل ويقوى؛ بما يتهيأ له من تنوُّع في الفكر، واختلاف في المنهج [1] . فإذا أغلَقَ الإنسان باب الحوار، فقد أغلق على عقله الأَوردةَ التي تحمل إليه المعرفةَ الناضجة التي قبلتها العقول، ومحَّصتها النظرات الثاقبة، والآراء السديدة. ويؤكد أحد الباحثين النابهين على أن الحوار - في حقيقة أمره - انعكاس لمستوى تطوُّر وعي الفرد والجماعة، بينما يمثل الانطواء على الذات والتقوقع داخلها مرحلةَ الطفولة والبُدائيَّة. فكلما سما الإنسان، وترفَّع عن أنانيته، أوجد في ذاته مكانًا أرحب للآخر، وأدرك أن الحقيقية ليست في الأنا وحدها؛ بل هي تتكامل مع الآخر، والحوارُ معه فرصة ثمينة لاكتشاف الأنا، وإضاءة ساطعة على الثغرات والنواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية [2] . وقد سجَّل التاريخ الإنسانيُّ للحضارة الإسلامية أنها كانت هي المبادرةَ باقتحام فضاء الآخر، والدخول معه مبكرًا في حوار صريح وجريء، تناوَلَ المقدَّسَ والممنوع، وطُرِحت على بساط البحث، والتحليل، والنقاش العلميِّ الجاد - كلُّ المنظومات المعرفية التي طالتها أيدي علمائها، دون خوف أو وجَلٍ [3] . لكن موقف أوربا كان على العكس من ذلك... فمع تشويهها الدائم للإسلام، أضافت - إلى هذا التشويه الظالم - عنصرَ الاستعلاء القومي والحضاري، لاسيما عقب اكتشافها لأمريكا، ورأس الرجال الصالح (مستفيدةً من خبرة المسلمين البحرية)، وازدهارها الاقتصادي، واكتشافاتها العلمية؛ ومن ثم اعتبرت أوربا نفسَها صاحبة مشروع كوني، تمثِّل فيه أوروبا (المركز)، وباقي العالم لا يعدو أن يكون مجموعة أطراف، مكونة من أنماط حياتية واقتصادية غير واعية، ومتعثرة، وساكنة، ومفتقرة لقوة الاستكشاف، والتحليل، والاستنتاج [4] ؛ وكأنها - في رأيها - لا تستحق الحياة، أو كأنها لم يكن لها رصيد حضاري، ربما يفوق الحضارةَ الأوربية في بعض معطياته المعنوية والفنية بخاصة.. والمادية بالنسبة لعصرها ثانية. وبهذه الروح الاستعلائية العنصرية، عامَلَ الغرب كلَّ الحضارات القديمة التي سيطر على شعوبها، وجنَّد كلَّ قواه لتحطيمها، وتشويهها، وإحلال النموذج الغربي محلها؛ منطلقًا من رؤية تدميرية استعمارية تقوم على أن كل الحضارات الأخرى لا تستطيع أن تلتحق بالغرب وحدها في ميدان التقدم، وبما أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدها؛ فإنه ينبغي على الغرب أن يساعدها؛ أي: أن يستعمرها [5] . وهو منطق عجيب!! ونظن أنه - بهذا الفكر الاستعلائي العنصري - لا يمكن أن يكون هناك مكان للحوار؛ من وجهة نظر ساسة أوروبا وقادتها ونخبها المثقفة المؤمنة بهذا الفكر العنصري الماسوني.. اللهم إلا حوار السادة مع العبيد!! [1] محمد زرمان: ثقافة الحوار ودورها في التأسيس للتواصل بين الأنا والآخر، مؤتمر الإسلام والمسلمون في القرن الحادي والعشرين، عمان، إربد، الأردن، جامعة اليرموك، نوفمبر 2004م. [2] محمد زرمان: البحث السابق. [3] المرجع السابق (بتصرف). [4] المرجع السابق. [5] المكان السابق.
النوازل المتعلقة بالجنائز في المسجد الحرام والمسجد النبوي لعبد الرحمن العسكر صدر حديثًا كتاب " النوازل المتعلقة بالجنائز في المسجد الحرام والمسجد النبوي "، تأليف : د. " عبد الرحمن بن علي بن محمد العسكر "، نشر وتوزيع " دار الأماجد بالرياض ". تناول هذا الكتاب المستجدات والنوازل الفقهية الحديثة فيما استجد من مسائل الجنائز مما له علاقة بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، حيث يسر الله للكاتب جمع عدة مسائل من خلال سبر الحال في طريقة التعامل مع الجنازة، من حين دخولها للمسجدين، إلى خروجهما منهما. وجمعت هذه الرسالة خمسة وعشرون مسألة فقهية من تلك النوازل والمسائل المستجدة، حيث قام بدراستها، وربط النظير بنظيره، حتى اكتمل عقدها وإيضاحها في هذه الرسالة. وقد استفاد الكاتب من سؤال بعض الزملاء القائمين على شؤون الجنائز في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، لمعرفة دقائق وتفاصيل تلك الترتيبات المحدثة في الصلاة على الجنازة في الحرمين. والمؤلف هو د. " عبدالرحمن بن علي بن محمد العسكر " المستشار بوكالة شؤون المساجد والدعوة والإرشاد بالوزارة. من مؤلفاته: • "أحكام المساجد". • "معجم ما ألف عن الأذان". • "ضوابط المشارك في الإنترنت وشبكات التواصل". • "هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة فساد الأفراد". • "تحقيق كتاب زاد المستقنع". • "الخطاب الديني المعاصر". • "قالوا إنما نحن مصلحون: جهل - غلو - تكفير - تفجير". • "حكم استعمال الكولونيا". • "منبر الجمعة: مجموعة خطب مختارة".
وحي الرسالة لأحمد حسن الزيات في طبعة جديدة صدر في طبعة حديثة كتاب "وحي الرسالة - فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع" ، تأليف: الأستاذ "أحمد حسن الزيات" ، نشر: "دار روائع الكتب للنشر والتوزيع" - تركيا. وهذا الكتاب جَمعَ مقالات الأديب المصري الكبير أحمد حسن الزيّات صاحب مجلة "الرسالة" , اختارها مما كتبه للرسالة في ست سنين, وقد نُشرَ لأول مرة عام 1940 م. وتلك المقالات التي تنوعت مواضيعها كان الزيات يصدّر بها مجلته ( الرسالة ) كل أسبوع، وكان في عمله هذا وحين جمعها بين دفتي هذا المؤلّف، كأنما انتقى من روضةٍ أضمومة أزهار، ذات ألوان متنوعة وأريج مختلف... مقالات يتنازعها الأدب الصرف والفكرة الاجتماعية والنظرة النقدية الصائبة، وهي إلى هذا تشير إلى كاتب جمعت له إلى رصانة الأسلوب ووضوح السياق وحلاوة المعنى وبلاغة العبارة. ولعله في ذلك متميز في الناحيتين، ذلك الجمال الذي يلمس القارئ منه ميلًا إليه في شتى صوره، وتفصيلًا له في جميع معانيه. وهي مجموعة مقالات تبدأ من ثلاثينيات القرن الماضي تعطي فكرة عن الوضع الاجتماعي والثقافي والأدبي والسياسي في تلك الفترة على مستويات العالم الإسلامي العربي عامةً، ومصر خصيصًا. ونجد أن الزيات في (18 من رمضان 1351 هـ= 15 من يناير 1933 م) قد قرر ظهور "مجلة الرسالة" على الناس في مصر، وكانت المجلة ذات ثقافة أدبية خاصة، تعتمد على وصل الشرق بالغرب، وربط القديم بالحديث، وبعث الروح الإسلامية، والدعوة إلى وحدة الأمة، وإحياء التراث، ومحاربة الخرافات، والعناية بالأسلوب الرائق والكلمة الأنيقة، والجملة البليغة. وقد نجحت الرسالة في فترة صدورها، فيما أعلنت عنه من أهداف وغايات، فكانت سفيرًا للكلمة الطيبة في العالم العربي، الذي تنافس أدباؤه وكُتّابه في الكتابة لها، وصار منتهى أمل كل كاتب أن يرى مقالة له ممهورة باسمه على صفحاتها، فإذا ما نُشرت له مقالة أو بحث صار كمن أجازته الجامعة بشهادة مرموقة؛ فقد أصبح من كُتّاب "الرسالة" . وأفسحت المجلة صفحاتها لأعلام الفكر والثقافة والأدب من أمثال: العقاد، وأحمد أمين، ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد زكي، ومصطفي عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي الذي أظلت المجلة مقالاته الخالدة التي جُمعت وصارت "وحي القلم" . وربت الرسالة جيلًا من الكتاب والشعراء في مصر والعالم العربي، فتخرج فيها: محمود محمد شاكر، ومحمد عبد الله عنان، وعلي الطنطاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي، وغيرهم، وظلت المجلة تؤدي رسالتها حتى احتجبت في (29 من جمادى الآخرة 1372هـ= 15 من فبراير 1953م). وتصدَّرَ كل هذه الكوكبة من الأدباء والعلماء الأستاذ "الزيات" في مطلع كل عدد بكلماته الأنيقة الهادئة التي يرصد بها أبعاد التغيرات في المجتمع المصري وأصول ثقافته الإسلامية العربية، وأودعَ تلك المقدمات تجاربه ومشاهداته وانفعالاته وآراءه في الأدب والحياة والاجتماع والسياسة، بالإضافة إلى ما صوّره بقلمه من تراجم لشخصيات سياسية وأدبية. ويعد الزيات صاحب مدرسة في الكتابة، وأحد أربعة عُرف كل منهم بأسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير، والثلاثة الآخرون هم: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد، ويوازن أحد الباحثين بينه وبين العقاد وطه حسين، فيقول: "والزيات أقوى الثلاثة أسلوبًا، وأوضحهم بيانًا، وأوجزهم مقالة، وأنقاهم لفظًا، يُعْنى بالكلمة المهندسة، والجملة المزدوجة، وعند الكثرة الكاثرة هو أكتب كتابنا في عصرنا" . وعالج الزيات في أدبه كثيرًا من الموضوعات السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين الدين والتضامن الاجتماعي، وحارب المجالس الوطنية المزيّفة، وقاوم المحتل، وعبّأ الشعب لمقاومته، ورسم سبل الخلاص منه.. يقول الزيات: "إن اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار، فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة، إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل، وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار" . وقد امتاز أسلوب الزيات بنصاعة الديباجة وروعة البيان، وكان يولي دقة اللفظ وموسيقى الجملة وإيقاعها عناية كثيرة، وكان يعمد إلى السجع من وقت لآخر دون تكلف ولا إملال. وقد اتهمه البعض بتغليب الأسلوب على الفكرة والشكل على الموضوع، ولكنه كان أديبًا مترسلًا يتحرى المعنى النبيل في اللفظ الجميل، وكان له أثر كبير في رعاية سلامة اللغة العربية، وكان يحرص على الأسلوب العربي السليم في كل ما ينشره في "الرسالة" . والمؤلف هو أحمد حسن الزيات باشا (16 جمادى الآخرة 1303 هـ/2 إبريل 1885 - 16 ربيع الأول 1388 هـ/12 يونيو 1968). من كبار رجال النهضة الثقافية في مصر والعالم العربي، ومؤسس مجلة الرسالة. اختير عضوًا في المجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وحاز على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1962 م في مصر. أخرج الزيات للمكتبة العربية عددًا من الكتب، أقدمها: كتابه "تاريخ الأدب العربي" ، وصدر سنة (1335 هـ= 1916م)، ثم أصدر "في أصول الأدب" سنة (1352هـ= 1934م)، و "دفاع عن البلاعة" سنة (1364 هـ= 1945م) وهو كتاب في النقد الأسلوبي، قصره الزيات على بيان السمات المثلى للأسلوب العربي. • ثم جمع الزيات مقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلته، وأصدرها في كتابه "وحي الرسالة" في أربعة مجلدات. • ولم يكن التأليف وكتابة المقالة الأدبية هما ميدانه، بل كان له دور في الترجمة الراقية، ذات البيان البديع، فترجم من الفرنسية "آلام فرتر" لجوته سنة (1339هـ= 1920م) ورواية "روفائيل" للأديب الفرنسي لامرتين، وذلك في أثناء إقامته بفرنسا سنة (1344هـ= 1925م). وتوفي الزيات في صباح الأربعاء الموافق (16 من ربيع الأول 1388 هـ= 12 من يونيو 1968م) عن ثلاثة وثمانين عامًا.
التعليق على التحفة المدنية في العقيدة السلفية للشيخ عبد العزيز الراجحي صدر حديثًا " التعليق على التحفة المدنية في العقيدة السلفية" ، للعلامة الشيخ " حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر "، تأليف: فضيلة الشيخ " عبد العزيز بن عبد الله الراجحي "، نشر: " مؤسسة عبد العزيز الراجحي الوقفية ". وتضمن الكتاب تعليق الشيخ عبد العزيز الراجحي على رسالة ابن معمر الشهيرة " التحفة المدنية في العقيدة السلفية " وهي رسالة شرحَ فيها "حمد بن ناصر بن معمر" (المتوفى في سنة: 1225هـ) اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، إجابةً على سؤال بُعث إليه من المدينة المنورة يطلب فيها السائل الإفصاح عن معتقد "محمد بن عبد الوهاب" ومعتقد تلاميذه من بعده، في أسماء الله وصفاته. ففي أصل الكتاب جواب عن موقف المسلم من آيات الصفات وأحاديثها، ومذهبه ومذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب في آيات الصفات، وهل تمرر الصفات كما جاءت أم تؤول؟ وابن معمر من شيوخ الدعوة النجدية السلفية اسمه " حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر التميمي " (1160هـ - 1225هـ) فقيه حنبلي من أهل نجد ولد في العيينة، وانتقل إلى الدرعية. طلب شريف مكة "غالب بن مساعد " في 1211 هـ من " عبد العزيز بن محمد بن سعود" أن يرسل عالمًا ليناظر علماء الحرم في شيء من أمور الدين الإسلامي، فأرسل ابن سعود " ابن معمر " على رأس وفد من العلماء، المقدم فيهم مفتي الأحناف الشيخ " عبد الملك بن عبد المنعم القلعي" ، فناظرهم وظهر عليهم. ثم طلبوا منه الإجابة على ثلاث مسائل، ا لأولى: دعاء الأموات، والثانية: حكم البناء على القبور، والثالثة: حكم من أتى بالشهادتين ومَنع الزكاة، فحرر في هذا المسائل رسالة سماها علماء الدرعية (الفواكه العِذاب في الرد على من لم يحكم بالسنة والكتاب ) وقد أوردها الشيخ "حسين بن غنام" في الجزء الثاني من تاريخه، واختارها الشيخ "سليمان بن سحمان" مع مختاراته التي جمعها في رسالة وسماها "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية" فطبعت عدة مرات. وعندما ضم " ابن سعود" الحجاز سنة 1220 هـ بعث "ابن معمر" مشرفًا على أحكام قضاة مكة المكرمة، وتوفي هناك بعد أن مكث أربع سنين، ودفن في البياضية. وتضمنت الرسالة تحقيق مذهب الأئمة الأعلام من مسائل الصفات من مثل: إثبات صفة العلو من الكتاب والسنة، والكلام في الكيفية، والاستواء ومعناه، وإجماع أهل العلم على إثبات العلو، وما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ تختص بقضايا الصفات، وبيان لعقيدة الصحابة الأطهار وأئمة المذاهب الأربعة والإمام "محمد بن عبد الوهاب" في مسألة علو الرب تبارك وتعالى، وفصل في كلام المشهورين من أئمة الفرق والمذاهب في مسألة العلو ومناقشتها. وقد قام الشيخ " عبد العزيز الراجحي" بتحرير موضع نقول " ابن معمر "، وشرح ما غمض منها، مع التدليل بالأمثلة على معتقد الإمامين محمد بن عبدالوهاب وابن معمر رحمهما الله. والشارح هو فضيلة الشيخ "عبدالعزيز الراجحي "، ينتهي نسبه إلى قبيلة بني زيد المشهورة في نجد والتي ترجع إلى قضاعة -قبيلة قحطانية مشهورة-. ولد حفظه الله في مدينة البكيرية من مدن القصيم عام 1361هـ. درس الشيخ المرحلة الإبتدائية في مدينة البكيرية، ثم التحق بالمعهد العلمي بالرياض، ثم بكلية الشريعة، ثم حصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء من نفس الجامعة، وكان عنوان الرسالة: التقليد والإفتاء والاستفتاء. قرأ في البكيرية على مُقرئ البلدِ الشيخ عبدالرّحمن بن سالم رحمه الله. وحضر بعض دروس وخطب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية المتوفى 1389هـ. وللشيخ عدد من الإجازات العلمية في كتب السنة وغيرها. ومن أعماله: • تولى التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين قسم العقيدة حتى بعد تقاعده. • مع الإشراف والمناقشة لعشرات الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه. • المشاركة مع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في الحج، إفتاءً وتعليمًا. • التدريس في الحرمين الشريفين في المواسم المختلفة. • الخطابة للجمعة في مدينة الرياض. • إلقاء الدروس العلمية في مدينة الرياض، وتبلغ دروس الشَّيخ الأسبوعيَّة أكثر مِن عشرين درسًا في علوم الشَّريعة المختلفة.. • إلقاء الدورات العلمية المؤصلة في العقيدة وغيرها، في مدن المملكة العربية السعودية، وما قاربها من دول الخليج. إنتاجه العلمي: للشيخ عدد من المؤلفات نحو سبعين كتابا، ومنها: • منحة الملك الجليل بشرح صحيح محمد بن إسماعيل (البخاري) 14 مجلدًا. • توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم - 9 مجلدات. • شرح عدد كبير من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . • شروح رسائل الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. • حل العقدة بشرح العمدة (عمدة الفقه) - مجلدان. • الإفهام بشرح بلوغ المرام - مجلدان. • الإعانة على تقريب الشرح والإبانة - مجلدان. • الهداية الربانية بشرح العقيدة الطحاوية. • التقليد والإفتاء والاستفتاء- رسالته للماجستير. إضافة إلى أكثر مِن عشرين ألف فتوى؛ ما بين فتاوى محررة، وفتاوى اللقاءات المفتوحة، والهاتفية، والدّروس اليوميَّة.
يوسف بن يعقوب بن إسحاق (1) يوسف بن يعقوب، النبي الذي أوتي حظًّا من الجمال الندي والذكاء الوقاد منذ الصغر، وكان محبوب والده والأثير لديه، تبدأ قصته في القُرْآن الكريم بالرؤيا العظيمة التي قصها على والده: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4]، وقد كان إخوة يوسف أحد عشر، والشمس أمه؛ فقد كانت رائعة الجمال، والقمر أبوه، وهو حفيد إبراهيم الخليل المحبوب الذي له ضياء القلب وإشراقة الوجه، وفي هذه الرؤيا اصطفاء من الله تعالى ليوسف، وتفضيله على كافة إخوته، بل على أمه وأبيه؛ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]؛ فالوالد بالطبع يحب لابنه أكثر مما يحبه لنفسه. والأمر هذا سيسره كثيرًا، لكنه خاف غيرة الإخوة، والكيد ليوسف لنيله هذه المكانة: ﴿ قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يوسف: 5]، لقد عرَف يعقوب عليه السلام أنه سيكون للشيطان دور في هذا الحدَث، وأن الفتنة بين الإخوة ويوسف ستقع، ربما لأنه لاحظ شيئًا من الحسد بدأ يدب في أبنائه العشرة من إخوة يوسف لأبيه، لقد استأثر يوسف بنصيب كبير من حب والده، فكان قرة عينه، وسلوة أحزانه، وإيناس روحه. وفي هذه المناسبة فهناك قاعدة أخذت من هذه القصة وما قبلها قصة إبراهيم مع إسماعيل وما بعدها قصص كثيرة: أن أنبياء الله وأولياءه وعباده المقربين إن شغلوا طرفة عين عن ذكر ربهم وتعلَّق القلب بحب الولد أو البلد أو أي شيء آخر زيادة عن المألوف، فإن هؤلاء الأنبياء والمقربين يصيبهم ابتلاء من الله تعالى فيمن أحبوا بما أراده الله وقدره، وبما أراد أن يحدث من أمر نتيجة هذا الابتلاء، ففي ابتلاء إبراهيم بإسماعيل كان التوجه إلى تلك البقاع المهجورة في مكة وإبعاده عن ابنه إسماعيل فترة ليست بالقصيرة، ثم التعريف بتلك البقاع وقصة الذبح وبناء الكعبة ثم الدعوة إلى الحج وما فيه من نسك مثل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار رمز الحرب على الشيطان، والنحر تقربًا إلى الله، فعمرت تلك الديار وتوجه الناس طاعة لله لأداء نسك الحج، وفي ابتلاء يعقوب بيوسف، كان الإبعاد الطويل الذي أضر بيعقوب حزنًا وألمًا وذهاب بصر، وكان من وراء ذلك فتح مصر لبني يعقوب وعشيرته وسكنى هذه البلاد ذات الجنات والأنهار. وتعد رؤيا يوسف بداية لتطمينه بأن الله سيجتبيه ويختاره نبيًّا، وقد أمده منذ الصبا بمعرفة تأويل الرؤيا: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6]، والاجتباء: الاصطفاء والاختيار للنبوة، وهذا كائن له عند الأربعين وتمام النعمة على يوسف حين يجمع الله له الملك مع النبوة بعد رحلة الامتحان الطويلة الشاقة وتبيُّن صبره وجلَده وقوة إيمانه، ليفوز بهذا الامتحان عن مقدرة وجدارة - والله عالم بذلك - لكن لا بد لهذه المسيرة أن تكون عبر حقبة شاقة من حياته، فهؤلاء إخوة يوسف يلاحظون المحبة التي يخص بها والدهم يوسف وأخاه بنيامين وأمهما راحيل الجميلة المحبوبة ليعقوب، ولربما زاد حب يعقوب ليوسف بعد الرؤيا، فلاحظ ذلك بقية الأبناء: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ [يوسف: 8]، وقد عنَوْا بعصبة؛ أي: جماعة لنا قوة يعتز بنا أبونا؛ لأننا نمنعه من عدوه عند الشدة، وربما عنوا بذلك جميع أبنائه أنهم عصبة كالحلقة لا يعرف طرفاها، وبهذا تتساوى كافة عناصرها، فلا مجال لتفاوت المحبة، فلماذا يفعل والدنا هذا؟ ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8] إن فعله هذا خطأ كبير، وهو بعيد عن الرشد في معاملة الأولاد، وما حيلتنا إن استأثر يوسف بقلب الوالد، أنتركه يفوز به دوننا؟ ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ﴾ [يوسف: 9]، ليس سوى التخلص من يوسف بالقتل أو بإلقائه في أرض قَفْر بعيدة لا يمكنه العودة منها إلى أبينا، فنتركه لقدره، إن عاش عاش بعيدًا، وإن هلك هلك وحيدًا، فلعل هذا الرأي هو من تدبير أخيهم الكبير، وقالوا: إن أبعدتم يوسف عن أبيه إلى الأبد: ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 9]، عند ذلك تصلح أمورنا، ويلتفت إلينا أبونا، ويهتم لأمرنا، فقد تخلَّصنا ممن كان آسرًا لقلبه وحبه، وبعد هذه الفَعلة نتوب إلى الله ونستغفره وهو الغفور الرحيم. لكن هناك رأي آخر من أوسطهم، الذي لم يرد الهلاك ليوسف، وإنما الإبعاد عن أبيهم: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]، فإن كنتم لا بد تريدون إبعاده فالرأي أن تلقوه في بئر بعيدة تكون على طريق سفر؛ فلعل بعض المسافرين يلتقطه فيأخذه رقيقًا، وبذلك يبتعد عنا، فاتفقوا على هذا الرأي؛ لأنه يحقق ما يريدون مع وجود ثغرات في هذه الخطة، فالخلاف بينهم يكشف ما تواطؤوا عليه، فتفشل خطتهم في الإبعاد، وهكذا انتصر الرأي الذي لا يحبذ القتل والدماء حقيقة، بل جعلوه في الخطة خطة الدم الكاذب، وقد كانوا من قبل يخرجون للنزهات في البر، ويبتعدون أيامًا، وكانت هذه عادة الحضر بأن يتروضوا في البراري لأيام؛ ليشتد عودهم، ويتعودوا المخاطر ومواجهة الصعاب، فلا يخيفهم وحشٌ كاسر، ولا عدو غادر، وكانوا إذا أرادوا الخروج طلبوا يوسف ليخرج معهم، فلا يأذن في ذلك والده، وهذه عادة الأب مع الابن المدلل، يخشى عليه من النسمة، فيقيه بهدب العين، ومن السقطة فيحميه بالقلب واليدين، ومن الجوع فيطعمه الفؤاد إذا أراد، وإن مرض كانت الروح بلسمًا لشفائه، والصدر دفئًا لأحشائه، فلما دبروا مكرًا وأرادوا بيوسف شرًّا، ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ [يوسف: 11]، وهنا أفصح يعقوبُ عن سبب المنع: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ [يوسف: 13]، فكان سببَ المنع أمرانِ: ♦ أنه لا يطيق مفارقته، والبعد عن نظره، فهو موله به. ♦ والثاني: خشيته من غفلة إخوته عنه، وبالتالي سينفرد الذئب به ويأكله. هذه هي حجته في حبسه عنده، وهذا كله من فرط الحب، ويعقوب نبي الله لم يغِبْ عن اعتقاده يومًا أن الله هو الحافظ، وهو الذي يحيي ويميت، ولكن هناك شيء أسر قلبه تجاه يوسف، فكان دائم الخوف عليه، ويعقوب إنسان، وهذه نقطة ضعف على ما يبدو عنده، وألح الإخوة على أبيهم على غير مألوف العادة: ﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [يوسف: 14]؛ أي: لضعفاء عاجزون، وأنت تعرف أننا نملك الشجاعة والقوة، وخبرنا البراري، أيعقل ونحن عصبة قوية أن نخشى الذئاب؟ ولعل والدهم بخشيته على ابنه من الذئاب قد سهل مهمتهم في الكذب والتلفيق، فقد فتح لهم بابًا لم يكن قد خطر ببالهم باتهام الذئب وتحميله وزر دمه، فهل كان عنده علم مسبق عن طريق الوحي بأنهم سيدعون بأن الذئب أكله؟ أم أنه ذكر الذئب مصادفة عن غير معرفة بنواياهم؟! لقد اقتنع يعقوب بحرص أبنائه على حماية يوسف والمحافظة عليه، وأنهم يقصِدون أن يستبق معهم، وينشط ويتعود حياة البر وعيشة الصحراء؛ ليشتد ويقوى، ويمتلك الجرأة والشجاعة، فوافَق على ذهابه معهم، ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]، فلما ابتعدوا وهم يتريَّضون وقد وصلوا إلى بئر بعيدة، قبضوا على يوسف وهم مجمعون على إلقائه في البئر، وشعَر يوسف بغدرهم، فاستسلم لقضاء الله فيما عزموا عليه، وهو مدرك تمامًا ما رآه في الرؤيا أنه كائن، وسيحصل يومًا ما، وزاد من هذا اليقين أن الله تعالى قد أوحى إليه وحي يقين في القلب أنه سيخبرهم يوم يأتونه ساجدين له سجود تكريم واحترام، وسوف يعاتبهم عتابًا يخجلهم، ويذلُّ موقفهم، ويكشف ما اقترفوه بحق يوسف أمام أبيهم، فدلوه في البئر وتركوه لمصيره بعد أن نزعوا قميصه، ثم قفلوا راجعين إلى أبيهم باكين مع حبك كذبة تنطلي على أبيهم: ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 16، 17]، والدموعُ دائمًا مؤثرة في الآخرين، فما كان ليعقوب إلا تصديق أبنائه على مضضٍ، وهو مدرك أنهم فعلوا مع ابنه أمرًا ما، فقد ظهر تصنُّع تصديقهم على ملامح يعقوب، وقرأه بالطبع أبناؤه، ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17] لم يكن ليصدق ما زعموا من قصة الذئب، وقد كانوا يتحدَّوْن أن يأكله الذئب أو أن يقترب منه؛ لأنهم عصبة متمرسون على مقارعة الذئاب، ولكي يثبتوا لأبيهم صدقَ دعواهم: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18] على أنه شاهد إثبات لما حدث ليوسف بأن الذئب قد أكله، ولم يبقَ منه سوى قميصه، أيعقل هذا؟ ويعقوب ينظر إلى أولاده بحزن وأسى وهو يأسف على تربيته لهم، وملامح وجوههم تظهر كذب دعواهم، ألم يعلَموا أن أباهم نبي، وأنه حتى وإن لم يكشف له الوحي ما صنعوا بيوسف، فإنه مؤمن ذو فراسة ينظر بنور الله؟ ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. لم يُسلِّم يعقوب عليه السلام بما زعمه أبناؤه المتآمرون، لقد أتوه بأمر جللٍ؛ لذلك تذرَّع بالصبر، واستعان على ذلك بالله؛ لأنه تجاه هذا الأمر ضعيف، وأنى له الصبر على فَقْد حبيبه يوسف إن لم يُعِنْه ربه على ذلك؟ وينتقل المشهد إلى يوسف وما سيحل به في الجُب: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ﴾ [يوسف: 19]، وذكَرْنا أن الجب الذي ألقي فيه يوسف كان على طريق المسافرين من أرض مدين إلى مصر عبر فلسطين، أو العائدين من مصر إلى مدين، وكانت هذه السيارة - القافلة - متوجهة إلى مصر، فتوقفت قرب الجب تستريح من عناء السفر، وترتوي من ماء هذا الجب، فأرسلوا السَّقَّاء القائم على تزويد القافلة بالماء وملء ما معهم من أوعية جلدية يحملون فيها الماء لاجتياز صحراء سيناء، فألقى هذا السَّقَّاء دلوه في البئر ليغرف الماء، فتعلق به يوسف، وجذب السَّقَّاء الدلو الذي أحس بثقله، ولكنه بذل الجهد فأصعده، ولما نظر في الدلو صاح من هول المفاجأة: ﴿ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ ﴾ [يوسف: 19]، أن يخرج أحدهم غلامًا بدل الماء يُعَد هذا ربحًا وافرًا؛ لذلك أطلق صيحة الفرح هذه، فقد كان الرقيق تجارة رائجة رابحة، ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 19] فقد أخرجوه وأخفَوه عن العيون ليكون لهم رقيقًا يتجرون به، ولكن كل هذا الذي يحصل ليوسف يجري بتقدير الله، وهو عالم به، وهو الحافظ له، ولعل هذا إنقاذٌ ليوسف من نقمة إخوته، مع الحفاظ على وحدة بيت يعقوب، فقد أخرجه الله من بينهم إلى حين، ريثما يهدأ طغيان إخوته، ويعودون إلى اتزانهم ورشدهم، متغلِّبين على شيطانهم الذي سيطر على عقولهم، ووافقوه وساروا في طريق الشر، ولكن إلى حين، أليسوا هم أبناء نبي؟ وهم باقون على الإسلام برغم ما فعلوه، فلم يخرجوا من ملة الإسلام، ولكن في الإنسان ثغرات لا يزال يهجم من خلالها الشيطان، ولا معصوم إلا من عصمه الله، وابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فكانت حكمة الله في هذا المسار الذي يحفظ ليعقوب كافة أبنائه في إطار من الإيمان، بحيث لا يفجع بفقد أحد، وإن كان هذا على حساب حزن يعقوب العارم وقلقه على ولده يوسف إلى حد فقدان البصر، وتشرد يوسف وعبوديته، لكن لكل شيء في الحياة ثمن يدفع لقاء درس مستفاد، ألم تكن هذه السياحة ليوسف نوعًا من التغيير في طريقة الحياة المحدودة بين أهله؟ فاطلع على حياة جديدة في بلد كبير مثل مصر في ظل حماية من عزيزها، ورفاهية في العيش برغم رقه الذي كان فيه، ولعل هذا الرق كان نوعًا من الحماية ليوسف، وتمكينه من الاطلاع على ما يجري عند علية القوم وملوك البلد، ولولا هذا لما انطلق يوسف في الخبرة والمعرفة، ولا نريد الاستطراد أكثر من هذا ونستبق الأحداث؛ فإن القصة انطلقت متتالية كحبات العِقد التي كانت مسلوكة في نظام فانقطع، ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]، وشرَوْه من الأضداد؛ أي بمعنى باعوه بثمن بخس قليل لا يتناسب مع قيمة يوسف لو عرفوه، هذا من وجه، وقد يكون هذا الثمن لا يتناسب مع فرحة السقَّاء عندما استخرجه من البئر، وربما كان ثمن البيع زهيدًا؛ لأن السيارة التي أخذته رقيقًا إنما أخذته بغير حق، ودائمًا يباع الغرض المسروق بثمن بخس، بخلاف المملوك بحق، فالسارق حتى ولو سرق ذهبًا وجوهرًا لا يستطيع بيعها بالثمن المناسب لها فيما لو كانت ملكه حقيقة؛ لذلك دائمًا تباع بثمن بخس، ولا أدري كيف فسر المفسرون بأن إخوته هم الذي باعوه بثمن بخس؟ فسياق القصة يأبى هذا، إخوته رموه في الجب ومضوا إلى أبيهم يخبرونه بأن الذئب قد أكله، ولو علموا بأمر السيارة التي أخذته إلى مصر لعرفوه، ولو ظنًّا، عندما التقوه في مصر وهو عزيزها، ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21]، لقد كان المشتري رجلًا مهمًّا، عزيز مصر، واسمه "قطفير"، وكان عقيمًا لم يرزق بالذرية؛ لذلك أوصى زوجته "زليخا" بأن تحسن إليه وتكرمه، ولا تعامله معاملة الرقيق؛ فقد توسم فيه الخير، ورأى فيه سيما أصل طيب، ولسبب لم يدركه بِيعَ رقيقًا، وهذا من نعم المولى على يوسف، قدر عليه الرق، ولكن لم ينزله إلى مهانة الرقيق، فهذا السيد عزيز مصر، يوصي زوجته بإكرامه؛ لأنه سيتبناه: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]؛ فكونه عند العزيز هو بداية التمكين له في الأرض، وعلى يوسف أن يثبت جدارته في التقرب إلى العزيز، واكتساب الخبرة السياسية من خلال مركز العزيز، مع نسيان أنه مؤمن موحِّد، صلته الأولى مع الله مراقبة وعبادة وذكرًا، فقد زوده الله بسلاح سلمي قوي، وهو هدايتُه إلى تأويل الرؤى بشفافية عالية، تكاد لا تخرم أو تخطئ، والله حافظه وراعيه، وأكثر الناس لا يدركون هذا؛ لبُعدهم عن الإيمان، وقلة منهم يعرفون هذا، وعلى رأسهم والده يعقوب، وعاش فترة صباه اليانعة في بحبوحة من العيش، مدللًا من زليخا وزوجها، وبدأت فتوته تظهر، وعذاراه يظهران، وشارباه يخطان، والفتى في مثل هذه السن يتألق نضارة وجمالًا، فكيف بيوسف الذي أوتي شطر الحسن؟! فقد كان آية في الجمال، يأسر قلوب الصبايا، وتشتاقه الكواعب، ولا تمل أنسه أو النظر إليه: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، وبلوغ الأشد يكون عادة بعد البلوغ إلى سن الثلاثين، وعندما وصل إلى هذه السن تفتَّق حكمة وعلمًا وبيانًا، أعجب سيده، وقدَّمه معه في المناسبات، فتعرف على شخصيات المجتمع في مصر، ولكن هذه النضارة والشخصية الخلابة كانت تأسر أقرب الناس إليه (زليخا)، وتلهب فيها المشاعر حبًّا آسرًا ليوسف من نوع العشق والهيام، فتضرم في قلبها الغرام الذي أخذ عليها لبها وتفكيرها، فلا يكاد يفارقها ليل نهار: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ [يوسف: 23]، ويبدو أن الغرامَ قد أخذ منذ فترة مأخذه في قلبها، وملَك عليها عقلها ونفسها وهي تكتمه وتخفيه، إلى أن فاض بها، فلم يعد يحتمله قلب ولا تطيقه نفس، فجاش بقوته، وعصف في النفس بعنفوانه، فأرادت أن تملأ النفس بالهوى، وقد فرغت منذ فترة لشيخوخة قطفير وفتور لهيب الحب في فؤاده الذي استكان، فخططت ودبرت للخَلوة وقطاف اللذة، فتزينت بأحلى زينة، وضمخت جسدها وشعرها بفاتن العطر حتى غدت أنفاسها عبيرًا، ولبست شفيف الثياب، فأبان عن جمال خلاب، لقد أعملت كل ما أتقنته من فن التجمل حتى خيل لها أنها في يوم زفاف حقيقي وعرس خيالي وجلسة مخملية بَنَتْها في مخيلتها الحالمة، تتناسب مع مكانتها سيدة لمجتمعها، فلا تريد لذة السوقة المبتذلة الساقطة، وهي مع كل هذه الأناقة جميلة فاتنة بفطرتها التي خلقت عليها من غير تجمل ولا زينة، فنادت يوسف العفيف وهي تعرف فيه هذه العفة، فقد عاش معها زمنًا، ولكنها الفتنة وإبليس وإغراء الجنس الذي يحسه كل شاب فطرة تدغدغ نفسه، وتهيج شهوته، وقد يسرت له كل أمر؛ فهي الطالبة الراغبة، وليس هو المحاول الذي قد يجد الصد أو التعنيف إن كان البادئ المباشر، وزيادة في الإغراء وتوقع الاستجابة وضعته تحت الأمر الواقع بأن غلقت عليه الأبواب، وأظهرت شفيف الثياب، وخلعت بعضًا منها، وقالت: هيت لك، أنت في مأمن وخلوة لا رقيب فيها، وأنا الراغبة فيك فتعال، ألست شابًّا وهذا ما يطمح إليه الشباب، وأنا امرأة العزيز ذات الكبرياء، لست واحدة من تلكم الساقطات بائعات الهوى، لقد هئت لك وتهيأت لك، قال بلغة المؤمن بربه القالي للرذيلة وخيانة مَن آواه وعطف عليه واسأمنه على عِرضه وشرفه: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23] إنك تدعينني لإثم ورذيلة لا تنبغي لي ولا لك، أنت زوجة سيدي الذي أحسن إليَّ وآواني وأكرمني، ولك أنت أيضًا شرف المشاركة في تربيتي، عشتُ هنا معكم كأنني واحد منكم، فهذه خيانة لا تنبغي لمثلي ولا تليق بي، لا، بل حتى ولو كانت التي تدعوني إلى هذه الفاحشة ليست لها صلة قرابة بسيدي فلن أقبل دعوتها لفعل الفاحشة، فأُغضِب بفعلتي هذه ربي بارئي وخالقي، فأبوء بإثم الزنا، ليست هذه أخلاقي، وليس هذا ما أخذته عن والدي، واعلمي يا عزيزتي أن الظالم لا يفلح أبدًا، لا.. وألف لا، لكن من عاشت على حلم بالوصال من هذا الفتى الندي الفاتن، لا يمكن لها أن تقنع بمحاضرة تهدم لها ما بَنَتْه في الخيال، وعلقت عليه الآمال، فما في فكرها غير قابل للإصغاء والنصائح؛ لأنها عندما خططت لهذا الأمر رمت خلف ظهرها كل القيم؛ لذلك لم تستمع إليه، وقدمت له مزيدًا من الإغراء والإصرار على نيل اللذة التي خططت لها، ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24]، ووصل الأمر في الإغراء ذروته، فكان الهم منها ومنه في إرادة ذلك الفعل، وهذه خطوة من يوسف الشاب قرَّبته من الاستجابة بعد الرفض، فهو بشر له طاقة في تحمُّل الصد، والمقاومة لها حد تهوي بعده المقاومة؛ ولهذا منع الإسلام الخلوة بالمرأة؛ فالخلوة الطويلة تضعف المقاومة، وتفسح المجال للشيطان ليتحرك بفاعلية أكثر للإغراء والإغواء، وبعدها تأسره الشهوة المغروسة في النفس فطريًّا، وعندها يصل حد التمنع إلى نهايته، ويعجز الإنسان عن كبح الشهوة أو السيطرة عليها، ويفلت منه زمام المقاومة مهما أوتي من مقومات الصد، فإنه في نهاية المطاف لا بد من العناية الربانية التي تحُول بينه وبين ما ضعُف عن مواجهته، فقد أراه الله برهان التقى وصورة والده يعقوب فنزعت من نفسه سيطرة الهوى، وصحا من خدر الجنس وطغيان الشهوة، ولقد أعجبني قول لأبي عبيدة في غريب القُرْآن؛ أن في هذه العبارة تقديمًا وتأخيرًا، بمعنى: همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، لقد أعدَّه الله تعالى للنبوة، والأنبياء أطهرُ أهل الأرض على الأرض، وصفوة خلقه؛ نزاهة وعفافًا، والموقف الذي تعرض له يوسف كان صعبًا وامتحانًا قاسيًا، وقى الله منه يوسف، وأخرجه طاهرًا نظيفًا عفيفًا، فانتفض بعد تذكُّر، وصحا بعد خدر الهيام، ورنا بنظره نحو الباب، فابتدر إليه يطلب النجاة من هذا الموقف العصيب: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾ [يوسف: 25] لقد تنمَّرت وخرجت عن دلها، وسقطت هالة حسنها، فإذا هي لبؤة ذات مخالب وأنياب تجيد الفتك والخمش، فانقضَّتْ عليه مسرعة من الخلف تجذبه كيلا يهرب، وكلاهما يريد الباب، هو يستبق إليه للنجاة من هذه الكاسرة المتنمرة، وهي تستبق إليه لتقف دونه حائلًا فلا يخرج منه إلا بعد تحقيق مُنْيتها، فأمسكت قميص يوسف فقطعته، ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25] يا لهول هذه المفاجأة! فهذا هو العزيز عند الباب قد سمع المدافعة، وكان قدومه غير متوقع منها، لكن كان بالنسبة ليوسف أمل النجاة من براثنها، وهو الذي يحسم هذا الصراع الغاضب، لكن لما سُقِط في يد (زليخا) بحضور سيدها، ابتدرت بلغة المظلوم المعتدى عليه: ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]، وهكذا فإن كيد النساء عظيم، تظهر بعد التنمر ضعفها، وتنهلُّ سريعًا دموعها، فتضحي بطرفة عين مظلومة معتدى عليها تطلب النصير، لقد خلبَتْ لبَّ زوجها بهذا الظهور البريء الضعيف المعتدى على شرفها، وطلبت من زوجها أن يزجه في السجن بعد التنكيل به، وكان من أكبر الكبائر أن يعتدي عبدٌ على سيدته جنسيًّا، وهذا أيضًا في الإسلام، فالمملوك يعد واحدًا من أهل البيت، وسيدته لا تحتجب منه؛ لذلك وجهت له هذه التهمة الخطيرة، ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ﴾ [يوسف: 25]، وتابعت لكي توحي له بالعقاب الذي ينبغي أن يكون ﴿ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]، ونطق المظلوم؛ لأنه لو سكت على التهمة للزمته، وقامت عليه الحجة: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 26] هي المعتدية علي، وهي التي أعدت لهذا الأمر عُدَّته من مكانٍ وزينةٍ وإغراء وصرف للخدم، ولما كثر الجدل وحار العزيز من يصدق، أيصدِّق زوجته التي يحبها ولكنه يعرف مشكلتها ودافعها للوقوع في هذه الخطيئة، فهو مقصر جنسيًّا معها، فلم تنَلْ منه منذ زمن ما تنال الزوجة من زوجها ليروي فيها ثائرتها الجنسية، وكل هذه الرفاهية التي تعيشها في ظلال العزيز لم تحقق لها السعادة الكاملة؛ لأنها لم تكتمل في شقها الأقوى المفقود، وإشغال المرأة بنشاطات اجتماعية وسهرات ترفيهية وإضفاء الألقاب التي ترضي غرور المرأة كأن تكون السيدة الأولى في مجتمعها - لم يقنعها للتخلي عن إرواء غريزتها إلا إلى حين، كل هذا كان يجول في خاطر العزيز الذي يعرف تمامًا السبب الذي دفع زليخا إلى التفكير بهذا الأمر وسلوك درب الخطيئة، وهو تجاه الطرف الآخر المتَّهَم بالاعتداء يعرف تمامًا براءته، وأنه لا يمكن أن يصدر عنه هذا السوء، وقد عايشه نظيفًا عفيفًا طاهرًا قانتًا لله عابدًا، يشع من جبينه ضياء النبوة وإشراقة الوجدان، ولكن ماذا يفعل بعد صبر زوجته عليه وكتمها ضعفه الجنسي كل هذه المدة، الذي ينبغي أن يبقى سرًّا مدى الحياة، وألا يكشف ما دام حيًّا؟! فهو بحق العزيز كبير وخطير، وعليه يجب عليه أن يميل لرأي الزوجة بلا تردد، وإن جار وخالف ضميره، وبالرغم من تدخل طرف حصيف ثالث كان من أهلها نطق حينها بالحق وفق منطق معقول: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]، أمر فيه منتهى الذكاء والحكم بالقرينة، ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، فقد عرَف براءة يوسف، وأن التدبير كان تدبيرها بلا أدنى شك في ذلك، فهن صاحبات تدبير المكائد، ولا يجيد ذلك إلا النساء، وإذا ما فشلن فإن الدموع حاضرة، وتصنُّع المقهورة الضعيفة ماثل، لا أقول كلهن، ولكن مَن سلك سلوك امرأة العزيز في التدبير والتخطيط فإنهن لا يعدمن مثل هذا التصرف في كل زمان ومكان، فذلك كيدهن، وتلك فطرتهن، ويحمي الله من ذلك المسلمة التقية العفيفة التي تبتغي على صبرها وتصوُّنها من الفاحشة أجر الله وثوابه. ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]، وهنا لجأ إلى أخلاق يوسف وما تمتع به من طيب الخصال والأخلاق، أن يصفح ويكتم هذا الأمر فلا يخرجه خارج بيت العزيز؛ كيلا يشيع الأمر ويلوكه الناس، تزيدًا ومبالغة، فيخرج عن قصد المحاولة إلى أكذوبة الممارسة، وفيه ما فيه على سمعة العزيز تجاه المجتمع، كما قال لها بأن تندم وتكفر بالتوبة ما حاولته، وبألا تعود ثانية، وقيل: هذه النصيحة انطلقت من الشاهد الذي هو من أهلها؛ حفاظًا على سمعة زليجا قريبته.
مختصر غريب القرآن للحفاظ، لابن قتيبة الدينوري صدر حديثًا كتاب "مختصر غريب القرآن للحفاظ ‎" ، للإمام: " أبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة "، أشرف على اختصاره وتبويه: طائفة من الباحثين بإشراف ومراجعة " يوسف بن أحمد محمد خليفة "، نشر " دار طيبة الخضراء ". وهذا الكتاب اختصار بطريقة الجداول الشارحة المبسطة لمعاني كتاب " غريب القرآن " لابن قتيبة، عمد فيه الباحثون لتقسيمها حسب الحروف التي كثرت في القرآن، ثم حسب ترتيب السور كما هي طريقة كتاب " ابن قتيبة " من باب التيسير على حفاظ القرآن الكريم وطلابه، وسهولة الوصول إلى المعنى المختصر لكلمات الآية، والسورة ككل. وكتاب " غريب القرآن " للإمام " ابن قتيبة الدينوري " يعد عمدة كتب غريب القرآن عند المتقدمين؛ فقد اجتهد فيه ابن قتيبة وتوسع، واستقى مادته من كتب التفسير وكتب اللغة؛ فخرج كتابه منقحًا ويعد أصلًا من أصول غريب القرآن. وقد بين ابن قتيبة في مقدمته منهجه وطريقته في التفسير، ومصادره التي أفاد منها، ثم عقد بابًا لاشتقاق أسماء الله وصفاته وإظهار معانيها، ثم عقد بابًا ثانيًا لتفسير الألفاظ التي كثر ورودها في القرآن الكريم. بعد ذلك بدأ في تفسير الغريب مرتبًا بحسب سور القرآن الكريم، حيث في تفسيره للألفاظ القرآنية بين الاختصار وكمال المعنى، والإيضاح والإجمال، وكان يستشهد على الألفاظ التي تحتاج إلى الاستشهاد، ولم يملأ كتابه بالتفسيرات النحوية أو ذكر الأسانيد؛ لأن ذلك يطيل الكتاب ويخرجه عن هدفه. أما نقوله فكان ينقل كثيرًا عن أبي عبيدة في مجاز القرآن، وقل أن يشير إلى غيره، كما أنه لم يتناول تفسير المشكل لأنه أفرده بالتأليف. أما عن سبب إفراد أسماء الله واشتقاقاته في مطلع هذا التفسير؛ وذلك لكثرة ورود هذه الأسماء والصفات في ختام كثير من الآيات، وورودها في القرآن كثيرًا؛ فأفرد لها هذا الباب حتى لا يكرر تفسيرها في كل آية وردت فيها، إلى جانب أن مردّ هذه الأسماء والصفات إلى القرآن والسنة؛ فلزم بيان معانيها حتى لا تفسر بالرأي والاجتهاد. أما عقد باب لتأويل الحروف التي كثرت في القرآن، ذلك حتى لا يصعب على طالب المعنى إيجادها في موضعها من القرآن الكريم، ولكثرة ورودها في هذا الباب. وجاء هذا الاختصار للكتاب من جانب الباحثين لفهم معاني الألفاظ الغريبة، وحفظها، واستظهارها لتكون عونًا على فهم كلام الله تعالى وتدبر معانيه. أما واضع التفسير فهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الدّينوري، الكوفي البغدادي، أبو محمد. أصله من: ( مرو العظمى) ، ولد بالكوفة، وقيل ببغداد. في مستهل رجب، سنة ثلاث عشرة ومائتين للهجرة، ونشأ في موطن ولادته.. فثقف علوم العربية وعلوم الشريعة، ودرس علم الكلام، وأخذ طرفًا من علوم: الفلسفة والمنطق، ثم تعمق في علوم العربية، والحديث، والفقه.. وتلقى العلم عن مشاهير شيوخ عصره، وهم كثر، وربما يزيد عددهم على الأربعين شيخًا. إنما الذين أثّروا في ثقافته اللغوية، ثلاثة، أبو حاتم السِّجِسْتاني (ت 255 هـ)، والرياشي أبو الفضل (ت 257 هـ)، والأصمعي عبد الملك بن قُرَيْب (ت 216 هـ). وفي علوم الفِقْه والحديث، إسحاق بن ابراهيم، الحَنْظلي المعروف بابن راهَوَيْه وهو أحد كبار أهل الحديث والفقه في زمانه. وهو شيخ الإِمام البخاري، والنسائي، والترمذي. وأثر هؤلاء العلماء واضح في آثار ابن قتيبة، وبخاصة في كتابيه: " غريب الحديث، وإصلاح الغَلَط ". ثم يبدو إنَّ لأبيه أثَرًا في دراسته لعلوم الحديث، إذ هو من المشتغلين فيه، كما ينقل عنه ولده ابن قتيبة، في: "غريب الحديث"، وفي غيره من كتبه. وأقام بالدّينور مدة قاضيًا فنسب إليها. وفي بغداد، توفي ابن قتيبة، في سنة ست وسبعين ومائتين للهجرة. وترك جمهرة من الآثار، في شتى فنون المعرفة العربية والاسلامية المعروفة في عصره، منها: • "تأويل مختلف الحديث". • "أدب الكاتب". • "المعارف". • "المعاني" ثلاثة مجلدات. • "عيون الأخبار". • "الشعر والشعراء". • "الإمامة والسياسة". وللعلماء نظر في نسبته إليه. • "الأشربة". • "الرد على الشعوبية". • "فضل العرب على العجم". • "الرحل والمنزل". رسالة. • "الاشتقاق". • "مشكل القرآن". • "المشتبه من الحديث والقرآن". • "العرب وعلومها". • "الميسر والقداح". • "تفسير غريب القرآن". • "المسائل والأجوبة". في الحديث. • "النبات". فصول منه. • "الألفاظ المغربة، بالألقاب المعربة". • "غريب الحديث".
العبث بالسلاح جرَت عادات بعض المجتمعات الصَّغيرة، المبنيَّة على أسس قبليَّة، أنْ يحمل أبناؤها السِّلاحَ، بأيِّ شكل من أشكاله، ولا تزال بعض المجتمعات ترى أنَّه من الوجاهَة أنْ يحمل المرء فيها خِنجرًا، قيمته تصِل إلى مئات الآلاف من الريالات، وبعضٌ آخر منها يحمل أفرادُها مسدَّسًا يسير فيه، ويتأكَّد هذا في المناسبات. كان هذا شائعًا، في وقتٍ كان الأمن فيه متخلخلًا، فاحتاج الأبناء إلى حماية أنفسهم بحمل السِّلاح، أمَا وقد تكفَّلَت الدولة بحماية المواطنين والمقيمين فيها على حدٍّ سواء؛ فإن هذه العادة أو التقليد لم يبقَ له مسوِّغٌ بحال، ومن كَفالة الدولة للحماية الأمنية ضُبطت أمور اقتناء السِّلاح وحمله [1] . يظهر علينا بين الفينة والأخرى خبر مَقتل أحد الأبرياء، بسبب التعامُل مع السِّلاح، إمَّا بالتنظيف، أو بالتفقُّد، أو بالمزاح بين الأصدقاء، ولعلَّ هذا الإجراء الذي يقوم به بعض مَن يقتنون السِّلاح يدخل في مفهوم أنْ يُلقي الإنسان بنفسه إلى التهلُكة، التي يَنهى عنها الشرعُ الحكيم بالآية الكريمة الصريحة: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. ربَّما يتساوى هذا الإجراء مع أولئك الذين يتهوَّرون في قيادة السيَّارات، فيقعون في حوادثَ مميتة لهم، وللعابرين الأبرياء الآخرين؛ راكبين أو راجلين، فهل من الممكن اتِّخاذ أيِّ ضابط، أو تنظيم، أو توجيه، أو أيِّ إجراء توعوي، يحدُّ من هذه الحوادث المؤسفة، حتى لأولئك الذين يَسمح لهم النِّظام باقتناء السِّلاح أو حمله، بحكم أنَّ طبيعة عملهم تسمح بحملِ السلاح؛ مثل رجال الأمن أنفسهم، مع الأخذ بالحسبان الحذر الذَّاتي المطلوب؟ إنَّه لَمن المؤلم أنْ تذهب الأرواح نتيجةَ العبث بالنَّار المهلكة، بأيِّ شكلٍ من أشكال العبَث، وأنْ تمتدَّ هذه المصيبة للأهل والأولاد؛ فتثكل الأمَّهات، وتترمَّل الزوجات، ويتيتَّم الأولاد، كلُّ هذا نتيجة لقدْر من التهاون، وكلُّ شيء، على أيِّ حال، بقدَر الله تعالى، ولا تعارُض مع هذا الاعتقاد، وإيجاد السُّبل والوسائل التي تُقلِّص من هذه الحالات المفجعة. أُهيب بخطباء الجوامع، وكُتَّاب الصحافة، وفرسان الفضائيات، أنْ يولوا هذه الحالات اهتمامًا تستحقُّه، ويُزاد من الاهتمام في أماكن دون أخرى، فالتوعية مطلوبة من الخطباء والكُتَّاب، كما هي مطلوبة من القنوات الأخرى المؤثِّرة في المجتمع، سعيًا إلى التقليص من هذا التقليد الاجتماعي، الذي تضاءلَت الحاجة إليه، بحكم مسؤولية الدولة في توفير الأمن [2] . [1] انظر: عبدالله بن عبدالمحسن التركي: الأمن في حياة الناس وأهميَّته في الإسلام - الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1417هـ/ 1997م - 133 ص. [2] تنصُّ المادَّة السادسة والثلاثون من نظام الحكم الأساسي، في المملكة العربية السعودية، على الآتي: "توفر الدولة الأمنَ لجميع مواطنيها والمقيمين على إقليمها، ولا يجوز تقييد تصرُّفات أحد، أو توقيفه، أو حبسه، إلا بموجب أحكام النظام"، وتماثلها في المفهوم موادُّ في الدساتير الحديثة للدول.
واجبات وقتية للخطاب الدعوي مع أن الخطاب الدعوي يزداد وعيًا ونضجًا، فإن ذلك لا يتم بالسرعة المطلوبة، وواجب الوقت [1] من أهم الأمور التي ينبغي إعادة النظر فيها بين الفينة والأخرى؛ بحيث يتماشى خطاب الدعوة الإسلامية مع هذا الواجب. إن "المطلوب" يعتمد على مقتضى ذلك الوقت وواجبه ووظيفته، كما هو الحال في سائر العبادات، وعدم الأخذ بعين الاعتبار مثل هذه الواجبات الوقتية يؤدي إلى ضرر بالغ على الدين وأهله، في هذا المقال سيتم تناول عددًا من الواجبات الوقتية للخطاب الدعوي في العصر الحديث [2] . أولًا: الأدب الاسلامي وبالأخص الرواية: هذا من أحسن الأمثلة التي تدل على أن الدعوة الإسلامية المعاصرة ما تزال تعتمد في أمور كثيرة على الارتجالية دون كبير إعداد؛ ذلك أن أهل الأدب قد تنبؤوا قبل أكثر من عقدين من الزمان أن فن الرواية سيكون الفن المهيمن على الساحة الأدبية، والواقع يشهد بصحة ذلك، فسوق الرواية أصبح من أكثر الأسواق رواجًا على مستوى العالم ومنه العالم الإسلامي، فجمهور الرواية من القراء جمهور كبير على مستوى الجنسين، فتركه ليس خسارة فحسب، بل سيفتح الباب للآخرين؛ كي يسدوا عطش هذا الجمهور بالغث، طالَما أن الرواية الأدبية محبوكة، فإنها تؤثر في فكر القارئ ونفسيته، وتغوص في أعماقه مثلها مثل المحاضرة أو الكتاب إن لم يكن أكثر، وواجب الوقت يتمثل في توظيف هذا الفن توظيفًا يغرس القيم وينشر الفضيلة ويدعو إلى الحق؛ لأن مفهوم الحق والفضيلة ليس له حضور واضح في الرواية غير المنضبطة، بل ما يضاد هذين المفهومين هو الحاضر في هاتيك الرواية. إن الرواية الأدبية لا تعدو كونها فنًّا من الفنون، ويستطيع الكثير المساهمة في هذا المضمار، وحسب د. مصطفى بكري السيد رحمه الله، فإن النهوض بهذا الأمر يتطلب أول ما يتطلب بالإضافة إلى المعاناة والنية الحسنة - يتطلب "موهبة في القص، وقراءة نهمة في الإنتاج المحلي والعالمي؛ ليكون الصوت منسجمًا مع إيقاع العصر" [3] ، ولعل خريجي كليات الآداب أول من يستطيع المساهمة في هذا المجال إذا ما تَمَّ توجيههم وإرشادهم، على أن يرافق ذلك تبني كل المشاركات الناشئة والمبادرات الجديدة، وتشجيع أصحابها وتحفيزهم ماديًّا ومعنويًّا. ثانيًا: دعوة غير المسلمين إلى الإسلام: دعوة غير المسلمين إلى الإسلام هي المهمة التي تتبادر إلى الذهن عند إطلاق كلمة (الدعوة) ؛ لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة عالمية، فلم تكن لقوم دون آخرين، ولم تخص أرض دون أخرى؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]؛ يعني إلى الناس عامة، وفي الصحيحين: "وكان النبي يبعث إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامة" ، وفي صحيح مسلم: "بُعثت إلى الأسود والأحمر" ، ومن اعتقد أن محمدًا لم يُبعث لجميع الناس، فقد أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، وأحد المقاصد العظمى من ذروة سنام الدين - الجهاد - هو تبليغ الدين للناس، ولا يظننَّ ظانٌّ أن دين الله قد وصل لجميع البشر؛ إذ لا يزال فئام من أهل الغرب والشرق لم يسمعوا عن الإسلام، وإن سمعوا فمن مصادر غير موثوقة؛ كوسائل الاعلام الغربية التي يسيطر على عدد منها اليمين المتطرف، رافَق ذلك للأسف وجود سلوكيات خاطئة لبعض المنتسبين إلى الإسلام أدت إلى حجب الإسلام الصحيح عن الآخرين. إن تبليغ دعوة الإسلام أصبحت ممكنة، بل سهلة أكثر من أي وقت مضى، لسببين اثنين: الأول: طبيعة هذا الدين الذي خالف في خصائصه الكثير من المِلَل والنِّحَل، خصائص بقائه وصحته التي تنبع من داخله لا من خارجه؛ مما يعني أنه ليس بحاجة إلى كبير عناء في دعوة غير المسلمين إليه بقدر ما هو بحاجة إلى طريقة عرض صحيحة. والثاني: وجود التقنية الحديثة التي ذلَّلت كثيرًا من الصعوبات التي كان يواجهها الدعاة إلى الإسلام سابقًا؛ إذ ما على الداعية حاليًّا إلا أن يحدد الفئة المراد دعوتها للإسلام مع علم فيما يدعو إليه (البصيرة) ، ويرافق ذلك كله الطريقة الصحيحة في العرض (الحكمة) ، ثم ينطلق في دعوته دون أن يفارق بلده أو بيته الذي يقطنه. ولعل الدعاة والمراكز الإسلامية في البلاد غير الاسلامية، يتمكنون من تحقيق هذا الواجب أفضل من غيرهم؛ لأن معرفتهم بطبيعة تلكم المجتمعات (ثقافتهم، لغتهم، ... إلخ) ، ويجدر بغيرهم ممن يريد الدعوة إلى الإسلام أن يهتم باللغات الحية المنتشرة في أصقاع المعمورة؛ كاللغة الصينية أو الفرنسية، والتركيز عليها؛ لأن أتباعها هم الكثرة الكاثرة على وجه البسيطة، وألا يستعجل الأمر، فإن إجادة لغة يحتاج وقتًا وصبرًا، وأجره ثابت في كل مرحلة من مراحل تعلُّمه، طالما أن نيته تبليغ الدين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، و "للوسائل أحكام المقاصد" . ثالثًا: الدعوة إلى تأليف القلوب والتعاون: لا يخفى أن المسلمين عمومًا، وأهل السنة خصوصًا، هم مشروع للاستئصال في هذه الأزمنة، وأنجع الردود في مقاومة مثل هذه المشاريع، تتمثل في الاجتماع والتناصر والتآلف. إن الاجتماع وترك التفرق من أعظم مقاصد الشريعة؛ قال ابن تيمية: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين" [4] . فحري بالدعاة أن يعطوا هذا الجانب أولوية في خطابهم، ويكون ذلك عن طريق الدندنة حول هذا المفهوم بشتى الطرق والأساليب، وكذلك التحذير من كل ما يضاد هذا المقصد الشرعي، سواء كانت نعرات جاهلية، أو تكتلات حزبية، أو تعصبات مذمومة [5] ؛ قال ابن تيمية: فمن تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقته، أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله، فإن كتابهم واحد ودينهم واحد، ونبيهم واحد وربهم إله واح د" [6] . والمطلوب ترسيخ مفهوم الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [7] ، وعلى الدعاة أن يبدؤوا بأنفسهم في تطبيق هذا المفهوم تطبيقًا عمليًّا وهو ما يسمى بـ(الدعوة بالقدوة)، فيرى الناس مفهوم الأخوة الإسلامية بين الدعاة أنفسهم على الواقع، وليس في المعرفة النظرية فقط؛ لأن هذا المفهوم يعرفه الصغير قبل الكبير من الناحية النظرية، ولكن ما سيُحدث فَرْقًا ويقف أمام مشاريع الاستئصال هو تنزيل هذا المفهوم على الواقع، وأن يرى الناس كل الناس أن "المسلم أخو المسلم" [8] ، بغضِّ النظر عن أي اعتبارات غير شرعية، ومن الأخطاء المنهجية أيضًا التي ترد هنا الإحجام عن التعاون في أمور الخير والبر مع المخالفين، والصواب هو التعاون مع كل إنسان يريد عمل الخير ومع أهل السنة من باب أَولى؛ قال ابن القيم - ضمن الفوائد المستنبطة من صلح الحديبية -: إن المشركين وأهل البدع والفجار والبُغاة والظلمة، إذا طلبوا أمرًا يعظِّمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أُجيبوا إليه وأُعطوه وأُعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيُعانون على ما فيه تعظيم حُرمات الله تعالى لا على كفرهم وبَغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مُرضٍ له، أُجيب إلى ذلك كائنًا من كان، مالم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع أصعبها وأشقها على النفوس [9] . رابعًا: نشر العلم الشرعي: فضلًا عن أن تعلُّم العلم الشرعي وتعليمه عبادة يُثاب عليها صاحبها، فإن العلم الشرعي يقي صاحبه أيضًا من الوقوع في الفتن، فالفتن إذا أقبلت لا يعرفها إلا ذوو العلم، وإذا أدبرت عرفها ذوو الجهل؛ كما قال الحسن البصري رحمه الله [10] ، وللعلم الشرعي جزآن يكمِّل كل واحد منهما الآخر: جزء نظري علمي، وجزء عملي سلوكي. أ‌- الجزء النظري أو العلمي: وهو ما يتعلق بالأوامر والنواهي والأحكام الشرعية والفتوى ونحوها، والملاحظ أن القرآن الكريم مع أنه مصدر التشريع الأول، فإنه لم يأخذ حظه في خطاب أهل الدعوة خلال الفترات السابقة كما أخذت علوم أخرى، ينبغي أن يُعطى القرآن الكريم أولوية لا من حيث تلاوته وحفظه فحسب، بل من حيث تدبُّره وتأمُّل آياته، وغوص الفكر في معانيه، ناهيك عن أن كثيرًا من علوم الشريعة الأخرى متضمَنَّة بين دفتي الكتاب العزيز، قال ملا علي قاري الحنفي: "غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره" [11] . وقال ابن تيمية في آخر حياته: "وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن" [12] ، وعليه فإن على دُور تحفيظ القرآن ألا تكتفي بمجرد الحفظ، بل الواجب الوقتي يتطلب إضافة التفسير وشرح المعاني مع مراعاة أحوال المتلقين؛ قال ابن تيمية: والمطلوب من القرآن هو فَهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه، لم يكن من أهل العلم والدين" [13] . ب‌- الجزء العملي أو السلوكي: المقصود هو التركيز على جانب الرقائق والسلوك وأعمال القلوب، وأهمية هذا الجزء لا تقل عن أهمية الجزء النظري المشار إليه أعلاه، بل قد يكون أكثر أهمية، ولا سيما في الوقت الحالي؛ حيث وجود تيار شهواني ينتشر حول العالم بطريقة ممنهجة، وتُسن القوانين لحمايته [14] ، فالعلوم تتفاضل حسب واجب الوقت، وتراث أهل الإسلام ثري جدًّا في الجانب السلوكي والروحي دون الحاجة إلى اختراع قصص مكذوبة أو أحاديث موضوعة. ومن الأخطاء المنهجية اعتقاد أن الجزء العملي السلوكي أقلُّ من نظيره العلمي النظري، أو قسيم له، والصواب أنه مكمِّل له، قال ابن رجب: وكذلك أكثر السلف رضي الله عنهم يجمعون بين العلم بالله الذي يقتضي خشيته ومحبته والتبتُّل إليه، وبين العلم الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام [15] . بالجزء النظري يستطيع الداعية مجابهة تيار الشبهات أو الإلحاد، ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]، وبالجزء العملي الروحي يتمكن من مجابهة تيار الشهوات. خامسًا: واجبات أخرى: هناك واجبات وقتية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي وإن كانت بحاجة إلى تفصيل، فإنها تندرج ضمن ما تَمَّ ذكره أعلاه. هناك واجبان وقتيان يقعان ضمن واجب العلم الشرعي: الجزء النظري العلمي. الأول: توعية الناس من أجل الابتعاد عن الخرافات والخزعبلات والتكهنات التي تنافي العقل، ولا تَمُتُّ إلى الإسلام بصلة، وعدم نشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والقصص غير المسندة التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشارها بسرعة أكثر مما كان في السابق. والثاني: تصحيح العديد من المفاهيم المرتبطة بالإسلام وبنبي الإسلام عليه السلام؛ مثل الإرهاب والتطرف والجهاد وحقوق الإنسان، ووحدة الأديان والحجاب وحقوق المرأة، وحقوق الجاليات المسلمة في الغرب، والهوية (اللغة والتاريخ) ، وعلاقة العلم بالدين، وإن كانت هذه المواضيع وأمثالها قد أُشبعت طرحًا في خطاب أهل الدعوة، ولا سيما الخطاب المقروء إلا أن واجب الوقت يحتِّم إعادة طرحها بلغة غير اللغة التي طرحت بها سابقًا على أن يكون الطرح بنفَسٍ غير منهزم. وثَمَّ واجب وقتي يندرج ضمن العلم الشرعي : الجزء العملي، وهو التوجيه نحو بناء الأسرة المسلمة المتماسكة، بحيث يكون للمرأة دورٌ في تحقيق هذا الواجب، وهناك واجب وقتي يندرج ضمن واجب التآلف والاجتماع، ألا وهو الاهتمام بنصرة المستضعفين والمظلومين، ولا سيما من المسلمين، وهل "تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم" ؛ كما في الحديث [16] ، وقد كانت من وصايا النبي الكريم وهو يودِّع الدنيا "الصلاة وما ملكت أيمانكم" [17] ، وآخر هذه الواجبات هو الإعلام الجديد وأهميته، وتشجيع أهل الخير على ولوجه، وقد فعل الكثير منهم وأبدعوا، ولو قلنا: إن الإعلام الجديد هو الموجه الحقيقي للسياسة، لَما أبعدنا النُّجعة، والرواية الأدبية هي أحد أفراد هذا الإعلام، خصوصًا أن الكثير من هذه الروايات تُحَوَّل إلى أعمال سينمائية؛ مما يعني الوصول إلى جمهور آخر ممن لا يميل إلى القراءة، بل يحب المشاهدة. وممكن تلخيص كل ما سبق من واجبات في مضاعفة الجهود في بيان الحق ونشر الإسلام الصحيح، وذلك بكل الأساليب المتاحة والتقنيات المتوفرة بين أيدينا، والتركيز على المؤثر منها، ومما يساعد على معرفة المؤثر من غيره، هو الاهتمام بعلم الاستشراف والدراسات المستقبلية، وهذا العلم للأسف غائب عن الكثير من أصحاب الشأن في العالمين العربي والإسلامي، فضلًا عن العاملين في حقل الدعوة [18] . [1] ويطلق عليه أيضًا فقه مراتب الأعمال وفقه الأولويات. [2] الخطاب الدعوي هنا يقتصر على ما كان مكتوبًا أو مسموعًا أو مرئيًّا، ويخرج أي نشاط عملي في هذا الجانب. [3] خواطر عن القصة في القرآن الكريم، مجلة البيان، العدد 33. [4] مجموع الفتاوى (28/ 51). [5] انظر كيف نحيي رسالة المسجد للكاتب ص 61-:65؛ تطهير المسجد من التعصب الذميم. [6] مجموع الفتاوى (28/ 422). [7] جزء من حديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما. [8] جزء من حديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما. [9] زاد المعاد (3/ 269). [10] التاريخ الكبير للبخاري (4/ 322). [11] شرح الفقه الأكبر (ص 13)، ط مكتبة المدينة بباكستان، وقد نقله عن ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 417)، والمقصود بنوعي التوحيد: التوحيد العلمي الخبري والتوحيد الإرادي الطلبي. [12] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/ 519). [13] مجموع الفتاوى (23/ 55). [14] انظر تصريح بابا الفاتيكان - رمز الكنيسة - حول حق الشواذ في إقامة علاقة زوجية، وذلك في الواشنطن بوست بتاريخ 22/ 10/ 2020م. [15] مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (2/ 481). [16] صحيح البخاري من حديث سعد (2896). [17] سنن ابن ماجه من حديث أنس (2697). [18] حول الدراسات المستقبلية، تنظر رسالة الماجستير: الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الإسلامية؛ للمديفر 1427 هـ بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية.
العبث بالمركبة نعمةٌ من نِعَم الله تعالى على خلقه هي نِعمة الطمأنينة والاستقرار، وهي مسؤولية مشتركة بين الدَّولة ومواطنيها، والمقيمين فيها؛ الدولة تسعى، ومواطنوها يتجاوبون، هي تبحث عن السُّبل الكفيلة بتحقيق الاستقرار في النفوس، والمواطنون والمقيمون يدركون هذا السَّعي، ويتفاعلون معه إيجابًا. ونعمة من نِعم الله تعالى على خلقه، هي نِعمة المواصلات، التي مرَّت بمراحل عديدة معروفة، حتى وصلت إلى ما وصلَت إليه اليوم؛ حيث يتدخَّل عامِل السرعة في الوصول إلى النقطة المراد الوصول إليها، سخَّرها الله تعالى لعباده، وما كانوا لها مُقرِنين. السيارة نِعمة؛ هكذا ننظر إليها، هي وسيلة نَقل مريحة وسريعة في زمَن السرعة، وإنما وُجِدَت لذلك، وليس لغير ذلك، وأيُّ شيء خِلاف ذلك هو من العبَث، ومن العبَث ما قَتل! النفوس غالية، صعبٌ أن يقتلَها العبَث، ومن أوْدَى بنفسه إلى التَّهلُكة فحريٌّ به ألَّا يودِي بالآخرين مِن حوله إلى التهلُكة، والسيارة/ الوسيلة عندما يُساء استخدامها لا تفرِّق بين مَن أودَى بنفسه، ومن أُودي به إلى التهلُكة. مع الحفاظ على هذه النِّعمة التي تغبطنا عليها الأمَم السابقة، لو علمَت بما وصلنا إليه، وربَّما تغبطنا عليه الأمم اللاحقة، عندما تَعلم بما وصلنا إليه؛ فإنَّه من الملائم جدًّا تشديد العقوبة على مَن يسيء استخدام هذه النِّعمة، بالحرمان الوقتي منها، لا من ركوبها، فهذا غير وارد، ولكنَّه يُحرم من قيادتها، باستخدام أسلوب النِّقاط، التي تُعطى على كلِّ مخالفة، بحيث إذا وصلَت إلى الحدِّ الأعلى عُلِّقت رخصة القيادة لمدَّة كافية للاعتبار، مع تشديد العقوبة في التغريم بالمال؛ والذي لا يملك المال ليغرَم، لا يخالف ليغرَم، والذي يملِك المال ليس من حقِّه أنْ يخالف، ولو قدر على دفع الغرامة. إنَّه ربَّما كان مِن جَحْد النِّعمة إساءةُ استخدامِها، ويكفي أنْ يتصوَّر الواحد منَّا أنْ يحرم من هذه النِّعمة؛ قيادة وركوبًا، ماذا ستكون الحال عليه؟ إنَّ علماءنا الأفاضِل قد تفاعلوا مع هذه النِّعمة، وأعطوها حقَّها من التقدير، على أنَّها وسيلة سخَّرها الله لعباده، وهم يؤثِّمون مَن يفرِّط في استخدامها، من حيث النزوعُ إلى السرعة، أو مخالفةُ أنظمة السَّير، التي سنَّتها نظم السَّير في الدولة، فيما تتماشى حكمته مع أحكام الشريعة الإسلاميَّة، وليس في نظام المرور ما يخالِف الشرعَ، بل إنَّه مطلب شرعي، قبل أنْ يكون مطلبًا مدنيًّا؛ ولذلك نجد أنَّ الشرع - والقوانين الأخرى - يجرِّم القاتلَ بالسير، بحسب الحالَة التي حصَل بها القتل، على ما هو معلوم لدى الفقهاء والفقهاء القضاة. إنَّه لمن شُكر النِّعمة هذه - وهي من نِعم الله تعالى التي لا تُحصى - أنْ نخدمها كما هي تخدمنا، وأنْ نستخدمها الاستخدامَ الذي صُنعَت من أجله، وأنْ نسعى إلى الابتعاد عن أي مؤثِّر يحرفها عن طبيعتها التي صُنعت لها. فلا معنى لسِباقات السيارات القاتلة، ولا معنى للأفلام التي تَجعل من المطاردات في الشوارع عادةً لها، ولا معنى للأشرطة الكرتونية الموجَّهة للأطفال والشبَّان، التي تجعل من المتسابقين أبطالًا كالفاتحين، ولا معنى كذلك لترك السيارة دون تفقُّد دوري رسمي مؤهَّل ( الفحص )، يكفُل سلامتَها في سيرها، وقدرتها على أداء وظيفتها. لا معنى - أبدًا - للإخلال بأيِّ متطلَّب من متطلَّبات السلامة فيها، مما يحقِّق - في النهاية - الاستقرارَ لدى الناس، ويشعرهم بمتعة القيادة وركوب السيارة داخل المدينة وخارجها، بدلًا من أنْ يتحوَّل ذلك كله إلى حالة من الاستِنفار للذِّهن، والنظر، والأعصاب؛ توخِّيًا للسلامة، واتِّخاذًا لأسبابها، وفوق ذلك كلِّه توفيق الله تعالى، المقرون بفعل الأسباب، التي هي من متطلَّبات شُكر هذه النِّعمة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إلى إدراكها.
شعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، عربيٌّ بليغ فصيح، ينتسب إلى مدين بن مديان بن إبراهيم، أرسله الله نبيًّا إلى قومه أصحاب الأيكة، والأيكة شجرة كبيرة ملتفة كانوا يعبدونها، فعُرفوا بها، أما مكانهم فكانوا قريبًا من منطقة معان جنوب الأردن، وقد وُجد في تلك المنطقة آثار مشابهة لآثار الحِجر، وهم قوم صالح، لكنها أكثر فنًّا، وأجود صنعة، فهي لا شك لأمة أرقى منهم وأحدث. وكان قوم شعيب يسكنون في مكان له موقع تجاري مهم، ومنه جنوا أرباحًا كبيرة وأضحَوا تجارًا بين الجزيرة ومصر، وأصبح عندهم نهم للربح وجشع في البيع والشراء، وتسابقوا في تكوين الثروة غيرَ عابئين بالطرق المشروعة لجمعها، ولما تمادى غيُّهم وجمعوا بين الفساد العقدي والفساد الاجتماعي بحيث لا تستقيم مع هذه الأمور حياة الجماعة وانتظامها، وتختل الموازين وتسود الفوضى، وكما قال الشاعر: لا يصلُحُ الناس فوضى لا سراةَ لهم *** ولا حياةَ إذا جهالهم سادوا وقد اقتضَتْ حكمة الله تعالى أن يرسل على فترات رسلًا إلى الأقوام الذين بعدوا عن الطريق السوي: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، لقد قدَّس قوم شعيب الأيكة، وغشُّوا في السلع، ولعبوا بالموازين والمكاييل، فكان لا بد من إنذارهم للإقلاع عما يفعلونه قبل صب العذاب عليها صبًّا: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84]، فكان المرسَل إليهم شعيبًا، وذكَّرهم بما يجب فعله ليعودوا إلى جادة الصواب؛ عبادة الله وحده، وعدم إنقاص الكيل والميزان، وقال لهم: لا حاجة بكم إلى التطفيف والإنقاص؛ فأنتم بخير ومالُكم وفير، فلماذا تفعلون هذا؟ وهل هناك عاقل يحب أن يكثر ماله من الغش والحرام، ولماذا المال الكثير فوق الحاجة؟! فالإنسان ليس له من المال إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى، والزائد عن هذا ليس له، وإنما هو لورثته، وعلى الجاني المحاسبة، إن كان من طريق مشروع، أو من الغش والسرقة، فماذا كان جواب قومه؟ إن الذين استمرؤوا أكل المال الحرام، وفتحت بطونهم للجشع، قلما يُصغون للنصائح، بل يعُدُّونها تدخلًا من الناصح فيما لا يعنيه، وفضولًا ليس له من دافع سوى الحسد، ولما رأى الإعراض أعاد عليهم النصح بأسلوب آخر، فيه تذكيرهم بأنهم قومه، ولهم عليه واجب النصح: ﴿ وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [هود: 85، 86]؛ فإفسادهم لم يكن في بلدهم؛ فقد شمِل بلدانًا أخرى؛ لأنهم كانوا يتعاملون بهذه الأخلاق مع المارين والمسافرين والتجار من البلدان الأخرى، فكانوا ﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 2، 3]، ويحسَبون هذا التلاعب من باب البراعة في التجارة والحنكة، ولم يدروا أن الحنكة التجارية هي في الصدق، وسلامة البضاعة، ودقة المكيال والميزان، فلا بركة للمال إلا بهذا، ولا ينمو المال من السحت والحرام إلا ليحرق أصحابه، ويزيد من عبء حملهم الثقيل يوم القيامة. أخرَج الترمذي عن عبيدالله بن رفاعة، عن أبيه، عن جده: أنه خرَج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجارَ يبعثون يوم القيامة فجَّارًا، إلا من اتقى الله وبَرَّ وصدَق))، وعن أبي سعيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجرُ الأمين الصَّدُوق المُسلِم مع الشهداء يوم القيامة))؛ أخرجه ابن ماجه. لكن الذين يجمعون من المال ولا يشبعون كأنهم الهِيم العطشى لا يصغون لمثل هذه النصائح التي تصادم نهمهم وأطماعهم، وجوابهم في كل العهود واحد: ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، هذا مبدأ الحرية المطلقة الفاشلة، التي يتصرف فيها الفرد وفق هواه ومصلحته من غير مراعاة لما ينتج عن هذا التصرف من أضرار على قومه وبلاده، ويلاحَظ من رد قوم شعيب عليه السخريَّة والتعالي في كلامهم: أصلاتك تأمرك بتقديم هذه النصائح؟ وتظن نفسك أنك وحدك في هذا المجتمع الحليم الرشيد، عندنا الكبار والعقول وأهل الحِلم وأهل الحل والعقد، ولو كنا على خطأ من أمرنا لوجهونا إلى الصواب وهم أقدر منك على ذلك، وهكذا فهذه لغة كل عصر عندما يتعامل الناس وفق منهج معين وفيه مخالفات من أكل الربا، كما في البنوك الربوية، وفيه ضياع لحقوق قطاع كبير من الناس، وفيه إتلاف لأموال الأمة، فإذا كان النظام يجيز هذا في البلد فهو النظام الحق، طالما أن كبار القوم قد أقروه، هذه لغة المنافع لعصبة من الناس، فإذا أراد أن يقومها مصلح استصغروه وسخروا منه، ولكن رسل الله الذين كلفوا بالدعوة لهم صفة الجدال بالحق، وعدم الانكفاء حسرة على ما يرونه من سفاهة السفهاء وصد الأشقياء من الصدمة الأولى؛ لأن الله اختارهم من أهل الصبر والتحمل والقدرة على تنويع أسلوب الدعوة، فكان جوابه لهم يحرك العقل ويستثيره: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ [هود: 88] أرأيتم إن كنت على حجة واضحة لا شك في صحتها، ورزقني الله مالًا حلالًا من كسب حلال، أترون أني أشوبه بالمال الحرام وأخلطه به، لماذا أفعل هذا؟ إن فعلت هذا أكون جاهلًا بعيدًا عن التفكير السليم: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، فهل تظنون أني أنهاكم عن شيء ثم أفعله وأرتكبه؟ معاذ الله، فأنا أشد منكم تطبيقًا لما أقول؛ فالحلال حلال لي ولكم، والحرام حرام علي وعليكم. بهذا البيان الرائع وختامه الرشيق بعبارات لم يسبق إليها من قبل: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]؛ لذلك ضمنها الخطباء خطبهم فيما بعد، ثم تابع شعيب توجيه كلامه ليُحدِث عندهم قدرًا من الاستجابة ومكانًا في أفئدتهم لوقع كلامه عندما هز مشاعرهم بذكر الأمم البائدة التي تعرضت لغضب الله: ﴿ وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]، فبعد أن مر على ذكر ما أصاب الأمم البعيدة العهد لم ينسَ ما حل بجيرانهم قوم لوط، ولمَّا يمضِ عليهم زمن بعيد، ثم ندبهم إلى التوبة والاستغفار؛ لأن الله غفور رحيم: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90]، فهل نفع معهم هذا التذكير؟ وهل وجدت خطب شعيب البليغة وعظاته المؤثرة طريقها إلى القلوب فتابوا وآبُوا وعادوا إلى طريق الرشاد؟ لقد عادوا مرة أخرى للرد الساخر، وتقمصوا دور ذوي البله المصطنع: ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91]، فشفعوا السخرية بالتهديد برجمه بالحجارة، ولكن الذي منعهم من رجمه رهطه؛ أي: إن شعيبًا لم يكن غريبًا في قومه، بل إن له عشيرة تمنعه منهم، ألم يقل لوط من قبله: ﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]؛ أي: عشيرة تمنعه؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحمة الله على لوط؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد، يعني الله عز وجل، فما بعَث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه))، ولكن شعيبًا لم يعبأ بهذا التهديد، بل مرره كأن لم يسمعه، وتابع جداله معهم بالتي هي أحسن: ﴿ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [هود: 92]. لكنَّ شعيبًا كان أكثر حظًّا من لوط، فقد آمن معه عدد من ذوي العقول الناضجة بالرغم من تهديد المتنفذين ووعيدهم بالنكال، فكان مما نهاهم عنه شعيب: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [الأعراف: 86، 87]. وضاع التذكير بنعم الله في خضم الغوغائية المتسلطة، التي تملِك التجارة والمال ولها المصلحة الأولى في إبعاد الأمة عن الطريق السوي، والإيمان الذي يسكن القلوب كفيل بإحداث تغيير في الأخلاق والسلوك، وأخذِ هذه القلوب إلى المثالية والإصلاح، وبالتالي فإن كل الأخطاء الأخلاقية لن تحل إلا بالإيمان، والمؤمن لن يتحرك إلا ضمن شرع الله، وفي رضاء الله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، فلا غشَّ ولا إنقاص في الكيل أو الميزان، ولقد دافع أصحاب المصالح عن مكاسبهم غير المشروعة بكل ما أوتوا من قوة: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف: 88]، وهنا قرر المفسدون في الأرض إخراج شعيب والذين آمنوا معه إن استمروا في دعوتهم ولم يتراجعوا عنها؛ لأن الاستمرار في الدعوة معناه ازدياد الداخلين في الإسلام، وخلخلة النسبة المرتفعة للأغلبية الضالة، فإذا كان التهديد السابق بالرجم والتصفية الجسدية، وأخذهم رهط شعيب بالحسبان قد أوقف تنفيذ التهديد والتصفية الجسدية له، فقد هددوه في هذه المرة، إما الإبعاد أو التخلي عن الإيمان والأفكار المناهضة لإرادة الأغلبية الضالة، ولعل قبول أحد هذين الخيارين لا يثير عليهم رهط شعيب، لكن شعيبًا ليس بالضعيف الذي تهزه التهديدات؛ فقد وهَب نفسه للدعوة في سبيل الله، فإن من الخطأ الظن بأن يتراجع صاحب الحق عن حقه مهما كانت الصعاب، من يدعي الحق ثم يتراجع عنه أو عن بعضه فإنه كاذب في دعواه، ويتخذها سلمًا للوصول لهوى في نفسه: ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [الأعراف: 89]، ومرة أخرى يختم خطابه بأسلوب بياني رائع، كأنما يخط لمن بعده نهجًا جديدًا في الخطاب الدعوي: ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 89]، ولما لم يجِدْ منهم إلا الصد ومحاولة طرده هو ومن آمن معه من ديارهم، قال لهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ [هود: 93]، وهنا تركهم يتحملون مسؤولية ضلالهم، وأنه تكلم بما فيه الكفاية، فابقوا كما أنتم، وسأبقى كما أنا أقوم بدعوتي، وسوف نرى من يأتيه العذاب الذي يخزيه ويظهر كذبه. لكن قوم شعيب ساروا على منهج من كان قبلهم من أهل الضلال، فاستعجلوا العذاب: ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 187]، وقد اختاروا عذابًا كسفًا وهم يظنون استحالة هذا النوع من العذاب؛ لأنهم لم يروه في حياتهم، لكن رب العالمين سيحقق لهم ما طلبوه: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189]؛ فقد جاءهم يوم حار لم يطيقوه، ثم ظهرت في السماء غمامة ظللت أرضهم، فخرجوا جميعًا لفيئها، فانقلبت لهيبًا أحرقهم كأنها غبار بركاني خرج من فوهة بركان فغطى تجمُّعَهم وإذا بهم أشلاء محترقة تخرج رائحة الشواء من أجسامهم المنتنة: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 90، 91]، ونجَّى الله شعيبًا والقلة المؤمنة، ونظر شعيبٌ إلى قومه وهم يتقلبون في العذاب غيرَ آسف لما حصل لهم، وقال: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 93]. وقد ورد تعذيبهم وأخذهم بيوم الظلة، كما ورد بالرجفة، وهذا ما دعا بعض المفسرين إلى القول بأنه أرسل إلى أمتين؛ مدين وأصحاب الأيكة، فمنهم من عذبه الله بيوم الظلة، ومنهم من عذبه بالرجفة، والصحيح أنهم أمة واحدة، نسبوا مرة إلى المكان "أصحاب الأيكة" شجرة كبيرة قدسوها واستظلوا تحتها، وتارة نسبوا إلى رأس القبيلة "مدين"، أما العذاب فهو نوع واحد، فالظلة أي الرماد البركاني الحارق لا يخرج إلا إذا ثار البركان ثورة عنيفة وقذف هذه الظلة؛ لذلك كانت الرجفة من ثورة البركان، ثم تحريقهم بهذه السحابة التي خرجت من جوف البركان. وقد ورد في قصة موسى عندما توجه تلقاء مدين أنه التقى بشعيب وهو شيخ كبير له ابنتان، تزوج موسى إحداهما، ولكن أشك في أن يكون الذي التقاه موسى شعيبًا، فلم يذكر موسى شيئًا عن دعوته خلال إقامته عنده عشر سنين، كما أن حالة ابنتيه ووقوفهما حتى يصدر الرعاء فيسقين أغنامهما ولا يساعدهما أحد إكرامًا لوالدهما النبي شعيب شيء غريب وغير معقول، والقول بأنه أخو شعيب أو من أحفاده وكان على دينه هو أقرب للصواب؛ لأن شعيبًا قد مات قبل عهد موسى بسنين طويلة، ولا يعقل أن تكون نهاية شعيب المكوث في البيت منزويًا وتخدمه ابنتاه ويعيش على الرعي عيشة البداوة وهو الذي كان يجادل قومه ويأمرهم وينهاهم. وادعى بعض المفسرين أن شعيبًا كان أعمى، وهذا لا سند له، ومخالف لسنة الله في أنبيائه أنهم من خيرة الناس خلقًا وبيانًا وفصاحة وصبرًا وحلمًا وسلامة بدنية وعقلية، وإن أي نقص بدني في الرسل سيعرضهم إلى نقد المخالفين وهجومهم، واتخاذهم مثلًا على ضعف خالقهم الذي أرسلهم وهم بهذه العلة، وسيشتدون عليهم بالنقد، ألا ترى أن الله حين بعث طالوت لبني إسرائيل وكانوا مؤمنين لم يرضَوْا به لعلة فقره، ولولا أن زاده بسطة في العلم والجسم وأيده بالمعجزات لما قبلوه، وفي روضة المحبين عن علي رضي الله عنه قال: "لما كان الجمال من حيث هو محببًا للنفوس معظمًا في القلوب لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الصورة حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت".
نحو خطاب دعوي متّزن في الأزمات نظرات في تعليق القرآن على غزوة أحد من الأمور المهمّة في أوقات الأزمات حضور الخطاب المتّزن الذي يُعِين على التعامل معها وتجاوزها، وهذه المقالة تستعرض أهم سمات هذا الخطاب من خلال تعليق القرآن الكريم على غزوة أحد. لا يخلو مجتمع من أزمات، وغالبًا ما تولِّد الأزماتُ خطاباتٍ دعويةً إصلاحيةً، ولكنْ فرق بين خطاب متّزن يُعِين على التجاوز والتخطّي، وخطاب غير متّزن يُربِك مستمعيه ويولِّد أعراضًا جانبية لا تنتهي بانتهاء الأزمة، والخطاب المتّزن هو الخطاب الذي يعتمد على مصادر التلقي الصحيحة ويعطي كلّ مسألة أو قضية قدرها بلا طغيان أو استخفاف، ويستند على علم وحكمة واعتدال؛ فيراعي المقاصد والكليات ولا يضيع المفردات والتفصيلات أو يُغرق فيها الجماهير، ويراعي المصالح والمفاسد والمآلات والعواقب؛ فيسلم بذلك من الاضطراب. ولا صلاح للأرض إلّا بصلاح الإنسان المكرَّم من قِبَل الله، وتأثير الكلمات عليه أكثر مما نتصوّر في تشكيلِ أفكاره ووعيه، ولا تقف الكلمات في الآذان وإنما تتحوّل إلى سلوك وعمل بشري بقصد أو بغير قصد، وقد أنزل اللهُ كتابَه الكريم هدًى وبيانًا، ومن ثم كان الرجوع إليه دومًا هو صمّام الأمان في كلّ القضايا، وفي هذه المقالة نحاول بيان جانب من سمات الخطاب المتزن في وقت الأزمات من خلال تأمّل القرآن الكريم وتعليقه على غزوة أحد والتي كانت مصيبة كبيرة دهمت المسلمين كما سنبيّن، وذلك بعد أن نُلقي ظلالًا عامّة على أهمية الخطاب المتّزن وقت الأزمات وأثر العود للقرآن في ذلكم الصدد. الخطاب المتّزن وقت الأزمات؛ أهميته وخطورة غيابه وأثر العود للقرآن في تكوينه: من أعظم ما يوفّره الخطاب المتّزن في أوقات الأزمات هو حفظ الأعمار من الضياع والتخبط، فكم من فكرة أضاعت أعمارًا من شباب الأمة سيقت إليهم في خطاب غير متّزن يضخّم قضايا ويوهم بعظائم ويُنسِي أصولًا وثوابت، وكم خطابات متّزنة كانت نورًا ورحمة للأمة في لحظات حرجة ومفترق طرق؛ كخطاب الصدّيق أبي بكر في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-. كذلك يوحّد الخطابُ المتزن الصفَّ وقت الأزمة، ولا نبالغ لو قلنا: مزّقتنا خطابات أحادية لا ترى الأزمة إلا من زاوية واحدة ولا ترى المخرج إلا في عمل واحد، وتأبى طبيعة الأزمات ذلك فتزداد الفُرقة والتنازع ويحلّ الفشل، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]. وأيضًا يولِّد الخطاب المتّزن الثقة في الدعاة والعلماء، وينعكس ذلك على الثقة بما يحملون من شرع ودين، والخطاب غير المتّزن قد يولِّد الاتهام والطعن، وتأمل في نظرة الجماهير لمن يطالبهم بالواجبات على طول الطريق دون أن يعلمهم ما لهم من حقوق، فإن سلم من الطعن لم يسلم من تشويه المستمع معرفيًّا أو بناء تصوّر غير تام عن الإسلام. إنّ الخطاب المتّزن ساعة الأزمات يرتقي بالفهم ويرتقي بالذائقة ويدفع للعمل الصحيح والمناسب. وعلى العكس في المجتمعات التي يغلب عليها الخطاب غير المتّزن تكثر المقولات الجاهزة وتُستدعى في كلّ الأزمات، ويقع الإفراط في التبكيت أو التبشير مما تجد الجماهير معه بصورة عامة في حالة عجز وهمود وانتظار للمخلِّص وغرق في المبشِّرات وتغنٍّ مفرط بأمجاد الماضي، دونما عناية بتحليل أسباب الأزمة وكيفيات التعاطي معها ومجاوزتها. ولا شك أن حاجة الخَلْق إلى القرآن فوق كلّ حاجة ويشتدّ ذلك الاحتياج في أوقات الأزمات لأمور، أهمها: أولًا: طبيعة الأزمات: وما يصحبها غالبًا من إرباك في الرؤية واضطراب في ترتيب القيم وتحديد الثوابت والاختلاف والتباين في تحديد الأهداف، وقد شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأزمات والفتن بقِطَع الليل المظلم، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بادروا بالأعمال فِتنًا كقِطَع الليل المظلم» [1] . ثانيًا: طبيعة الإنسان: وما يلازمه من عجلة وهوى وبالأخصّ في أوقات الأزمات بحثًا عن الخروج من هذه الوضعية، قال تعالى: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]. مع ما جُبِلَت عليه النفوس من ضعف ووهن مهما علَت، قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]؛ يشمل ذلك ضعفًا في خلقه من ماء مهين، وقلّة صبره، وضعف عزمه وعلمه. ومن هاهنا كان الإنسان في مثل هذا بحاجة لمصدر علوي يرتبط به فيعينه على ضبط بوصلة التفكير دون تشتت، ويحفظ عليه القيم الرئيسة التي لا تتبدّل والثوابت التي لا تتغير، ويحدّد له معالم الطريق. وهذا المصدر العلوي هو القرآن الكريم، كلام الله تعالى الذي أنزله للإنسان رحمةً وهدًى. وإنّ من رحمة الله بنا إنزال القرآن مفرّقًا عبر الوقائع والأحداث، بحيث يستطيع العبد في أيّ زمان أن يتساءل كيف كان خطاب القرآن للمسلمين في أوقات الأزمات ويقيس عليه واقعه، وبالتالي يستطيع أن يكوِّن الخارطة المناسبة للتعامل مع الأزمة. والقرآن في الأزمات يجعلك ترى الصورة كاملة دون الغرق في الجزئيات، فيصرف نظرك إلى الملك -جلّ وعلا- ويعلّقك به بتأمّل مخلوقاته الكونية الكبرى؛ كخلق السماوات والأرض، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، ويُذكِّرك بمركزية الآخرة وأنّ مشاهد الدنيا غير مكتملة؛ فيربط بين الحال والمآل. ويأتي بصنيع شبيه بصنيع أمة الإسلام من الأمم السابقة، ويربط المشهد بما في القلب من عبودية أو التفات، ويُذكِّر كلَّ أطراف الأزمة بما لهم وما عليهم، ويُذكِّرك بالسنن ويدفع للعمل، ويربط على القلب بحنوّ ويطمئنه، كلّ ذلك بأقصر لفظ يجمع بين الإمتاع والإقناع، ومن هاهنا كان العود للقرآن ضروريًّا في محاولة بناء ملامح الخطاب الدعوي المتّزن وقت الأزمات، وهو ما سنحاول القيام به عبر التأمل في الآيات التي نزلت تعليقًا على غزوة أحد بصورة خاصة. لماذا غزوة أُحُد؟ كان يوم أُحُد يومًا عصيبًا على النبي وصحابته الكرام حتى صار مثلًا يُضرب في شدّة الابتلاء، وقد سمَّى اللهُ تعالى ما أصابهم في هذه الغزوة من قتلٍ وجراحاتٍ مصيبةً. ولقد كان من بِدَايات ابتلاءات غزوة أُحُد ومصيبتها ما فعله المنافقون من التخذيل والإرجاف، وانسحابهم من الجيش في ساعة حرجة عصيبة، وما حدث من الرماة أن بارحوا أماكنهم واشتغلوا بجمع الغنائم، فالتفَّتْ خيَّالة المشركين عليهم من ورائهم؛ إذ خالفَت الرماة عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذون الأمتعة، وكرَّ الناس منهزمين، فصرخ صارخ يَرَوْنَ أنّه الشيطان: ألَا إنَّ محمَّدًا قد قُتِل، فأعظم الناس، وركب بعضهم بعضًا، فصاروا أثلاثًا: ثلثًا جريحًا، وثلثًا مقتولًا، وثلثًا منهزمًا. ونال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نصيبه من ابتلاءاتها ومصيبتها؛ فجُرح -صلى الله عليه وسلم- وكُسرت رباعيته، وهُشمت البيضة على رأسه، فجَعَل يسلت الدم عن وجهه، ويقول: «كيف يُفلِح قومٌ شجُّوا نبيَّهم» [2] . وقد نزل القرآن ليعلِّق تعليقًا مطولًا على هذا اليوم الشديد، مما يستوجب الوقوف على تعليق القرآن لبيان ملامح الخطاب الدعوي الذي وجهه للمجتمع في هذه الأزمة، وكيف كان سببًا في إعانتهم على مجاوزتها وتخطّيها وحسن التعامل معها، وبيانه كالتالي: سمات الخطاب المتزن في تعليق القرآن على غزوة أحد: أولًا: خطاب يجمع بين رفع المعنويات والتذكير بالخطأ: إنّ العدل يقتضي أن يعاقَب المخطئ أو يعاتَب، لكن الرحمة تقتضي النظر إلى الأمر بصورة أشمل والنظر إلى العواقب وأثر الكلام على النفوس. ومن أعظم مصائد الشيطان التيئيس والحُكم على النفس بالسوء، وإذا تمكن ذلك من العبد قاده إلى الانعزال وترك الأعمال؛ ولهذا كان خطاب القرآن، وإنْ ذكَّر بالخطأ بوضوح، إلّا أنه يرفع المعنويات في الأزمات بصورة ظاهرة ويلحّ على ذلك: قال تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]. قال القرطبي: «ومعنى أنْ تفشَلا: أنْ تَجبُنَا، وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سَلِمَة، وما نُحِبُّ أنها لم تَنزِل؛ لقول الله -عز وجل-: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾» [3] . وتأمّل هاهنا فرح جابر بعتاب مليء بالتحبُّب والوُدّ وتقبُّل الضعف البشري. يقول تعالى أيضًا: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]. قال القرطبي: «عزّاهم وسلّاهم بما نالهم يوم أُحُد من القتل والجراح، وحثَّهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل، فقال: ﴿ وَلَا تَهِنُوا ﴾ أي: لا تَضعُفوا ولا تَجبُنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لِمَا أصابكم، ﴿ وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة، ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ﴾، أي: لَكُم تكون العاقبة بالنصر والظفر، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، أي: بصِدْقِ وَعْدِي» [4] . قال السعدي: «يقول تعالى مشجِّعًا لعباده المؤمنين ومقويًا لعزائمهم ومنهضًا لهممهم: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾، أي: ولا تهنوا وتضعُفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتُليتم بهذه البلوى؛ فإنّ الحزنَ في القلوب والوهنَ على الأبدان زيادةُ مصيبة عليكم، وعونٌ لعدوكم عليكم، بل شجِّعوا قلوبكم وصبِّروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلَّبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقِّن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك؛ ولهذا قال [تعالى]: ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾» ثم تأمّل التوبيخ على الخطأ الذي بيّنه السعدي، فقال: «ثم وبّخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودُّون حصوله، فقال: ﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ﴾، وذلك أنّ كثيرًا من الصحابة -رضي الله عنهم- ممن فاته بدرٌ يتمنون أن يُحضِرهم الله مشهدًا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: ﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ﴾، أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم، ﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾، فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصًا لمن تمنَّى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك» [5] . وهكذا يَبْنِي الخطاب القرآني نفسًا سويةً تستطيع رؤية الأزمات بلا مبالغةٍ أو جَلْدٍ للذات وإهدار الكرامة. قارِنْ ذلك مع خطاب آخر في الأزمات يُنسِي الإنسانَ كرامتَه من كثرة التبكيت والتهديد والذمّ؛ ولهذا ينبغي على الدعاة أن يرفعوا المعنويات وأن لا يُكثروا من التبكيت الذي قد يصل أحيانًا إلى حدود إهانة المستمع، والأسوأ لو كان الداعية صغير السنّ يخاطِب مَن هم أكبر منه عمرًا، وأنْ لا تخلو القلوب من رحمة بالمخطئ وأنْ يصله منّا معنى الحرص عليه وحبّه ممتزجًا بالعتاب على التقصير. ثانيًا: خطاب يجمع بين البشارة والدافعية لأداء العمل: إنّ الخطاب الذي يكتفي أنْ يوصل للمستمعين أنّ تمكين الأمة أمرٌ حاصل، ولا يؤكّد أن ذلك مرتبط بفعلهم وعملهم =خطابٌ أعرج غير متّزن يولِّد الاتكال وينمّي الأوهام ويخدع العقول إذا خلا من المطالبة بالأعمال الموصلة. وكما أنّ النفوس تحتاج إلى بشارة تحتاج أيضًا إلى من يوضح لها السبيل للوصل إلى تلكم البشارة، وهذا هو مقتضى سنن الله في الخلق (قانون السببية). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، واللهُ خالق الأسباب والمسببات» [6] . لذا فالخطاب المتّزن في وقت الأزمة يبشر ويدفع للعمل في ذات الوقت، وتأمل في آيات غزوة أحُد كيف قال تعالى: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151]. يقول ابن كثير: «ثم بشّرهم بأنه سيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلّة لهم، بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادّخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال» [7] . وكذلك قال تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: 140]. يقول السعدي: «فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم تَرجون من الله ما لا يَرجون». ويقول تعالى: ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140]. يقول السعدي: «لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم» [8] . هذه بشارات واضحة، ويشمل الخطاب أيضًا أوامر لا تقلّ وضوحًا عن البشارات. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران: 156]. وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149]. يقول ابن كثير معلقًا: «يحذِّر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإنّ طاعتهم تورث الرّدَى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149]» [9] . وتأمّل هاهنا كم مِن خطيبِ أزمةٍ يَكتفي بذكرِ المبشِّرات لأمة الإسلام، وكأنها مبشِّرات بدون مقدِّمات، وكأنّ المطلوب من الأمة أن تكمل نومها وتنتظر الفرج انتظار العاجز الخالي من العمل. فعلى الدعاة أن يُذَكِّروا الأمة بالمبشرات القرآنية والنبوية، وربط ذلك بأسبابها، وأن تكون هذه الأسباب داخل دائرة قدرتهم ومسؤولياتهم كمخاطبين، وأن تشتمل الأسباب على الأسباب الظاهرة العملية والباطنة القلبية، وعلى الدعاة أيضًا أن لا يربطوا كلّ النتائج على سبب واحد، فهذا وهمٌ محال، وأن لا يعلِّقوا الخلق بالأسباب بل بالله وحده مع الأخذ بالمقدور من الأسباب. ثالثًا: خطاب موجّه للحاكم والمحكوم: إنّ صلاح المجتمعات لا يقوم على الحكّام وحدهم وإن كانوا جزءًا كبيرًا من معادلة التغيير والإصلاح، ومطالبة الجماهير بما عليهم دونما أن نذكِّرهم بما لهم يُفقد الدعاة قدرًا من المصداقية، وقد يكون تأييدًا للظَّـلَمة خفيًّا، وكما خاطب الإسلام المحكومين بالصبر خاطب الحكام بالعدل، وغالب الأزمات تكون فيها المسؤولية على الجميع فالكلّ يحتاج إلى نصيب من الخطاب، وهذا ما كان في خطاب غزوة أحُد. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 121]. وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. يقول السعدي: «﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ﴾ أي: سيئ الخلق، ﴿ غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾ أي: قاسيه، ﴿ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾؛ لأنّ هذا ينفِّرهم ويبغِّضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدّين تجذب الناس إلى دين الله وترغّبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاصّ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدّين تنفِّر الناس عن الدين وتبغِّضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذمّ والعقاب الخاصّ» [10] . فعلى الدعاة أن يراعوا في خطابهم أن يكون موجهًا للحكام والمحكومين، لا سيما إن كان مسموعًا واصلًا للحكام، ولا يعني ذلك الغفلة عن كلّ الضوابط التي ذكرها العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مراعاة القدرة والعجز والاستطاعة، وقد يكون الإشارة إلى ذلك ضمن الخطاب ولو بقصة أو نموذج يشير أنّ صلاح المجتمع يقوم إجمالًا على صلاح الحاكم والمحكوم. رابعًا: خطاب يبني القيم ويضرب النماذج: قد لا يُصلِح الناسَ خطابُ (يجب/ ينبغي) بقدر ما يصلحهم خطاب (كيف) الذي يوضح السبيل إلى المطلوب، وهذا النمط من الخطاب الذي يركز على الـ(كيف) يُعين على تحقيقه ذكر النماذج العمليّة وبيان كيفيات التطبيق. ففرق بين أن نكلِّم الشباب عن أهمية الخشوع في الصلاة، وأن نكلمهم عن (كيف يحققون ذلك). يأتي النموذج ليوضح كيف الطريق إلى القيمة مع ما يعطي للنفس من قوة على التطبيق ووضوح للمطلوب، وهذا ما قدّمه خطاب القرآن في غزوة أحُد. ويقول تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. حثّ على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم؛ ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ﴾ أي: وكم من نبي، ﴿ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ أي: جماعات كثيرون مِن أتباعهم، الذين قد ربّتْهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك، ﴿ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ﴾ أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلّوا لعدوّهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [11] . مع أزمات المجتمع قد لا يتصور العقل فعلًا آخر يصلح القيام به، فيحتاج إلى الإشارة إلى القيمة مضافة إلى إنسان ونموذج قائم بالأمر، فهذا يسهّل له الاقتداء والامتثال، فعلى الدعاة أن يتكلموا عن القيم مع الإشارة إلى النماذج التي مُلِئ بها القرآن وجاءت بها السُّنة، وأن لا يكون طلب الناس بالقيم عاريًا عن النماذج، فيظنوا أنّ ما يُطلب منهم محالٌ ومثاليةٌ لا تطبَّق في دنيا الناس. خاتمة: إنّ الخطاب القرآني خطاب شديد الثراء وينبغي التأمل فيه دومًا لاستخراج كنوزه وأسراره وهداياته في مختلف جوانب الحياة. وقد يستطيع المتأمّل فيه استخراج قواعد وسمات أكثر من ذلك في التعامل مع الخطاب الدعوي في أوقات الأزمات، لكن ما قمت به هو مجرد محاولة في هذا الباب، وإشارة فقط كي ننتبه إلى خطابنا الدعوي في الأزمات وما ورثناه من خطابات قد تحتاج إلى محاكمة لا تخلو من إنصاف، وإدراك أهمية العودة لفهم وتدبّر كتاب الله لتحقيق التوازن وتحقيق البلاغ المبين الذي أمرنا به فننجو بذلك من الأزمات ويصلح مجتمعنا ويحقق مراد الله، نسأل اللهَ العظيم أن يرفع شأن أمّتنا ويعينها على أزماتها. [1] صحيح مسلم بشرح النووي، (118) (1/ 116)، ط. دار العقيدة. [2] صحيح مسلم بشرح النووي، (1791) (6/ 122). [3] الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، (5/ 285)، ط. مؤسسة الرسالة. [4] الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، (5/ 333). [5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، ص130-131، ط. مكتبة الصفا. [6] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، د/ عبد الكريم زيدان، ص22، ط. مؤسسة الرسالة. [7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (2/ 95)، ط. المكتبة التوفيقية. [8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص131. [9] تفسير القرآن العظيم، (2/ 93). [10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص135. [11] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص132.
أسرار البحار فى القرآن الكريم ظلمات وأمواج البحر اللجي في المثل القرآني أ- عظة فى مثلين : يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوكَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ [النور: 39 - 40]. مثلان ضربهما الله تعالى للكفار، الأول للكفار الذين يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد الباحث عن الماء إلا سرابًا. وقال ابن كثير أن هذا المثل للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يعتقدون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء. والمثل الثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم الأغشام المقلدون لأمة الكفر الذين يتيهون في ظلمات متعددة متراكبة. جدول(-21): البحر اللجى والبيئات البحرية. 1- أسم البيئة البحرية القاع بالمتر مسمى قاع البحر الحياة البحرية الحياة البحرية الساحلية: ( Littoral ) أعلى –أدنى مد بحري الرصيف القاري ( جانب البر): ( Continental Shelf) غنية بالكائنات السابحات والقاعيات التحت الساحلية: ( Sublittoril ) صفر - 200 المحيطية: (Oceanic ) 200 - 4000 المنحدر ( Slope ) تنتشر على سطح الماء العوالق الُلجيِة: ( Abyssal ) 4000 - 5000 السهل اللجي ( Abyssal Plain ) العوالق النباتية والحيوانية السحيقة ( الأغوار ) Hadal ) ) 5000 - أكثر من 10000 الغور ( Trench ) تمد الجو50% من الأكسجين والعوالق مصدر رئيسي لبترول العالم وتمثل العبرة من المثلين موعظة للمسلمين بألا يغتروا بأعمال الكفار مهما عظمت لأنها سراب وظلمات تورد صاحبها مورد الهلاك. ويلاحظ التوافق بين الباطل الذي ورد في سورة الرعد التى أشرنا إلينا من قبل ومثل عمل الكافر الذي ورد في سورة النور، فالزبد هناك يقابله سراب هنا، والخبث فيما يوقد عليه من نحاس وفضة وذهب ابتغاء الحلية والمتاع يقابله هنا ظلمات البحر. ب : المعالجة العلمية لظلمات البحار : في المثلين الثابقين، تشير آية سورة النور إلى مفردات علمية دقيقة متعلقة بالسراب، وظلمات البحر، لجية البحر، والأمواج التحتية والفوقية. ويعنينا هنا الإعجاز العلمي المتعلق بالبحار. ونود أولا التأكيد على أن خصائص البحر التي أشارت إليها الآية لم تكن معروفة حتى عهد قريب في القرن العشرين إلا حينما رُسمت خرائط قيعان البحار. وهذا الإخبار من القرآن نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يركب البحر قط، وما كان غواصا يملك ما نملكه من غواصات وأجهزة متقدمة ندرس بها البحار اللجية. شكل ( 1-57 ): البيئات البحرية الحديثة مشتملة بيئات الحياة البحرية والمحيطية واللجية والأغوار  ( Clarkson ، 1993 ). اكتشف العلماء أن البيئات البحرية تتنوع باختلاف عمق الماء (شكل1- 57) وأن عمق نطاق الضوء ( Photics ) يمتد من مستوى سطح البحر حتى عمق 200 متر. وتحت هذا العمق يصبح البحر مظلمًا، ويصل عمق البحر في الأخاديد البحرية إلى ما فوق العشر كيلومترات. ويبدأ البحر الُلجيْ ( Oceanic ) مع ظلمات البحر تحت عمق 200 متراً (جدول 1-2). ويختلف امتصاص ألوان طيف الضوء باختلاف عمق الماء، فعلى عمق 30 مترا لا يرى اللون الأحمر، وعلى عمق 50 مترا يبدأ امتصاص اللون الأصفر، وعلى عمق 100 متر يمتص اللون الأخضر، وتحت عمق 200 متر يمتص اللون الأزرق. ووصف القرآن لبحر لجي وصف معجز ذودلالتين: الأولى أن كل البحار ليست لجية، والثانية أن مفهوم البحر الُلجيْ لم يتضح إلا في القرن العشرين. والدلالة الأولى لا يعرفها سوى المتخصصين في علم الأرض الذين يعلمون أن البحار نوعان: قارية ضحلة تنشأ على اليابسة وهي بحار قديمة تكاد أن تكون قد اختفت في الزمن الحديث ولا نعرف عنها شيئاً إلا من خلال الجغرافيا القديمة، وبحار لجية تشمل محيطات العالم الموجودة اليوم. أما مفهوم البحر اللجي فلم يتحدد إلا بعد مسح قاع البحر، وحينما أعطى القرآن وصف البحر اللجي منذ أكثر من 1400 سنة، لم يكن يخطر على عقل بشر المفهوم الحقيقي للجية البحر، ولربما كان المفهوم الظاهري للبحر اللجي بأنه البحر العميق جداً. وقد جاء العلم الحديث ليجلي مفهوم البحر اللجي حينما حدد بيئات البحر الحديثة وفقًا لأعماقها حسب الجدول السابق. ومن المؤكد أن أعظم صائد لؤلؤ في العالم قبل نزول القرآن وبعد نزوله بأكثر من ألف عام، لم يكن بمقدوره الغوص إلا لعشرين أوثلاثين متراً على أكثر تقدير. والوصف القرآني لبحر لجي ذي أمواج متراكبة، وظلمات متراكبة لا يمكن أن يأتي سوى من خالق ذلك البحر، خاصة إذا علمنا أنه منذ 75 سنة فقط كان علم الناس عن خرائط القمر أكثر من علمهم بتفاصيل قاع البحر. ولا يمكن لمدعٍ أن يزعم أن البشر عند نزول القرآن كانوا على درجة من العلم تؤهلهم بمعرفة البحر اللجي وظلماته وأمواجه التحتية. ولم يستطع العلماء أن يرسموا خرائط قيعان البحار إلا بعد أن توفرت لديهم الإمكانيات الحديثة من سفن وغواصات الأبحاث، وطرق الاستكشاف عن بعد من مجسات صوتية ( Echo Sounders ) ومقاطع زلزالية ( Seismi Profiles ) وغيرها من وسائل التقنية الحديثة التي تستخدم الجهاز الآلي (الريبوت) الغطاس، وكاميرات الليزر ( Leaser Imagers ). وتأتي إشارة القرآن إلى وجود أمواج تحتية في البحر اللجي في وقت لم يكن ذلك معروفا، بل مر أكثر من ألف سنة عن الإشارة القرآنية حتى كشف العلم عن سرها الذى ورد في قوله " أوكظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب … " واكتشف العلم تيارات بحرية عاتية في قيعان البحر تسمى تيارات العواصف ( Turbidity Currents ) تبلغ سرعتها في أغوار البحار أكثر من 100 كم في الساعة، وتغطي مسافة 700 كم، وتتولد عنها موجات تحتية عاتية قد تقتلع أجزاء من قاع البحر. وتنشأ تلك التيارات حينما تنزلق الرواسب الرطبة المفككة المستقرة على الرصيف القاري ( جانب البر ) والمنحدر، ويحدث اندفاع تلك الرواسب من مكانها إلى أسفل في صورة سيول لزجة فتسبب دوامات شديدة. وينتج عن التيارات البحرية العميقة أمواج تتراوح أطوالها بين عشرات ومئات الكيلومترات. ويصل ارتفاع الموجات الداخلية إلى 200 متر. وتلك الأمواج لا يمكن رؤيتها مباشرة، بل تدرك بعدد من القياسات تحدد الاضطرابات التي تحدثها تلك الأمواج. ترى لماذا أخبر محمد عن طريق الوحي الأمين بتلك الأسرار التي يزخر بها البحر؟ الجواب: حتى لا ينخدع الكفار بأعمالهم التي لم تكن ابتغاء وجه الله، فأعمالهم كسراب بقيعة، وكظلمات في بحر لجي. أما وقد تيقنوا من حقيقة لجية البحر، وظلماته، وتراكب أمواجه، فليعلموا أن أعمالهم سيجعلها الله هباءً منثورًا حينما يقفون أمامه سبحانه للحساب على ما قدموا.. يقول تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾ [الفرقان: 23].
التطور العمراني لمكة المكرمة منذ الفتح حتى منتصف القرن الرابع الهجري لأروى محمد الخريجي صدر حديثًا " التطور العمراني لمكة المكرمة منذ الفتح حتى منتصف القرن الرابع الهجري "، تأليف: "أروى بنت محمد بن سليمان الخريجي "، نشر: "مكتبة كنوز المعرفة للنشر والتوزيع ". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدمت بها الكاتبة لنيل درجة الماجستير في التاريخ من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، تحت إشراف د. " عدنان بن محمد بن فايز الحارثي الشريف "، وذلك عام 1436 هـ - 2015 م. تضمنت هذه الدراسة دراسة مكة في جوانبها العمرانية، وذلك لمعرفة عوامل التطور العمراني التي أثرت في عمران مكة كمدينة تاريخية مقدسة وذلك حتى القرن الرابع الهجري، وملاحظة مدى الاستمرار والتغير في عمارة وازدهار المدينة خلال حقبة الدراسة، وذلك بغرض القيام بدراسة وصفية تحليلية للنواحي الحضارية والعمرانية لمكة المكرمة؛ وذلك بهدف إثراء المعرفة التاريخية وإبراز الوجه الناصع للحضارة الإسلامية معماريًا وهندسيًا. واشتملت الدراسة على ثلاثة فصول أساسية تسبقها مقدمة وتليها خاتمة، وقد تضمنت في بادئ الأمر عرضًا تمهيديًا عن بداية الاستيطان بمكة والنمو العمراني لها، وأسبابه، والآثار المترتبة عليه بدءًا من عهد قصي بن كلاب الجد الرابع للرسول - صلى الله عليه وسلم -. أما الفصل الأول فتضمن عرض وتحليل لأبرز العوامل المؤثرة في التطور العمراني للمدينة، وقد تحدثت فيه الكاتبة عن مكانة مكة المكرمة وحرمتها وأهميتها وأسباب تقديس المسلمين لها، وأسماء مكة التي وردت في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية وكتب التفسير والتأريخ التي اجتهد المؤرخون في استنباطها من أحداث ووقائع ودلالات معينة، بالإضافة إلى الجهود والمشروعات العمرانية التي قام بها الخلفاء والأمر اء بمكة والتي كان لها أكبر الأثر في التطور العمراني الذي شهدته هذه المدينة. كما جرى الحديث في هذا الفصل أيضًا عن النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وما طرأ عليها من تغيرات وتطورات بعد ظهور الإسلام ترتب عنها نتائج كان لها الأثر الواضح في تغير معظم الملامح المعمارية والعمرانية للمدينة المقدسة. أما الفصل الثاني فتناول الحدود العمرانية لمكة المكرمة وضواحيها وذلك بتوضيح الشكل العام للمدينة المقدسة، وما طرأ عليها من تغيرات خلال العصور التاريخية المختلفة منذ الفتح حتى منتصف القرن الرابع الهجري، ولقد جرى توضيح هذه التغيرات من خلال تبيان التوسعات التي شهدتها مكة المكرمة في تلك الأثناء، ومن خلال دراسة البنية وما طرأ عليها من تغيرات في تلك الأثناء أيضًا. كما تناول هذا الفصل الأقسام العمرانية لمكة المكرمة وهي: الخطط والأحياء السكنية، والشوارع والرحاب، والأسواق، والمتنزهات، والمقابر، وهي تشكل في مجموعها العناصر الأساسية لمكونات المدينة، ولقد جرى توضيح ما طرأ على هذه الأقسام من تطورات وتغيرات بعد ظهور الإسلام. في الفصل الثالث جرى تناول منشآت المرافق وأبرز المتغيرات التي ظهرت عليها في تلك الأثناء، إذ دخل عليها في تلك الأثناء أنواع جديدة من العمائر، كذلك جرى التوسع في استغلال بعض الأنواع الأخرى التي كانت موجودة في المدينة قبل هذه المدة، بالإضافة إلى أنه قد جرى تجديد عمارة بعض المنشآت الأخرى القديمة، كما جرى بناء عمائر للمرافق في مواضع لم تكن توجد بها في السابق. والحقيقة أن اختيار مكة موضوعًا للدراسة، وفي حقبة تاريخية معينة، أمر في غاية الأهمية، إذ اكتسبت المدينة أهميتها منذ بداية الخلق، فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون ذات قدسية ومكانة دينية منذ غابر الأزمان ثم جعلها مهبط الوحي ومهوى أفئدة الناس ومأوى حجهم، كما أن هذه المدينة تعكس تفاعلًا تاريخيًا خصبًا في مجال التمدن والعمران، فهي تحمل في أحشائها سجلًا ضخمًا من سجلات الحركة العمرانية عند المسلمين.
فلسفة الغذاء الطعام ضروري للإنسان، فلا يمكنه الحفاظ على حياته بدونه، والتقليل الشديد منه قد يُصيب بدنه بالهُزال وصحته بالعِلل، إلا أن العلاقة بين الطعام والصحة ليست علاقة طردية على كل حال؛ أعني أنها لا تزيد بزيادته، ولا تنقص بنقصه بصورة ثابتة، بل إن الاتساع في الطعام يمثل كارثة للصحة الفردية، ومضارَّ لاقتصاد المجتمع. ومن هنا سأحاول تحديد بعض الجوانب في فلسفة الغذاء، غابت عن كثير من الناس، فبِتْنا نعاني من كثير من متاعب الأبدان، وعِلَلِ الأجسام، وضياع الأموال؛ بسبب غلبة العادات الغذائية الخاطئة، وتقديمها على الحقائق العلمية والشرعية المتعلقة بالغذاء. الفائدة واللذة: شاء الله تعالى ألَّا تكون حاجتنا إلى الطعام مجردة من العواطف الجميلة والأحاسيس اللطيفة، فربط به إحساسنا باللذة بمذاقات الطعام وروائحه وألوانه المتنوعة؛ سواء فيما نلتقطه من ثمار، أو نطبخه من إدام، وهذا يعني وجود رباط نفسي حميم بين الإنسان وغذائه، الذي يشكل مصدر طاقة لجسمه، وسببَ نموٍّ لأعضائه. إلا أن الله تعالى يختبر عباده بالنعم حين يعطيها لهم، وحين يحرمهم منها، فيختبر بالقلة والندرة هل يصبر صاحبها، وبالكثرة والسعة هل يشكر صاحبها، ويضبط استعماله للنعمة بالطريقة والكمية التي تؤدي بها وظيفتها، دون تجاوز لهذه الوظيفة. وقد شاء الله أن يجعل لوضع النعم في غير محلها واستعمالها استعمالًا خطأ نتيجةً سلبية ملحوظة، ولكن على التراخي غالبًا؛ بمعنى أن استعمال الناس للنعم في غير محلها يؤدي إلى عَطَبٍ وفساد في الأبدان والأشياء بطريق التراكم، وخلال الزمن. وهذا ما يحدث في الطعام حين يصبح هدفًا في حد ذاته، فيأكل الإنسان وهو جائع، ويأكل وهو شبعان، ويدخل الطعام الجديد قبل هضم القديم، ولا يفرق في الإقبال بِنَهَمٍ على الطعام بين ليل ونهار، ويتسع في الأنواع والألوان؛ ظنًّا منه أن هذا يجلب له الصحة والعافية، إلا أن الذي يحصل هو أنه يُراكم العلل في البدن، ويصيب أعضاء الهضم بشيخوخة مبكرة؛ نظرًا لأن للمعدة وبقية الجهاز الهضمي طاقة وقدرة محددة على العمل، لا ينبغي أن نتجاوزها. ويبدو أن المسألة هنا صراع بين اللذة التي تتحكم فيها العاطفة، والفائدة التي يدركها العقل، ولا ينبغي أن يكون النصر في هذه المعركة للعاطفة دائمًا، وإلا أوردت الإنسان المهالكَ، وتسبَّبت له في هَرَمٍ مبكر، ونلاحظ في الشريعة الغرَّاء أنها أجازت التوسع في الطعام أيام التشريق من عيد الأضحى، ووصفتها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ((أيام أكل وشرب))؛ [رواه مسلم]، وهذا يعني أن القاعدة ليست في الاتساع، وإنما الاقتصاد: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، ولهذا كان التأذي بالشبع ليس أقل من التأذي بالجوع؛ حتى قال بعض الحكماء: "التأذي بالأكل مثل التأذي بالجوع أو أشد"، وهذه حقيقة يثبتها الواقع؛ إذ إن ما تُخلِّفه أمراض التُّخمة والإسراف في الطعام من ضحايا أكثر مما تخلفه المجاعات، إلا أن تأثير المجاعات جماعيٌّ وملحوظ، وأما تأثير الإسراف في الطعام، فليس ظاهرًا على هذا النحو. الوعاء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم البطن بأنها "وعاء"، إلا أنها ليست شرَّ وعاء إلا إذا ملأها صاحبها، وتحامل عليها بالإكثار من الطعام؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمْنَ صُلْبه))؛ [رواه الترمذي وصححه]، فالمشكلة هنا ليست في الوعاء ذاته، ولكن في التعامل الجائر معه، وتحميله من الطعام ما يطغى على مهمات أخرى، يتناغم فيها هذا الوعاء مع أجزاء الجسم الأخرى، كما يقوم بمهمة أخرى كذلك غير استقبال الطعام. أما المهمة الأخرى للبطن، فهي أنها وعاء للماء - أو الشراب عمومًا - مما تزيد ضروريته للأحياء على ضرورية الطعام، كما أن حركة التنفس لا تتم بيُسْرٍ ما دامت المعدة ممتلئة؛ أي: إن التناغم بين أعضاء الجسم في أداء وظائفها يختل، وتضيق مجاري الأنفاس بسبب التخمة من الطعام؛ ولهذا جاء في بقية هذا الحديث الشريف ما يفيد تقسيم البطن ثلاثة أثلاث بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((فإن كان لا بد فاعلًا، فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه)). إن عدم الانضباط فيما نملك (تناول الطعام) ينتج عنه خلل فيما لا نملك (الصحة)، وتلك محنة من محن الحياة، وجدير بالمسلم أن يجعل من ضبط النفس على مقياس الشريعة الغراء عنوانًا له في كل شيء؛ عنوانًا في ترك المعاصي مهما تَكُنْ مُغريةً، وعنوانًا في أداء الفرائض مهما تكن مكلفة، وعنوانًا على ترك التوسع في المباح مهما يكن سهلًا متاحًا. نأكل لنعيش: وتلك حكمة أخرى لازمة لضبط تعاملنا مع الغذاء؛ بحيث يحقق الفائدة التي خلقه الله لأجلها، ولا يتحول إلى خطر داهم يهدد صحتنا وحياتنا كلها، وأصل المسألة هي أننا نمكث سنوات محددة في هذه الحياة؛ طالت أو قصرت، وليس الأهم هو عدد هذه السنوات؛ لأن تحديدها بيد الله تعالى وحده، والمهم هو ألَّا تكون هذه السنوات المحدودة سنوات معاناة وأمراض وأسقام، وجزء كبير من هذا الأمر جعله الله تعالى في يد الإنسان، ويتلخص سِرُّه في أمرين: الأول : الاعتدال في الطعام والشراب. الثاني : عدم الاستسلام للخوف من فقد موجود، ولا للقلق في تحصيل مفقود، والإيمان بأن الأمور لها أسباب، وأنها تجري بمقادير الله سبحانه. ويُعين على فهم هذا كله أن ندرك وظائف الأشياء، ومنها وظيفة الغذاء التي تتلخص في حفظ الحياة، وخدمة قضية بقاء الإنسان في هذه الحياة معافًى سليمًا من أمراض الجوع والقلة، فإذا وضعنا هذا إلى جانب مهمة الإنسان في الوجود، وهي العمل على نشر ألوان الفضل والخير في أرض الله، باسم الله تعالى، ووفقًا لمنهجه الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ظهر أننا نأكل لنعيش، وأننا لا نعيش لنأكل. جوامع الغذاء: من آداب الدعاء التي اعتاد العلماء إيرادها: أن يحرص المسلم على الأدعية الجامعة التي تشتمل على ألوان كثيرة من الخير في لفظ قليل؛ مثل قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ولعل قياس الغذاء على الدعاء يجعلنا نركز على جوامع الغذاء، وهي تلك الأغذية التي يجتمع فيها كثير من الفائدة، ولا تصيب الأجسام بالأعطاب، ومن فضل الله أنها متاحة ومتيسرة في أكثر البلاد؛ مثل: التمر، وعسل النحل، والألبان، والفاكهة، وغيرها. وجوامع الغذاء أكثر فائدة للجسم من أن تجتمع على موائدنا ألوان كثيرة من الطعام في الوجبة الواحدة، وهو أمر استوردناه من عادات الأمم الأخرى، وأضرَّ بأجسامنا أكثر مما نفعها؛ إذ كانت عادة أجدادنا القريبين، فضلًا عن هَدي سلف الأمة الأول - عدمَ الاستكثار من الطعام أولًا، وقلة ألوان الطعام على المائدة ثانيًا. إن المائدة البسيطة لمن يقدر على شراء ما يشاء من الطعام هي دليل على وعيه وفهمه لمهمة الطعام، وأما من يستكثر من الألوان والأصناف على مائدته، فهو فقير في الثقافة الغذائية والصحية والشرعية، وعليه أن يعيد النظر في نظرته إلى الحياة وغايته منها. وقبل مئات كثيرة من السنين، فهم هذه المسألة واحد من الشخصيات التاريخية العظيمة؛ وهو أمير المرابطين يوسف بن تاشفين (400 - 500هـ) رحمه الله، فكان يأكل خبز الشعير ولحوم الإبل ويشرب ألبانها فقط، فعاش سليمًا معافًى، وتفرغ للأعمال العظيمة التي ظل يسجلها بقوة وفُتُوَّةٍ حتى وفاته، وهو ابن مائة عام. تكاليف باهظة أخرى: ورد عن بعض أهل العلم قوله: "الشبع داعية إلى البَشَمِ - التخمة - والبشم داعية إلى السقم، والسقم داعية إلى الموت، ولو سُئل أهل القبور: ما كان شأن موتكم؟ لقال أكثرهم: الشبع". هذه مقولة ناطقة بجانب من الكُلفة الباهظة التي يدفعها الإنسان؛ نتيجة للإفراط في تناول الطعام، فتسرق اللذة المجردة والعادة السيئة منه صحتَهُ، وتُورِده حِياضَ الموت مُنْهَكَ القُوى عليل البدن، وترتبط بذلك نفقات باهظة طلبًا للشفاء والعلاج من شيء جعل الله حبله بيدنا، ولعل حسبة صغيرة توضح ضخامة ما ينفقه العالم على الطب، وأكثر عِلَلِهِ ناجمٌ عن نظامنا الغذائي العليل. تُضاف إلى هذا مضرة أخرى متصلة بعدم فهمنا لفلسفة الغذاء في ديننا، وهي ما يرتبط به من تبذير يؤدي بالإنسان إلى أن يُلقيَ في القمامة جبالًا من الطعام، تكفي لإطعام فقراء العالم، وهي مظلمة كبيرة سيأتي الفقير ليسأل الغني عنها يوم القيامة، وما من عاقل في هذا العالم إلا ويحرص على قليل الطعام وكثيره أن يكون مصيره القُمامة، ورحِم الله الداعية المعمر الشيخ عبدالمعز عبدالستار (1914 - 2011) الذي حكت ابنته عنه أنه كان إذا وجد حبة أرز في الأرض التقطها وأكلها بعد أن يزيل عنها الأذى، ويقول: سخر الله لها السماوات والأرض، ثم تتركونها هكذا لتُلقى في القمامة!! وأخيرًا رَوَوا عن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور قوله: "والله ما أنا بشَرِهٍ، وما لي في الاستكثار من الطعام حاجة؛ لأنه يُثقل الجسم، ويشغل عن النوائب، وأقل شيء فيه كثرة اختلافي إلى الخلاء، فأرى ما أكره، وأسمع ما لا أحب".
خطر المخدرات وأضرارها المتعدية الْخُطْبَةُ الأُولَى: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ... حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ آفَةٍ هُتِكَتْ بِسَبَبِهَا أَعْرَاضٌ! وَوَقَعَ بَعْضُ الْأُخْوَةِ عِلَى أَخَوَاتِهِمْ، وَتَحَرَّشَ بَعْضُ الْآبَاءِ بِبَنَاتِهِمْ، وَقَتَلَ بِسَبَبِهَا الْأَخُ أَخَاهُ، ونَحَرَ - كَمَا تُنْحَرُ النِّعَاجُ- وَالِدَيْهِ، وَرَفَعَ السِّلَاحَ عَلَى زَوْجَتِه، وَرَوَّعَ أَوْلَادَهُ، وَأَشْعَلَ النَّارَ فِي جَسَدِهِ. مَشَاهِدٌ مُرَوِّعَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، لَا تَنْقَطِعُ أَخْبَارُهَا، فِي غَالِبِ دُوُلِ الْمَعْمُورَةِ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ آفَةِ الْمُخَدِّرَاتِ، وَجَرِيمَةِ الْمُسْكِرَاتِ؛ وَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ وَذَرَارِينَا شَرَّهَا؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91]. وَفِيْ الحَدِيْث الصحِيْحِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: « أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ! إنَّ اللهَ لعَن الخمرَ، وعاصِرَها، ومعتصِرَها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمحمولة إليهِ، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وساقِيها، ومُسقاها ». وَفِيْ رِوَايَةٍ: « وآكل ثمنها ». عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَعدَاءَ الدِّينِ وَشَانِئِـي الفَضِيلَةِ؛ مِن دُعَاةِ الشُّرورِ، وَمُرَوِّجِي الرّذِيلَةِ، يَسْلُكُوَنَ كُلَّ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الإِفسَادِ، هَمُّهُم تَجرِيدُ الأُمَّةِ مِن دِينِهَا، وَإِضعَافُ العَقِيدَةِ في قُلُوبِ أَبْنَائِهَا، وَتَغيِيرُ مَبَادِئِهَا، وَنَسفُ ثَوَابِتِهَا. وَيَسعَونَ لإِفسَادِ سُلُوكِ أَبنَائِهَا، وَتَحطِيمِ أَخلاقِهِم، وَتَخرِيبِ طِبَاعِهِم، وَجَعلِ المُجتَمَعِ الإِسلامِيِّ مِسْخًا مُشَوَّهًا لِمُجتَمَعَاتٍ لا تَمُتُّ لِدِينِنَا الحَنِيفِ بِصِلَةٍ، وَلا يَربِطُهَا بِقِيَمِهِ وَمُثُلِهِ أَيُّ رَابِطٍ. وَبَينَ فَينَةٍ وَأُخرَى نَسمَعُ بِأَنبَاءٍ عَن ضَبطِ الأَجهِزَةِ الأَمنِيَّةِ لِمُهَرِّبِينَ، وَالإِيقَاعِ بِشَبَكَةِ مُرَوِّجِينَ مُفسِدِينَ، كَانُوا يُعِدُّونَ عُدَّتَهُم لِدُخُولِ هَذِهِ البِلادِ بِشَرِّ مَا يَجِدُونَ مِن أَنوَاعِ الْمُخَدِّرَاتِ، وَغَزوِهَا بِأَشكَالٍ مِنَ المُسكِرَاتِ؛ لِتَجتَمِعَ عَلَى هَذِهِ البِلادِ المُبَارَكَةِ الأَيدِي الآثِمَةُ؛ لِتَنَالَ مِن دِينِهَا، وَلِتُفسِدَ عُقُولَ شَبَابِهَا، بِالمُسكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ، فَفِي خِلَالِ الأَشْهُرِ السِّتَّةِ الْـمَاضِيَةِ فَقَطْ تَـمَّ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ثُمَّ يَقَظَةِ رِجَال الأَمْنِ – حَفِظَهُمْ اللهُ وَحَمَاهُمْ- مَنْعُ دُخُولِ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ مِلْيُونًا مِنَ الْأَقْرَاص الْمُخَدِّرَةِ، وَتِسْعَةَ عَشْرَ ألْفَ كِيلُوحَشِيشٍ؛ أي مَا يُعادِلُ خَـمْسِمَئَةِ كِيسٍ مِنَ الأُرْزِ مِنَ الْـحَجْمِ الْكَبِيرِ، وَأَكْثَرَ مِنْ مِئَتَيِّ وَعِشْرِينَ كِيلُوكُوكَايينَ؛ فَلَوأَنَّ هَذِهِ الْكَمِّيَّاتِ مِنَ الْمُخَدِّرَاتِ نَفَذَتْ إِلَى الْبِلَادِ؛ لَقَتَلَتْ عَشَرَاتِ الآلافِ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَاتِ، وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ؛ فَاللَّهُمَّ نّـجْعَلُكَ فِي نُـحُورِ هَؤُلَاءِ الْمُرَوِّجَيـنَ وَالْمُهَرِّبِيـنَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ!. والأَعْدَاءُ يَـحْرِصُونَ عَلَى التَّهْرِيبِ للدُّوَلِ الإِسْلَامِيَّةِ عَامَّةً، وَلِبِلَادِنَا خَاصَّةً،، لأَنَّـهُمْ يَعْلَمُونَ بِأَنَّ الْمُخَدِّرَاتِ أَسْهَلُ طَرِيقٍ لِإِفْسَادِ المُجتَمَعَاتِ، وَأَقوَى وَسِيلَةٍ لاِحْتِلَالِ العُقُولِ، وَإِزَاغَةِ الأَفهَامِ، وَإِضْعَافِ الاقتِصَادِ، وَأَكْلِ الأَموَالُ، وَقسْرِ الفَردِ عَلَى مَا لَا يَرضَاهُ، وَإِجْبَارِهِ عَلَى مَا كَانَ يَأنَفُ مِنهُ؛ فَتَنتَشِرُ السَّرِقَاتُ وَيَكثُرُ السَّطوُ، وَيَختَلُّ الأَمنُ وَتُرَوَّعُ النُّفُوسُ، وَتُشَلُّ حَرَكَةُ الفَردِ وَيَقِلُّ إِنتَاجُهُ، فَتَتَفَاقَمُ عَلَى وَلِيِّهِ الأَعبَاءُ وَتَتَضَاعَفُ الأَحمَالُ، وَيَعُمُّ الفَقرُ وَتَتَمَزَّقُ الأُسَرُ، وَتَتَشَتَّتُ العِلاقَاتُ وَتَنقَطِعُ الصِّلاتُ، وَيُصبِحُ كَيَانُ المُجتَمَعِ ضَعِيفًا وَبُنيَانُهُ هَشًّا، فَيَغدُوأُلعُوبَةً في أَيدِي الأَسَافِلِ وَالأَرَاذِلِ، يُحَرِّكُونَهُ مَتى شَاؤُوا إِلى مَا أَرَادُوا، وَيَأخُذُونَ بِهِ إلى هَاوِيَةِ الجَرِيمَةِ، وَمُستَنقَعَاتِ الرَّذِيلَةِ. فَتُـهْتَكُ بِسَبَبِهَا أَعرَاضٌ، وتُنْحَرُ بِسَبَبِهَا أجْسَادٌ، وَيُقتَلُ عَفَافٌ، وَتُوأَدُ فَضِيلَةٌ وَيُسلَبُ حَيَاءٌ. عِبَادَ اللهِ، كَمْ تَنْخَرُ الْمُخَدِّرَاتُ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ وَفِي مُقَدَّرَاتِهَا! أَضَاعَتْ عَلَيْهَا شَبَابَهَا، وَدَمَّرَتْ أَخْلَاقَ رِجَالِهَا، مَا اِنْتَشَرَتْ فِي مُجْتَمَعٍ إِلَّا فَشَتْ فِيهِ الرَّذِيلَةُ، وَغَادَرَتْهُ الْفَضِيلَةُ. فَأَصْبَحَ تَعَاطِيهَا وَإِدْمَانُهَا عَائِقًا عَنِ التَّوْبَةِ، وَشَاغِلًا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ، وَالدَّارِ الآخِرَةِ. كَمْ مِنْ شَابٍ قَضَتْ هَذِهِ السُّمُومُ عَلَى آمَالِهِ وَطُمُوحَاتِهِ! وَكَمْ مِنْ أَلَمٍ وَحَسْرَةٍ أَوْرَثَتْهَا تِلْكَ الآفَةُ الْمُحَرَّمَةُ! فَكَانَتْ نَتِيجَتُهَا ضَيَاعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ خَسَارَتَهُ بِتَعَاطِيهَا، أُخْرَوِيَّةٌ أَكْثَرَ مِنْهَا دنيويةٌ، وَآثَارَهَا عَلَى دِينِهِ أَشَدُّ مِنْ آثَارِهَا عَلَى دُنْيَاهُ، وَلِمَ لَا، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ مَنْ تَعَاطَي مُسْكِرًا بِأَنْ يَسِقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ؟ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أَو«عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَيْ: قَيْحُ وَصَدِيدُ وَدِمَاءُ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ. أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد أَضحَتْ حَرْبُ تَهْرِيبِ المُخَدِّرَاتِ وَتَرْوِيجِهَا بَيْنَ النَّاسِ مِن أَخطَرِ أَنوَاعِ الحُرُوبِ المُعَاصِرَةِ، يُدرِكُ ذَلِكَ مَن وَقَفَ في المَيدَانِ، وَاقتَرَبَ مِنَ المُعتَرَكِ، مِن رِجَالِ مُكَافَحَةِ المُخَدِّرَاتِ، وَرِجَالِ الْهَيْئَاتِ، وَمِنَ العَامِلِينَ في جَمعِيَّاتِ المُكَافَحَةِ الخَيرِيَّةِ، وَأَطِبَّاءِ المُستَشفَيَاتِ الْمُعَالِجَةِ، وَيَشعُرُ بِضَرَاوَةِ تِلكِ الحَربِ وَشَرَاسَتِهَا كُلُّ مَن يَسمَعُ بِهَذِهِ الكَمِيَّاتِ الهَائِلَةِ، وَالأَنوَاعِ الكَثِيرَةِ الَّتي تُحبَطُ - بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ثُمَّ بِجُهُودِ رِجَالِ الْأَمْنِ الْمُخْلِصِينَ - عَملِيَّاتُ إِدخَالِهَا إِلى بِلادِنَا، فَضلًا عَن تِلكَ الَّتي تُرَوَّجُ وَتَنتَشِرُ، وَيَقَعُ ضَحِيَّةً لها فِئَاتٌ مِنَ المُجتَمَعِ هُم مِنْ أَغلَى مَا فِيهِ. وَمَعَ مَا سَنَّتهُ هَذِهِ البِلادُ الْمُبَارَكَةُ مِن عُقُوبَاتٍ رَادِعَةٍ، وَجَزَاءَاتٍ زَاجِرَةٍ، وَمَعَ الْـجُهُودِ الْـمَشْكُورَةِ لِرِجَالِ وزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَرِجَالِ الْـجَمَارِكِ؛ فَإِنَّ هَذَا الطُّوفَانَ المُدَمِّرَ لَيُسرِعُ في زَحفِهِ إِلى البُيُوتِ، وَيَقتَحِمُ المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ، الذُّكُورَ وَالإِنَاثَ، وَتَشكُوآثَارَهُ عَامَّةُ الْقِطَاعَاتِ، ممَّا يَستَدعِي مِنَّا أَن نَكُونَ عَلَى وَعيٍ وَإِدرَاكٍ لِحَجمِ الخَطرِ، وَأَن نَتَعَاوَنَ للْقَضَاءِ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ المُهلِكِ، وَمُنَابَذَةٌ لِلمُرَوِّجِينَ وَالمَجرِمِينَ، وَهِمَّةٌ في التَّبلِيغِ عَنهُم، وَحَذَرٌ مِنَ التَّسَتُّرِ عَلَيهِم أَوالتَّهَاوُنِ مَعَهُم، وَإِحيَاءٌ لِوَاجِبِ الحِسبَةِ، وَبَذلٌ لِحَقِّ النَّصِيحَةِ. عِبَادَ اللهِ، إِنَّ شَبَابَنَا لَمُستَهدَفُونَ في دِينِهِم وَدُنْيَاهُمْ، مَغزُوُّونَ في أَخلاقِهِم وَأَفْكَارِهِمْ.. وَمِن هُنَا فَقَد آنَ الأوَانُ لِتَحَرُّكِ الآبَاءِ وَأَولِيَاءِ الأُمُورِ لِحِمَايَةِ أَبنَائِهِم ممَّا يَضُرُّهُم، وَتَزوِيدِهِم بِكُلِّ مَا يَنفَعُهُم وَيَرفَعُهُم. لَقَد آنَ الأَوَانُ لاشتِغَالِ الآبَاءِ بِالمُهِمَّاتِ الْمُنَاطَةِ بِهِمْ، وَتَحَمُّلِ مَسْئولِيَّةِ رَعِيَّتِهِمْ، وَتَركِ مَا فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَضَاءِ وَقْتِهِ فِي تَوَافِهٍ وَتُرَّهَاتٍ، وسَهَرٍ إِلَى الْفَجْرِ بِالْمَقَاهِي وَالاِسْتِرَاحَاتِ. ولِكَيْ نَسْتَطِيعَ الْمُسَاهَمَةَ فِي عِلَاجَ جَرِيمَةِ تَعَاطِي الْمُخدِّرَاتِ؛ فَلَابُدَّ أَنْ نَعْرِفَ: لِمَاذَا يُقدِمُ الإِنْسَانُ عَلَى تَعَاطِيهَا حَيْثُ إنَّ هُناك أَسْبَابًا كَثِيَرةً، مِنْهَا: أولًا: الْبَحْثُ عَنْ السَّعَادَةِ: فَالْمُتَعَاطِي يَبْحَثُ عَنِ السَّعَادَةِ الْوَهِمِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ المُخدِّراتِ الَّتي تَغَيِّبُهُ عَنْ وَاقِعِهِ، وَتَجْعَلُهُ يُحَلِّقُ فِي عَالَمِ الْخَيَالِ، وَيَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ كَاذِبَةٍ مُؤَقَّتَةٍ لِأَنَّهُ اِبْتَعَدَ عَنْ مَشَاكِلِهِ الَّتِي عَجَزَ عَنْ مُوَاجَهَتِهَا، وَهَذَا حَلٌّ مُؤَقَّتٌ، وَسَعَادَةٌ زَائِفَةٌ؛ ثُمَّ يَعْقُبُهَا الْعَذَابُ؛ فَمَا جَعَلَ اللهُ شِفَاءَ الْأُمَّةَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا. لِذَلِكَ حَذَّرَتِ الأَجْهِزَةُ الأَمْنِيَّةُ وَالمُتَخَصِّصُونَ فِي المُخَدِّرَاتِ وَعَالَمِ الجَرِيمَةِ مِنْ نَشْرِ الطُّرَفِ المُخْتَلَقَةِ عَلَى ألْسِنَةِ الْمُحَشِّشِينَ وَمُتَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ، وَالَّتِي تُظْهِرُ أَنَّ مُتَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ أَذْكِيَاءُ أَوظُرَفَاءُ أَوسَرِيعُوالبَدِيهَةِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَدَجَلٌ؛ فَاِنْخَدَعَ بِهَذِهِ الطُّرَفِ بَعْضُ الشَّبَابِ، فَصَدَّقُوا بِأَنَّ المُتَعَاطِينَ ظُرَفَاءُ سُعَدَاءُ أَذْكِيَاءُ، فَخَاضُوا التَّجْرِبَةَ، بِسَبَبِ هَذَا التَّرْوِيجِ الشَّيْطَانِيِّ. وَهَذِهِ النُّكَتُ – وَرَبِّي- مِنْ اِخْتِلَاقِ الشَّيَاطِينِ، وَلَا يَنْشُرُهَا إِلَّا سُذَّجٌ أَومُفْسِدُونَ غَيْرُ مُصْلِحِينَ، أَوأُنَاسٌ لَا يَعُونَ خَطَرَ مَا يُرْسِلُونَ؛ فَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ. وَقَدْ أَثْبَتَتْ دِرَاسَاتٌ عِلْمِيَّةٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الشَّبَابِ وَقْعٌ فِي تَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ بِسَبَبِ النُّكَتِ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِ؛ فَالوَيْلُ لِمَنْ أَرْسَلَ هَذِهِ الطَّرَفُ: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوعِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]. ثانيًا: التَّدْخِينُ: حَيْثُ يُعْتَبَرُ بَوَّابَةَ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ، وَثَبَتَ مِنْ خِلَالِ الدِّرَاسَاتِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّ %25 مِنَ الْمُدَخِنِينَ يَتَعَاطُونَ الْمُخَدِّرَاتِ. فَهُوالْبَوَّابَةَ لِهَذَا الشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ. ثالثًا: التَّغْرِيرُ بِالطُّلاَّبِ حَوْلَ دَوْرِ المُخَدِّرَاتِ فِي النَّجَاحِ وَالتَّفَوُّقِ: فَالطَّالِبُ يَشْعُرُ أَيَّامَ الاِمْتِحَانَاتِ بِالْخَوْفِ وَبِالتَّوَتُّرِ، وَتَتَزَايَدُ عَلَيْهِ الضُّغُوطُ، فيَلِجَأُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُبُوبِ المُخدِّرَةِ ظنًا مِنْهُ أَنَّهَا عِلَاجٌ لِهَذَا التّوَتُّرِ، وَأَنَّهَا تُسَاعِدُهُ عَلَى التَّركِيزِ، وَمِنْ هُنَا تَبْدَأُ رِحْلَتُهُ مَعَ الْإِدمَانِ، وَيَقَعُ فِي شِبَاكِ الْمُخَدِّرَاتِ، وَيَقَعُ ضَحِيَّةً لَهَا وَلِمُرَوِّجِيهَا. رابعًا: الْمُهَدِّئَاتُ وَالمُنوِّمَاتُ: فَبَعْضُ الشَّبَابِ إِذَا تَأَخَّرَ فِي النَّوْمِ، أَوأَصَابَهُ قَلَقٌ، أَوتَوَتُّرٌ فَبَدَلًا مِنْ التحصن بالأْدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ، يَلْجَأُ لِهَذِهِ الْمُهَدِّئَاتِ بِنُصْحِ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ، وَبَعْضِ الصَّيَادِلَةِ مِمَّنْ خَانُوا الْأَمَانَةَ؛ فَيَنْتَقِلُ بَعْدَهَا إِلَى الْمُخَدِّرَاتِ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!. فَعَلَى الآبَاءِ وَالْمُرَبِينَ أَنْ يَتَنَبَّهُوا لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَيُحَاوِلُوا أَنْ يَجِدُوا لَهَا عِلَاجًا. وَمِنْ ذَلِكَ: إِحْيَاءُ الرَّقَابَةِ الذَّاتِيَّةِ في قُلُوبِ النَّاسِ عَامَّةً، وَغَرسِهَا في أَفئِدَةِ النَاشِئَةِ خَاصَّةً، وَتَسلِيحِهِم بِالإِيمَانِ بِاللهِ، وَالخَوفِ مِنهُ -سُبحَانَهُ- وَتَقرِيرِهِم بِنِعَمِهِ؛ لِيَحمَدُوهُ وَيَشكُرُوهُ، وَلابُدَّ مِن تَكثِيفِ التَّوعِيَةِ بِخَطَرِ المُسكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ عَلَى الدِّينِ وَالأَخلاقِ، وَنَشرِ الوَعيِ بِأَضرَارِهَا عَلَى العُقُولِ، وَبَيَانِ شِدَّةِ فَتكِهَا بِالأَجسَادِ، وَمَلءُ أَوقَاتِ الشَّبَابِ بما يَنفَعُهُم وَيَنفَعُ مُجتَمَعَهُم، فَإِنَّهُ لا أَفسَدَ لِلعُقُولِ مِنَ الفَرَاغِ، وَالنُّفُوسُ لا بُدَّ أَن تُشغَلَ بِالطَّاعَاتِ، وَإِلاَّ شُغِلَتْ بِالْمَعَاصِي. فَلْيَحْرِصِ الآبَاءُ عَلَى إِدْخَالِ أَبْنَائِهِمْ حَلَقَاتِ التَّحْفِيظِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي بِلَادِنَا وَللهِ الْحَمْدُ. وَتَعْلِيمِهِمُ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ، وَتَشْجِيعِهِمْ عَلَى حُضُورِ الدُّرُوسِ وَالْمُحَاضَرَاتِ الْمُفِيدَةِ، وَتَعْلِيمِهِمُ الْعُلُومَ الْمَادِيَّةَ النَّافِعَةَ. اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ آجَالَنَا. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوالْغَفُورُ الرَّحِيمُ. الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أمَّا بَعْدُ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الْمُخَدِّرَاتِ تَقُودُ صَاحِبَهَا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وكَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ فَمَا أَكْثَرَ تَارِكِي الصَّلَاةِ مِنْ مُتَعَاطِيهَا! وَمَا أَكْثَرَ مُرْتَكِبِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ مُدْمِنِيهَا! إِنَّهَا شّرٌّ وَوَبَالٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ كَغَيْرِهَا مْنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ؛ يَسْتَطِيعُ صَادِقُ التَّوْبَةِ، حَسَنُ النِّيَّةِ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَيُصْبِحَ فَرْدًا صَالِحًا، وَعُنْصُرًا فَعَّالًا فِي مُجْتَمَعِهِ؛ مَتَى صَدَقَ مَعَ اللهِ وَعَادَ إِلَيْهِ وَاتَّقَاهُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ بَرٌّ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ يَدٌ صَادِقَةٌ مٌتَضَرِّعَةٌ فَرَدَّهَا خَائِبَةً. فَمَا عَلَى الْمُبْتَلَى بِهَا إِلَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ، وَلَنْ تُعْدَمَ الْخَيْرَ مِنْ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، فَتَخَلَّصْ مِنْ مُجْتَمَعِهَا سَرِيعًا، وَفِرّ مِنْهُ عَاجِلًا، فَهُومُجْتَمَعٌ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُنْدَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِ، وَالسَّعَادَةُ - كُلُّ السَّعَادَةِ- لِمَنْ غَادَرَهُ وَقُوَاهُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ وَالْفِكْرِيَّةُ تَعْمَلُ وَلَوبِحُدُودٍ ضَعِيفَةٍ لِيُمْكِنَهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَ قَبْلَ دُنُوالْآجَالِ وَقُرْبِ الْمَمَاتِ. وَهَا هُوشَهْرُ الخَيْرِ وَالتَّوْبَةُ قَدْ أَقْبَلَ؛ فَلَا فُرْصَةَ أَسْنَحُ مِنْهُ لِكُلِّ تَائِبٍ وَنَادِمٍ وَمُذْنِبٍ وَمُفَرِّطٍ، فَهَا هُوالمُنَادِي يُنَادِي: يَا بَاغِيَ الْـخَيْـرِ أَقْبْلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ المُبتَلَينَ بِالمُخَدِّرَاتِ مَرضَى يَحتَاجُونَ إِلى الرِّعَايَةِ وَالعِلاجِ، وَغَرقَى يَتَشَوَّفُونَ إِلى المُسَاعَدَةِ وَالإِنقَاذِ، وَمِن ثَمَّ فَلابُدَّ مِن فَتحِ القُلُوبِ لَـهُمْ وَمَدِّ جُسُورِ المَحَبَّةِ إِلَيهِم؛ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَصِيحَةٍ مُخلِصَةٍ، وَمُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ وَعِلاقَةٍ حَمِيمَةٍ، وَأَسَالِيبَ مُنَوَّعَةٍ وَطُرُقٍ مُختَلِفَةٍ، يُمزَجُ فِيهَا بَينَ التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ، وَيُقرَنُ فِيهَا الثَّوَابُ بِالعِقَابِ، وَهَذَا يَفرِضُ عَلَى الْمُعَالِجِ التَّحَلِّي بِالصَّبرِ وَالتَّحَمُّلِ، في طُولِ نَفَسٍ وَسَعَةِ بَالٍ وَبُعدِ نَظَرٍ، مَعَ تَعَلُّقٍ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِلحَاحٍ عَلَيهِ بِالدُّعَاءِ لِهَؤُلاءِ المُبتَلَينَ بِالهِدَايَةِ وَالتَّوفِيقِ. أَمَّا أَنتُم أَيُّهَا الشَّبَابُ وَالفِتيَانُ، يَا أَبنَاءَنَا وَيَا فَلَذَاتِ أَكبادِنَا، فَاعلَمُوا أَنَّ المُخَدِّرَاتِ طَرِيقٌ مُوحِشَةٌ، وَغَايَةٌ مَسدُودَةٌ، بِدَايَتُهَا الفُضُولُ وَالتَّجرِبَةُ، وَمُجَارَاةُ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ بِلا وَعيٍ وَلا تَفكِيرٍ، وَلَا إِدْرَاكٍ لِخَطَرِهَا، وَآخِرُهَا هَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُودُ للإِدْمَانِ، وَتَدمِيرِ النَّفسِ، وَتَضيِيعِ الحَيَاةِ، وَسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنيَا، وَخُسرَانِ الآخِرَةِ. أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -يَا شَبَابَنَا- وَكُونُوا أَقوِيَاءَ بِدِينِكُم مُتَوَكِّلِينَ عَلَى رَبِّكُم، قَوُّوا عَزَائِمَكُم وَإِرَادَاتِكُم، وَلا تَجعَلُوا أَنفُسَكُم أَسْرَى لِلمُخَدِّرَاتِ، تَسُوقُكُم نَشوَةُ دَقَائِقَ وَتَقُودُكُم مُتعَةُ لَحَظَاتٍ، ثم تَكُونُوا رَهَائِنَ في أَيدِي المُرَوِّجِينَ وَالمُفسِدِينَ. قَد هَيَّؤُوكَ لأَمرٍ لَوفَطِنتَ لَهُ   ***   فَاربَأْ بِنَفسِكَ أَن تَرعَى مَعَ الهَمَلِ اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْووَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.
العبث بالثروة مئتان وخمسة وعشرون مليون ريال خصَّصتها امرأة غنيَّة، في الخامسة والسبعين من عمرها، للعناية بالقردة "كالو" ذات الخمسة عشر ربيعًا، وإخوتها من القردة والكلاب، التي جمعَتها هذه السيدة في مزرعتها، في جنوب إفريقيا، وهي ليست جنوب إفريقية، ولكنها من بقايا رعايا الاحتلال السَّابق، هذا المبلغ مخصَّص لهذه الحيوانات الأليفة، بعد أنْ تُتوفَّى السيِّدة الغنية، وهي تعيش مع زوجها، لكنَّها تنام مع ستة من صغار القردة في سرير واحد؛ لأنه يتعيَّن عليها إرضاعها في الليل. يبدو من الخبر أنَّ هذه السيدة الكبيرة لم ترزق - ربَّما بإرادتها - بأولاد، فاهتمَّت بهذه الحيوانات، بديلًا عن الأولاد. وتذكر - كما يقول الخبر - أنَّ زوجها يتفهَّم هذه العناية، وإنْ كان لا يحتفظ لهذه الحيوانات بأيِّ ودٍّ أو حنان، رغم أنَّ زوجته الثريَّة قد تركَت له بيتًا من البيوت الثمانية، الموجودة في المزرعة، فيما لو رحلت قبله. لم يذكر الخبر عن هذا المبلغ (225,000,000) ريال هل هو جلُّ ثروتها، أم أنَّه جزء من ثروتها، وما نسبته من ثروتها، ومهما يكن من أمر، فالمرأة مصمِّمة على هذا الإجراء، ويبدو أنَّها قد حصلَت على الوثائق التي تثبت عزمها على تخصيص هذا المبلغ لهذا الجَمع من الحيوانات، وعلى رأسها العزيزة لديها "كالو" القردة الأليفة. يمكن للواحد منَّا أنْ ينطلق في التعليق متوخِّيًا الحكمة، مُظهرًا - عقليًّا - عدم القبول بهذا الإجراء، ولكنَّه لن ينطلق في هذه الحروف القصيرة؛ لأنَّ التعليق أحيانًا يفسد العبرة من الخبر، ولأنَّ القارئ الذي اطَّلع على هذا الخبر على قدْرٍ من الوعي والحصافة؛ بحيث يغني الوعي عن المزيد من التعليق. ليس هذا هو الإجراء الأوحد في تَوريث الحيوانات الأليفة وغير الأليفة، ولم يكن الأوَّل، ولن يكون الأخير، وفي قارَّة يوجد فيها قدرُ هذا المبلغ من بني آدم، هم دون الحد الأدنى من الفَقر، يمكن لهذا المبلغ أنْ يفعل معهم فعائلَ، قد ترقى بهم إلى درجة واحدة - على الأقل - فوق الحدِّ الأدنى من خطِّ الفقر، الخبر لم يقل: إنَّ هذه المرأة الغنية قد دفعَت ضعف هذا المبلغ، أو قدره، للعناية ببني آدم، من القارَّة الإفريقية، أو غيرها من القارَّات. عندما يتحدَّث المرء عن الخصوصية لبعض المجتمعات فإنَّه يعني - مما يعنيه - أنَّ هذا الفعل لا يحدث في مجتمع له خصوصيَّته في فهم الحياة، والتعامُل معها، والتعامُل مع الأحياء والجمادات فيها، وترى هذه الخصوصيَّة المنتمية أنَّ في هذا الإجراء من هذه السيدة ومثيلاتها وأمثالها إنَّما هو خلَل في الموازين والأولويَّات، يؤدِّي إلى نتائج لا تعود على البشريَّة بخير. إذا كان هذا الخبر يَستحقُّ النَّشر لما فيه من غرابة، فهناك وجوه كثيرة ينفق عليها الموسرون على حساب احتياجاتٍ لبني جنسهم، ولكنَّهم يتردَّدون كثيرًا، عندما يطلب منهم مباشرة، أو بطريق غير مباشر توجيه شيء من الخير الذي اؤتمنوا عليه إلى مصارفَ كفيلة - بإذن الله تعالى - أنْ تزيد من هذا الخير لديهم، تراهم يتردَّدون كثيرًا، بسبب من هذا الخلَل في الموازين. نحن - هنا - نتشبَّث بالخصوصيَّة القائمة على مبادئ ثابتة في فهم الحياة، وتدعو هذا الوقفة إلى المزيد من التشبُّث في هذا التوجُّه، الذي نراه نحن متعقِّلًا، وإنْ رآه غيرنا متحفِّظًا [1] . [1] انظر في مناقشة مفهوم الخصوصية: علي بن إبراهيم النملة: السعوديون والخصوصية الدافعة: الإصرار على التميُّز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1428هـ/ 2007م - ص 285.
أبوبكر الصديق في القرآن الكريم لعبدالعزيز بن أحمد الحميدي صدر حديثًا كتاب " أبوبكر الصديق في القرآن الكريم - رضي الله عنه - "، تأليف الشيخ د. " عبدالعزيز بن أحمد الحميدي "، نشر: "دار طيبة الخضراء" . وهو بحث تناول علاقات التداخل والترابط بين الصدِّيق "أبي بكر الصديق " والقرآن الكريم، "فقد خُطّ هذا الكتاب ليكون نافذة يدلف القارئ من خلالها إلى فردوس القرآن هنالك حيث روضة الصدق الغنَّاء التي تلوح آثار الصدِّيق على كل شبر من أرضها، ويفوح عبير أنفاسه في كل نسمة من نسماتها". وترصد محطات ها الكتاب أي علاقةٍ تلك التي كانت بين الصديق والقرآن، فتارةً ترى القرآن متحدثًا عن الصديق معددًا لمناقبه إجمالًا وتفصيلًا، وأخرى ترى الصديق متحدثًا بالقرآن، دائب الاستمساك بحبله لا تجد لدأبه تحويلا، وثالثة ترى حفاوة القرآن بالصديق جلية في اتخاذ مواقف حياته سببًا لنزول جملة من الآيات، ورابعة ترى فقه الصديق وعلمه بدقائق القرآن جليًا في جملة من روائع التأويلات، وبالجملة ترى ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم بين الصدِّيق والقرآن في باقة بديعة من قصص الصدِّيق مع القرآن العظيم. وفي ثنايا ذلك تطالع بين الفينة والأخرى تحقيقًا هنا واستقصاء هناك، وتفنيدًا لبعض الشبه والادعاءات التي أثارها الحاقدون من الرافضة حول الصديق وأهل بيته رضي الله عنهم. يقول الكاتب: « على مدار تاريخ أمتنا تبارى فرسان الكلمة في ميدان الحديث عن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصديق الأمة أبي بكر - رضي الله عنه -، ويا له من ميدان رحب فسيح، جرد فيه أرباب البيان لأجله أفضل أقلامهم، وأنفقوا في سبيله نفيس عدادهم، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، حاشدين في ساحاته عقود المعاني، فما بلغوا معشار ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ﴾ [التوبة: 40]، وأنى لمخلوق أن يبلعها والحروف على كثرتها قاصرة وقرائح الأدباء على بذلها مقصرة؟!! فما هي إلا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ"، فكفى بالله - عز وجل - للصديق مكافئًا، وكفى بقرآنه عنه متحدثًا، وسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو... ». والمؤلف هو د. " عبدالعزيز بن أحمد الحميدي " أستاذ مشارك في قسم العقيدة في جامعة أم القرى في مكة المكرمة. ♦ حصل على الماجستير في العقيدة بالجامعة الإسلامية سنة 1411هـ بتقدير ممتاز، وكان عنوان الأطروحة: ( أفعال العباد بين أهل السنة ومخالفيهم ). ♦ حصل على درجة الدكتوراه في العقيدة الإسلامية من قسم العقيدة بجامعة أم القرى سنه 1418هـ ♦ وكان عنوان الأطروحة للدكتوراه: (( المسائل التي نسبها المتكلمون إلى الأئمة الأربعة في أصول الدين )) بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف . له العديد من المؤلفات وهي: 1) براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة. طبع سنة 1422هـ. 2) المزدلفة: أسماؤها - حدودها - أحكامها. طبع عدة طبعات. الأولى سنة 1427هـ. 3) صراع النهاية بين مسيح الضلالة ومسيح الهداية. طبع سنة 2000م. 4) كتاب البرق اليمني في نقد مرويات قصة أويس القرني. طبع سنة 1429هـ. 5) أفعال العباد وصلتها بالقدر. طبع سنة 1425هـ. 6) البلد الحرام فضائل وأحكام بالاشتراك. طبع كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى سنة 1428هـ. 7) الحرية بين الشرع و الوضع. تحت الطبع. 8) نسخ وروايات الجامع الصحيح للإمام البخاري. طبع سنة 1424هـ. 9) مفهوم الإمامة والبيعة والجماعة عند أهل السنة والجماعة.
مقال الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا مقال لم أرد تسميته، وجعلت ذلك للقارئ؛ لكن وضعت له خيارات يختر أيها شاء، فسمه إن شئت: " النقد البناء كيف يكون؟ "، أو " النقد بين الشكل والجوهر "، أو " تعقب التعقب "، أو " فهلوة النقد "، فلا مشاحة في العنونات طالما أنها أنساب لمضامينها. فمن ينظر نظرة ثاقبة في التعقبات والتعقيبات، والنقد والانتقادات، وعرض الاعتراضات يجد حين كونه متأملا متألما في آن واحد، حيث الاهتمام بالشكل لا الجوهر، والتركيز على هامشية الخطأ، وترك ما فيه من درر، كمن ينقد قصيدة لفحول من قالوا الشعر؛ فيهدم القصيدة؛ لكون الشاعر لم يرد العجز على الصدر، ويترك ما جوَّده من اللآلئ ودرر وعبارات تستلهم منها العبر، وما هكذا كان حال السابقين ممن غبر، بل كانوا يعمقون النظر، ويقفون عند الحق أينما كان الأمر، فلا بد أن يعلم أن نقد المحتوى لعدم إجادته وفهمه لا يعد نقدًا، وكم من عائب قولًا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم، فنقد التراث مثلًا كثير ممن يتعرضون له ويريدون تنقيته لا يفهمون مراد القدامى، وما وقفوا على العلوم التي وقفوا عليها، وليست هذه عصبية لهم، والخطأ عندهم موجود ووارد لا ينكر، لكن مما يستنكر التجاسر على التخطئة من غير إلمام بما ألموا به، فَهٌمْ فهموا، فمن أراد النقد فليفهم كيف فهموا وإلا صار الفهم وهمًا. ومن السقطات العظمى في هذه الآونة الإسقاطات الكبرى على أخطاء شكلية كعدم ضبط بعض الكلمات بالشكل؛ فيدعي هدمًا لبنية المحتوى بنيةٍ فيها خلل. ومما ضعف الأمر إشكالًا تضعيف المعالجات اعتمادًا على عد المراجع والتوثيقات، والعد في مثل هذا به لا يعتد، وكذلك مما يجعل المرء في حيرة أن بعض الباحثين دون المستوى ومع ذا يحصلون على أعلى مستوى وغيرهم يكونون قريبين إلى الجادة لكنهم بالمقاييس العلمية أعلى ما يحصلون عليه مرتبة " جيد جدًّا "، أو تكون له منحة إن حصلوا على المنح، فإن أعطيتهم حقهم ما حققت المراد؛ لأن دونهم صاروا أعلى منهم، وإن أعطيتهم فوق ذلك كان الاستحاق غير محق على الحقيقة، فما الصنع في مثل هذا؟؟!! . وقد ناقشت بعض شيوخنا في هذه المسألة؛ فكان الأمر بعد سجال أن كل شيء على المرء يسجل، وماذا هو قائل غدًا لربه عندما يسأل؟ وكذلك من المشكلات المشكلة في أيامنا، بحثًا عن تقويم البحث العلمي، أن من الناس ناسًا يجوِّدون كتابتهم ويجدُّون في تآليفهم وبحثهم ليجدوا غايتهم ومرادهم، لتحقيق مقومات بحثهم، ومع ذا لا يجدون تقييمًا لما قاموا به، وهذا مما يدعو إلى التأمل والنظر. ومن عجيب ما يعجب له أن المناقشات العلمية أصبح ما يبث من تقويم الباحثين خلالها تشددًا وشيئًا يدعو للملل، وفي الحقيقة هذا تصور يجلب العلل، فلا بد لتحيقيق الإفادة ولكي نكون على الجادة أن يكون هناك نظر ومراجعة وإعادة؛ تحقيقا للصواب، وسعيًا للحصول على الثواب. أسأل الله أن ينفع بها الباحثين والطلاب، وأن يرزقنا القبول والأجر والثواب، وأن تكون تمييزًا للقشر عن اللباب، وعلها أن تكون طرقة على الباب، وصفحة من كتاب، وقطرة من رُضاب.
نحو البصريين بين التقعيد والواقع اللغوي لإبراهيم محمد إبراهيم داود صدر حديثًا كتاب: " نحو البصريين بين التقعيد والواقع اللغوي "، تأليف: د. " إبراهيم محمد إبراهيم داود "، نشر: " مكتبة الإمام الذهبي للنشر والتوزيع " بالكويت، و" دار التراث الذهبي للنشر والتوزيع " بالرياض. وأصل الكتاب أطروحة علمية تقدم بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في اللغة واللسانيات - قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية، وأشرف على الرسالة د. "أحمد سليمان ياقوت"، وذلك عام 1425 هـ- 2005 م. وتهدف تلك الدراسة إلى بيان أسس نحو المدرسة البصرية، في مقابل المدرسة الكوفية، تلك المدرستان الرائدتان اللتان هيمنتا على علم النحو العربي طيلة قرون عديدة، وكانت سجالاتهما رافدًا من روافد ومصادر تطور النحو العربي، وكثرة المصنفات فيه. يقول الكاتب: " ...وما اتساع مدارس النحو العربي وتنوع خلافاتها إلا انعكاس لمرونة اللغة واتساع دروبها، وكشف عن طبيعة النص الذي لا يتسم بالجمود، وعن مناهج مختلفة للعقل العربي، فمنهج البصريين يقوم على اطراد القاعدة وعدم الإذعان للشاذ والنادر، ومنهج الكوفيين أساسه الاعتداد بكل ما جاء عن العرب، فنحن أمام منهجين أولهما منهج عقلي، وآخرهما منهج نقلي، والفرق بين المنهجين مائة عام أو قرن من الزمان. ولا شك أن هذين المنهجين يعبران عن تحمس العربي للغته، الأمر الذي جعل هذا الخلاف يفتر عند البغداديين الذين استوعبوا المنهجين، فوجدوا ألا مناص من الأخذ بهما، ولم يقف البغداديون عند حد الأخذ، بل أضافوا فكرهم ومنهجهم، وهذا أمر منطقي؛ لأنه استمرار لسنة التطور، وأخذ بأسباب النمو العقلي، وسوف نعرض لهذه المناهج جميعًا بالتفصيل في التمهيد الذي عقدناه لهذا البحث إن شاء الله تعالى". ويرى الكاتب في دراسته أن البصريين عرضوا أثناء درسهم لنصوص العربية لثلاثة أنواع من القواعد في النحو: أولًا : قواعد يساعدها الاستعمال اللغوي، وهذا النوع لا مجال للبحث فيه إلا إذا أراد الباحث أن يتعلمه أو يؤكد رسوخ قدم النحاة فيه. ثانيًا : قواعد لا يساعدها الاستعمال، أي ليس لها شاهد من كلام العرب، وهذا النوع يحتاج إلى دراسة مستقلة يضطلع بها باحث شجاع. ثالثًا : قواعد يصادمها أي يخالفها الاستعمال اللغوي، وهو مدار البحث، فهو يعرض أولًا للقاعدة التي وضعها البصريون، ثم يبين وجه الحكمة التي من أجلها صيغت هذه القاعدة، ثم يدير بعد ذلك مناقشة واضحة يبين فيها مدى صحة أو خطأ العلة التي جاء بها البصريون لإثبات حكمهم الموضوع، ثم يأتي بكلام العرب ليظهر درجة مصادقته لذلك الحكم. والبحث في أثناء ذلك لا يغفل حكمًا يحتاج إلى تحليل أو تعليق، وإنما يعرض لجميع الأحكام من واجب وجائز وممنوع وحسن وقبيح وكثير وقليل ونادر... ومن حكم ٍمتعلق بماهية الكلمة ومعناها وإعرابها وتركيبها داخل الجملة. وقد بحث الكاتب في كتب القراءات القرآنية والتفاسير والدواوين الشعرية لاستخراج تلك القواعد النحوية، حيث بحث فيما يقرب من ألف ومائة ديوان من الشعر العربي في الجاهلية والإسلام؛ لاستخراج الشاهد منها الذي يخالف القاعدة الموضوعة. وقد جاءت الدراسة في مقدمة وتمهيد وخمسة أبواب وملحق وخاتمة وفهرس: أما المقدمة فقد تناولت أهمية الموضوع، والغرض منه، والدراسات السابقة له، وخطته، وأهم الصعوبات التي واجهت الكاتب في إخراجه، والمنهج الذي سار عليه. وأما التمهيد فكان تحت عنوان "المذاهب النحوية بين التأييد والمعارضة"، وتناول المذاهب الخمسة المعروفة في النحو العربي، وعرضَ لآراء العلماء ما بين مؤيد ومعارض، وبيَّنَ أن الاعتراف بها فضيلة وخير كبير للنحو العربي، ثم تحدث الكاتب في التمهيد عن نشأة كل مذهب، ومراحل نموه وتطوره، والمنهج المتبع في دراسة النحو والتقعيد للعربية الفصحى، والخصائص التي تميز بها عن غيره من المذاهب الأخرى. وجاء الباب الأول بعنوان "الإعراب والبناء" حيث عرضَ فيه الكاتب للأحكام المتعلقة بالاسم والفعل المعرب والحرف، وبيَّنَ أن حركة الإعراب يجوز حذفها من الكلمة المعربة، وإنه يجوز نصب جمع المؤنث السالم بالفتحة، وضم نون المثنى وفتحها، وجمع المذكر غير العاقل بالواو والنون، ورفع الاسم بضمة ظاهرة، وحذف النون من المضارع في حالة الرفع، ونيابة "أل" عن الضمير، إلى غير ذلك من الأحكام المذكورة في الباب. ويدور الباب الثاني حول "الجملة الاسمية ونواسخها" حيث عرضَ فيه للجملة الاسمية المجردة - جملة المبتدأ والخبر - والجملة المنسوخة بالفعل - كان وأخواتها وكاد وأخواتها وظن وأخواتها - والجملة المنسوخة بالحرف - إن وأخواتها، ولا النافية للجنس - وقد بيَّنَ فيه اعتمادًا على كلام العرب أنه يجوز وقوع الوصف مبتدأ دون اعتماد، واستتار الضمير في الخبر المشتق، ورفع الخبر بعد كان وأخواتها، ووقوع اسم كان نكرة وأقل تعريفًا من الخبر، ورفع اسم إن وأخواتها، ودخول إن على اسم الشرط، وإعراب اسم لا المفرد، إلى آخر ما هناك من أحكام متعلقة بالماهية والإعراب والتركيب. ويدور الباب الثالث حول "الجملة الفعلية ومكملاتها"، وعرضَ فيه لركني الجملة الفعلية - الفعل وفاعله والفعل ونائب الفاعل - وفضلات الجملة الفعلية - المفاعيل الخمسة والحال والتمييز والمستثنى -، وبين أنه يجوز تثنية الفعل وجمعه مع الفاعل المثنى والمجموع، وتأنيث الفعل مع الفصل بإلا، وتعدي الفعل إلى ضمير فاعله، وحذف الفاعل، ووقوع الفاعل جملة، وتثنية المفعول المطلق وجمعه، ووقوع إذ للاستقبال، ووقوع الحال معرفة ومصدرًا، ووقوع التمييز معرفة، ونصب المستثنى بعد حاشا وخلا وعدا، وجره، وإضافة الشيء إلى نفسه، وبقاء المضاف إليه على جره مع حذف المضاف، إلى ما لا نهاية من الأحكام الخاصة بما زاد عن أعمدة الجملة الفعلية. ويضطلع الباب الرابع بـ"الأساليب"، وتناول فيه أسلوب الشرط والنداء والقسم، وأكدَّ أنه يجوز رفع فعل الشرط وجوابه، وخلو الجواب من الفاء والجملة اسمية، ونصب المنادي المفرد ورفعه، وحذف حرف النداء، وترخيم المنادي المضاف، وحذف حرف القسم وإبقاء عمله، وخلو جواب القسم من قد واللام، وتقديم معمول جواب القسم عليه، وقد أملتْ مادة البحث عرض أسلوب النهي والأمر والدعاء والاستفهام والتمني والترجي والعرض والتحضيض؛ لأنه لم يوجد في كلام العرب من الشواهد ما يخالف الأحكام المضروبة لهذه الأساليب الثمانية. ويهتم الباب الخامس بـ"التوابع"، حيث تناول فيه الكاتب القواعد المتعلقة بعطف النسق والبدل والتوكيد وعطف البيان والنعت، وأثبت أنه يجوز عطف الإنشاء على الخبر، والعكس، والعطف على معمولي عاملين، وخلو بدل البعض والاشتمال من الضمير، وإبدال الكل من البعض، وتكرار البدل في غير الإضراب، وتوكيد النكرة توكيدًا معنويًا، والتوكيد بـ"أكتع" دون "أجمع"، ووقوع عطف البيان ومتبوعه نكرتين، وتخالف عطف البيان مع متبوعه تعريفًا وتنكيرًا، ومخالفة النعت للمنعوت تعريفًا وتنكيرًا، ووصف الضمير والوصف به، وتقديم النعت على المنعوت. وأبرزَ في الملحق مجموعة من المسائل التي لم يدرجها في متن الدراسة؛ وذلك لأن البصريين كانوا على حق فيها؛ إذ لم ترد إلا في الشعر، وطرحها الكاتب بين يدي الباحثين لعلهم يجدون في النثر ما يخالفها، فيعيدوا صياغتها من جديد. والخاتمة أجمل فيها الكاتب أهم الملاحظات والنتائج التي توصل إليها، وخُتِمَتْ الدراسة بثبت يضم أسماء المصادر والمراجع التي أحال إليها الكاتب.
لوط عليه السلام نبيُّ الله لوط: هو ابن أخي إبراهيم، الوحيد الذي آمن معه من الرجال، وهاجر معه بعد أن اشتد أذى النمرود في العراق: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26]، واستقرَّ مع عمه إبراهيم في فلسطين، ولما نُبِّئ أمَره الله تعالى بالتوجه إلى ديار سدوم، القريبة من الجهة الشمالية للبحر الميت، وقد سُمِّيت (المؤتفكة) ؛ لِما حصل لها من إنزال عقوبة الله بها: ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ [النجم: 53]، فسُمِّيت بهذا الاسم؛ لانقلاب أعلاها إلى أسفلها؛ لذلك سمي الأفَّاك: المرتد المنقلب رأسًا على عقب، وعليه فإن لوطًا عليه السلام أُرسل إلى هؤلاء القوم. ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الشعراء: 160 - 163]. فهل كان لوطٌ أخاهم حقًّا؟ ونعلَم أنه هاجر إلى ديارهم من العراق، لكن السياق القُرْآني في سورة الشعراء ذكر معاناة الأنبياء مع أقوامهم بدءًا من نوح، وجعل كل نبي أخًا لقومه، فكانت المؤاخاة متنوعة، بعضها: مؤاخاة النسب حقًّا، وبعضها مؤاخاة الإنسانية، وبعضها مؤاخاة اللفظ الدارج في لغة العرب؛ حيث ينادى الرجل عادة: (يا أخا العرب) . خاطَب قومه بأرقِّ عبارة: ﴿ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الشعراء: 161] أن تعملوا ما يقيكم من غضب الله؛ فلا تعتدوا على المحرَّمات، واعلموا أني لكم ناصح أمين، لا أغشكم أبدًا، فأطيعوني فيما أدعوكم إليه، ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 164]، فلا أطلُبُ منكم على نصحي لكم أجرًا؛ فالله تعالى أرسلني إليكم؛ لهدايتِكم؛ لتعبدوه وحده، وتلتزموا بتعاليمه، فهذا لأجلكم، ولفك رقابكم من النار، والله تعالى هو الذي يجزيني أجري ثوابًا من عنده، والله عنده حسن الثواب، فقالوا: أفصِح، ماذا تريد منا؟! ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [الأعراف: 80، 81]. وقد نوَّع لهم في الخطاب للكفِّ عما هم فيه، فأصمُّوا آذانهم، وكان في كل مرة يذكرهم فيها يقولون له: ما طلبك؟ وهم يعرفون ما يريده منهم، لكن كانوا يحبون الجدال؛ لعلهم يظفَرون منه بتجاوز هذا الطلب، أو أن يغفُلَ عنه مرة، إنهم يريدون بكثرة الجدال أن ينسوه الأمر الذي جاء من أجله، أو يحولوه عن طلبه هذا، فهم منغمسون فيه، مدمنون عليه، وقد تعارفوا فيما بينهم على هذا المنكَر، فلا ينكر بعضهم على بعض في مقارفته، بالرغم مِن شناعته وبشاعته، ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [النمل: 54، 55]. فقد كان يُبصر بعضهم بعضًا وهم يمارسون الفاحشة بلا حياء ولا خجل، لقد جعلوا القبيح حَسنًا، والحسَن قبيحًا، وعمموه فيما بينهم، ومنعوا أي شخص يفُوه بإنكاره، كحال دول الغرب اليوم الذين أحلُّوا الزنا، ومنعوا النكير بشأنه، وعدُّوه حرية شخصية، كما تعارفوا بأن مصطلح الزنا - المومس - يكون للمرأة التي تمتهنه وتأخذ أجرًا عليه، أما التي تزني باسم الحب فهذا الطُّهر والعفاف بعينه، وتخلَّوا عن أية تعليمات دينية كانوا عليها. وصمت عن النصح رجالُ دِينهم، بل إنهم وافقوهم وآكلوهم وشاربوهم، وهكذا حولوا مفهوم الأشياء بالتواطؤ الجماعي؛ فالحِلُّ ما أحَلوه، والحرام - إن وجد عندهم - ما حرموه، إباحية ما بعدها إباحية، حتى وُجد مِن بعض المسلمين الذين انسلخوا عن القِيم مَن يروج لأفكارهم وأخلاقهم. والمولى تعالى ما منع المنكرات المؤذية للإنسان في بدنه وفكره إلا لأجل سلامته ونقاوته، وعمران الكون ونظامه، ثم إنه فتح لهم أبوابًا من طرق الحلال أكثر وأنقى مما منع؛ فقد أحل لهم الزواج الذي يصرف طاقة الشهوة والجنس ، ويكون مِن ثماره تتابُعُ النسل لاستمرار الحياة: ﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [الشعراء: 165، 166]، تحبُّون العدوان على الآخرين؛ وذلك لأنهم كانوا يفعلون هذا مع الغرباء على وجه الخصوص، وأنها سابقة خطيرة لم تفشُ إلا عندهم. ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ [العنكبوت: 28، 29]. ولم يكن إتيان الرجال شهوةً من دون النساء جريمتَهم الوحيدة، بل كانوا أهل شر مستطير، يقطعون الطريق، ويخطَفون الذكور، مع فوضى عارمة من اللعب بالحمام، والصفير، والشتائم، وسوء الأخلاق، ولم يقتنعوا بنُصح لوط لهم، بل أصروا على ضلالهم، وعدُّوا فكر لوط شاذًّا ومحبِطًا لمشاريعهم، وأنه خارج عن الإجماع، فلا ينبغي أن يساكنَهم في بلدهم: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴾ [الشعراء: 167، 168]. إن لوطًا لم يكن ينتصر لأمر شخصي؛ فدعوتُه أمر من الله للاتجاه في هذا السبيل، وعليه فإن موقف لوط ثابت، بل يسعى بكل ما أوتي من قوة وجهد أن يَثْنِيَهم عما هم فيه من الغيِّ والضلال، فجوابه على تهديدهم أنه غيرُ موافِق على عملهم الشائن؛ فهو قالٍ ومُبغِضٌ له بشدة. ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، وهنا اتَّخَذوا القرار بطرده وأهله ومَن على طريقته، غيرَ مبالين بما توعدهم من عذاب الله وغضبه، فإذا نزل بهم فسيكون أليمًا شديدًا، لكنهم تحدَّوْه أن يصيبهم بأي مكروه، وظنوا أن إلانةَ القول لهم، وأمره لهم بالمعروف أنه ضعيف أو كاذب يهدِّدهم بما لا يقدر عليه، فتحدَّوْه أن يأتيهم بالعذاب، أو أن تصيبهم نقمةٌ من الله. ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [العنكبوت: 29، 30] ، فلجأ إلى الله يستنصره عليهم، وأن ينجيَه مِن خطرهم وشرهم، فقال: ﴿ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 169]، لقد استجاب اللهُ دعاءَ لوط في هؤلاء الأشرار، لقد بذل معهم كل جهد ممكن ليصلحهم، لكن قلوب أهل سدوم غلَّفها الران الذي لا ينفُذُ من خلاله النور، فأصروا على اتباع طريق الضلال. وجاءت الفرصة الأخيرة والاختبار الصعب، فإما هداية وعفو عما سلف، وإما دمار مهلِك: ﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ﴾ [هود: 77، 78]، وزار لوطًا زوارٌ غرباء، على هيئة شباب في منتهى الجمال، فاغتم لوط لأجلهم، وضاق صدره، وخشي عليهم من قومه السفهاء الذين سيقبضون عليهم ويمارسون معهم الفاحشة، وتمنى ألا يراهم قومه، لكن أخبار الضيوف وصلت إلى قوم لوط، سرَّبتها لهم زوجة لوط، فأتَوا مسرعين يقرعون باب لوط، ويطلبون منه في سفاهة أن يسلِّمَهم ضيوفه، ولكي ينقذ ضيوفه عرض عليهم الزواج من بناته، يا قوم، إن كنتم تريدون الاستمتاع فاستمتعوا بما أحل الله لكم بالزواج من النساء، لا بإتيان الرجال؛ فشهوتكم مقلوبة، خالفتم في ذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها، فأنتم من الشواذ، ولا حياة للشواذ فوق هذه الأرض. ولما تمادَوا في الطلب والهجوم على دار لوط، وضعُف عن حماية ضيوفه أمام العدد المهاجم الذي يريد كل منهم أن يفوز بالغنيمة، صاح بهم لوط : ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ﴾ [هود: 78]، لقد عُدم الرشد عندهم أمام شبق الشهوة الفاجرة وسيطرتها على نفوسهم المريضة، ﴿ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ [هود: 79] إصرارٌ عجيب على المنكَر بلا خجل ولا حياء، وأي حياء يرجى من هؤلاء؟! فقال لوط مظهرًا ضعفه البدني، وتمنى أن يعطى من القوة ما يردعهم به ويؤدبهم: ﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80] ذكر القوة المحضة له وذكر العشيرة المناصرة، وهي عنده مفتقدة، لقد أتاهم مهاجرًا من العراق مع عمه إبراهيم، ودخل بلدتهم وحيدًا، والذين آمنوا بدعوته قلة، ذكر العصبة المناصرة لو كانت له عصبة. ومن هذا الموقف الصعب والتجاذب معهم نسي أن الركن الشديد - بل الأشد - هو الله، ومع ذلك لم ينسَه ربه من النصرة؛ لأن عملَه كان في سبيل الله، متحملًا دعوة هؤلاء الغِلاظ، الذين جعلوا من المنكر شرعة لهم، لقد عرَف أن هذا سيصدر منهم؛ لذلك قال: ﴿ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ [هود: 77]: صعب، ودعا أن يمضيَ على خير. ولما اشتدت المدافعةُ مع القوم الظالمين وأرهقوه وبلغ منه الجهد مبلغه، ولم يستمعوا للتخويف من بطش الله، أظهر جبريلُ عليه السلام - وكان من هؤلاء الضيوف - طرَفًا من جناحه؛ فأغشاهم وأعمى أبصارهم لبعض الوقت، فانسحبوا وهم يتوعدونه الصبح: ﴿ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [القمر: 36، 37]، تمارَوْا: تجادلوا بصدق ما أنذرهم به لوط، وخوَّفهم من حدوثه، فكانوا بين مكذِّب يحثُّ على الإجرام، ومتحدٍّ للوط بأن يأتيهم ما يعِدهم به من العذاب. وبعد طمس العيون لهؤلاء السفهاء، انتبه لوط إلى حقيقة أضيافه: ﴿ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، فأخبَروه أنهم ملائكة أرسلهم الله لمساعدته والقضاء على هذه الأمة الفاسدة: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ [الحجر: 61 - 63]، وهكذا توافدَتْ رسلُ الله من الملائكة إلى لوط للانتقام وهم يحمِلون نذر عذابهم، ومع ذلك فقوم لوط ماضون في غيِّهم وعنادهم، والسير في طريق الرذيلة، فجاء هؤلاء الملائكة وهم مأمورون بتدميرهم. وقد مروا في طريقهم على إبراهيم فأخبروه بذلك: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الحجر: 57 - 60]، فهذا أمرُ الله، ولا مردَّ لأمر الله تعالى؛ لأنه حكم بذلك، ﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 81 - 83]، وكان هؤلاء الملائكة قد مرُّوا على إبراهيم فبشَّروه بإسحاق، ولاحَظ - صلوات الله عليه - أن لهم مهمةً أخرى: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الحجر: 57 - 60]، فخشي إبراهيمُ عليه السلام أن يكونَ التدمير شاملًا، فقال: إن فيها مؤمنين، فقالوا: نحن أعلمُ بمن فيها؛ ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الذاريات: 35، 36]. فما كان فيها إلا لوطٌ وابنتاه، فحقَّ على قومه العذاب، ونجى الله لوطًا وابنتيه، أما زوجته فقد سمعت قوة الدمار فالتفتت خلفها، فرأت تدمير بلدتهم، ورجمهم بالحجارة، فصاحت: واقوماه، فأصابها حجر كما أصابهم، وهلكوا جميعًا. فعاد لوط إلى ديار إبراهيم: ﴿ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 74، 75]، وجعَل الله ديارهم عبرة لمن اعتبر، شاهدة مدى الزمن على إهلاك هؤلاء الفاسدين؛ فقطع مِن الأرض شرورهم. وبعد عهود خاطب الله قريشًا ليعتبروا بما جرى لقوم لوط: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 137، 138]، ﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 76، 77]، فبلدتُهم على طريق التجارة إلى الشام، وهي شاهد قائم ولوحة طبيعية حفظت ما وقع من العقاب لمن أراد أن يعتبر ويشهد ما يؤول إليه مصير هؤلاء العصاة المكذبين للرسل. أخرَج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، ويرحم اللهُ لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعيَ)).
أسرار البحار في القرآن الكريم ملتقى البحرين لنتعرف على الإسلام من خلال شيء مألوف للناس جميعا يصفونه بأن أمواجه متلاطمة، وأعاصيره مهلكة، وشطآنه متباعدة ومياهه مالحة وألوانه متعددة، ويحمل القدور الراسيات في البحر كالأعلام. هذا هو البحر الذي يراه الناس. أما ما لم يكن معروفا للناس قديما وحتى عهد قريب فهو لجية ذلك البحر، وظلماته المتراكبة، وأمواجه التي تغشى قاعه، والسر عند التقائه ببحر آخر عذبًا كان أو مالحًا. حقائق تذهل قارئ القرآن الذى لابد أن يعجب من مصدر هذه الأسرار عن تلك البحار التي بلغ الناس بها على لسان نبي أمي منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام لم يعرف عنه أنه ركب البحر أو احترف مهنة الصيد، أو أنه استقى معلوماته من علم ساد في عصره. حقًّا فإن من يخبر بهذا حتما لابد أن يكون متصلا بوحى السماء. وتبارك وتعالى حيث يقول في كتابه الحكيم: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]. فهل يشهد لذلك النبي من عنده علم الكتاب من علوم البحار والجيولوجيا. يمكننا القول أن الأرض كوكب مائي تغطى البحار ثلاثة أرباع مساحته، بينما تمثل اليابسة الربع المتبقي منه، وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى أدق أسرار البحار. وها نحن نطالع في القرآن الكريم الصور المختلفة لتسخير البحار. فبواسطة البحر حملت ذرية بنى آدم في الفلك المشحون. ويسير الله قدورًا راسيات كالجواب في البحر، وبدون رحمة الله تظل تلك البواخر العملاقة رواكد على ظهره لو سكن الريح. ومن البحار نأكل لحما طريًا، ونستخرج منه حلية نلبسها. وقدر الله في البحار من الأقوات ما يكفي حياة كائنات لا يمكن حصرها عدًّا ونوعًا تفوق كائنات البر أضعافًا مضاعفة في العدد والتنوع. ومن الثروات العظيمة التي قدرها الله في البحار الجليد اللهوب المتمثل في حيد هيدرات الميثان التي تحوى من الهيدروكربونات ما يبلغ ضعفي ذلك المحتوى المتواجد في بترول العالم وغازه الطبيعي وفحمه الحجري. ومن عجائب القرآن أن كشف أسرار البحار التي لم يدركها العلم إلا في القرن العشرين. ونذكر من تلك الأسرار على سبيل المثال إشارة القرآن إلى ظلمات وأمواج البحر المتراكبة، وبرزخ وحاجز وملتقى البحرين، وجانب البر. ومن أروع صور الإعجاز العلمي في القرآن في مجال علوم البحار إشارات القران عن مد الأرض من عند منتصفات البحار، وتسجير البحار من عند تلك الأماكن. وتتضح الكثير من وجوه الإعجاز العلمي للبحار في القرآن الكريم في السطور التالية. ملتقى البحرين : كلمات وآيات: الكلمات الدالة : مجمع البحرين، مرج البحرين، بَرْزَخ، حِجْر مَحْجور، حاجز، عَذْب فُرات، مِلْح أُجَاج. والآيات فهي ثلاثة في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 53]. ﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 61]. ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان ﴾ [الرحمن: 19 - 22]. من الآيات الثلاثة تتضح ظواهر ملتقى البحرين ، ومنها: 1- وجود برزخ وحجر محجور عند مرج البحر العذب الفرات والبحر الملح الأجاج. 2- وجود حاجز بين البحرين دون الارتباط بنوع ماء البحرين. 3- وظيفة الحاجز جعل البحرين لا يبغيان. ويحسن بنا، بل يجب علينا أن نلم بتفسير الآيات السابقة، حتى يتسنى لنا فهم حقيقة الألفاظ السابقة: 1- "مَرَجَ" خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. و" مرج البحرين " أي خلطهما فهما يلتقيان. ويقال: مرجته إذا خلطته. 2- برزخا " حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، وقيل الأرض التي بينهما. " برزخا" أي حاجزا وهو اليبس من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر. 3- ﴿ وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر، سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالملح. 4- ﴿ حَاجِزًا ﴾ أي مانعا يمنعهما من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بهذا، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل على صفته المقصودة منه، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس، والمقصود منها أن تكون عذبة زلالا يسقي منها الحيوان والنبات والثمار، والبحارالمالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحا أجاجا لئلا يفسد الهواء بريحها. والحجز المنع، وقيل " حاجزًا " أي مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب. وبما أن ملتقى البحرين آية كونية كبرى، فإنه من المنطقي أن تتعدد وتتداخل معاني المفسرين حول البرزخ، والحجر المحجور، والحاجز بحيث تبدو لنا وكأنها معنى واحد. والمؤكد أن يجمعهم جامع؛ ولكن لكل منهم خاصيته. والواقع أن ملتقى البحرين يمثل لغزا علميا. وقصارى الجهد في ذلك أن نبرز بعض الإشارات العلمية حول ملتقى أو مجمع البحرين في النقاط التالية التي تلقى الضوء على الملاحظات الأربعة السابق ذكرها: ظاهرة التقاء العذب بالملح : عرف الإنسان منذ قديم الزمان أنه حينما يلتقي ماء النهر وماء البحر بالقرب من المناطق الساحلية، يدخل ماء البحر عند حدوث المد البحري ولكنهما لا يختلطان، ويبقى الماء عذبا تحت المالح. وهكذا كان يرى خط فاصل بين ماء البحر الأبيض المتوسط المالح وماء نهر النيل العذب أثناء فيضان النيل، وذلك بالقرب من بلدة فارسكور التي تقع إلى الجنوب من مصب نهر النيل ببضع كيلو مترات وكما أسلفت من قبل ليس من المستطاع الجزم بما إذا كان البرزخ بين البحرين شيء، والحجر المحجور شيء آخر، أو أن كليهما شيء واحد. ومما لا شك فيه أنه في حالة اختلافهما فسوف تكون بينهما علاقة قوية. ويتجلى الإعجاز العلمي في آيات مجمع البحرين في ثلاث إشارات: 1- برزخ البحرين ومستوى القاعدة التحاتي: يعلم دارسو علمي الأرض والجغرافيا أن هناك حدًا لعمق المجرى المائي سواء كان واديا أو نهرًا ، ويعرف هذا المستوى بمستوى القاعدة العام ( Base level ). ويوجد هذا المستوى بين النهر وفروعه وروافده، وكل تابع يحاول أن يصل بمستواه إلى مستوى المتبوع. ويوجد بين الوادي الكبير وأوديته الصغيرة مستوى يحكم جميع الأودية، وعلى سبيل المثال بين نهر النيل وفروعه مستوى يجاهد فيه الروافد في الوصول إلى مستوى النهر. وكذا الحال بين النهر وبين البحر، والمستوى الحاكم للعلاقة بينهما هو مستوى هو مستوى سطح البحر. ففي حالة انخفاض مستوى سطح البحر يسعى النهر إلى أن يخفض مستواه بأن يعمق مجراه حتى يتعادل مع مستوى سطح البحر المنخفض. وفي حالة ارتفاع مستوى سطح البحر يأخذ النهر في رفع مستواه بأن يرسب حمولته فيرفع من قاعه حتى يعادل مستوى سطح البحر المرتفع. وبذلك لا يطغى بحران يلتقيان. أيُ إعجاز علمي هذا في برزخ غير مرئي يجعل لقاء البحر بالبحر الآخر لقاءً آمنا لا يبغي فيه أحدهما على الآخر. 2 - حجر محجور والشد السطحي: وفقا لقانون الشد أو المط السطحي ( Surface Tension )، فإن جزيئات السائل يشد كل منها إلى الآخر، فيحتفظ كل سائل بكيانه الذاتي. وتختلف السوائل في قوة شدها السطحي. بل تختلف ف شدة المط السطحي تلك في السائل الواحد بتغير الكثافة. ويتكون غشاء مرن يفصل كل سائل عن السائل الآخر. ولماء البحر المالح شد سطحي، وللماء العذب شد سطحي، ونظرا لاختلاف شدة كل منهما، يحجز ذلك الماء عن أن يختلط بذاك الماء، " وهنا يتجلى وجه من وجوه الإعجاز العلمي في قول الله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 53]. 3- قاع البحر والحاجز: من الأشياء العجيبة، أن ماء البحر يتكون من طبقات متراكبة تختلف في ملوحتها، وكائناتها. وينشا عن ذلك بيئات عديدة تتمايز في صفاتها الطبيعية والكيميائية والبيولوجية. ومن المدهش أيضا أن نعرف أن قاع البحر الذي تغطيه المياة يتكون من عدة طبقات. وأعلى تلك الطبقات تتكون من الرسوبيات البحرية من رمل وحصى ووحل وطين وجير. ويوجد تحت تلك الطبقة طبقة من الحمم الوسائدية تشبه الوسائد في مظهرها، وتلك الوسائد قد تكونت من حمم بركانية بردت حينما صعدت الى الماء. وتوجد تحت الطبقة السابقة طبقتان من صخور البازلت وصخور الجابرو، وهما صخران ناريان. والطبقات الأربع تكون قشرة بحار العالم التي نطلق عليها اليوم المحيطات. وبما أن القشرة المحيطية تتكون من الصخور النارية، فلابد أن تكون مادة تلك الصخور قد صعدت من تحت البحر. والعلماء يعرفون تماما أن تلك القشرة قد أتت من الحمم التي تصعد باستمرار من جوف الأرض من عند منتصف قيعان البحار (شكل:33-34). بمعنى أن قاع أي بحر مسجر بالنار من تحت منتصفه (شكل 1-55)..وهنا يتجلى إعجاز علمي للقران الكريم في قوله تعالى وهو يقسم بالبحر المسجور. وإذا كان المفسرون قد اختلفوا في قوله تعالى: ﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾ [الطور: 6]، فقد جاء العلم الحديث ليكشف عن أحد أسرار ذلك القسم. شكل1-55): تحت كل بحر برزخ من تيارات حمل الوشاح حتى لا تبغى مادة قاع أحدهما على الآخر وهو أنه لكي يكون البحر بحرًا، لا بد أن يكون مسجرا بالنار ومستعدًا للاشتعال من منتصفه. هذا وفى "سنن أبى داود": (لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فإن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا). وقال سعيد بن المسيب: قال على رضى الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقًا وتلا: ﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾ [الطور: 6]. ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ [التكوير: 6]. وهكذا اكتشف العلم أن مادة قشرة كل بحر تأتى من تحته من وشاح الأرض من عند منتصف ذلك البحر. أما قشرة البحر القديمة المتواجدة على أطراف قاع البحر فتهبط إلى جوف الأرض لتنصهر، وتعود ثانية صاعدة لتكون قشرة جديدة من عند منصف قاع البحر (شكل: 1-56). ويضغط البحر المتسع من منتصفه على أطرافه، فتهبط أطراف القاع وتعود إلى باطن الأرض. فتصهر في شكل (1-56). تتجدد مادة قاع البحر باستمرار من صعود الحمم من جوف الأرض من تحت منتصفه، ويبتلع القاع القديم من عند البرزخين اللذين يحددان قاع البحر. جوف الأرض ثم يعود الحميم ثانية إلى منتصف البحر وتنشأ تيارات حمل للصهير، وتتكون تحت كل بحر خلايا خاصة به. وانظر هنا إلى وجه رائع من وجوه الإعجاز العلمي لآيات ملتقى البحرين. فإذا التقى محيطان كبيران كالأطلسي والهادي أخذ كل منهما مادة قاعه من تحته وتكون عند أطراف الغلاف الصخري لكليهما حاجز يُعرفه الجيولوجيون بنطاق الانضواء ( subduction zone ) فلا تختلط مادة قشرة هذا بتلك. ومن العجيب أن تسمى المنطقة التي عندها تسحب مادة قاع البحر حتى لا تختلط بما يجاورها برزخ ( Trench )، فسبحان من ﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 61]. وهناك حديث نبوي شريف يحتاج من علماء الجيولوجيا أن يكشفوا ما به من أسرار، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عز وجل). ترى ما هي الثلاث مرات التي تحدث يوميا في البحر؟ أهي متعلقة بالمد والجزر. أم متعلقة باتساع قاع البح المستمر، أم متعلقة بتيارات الحمل في وشاح الأرض تحت منتصفات البحار، أم متعلقة بآلية ابتلاع قشرة البحر من عند البرزخ عند أطراف القشرة المحيطية. والأمانة العلمية تقتضي منا القول: الله ورسوله أعلم.
تاريخنا والغزو التنصيري والعلماني دأبت الدوائر الكنيسية والغربية بصفة عامة على الاشتغال بتاريخنا وحضارتنا بطريقة مكثفة، ولو حصرنا عدد المشتغلين بالتاريخ الإسلامي وتراث الإسلام من هؤلاء، لوجدناهم أعدادًا غفيرة، وقد تتلمذ على أيديهم من المسلمين كثيرون، كما تتلمذ على أيديهم بعض النصارى العرب الذين خانوا حضارتهم العربية والإسلامية، ولم يكونوا في مستوى النضج الحضاري الذي مثله الشاعر اللبناني (بشارة الخوري)، أو السياسي الوطني المصري (مكرم عبيد) الذي كان يقول: (أنا مسلم وطنًا مسيحي دينًا)، وكان من أسوأ هؤلاء وأجرأهم على الدعوة للتغريب والتنصير الكاتب (سلامة موسى) والمؤرخان (جورجي زيدان) و(فيليب حتِّي)، ثم تلميذهما (لويس عوض)! وقد تعاون المستشرقون والمستغربون معًا على تشويه تاريخنا، ولهم في ذلك خطوط فكرية ثابتة، نستطيع أن نلمَّ بأهمها على النحو التالي: 1) التركيز على فترات الخلاف بين المسلمين وتوسيع دائرة الحديث عنها، والإغضاء بالتالي عن المساحات الأخرى الكبيرة المتألقة. 2) القول بأن فترة الالتزام بالإسلام لا تعدو أن تكون فترة العصر الراشد. 3) إثارة العنصريات وتعميقها بين العرب والبربر والأتراك والفرس، بهدف إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين، وهم يتذرَّعون لذلك بإحياء النزعات والخلافات بين هذه العناصر الإسلامية. 4) محاولة إبراز كلمات (العروبة) و(العرب) و(الفكر العربي) و(الحضارة العربية)، بغرض إثارة الشعوب الأخرى التي أسهمت في صنع الحضارة الإسلامية، وتأليبها ضد العرب. 5) إبراز دور الأقليات غير المسلمة وتحريكها ضد الأمة، والزعم بأنها أقلية ظلمت وانتهكت حقوقها. 6) كراهية كل الدول والجماعات التي أنقذت المسلمين ووقفت ضد الزَّحْف الصليبي؛ مثل: المماليك والأيوبيين والعثمانيين، ويفوز العثمانيون بالنصيب الأوفر من حقد هؤلاء لاعتبارات كثيرة. 7) محاولة إرجاع ما يوجد من صور النهضة في الحياة الإسلامية إلى الاحتلال الأوروبي، مثل: الحملة الفرنسية على مصر، وبعثات محمد علي إلى أوروبا. 8) تمجيد كل الذين خانوا الإسلام وحاربوه مثل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وأكبر شاه في الهند، وغيرهما، وفي المقابل الانتقاص من قدر المجاهدين والمصلحين، وتلفيق التُّهم ضدهم. 9) التشكيك في التراث الحضاري للمسلمين بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة على الحضارة الهيلينية، وأن المسلمين بالتالي لم يكونوا إلا نَقَلةً ومترجمين لفلسفة تلك الحضارة، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري. 10) تشويه منصب الخلافة الإسلامية ورميه بأبشع الصفات، وإعلان حرب دائمة عليه حتى بعد زواله، أليس عجبًا أن تكون اتفاقية كرزون المبرمة ضمن مؤتمر لوزان (24 يوليو 1924) متضمنة في بندها الأول: ( إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا من تركيا )، وفي بندها الثاني أن تقطع تركيا كل الصلة بالإسلام، أليس هذا التدخل في الشؤون الداخلية شيئًا سافر العداء لا يشبه إلا تدخُّل أمريكا أمام أعيننا في شؤون بلد عربي وإرغامه على إلغاء تطبيق الشريعة، وتهديد الآخرين الذين يفكرون في السير في هذا الطريق. 11) تشويه تاريخنا الحديث بطريقة مزرية، وقد ذكرنا أن الدولة العثمانية باعتبارها البلد الذي قام بالدور الأساسي في حماية المسلمين في القرون الخمسة الأخيرة، قد فازت بأكبر نصيب من هذا الهجوم التنصيري. 12) وقد وصل الأمر بهذا الغزو الثقافي المشين أن اعتبر الوجود الإسلامي التركي الذي حمى الشاطئ المغربي كله ضد الغزو الإسباني الزاحف بعد سقوط غرناطة، وأدخل الرعب في قلوب الأوروبيين، وجعلهم يقفون في موقف الدفاع لأربعة قرون. أقول: لقد اعتبر هؤلاء المنقذين الأتراك (استعمارًا) واحتلالًا، واعتبروا الحركات العلمية للصليبية الدولية ومحافل الماسونية - التي باعت فلسطين - حركات تحريرية ثورية! واعتبار الأتراك مستعمرين أمرٌ ترفضه طبيعة الأخوة الإسلامية، ولئن كان بعض الولاة الأتراك قد أخطؤوا في حق العرب، فإن كثيرًا من (الحكام العرب) الذين حكموا بعد الترك قد أجرموا في حق شعوبهم، وقد كان الولاة في جملتهم أفضل كثيرًا من الذين حكمونا في عصور استقلالنا العظيمة! ومع ذلك - وبالإضافة إلى الأخوة الإسلامية - فنحن نتساءل: هل كانت تركيا دولة استعمارية؟ ولكي نجيب علميًّا على هذا السؤال، لا بد لنا من أن نتفق على معنى (استعمار)، الاستعمار تاريخيًّا: حالة معينة من التطور الاقتصادي، تقف في قمة التطور الرأسمالي، فهل كانت الدولة العثمانية واقعة في هذه القمة؟ بالطبع لا، لقد كانت أفقر من بعض البلاد التي يقال أنها خاضعة لها، والعلاقة الرسمية الوحيدة التي كانت تربط مصر مثلًا بتركيا هي الخطبة للسلطان، وحق السلطان في تعيين الوالي، الوالي الذي لا يملِك من الأمر شيئًا، والذي كان المماليك والعلماء والعامة يَملِكون عزله في أي وقت، ودون إبداء الأسباب، وقبل الغزوة الفرنسية استقل مملوك فعلًا بمصر (علي بك الكبير)، ولولا خيانة زوج ابنته له لَما استطاع العثمانيون مواجهته، بل إن المماليك ظنوا أن الغزوة الفرنسية كانت بتدبير من السلطان العثماني، وواجهوا مندوبه البائس في مصر باتهامهم هذا، فهل جاء نابليون الغازي لتحرير مصر من الأتراك المستعمرين؟ أليس هذا القول من اللعب بالألفاظ أو اللعب بعقولنا؟ ومن كان يحكم مصر في ذلك الوقت. وهكذا يمضي الخط التنصيري والتغريبي حاملًا مِعول الهدم في تاريخنا، فهذا (دومينيك سورديل) صاحب كتاب (الإسلام) [1] ، يعالج تاريخنا وكأنه يعالج حركة وثنية غامضة، ويقول عن الرسول: (إننا لا نعرف الكثير عن شخصية محمد قبل تبشيره بالإسلام، ولا نعرف بالتأكيد إلا تاريخ هجرته من مكة إلى المدينة)، مع أن حياة الرسول قبل البعثة أوضح حياة بالنسبة لكل العظماء والأنبياء. وحياته في مكة تكاد تعرف يومًا بيوم، ويستمر ( دومينيك ) في تشويه حروب النبي وفي تشويه تاريخنا كله. وفي كتاب آخر يحمل الاسم نفسه، وقد ألفه (هنري ماسيه)، تتتابع الأخطاء نفسها عن حياة النبي وتطور الحياة الإسلامية، والنظر إلى محمد على أنه ليس نبيًّا، وعلى أن القرآن الكريم من صناعته [2] ، وأما (م-س- ترتون) صاحب كتاب (أهل الذمة في الإسلام) [3] ، فقد عمد إلى تشويه التسامح الإسلامي، فيصور (الأقباط) في مصر والشام على أنهم مضطهدون طيلة العصر العباسي وما تلاه، وهو يجعل المسلمين دائمًا سبب أية فتنة طائفية تقع، مع أنه لم يملك إلا الاعتراف بطغيان الأقلية الصليبية، واستبدادها وفي كثير من الأحايين. ويأتي (كارادوقو) الفرنسي صاحب كتاب (مفكرو الإسلام) [4] ، ليسير على الدرب نفسه ويصف الخلفاء بما ليس فيهم، فالمنصور العباسي كان منجمًا، و(أم الرشيد) قامت بوضع السم للهادي أخي الرشيد حتى يخلو الأمر لابنها، ويصور الخليفة هارون الرشيد - شأنه في ذلك شأن جورجي زيدان وغيره - بالصورة نفسها التي صورتها ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني للأصفهاني، بل إنه ليكابر ويغالط ويقول أن روايات ألف ليلة ذات طابع تاريخي، مع وضوح طابعها الأسطوري، وهو يتمادى في تخبُّطه، فيرى أن (هرورا) سياف الرشيد كان يقطع الناس إربًا لأقل هفوة، ويرى أن البرامكة قد نكبهم الرشيد ظلمًا، وربما أن هناك زواجًا اسميًّا تَم بين (العباسة أخت الرشيد) وبين جعفر البرمكي، وهي الأسطورة التي نسج حولها أوهامه (جورجي زيدان)، وحتى (المأمون) جعله (كارادوقو) محبًّا لعادات الفرس السامانيين، وأما صلاح الدين الأيوبي، فكان عند (كارادوقو) مرائيًا نفعيًّا يتظاهر بأنه سني غيور، والويل "لمحمد الفاتح"؛ لأنه بطل إسلامي وفاتح عظيم، ولهذا يعتبره كارادقو - لهذا السبب - متقلب الخلق عنيفًا جافًّا! وبالإضافة إلى هذا الحشد الغريب من الافتراءات، يضيف كارادوقو [5] (صراحة) أخرى حول المؤرخين العرب المسلمين المعتمدين لديهم؛ أي: لدى المستشرقين، فيقول: إن مؤرخي الشرق الإسلامي لا يتمتعون بالشهرة في الغرب، والمؤرخون الذي عرفوا في الغرب ليسوا مسلمين، إن المؤرخين المعروفين لديهم هم (جوجثين، ابن العميد الملقب بالمسكين - (ت 1273م)، والشماس القبطي بطرس الراهب، وبطريك الإسكندرية المشهور (يوتخيوس)، واليعقوبي ابن الصبري، أما عشرات المؤرخين الموثقين المسلمين بدءًا من مؤرخي السيرة والمغازي، ومرورًا بالطبري وابن الأثير، حتى المقريزي وابن كثير وابن خلدون، وغيرهم، فهم غير معروفين في الغرب). ولهذا فإن كارادوقو نفسه لم يقدِّم من بين مؤرخي الشرق الإسلامي المعاصرين إلا (جورجي زيدان)، ذلك المعول الهدام في تاريخنا، والذي ثبت ولاؤه المطلق للمحافل الماسونية وللتوجيهات الاستشراقية، والذي قام بتحريفات فاحشة في تاريخنا في تلك السلسلة التي سماها (روايات تاريخ الإسلام)، وتاريخ الإسلام منها براء! والحق أن كل ما كتبه المؤلف من مدح (لجورجي زيدان)، يؤكد المنهج الذي أشرت إليه سابقًا، وهو المنهج الذي يمدح المفسدين (كهولاكو وأكبر)، ويذم المصلحين كصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، ولكننا لا نغفل هنا لمحة للمؤلف تضم إلى لمحاته (الصريحة) السابقة، وهي لمحة تؤكد رأينا في جورجي زيدان، إنه يأسف لموت (زيدان)، ويشير إلى أن المستشرقين فقدوه منذ زمن قليل، فكأنه يعتبره - وهو عربي - مستشرقًا، وهذا ما نميل إليه! لقد كان - بحق - كارل بروكلمان (ولد في ألمانيا عام 1868) - واحدًا من المفكرين الذين بذلوا جهدًا كبيرًا في مجال التاريخ الإسلامي والأدب العربي، فكتاباه (تاريخ الشعوب الإسلامية) و(تاريخ الأدب العربي)، من أهم الكتب التي ألفها المستشرقون ومن أحظاها لدى القارئ العربي، ولكن بروكلمان على الرغم من هذا، لم يستطع التخلص من المناخ نفسه الذي يفرض (الفكرة السائدة عن الإسلام) على المستشرقين. فبروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلامية يعتبر الحجر الأسود وثنًا يعبده المسلمون [6] ، وهو يقول أن النبي اعترف بثلاثة آلهة في الكعبة في سنواته الأولى [7] ، ويتهم النبي بأن صلته بالوحي كانت صلة ظنية احتمالية [8] ! ويرى أن القرآن قد انبثق عن اليهودية والنصرانية، وكيَّفه محمد تكييفًا خاصًّا وفقًا لحاجات شعبه الدينية [9] . ويرى أن الرسول أرضى اليهود بتشريع صيام رمضان [10] ، ويتهم خالد بن الوليد بقتله مالك بن نويرة من أجل زوجته وَفق الرواية الكاذبة التي أشاعها بعضهم [11] ، ويرى أن ثراء عثمان غفر له عند الرسول النقص في كفاءته الشخصية [12] ، ويصف المغيرة بن شعبة بأنه انتهازي لا ذمة له ولا زمام [13] ، ولفظ في قضية العباسة أخت الرشيد وفق المنهج المنحرف نفسه [14] . ونتابع صفحات هذا الجوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب)، عاش يؤمن بأن غير الأوروبي في مستوى "القرد" مهما تعلَّم، وتحصل على الدكتوراه في الحقوق والأدب [15] ، وأرنولد توينبي يعتبر عودة الإسلام لقيادة الحضارة من الأخطار الضخمة، وتمنى ألا يحدث ذلك [16] . بيد أن (فيليب حتِّي) يعتبر من أكثر من احتشدت كتبهم بالافتراءات في نطاق التاريخ الإسلامي، مع محاولة أن يظهر بروح علمية منصفة، وتقديمه كثيرًا من كلمات المدح للحضارة الإسلامية. ومشكلة فيليب حتِّي (ونحن نقدمه نموذجًا للمستغربين من العرب النصارى) أنه لبناني الأصل ينتمي أصلًا لحضارتنا، وقد تفيَّأ ظلالها، لكن بعد أن تخرج من الجامعة الأمريكية ببيروت سنة 1908، ذهب إلى أمريكا؛ حيث حصل على الدكتوراه (1915)، وعاش في أمريكا بعد ذلك متدرجًا في الوظائف الجامعية، وحصل على الجنسية الأمريكية، وأصبح مستشارًا في معاهد الاستشراق وأجهزة الاستخبارات، ورئيسًا لقسم اللغات الشرقية، ومن خلال كتبه (أصول الدولة الإسلامية) و(سوريا والسوريون)، و(تاريخ العرب) و(الموجز) و(المطول)، و(أصول الشعب الدرزي وديانته)، و(تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين) - استطاع أن يبث كثيرًا من الأفكار المزيفة حول تاريخنا، ولم يكن أمينًا في تقديم حضارتنا للأوربيين. إن (حِتِّي) ينفي كل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن، ويقول أن القرآن لم يعترف إلا بهذه المعجزة الوحيدة [17] ، مع أن القرآن والحديث أكَّدا وجود معجزات أخرى للرسول؛ كانشقاق القمر، والإسراء والمعراج، ونبع الماء من بين أصابعه ومعجزة الغار، وسراقة، وفي النظريات السياسية الإسلامية. ويتكلم عن سياسة عمر في إدارة الدولة، فيرى أن عمر وضع الدستور الفكري الاشتراكي الذي جعل للعروبة سموًّا، وللمؤمن العجمي درجة أسمى من غير المؤمن العربي. وأقل ما يرد به على هذا الادعاء سلوك عمر نفسه، وتهديد أحد الصحابة له بتقويمه بالسيف لو وجدوا فيه اعوجاجًا، فهل هذا يتناسب مع الحكم العسكري الاشتراكي؟ فضلًا عن أن استعمال كلمة (اشتراكية) المعاصرة إسقاط فاسد على تركيبة حضارية مختلفة تمامًا لها أصولها ونُظمها المتكاملة. ويعْزو (حتِّي) الحماسة البريئة في الفتوحات إلى الدافع الاقتصادي [18] ، وهذا أمر منتظر من (حتِّي) الذي أراد بإرادته أن ينتمي إلى حضارة مادية، فهو لن يستطيع فَهم الدوافع الروحية، أما الجزية فقيمتها المادية تنفي هذا، وقد كان المسلمون يردونها حين يَعجِزون عن الدفاع عن أهل الذمة، وقد رد على هذه الشبهات (توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام). ولَمَّا كنَّا لا نستطيع - في هذه العجالة - مناقشة (حتِّي) في كل آرائه؛ لأن المناقشة الصحيحة لها تستوجب صفحات طويلة، بينما المناقشات العابرة تضر بالقضية، فنحن بالتالي سنشير إلى بعض أغاليطه، ونعتقد أن أكثرها من الوضوح بحيث يدرك حقيقته جمهور المسلمين، فضلًا عن المختصين. • يرى (حتِّي) أن المشكلة الأولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت في التخلص من منافسيه في الوظيفة الكبرى (الخلافة)، وعلى رأسهم طلحة والزبير اللذان كانا يمثلان الحزب الملكي، وقد انضمت عائشة إلى صفوف المتمردين ضد علي في البصرة [19] . ونحن في هذا المقام نُحيل القارئ إلى ما كُتب في هذا الموضوع في الطبري وابن الأثير، وأبي بكر بن العربي (صاحب العواصم من القواصم)، والذهبي (صاحب طبقات الحفاظ)، والدكتور إبراهيم شحطوط في (أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ)، فهذه الدراسات وغيرها كثير قد عرضت لهذه القضية بحياد وموضوعية يستحقان التنويه. ولم تكن الدولة الأموية لتمر دون تعرُّض سواء في شخص معاوية رضي الله عنه أم في خلفائه، وقد زعم (حتِّي) أن عبدالملك بن مروان قد ابتنى في بيت المقدس مسجد الصخرة، وكان غرضه أن يحول إليها أفواج الحجاج من مكة التي استقر فيها منافسه ابن الزبير [20] . وأظن أن هذا الادعاء يكشف جرأة (حتِّي) بطريقة مزرية، فعبدالملك بن مروان فقيه عابد ناسك (كما وصفه ابن حجر والكتبي، وابن الأثير وابن كثير)، وقد احتج بقضائه الإمام مالك في الموطأ، فكيف يتسق هذا مع هذا الكفر الذي يرميه به - بلا سند - المؤرخ حتِّي؟! وهم يتهم عبدالملك وابنه الوليد وهشامًا بتناول الخمور [21] ، معتمدًا على (الأغاني) الذي لم يقصد به صاحبه أن يكون كتابًا تاريخيًّا، لكن (حتِّي) وأمثاله يصرون بالقوة على أن يكون الأغاني وألف ليلة وليلة هي المصادر التاريخية التي يتكؤون عليها، فأي منهجية هذه تُرى؟! وفي حديثه عن الدولة العباسية ينتهي إلى السقطات نفسها التي انتهى إليها غيره من المستشرقين؛ مثل قصة العباسة وعلاقتها بنكبة البرامكة [22] ، وهَلُمَّ جرًّا. وهكذا تتَّضح لنا خيوط الهجمة التنصيرية والعلمانية على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، والهدف الأساسي الذي تسعى إليه هذه الهجمة هي فك الارتباط الروحي والوجداني والعقلي الذي يربطنا بهذا التاريخ، ولا سيما فترة الاجتماع التشريعي فيه، وهي فترة الرسالة والراشدية، ومتى ما تَمَّ هذا، فإن تجريدنا من بقية صور انتمائنا للإسلام تصبح أمرًا سهلًا ميسورًا، وهذا هو هدفهم الكبير! [1] المنشورات العربية بيروت (ترجمة خليل الجر). [2] نشر محمد جواد مغنية الترجمة د/ مصطفى الرافعي. [3] نشر دار المعارف بمصر ترجمة د/ حسين حبش. [4] ترجمة علي زعيتر نشر بيروت (الدار المتحدة للنشر). [5] انظر في الكتاب السابق صفحات : 13،14،15،19،24،38،47،72،83،84،88، وما بعدها. [6] افتراءات فيليب حتى وكارل بروكلمان. [7] المرجع السابق 95. [8] المرجع السابق 100. [9] المرجع السابق 104. [10] المرجع السابق 105. [11] المرجع السابق 115. [12] المرجع السابق 120. [13] المرجع السابق 123. [14] المرجع السابق 121. [15] انظر نظريته تلك في كتابه (السنن النفسية لتطور الأمم وفلسفة التاريخ). [16] انظر الصفحة الأخيرة من كتابه (الإسلام والغرب والمستقبل). [17] تاريخ العرب المطول، 1 /177؛ (نقلًا عن افتراءات فيليب حتِّي، عبدالكريم باز، ص45). [18] المصدر السابق 52، 55. [19] المرجع السابق، 61. [20] المرجع السابق، 76. [21] المرجع السابق 78. [22] السابق، ص86.
المعرفة الإسلامية... بين تحديات تجديد الوسائل وضرورات الحفاظ على الأصالة يمكن القول: إن البعض من المهووسين بالحضارة الغربية المعاصرة، من الكتاب والمثقفين - يبدو منغمسًا بأفكارها، وغارقًا بفلسفتها إلى الأذقان؛ ومن ثَمَّ فهم يجنحون إلى اعتماد آلياتها، واستخدام معاييرها الأكاديمية في تناول حقيقة الإسلام والقرآن الكريم، في إطار سعيهم المحموم لعَقْلَنَةِ المعرفة الإسلامية، وصولًا إلى أنسنة النصوص القرآنية، من خلال نزع القدسية عنها والتشكيك في تعاليها، بمزاعم غياب العقل الناقد، والعقل المنفتح عن ساحة التجديد والنهوض والإصلاح. ومع أن الحال المعرفي العربي المسلم الراهن مُنهَكٌ؛ بسبب الغياب الطويل عن ساحة العطاء والتأثير، ويحتاج إلى نقد، وإعادة تقييم، وتناول، لكن وضع الإسلام كدينٍ، لا يمكن إخضاعه لدراسات ومماحكات فلسفية أبدًا؛ لأن من يجيد لغة الضاد، يستوعب يقينًا، أو يقترب على الأقل، من مرادات القرآن الكريم على حقيقتها بيُسْرٍ وسهولة، على قاعدة: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]؛ وقديمًا قال الشاعر: فإنْ كان ذنب المسلمِ اليوم جهله *** فماذا على الإسلامِ من جهل مسلمِ ومن هنا، فإن توظيف أولئك المهووسين للتأويليات التفكيكية في تناول مباديء الإسلام، ونصوص القرآن، واعتمادهم هذه الأدوات في الحفر والتنقيب في متن تلك النصوص والمُسلَّمات العقدية - إنما يعكس الإصرار على استخدام آليات تستهدف في نهاية المطاف هدمَ الدين، وأنسنة نصوص القرآن بدعاوى متهافتة، وإن بدت للدارسين في ظاهرها معاييرَ أكاديمية محضة؛ وذلك لأن الأصل أن يتم تناول المعرفة الإسلامية بمعاييرها المعتمدة، مثلما أنه لا يصح أيضًا تناول الطب والرياضيات والهندسة، وغيرها من العلوم المعاصرة إلا بمعاييرها المعتمدة. على أن الانفتاح على معطيات العصرنة يتطلب التفاعل البنَّاء معها، وهضم كل ما هو إيجابي ومتناغم منها مع حقائق الدين، ورفض ما هو سلبي منها، ويعمل على استلاب الأصالة، وتشويه الهوية في نفس الوقت، وذلك من خلال الإلمام التام بدوافع الهيمنة الثقافية، والإحاطة الكاملة الواعية بمخططاتها، ولعل الكثير من المختصين أعرفُ - بحكم خبرتهم الزاخرة - بكل تلك الألغام، التي وقع في شَرَكِها الكثير من مثقفينا. ولذلك؛ فإن النهوض بالحال المعرفي المنهك، والسعي الحثيث لتفجير الطاقات الكامنة في الأمة، يتطلب الانفتاح بوعيٍ مسؤول على معطيات العصر، والتشبُّث بالأصالة الدينية والاجتماعية والتراثية في نفس الوقت، ومن دون انخراط مفتوح، يؤدي إلى الانصهار التام في بوتقة العصرنة الصاخبة، ويُلغي زخم الاطراد، والعودة بفعالية إلى ساحة التأثير والعطاء والإبداع الحضاري، وكما كان عليه الحال المتألق في الصفحات المشرقة للحضارة العربية الإسلامية، التي وضعت الحجر الأساس للحضارة المعاصرة في كثير من المجالات.
إعلام الإصابة بأعلام الصحابة تحقيق: أنس بن محمد تدمري صدر حديثًا " إعلام الإصابة بأعلام الصحابة (مختصر كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب) "، تأليف: " محمد بن يعقوب المقدسي الحنبلي " (ت 797 هـ)، تحقيق: " أنس بن محمد تدمري "، نشر: " دار ابن كثير للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب للإمام محمد بن يعقوب الخليلي مختصر كتاب حافظ المغرب "ابن عبد البر الأندلسي ": " الاستيعاب في معرفة الصحاب "، ويعتبر الكتاب من أوائل الكتب التي ألفت في الصحابة، وكان منهج المؤلف في كتابه أن كان يذكر الصحابي ومن روى عنه، وشيئًا ممن روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعض أمور تتعلق به ووفاته وعمره، وقد رتب الكتاب على حسب ترتيب الحروف عند أهل المغرب، وقد اعتمد على هذا الكتاب من ألَّف في الصحابة بعد ذلك، مثل: ابن الأثير، وابن حجر العسقلاني. ولأهمية هذا الكتاب وغزارة مادته العلمية وشهرة مؤلفه ومكانته في باب التراجم والسير لأهل الطبقة الأولى من إسناد الحديث من الصحابة، والتي يعرف بها قبول الحديث ورده، عكف عليه العلماء بالتذييل والاستدراك والاختصار، ومن ضمن تلك الجهود هذا الكتاب الذي يطبع محققًا لأول مرة للإمام الخليلي. وقد هذب فيه الإمام الخليلي كتاب " الاستيعاب " من خلال إضافة بعض التراجم كالمستدرك والمذيل، والاقتصار على المهم من ترجمة كل صحابي بدون إخلال، وإضافة بعض التحقيقات العلمية كضبط بعض الأعلام وإدخال فوائد ترجمية وحديثية لا يخلو منها الكتاب في كثير من فقراته، مما جعله من الكتب الموجزة في تراجم الصحابة. ويعد كتاب الإمام الخليلي من الأهمية بمكان حيث اشتمل على عدد كبير من أسماء الصحابة يقارب الخمسة آلاف اسمًا، حتى زاد على أصله " الاستيعاب " مما يزيد من أهمية دراسته وإخراجه. كما أن هذا الكتاب اشتمل على عدد كبير من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تقارب الثلاثة آلاف حديثًا وهي في حاجة إلى خدمة ودراسة وتمحيص قام بها المحقق، من أجل خدمة الكتاب خدمة علمية وافية. أما عن المؤلف فهو محمد بن يعقوب، شمس الدين الخليلي المقدسي، ترجم له صاحب الأعلام فذكر عنه أنه "عالم فاضل.. له « إعلام الإصابة بأعلام الصحابة »، في دار الكتب، اختصر به « الاستيعاب » لابن عبد البر، توفي سنة 797 هـ".
العَبَث الخِلْقي يستمرُّ مسلسل العبَث في حياة الإنسان - اليوم - ليصِل إلى المساس بالمظهر الخِلْقي، وقد تعارفَت الحضارات على أنَّ الزينة بالجواهر والحُلي هي ألصَق بالنساء منها بالرجال، وجاءت الأديان السماوية تحرِّم على الرجال صنوفًا من الزينة، هي للنساء حلال؛ ومن ذلك الأقراط والخروص والخماخم والمجاول والأزمَّة ( ما يعلَّق في طرف الأنف )، وغيرها ممَّا قد يكون له مصطلح محلِّي غير قابل للتعميم، من حيث اللفظُ، لا من حيث المفهومُ، ورأينا في بعض الحضارات مبالغات لدى النساء في لبس الحُلي تصل إلى الإنكار الذوقي، لا سميَّا ما يُعلَّق في الآذان أو الأنوف أو العضود أو السيقان. يتسلَّل العبث إلى هذا المفهوم لنجد شبابًا قد تمثَّلوا أمورًا كانت - ولا تزال - من خصوصيَّات النساء، فهل هذا يعني احتجاجًا من هؤلاء الرجال على دخول بعض النساء في خصوصيات الرجال؟ مما يُعَدُّ - بحدِّ ذاته - نوعًا من العبث؟ بل إنَّ العبث في هذا المجال كاد أنْ يشمل الجسمَ كله، ولم تَسلم منه الحواجب والشِّفاه، مما يدخل في مفهوم تَشويه خلق الله تعالى. رُبَّما قيل: إنَّه نَمط من أنماط التعبير التي سادت مجتمعات، تعاني فراغًا روحيًّا، كما كانت عليه الحال في الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، عندما ظهرَت مجموعات من الشباب أطالت شعورها، ولبسَت الضيِّق، وسلكَت سلوكيات هي في ذاتها خارجة عن النَّمط الاجتماعي السائد. يتحدَّث الأستاذ عبدالله الناصر، الملحق الثقافي السعودي في لندن، في زاويته الأسبوعية بالفصيح في صحيفة الرياض عن فِئة من الشباب اليوم: "أولئك الشبَّان الذين لا عملَ لهم، ولا همَّ، ولا جدوى منهم، ولا فائدةَ فيهم إلَّا أنْ يؤذوا خلقَ الله دون حياء، أو أدب أو سلوك، تراهم في الشوارع لا همَّ لهم إلَّا إيذاء الخلق والاستعراض بمظاهر الأبَّهة والصلف واحتقار الآخرين.. وترى البعضَ منهم هائمين على الأرصفة، قد أسدلوا شعورهم، وفتحوا صدورهم وارتدوا ألبسةً هي أبعد ما تكون عن التناسُب أو الذَّوق السليم، لهم لغة ذات مصطلحات خاصَّة، وثقافة هابطة خاصَّة، وسلوك أبعد ما يكون عن الإحساس بالمسؤولية وفهم رسالة الحياة، والتعامُل مع الآخر بإنسانيَّة راقية، يسيرون في الأرض مرحًا، وينظرون إلى غيرهم بازدراء واحتقار، وكأنَّ الآخرين ناقصو البشريَّة والإنسانية" [1] . قد يُقال: إنَّ هذه التصرُّفات أمورٌ شكلية، ولكنها مع شكليَّتها إلا أنَّها تعبِّر - أولًا - عن مكنون في النفس، قد ننظر إليه نحن على أنَّه مؤشِّر من مؤشِّرات الفراغ الروحي وضعف الاستقرار النفسي والاجتماعي، ثم إنَّه - ثانيًا - مدعاة للتقليد في مجتمعات لا تعاني من الفراغ الروحي، ولديها استقرار نفسي واجتماعي ظاهر، لكن يخرج منها فئة من المقلِّدين والمقلِّدات الذين يرغبون في الخروج عن المألوف، حتى لو ترتَّب على ذلك محظور شرعي؛ وذلك بفعل ضعف التنبيه على ذلك، وأنَّه ليس ظاهرة، وأنَّه غير مقبول، وهو منكر لا بُدَّ من النهي عنه. مع هذا كله يكون هناك نوع من التغافُل عنه وعن إنكاره من الجهات المناط بها الإنكار، مما قد يتطوَّر لدى بعض أبناء المجتمع ليروه داخلًا في الحرَّية الشخصيَّة، التي لا ينبغي أنْ تُمسَّ، وما إلى ذلك من النظرات المثالية، التي تعطي الفرد قدرًا من الوعي والشعور بالمسؤولية، وكأنَّه ليس هناك أناس يُسحبون إلى الجنَّة بالسلاسل، ولنتصوَّر هذا المشهد في أذهاننا، حينما نرى أشخاصًا مسلسلين، وهناك من يسحبونهم، ليُدخلوهم إلى الجنَّة، وكأنَّهم غير مدركين نتيجة هذا الإجراء. إنَّ هناك حالاتٍ من العَبث في خلق الله، تأخذ أشكالًا متعدِّدة، ولكنها تخرج عن المفهوم الشرعي للمظهر المطلوب في الرجال والنساء، وليس في فئة دون أخرى، والمطلوب وقفة توعوية ووعظية وإعلامية وفكريَّة لبيان هذا النوع من العبث في خلق الله تعالى. إنَّ العبث بخلق الله لم يقتصِر على هذه الأمور الشكلية القابلة للزوال بفعل الزمن، كما زالت تقليعات الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، بل إنِّنا نرى ذلك متبنًى من بعض (النجوم) الذين لهم تأثير على الناشئة الذين يتأثَّرون اليوم - في غالبهم - بالرياضيين والفنَّانين؛ من مطربين وممثِّلين، ومطربات وممثِّلات، الذين ملأوا الجوَّ العام، على حساب من ينبغي التأثُّر بهم من الجادِّين في بناء ذواتهم وأوطانهم؛ وأتحدَّث هنا ليس على المستوى المحلي، حتى لا يَغضب علينا بعض إخواننا الذين قد يتوهَّمون أنَّهم معنيُّون بهذا الطَّرح، وفيهم مَن هو بخير وعلى خير، بل إنِّي أتحدَّث على المستوى العالمي، الذي وصَل فيه بعضُ النُّجوم إلى هَجرهم أديانهم، إلى مِلَل ونِحل تَعبد الأوثانَ، بل ربَّما تحوَّلوا إلى عبادة الشيطان. [1] انظر: عبدالله الناصر: بالفصيح: جنَّة الحمير - الرياض - ع 14067 ( 9 /12 /1427هـ - 29 /12 /2006) - ص الأخيرة.
معجم علماء التاريخ بالمغرب الأقصى لعبد اللطيف الخلابي صدر حديثًا كتاب " معجم علماء التاريخ بالمغرب الأقصى "، تأليف: د. " عبد اللطيف الخلابي "، في مجلدين، نشر: " مكتبة الثقافة الدينية ". وهذا المصنف المعجم هو كتاب في التراجم المتخصصة في علم التاريخ والتراجم، يقدم للقارئ حصر ببليوغرافي لعلماء التاريخ بالمغرب الأقصى منذ بداية القرن الثالث الهجري إلى القرن الـ 14 الهجري. وانبثقت فكرة إنجاز هذا المعجم من الحاجة الماسة إلى توفر معاجم تهتم بالتراث المغربي، سواء في اللغة أو النحو أو التاريخ أو العلوم الشرعية، "بغية معرفة تراث بلاد المغرب الإسلامي معرفة علمية دقيقة". وقد تم إصدار معجم " معجم علماء اللغة والنحو بالمغرب الأقصى " - من قبل - ضمن هذا المشروع، وجاء هذا الإصدار ليتمم عقد هذه القامات العلمية في علم التاريخ خاصةً، وستتلوه عدة مشاريع إن شاء الله في هذا المضمار. وهذا المعجم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول هو عبارة عن تمهيد يتضمن تعريفًا إحصائيًا لهذا المعجم، وذلك في عدة مباحث: • موضوع الكتاب. • منهج بناء ترجمات الكتاب. • فهرسة الكتاب. • المصادر والمراجع المعتمدة. • الصعوبات. • الحصيلة. والثاني يتضمن التراجم مرتبة ترتيبًا أبجديًا والتي تقدم للقارئ معلومات جاهزة تغنيه عن العودة إلى المصادر الأصلية. والثالث يتضمن فهارس تاريخية تسهل الولوج إلى التراجم. ود. "عبد اللطيف الخلابي" أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء، بالمغرب، صدر له من قبل: • " معجم علماء اللغة والنحو بالمغرب الأقصى " بالاشتراك مع د. الحسين زروق"، ود. "عزيز الخطيب". • " الحرف والصنائع وأدوارها الاقتصادية والاجتماعية بمدينة فاس خلال العصرين المريني والوطاسي ( 669 - 960 هـ / 1270 - 1550 م ) ".
أثر العامل الاقتصادي في الحروب والصراعات ضد العالم الإسلامي توجد عدة عوامل تلعب دورًا مهمًّا في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية؛ منها: تحقيق المصالح الأمريكية الاقتصادية، وخاصة في الوطن العربي. فالدافع الاقتصادي ممثلًا بأطماع الغرب بثروات المسلمين، والاستيلاء على أسواقهم التجارية، والعمل على إبقائهم مستهلكين لا منتجين - من أهم أهداف الغرب الذي هو في طبيعته ماديٌّ في تعاملاته الدنيوية، فالدول الإسلامية في نظر الغرب مصدرٌ متدفق للموارد الاقتصادية، فضلًا عن الأسواق. وهذه الأطماع ستبقى مستمرة، مترافقة مع سياسات عملية، يدلُّ عليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((منعت العراق درهمها وقَفِيزها [1] ، ومنعت الشام مُديها [2] ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها [3] ))، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه [4] قال: ((يوشك أهل العراق ألَّا يجيء إليهم قَفِيزٌ ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبل العجم يمنعون ذاك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألَّا يجيء إليهم دينار ولا مُدْيٌ، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبل الروم)) [5] . وقد ميَّز الله تعالى الأمة الإسلامية بمواردَ وخيراتٍ كثيرة أدت إلى تكالب الأمم والدول عليها؛ مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ الأممُ أن تَداعَى عليكم، كما تَداعَى الأكَلَةُ إلى قَصعتِها، فقال قائل: ومن قلةٍ نحنُ يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل، ولينزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، ولَيَقْذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهْنَ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [6] . ومن الموارد التي نعمت بها الأمة الإسلامية النفط والغاز والموارد المائية، والثروات المعدنية، وهذه الموارد من أهم مصادر وأدوات الحضارة التي يضمن الاستيلاء عليها بقاء حضارة الغرب، وإنعاشها، وتخليصها من الأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها بين الفترة والأخرى؛ نتيجة تقلبات الأسواق أو سياسات اقتصادية خاطئة، فالأرض الإسلامية فيها من الخيرات والمعادن ما يضمن استمرار حضارة الغرب، ويدعمها لمئات السنين، وللسيطرة على الموارد الإسلامية؛ وجب في نظر الغرب أن يبقوا قريبين من منطقة العالم الإسلامي، متأهِّبين لمواجهة أي محاولة للاستقلال والتخلص من التبعية، وقد أكد جيمي كارتر في عام 1980م ضرورة أن تصبح منطقة الخليج منطقة نفوذ أمريكي. وبالإضافة إلى أهمية النفط، تأتي المحافظة على أسعاره في مستوى معين من الأمور المهمة بالنسبة للعالم، فهو سلعة يشترك العرب في إنتاجها مع دول أخرى، والولايات المتحدة نفسها من أكبر منتجي النفط في العالم، وإن لها مصلحةً في ألَّا تنخفض أسعاره عن حدٍّ معين، وما ينطبق على أمريكا، ينطبق على دول غربية أخرى، وقد تلجأ بعض الدول لخفض أسعار النفط عن الحد المتفق عليه؛ كسياسة للضغط على الدول الأخرى، من أجل تحقيق أغراض معينة، وهذه السياسة لها آثار خطيرة تصل إلى حد انهيار الدول، خصوصًا على الدول المعتمدة على ثروتها النفطية، فانخفاض أسعار النفط عن حدٍّ معين يمكن أن يؤديَ إلى انهيار الدول. وسلعة النفط والغاز تحكمها مصلحة مشتركة بين البائع والمشتري، وبقدر ما يحتاج الغرب إلى النفط العربي، فإن العرب يحتاجون للغرب لشرائه [7] . وقد حاول العرب استخدام النفط في الضغط على الغرب لتحقيق مصالح العرب؛ إذ قامت البلدان العربية المنتجة للنفط بحظْرِ نفطها على البلدان المستهلكة إثر تجدد الحرب العربية – الإسرائيلية، ولقَّنت الغرب في عام 1973م درسًا قاسيًا ومؤلمًا لا يُنسى. بترول الخليج أهم الكنوز الإستراتيجية في العالم، والعراق وحده يحتفظ بنحو 11% من احتياطي البترول في العالم، والغرب له مصلحة كبرى في هذا النفط، ويوجد في العراق أكبر محطات للغاز في العالم، وحقول النفط العراقية تعتبر من أغزر الحقول في العالم، وأكثرها قربًا من سطح الأرض؛ مما يوفر نفقات ضخمة في عمليات التنقيب والاستخراج [8] . وهذه المصلحة هي التي أتت بالغرب في النهاية إلى الخليج مرتين خلال عقد واحد؛ مرة لمساعدة العراق في منع قوة أخرى من الهيمنة والسيطرة على نفط الخليج، ومرة ثانية لمنع العراق من تحقيق ذات الهدف [9] . يستهلك الشعب الأمريكي نحو 60% من بترول العالم؛ فهو في حاجة دائمة للنفط، وفي الحرب العراقية - الإيرانية وجدت الدول العظمى أنه ولأجل تحقيق إستراتيجيتها التي كان النفط أهم مرتكزاتها في منطقة الشرق الأوسط - من الضروري أن تقوم باستنزاف كلا البلدين في حرب إقليمية، تسهِّل عليها فيما بعد احتواءهما وتطويعهما لاستعادة موفَّقة لأمن تلك المصالح في هذه المنطقة الحيوية جدًّا؛ لتحقيق مشروع الهيمنة العالمية [10] . وفي عام 2003م، عندما هاجمت أمريكا العراق، انطلقت مظاهرات في مختلف دول العالم متهمة أمريكا صراحة بأنها تريد نهب البترول العراقي واستغلال ثرواته، رغم نفي الولايات المتحدة ذلك، وفَوْرَ نزول القوات الأمريكية والبريطانية على أرض العراق، توجهوا إلى آبار النفط. الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن كان لها صلة وثيقة بشركات النفط، ومعظم رموزها كانوا من القطاع النفطي، والمحافظون الجدد الصهاينة يمثِّلون مصالح رأس المال اليهودي المالي الموظَّف في العديد من الشركات الاحتكارية، ولا سيما احتكارات السلاح والنفط [11] . وبوش نفسه رجلٌ نفطيٌّ، عمِل قبل وصوله إلى البيت الأبيض في مجال التنقيب عن النفط، وهو الذي جاء إلى الرئاسة، بفضل دعم شركات النفط والسلاح، وقد مارست شركات النفط الأمريكية والبريطانية نفوذها السياسي لإطالة الحصار على العراق قبل الاحتلال؛ لأن شركات نفطية صينية وروسية وفرنسية كانت قد حازت على عقود نفطية فيه، ثم دفعت تلك الشركات بمشروع احتلال العراق عام 2003م؛ لتهيمن على الثروات النفطية [12] . وفي أفغانستان، كان من ضمن أهداف الحرب الأمريكية السيطرة على ثروات آسيا الوسطى من نفط وغاز، وإنشاء قواعد عسكرية أمريكية في منطقة كانت ضمن النفوذ الروسي لأكثر من قرن من الزمن [13] . ويقترن بالنفط تجارة السلاح، فوجود النفط يعني توفر الأموال اللازمة لشراء السلاح، وتوفر الأجواء المناسبة لصناعة الحروب أيضًا [14] ، وتجارة السلاح من أهم دوافع الحروب بين الشعوب؛ إذ ينشط ويزدهر سوق بيع السلاح في أوقات الحرب [15] ، وقد كانت الحرب العراقية - الإيرانية مصدرَ إنعاش لأمريكا ودول غربية أخرى [16] . ومبيعات الأسلحة ذات بُعْدٍ سياسي رفيع مثل تجارة النفط تمامًا، ثم إن مبيعات الأسلحة تنعش الاقتصاد في الدول المستهلكة للنفط، فالجميع يكسب؛ شركات الأسلحة، والساسة في الدول المصنعة للأسلحة الذين يشددون باستمرار على الأعداد الكبيرة من فرص العمل التي تؤمِّنها صناعة الأسلحة، فالمال يشتري القوة السياسية في الولايات المتحدة، وبما في ذلك السلطة بشنِّ حروب تستفيد منها الشركات على فترات منتظمة [17] ، فتوظيف الأسلحة المنتجة واستهلاكها المستمر يُمكِّن عجلة الإنتاج من الاستمرار في الدوران [18] . وتبقى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مزود أسلحة في العالم؛ إذ سيطرت وحدها - وعلى نحو دائم - على أكثر من نصف سوق تجارة الأسلحة خلال العقد الفائت، وبلغت قيمة مبيعاتها ما يقارب عشرين مليار دولار في السنة، وإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية تظهر كلٌّ من فرنسا وبريطانيا كلاعبين أساسيين في مجال صناعة الأسلحة، وصادرات الصين كذلك من الأسلحة زادت على نحو مطرد خلال السنوات الماضية، ودول العالم الثالث تشتري ثُلُثَي صادرات الأسلحة والزبائن الأساسيون يتمركزون في الشرق الأوسط [19] . ويلعب المركب الصناعي - العسكري دورًا كبيرًا في صنع القرارات الخارجية في الولايات المتحدة، والمتعلقة بقضايا النزاعات والأزمات الدولية؛ لتصريف وبيع منتجاته من الأسلحة، فالشركات الاقتصادية الكبرى تستفيد من الغزو والحروب خاصة منها الأمريكية [20] . والاقتصاد الروسي كذلك يعتمد على صادرات الطاقة من البترول والغاز الطبيعي، فروسيا تحتل المركز الثاني من حيث إنتاج وتصدير البترول؛ ولذلك فهي تتأثر بشكل كبير بارتفاع أو انخفاض البترول، وهي تستفيد من الحروب لبيع الأسلحة، فروسيا ثاني أكبر مصدِّر للسلاح في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تراجعت للمرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا خلال التسعينيات [21] . وبذلك نلاحظ أن النفط والغاز من الدوافع المهمة في الصراع، ولكن يجب وضع هذه الأهمية في حدودها الطبيعية، فالنفط والغاز سلعة يتشارك في إنتاجها مع الوطن العربي الدولُ الغربية الكبرى. [1] القفيز: مكيالٌ عند أهل العراق مقداره ثمانية مكاكيل؛ [كتاب الأموال، الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة 224هـ، تحقيق: أبو أنس سيد بن رجب، دار الهدي النبوي – مصر، دار الفضيلة - السعودية، الطبعة الأولى، 1428هـ - 2007م، ص: 95 في الهامش]. [2] المُديُ: مكيال أهل الشام؛ [الأحكام السلطانية، القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، المتوفى سنة 458هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1421هـ - 2000م، ص: 166 في الهامش]. [3] صحيح مسلم، الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261هـ)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يُحسر الفرات عن جبل من ذهب، حديث: 2896، 2/ 1324. [4] صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمى الأنصاري، وأمُّهُ نُسيبة بنتُ عُقبة بن عدي بن سنان بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم، تجتمع هي وأبوه في حرام، يُكنى: أبو عبدالله، وأبو عبدالرحمن، الأنصاري الخزرجي السلمي المدني الفقيه، من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد العقبة موتًا، وكان مفتي المدينة في زمانه، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صبي، وقيل: شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، وعَمِي في آخر عمره، وهو آخر من مات بالمدينة ممن شهد العقبة، وكان من المكثرين في الحديث، الحافظين للسنن، وتوفي جابر سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة سبع وسبعين، وكان عمرُ جابر أربعًا وتسعين سنة؛ [أسد الغابة في معرفة الصحابة، الإمام عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجذري، المعروف بابن الأثير (555 - 630هـ)، رقم الترجمة: 647، ص: 165، 166]، و[سير أعلام النبلاء، أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي (673 – 748ه)، رقم الترجمة: 1318، ص: 1276، 1277]. [5] صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، حديث: 2913، 2/ 1332. [6] سنن أبي داود، الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (202 - 275هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، محمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، دمشق – الحجاز، طبعة خاصة، 1430هـ - 2009م، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، حديث 4297، 6/ 354، 355، حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لجهالة أبي عبدالسلام، واسمه صالح بن رستم، لكنه متابع، يُنظر: هامش ص: 355. [7] حرب الخليج والفكر العربي، دكتور عبدالمنعم سعيد، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413هـ - 1993م، ص: 85. [8] سفر الموت من أفغانستان إلى العراق، محمود المراغي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423هـ - 2003م، ص: 16. [9] حرب الخليج والفكر العربي، دكتور عبدالمنعم سعيد، ص: 85. [10] حرب الخليج أوهام القوة والنصر، محمد حسنين هيكل، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م، ص: 125. [11] دور المحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية، أحمد فايز صالح، رسالة ماجستير، باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2011م، ص: 86. [12] المصدر نفسه، ص: 70، 75. [13] أسرار الأشرار قبالى اليهود والسعي للسيطرة على العالم، محمد مكرم العمري، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1425هـ - 2004م، ص: 268. [14] صراع المصالح في بلاد الرافدين، أحمد فهمي، سلسلة كتاب البيان، تصدر السلسلة عن مجلة البيان، 1429هـ، ص: 129. [15] حرب الخليج أوهام القوة والنصر، محمد حسنين هيكل، ص: 136. [16] صراع المصالح في بلاد الرافدين، أحمد فهمي، ص: 130. [17] المصدر نفسه، ص: 130. [18] دور المحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية، أحمد فايز صالح، ص: 84، 85. [19] المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، مارتن غريفيش وتيري أوكالاهان، مركز الخليج للأبحاث، دبي - الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 2008م، ص: 119. [20] تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية: دراسة في المنطلقات والأسس، إعداد عديلة محمد الطاهر، أطروحة دكتوراة، ص: 169. [21] الثابت والمتغير في السياسة الخارجية الروسية: دراسة نموذج الأزمة السورية والأزمة الأوكرانية، بلقاسمي مولود، ص: 118، 119.
رحل عنا المحدث الشيخ ساعد غازي اللهم اغفر لعبدك ساعد غازي وارحمه واجعله من أهل الجنة مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا. لقد نزل هذا الخبر على قلبي كالصاعقة والله! وما تأثرت لموت أحدٍ في هذه الجائحة كما تأثرت لفراق الشيخ ساعد رحمه الله. لقد عرفت الشيخ أبا عمر رحمه الله في رحلتي إلى الرياض قبل عشرين سنة في أواخر سنة 1998، لأعمل في بعض مكاتب التحقيق والبحث العلمي. فدخلتها وأنا غريب الدار ليس له أهل ولا أصحاب، قد تجرّعت مرارة الاغتراب حتى أزمعت على الإياب إلى الديار؛ لولا أن الله الحكيم لطف بي فجمعني بالشيخ ساعد رحمه الله الذي كان أول من استقبلني في المكتب ورحّب بي أحسن ترحيب وغمرني بشريف أخلاقه وجميل أوصافه... كان رحمه الله أول من فتح لي قلبه في رحلتي إلى الرياض وكان لي بمنزلة الأخ الكبير. الأمر الذي أنساني غربتي وأزال وحشتي وآنس وحدتي... قد قضيت مع الشيخ رحمه الله ست سنوات تقريبًا نمكث مع بعض في مكتب واحد في البحث والعلم والمذاكرة والنقاش... أكثر من عشر ساعات يوميًّا. لي معه ذكريات جميلة لا أنساها ما حييت... حكى لي أسراره وما حصل له في حياته الدعوية والعلمية من المحن وغيرها لا زالت إلى الآن محفورة في ذاكرتي. ولي معه من المباحث العلمية والمراجعات الحديثية الشيء الكثير تمتد إلى خارج المكتب، ومما ساعد على هذه العلاقة وزاد في توثّقها أننا وجدنا أنفسنا نلتقي إلى حدٍّ بعيد في التصور والرؤية في القضايا المعروفة... كانت له فطنة عجيبة في علم الحديث ورجاله ودقائقه يفوق بها الكثير ممن له شهرة واسعة في هذا العصر.. وله تعقبات عديدة كثيرة على المشتغلين بالحديث في هذا العصر من الإمامين أحمد شاكر والألباني رحمهما الله فمن دونهما... وله أيضا تعليقات بديعة وتنبيهات في غاية النفاسة بخط يده على هوامش الكتب... وأنا أجزم أنها لو جُمعت كلُّها في مصنَّف لجاءت في عدّة مجلّدات ولقيت مكانتها عند أهل الحديث. وله بحوث في صناعة الحديث بخط يده سلمني إياها قبل مغادرتي الرياض وهي محفوظة عندي إلى الآن في مكتبتي. كان رقيق القلب، سريع التأثّر، صلبًا في دينه، حريصًا على السّنّة، محبًّا لإخوانه متواضعًا، مؤثرًا للخمول ويكره الظهور.. كانت له حدّة ظاهرة في النّقاش وذلك إذا طال، لكن سرعان ما يعتذر ويتودد... نبّه رحمه الله جماعةً كبيرة من المصنفين في الحديث على أشياء دقيقة وأخطاء وقعت لهم في التخريج والحكم على الأحاديث.. فصححوها وتركوا الخطأ وأثبتوا الصواب الذي دلّهم عليه... لكن قليلٌ جدًّا من أشاد به ونوّه بتنبيهه، وأشار إلى صاحب الفضل في ذلك!!. كان رحمه الله إذا وقع على فائدة نفيسة عزاها لصاحبها ولو كان من المغمورين، وما عرفت عنه خلال تلك المدة التبجّح ولا الكلام عن علمه ونفسه ولا التعالي على غيره ولو كان دونه. كان عنده صبر وجلد منقطع النّظير على البحث وتتبّع المسألة من أصلها، ولا يتركها حتى يقتلها بحثًا، وهذا في وقت لم تكن هناك المكتبة الشاملة ولا غيرها، إنما كان تعامله مع بطون الكتب مباشرة.. رحمك الله أبا عمر وغفر لك وجعل الجنة دارك والنبيين والصديقين جيرانك.. رحمك الله أيها المحدث البارع والعالم الصادق، نحسبك والله حسيبك... كتبت هذا على عجل وهو نزر يسير جدًّا في حقّ الشيخ الحبيب الغالي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.. آمين.
الخوف من أسلمة الغرب واقترانه بصعود الأحزاب الدينية المتشددة ظاهرة صعود الأحزاب الدينية في معظم الدول الأوربية من الظواهر اللافتة التي تحمل آثارًا خطيرة تمهد لسياسات تمييزية وعنصرية تجاه المسلمين، خصوصًا الذين يعيشون في أوروبا. فبروز اليمين المتطرف في أوروبا أصبح من أكثر الظواهر السياسية أهمية، وفي عام 2012م بلغ عدد المسلمين في أوروبا 13 مليون مسلم؛ مما أسهَم في تصاعد أحزاب اليمين المتطرف أكثر فأكثر [1] . أحزاب اليمين المتطرف هي مجموعة حزبية تعتنق منطلقات فكرية واحدة، وعلى الرغم من إمكانية وجود اختلافات طفيفة من دولة إلى أخرى، فإنهم يشتركون في أفكار واحدة تُعد الأساس الذي تستند عليه هذه الأحزاب المتشددة؛ منها: حماية الخصوصية الثقافية، ورفض الهجرة والمهاجرين بشكل قاطع، والعداء ضد الإسلام والمسلمين، واعتبار المواطن الأوروبي أعلى شأنًا من غيره من المهاجرين، خاصة المسلمين الذين يتم اعتبارهم مصدرًا للإرهاب والأزمات وعدم الاستقرار، وسببًا في ارتفاع معدلات البطالة [2] . تُعتبر الهجرة المتزايدة للمسلمين باتجاه الغرب إحدى العوامل التي عززت من كراهية الإسلام والخوف منه، ويرجع هذا الموقف السلبي للغرب إزاء الإسلام إلى الخوف من فقدان الإطار الثقافي في ظل التعددية الثقافية الناجمة عن زيادة الهجرة، والسبب الثاني يعود إلى زيادة أعداد المسلمين، وهو ما يزيد من احتمالية أسلمة الغرب، والسبب الاقتصادي يتمثل في المنافسة على فرص العمل، ثم الرغبة في الحفاظ على الخصوصية والهوية [3] . وقد ارتبط باليمين المتطرف مفهوم أسلمة أوروبا؛ حيث يقصد به أن المسلمين الذين يمثلون الحضارة الدونية - من وجهة نظرهم - تغلغلوا في المجتمعات الأوروبية، وازداد نفوذهم بما يشكل تهديدًا للهوية والثقافة الأوروبية، وفي المقابل تتبنى الأحزاب اليمينية المتطرفة مفهوم الاستعلائية باعتبار أنفسهم أعلى شأنًا من المسلمين؛ لذلك الأحزاب اليمينية المتطرفة تعادي وبشكل صريح الإسلام والمسلمين المهاجرين للدول الأوروبية، وبالتالي هذه الأفكار تُعد الأساس الذي تستند عليه الأحزاب لخلق سياسات عنصرية ضد المسلمين وتقييد حرياتهم، ووجود حملات مختلفة لتشويه صورة المسلمين في المجتمعات الغربية، بالإضافة إلى رفض بناء المساجد وغيرها من المؤسسات الإسلامية، فهم يعتبرون المهاجرين عبئًا على الدولة، وسببًا في البطالة وارتفاع معدل الجريمة والإرهاب، وتهديد هُويتهم وثقافتهم، وترجع هذه السياسات التمييزية ضد المسلمين في فرنسا مثلًا، خشيةً من انتشار الإسلام في فرنسا، خصوصًا مع انتشار الفكر اليميني المتطرف الذي يقوم على فكرة " الاستعلائية " التي تعتبر الأوروبيين أفضل من المسلمين، ولا بد من حماية هويتهم من هؤلاء الأفراد الأقل شأنًا [4] . وقد كان الفكر الغربي قد تأثر بالنزعة الاستعلائية لدى الرومان الذين كانوا يرون أن روما وحدها هي صاحبة الامتياز والسيادة، وأن كل ما حولها عبيد [5] . في هذا الإطار تُعد صرخة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا حلقة في مسلسل العداء الصليبي المتأصل في الروح الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين، وتتخلص أهم النقاط في خطاب ماكرون: إن الإسلام دين انعزالي، وإن المسلمين في فرنسا يعيشون في مجتمعات منغلقة، وإن الإسلام - بوصفه دينًا - يعادي المرأة وينتقص من حقوقها، ويتبنى سياسات عنصرية من فرض الحجاب عليها، ومنع اختلاطها بالرجل، وهذا ضد المفاهيم العلمانية التي يقوم عليها المجتمع الفرنسي، ويقول: إن الإسلام يمر بأزمة عالمية في كل مكان، ويدعو إلى ضرورة اتخاذ سياسات معينة؛ منها إدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي وتقيُّدهم بقوانين، ومنع الحجاب والنقاب وبناء المساجد، وإخضاع الأئمة والخطباء لمراقبة صارمة، ويخلط ماكرون في تصريحه بين الإسلام والإرهاب، ونَسِيَ التاريخ الصليبي الدموي لفرنسا وحملاتها المشؤومة للقضاء على الإسلام والمسلمين، واستغلال ثروات البلاد الإسلامية التي تقوم عليها حضارة فرنسا والغرب عمومًا، ويتهم الدين الإسلامي بأنه يعيش في أزمة، ولو كان هذا حقيقة، فأنتم سببه يا ماكرون بحروبكم ومكركم، ومحاولاتكم المستمرة للقضاء عليه، وإذا كان المسلمون يعيشون في أزمات وفي مشكلات، فأنتم من صنعتم مشاكلنا، وأنتم سبب نزوح المسلمين نحو الغرب، فأنتم لستم بعيدين عن خلق المآسي التي تتعرض لها الشعوب المسلمة. وإذا كان الإسلام - بوصفه دينًا - يعيش حقيقة في أزمة عالمية، فالأزمة نتيجتها الضعف، والضعف يؤدي إلى نهاية الخصم، فإذا كان الإسلام ضعيفًا هكذا لماذا تخاف منه يا ماكرون؟ لماذا تخاف من قطعة قماش تضعها المرأة المسلمة على رأسها، وتغطي بها وجهها، وتسن القوانين لتعريتها وإدماجها في مجتمعاتكم المتفسخة؟ أليس هذا ضد مبادئ العلمانية التي تنادي بها من احترام لحقوق الإنسان أم أنها صليبيَّتك وانتصارك لدينك بعد ما رأيت الفرنسيين قبل غيرهم يدخلون في دين الله أفواجًا، وإفلاس الكنيسة، وعدم قدرتها على مناطحة الدين الإسلامي بعدما بذلتم الجهد والمال للقضاء على الإسلام، وانتزاعه من صدور أبنائه، فغزاكم بحمد الله في عقر داركم. وإذا كانت تصريحاتك لأغراض انتخابية، وجزء من جهد مبذول للحصول على الرئاسة، أو إشغال مواطنيك عن الظروف الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا مؤخرًا، فأنت فضحت نفسك بأنك تتودَّد إلى شعبك والأحزاب المتطرفة في بلدك بما يرضيهم ويتوافق مع ميولهم من كره للإسلام والمسلمين. [1] صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا: دراسة حالة فرنسا في الفترة 1984 - 2017م، إعداد يمنى عاطف محمد، المركز الديمقراطي العربي، على الرابط التالي: https://democraticac.de/ [2] المصدر نفسه. [3] الإسلاموفوبيا في أوروبا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، المركز العربي الديمقراطي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين ـ ألمانيا، الطبعة الأولى، 2019م ، ص 67 ـ 68. [4] صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا: دراسة حالة فرنسا في الفترة 1984 ـ 2017م، يمنى عاطف محمد. [5] الفكر الإسلامي في مواجهة الفكر الغربي، الدكتور فؤاد محسن الراوي، دار المأمون للنشر والتوزيع، عمان ـ الأردن، الطبعة الأولى، 1430هـ - 2009م، ص120.
إسماعيل عليه السلام بِكرُ إبراهيمَ وابنُه من هاجر، تركه إبراهيم مع أمه في واد غير ذي زرع وهو لا يزال رضيعًا، وترك عند أمه جرابًا من تمر وسقاءَ ماءٍ وعاد إلى فلسطين، كان ذلك عن أمر الله، فلما اطمأنت هاجر إلى أن هذا المنفى هو إرادة ربانية، قالت: فإذًا لن يضيعنا الله، فلما فني الزاد ونضب الماء وعطش الولد وجف عند هاجر الضرع قامت تبحث عن الماء هائمة على وجهها مضطربة تعلو جبل الصفا وتنظر فلا تجد شيئًا، وتهبط الوادي وهي تتلفت يمينًا وشمالًا ثم تصعد جبل المروة وتتطلع بعيدًا بعيدًا، فترجع من هذا وذاك صِفْرَ اليدين، وكررت هذا المشهد سبع مرات، ثم أحست بصوت خافت منبعث من بعيد، فقالت لنفسها: صه، تريد أن تسمع بوضوح، فإذا بجبريل عليه السلام يضرب الأرض قرب قدمي ولدها إسماعيل، فينبجس الماء، وتسرع إلى الماء تحبسه وتملأ السقاء، وتنعَم بماء زمزم المبارك. ويشب إسماعيل قويًّا حليمًا مطيعًا لوالديه بالرغم من قلة زيارات والده إبراهيم له، ثم يخضع إسماعيل لأقسى امتحان يتعرض له فتى في مثل سنه: ﴿ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، وكان جواب الابن البار: ﴿ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، فنجَح في الامتحان صابرًا، وفداه الله بذبح ثمين؛ لذلك اكتسب صفةَ الصبر: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 85]. ولما اشتد عوده ساعَد والدَه في بناء الكعبة: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]. وعاش بين قبيلة جرهم التي نزلت بجوارهم، وشب قويًّا فصيحًا بينهم، فزوجوه منهم، ثم توفيت والدته وهو في ريعان شبابه وفتوته، وزاره والدُه قادمًا من فلسطين، لكنه لم يره، فسأل زوجته عنه فقالت: هو في الصيد، فسألها عن أحوالهما - وهي لا تعرف أنه والد إسماعيل - فقالت: نحن في أسوأ حال، ونعيش في ضنك وفاقة، ولم تحمَدِ الله على نعمه، فعرَف مِن كلامها جهلها، ولا ينبغي أن تكون زوجة نبي، فقال لها: إن حضر، أقرِئيه السلام وقولي له يغير عتبة بيته، وعاد إسماعيل من رحلته محملًا بالصيد، فقال لزوجته: أمر بكم أحد؟ قالت: نعم، شيخ كبير جليل مهاب، قال إسماعيل: أقال لك شيئًا؟ قالت: نعم، يسلم عليك، ويأمرك بتغيير عتبة بيتك، فقال: هذا أبي، وقد أمرني بأن أطلقك، ثم غاب إبراهيم عليه السلام ما شاء الله له أن يغيب، وعاد إلى الحجاز يتفقد ابنه، فحضر ولم يجده، فسأل زوجته، فقالت: هو في الصيد، فسألها عن أحوالهما، فقالت: نحن بخير والحمد لله، وتغمرنا نِعم الله، ثم قالت: انزل ضيفًا علينا؛ فلا يلبث إسماعيل أن يحضر، فقال: أقرئيه السلام وقولي له يثبت عتبة بيته، وحضر بعد مدة إسماعيل، وسألها إن كان قد حضر أحد في غيابه، فذكرت له حضور شيخ مهيب، فقال: هل قال شيئًا؟ قالت: نعم، يسلم عليك ويطلب منك تثبيت عتبة بيتك، قال لها: هذا أبي، وقد أمرني بأن أتمسك بك، وعاشت معه تتحمل مسؤولية البيت في صبر واقتدار، وحق لها بهذه الأخلاق أن تكون زوجة نبي؛ فقد نُبِّئَ إسماعيل عليه السلام وهو في الأربعين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]، فكان رسولًا إلى قومه من العرب، وكان يأمرهم بالصلاة والزكاة؛ فهم أهله وعشيرته، والأمر عام غيرُ مقتصر على الأهل، وقد سار في قومه سيرة فيها الحب والرحمة؛ فاكتسب محبتهم وعاش بينهم مكرمًا مبجلًا، ﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 48]. وأما شريعتُه فهي شريعة إبراهيم، دِين الحنيفية السَّمْحة: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [البقرة: 136]، فهذه الآية تظهر أن المُنزَّل إلى إبراهيم وأبنائه وأسباطه واحد، علمًا بأن الدين المنزل على كل الأنبياء واحد أيضًا؛ قال الله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]. أما دعوة إسماعيل فإن القُرْآن قد ذكرها مقتضبة؛ ربما لأنها فعلًا دعوة إبراهيم نفسها، فهي استمرار لها، وكما مر سابقًا فإن إبراهيم أقام مدة في الحجاز يبني البيت، ويعلم الناس الحج ومَن لبى نداء الحج الذي نادى به إبراهيم، فإنه ولا شك حجَّ وَفْق شريعة إبراهيم، وعلى هذا فرسالة إسماعيل هي امتداد لرسالة والده؛ لذلك كان العرب يقولون: نحن على دِين الحنيفية، ثم دخَلها - لطول الفترة بين الرسل - التحريف، كما حدَث لغيرها من الرسالات في الأمم الأخرى، لكن تُطالعنا السيرة أن نفرًا من العرب استمروا على المنهج الصحيح لا يسجدون للأصنام ولا يقدِّسونها، وينبِذون ما انغمست فيه قريش مِن الوثنية، وكان من هؤلاء: ورقة بن نوفل، وعبيدالله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقالوا فيما بينهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء، أخطؤوا دِين أبيهم إبراهيم، ما حجَر نطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع!. وذكر في السيرة أيضًا: أن إسماعيل خلف اثني عشر رجلًا، أكبرهم نابت، وهو الجد التاسع لعدنان، ومِن عدنان تفرقت القبائل مِن ولد إسماعيل، وذكر أهل التواريخ أن إسماعيل عاش مائة وثلاثين سنة، والله أعلم، وورد أنه أول مَن استأنس الخيل في بلاد العرب فأصبحت مطية الإنسان السريعة في الصيد والحرب، والكَر والفَر، وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على نفر مِن أسلم ينتضلون - يتبارَوْن برمي السهام على أهداف نصبوها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان))، قال: فأمسَك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم لا ترمون؟))، فقالوا: يا رسول الله، نرمي وأنت معهم؟ قال: ((ارموا وأنا معكم كلِّكم))، وهذا الحديثُ يشهد على مهارة إسماعيل في الرمي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُحْيِيَ عندهم هذه الخَصلة والمهارة في الرمي؛ لأنها مهمة في الحرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشجع على الرمي، وورد في ذلك أحاديثُ كثيرة، منها: ما أخرجه البخاري عن عبدالرحمن بن أبي حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحبُّ إليَّ مِن أن تركبوا، كلُّ ما يلهو به الرجلُ المسلم باطلٌ، إلا رميَه بقوسِه، وتأديبَه فرَسَه، وملاعبتَه أهلَه، فإنهن من الحق)).
سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تحقيق محمد الطبراني صدر حديثًا كتاب " سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه "، تأليف: مؤلف مجهول من القرن الثالث الهجري، كشف عن المخطوط وقرأه ووثقه وقدم له: د. " محمد الطبراني "، نشر: "مرك ز الملك فيصل البحوث والدراسات الإسلامية ". وهذا المصنف مخطوط نادر عثر عليه المحقق "محمد الطبراني" في إحدى المكتبات، ووجد فيه نبذ من أخبار الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وجَهدَ المحقق في معرفة صاحبها دونما جدوى، فالورقات دون اسم مؤلفها، قد توزعت بين ثلاثة مجاميع متفرقة، في المجموع الأول 9 أوراق، وفي الثاني 61 ورقة، وفي الثالث 16 ورقة، وحصة هذا الكتاب الذي اختص بموضوع سيرة الخليفة عمر بن عبد العزيز دون غيره من الموضوعات فقط أربع وثلاثون ورقة فحسب. وهذه الورقات مكتوبة بخط أندلسي رائق على أوراق عتيقة، ونجد أن المحقق حدد تاريخها بالقرن الثالث الهجري، وقام الكاتب بسبر تراث السيرة العمرية المروانية، وبيان جملة ما كتبه العالمون عن عمر بن عبد العزيز مفردًا في كتب، أو منضمًا إلى أبواب في المطولات، حيث سمى جميع مواده المطبوعة أو المخطوطة أو المنسوبة؛ لإقامة الدليل على مغايرتها لهذه الورقات، ولضم شتات هذه المادة الببليوغرافية التي لم يجدها في موضع آخر. وتناول المحقق خصائص المخطوطة من حيث الكلام عن خطها وتصنيفه، ملحقًا بها ذكر العوائد الكتابية للناسخ. يقول المحقق: "وليس وجدان هذا السُّفَيْر - على شاكلة ما ألمعنا إليه - شافعًا بمجرده في عزم العكوف على تحقيقه وإخراجه للناس، فثمة كتب أخرى كثيرة لا تُعنِّي طالبها ولا تنزف وقته ولا تحوجه إلى إنعام نظر؛ هي أحرى منه بهذا الاعتبار... لكن الحاكم في القضية ارتياد ما علا قيمة، وعَظُم نفعًا، وعز أن تناله أيدي العلماء من إرث الإسلاف، ليكون شاهدًا على ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، ويقرطس في غرضين: ترشيد خدمة التراث، وإقامة ما زها من ثمره ليكون تقدمة بين يدي نهضة لا تنابذ أصولها، ولا تضيق بما أجراه الله على أيدي الناس من مدنية حديثة غالبة، يلزم مجاراة دالتها المتطور بمتتالية هندسية، بما يضمن حفظ النوع، والبقاء في زمن لا يلتفت إلى الضعيف وترهاته..". والمحقق هو د. "محمد الطبراني"، أستاذ الدراسات الإسلامية، بكلية اللغة العربية، جامعة القاضي عياض بمراكش المغربية، حصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية، بالمرتبة الأولى، جامعة القاضي عياض، مراكش عام 1997. وحاز درجة الدكتوراه من دار الحديث الحسنية، تحت إشراف أ.د. عباس الجراري، الرباط، عام 2006. ومن مصنفاته وتحقيقاته: • كتاب التاريخ، لعمرو بن علي الفلاس البصري (ت 249 هـ)، دراسة وتحقيق، ط 1، مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض، 2015. (692 ص من القطْع الْكبير). • "كتابُ عدَدِ آيِ القُرْآن"، لأبي الحسن الأنطاكي (ت 377 هـ)، ط1، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 2011. (754 ص). • "نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد"، لأبي العباس البسيلي التونسي (ت 830 هـ)، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الرباط، 2008. (3 أجزاء، 1100 ص). • ابْنُ طلْحة الْيَابُرِيُّ (ت 523 هـ)، ط1، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، 2013. (346 ص). • "الحدود الكلامية والفقهية"، لابن سابق الصّقلّي (ت 493 هـ)، ط1، دار الغرب الإسلامي، تونس، 2008. (272 ص). • "المختصر البارع في قراءة نافع"، لابْنِ جُزَيّ الْغَرناطي (ت 741 هـ)، ط1، مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، (2003). • "مِعْيارُ الموازنة في طبقات الفقهاء لعبد الملك بْن حَبيب الأندلسي (ت 238 هـ)"، طبع ضمن كتاب " المدرسة الحديثية بالمغرب والأندلس: الإمام ابن القطان نموذجًا ": المجلد الأول: [ص 361-378]، ط 1، 2014 م. • "منْ أشْكال الْفواصل في مخْطوطات المصاحف القديمة ( مع مُلاحظاتٍ حوْلَها )؛ بحث محكّم طبع ضمن كتاب "التحقيق النقدي للمخطوطات: التاريخ، القواعد والمشكلات"، سلسلة الدورات التدريبية لمؤسسة الفرقان بلندن: [ص 219-254]، ط 1، 2013. • " من نوادر مخطوطات الفقه والأصول في خزانة ابن يوسف بمراكش: إسْهامٌ في التّوْصيف النّقْديّ "، طبع ضمن كتاب: تحقيق مخطوطات الفقه وأصوله، سلسلة الدورات التدريبية لمؤسسة الفرقان بلندن: [ص213-278]، ط 1، 2016. • "ثبَتٌ بأوْضاع الأندلسيّين على موطّأ مالك: مساهمةٌ في التّكْشيف"، مجلة مرآة التراث، ( الرابطة المحمدية للعلماء )، العدد الأول، يونيو 2011 م. [147-162]. • بحْثٌ ألقي في تكريم أ. د. محمد بنشريفة، في الدّوْرة الثالثة لسماع مراكش، بتاريخ 27 أكتوبر 2010 م، تحت عنوان: "ذرْوٌ من كلامٍ حول محقّق مغْربي فذّ ".
كتاب العقود لشيخ الإسلام ابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وصفوة المرسلين عبد الله ورسوله محمد وعلى آله أجمعين. أما بعد فهذا كتاب « العقود » لشيخ الإسلام علم الأعلام المجتهد المطلق والإمام الفقيه المحقق أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المولود بحران 661 والمتوفي سنة 728 حبيس الظلم والجهل والتقليد الأعمى بقلعة دمشق رحمه الله ورضي عنه وحشرنا وإياه مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. أقدمه في هذا الثوب القشيب والطبع الجميل لإخواني السلفيين المقدرين لعلم ابن تيمية وفضله والحريصين على آثاره والعارفين بفقهه وتحقيقه وما تفضل الله عليه به من القدرة النادرة على استخراج الدرر النفيسة من أعماق بحور كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقدمه كذلك لرجال القانون العصريين الذين أتاحت لهم دراستهم أن يولوا وجوههم شطر الفرنجة زاعمين أن فهومهم أوسع من فهوم علماء المسلمين وأن بحوثهم أدق من بحوث علماء المسلمين وأن موارد قوانينهم ونظمهم ونظرياتهم التي زعموها لإصلاح المجتمع أرحب صدرًا وأغزر مادة من موارد الشريعة الإسلامية السمحة. ولعلهم يلتمسون لأنفسهم المعاذير بما أصاب المجتمع الإسلامي في كل نواحيه من غزو الفرنجة الأعجميين غزوًا استولوا به أو كادوا على كل شئون المجتمع الإسلامي إلا من رحم ربك فأصبح سلطانهم نافذًا في المدرسة والمحكمة والبيت والإدارة والشارع وأصبح المجتمع الإسلامي في غمرة أفرنجية غشت البصائر وملكت العقول وقيدت النفوس بأغلال ثقيلة قد ظن معها المفتونون بها أن لا خلاص لهم منها إلا إلى التأخر والهمجية وهم جدَّ واهمون فيما ينتحلون لأنفسهم من تلك المعاذير ما دام فينا كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما دامت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال بحمد الله مصونة في سجلاتها المحفوظة تؤدي لنا صورة صادقة كل الصدق لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهداه ونصحه للأمة ورسالته إلى الناس كافة وما دام فينا كذلك من تراث أئمتنا المهتدين من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ما يضيء لنا السبيل ويهدينا الطريق. وإني لعلى يقين من أن العصريين سيجدون في كتاب « العقود » ما يقنعهم بأن علماء الإسلام يفهمون «نظرية العقد» خيرًا ألف مرة مما يفهمها أعاجم الفرنجة لأن علماءنا يستمدون فهمهم من معين كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاجم الفرنجة يستمدون فهمهم من أفكارهم وأهوائهم وبيئاتهم التي غلب عليها الشهوات والشبهات وعبادة المادة التي أماتت القلوب وتركتها كالحجارة أو أشد قسوة وهم لذلك لا يزالون مضطربين في حيرة إرضاء نزغات الأهواء وجامحات المطالب ينقضون اليوم ما أبرموه أمس فأما علماؤنا الصادقون الناصحون أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية فهم على نهج واحد راشد حكيم لأنهم على صراط الله المستقيم. هذا ولقد جاءتني نسخة كتاب « العقود » على يد الأخ الصالح محمد حسين جاسر وجدها في بلدته أبي سنبل من بلاد النوبة عند رجل لا يدري ما هي فلما رأيتها طربت لها أشد الطرب على ما بها من تآكل ذهب ببعض كلمات مما عدت عليها يد الإهمال فمكنت للعث والرطوبة أن تأكل تكل الأجزاء من بعض الصفحات ثم ذهبت أزف البشرى بها إلى علامة الوقت وبحاثة العصر الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية سابقًا لما أعرف فيه من صادق الحب لشيخ الإسلام ابن تيمية واتباعه له وعظيم حرصه على مؤلفاته وقوة امتزاجه بعلم شيخ الإسلام وفقهه لطول مدارسته لكتبه وشدة عكوفه عليها فما كاد يراها حتى طرب لها كذلك أشد الطرب به ولكنه عاد حزينًا على ما فيها من تلك المواضع الضائعة ثم استبقاه عنده فقرأه وأعجب به أشد الإعجاب وقال «هذا خير ما ألف في العقود وينبغي البحث عن نسخة أخرى لتكملة نقصه وتصحيح أغلاطه والمبادرة بطبعه لشدة حاجة الدارسين اليوم إليه» ثم أعطاه للأستاذ الشيخ علي الخفيف أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول فقرأه هو كذلك معجبًا به وقال «إن هذا الكتاب يحقق نظرية العقد على أحدث الدراسات وإن من الواجب المبادرة بطبعه لحاجة الطلاب والأساتذة والقضاة والمحامين إليه». ثم تشرفت في حج عام سنة 1367 بدعوة للعشاء على مائدة حضرة صاحب السمو الملكي الأمير منصور المعظم حفظه الله وزير الدفاع في المملكة العربية السعودية وكانت الدعوة خاصة بعلماء نجد على عادة سمو الأمير المعظم كل عام وبعد أن فرغنا من تناول العشاء الفاخر جلسنا لشرب القهوة العربية الفاخرة وأخذ الحديث مع سمو الأمير المعظم مجراه العلمي حين افتتحه هو أطال الله عمره بلباقة وكياسة فانتهزت الفرصة وذكرت شيخ الإسلام ابن تيمية وآثاره القيمة في إيقاظ العقول من رقدتها وجهاده في إنقاذ الناس من غفلة التقاليد الجاهلية التي أوقعتهم في حمأة الوثنية والخرافات وما لقي رحمه الله من عسف الحكام وجهل المتعالمين في زمنه ولو أنه رحمه الله كان قد وجد ما وجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نصرة آل سعود واضطلاعهم بدعوة التوحيد ووضعهم أنفسهم وأموالهم وكل جهودهم لنصرة دعوة التوحيد لكان شأن المسلمين اليوم غير شأنهم ولكانت مكانتهم من الحياة أعز كثيرًا جدًّا مما هم عليه اليوم على أنا نرجو مخلصين أن تكون هذه اليقظة الحديثة يقظة دائمة مستمرة يرجع المسلمون بها إلى المحجة البيضاء التي تركهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام لهم أعلامها من كتاب الله وسنة رسوله الناصح الأمين والله المسئول أن يوفق القادة منهم إلى السداد والرشاد والعمل الدائب على إحياء آثار السلف الصالح وتجويد عرضها للناس في الثوب الجميل الذي يجذبهم إلى الانتفاع بها كما يفعل ذلك صادقًا مخلصًا جلالة الملك عبد العزيز أدام الله توفيقه وأمده بروح منه ففيها الخير والهدى لهم في هذه الحياة العصرية المضطربة بأمواج الفتن والأهواء المضلة وفيها الغناء كل الغناء عما غزا المجتمع الإسلامي من نتاج الفرنجة في السياسة والاقتصاد والآداب والأخلاق والاجتماع والقانون. فانتهز الأخ المفضال والصديق الوفي الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ بارك الله فيه الفرصة ونوه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأثرها في الإصلاح وشدة الحاجة إلى نشرها وتيسير الانتفاع بها وبالأخص كتاب العقود الذي لم يطبع من قبل ذلك والذي حصلت نسخته النادرة السالفة الذكرى لي فبادر سمو الأمير المبجل منصور أدام الله توفيقه وأطال في حياته في خير العمل ووجه القول إلي إني مستعد أن أنفق على طبع كتاب العقود فإذا وصلت مصر بسلامة الله تعالى فاشرع في طبعه إن شاء الله فهتف الشيوخ بلسان واحد بالثناء على سمو الأمير المعظم والدعاء له بطول العمر ودوام التوفيق وإن هذه المسارعة من سمو الأمير منصور حفظه الله إلى نشر كتاب العقود ليس بالأمر الغريب فإنه ورث ذلك الحب للعلم وأهله والحرص على نشره من جلالة والده الملك عبد العزيز المعظم أطال الله حياته المباركة النافعة فإن جلالته قد سبق في هذه الغاية كل سابق وجلّى فيها على كل مبرز بل إنه أمد الله في حياته لخير الإسلام والمسلمين قام في نشر علم السلف بما لم يقم به أحد من الملوك فجزاه الله عن ذلك أحسن الجزاء وأثابه أفضل المثوبة وجعل من أنجاله أصحاب السمو الأمراء قرة عين لجلالته ولكل العرب والمسلمين وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي ولي العهد المعظم الأمير سعود فإنه بحق أمير العلماء وعالم الأمراء أدام الله على الجزيرة العربية ظل آل سعود الوارف وأيدهم بروح من عنده وسددهم في سبيل الإصلاح وهدانا وإياهم صراطه المستقيم. فلما عدت إلى مصر من الأراضي المقدسة بدأت في إعداد النسخة للطبع فكلفت الأخوين سليمان رشاد محمد مراقب جماعة أنصار السنة ومحمد رشدي خليل أمين صندوقها بنسخها ثم أخذت أبحث عن نسخة أخرى حتى تخرج النسخة أدق وأصوب ولتتميم النقص الذي أكلته الرطوبة والعث من نسختنا فكتبت إلى الأخ السلفي البحاثة الشيخ ناصر الدين الأرناؤطي بدمشق أطلب إليه معاونتي في العثور على نسخة أخرى فكتب إليَّ أن عند آل الشطي الأمجاد نسخة جيدة سليمة فأرسلت إليه النسخة بالطائرة فراجعها مراجعة دقيقة وكمل مواضع النقص فيها وعندئذ اطمأننت إلى أني أستطيع أن أخرج الكتاب النفيس باسم «نظرية العقد» على الوجه الذي أطمئن إليه فشرعت في الطبع مستعينًا بالله سبحانه وتعالى. وفي أثناء الطبع شرف حضرة صاحب السمو الملكي الأمير منصور حفظه الله القاهرة فلما تشرفت بزيارته سألني عما تم في طبع كتاب العقود فأخبرت سموه أني في عودته الميمونة إن شاء الله سأتشرف بتقديم الكتاب إلى سموه مطبوعًا على الوجه الذي يحبه ويسره فسر لذلك وأوصاني بالجد والإسراع. وها أنا أجلو هذه التحفة الثمينة وأزفها إلى المعنيين بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومقتفي أثره نفعني الله وإياهم بما فيها وفي كتب شيخ الإسلام من العلوم النافعة وهدانا جميعًا صراطه المستقيم وجزى الله صاحب السمو الملكي الأمير منصورًا المعظم أفضل الجزاء على مساهمته العظيمة في إخراج هذه التحفة مقتفيًا في ذلك آثار والده العظيم حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم عبد العزيز آل سعود أطال الله حياته لخير الإسلام والعروبة وأدام الله عليه نعمة العافية والتوفيق والتأييد والنصر والتسديد. وقد تفضل حضرة صاحب السمو الملكي الأمير الكريم الشهم الهمام منصور المعظم تعميمًا للنفع بهذا الكتاب وغيره فأذن لي حفظه الله وأطال بقاءه في صالح الأعمال أن أطبع نسخًا للبيع بتكاليف الطبع للذين لا يتيسر لهم الحصول على النسخ المطبوعة على حساب سموه الخاص. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في حضرة صاحب السمو الملكي وأن يديم توفيقه لكل عمل صالح وأن يبارك في جلالة والده المعظم وفي آل سعود الأمجاد وأن يجعلهم قرة لعيون المسلمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله أجمعين.
صدر حديثا من كتب السنة وعلومها (138) 1) « تأصيل علم علل الحديث »، دراسة نظرية تطبيقية، الإمام علي بن المديني نموذجًا، تأليف د. طارق بن عودة العودة، دار طيبة الخضراء. 2) « العلم المشهور في فوائد فضل الأيام والشهور »، لابن دحية الكلبي، الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، 3ج. 3) « المفهم لصحيح مسلم »، لعبدالغافر الفارسي، تحقيق د. مشهور بن مرزوق الحرازي، أسفار للنشر بالكويت، رسالة دكتوراه، 3ج. 4) « توضيح الجامع الصحيح »، للعلامة محب الدين الخطيب، نشره قصي محب الدين الخطيب، دار اللؤلؤة، دار الخزانة، 8ج. 5) « المدخل إلى جامع الترمذي »، للشيخ عبدالله السعد، وهو مقدمة شرحه لجامع الترمذي، يسر الله إتمامه، 2ج. 6) « تفسير الصحابي للنص النبوي »، دراسة تأصيلية تطبيقية، تأليف د. محمد بن حمد العتيبي، دار ابن الجوزي. 7) « المجالس المدنية في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل حافظ السنة النبوية »، للشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني، دراسة ومراجعة د. حمزة الكناني، دار المنهاج، دار طوق النجاة، 13ج. 8) « الجرح والتعديل ليحيى بن سعيد القطان »، جمع ودراسة وتحقيق وترتيب أ.د عبدالباسط خليل الدرويش، دار تموز للنشر. 9) « شيوخ الإمام عبدالرزاق الصنعاني الذين روى عنهم في المصنف »، تأليف د. نايف بن محمد العصيمي، دار الصميعي. 10) « علم أسباب إيراد الصحابة للحديث الشريف عند الحافظ ابن حجر العسقلاني، دراسة تأصيلية وتطبيقية على كتاب فتح الباري »، تأليف د. محمد سعيد عبدربه، دار اللؤلؤة. 11) « مدرسة الحديث في الهند في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين »، تأليف د. كلثم عمر المهيري، مكتبة ابن القيم الإسلامية، أبو ظبي. 12) « الأحاديث المروية في الاستعاذات النبوية »، تأليف د. بدر بن محمد الأحمدي، دار الميمنة، رسالة دكتوراه، 3ج. 13) « المختصر من أخبار فاطمة بنت سيد البشر صلى الله عليه وسلم »، تأليف د. إبراهيم بن عبدالله المديهش، دار الآل والصحب الوقفية، بالكويت. 14) « مصنفات شيخ الإسلام ابن حجر »، للإمام برهان الدين البقاعي، اعتنى به محفوظ أحمد السلهتي، دار الرياحين. 15) « القراء العشرة ورواتهم بين رواية الحديث ورواية القراءة »، تأليف محمد عبدرب النبي البلاكوسي، خير زاد للنشر (رسالة ماجستير).
عدة أصحاب البداية والنهاية في تجريد مسائل الهداية لطاشكبري زادة صدر حديثًا كتاب "عدة أصحاب البداية والنهاية في تجريد مسائل الهداية" في الفقه الحنفي، تأليف: العلامة الإمام "محمد بن أحمد بن خليل" الشهير بـ (طاشكبري زادة) ، ويقع في مجلدين، تحقيق وتعليق: د. "عمر مصطفى الحنفي" ، أ. "هبة محمد داده" ، نشر: "دار السمان للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب يطبع لأول مرة، في مجلدين، جرد فيه مصنفه كتاب "الهداية" للمرغيناني من الأدلة، وأعاد ترتيب مسائلها، وأضاف إليها فروعًا كثيرة من كتب المذهب المعتمدة. ونجد أن كتاب "الهداية" للإمام برهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني كان يعتبر من المصادر الأساسية للمؤلفين من بعده في الفقه الحنفي، قال اللكنوي: "كل تصانيفه مقبولةٌ، معتمدة، لا سيما كتاب " الهداية " فإنه لم يزل مرجعًا للفضلاء ومُنظِّرًا للفقهاء" . وكتاب "الهداية" شرح لمتن، واختصار لكتاب في وقت واحد، وذلك أنه خطر ببال المؤلف في أول الأمر أن يؤلف كتابًا في الفقه، جامعًا لأنواع المسائل، صغيرًا في الحجم، وكان من متون المذهب المشتهرة إذ ذاك كتابان: الأول: "مختصر القدوري" للإمام أبي الحسين أحمد بن محمد القدوري. الثاني: "الجامع الصغير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني. فوقع اختيار صاحب "الهداية" على هذين الكتابين وجمع مسائلهما في كتاب سماه "بداية المبتدي" ، اختار فيه ترتيب "الجامع الصغير" ، ثم وفق لشرح هذا الكتاب، فشرحه شرحًا طويلًا، وسماه "كفاية المنتهي" ، ولما كاد أن يفرغ منه تبين له فيه الإطناب، وخشى أن يهجر لأجله الكتاب، فاختصره من جديد بكتابه هذا الذي سماه "الهداية" ، والذي وُضعَ له القبول بين فقهاء المذهب الحنفي. قال محمود بن عبيد الله المحبوبي، عن كتاب الهداية: "كتاب فاخر لم يكتحل عين الزمان بثانيه" . وقال العلامة البدر العيني، شارح الهداية، في مطلع شرحه "البناية" : "إن كتاب الهداية قد تباهجت به علماء السلف، وتفاخرت به فضلاء الخلف، حتى صار عمدة المدرسين في مدارسهم، وفخر المصدرين في مجالسهم، فلم يزالوا مشتغلين به في كل زمان، ويتدارسونه في كل مكان، وذلك لكونه حاويًا لكنز الدقائق، وجامعًا لرمز الحقائق، ومشتملًا على مختار الفتاوى، ووافيًا بخلاصة أسرار الحاوي، كافيًا في إحاطة الحادثات، وشافيًا في أجوبة الواقعات، موصولًا في قواعد عجيبة، ومفصلًا على قواعد غريبة، وماشيًا على أصول مبنية، وفصول رصينة، ومسائل غريزة، وترتيب أنيق، وتركيب حقيق....." . ونجد أن المرغيناني مال في كتابه للمقارنة بين المذهب الحنفي وغيره من المذاهب، حيث اهتم بذكر خلاف المذاهب الأخرى في كثير من مسائله مما يجعل لكتابه مكانة ومنزلة بين كتب الفقه بعامة، فهو في عداد كتب الفقه المقارن، كما اهتم بذكر الاختلاف بين الإمام الأكبر وصاحبيه وما فيه من اختلاف الروايات عنهم. وكذلك يذكر أقوال مشايخ المذهب المعتبرين في كثير من المسائل مما يجعل للكتاب مكانة علمية بين كتب المذهب بخاصة. ونتيجة لأهمية هذا المتن وشهرته تناوله العديد من العلماء بالشرح والتعقيب والحواشي على متنه، وتخريج أحاديثه، ونظم متنه، وذكر صاحب "الكشف" من شروح "الهداية" والتعليقات عليها والتخاريج لأحاديثها ما يجاوز ستين كتابًا، ولو ضممنا ما صُنِّفَ بعد صاحب "الكشف" لصار العدد أزيد بكثير. ومن هذه التحقيقات والتجريدات ما قام به "كمال الدين محمد بن أحمد" الشهير بـ "طاشكبري زاده الرومي الحنفي" المتوفى سنة (1030 هـ) حيث رتب مسائله في مجلد سماه "عدة أصحاب البداية والنهاية في تجريد مسائل الهداية" ، وذكر فيه أنه لما كان هذا الكتاب أعظم ما صنف في الفقه لكن كان كثير من المسائل المهمة مذكورًا في ضمن الدلائل بالتنظير والقياس، وصارت بسبب عدم إيرادها في مواضعها مظنة الاشتباه، فجمع هو جميع ما فيه من المسائل، وجردها عن الدلائل إلا ما ندر، مع الإشارة إلى المواضع الذي ذكرها صاحب "الهداية" ، وأورد نبذًا يسيرة من الشروح المحتاج إليها في حلها، وفرغ من إتمامه في جمادى الآخرة سنة 1024 هـ، وأهدى الكتاب إلى السلطان أحمد الثاني العثماني. وبذلك يكون عمله أقرب للاختصار مع الترتيب والفهرسة، من باب خدمة هذا السفر النفيس. وقد قام المحققان بتحقيق الكتاب على نسخه الخطية المعتمدة، منها نسخة نفيسة من مخطوطات مكتبة لايبزج في ألمانيا، مع التقدمة له بمقدمات نافعات عن صاحب الكتاب، ومنهجه في ترتيب مسائل كتاب "الهداية" ، وأثر كتاب "الهداية" في الفقه الحنفي. والمصنف طاشكبري زادة (901 - 968هـ/1495- 1561م) هو أبو الخير عصام الدين أحمد بن مصطفى بن خليل الدين الشهير بطاشكبري زادة. من أشهر مؤرخي الدولة العثمانية وكبار موسوعيّيها وكتّاب السير وتراجم الرجال. ولد بمدينة بروسة بتركيا، حيث تلقى علومه الأولى في مجالس شيوخها، وأتقن قراءة القرآن بعناية والده مصطفى طاشكبري الذي كان مدرسًا في مدارس بروسة واسطنبول العليا. كما كان مؤدبًا لولي عهد السلطان سليم الأول؛ إذ كانت أسرة طاشكبري من علماء الترك الذين نسبوا إلى قرية طاشكبري وهي مسقط رأسهم. أتقن أحمد طاشكبري دراسة اللغة العربية وصرفها ونحوها، وأخذ علم المنطق عن عمه، ودرس علوم الهيئة والفلك والرياضة على ميرم الجلبي، وكان اهتمامه الأول هو دراسة التفسير والحديث فقد أخذهما عن عدة مشايخ، وكان من شيوخه ابن حجر العسقلاني الذي كان مشهورًا برواية الحديث وصحته، وقد أجازه شيوخ الحديث في روايته. وتنقّل أحمد طاشكبري في عدة مدن في تركيا طلبًا للعلم والاستزادة منه؛ فطلبه في مجالس شيوخ أنقرة واسطنبول وأماسيا ومدارسها حتى تأهل لممارسة التدريس مباشرة في مدينة دموتيقا، ثم انتقل إلى التدريس في مدارس اسطنبول وذلك في بداية عام 933هـ/1526م، وفي عام 945هـ/1539م، انتقل إلى أدرنة للتدريس في مدارسها ثم أصبح قاضيًا فيها وفي عام 958هـ/ 1551م أصبح قاضيًا في اسطنبول واستمر في منصبه هذا مدة ثلاث سنوات أصيب في نهايتها بمرض أصابه في عينيه فَقَدَ إثر ذلك البصر نهائيًا، ومع ذلك البلاء فقد استمر بنشاطه العلمي إلى أن وافته المنية باسطنبول، حيث دفن فيها بتكية عاشق باشا. صنف في علوم الدين والدنيا مصنفات يُذكر منها: • موسوعة في الآداب وعلوم اللغة العربية وذلك باللغة العربية، نقلها بعد وفاته ابنه كمال الدين محمد إلى اللغة التركية، وطبعت باسطنبول بعنوان "موضوعات العلوم" . • كتاب "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" صنفه باللغة العربية، اشتمل على ترجمة لحياة (522) عالمًا من علماء الطرق وشيوخها، كما احتوى على ذكر أنواع العلوم ومن صنف فيها وموضوعاتها، إضافة إلى ذكر سيرة حياتهم، ورَتّبهم في عشر طبقات موافقة لعهد السلاطين العثمانيين العشرة، من بداية عهد السلطان عثمان 699-726هـ/1299-1326م حتى عهد السلطان سليمان (926-947هـ/1520-1540م) ، كما أضاف في نهاية الكتاب سيرة حياته وتفاصيل مراحلها. ويُعد كتاب "الشقائق النعمانية" من أهم المصادر التي تصور تطور الثقافة في تلك العهود العثمانية، وقد طبع عدة طبعات بالعربية ثم بالتركية بعد ترجمته. • وضع كتابًا في التاريخ جمع فيه ما ذكره ابن خلكان وزاد عليه صفحات كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين.. وغيرهم. • كتاب "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" ، طبع في ثلاثة أجزاء عام 1985م في بيروت، ويبحث في فضيلة العلم والتعليم وفي العلوم الشرعية والعادات والتقاليد الاجتماعية. • "نوادر الأخبار في مناقب الأخيار" تراجم. • رسالة "الشفاء لأدواء الوباء" . • "رسالة في تفسير بعض آيات القرآن" . • "الرسالة الجامعة لوصف العلوم النافعة" . كما ذكر له بعض من ترجم لحياته بعض الأشعار التي نظمها في موضوعات شتى، وخاصة حسرته على فقدان نعمة البصر.
امرأة من أهل الجنة الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حمدًا يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكرًا يوازي فضله ونعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. هل تخيلت يومًا أن تمتلك القصور والأموال، هل تخيلت يومًا أن يكون لديك خدم وحشم، لديك من المال ما يغنيك العمر بأكمله، حياة رغدة ليس بها أي مشقة أو تعب. هل تخيلت أن تترك كل هذا العالم بثرائه وتقبل على عالم جديد، عالم لمس أوتار وفطرة قلبك. سأروي لكم اليوم قصة فيها من الثبات ما فيها، قصتنا اليوم أحباب الله عن سيدة من سيدات نساء العالمين. إنها السيدة آسيا بنت مزاحم امرأة أكبر طاغية في زمانه، إنها زوجة فرعون عدو الله، كانت تعيش متنعمة في قصرها بين الجواري والعبيد، ملكة متوجة على عرش المملكة، ولكنها لم تتأثر أو تتلوث فطرتها من مشاركة فرعون عالمه وملكه، بل إنها ثبتت على الحق عندما أنار الله لها الطريق بمشعل نور رباني، فكانت سببًا في نجاة سيدنا موسى عندما التقطه جنود فرعون من اليم، فعندما رأته السيدة آسيا رأت وجهًا يتلألأ نورًا، فقالت لفرعون: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [القصص: 9]. وعندما دعا موسى عليه السلام إلى التوحيد، آمنت به ماشطة قصر فرعون، إلى أن علم فرعون ذات يوم بإسلام وإيمان الماشطة بموسى، فقالت لفرعون متحدية إياه: ربي وربك الله، فأمر بقذفها في النار هي وأولادها جميعًا، ثم ما لبث أن علم فرعون أيضًا بإسلام زوجته السيدة آسيا فيما بعد، عندها أقسم فرعون الطاغية أن يذيقها أشد العذاب. هذا المتكبر الذي ظن أنه الإله ورب كل هؤلاء الناس، بئس الظن الذي ظنه، كان يقول: أنا ربكم الأعلى، حاشا لله أن يكون له شريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، ثم جمع القوم، وقال لهم: ماذا تعلمون في آسيا بنت مزاحم، فأثنى عليها القوم، ثم قال لهم: إنها تعبد إلهًا غيري، فقالوا له: اقتُلها، عجبًا لهذا التناقض وعجبًا لهذه القلوب المريضة التي تغيِّر رأيها في لحظة. نادى فرعون في جنوده، فأوتدوا لها الأوتاد، وشدوا يديها ورجليها، ووضعوها تحت أشعة الشمس المحرقة، بل إنه أمر جنوده بوضع صخرة كبيرة على ظهرها وهي التي كانت بالأمس بين قومها ملكة متوجة، متنعمة بالملبس والمأكل، تحت يديها آلاف الجواري والعبيد، واليوم تُذَلُّ وتُهان، وتُقتَل بأبشع الصور. وقبل أن توضع الصخرة على ظهرها، رفعت بصرها إلى السماء وقالت: رب ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة، طلبت جوار الله، ولم تبالِ بالتعذيب والإذلال آنذاك. وقبل أن تُلقى الصخرة على جسدها، أبصرت منزلها في الجنة، ففاضت روحها وألقيت الصخرة على جسد لا رُوح فيه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]. ففازت بحسن ثباتها، فلقد أبصرت نور الحق، ولبَّت نداء الله، وآمنت بربها الله الواحد الأحد في أشد الظروف صعوبة. صدَقت الله ولم يضرَّها كفرُ زوجها، أو تغيرت وتكبرت مثله، بل عرفت الحق وثبتت عليه، لقد جعل الله السيدة آسيا مثالًا في الثبات والصبر عند الشدة، والابتلاءات والتصديق بالله والإيمان به وحده، فكوفئت ببيت في الجنة، بل ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه بأنها من سيدات نساء العالمين؛ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ". انظروا إلى هذا العطاء من الله لسيدة ثبتت في زمن امتلكت فيه كل شيء، ونحن كم تهاونَّا، وكم تركنا من أوامر الله. لنثبت على الحق، ونتَّبع المنهج الإسلامي لنفوز بجنة عرضها السماوات والأرض تنتظر من يطرق أبوابها، أسأل الله لي ولكم الثبات والإخلاص لله قولًا وعملًا.
حاشية الخرشي على كتاب نخبة الفكر صدر حديثًا كتاب "منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة" المعروف بحاشية الخرشي، للإمام محمد بن عبد الله الخرشي (1101هـ)، تحقيق: " شعبان العودة "، في مجلدين، نشر: " دار اليسر للنشر والتوزيع ". والكتاب حاشية وضعها شيخ الأزهر العلامة "أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي " على كتاب ( نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ) للإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وهذه الحاشية الهامة تطبع لأول مرة عن ثلاث نسخ خطية منها نسخة بخط الشيخ الفيومي سادس شيوخ الجامع الأزهر الشريف في عصره الزاهر. وتعد رسالة ابن حجر العسقلاني " نخبة الفكر " إلى جانب مقدمة ابن الصلاح من أهم المؤلفات التي وضعت في علم مصطلح الحديث، إن لم نقل أهمها، وقد شرحها الحافظ ابن حجر نفسه بكتاب سماه ( نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر )، وقد كثرت عليها الشروحات والاختصارات من قبل الكثير، وصار العلماء يهتمون بهذه الرسالة الوجيزة، نظرًا لأهميتها ولاشتمالها على جمل وأمور خلت منها مقدمة الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى. وممن شرحها الإمام محمد بن عبد الله الخرشي (1101 هـ) أول شيخ للجامع الأزهر، وسمى شرحه: (منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة) ، وهو شرح هام كان الشيخ رحمه الله تعالى قد جمعه ولخص فيه النقولات ممن قبله من العلماء، وزاد عليه، وأضاف إضافات هامة أيضًا. ونجد أن كون الشيخ الخرشي من المتأخرين فإنه جمع فوائد وفرائد من سبقه من العلماء في حاشيته الهامة تلك، وتعقب بالنقد والإيضاح مراد كثير من عبارات ابن حجر العسقلاني. وضمنها تعقبات تلاميذ ابن حجر وغيرهم في مناقشة بعض المسائل التي جاءت في شرحه (نزهة النظر ) إضافة إلى ما زاده من تقريرات وتعقبات وشروح وإيضاحات، ونجد أنه ذكر في نسخته الخطية: أنه لخصه من حواشٍ على "نزهة النظر". فضمن حاشيته أقوال الإمام ابن قطلوبغا، والبقاعي، وبرهان الدين اللقاني، والأجهوري، واستفاد منهم. ويظهر في تلك الفوائد باع الشيخ محمد الخرشي في علم مصطلح الحديث، وحسن استنباطه ونظره في كثير من مباحثه الدقيقة. والمصنف هو: محمد بن جمال الدين عبد الله بن علي الخراشي، أول شيخ وإمام للجامع الأزهر، وشيخ عموم المالكية في عصره، العالم الزاهد، ولد عام 1601 م بقرية أبو خراش، التابعة لمركز شبراخيت، بمحافظة البحيرة، وإليها يرجع اسمه. تولي مشيخة الأزهر عن عمر يناهز الثامنين عامًا، وظل يترأس إدارة الجامع ما يقارب 11 عامًا حتي توفاه الله عام 1690 م. يعد الخراشي شيخ عموم المالكية في عصره، قال عنه الشيخ علي الصعيدي العدوي المالكي في حاشيته التي جعلها على شرحه الصغير لمتن خليل: "هو العلامة الإمام والقدوة الهمام، شيخ المالكية شرقًا وغربًا، قدوة السالكين عجمًا وعربًا، مربي المريدين، كهف السالكين، سيدي أبو عبد الله بن علي الخرشي". لم يحظ الشيخ بشهرة كبيرة، إلا أن له مؤلفات عدة وصلت الـ20 مؤلفًا منها " الشرح الكبير على متن خليل "، و" الشرح الصغير لمختصر خليل على متن خليل "، و "منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة "، و" الفرائد السنية في حل ألفاظ السنوسية في التوحيد "، و" الأنوار القدسية في الفرائد الخراشية ". تلقى الشيخ تعليمه على يد نخبة من العلماء، وعلي رأسهم الشيخ ابراهيم اللقاني والشيخ يوسف الغليشي، وكان لوالده التأثير الأكبر في مواصلته لطلب العلم. توفي الإمام عام 1960 م، صبيحة يوم الأحد السابع والعشرين من شهر ذي الحجة، ودفن مع والده بوسط قرافة المجاورين.
السَّابِلَهْ إلى قولهم: له اليد البَاسِطَهْ من العبارات التي لفتت انتباهي، ودعَتني للوقوف عندها، عبارةُ مدحٍ وثناءٍ قيلت في شأن أئمة علماء، وسادة فضلاء، وهي قولهم: فلان له اليد الباسطة في كذا، فأحببت أن أجمع ما وقفت عليه، فهاك إياه، والله المستعان: 1- الماوَرْدِيّ (364- 450هـ): قال تاج الدين السبكي: وكان إمامًا جليلا رفيع الشأن له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم [1] . 2- إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (419 - 478هـ): قال السبكي: «وعن إمام الحرمين: ما تكلمت في علم الكلام كلمة حتى حفِظت من كلام القاضي أبي بكر (يعني الباقلاني) وحده اثني عشر ألف ورقة. قلت: انظر هذا الأمر العظيم، وهذه المجلّدات الكثيرة التي حفِظها من كلام شخصٍ واحدٍ في علمٍ واحدٍ، فبقي كلامُ غيره، والعلومُ الأُخَر التي له فيها اليد الباسطة والتصانيف المستكثرة فقهًا وأصولًا وغيرهما [2] . 3- ابن الخَلِّ البغدادي (475- 552هـ): قال السبكي: «وله في النظر والخلاف اليدُ الباسطة» [3] . 4- فخر الدين النُّوقانيّ (516-592هـ): قال ابن النجار: كان من كبار الأئمة، وأعيان فقهاء الأمة، عالما كاملا نبيلا بارعا، له اليد الباسطة في المذهب والخلاف، والباع الممتد في حسن الكلام في المناظرة، وإيراد ما يورده من الجدل والمنطق، وله معرفة تامة بالتفسير [4] . 5- محيي السنة أبو محمد البغوي صاحب التفسير (433-516هـ): كان إماما جليلا ورعا زاهدا فقيها محدثا مفسرا، جامعا بين العلم والعمل، سالكا سبيل السلف، له في الفقه اليدُ الباسطة [5] . 6- الشيخ علم الدين العراقي الضرير (623-704هـ): له في التفسير اليدُ الباسطة، وصنف فيه: "الإنصاف في مسائل الخلاف" بين الزَّمَخْشرِيّ وابن الْـمُنَيِّر [6] . 7- أبو السعادات ابن الأثير الجزري (544- 606هـ) قال ابن الشَّعَّار الموصليّ: وكان له اليد الباسطة في الترسل وكتابة الإنشاء [7] . 8- جار الله تعالى الزمخشري (467-538هـ): قال ابن الأثير: وله اليدُ البَاسطة، واللِّسان الفصيح في علوم الأدب لغتها، ونحوها، وشعرها، ورسائلها وعلم البيان، إليه انتهت هذه الفضائل، وبه ختمت [8] . 9- محمد بن سليمان البغدادي (543): قال ياقوت الحموي: وقد أخذ من كلِّ فنٍّ من العلم بنصيب وافر... وكانت له اليد الباسطة في حلّ إقليدس وعلم الهندسة، مع اختصاصه التام بالنحو واللغة وأخبار الأمم والأشعار [9] . 10- أبو منصور العبَّاديّ: قال ياقوت: أبو منصور المظفر بن أردشير بن أبي منصور العَبّادي الواعظ ذو اليد الباسطة فيه [10] واللسان الطلق في فنّه حتى صار يُضْرَب بحسن إيراده وبديهته على المنبرِ المثلُ [11] . 11- أبو الهيجاء بن أبي المنصور الموصلي (ولد سنة 594هـ): قال ابن الشَّعَّار الموصلي: شاب جندي، ذو طبعٍ في الشعر سليم، وفكرٍ في إنشائه مستقيم، صاحبُ معانٍ منتخبة، وألفاظ مستعذبة، مجيدٌ في كلامه، محسنٌ في صوغ القريض ونظامه، له طرف شائقة، وأوصاف رائقة، ولم يعتنِ بشيء من الصنائع إلا وكان فيه تامّ المعرفة والحذق، يفوق به أقرانه وأشكاله، ثم إنَّ له اليد الباسطة في الآداب الملوكية، كالتصيد بالصقر والكلاب، والضرب بالصولجان، والرمي بالقوس، وركوب الخيل وسباقها، وغير ذلك، وهو في نفسه مفرِطُ الذكاء، سريعُ الإدراك [12] . 12- الإمام علم الدين القاسم بن أحمد اللورقي الأندلسي (575-661هـ) قال الذهبي: وله معرفة تامة بالقراءات، وقد شرح الشاطبية شرحا متوسطا، وله اليد الباسطة في العربية [13] . 13- أبو عبد الله القيسي، اللغوي، القرطبي (451- 535هـ): قال الذهبي: له اليد الباسطة في علم اللسان [14] . 14- أحمد بن بَخْتَيار المعروف بابن الْـمَندائي (توفي سنة 552هـ): قال الصفدي: وكتب بخطه الكتب المطولة من الفقه والحديث والتاريخ، وكان يكتب خطا حسنا صحيحا... وله اليد الباسطة في كتب السجلات والكتب الحكمية [15] . 15- عماد الدين أبو بكر ابن الْـحَلَّاوِيّ الخيَّاطُ محمدُ بن معالي بن غَنِيمةَ (بعد 530- 611هـ): قال ابن رجب الحنبلي: تفقه على أبي الفتح بن الْـمَنِّيِّ، وهو من فقهاء أصحابه، وبرع في المذهب، وانتهت إليه معرفته، مع الديانة، والورع، والانقطاع عن الناس... وأثنى عَلَيْهِ ابْن القادسي كثيرا، وَقَالَ: كانت لَهُ اليد الباسطة فِي المذهب والفتيا... وعليه تفقه الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية [16] . 16- أبو الفرج بن أبي البقاء: قال الفيروزآبادى: كان شيخا مهيبا عالما بمذهب الشافعي. له اليد الباسطة في اللغة، وتصانيفه الحسان في اللغة تشهد بتقدمه وبراعته فيها [17] . 17- علي الفرغاني المرغيناني: قال اللكنوي: كان إماما فقيها حافظًا محدثا مفسرًا جامعا للعلوم ضابطا للفنون متقنا محققا نظَّارًا مدققا زاهدًا ورعًا بارعا فاضلا ماهرًا أصوليا أديبا شاعرًا لم تر العيون مثله في العلم والأدب، وله اليد الباسطة في الخلاف والباع الممتد في المذهب تفقه على الأئمة المشهورين [18] . 18- أبو حفص العَقيلى: قال اللكنوي: كان من أعيان فقهاء الملة الحنفية، وله اليد الباسطة في المذهب والخلاف [19] . 19- ركن الدين الكرماني: قال اللكنوي: كان إمامًا جليلا غوَّاصًا على المعانى الدقيقة، له اليد الباسطة في المذهب والخلاف، والباع الممتد في حسن الكلام ونقل الفتاوي عن الأسلاف [20] . 20- أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغَزمِينيّ: قال اللكنوي: كان من كبار الأئمة، وأعيان الفقهاء، عالمًا، كاملًا، له اليد الباسطة في الخلاف والمذهب، والباع الطويل في الكلام والمناظرة، وله التصانيف التي سارت بها الركبان [21] . [1] طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 268. [2] طبقات الشافعية الكبرى: 5/ 185. [3] طبقات الشافعية الكبرى: 6/ 177. [4] طبقات الشافعية الكبرى: 7/ 29. [5] طبقات الشافعية الكبرى: 7/ 75. [6] طبقات الشافعية الكبرى: 10/ 95. [7] قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان: 5/ 32. [8] تتمة جامع الأصول في أحاديث الرسول: 12/ 896. [9] معجم الأدباء -إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب-: 6/ 2541. ترجمة رقْم (1057). [10] أي: في الوعظ. [11] معجم البلدان: 4/ 75. [12] قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان: 2/ 241. [13] معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (تحقيق الدكتور طيار آلتى قولاج): 3/ 1332. [14] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 36/ 374. [15] الوافي بالوَفَيَات: 6/ 163. [16] الذيل على طبقات الحنابلة: 3/ 163-167. وترجمة الشيخ أبي بكر بن الحلَّاوي من أحسن التراجم وأكثرها نفعًا وأثرًا، فطالعها إن شئت! ورحم الله أهل العلم وجزاهم خيرًا. [17] البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة: ص 273. [18] الفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص 141. [19] الفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص 150. [20] الفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص 176. [21] الفوائد البهية في تراجم الحنفية: ص 212.
إبراهيم الرَّحمة المُهْداة وصَف الله تعالى إبراهيم بأجملِ وصف، بحيث تتجلى من خلاله شخصية إبراهيم الدؤوبة المحبوبة، السالكة طرق الخير والمحبة؛ فهو الحامد الشاكر لله أنى حلَّ وكيف ارتحل، كان أمة قانتًا لله، حنيفًا مسلمًا، تنطق بذلك جوارحه: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 120، 121]، ووصَفه الله بالحِلْم والأناة، وأنه أوَّاه كثير الاستغفار والدعاء: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، وقد سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: ((الخاشع المتضرع الدعاء)). لقد عاش فترة في مكة، ورأى حال البلاد من ضنك الحياة وشظَف العيش، فما كان منه إلا أن أطلق دعوة من قلب مشفق لمكة؛ كي يعمها الله بالخير: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126]، فأراد بلدَ خيرٍ متكاملًا بالمؤمنين والأرزاق، وشملت دعوته الرحمة بهم والرأفة بأن يرسل فيهم رسولًا منهم؛ ليعلِّمهم ما جهِلوه من أمور دينهم؛ ليضمن لهم حياة أخروية سعيدة: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]. وكان كثيرَ الوصايا لأولاده وأحفاده بالتوحيد والاستقامة على المنهج القويم: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130 - 132]، وورَد أنه عليه السلام لما عاد مِن مصر إلى فلسطين نزل في موضع سبع، فحفَر فيها بئرًا كانت غزيرة طيبة الماء - سميت بعد ذلك بئر سبع - واتخذ فيها غنمًا، وعم خيره على أهل المنطقة، فاستقَوا منها وعاشوا مدة إقامته بينهم في نعيم، ونشر دعوته هناك، لكن أهل سبع خالفوه وأظهروا له العداء، ففارقهم إلى مكان قريب من القدس، فلما فارقهم جف البئر، فتبِع أهلها إبراهيم فاعتذروا له وطلبوا منه العودة، فلم يرضَ أن يعود لبلدة أخرج منها، فذكروا له جفاف البئر، فأشفق عليهم وأعطاهم بضع عنزات، وقال لهم: لتَرِدِ العنزات إلى البئر فإنه سيعود، وهكذا عادت المياه العذبة إلى البئر، وهذا مثال رحمته بالناس. لقد كان هاجس إبراهيم الكبير الذي كان يأخذ عليه تفكيره هو في كيفية هداية والده إلى الإسلام، لقد بذل له كل نصح، ونوَّع في الأسلوب في إلانة القول له تارة، والتخويف من عذاب الله تارة أخرى، والجدال بالتي هي أحسن، والعقلانية في البرهان والنقاش، لكنه أبى ذلك وأصر على عبادة أصنامه، ومع ذلك أصر إبراهيم على الدعاء له بالمغفرة والهداية، وكما ورد على لسان نوح عندما أوذي وعن نبينا عليه الصلاة والسلام كذلك: ((اللهم اغفِرْ لقومي؛ فإنهم لا يعملون))، وكان هذا حال إبراهيم مع أبيه إلى أن مات؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، فكان في حياته يطمع في إيمانه ويستغفر له؛ لأن الأمل والرجاء موجود - وهذا ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب - فلما مات على شِركه، تبيَّن له أنه مصرٌّ على الكفر ومعاداة الله، فتبرأ منه، وقطع الاستغفارَ. وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشبهَ الناس بإبراهيم، وروي أيضًا عن أبي هريرة: أن إبراهيم عليه السلام اختَتَن بالقَدُوم وهو ابن ثمانين سنة، وروي أيضًا عن أبي هريرة: أن إبراهيم لم يكذِبْ سوى ثلاث كذبات، ثنتين منهن لله، قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89]، وقوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63]، والثالثة: قوله لجبَّار مصر عندما سأله عن سارة: ((هي أختي))، وهو يعني في الإسلام، ولو قال: زوجتي، لقتَله.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل من رواية محمد بن ماهان النيسابوري صدر حديثًا كتاب "مسائل الإمام أحمد بن حنبل من رواية محمد بن ماهان النيسابوري" (ت 284 هـ) ، تحقيق: أ.د. "عبد السلام بن محمد الشويعر" ، المدرس في الحرمين الشريفين، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب يضم مسائل الإمام أحمد في الفقه، حيث بقيت آراؤه الفقهية فيها عن طريق مسائل تلاميذه له، وأولئك التلاميذ طبقات متعددة وهم في مراتب متفاوتة؛ قلة وكثرة، وصحة وضعفًا، وقبولًا وردًا، ومن أجلّهم محمد بن ماهان النيسابوري، الذي صحب الإمام أحمد أكثر من اثنتي عشرة سنة، وقد تناثرت تلك الروايات في مظانها، وقام المحقق بجمعها من الكتب المعروفة بذلك في المذهب كالمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، والمغنى لابن قدامة، والمحرر في الفقه لابن تيمية الجد، والفروع لابن مفلح الكبير، والمبدع شرح المقنع لابن مفلح الصغير، والقواعد لابن رجب، والإنصاف للمرداوي.. وغيرها. وصاحب تلك المسائل هو محمد بن ماهان النيسابوري السمسار، نسبة إلى البيع والشراء، فقد كان تاجرًا أو اتجر بعد أخذه العلم. وكان رحمه الله من جلة أصحاب أحمد وفضلائهم، نوه به في عدادهم ابن أبي يعلى، وابن مفلح، وغيره، وقد صحبه قديمًا؛ فإنه ذكر في إحدى مسائله أنه سأل الإمام أحمد سنة تسع وعشرين ومائة أي قبل وفاته باثنتي عشرة سنة. وجاء في وصف النابلسي وابن مفلح له بالجلالة فقالوا: كان جليل القدر. ومسائله لأحمد هي مما سأل عنه تارة، ومما سمعه والإمام يسأل عنه تارة أخرى، فإنه قال في بعضها: سألت أحمد بن حنبل، وقال في بعضها: سئل أحمد وأنا أسمع، ومنها مسائل أخرى لا تعلق لها بسؤال سائل، وربما بحث معه في جوابه، وذلك يدل على ملازمته وولعه بحفظ مسائل أحمد عنه. ومسائله وصفها ابن أبي يعلى بالحسن، فقال: له مسائل حسان، وقد نقل كل من ابن أبي يعلى والنابلسي وابن مفلح تلك المسائل، ولم يعقبوا على ما نقلوه بشيء، ولم يوجد أحد من أئمة الحنابلة أحدًا استنكر مسألة منها، فهو من ثقات نقلة مسائل أحمد عنه. وقد روى مسائل أحمد عن ابن ماهان تلميذه أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن الحارث القطان، وأخذ عنه، وكان أخذه عنه سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوفي ابن ماهان سنة أربع وثمانين ومائتين، بعد وفاة الإمام أحمد بثلاث وأربعين سنة. وجملة مسائله التي وقف عليها قرابة تسع عشرة مسألة، وذكر العلام الشيخ "بكر أبو زيد" في "المدخل المفصل" أن له مسائل كثيرة، وليست هذه المسائل في باب واحد، ولا أبواب معينة في الفقه، وإنما كانت مختلفة في عبادات ومعاملات وأنكحة وجنايات، حيث استوعبت أرباع الفقه الأربعة. وتلك المسائل تشهد بأن ابن ماهان من أهل الفقه، ومن تلامذة الإمام أحمد بن حنبل النبهاء، وليس مجرد راو ينقل ما سمع، فهو راو فقيه. وقد قام المحقق بجمع تلك المسائل، مع تصوير المسألة المراد بحثها تصويرًا دقيقًا قبل بيان حكمها ليتضح المقصود من دراستها. وإذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق يذكر حكمها بدليله، وإذا كانت من مسائل الخلاف يحرر محل الخلاف مع ذكر الأقوال المختلفة في المسألة، وبيان من قال بها من أهل العلم، ويكون عرض الخلاف حسب الاتجاهات الفقهية. مع توثيق الأقوال من مصادرها الأصلية، والمقارنة بين المذاهب الفقهية المعتبرة في المسائل محل الخلاف، واستقصاء أدلة الأقوال مع بيان وجه الدلالة. واعتمد المحقق على أمهات المصادر والمراجع الأصلية في التحرير والتوثيق والتخريج والجمع، وتجنب الأقوال الشاذة. والمحقق هو الشيخ عبد السلام بن محمد بن سعد الشويعر. مؤهلاته العلمية: • شهادة الدكتوراه في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1421 هـ، بمرتبة الشرف الأولى. • شهادة الماجستير في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء عام 1418 هـ. • البكالوريوس من كلية الشريعة بالرياض سنة 1415/1416 هـ. أعماله ومناصبه: الدرجة العلمية/ أستاذ مشارك بقسم العلوم الشرعية والقانونية في كلية الملك فهد الأمنية (1426هـ) . عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية، وفي المعهد العالي للدراسات الأمنية. المؤلفات والبحوث المنشورة والمحكمة: • الاختلاف الفقهي وتوظيفه مصلحيًا (محكّم) . • المسؤولية الجنائية للشخصية المعنوية في الفقه الإسلامي (محكَّم، ومنشور) . • شخصية الشركات الحديثة في الفقه الإسلامي وآثارها، دراسة مقارنة (محكَّم) . • جرائم الاعتداء على الأموال بواسطة التلاعب بالأجهزة الالكترونية. • الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية دراسة تأصيلية (محكَّم، ومنشور) . • الصفات اللازمة والمرجحة في المفتين. (محكَّم، ومنشور) . • التوقيت الحولي في الزكاة وما يترتب عليه من آثار معاصرة (محكَّم، ومنشور) • المقاصد العامة الشرعية للحبس، وتفريعاتها (محكَّم) . • طبيعة ملتزم التعويض في الفقه والأنظمة الخليجية (محكَّم) . • الصُّلح في العقود ودور السلطة القضائية والتنفيذية فيه (محكم ومنشور) . • عقد الكفالة وتطبيقاته الحديثة (محكَّم) . • القواعد والمعاني الشرعية لعمليات التجميل (منشور) . • شرح طهارة المريض وصلاته (مطبوع وزارة الصحة) . • فقه صوم المريض (مطبوع وزارة الصحة بالرياض) . • فقه حج المريض (مطبوعات وزارة الصحة بالرياض) . • أحكام الدِّماء في الحج. • البطاقات الائتمانية القرضية، والتعامل بها للأشخاص. • مذكرة في البنوك والمعاملات المصرفية المعاصرة. • التتبع لما خالف فيه يحيى بن يحيى الليثي سائر الرواة في الموطأ لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله. • تحقيق (كتاب البيان في الفقه الشافعي) للعمراني رسالة دكتوراه. • تحقيق كتاب ((مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لأبي بكر خوقير المكي) ) (مطبوع مكتبة الرشد) . • الفارضية في الفرائض على مذهب الحنابلة، لشمس الدين الفارضي (محكَّم، ومنشور) . • فتح الوهاب شرح منظومة الآداب، للشيخ موسى الحجاوي الحنبلي (مطبوع دار ابن الجوزي بالدمام) .
( مقالات في مآثر أهل العلم ذوي الكمالات ) نضرة الرياض في مآثر العلامة زيد الفياض (رحمه الله تعالى) (1350 - 1416 ه ) الكتاب: نضرة الرياض في مآثر العلامة زيد الفياض. الكاتب: عمير الجنباز. عدد الأوراق: 7.
أسرار الماء فى القرآن الكريم وجائزة نوبل فى آية ماء بقدر (دورة الماء) يقول تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [ المؤمنون: 18] ، ويقول – أيضا -: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [ الفرقان: 50]، ويقول سبحانه وتعالى : ﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الزخرف: 11] .. ثلاث آيات محكمات نعرف منها أن الماء نزل من السماء بقدر، وأنه مُصَّرف بين الناس بتقدير العزيز العليم، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن ليس عام بأمطر من عام، ثبت لك وجه رائع من روائع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في لفظة واحدة " بقدر " التي عبرت بوضوح عن دورة عجيبة هي دورة الماء في الطبيعة (شكل1-47). شكل (1-47): ماء منزل من السماء بقدر.. الأرقام بآلاف الكيلومترات المكعبة. من ذا الذى أخبر محمد صلى الله عليه وسلم أن إنزال الماء من السماء بقدر سوى الوحي من الله. فلم تكن هناك قياسات ولا تقديرات لكميات الأمطار وكميات مياه البخر على مستوى الكرة الأرضية, بل كانت هناك في ذلك الوقت قارات كاملة لم يعرف الإنسان عنها شيء. أشهد أن الله حق وأن القرآن حق وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. وسأكتفي بذكر أرقام وردت في معرض الحديث عن دورة الماء ( الدورة الهيدرولوجية ) في مرجع علمي إسمه الأرض بين الحاضر والماضي. قد أصبح من الؤكد أن الماء يدور بانتظام بين البحر والبر والغلاف الجوي. وتلك هي الأرقام بواسطة العلماء: قراءة من الدورة المائية • الماء النازل من السماء على البحار ( Precipitation ) = 409 ألف كيلو متر مكعب سنويا. • الماء المتبخر من البحار ( Evaporation ) = 455 ألف كيلو متر مكعب سنويا. • العجز المائي في البحار = كمية البخر – كمية المطر = 455 – 409 = 46 ألف كيلو متر مكعب سنويا. • الماء النازل من السماء على اليابسة = 108 ألف كيلو متر مكعب سنويا. • الماء المتبخر من اليابسة = 62 ألف كيلو متر مكعب سنويا. • الوفر المائي على اليابسة = كمية المطر - كمية البخر = 108 - 62 = 46 ألف كيلو متر مكعب سنويا. وما يحدث هو أن الماء الزائد على اليابسة يصب في البحار حتى تنتظم الدورة المائية ولربما اختلفت الأرقام من مرجع علمي إلى مرجع علمي آخر ولكنها تتفق جميعًا على أن مقدار ما يسقط على الأرض من الأمطار كل عام مقدار ثابت.. واللفتة الإعجازية الثانية المتعلقة بدورة المياه في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ تشير إلى اختلاف النسب باختلاف الأماكن مع ثبات كمية الماء المصرف، ويزداد الإنسان عجبا لو علم أن ذلك الماء يمثل بقايا ماء نزل من السماء منذ ملايين السنين. وكل ما عمله الإنسان أنه حفر بئرًا وحصل على الماء. هنا يلزم تدبر قوله تعالى: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 21 – 22]. ويحصل سكان شبه جزيرة العرب على الماء من عشرات خزائن الماء التي خزن بها الماء قبل أن يسكن الإنسان الأرض. يقول تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].
منهج تحقيق نسبة النص النثري لمحمد علي عطا صدر حديثًا كتاب "منهج تحقيق نسبة النص النثري"، تأليف: د. "محمد علي عطا" ، نشر: "دار ملامح"، الشارقة- الإمارات. وهذا الكتاب يناقش محورًا رئيسًا من محاور تحقيق النصوص التراثية، ألا وهو تحقيق نسبة النص لصاحبه، أو مشكلة معرفة المؤلِّف للنص موضع التحقيق، حيث تحتلُّ مشكلةُ تحقيق النسبة في تراثنا حيزًا كبيرًا، فالواجب ألا يحقَّق كتابٌ تراثي إلا ويحمل في مقدمته مبحثًا عن تحقيق نسبة الكتاب إلى صاحبه، ورغم ذلك فإنه لَم يُفرَد مؤلَّف من قبلُ لبحث هذه القضية مستقلَّةً، ولكن تم تناولُها في أماكنَ مشتتة، وتقوم هذه الدراسة بإلقاء الضوء على واقعِ معالجة هذه القضية، وسِماتِ معالجاتها. وهذا المبحث نجده دومًا كأحد المباحث الفرعية التي لا تشغل إلا صفحات قلائل في مظان شتى، أما عن أماكن معالجة هذه القضية، فهي: 1- مقدِّمات تحقيق بعض الكتب المحقَّقة تحقيقًا علميًّا. 2- بعض الأبحاث المنشورة في بعض الدَّوريات التي تُعْنى بقضايا التراث. 3- صفحات قليلة في الكتب التي تتناول فنَّ تحقيق التراثِ، التي يصدُق عليها ما قاله محمد التونجي عن كتابَي عبدالسلام هارون وصلاح الدين المنجد: "مُوجَزتان جدًّا، على أهميتهما، ولا يتعدَّى ما فيهما نتائجَ تجاربِهما الشخصية العميقة" . 4- وفي بعض الكتب التي تتعرَّض لشخصية تراثية وأدبِها، أو تتعرَّض للتوثيق عامة، أو لمشكلاتِ المخطوطات وفَهرستها. وجاءت في كلِّ ذلك غيرَ ممنهجة، ومختصرة، بل كان يغلِب عليها خصوصيةُ الحالة المدروسة، وثقافةُ المؤلِّف. وإجمالاً يمكِن القول بأن هذه الدراسة تعد من الدراسات التي تعالج أغلب الثغرات في معالجة هذه القضية، حيث اتسمت معالجةُ هذه القضية - سابقًا - بأنها: 1- معالجة عامة، خاليَة من المنهجية، رغم أنها تشكِّل ظاهرةً ذاتَ حجم كبير في تراثنا. 2- أماكن معالجتها مشتتة في مقدمات كتب التحقيق، وليس كلُّ المحقِّقين يحرصون على إعطائها حقَّها من البحث والدراسة، وفي بعض الأبحاث المنشورة في الدَّوريات التي تُعنى بالتراث. 3- تُعالَج في إطار كتابٍ واحد، ولا تتعداه لغيره من الكتب؛ أي: تُعالَج معالجةً جزئية، أو تُعالج ضمن تجارِبِ شخصٍ واحد. 4- لَم تضَع منهجًا أو خطوات لمعالجة هذه القضية. 5- لم تذكر هذه المعالجاتُ مراتبَ الأدلة التي تستدل بها على تأكيد النسبة أو نفيها، وهل هي أدلة يقينية لا يمكن نقضُها أو التشكيك فيها، أم أنها قابلةٌ للأخذ والرد؟ ويُستثنى من ذلك قول عبدالسلام هارون: "وتُعَد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب، أو تزييفها" ، وقول هلال ناجي: "إن هذه الأدلة كانت تمثِّل الدليل العقلي، وهي وحدها غيرُ كافية لتأكيد نسبة الكتاب إلى التوحيدي - يعني كتاب النوابغ والحكم - ما لم تعزَّزْ بالدليل النقلي" ، فهذه ومضات منهجية غير مكتملة. 6- لَم تشمل هذه المعالجاتُ كلَّ الأدلة التي يمكِنُ أن يستدل بها الباحث على صحة النسبة أو خطئِها، ولكنها تشمل ما تسعُه ثقافة كاتبها وتجارِبه، وما توصَّل إليه. ونجد أن من أهم مشكلات تحقيق النسبة التي تواجه المفهرس والمحقق؛ مشكلة خلو المخطوط من اسم المؤلِّف، وفي هذه الحالة يلجأ المفهرس إلى العنوان ليبحثَ عن مؤلِّفه في الكتب المختصة، والمشكلة الأخرى: هي مشكلةُ اتفاق بعض المخطوطات في عناوينها مع اختلاف المؤلِّفين، وكذلك تشابه موضوعاتِها في بعض الأحيان، وعلاجها عند بعض الباحثين: ألا يتسرَّع المفهرس في النسبة، وأن يحْذَر من التعجُّل في إثبات اسم المؤلِّف، وأن يطَّلع على نص المخطوط، ويحاول الوقوف على: تاريخ التأليف، والأسلوب، والأعلام، والتَّقييدات، والسمَاعات، والقراءات، والإجازات، والمصطلحات العلمية، وحياة المؤلِّف العِلمية، وغير ذلك من الإشارات التي ترِد في ثنايا النص. أما المشكلة الثالثة فهي مشكلة ورودِ اسم المؤلِّف الواحد بأشكال مختلفة؛ بالاسم الشخصي، أو الكُنية، أو اللقب، أو النسبة لقبيلة، أو لأحد الأبوين، أو لمذهبٍ، أو لحِرْفة، أو لفِرقة، أو لعاهةٍ، وقد تكون النسبة مستعارةً؛ كالقاعاني، وحلُّ هذه المشكلة عند المحقق الكفء هو إدخالُ الجزء المشهور من الاسم الذي اعتاد أن يُعرف به صاحبه في مؤلَّفاته، والذي اعتاد الناسُ معرفتَه به، ويُبحث عنه بالاستعانة بالمصادر التي ذكَر بعضًا منها. وناقش الكاتب أهم مشكلات تحقيق النسبة للنص النثري التراثي في تلك الدراسة المفردة، مدللًا على أغلب تلك المشاكل وحلها بأمثلة واقعية تطبيقية من محاولات المحققين السابقين والتي استقصاها من معين خبرته في تحقيق النصوص التراثية، ومعالجة أهم صعوباتها. ويرى الكاتب أن اختلاف نسبة النصوص التراثية ظاهرة تشغل حيزًا في قضايا التراث العربي، ورغم أهمية تحقيق نسبة النص يتهاون بعض المحققين فيه، ويعالجونه معالجة دون المستوى، إما لقلة الوعي بالأمور التي من الممكن من خلالها تحقيق النسبة، أو تكاسلًا، بعد الجهد المبذول في تحقيق النص ذاته. ونجد أن الباحث عمل على تكوين منهج لحل هذه الإشكالية، مجيبًا عن سؤالين اثنين: كيف أحقق نسبة كتاب مختلف النسبة، وكيف أوازن بين الأدلة المستخدمة في تحقيق النسبة أو نفيها إذا اختلف الباحثون؟ والمؤلف د. "محمد علي عطا" باحث ومحقق مصري، حصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، عام 1998م، ثم تمهيدي الماجستير بقسم الأدب بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، 1999م، ثم ماجستير في اللغة العربية وآدابها، تخصص الأدب والنقد، من جامعة عين شمس، 2004م، بدرجة امتياز مع التوصية بالطبع على نفقة الجامعة وتداولها مع الأقسام المشابهة في الكليات الأخرى، ثم دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، جامعة عين شمس، 2011م، بمرتبة الشرف الأولى، تخصص الأدب والنقد، وحاصل على دبلومة الخطوط العربية. عملَ محاضرًا بالسنة التحضيرية بجامعة الملك سعود بالرياض، وباحثًا ومحقِّقًا للتراث لقرابة عشرين عامًا في عدة مراكز بحثية؛ أهمها "هجر للنشر والتوزيع" بمصر، وغيرها من مراكز التحقيق. تمرس في فن التحقيق من خلال المشاركة في تحقيق البداية والنهاية لابن كثير (ت774هـ) صدر في واحد وعشرين مجلدًا. وتفسير محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) ، جامع البيان في تأويل آي القرآن، صدر في ستة وعشرين مجلدًا. والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (ت911هـ) ، صدر في ستة عشر مجلدًا. وموسوعة الفقه المالكي، وصدرت في ثمانية وعشرين مجلدًا، وتضم: موطأ الإمام مالك (ت 179هـ) ، والتمهيد، لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت463هـ) . والاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت463هـ) ، والقبس، لابن عربي المالكي. له العديد من البحوث والمقالات الأدبية، منشورة على عدد من المواقع كشبكة الألوكة وموقع معهد المخطوطات العربية وموقع حماسة وغيرها من المواقع الإلكترونية.
العبث بالمظهر يشدُّ الانتباه ما تطرحه الصحافة عن الشباب، وما يتعرَّضون له - الآن - من تسطيح وتسفيه في حياتهم، ودعوَتُها لذوي الأقلام في الإسهام في معالجة هذه الظاهرة، التي لا تبرز آثارها في القريب العاجل، ولكنَّها ستظهر عندما يتسنَّم هؤلاء الشباب المسؤولية، بعد سنين معدودة. تنصبُّ هذه الرؤية على فئة من الشباب الذين هيَّأ الله لهم الظروف المادِّية الطيِّبة، التي أسهمَت في ضعف شعورهم بالحاجة، ما دام كلُّ شيء مهيَّأً لهم؛ من المأكل والملبس، والمسكن والمركب، ثمَّ مصروف الجيب، ممَّا حدا بهم إلى الاهتمام بأمور سطحيَّة في الفكر والسلوك، أسهمَت في هذا التسفيه، ويعينهم على ذلك مغريات جاهزة موجودة بين ظهرانيهم، فأثَّر هذا كله على تحصيلهم العلمي، وأثَّر كذلك على فهمهم للحياة، وما فيها من حاجة إلى الارتقاء. اكتفى بعضهم بتوفير الكماليات، المتوفِّرة أصلًا، فطفِق يَبحث عن المزيد، في سباق محموم مع التقليعات العبثيَّة الشبابيَّة، التي توحي للمتابع بمدى ما وصلَت إليه هذه الفِئة من الهامشية والنَّظرة قريبة المدى، بحيث يصعب على الفتى مواجهة المواقف، تكاد تراهم في بعض المناسبات عندما لا تجد فيهم من يضع كلمتين في جملة مفيدة، إذا ما صادف أنْ كان بين الرجال، ولم يتمكَّن من الهرب منهم، قابعًا في مقصورته التي حوَت كلَّ مُلْهٍ من الأجهزة والأشرطة، بما فيه من مضيعةٍ للأوقات والطاقات والآمال والطموحات. هناك فِئة عابثة سطحيَّة ستَدفع الثَّمن غاليًا، وهناك فئة جادَّة مدرِكة لمعنى الحياة، ستكون هي الأملَ الذي تتطلَّع إليه الأمَّة، في حمل رسالةٍ تحتاج إلى سواعد الرجال وعقولهم لحملها؛ لأنَّها أمانةٌ ثقيلةٌ، لا يقوى على حملها إلَّا مَن أدركها، وأدرك ثقلها، مع قلَّة هؤلاء، بالمقارنة بأولئك؛ فإن قليلًا جدًّا من الشباب، تحسُن تربيتهم وتوجيههم، خير عند الله من كثير عابِث، سوف يعيش على الهامش، ويكتفي - قسْرًا ودون إرادة منه - بأنْ يعيش عيشة مختلفة - تمامًا - عن عيشته هذه، عندما يتوقَّف عنه الدَّعم، الذي يتفيَّأ ظلاله هذه الأيام، وهو دَعم مصطنع، قائم على قلِّة الحيلة من الوالدين الداعمين. هناك فِئة من الشباب، من الجادِّين الذين تراهم يستغلِّون أوقاتهم بالمفيد، فما أنْ يخرجوا من مدارسهم حتى تراهم بين أهليهم في فترة راحة لا بدَّ منها، ثم يتوجَّهون إلى الاطلاع والقراءة، ومتابعة أمورهم بجدِّية، ترى منهم من يعمل مساءً، ومنهم من يستغلُّ وقته الباقي في أمور منتجة لأهله وله، دون أنْ يعير اللَّهو انتباهًا أكثر من اللازم، ومع هذا فهو لا يغفل عن رغبته في اللَّهو البريء المباح الخالي من المضاعفات، التي تُخلِّفها بعض أنواع اللَّهو، الذي رزئت به الساحة العربية والعالمية هذه الأيام. كنموذج لذلك: هذا طِفل (فتى) في الثانية عشرة من عمره يعلِّق، تعليقًا عابرًا، على الأحداث الأخيرة في المنطقة العربية، لا سِيَّما مع بروز فضيحة تعذيب الموقوفين في السجون العراقية، من قِبَل القوَّات المحتلَّة، ومذبحة قانا الثانية في لبنان: ماذا لو كان الوضع في مسألة التعذيب في سجن أبو غُرَيْب وغيره والغارات على المدنيين عكسيًّا، ماذا ستكون ردود أفعال الآخر؟ تعليق هذا الفتى يبرز مدى سعة الاطِّلاع التي يتَّسم بها جيل هذا اليوم، في ضوء ما يحيط بهم من آليَّات نشر المعلومة، التي لم تعُدْ مقصورةً على مَن يبحث عنها في الكتب، وأوعية المعلومات التقليديَّة الأخرى، بل ظهرَت أوعية معلومات حديثة، في متناول الفتيان والفتيات، ممَّا أثَّر على نظريات نشر المعلومة، ومحاولات علماء المعلومات إيجاد عناصر مهمَّة تحيط بالمعلومة؛ أبرزها نظرية عالِـم المعلومات الأمريكي روبرت هَيز من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ( UCLA ) في نهاية التسعينيات الهجرية/ السبعينيات الميلادية، وبداية الأربعمائة الهجرية، الثمانينيات الميلادية، تلك التي تحوم حول أربعة عناصر مهمَّة حول المعلومة؛ هي ملكيتها، وخصوصيَّتها، وسرِّيتها، وأمنها [1] . إدراك الشَّباب الصِّغار - الآن - بفعل أَوعية المعلومات الحديثة له أثَر على هذه العناصر الأربعة، وإدراك الفتيان والفتيات يتجاوَز الاعتراف بأنَّ الكِبار قد يكونون أكثر إدراكًا؛ إذ إنَّ هناك شواهد فعليَّة، تؤكِّد أنَّ الكبار ممَّن لم يوفَّقوا في التعامُل مع آلات تقنية المعلومات، متأخِّرون في الحصول على المعلومة، بالمقارنة بأولئك الصغار، الذين لم يمرُّوا بالهيبة (الخوف من التقانة Technophobia )، التي صاحبت التعامُل مع أوعية المعلومات الحديثة، ولأنَّها أوعية حديثة فإنَّ مجال الملكية، والسرِّية، والخصوصية، والأمن للمعلومة، أضحت - كلُّها - مجالًا للتجاوز والاختراق بشكل ملحوظ، مما حدا بالعالَم إلى إعلان بعض المبادئ أو القوانين، ذات العلاقة بالملكية الفكرية، وجعل منظمة التجارة العالمية ( WTO ) تؤكِّد ذلك، من خلال التوقيع على اتِّفاقية الملكيَّة الفكرية، ضمن متطلبات الانضمام إلى هذه المنظمة. كنموذج آخر لهذه الفِئة من الشباب: اعتُقل فتًى في ألمانيا، في عمر المراهقة، اعترف - حالَ القبض عليه - بالعبَث من خلال التعامُل مع المعلومات المصرفية من خلال إقحام فيروس، يؤثِّر عليها إلى حدِّ مسح المعلومات؛ هذا سطو سافر على كلِّ هذه العناصر الأربعة التي قدَّمها روبرت هيز، قبل خمسٍ وعشرين سنة؛ ذلك الوقت الذي كان الناس يتحدَّثون فيه عن تفجُّر المعلومات، أو ثورة المعلومات، ومن ثمَّ فإنَّ هذا الجيل القادِم ستكون له مع المعلومة نَظرة تختلف عن جيل سابِق، وإنْ كان الجيل السابق قد تعرَّف على تقنية المعلومات، من خلال البطاقات المثقوبة، والأجهزة الضخمة لحفظ المعلومات وتخزينها، الأمر الذي أصبح في حكم التاريخ والتراث المعلوماتي. هذا الإدراك في هذا الجيل القادم المتعامل مع المعلومة ليس على اعتبار أنَّها ثروة وطنية فحسب، بل على اعتبار أنَّها جزء من الحياة العامَّة، مثلها في ذلك مثل الهواء والضوء، هذا الإدراك يستوجب نظرةً معاصِرة للتعامُل مع المعلومة؛ من حيث سرِّيتُها، وملكِيتُها، وخصوصيِّتُها، وأمنُها؛ إذ تظل هناك - رغم كل التطوُّرات - حاجةٌ إلى قدر من هذه العناصر الأربعة، لا بدَّ من الإبقاء عليه، على مستوى الأفراد والمجتمعات. هذا الإدراك من هذا الفتى أَوحى بقدر غير قابل للتغافُل في التعامُل مع المعلومة، وضرورة التوكيد على محتوى المعلومة، من حيث المصداقية. أثار هذه الوقفة سؤالُ هذا الفتى: ماذا لو كان الوضع في مسألة التعذيب في سجن أبو غُرَيْب وغيره والغارات على المدنيين عكسيًّا، ماذا ستكون ردود أفعال الآخر؟! ولم يكن هذا السؤال، من هذا الفتى استفهامًا، ولكنَّه سؤال أثار سؤالًا حول مدى إدراك هذا الجيل في التعاطي مع المعلومة. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة: التجهيزات الأساسية للمعلومات: نظرة عامة - مكتبة الإدارة - ع 2 مج 12 جمادى الأولى 1405هـ/ يناير - فبراير 1985م - ص 23 - 38.
الرقص على الجروح وهل يمكن للإنسان أن يرقص على جرح إنسانٍ مثله! هل له أن يبني عروش ابتسامته على أنقاض الخواطر وانكسارات النفوس! بالتأكيد لست أنا من يفعل ذلك، وكذلك تقولها أنت في نفسك، ويقولها هو، وهي، وهما، وهم، وهنَّ! فإن كانت كلّ ضمائرنا تدّعي البراءة من دم هذا الرقص المشين إذن لماذا تفيض الجروح من حولنا، ولا تكاد تندمل؟! ولماذا يفوح نتن الجاهلية من ربوع الشرق المبارك، ولا توشك أن تغيب عنه المآسي والشقاق؟ لقد مللنا البحث عن الجُناة في فناجين القهوة وطوالع النجوم وتمائم السِّحر، ولم يُفلح قولنا (إنها مؤامرة) في صنع ترياقٍ ناجعٍ، ولا حلٍّ نافعٍ! وكلما حاولنا ادّعاء الفهم والمقدرة على التحليل ازددنا جروحًا جديدةً تئنُّ تحت وطأة أقدام غريبةٍ (لسنا أصحابها بالطبع) ! وفي رحلة البحث عن الحقيقة ووسط فنون التبرير والتسويف مرَّ بي شيخٌ، ينقل خطاه بحذرٍ خلف عكّازه، فخطر لي أن أدعوه. وبعد أن حكمت على لحيته في نفسي، تمنَّنتُ عليه بشيءٍ ممّا آتاني الله على علمٍ عندي، وسألته بنبرة المتشكّك عن ذاك العابث بآلام الناس؟ صمتَ برهةً يستجمع ريقه، وهو يتأمَّل مكتبتي المتوارية خلف الزجاج المقفل، ويطالع صناديق المجلّدات المغلَّقة، وحالما وقعت عيناه على أقدس الكتب مُغبرًّا؛ ضاجت قسمات وجهه تصارع العبرات! نهض منكسرًا يقودني إلى الشُّرفة، ويُشير بيده المرتعشة قائلًا: • لمن ذاك الطفل المتبجّح، يستعرض ألعابه البهيّة أمام جاره المنهك بالفقر؟ • ولمن ذاك الولد المتهوّر يُفزِعُ بسيّارته المارّةَ، ويُكدّر المرضى والطَّير؛ لينتشي بصخب التَّبذير ودخانٍ ترسمه العجلات؟ • من علَّم ذاك الفتى أن يفتّش في زملائه عن عاهةٍ يُقلّدها؛ ليصنع منها فكاهةً تجذب الأنظار وتنال التصفيق؟ • ومن ذاك الرجل المتباهي على أقرانه بكرسيٍّ، أو شارةٍ، أو بطاقة تعريفٍ، أو سبحةٍ، أو قلمٍ مشلولٍ، أو عود سواك! • من تلك المرأة ترفع كُمّ عباءتها؛ ليشرق الذهب في معصمها فتغيظ به أخرى، وتلك تلفُّ حقيبة يدها؛ لتُظهِر شارة (ماركتها) ؛ فتُذكِّر الناس بأنّ الناس مقامات؟ • ومن ذاك المسؤول تزدحم صفحاته بصور سياحته، ويستكثر على الناس الأنفاس والحدائق والأعياد؟ • ومن ذاك العامل يحتفلُ بزيادة راتبه، ويوزّع الحلوى والنشوى طربًا، وبجانبه آخر مفجوع بالخصم؟ • ومن ذاك المجتمع تتحلّق فيه التُّخمة حول الأنعام المكتّفة، يشويها أناسٌ بلا معدةٍ ولا شعورٍ ولا أحلام؟ • ومن أولئك المجاهدون أضاعوا البوصلة يستحلُّون بيوتًا آمنةً، ويسفكون دماءً بريئة لشركاء لهم في الأرض والدِّين؟ • من أحرق لذاك الشيخ بستانه وذاكرته؟ ومن شرّد ذاكَ الطفلَ وأختَه وأمَّه؟ ومن استغلّ حاجتهم؟ ومن أعرضَ عنهم؟ • ومن تسبّب بتلك الخيام المشرّدة على أرصفة الصحاري، والحشود اللائذة بالأسوار الملغومة تتسوَّل أيَّ حياة؟ • ومن ذاك الشعب يمجّد طاغيةً أباد شعوبًا؟ وذاك يبرّر مجازر وفق هواه! • ومن... أطرق الشيخ، وقد فاضت عبراته... غادرني بصمتٍ منكوبٍ، يُقلّب كفّيه على ما رأى! تلك المشاهد وسواها ممّا لا يسع المجال لخطّها، ويخشى اللسان من ذكرها بدت شاخصةً للشيخ في سائر بقاع أُمَّتنا كمسرح رقصٍ يمتهن كسر الخواطر. وفي اليوم التالي، وبعد التحليل المعمّق للمَشاهد بخبرتنا، وإدراك حجم الجِناية بفراستنا؛ تعرّفنا إلى الجُناة عن طريق الإذاعة والقناة، فاجتمعنا (أهل الحي) على مضضٍ نستذكر حديث نبيّن ا الأعظم صلّى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ" ، وبتنا نقول لبعضنا: "أين تلك الضمائر الأعجمية الميتة من هذا الهدي النبويّ الإنسانيّ الرحيم؟" ، فرفعنا أكفّنا ندعو عليهم، ونحتسب ألم جراحات الحاضر والمستقبل طمعًا بالأجر! تفرّقنا بسرعةٍ بعد توزيع التُّهم وإصدار الأحكام منتشين ببراءة أنفسنا من دم الإنسانية، نتمتم بعبارات اللَّعن، وكلٌّ يمعن النظرَ حوله، يفتّش بنَهمٍ عن جرحٍ على مقاسه ليرقص عليه!
ابن بطوطة يفتري الكذب على ابن تيمية مما افتراه الخراصون على شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رضى الله عنه أنه كان يومًا يعظ الناس على منبر جامع دمشق، فكان من جملة كلامه أنه قال: ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر )، ومن العجب المقنع بالأعاجيب أن هذه الفرية المفتراة وجدت من يصدقها ويذيعها، ويدب بها صِلًا غدارًا جبانًا ينفث بها سمومه. فليس في كتب الإمام ابن تيمية، ولا في فتاويه التي خلفها شية من ذلك البهتان، ولا آثاره تنم عن هذه الفرية في ظنونها الآثمة، فابن تيمية المؤمن الصادق الموحد من أعلم الناس بربه، وما ينبغي لجلاله، إن ابن تيمية كان نداء الإيمان القوى الذي دوى، فأيقظ المسلمين من سبات الغفلة الجاهلة، كان نورًا شعاعًا يمزق عن العقول اسداف التقليد. إن ابن تيمية وجد القلوب يتنازع هواها جيَفٌ فهِم فيها الضالون الربوبيةَ من دون الله، فحاول جمعها على محبة الله الحي القيوم، وجد المسلمين قد لوثت عقولهم الفلسفة الحيرى، ومزق اعتقادهم علم الكلام المضطرب، وأضلت قلوبهم الصوفية الزنديقة، وشتت دينهم الفقهاء المتنابذون، فأعلن في جرأة الحق وصولة الإيمان القوى، غير هياب ولا وجل، أن كلمة الله هي العليا، وأن الدين نَبْعٌ من كتاب الله، وإشراق من سنة رسول الله، أعلن أن الدين ليس فلسفة ولا كلامًا ولا صوفية، ولا ( فقهنة )، بل إن الدين هدي يستهل إشراقًا من الذكر الحكيم، ومن سنة النبي الكريم، فأني لابن تيمية الخاضع الضارع الخشوع لله أن يشبه نزول ربه بنزوله هو من على منبره؟!. آه لو تجردت العقول من الهوى، ولو رفع عنها حجب التقليد العمياء الصماء، لرأت الحق أبلج البرهان، ولشهدت الهدى علوي البيان!!. بدهتني هذه الفرية من زمن فطالعت من كتب شيخ الإسلام ما ثبت يقيني أن الشيخ برئ من هذه الفرية؛ ولكنى سألت نفسي: أيقنا بكذب الفرية، ولكن أين؟ ومن هو المفترى؟! ومن ذا الذي تسرب بها في ثنايا التاريخ أفعوانًا يدب على ختل وغدر؟ وما زلت تصرفني الصوارف، ثم يعود بي الفكر كلما ناقشني مجادل مقلد، ومضى يُرْجف بهذه الفرية، ويبدهني بهُجره: حسبكم ضلالًا يا أنصار السنة قولكم وقول ابن تيمية: إن الله ينزل من فوق عرشه كنزولكم من على منابركم. ومن ثم أحيله على كتب شيخ الإسلام فينفر مذعورًا غبي الخوف قائلًا: أأقرأ في كتب ابن تيمية ليهدم عقيدتي؟! كلا!! إنها سم زعاف!!. نعم يا رجل: سم زعاف لطاغوتك، وصاعقة تدمر على رءوسها أصنامك!! ومازلتُ حتى أعثرني الله على المفتري الكذوب، وبدهى أن أشنع الكذب ما كانت الماديات المحسة تكذبه، وما كانت حقائق التاريخ الجلية ترميه بالبهتان. ها هو كتاب ( مهذب رحلة ابن بطوطة ) في يدي، وهأنذا أطالع من جزئه الأول ما يأتي: ( وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة دمشق الشام ) [1] ، ثم أطالع بعدها فأجد ابن بطوطة يقول: ( وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئًا [2] ، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ويعظهم على المنبر ) ثم يقول: ( حضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر ) [3] . هذا هو بيت القصيد كما يعبرون، فابن بطوطة الحقود على الإمام يريد رميه بما ابتدعه المبتدعة: بالتجسيم، يريد رميه بأنه يشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، وأن هناك حركة متجسدة محسة يتحركها الإله، وبأن هنالك مسافات تطوى وتجشمه جهدًا كالإنسان. سبحان ربنا وتعالى. تلك هي فرية الحقد وبهتان الحسد، ويقيني أنها المصدر الأول لكل حاقد مبغض لابن تيمية ولمقدريه، ولكن الله الذي يؤيد بالنصر أولياءه، ويقيم بالحق أود الحق، ويشيع نور العدل في حوالك الجور، أقول: إن الله العدل الخبير جعل لنا من الحقائق المادية التي يكاد يلمسها الحس حجة على ابن بطوطة تدمغه بالإفك، وتجعل من بهتانه فرية ( مُسَيْلِميَّةٌ ) النسب، ( بهائية ) الدعوى. يقول ابن بطوطة: إنه وصل دمشق في يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، فهو يحدد تحديدًا دقيقًا باليوم، وبالشهر وبالسنة، وقت دخوله دمشق، ولا ريب في أنه سمع ابن تيمية - كما يفتري - بعد ذلك. لأنه سمعه يوم الجمعة، فلا ريب يكون مراده أنه سمعه في اليوم العاشر من رمضان، إن لم يكن بعد ذلك، وإنه بهذا التحديد الدقيق قد أقام الحجة على كذبه الكذوب، وإليك الدليل: هاهو كتاب " العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية " [4] بيدي، وهأنذا أقرأ فيه (فلما كان في سنة ست وعشرين وسبعمائة وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين. وظفروا للشيخ بجواب سؤال في ذلك كان قد كتبه من سنين كثيرة يتضمن حكاية قولين في المسألة وحجة كل قول منهما، وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدم أقدم من الجواب المذكور بكثير ذكره في كتاب (ا قتضاء الصراط المستقيم ) [5] وغيره وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به). ويقول في صفحة تسع وعشرين وثلاثمائة: (ولما كان يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان من السنة المذكورة (726) حضر إلى الشيخ من جهة نائب السلطنة بدمشق مِشَدُّ الأوقاف، وابن خطير، أحد الحجاب، وأخبراه: أن مرسوم السلطان ورد بأن يكون في القلعة، وأحضرا معهما مركوبًا. فأظهر الشيخ السرور بذلك. وقال: أنا كنت منتظرًا ذلك. وهذا فيه خير عظيم. وركبوا جميعًا من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجرى إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها. وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك وبمنعه من الفتيا. وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن الحكم، وذلك بمرسوم النائب له. في فعل ما يقتضيه الشرع في أمرهم، وأوذي جماعة من أصحابه، واختفى آخرون، وعزر جماعة، ونودى عليهم، ثم أطلقوا، سوى الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية فإنه حبس بالقلعة وسكنت القضية). ويقول ابن عبد الهادي بعد ذلك: (ثم إن الشيخ رحمه الله بقي مقيمًا بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا. ثم توفى إلى رحمة الله ورضوانه، ومابرح في هذه المدة مكبًا على العبادة، والتلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين) [6] . ويقول ابن عبد الهادي - راويًا عن الشيخ علم الدين - ما يأتي: (وفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة توفى الشيخ الإمام العلامة الفقيه، الحافظ، الزاهد، القدوة، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس، أحمد، بن شيخنا الإمام المفتي، شهاب الدين، أبي المحاسن عبد الحليم، بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السلام، بن عبد الله، بن أبي القاسم، بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق، التي كان محبوسًا فيها ) [7] . من هذه النصوص نفهم أن ابن تيمية سجن في شعبان سنة 726، ونفهم أنه دخل سجنه بالقلعة في دمشق، ومكث فيه عامين لم يخرج فيهما مطلقًا حتى توفي رضى الله عنه في ذي القعدة سنة 728، والذي يقص لنا كل هذا تلميذه الصدوق ابن عبد الهادي، ومن أرخوا لابن تيمية حدوا هذه التواريخ المذكورة من قبل. بعد تقرير هذا نعود لمناقشة ابن بطوطة على ضوء مشرق من هذه الحقائق التاريخية الثابتة اليقين. يقول ابن بطوطة: إنه دخل دمشق في تسعة خلت من رمضان عام 726ه وأنه سمع يوم الجمعة بنفسه وأذنه ابن تيمية يخطب على المنبر في الجامع بدمشق مشبهًا نزول الله - جل الله وسبحانه - بنزوله من على منبره. والثابت من تاريخ ابن تيمية أنه سجن في 6 شعبان سنة 726هـ بالقلعة وأنه ظل في سجنه حتى مات، لم يخرج منه بعد عامين وثلاثة أشهر وأيام سنة 728 ه. يثبت من هذا أن ابن بطوطة دخل دمشق بعد أن سجن ابن تيمية بشهر يزيد قليلًا فابن تيمية في 6 شعبان بعد أن مضى على سجنه أربعة وثلاثون يومًا، ياللكذب الفاضح المفضوح؟؟‍‍!! ابن تيمية سجين القلعة حين دخل ابن بطوطة دمشق!‍‍‍‍‍‍. فمتى سمع ابن بطوطة خطبة ابن تيمية؟‍! إن ابن تيمية ما كان يغادر محبسه مطلقًا، لعل شيطان ابن بطوطة تمثل بابن تيمية فخطب على منبر الجامع فسمعه ابن بطوطة!‍‍!! من هذا التحقيق الجلي لوقائع التاريخ يعلن التاريخ في قوة وجلاء، بل يصرخ في وجه ابن بطوطة راميًا إياه بالافتراء والكذب على ابن تيمية. فمن المستحيل المادي المحس الواقعي أن يكون ابن بطوطة قد سمع ابن تيمية. بقى أن نعرف سر حقد ابن بطوطة على شيخ الإسلام ابن تيمية وافترائه عليه هذه الفرية، لو قرأت رحلة ابن بطوطة لفهمت السر.. إن ابن بطوطة كان ممن يعبدون من يسميهم أولياء، ويستشفع بقبورهم، ويثبت لأوليائه على الغيب، والقدرة على التصرف، وكتابه مشحون بأمثال هذه الوثنيات وما من بلد نزل فيه إلا ويثبت لقبر فيها كرامة وتصريفًا، وأنه استشفع بالقبر فأجيبت شفاعته ولو نقلنا عنه بعض ما ذكر لطال بنا المقام فحسبنا الإشارة إلى ذلك، وابن تيمية كان في عصره المعول القوى الذي دك هياكل الأصنام والطواغيت على سدنتها وعبادها، لقد أشعلها لظى تمور على البدع والأساطير والخرافات، وابن بطوطة من السدنة العباد، فلم لا يشنع على ابن تيمية بهذا؟؟! هانحن كذبنا من الناحية التاريخية تلك الفرية، بقي أن نكذبها من الناحية الموضوعية ولو ذهبنا نتقصى كل ما كتب ابن تيمية عن النزول وسواه من صفات الله وأسمائه في كتبه لطال بنا الوقت، ولطال المقال كثيرًا، والسطر اليوم في المجلة بقدر وحساب فنكتفي بذكر ما يأتي وأمرنا إلى الله. يقول شيخ الإسلام: (مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوق، فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه، منزه عن صفات النقص مطلقًا، ومنزه عن أن يماثله غيره في صفات كماله، فهذان المعنيان جمعا التنزيه، وقد دل عليهما قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ فالاسم ( الصَّمَدُ ) يتضمن صفات الكمال، والاسم ( الأحد ) يتمضن نفى المثل.. فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله) أفمن يقول هذا يشبه نزول الله إلى سماء الدنيا بنزوله هو؟ أم هو الحقد الحقود من ابن بطوطة وعبد الطاغوت على شيخ الإسلام؟!. ولعلنا لا نجد بعد ذلك من قوم يبغضون كل حق على لسان عربي، ويقدسون كل باطل على لسان أعجمي. [1] ص 68 من مهذب رحلة ابن بطوطة ج1ص939. [2] تأمل حقد ابن بطوطة على شيخ الإسلام حيث يفترى عليه هذه التهمة، ولست أدرى كيف يكون ابن تيمية مخبولا ثم يعظمه أهل دمشق هذا التعظيم؟ إلا أن يكونوا جميعًا مخبولين، وكيف يخلف من في عقله شيء هذا التراث الأدبي الديني الفكري الرائع الذي يسمو به العقل البشرى إلى الآفاق العلوية الذري في العقيدة الناصعة والعمل الصالح؟ [3] ص77 ج1 المرجع السابق. [4] تأليف الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي تلميذ ابن تيمية بتحقيق فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد حامد الفقي ط 1938 ص327 . [5] طبعت مطبعة السنة المحمدية هذا الكتاب القيم الجليل بتحقيق العالم المحقق الشيخ محمد حامد الفقي، طبعة متقنة فخمة بفهارس جيدة هذا العام. والكتاب كله علم وحق وحكمة. فانظر فيه الحجة والدليل على ما يذكر ابن عبد الهادي في أكثر من صفحة. [6] ص361 من كتاب العقود الدرية. [7] ص369 من كتاب العقود الدرية.
المرحلة الثالثة من حياة إبراهيم عليه السلام بناء الكعبة ومرحلة المكث في الحجاز الكعبة بيت الله، جعلها قبلة للمسلمين يتجهون إليها في صلواتهم، وهي بمكة المكرمة، وقد جعَل الله لبيته حرمًا آمنًا حدَّه بحدود مِن حوله، وجعل لهذا الحرم محظورات لا ينبغي فعلها، منها: منع الظلم والإلحاد والصيد وقطع الشجر وقتل دوابها وهوامها، ما عدا الحية والعقرب والفأر والحدأة والكلب العقور، وسميت هذه بالفواسق الخمسة، وقد أمر الله نبيه إبراهيم أن يبني الكعبة على أساسها السابق؛ حيث يعتقد عددٌ من المؤرخين أن الكعبة كانت قبل إبراهيم، وقد تهدمت بفعل الطوفان، وانطمس مكانها، وبقيت هكذا حتى عهد إبراهيم، بينما يعتقد مؤرخون آخرون أن إبراهيم عليه السلام بناها ابتداءً، وقد مرَّ أن آدم حج البيت، وفي غيابه قتل قابيلُ هابيل، كما ورد عن ابن عباس قال: حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتى وادي عسفان قال: ((يا أبا بكر، أي وادٍ هذا؟))، قال: هذا وادي عسفان، قال: ((لقد مر بهذا الوادي نوحٌ وهود وإبراهيم على بكرات - نياق - لهم حُمْر، خطمهم الليف، وأُزُرهم العباء، وأرديتهم النِّمار، يحجون البيت العتيق))، والحديث ضعفه ابن كثير، وقال: « فيه غرابة »، وقال في تاريخه "البداية والنهاية": «وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة، وأن الملائكة قالوا: قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأن السفينة طافت به أربعين يومًا، أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل، وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب؛ فلا يحتج بها، فأما إن ردها الحق تعالى فهي مردودة بلا شك، وقد قال الله: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 96، 97]، وعلى هذا سيقتصر حديث بناء البيت ابتداءً مِن عهد إبراهيم عليه السلام؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، فكانت البداية أنْ هدَى الله إبراهيم إلى مكان البيت المحدد بأركانه الأربع. وقد ورد في الأخبار عن السدي: لما أمَر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريَا أين مكانه، بعث الله ريحًا يقال لها: الخجوج، لها جَناحان ورأس، في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، وأتبعاها بالمعاول يحفِران حتى وضعا الأساس، هذا على رواية أن إبراهيم بنى الكعبة على أساس البيت القديم، وأما أن يكون إبراهيم قد بناها ابتداءً، فيحتمل أن هذه الريح قد خططت له المكان والأساس الذي أراده الله تمامًا دون زيادة ولا نقصان، وورد أن الله بعث له جبريل عليه السلام فدله على مكان البيت وما ينبغي عليه عمله، وبعد أن عرَف مكان البيت باشر بحفر الأساس؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، فقد شارَك إسماعيل أباه في البناء ونقل الحجارة، وكان عملًا شاقًّا، لكن يهُون كل شيء أمام تلبية إرادة الرحمن، لقد شرَّف الله إبراهيم وابنه إسماعيل في تكليفهما بهذا البناء، وخصمها به دون غيرهما، حتى إن إبراهيم لم يستعِنْ بأحد غير ابنه إسماعيل؛ لأن الله تبارك وتعالى أراد ألا يبني بيته إلا طاهر اليد والقلب، ولولا ذلك لاستأجر إبراهيم من يقوم له بهذا العمل، لكن شرف البناء وقدسيته يحتاج لطُهر الباني ونظافته القلبية من الشرك، ونظافته البدنية من الأقذار، وهذا متوفر في نبي الله إبراهيم وفي ابنه إسماعيل، ولقد عرَفَتْ قريش هذه القدسية للكعبة، فلما أرادوا تجديد بنيانها قالوا: لا تُدخلوا فيها إلا مالًا من كسب طيب، ومن هذه المنطلق أيضًا كان العهد لهما بصَوْن هذا البيت من كل أشكال الشرك: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]. وباشَر إبراهيم البناء، وإسماعيل يُحضر الحجارة المناسبة يناولها والده، حتى إذا كان عند الركن من الكعبة قال إبراهيم: يا بني، ابغِني حجرًا كما آمرك، فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه به، فوجد أباه قد وضع الحجر الأسود في مكانه، فقال إسماعيل: يا أبتِ، مَن جاءك بهذا الحجر؟ قال: من هو أنشط منك، جاءني به جبريل من السماء، وورَد أن الحجر كان كأنه الياقوتة البيضاء، نزل مع آدم من الجنة، فسوَّدَتْه خطايا بني آدم، فهو اليوم أسود، ولما ارتفع البنيان وضع إبراهيم حجرًا يقوم عليه ليرتفع كي يكمل البناء، فسمي هذا الحجر مقام إبراهيم، وعليه آثار قدمي إبراهيم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، ومعنى مثابة: حب العودة إليه؛ فزائرُه مهما مكث عنده ثم عاد إلى دياره فإنه يشتاقُ للعودة إليه، لكن لو نظرنا إلى مقام إبراهيم فإنه لم يكن مرتفعًا، فهل كان يكفي أن يصعَدَ عليه إبراهيم فيبلغ أعلى الكعبة؟ هناك احتمالات ثلاثٌ: ♦ إما أن إبراهيم كان طويلَ القامة، وبهذا لا يحتاج ليصل إلى أعلى البناء إلا إلى هذا القدر مِن الارتفاع، وأخرج البخاري عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني الليلة آتيان، فأتينا على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا، وإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم))، فهذا الحديث يشهَد بطول إبراهيم عليه السلام. ♦ أو أن بناء الكعبة لم يكن مرتفعًا كما هو اليوم. ♦ أو أن هذا الحجر كان بمثابة معجزة سخرها الله تعالى لإبراهيم بحيث ترتفع وتنخفض وتتحرك حول الكعبة حسب حاجة إبراهيم عليه السلام، وهذا ما أرجِّحه؛ لأن ذكر الحجر أو المقام في القُرْآن كان بمعرض المدح والأهمية والاحتفاظ بهذا الأثر ووضعه في المكان الذي يليق به، ولو لم يكن له هذه الميزة فلِم يذكر بهذا الاهتمام؟ خصوصًا وأن آثار قدمي إبراهيم فيه واضحة، ولو وقف الإنسان حافيًا سنين طويلة لما أثر هذا في الصخر، فإن من تمام الإعجاز أن يخلد ذكر إبراهيم بأثر قدميه في الصخر: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، والصلاة المقصودة ركعتا الطَّواف، بحيث لو انتهى الطائف من طوافه توجه خلف المقام وجعله بينه وبين الكعبة وصلى لله ركعتين، وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا اتخذنا من مقام إبراهيم مصلًّى، فوافق هذا الرأي ما أراده الله؛ فنزلت هذه الآية. وبعد إتمام بناء الكعبة من قِبَل إبراهيم وإسماعيل وهما يعملان بجِدٍّ ونشاط بإقبال منقطع النظير، وحب لعملهما واغتباط في نيل هذا الشرف العظيم، وكان دليل فرحتهما التهليل والتسبيح والدعاء بتقبُّل هذا العمل: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 127، 128]، ولما أنجزا هذا العمل الرائع وانفتحت لهما أبواب الرحمة لرضا الله تعالى بما فعلا، أرادا اهتبال هذه الفرصة مِن الفيض الرباني، فتابعا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]؛ إشفاقًا منهما على أهل هذه الديار التي شرفها الله ببيته الكريم ليكونوا من المؤمنين، فيجتمع لهم شرف الإيمان وشرف المكان، ثم أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام أن يظهر للناس هذا البيت ويدعوهم إليه؛ ليعرفوا بيت الله وكعبته: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27، 28]، ويروى أن إبراهيم قال: وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى: أذِّنْ وعلَيَّ البلاغ، فصعِد إبراهيم جبل أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس، إن ربكم بنى بيتًا وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم، وكان في كل نداء يتجه إلى جهة من الجهات الأربع، فأجيب مِن كل مَن كُتب له الحج إلى يوم القيامة: (لبيك اللهم لبيك)، وحج إبراهيم عليه السلام بالناس الحجة الأولى؛ لكي يعلمهم كيفية الحج، وقد أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].
معنى العقل ومكانته في الإسلام للعقل في الإسلام مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة، فقد أثنى الله سبحانه تعالى على أرباب العقول وأولي الألباب، ومدحهم وخصهم بخطابه يقول تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [1] ، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [2] ، ويقول عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [3] ، وغيرها من الآيات، كما حث الإسلام على النظر والتفكر والاعتبار في آيات كثيرة من القرآن يقول تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [4] ، وقال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [5] ، وقال سبحانه: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [6] وغيرها من الآيات التي تحث على النظر والتفكر والاتعاظ والاعتبار، وفي المقابل ذم الله سبحانه المعرضين عن ذلك فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [7] ، كما ذم المقلدين والمتبعين لآبائهم وكبرائهم دون حجة ودليل، لأن في هذا تعطيل لنعمة العقل التي أنعم الله بها على الإنسان وميّزه بها عن غيره، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [8] . ومن هنا جعل الإسلام العقل مناط التكليف « فإذا فقد - أي العقل - ارتفع التكليف وعَّد فاقده كالبهيمة المهملة » [9] ، فالعقل « أكبر المعاني قدرًا، وأعظم الحواس نفعًا، فإن به يتميز الإنسان من البهيمة، ويعرف به حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضره، ويدخل به في التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات » [10] ، ولهذا جاء في الحديث: « رفع القلم عن ثلاثة، النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل » [11] . وسنتناول في هذا المبحث إن شاء الله نظرة ابن كثير للعقل وأنه لا يتعارض مع النقل، وإنكاره على من عارض النصوص بالآراء والأهواء والعقول الفاسدة، وأثر ذلك على انحراف الفرق التي ضلت بسبب ذلك عن المنهج الصحيح الذي سار عليه الرسول ز وصحابته والسلف الصالح من بعدهم، وقبل ذلك أود أن أعَّرف العقل في اللغة والاصطلاح. تعريف العقل لغة: العقل مصدر عقل يعقل عقلًا فهو معقول، وأصل معنى العقل المنع والامساك والحبس، وسمي العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك [12] ، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء [13] . ويطلق الحِجْر على العقل لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق معه الأفعال والأقوال، يقول ابن كثير في تفسير: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [14] ، «أي لذي عقل ولب وحجا، وإنما سمي العقل حِجْرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق من الأفعال والأقوال، ومنه حِجْر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي ومنه حجر اليمامة، وحجر الحاكم على فلان إذا منعه من التصرف » [15] . تعريف العقل اصطلاحا: يقع استعمال العقل في الاصطلاح على أربعة معان: 1) الغريزة التي في الإنسان، فبها يعلم ويعقل، وهي مناط التكليف وبها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان. 2) العلوم الضرورية كالعلم بالممكنات والواجبات والممتنعات. 3) العلوم النظرية وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال والناس فيها يتفاوتون ويتفاضلون في ذلك. 4) الأعمال التي تكون بموجب العلم، فالعقل كما قال الأصمعي [16] : « الإمساك عن القبيح وقصر النفس وحبسها على الحسن [17] . لفظ العقل في القرآن: لم يرد لفظ العقل في القرآن من حيث حقيقتة بصيغته الإسمية وإنما الآيات التي ذكر فيها العقل جاءت بصيغة الفعل – يعقل وتعقل ويعقلون وتعقلون – كما أنها جاءت في القرآن ألفاظ مرادفه للعقل وبصيغة المصدر في عدة مواضع مثل الحجر كما في قوله تعالى: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [18] ، والألباب كما في قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [19] ، والأحلام كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [20] ، والنُهى كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [21] ، والفؤاد كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [22] ، وجاءت بالجمع كما في قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [23] . [1] سورة البقرة آية 197. [2] سورة البقرة 269. [3] سورة العنكبوت آية 35. [4] سورة آل عمران آية 190-191. [5] سورة يونس آية 101. [6] سورة الذاريات آية 21. [7] سورة يوسف آية 105. [8] سورة الزخرف آية 23-24. [9] الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي 3/ 27، طبعت دار المعرفة بيروت، ط2 1395هـ . [10] المغني لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي 12 / 152، طبعت دار عالم الكتب بالرياض، ط3 1417هـ. [11] أخرجه أبو داوود كتاب الحدود باب في المجنون يسرق ويصيب حدًا رقم (4403)، والترمذي بلفظ « رفع القلم عن ثلاثه عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل » كتاب الحدود، باب ما جاء فيما لا يجب عليه الحد رقم ( 1423). [12] انظر لسان العرب لابن منظور مادة عقل 11 / 854، الفيروز آبادي القاموس المحيط فصل العين باب اللام. [13] الجرجاني التعريفات ص 197، تحقيق وتعليق عبد الرحمن عميره، عالم الكتب، ط1 1407هـ. [14] سورة الفجر آية 5. [15] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 601. [16] هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي، راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، نسبته إلى جده أصمع ومولده ووفاته في البصرة كان كثير التطواف بالبوادي يقتبس علومها ويتلقى أخبارها، أحباره كثيره جدًا وكان الرشيد يسميه شيطان الشعر، له تصانيف الأبل وخلق الإنسان والخيل وغيرها، توفي سنة 216هـ ( الأعلام 4/ 132). [17] انظر مجموع الفتاوى 9/ 286، 87، 305، 16/ 336، درر تعارض العقل والنقل 1/ 89، والفقيه والمتفقه للبغدادي 2/ 20، والأذكياء لابن الجوزي ص23-24، وانظر مفرح القوسي، المنهج السلفي، ص 230-231 طبعة دار الفضيلة، ط1، 1425هـ. [18] سورة الفجر آية 5. [19] سورة ص آية 29. [20] سورة الطور آية 32، وأحلامهم: عقولهم، التفسير 4/ 287. [21] سورة طه آية 54، والنهى: العقول المستقيمة، التفسير 4/ 197. [22] سورة الإسراء آية 36، والأفئدة العقول، التفسير 2/ 715. [23] سورة النحل آية 78.
كتاب بر الوالدين للإمام البخاري طبعة دار الحديث الكتانية صدر حديثًا كتاب "بر الوالدين" ، للإمام "أبي عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري" (ت 256هـ)، برواية أبي بكر محمد بن أحمد بن دِلويه النيسابوري (ت319هـ)، دراسة وتخريج: " بسام بن عبد الكريم الحمزاوي "، نشر: " دار الحديث الكتانية ". وهذا الكتاب ينشر لأول مرة عن نسخته الفريدة بخزانة الحافظ السيد " عبد الحي الكتاني " رحمه الله، وتمتاز هذه الطبعة عن سابقاتها بمراعاتها إتمام جميع السقط في النسخ السابقة، وخلوها من أخطاء تحقيقات الطبعات السابقة. والكتاب يشتمل على أربعة وسبعين رواية مسندة، وهو كتاب أفرده الإمام البخاري بالتصنيف في الأحاديث الواردة في بر الوالدين، وهو من مقروءات الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، كما في كتابه المجمع المؤسس (2 /392)، والمعجم المفهرس (صـ84)، ويعود الفضل في العثور هذا الجزء النفيس بعد أن يئس المعتنون من الحصول عليه إلى الشيخ العلامة المحدث "محمد عبد الحي الكتاني" الذي عثر عليه بالشام واشتراه وأودعه بخزانته العامرة إلى أن يسر الله الحصول عليه سنة 1430هـ بواسطة د. "أحمد شوقي بنبين". وأول الكتاب: أخبرنا أبو يعلى حمزة بن عبدالعزيز المهلبي، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلّويه الدقّاق رحمه الله في شهور سنة 328، حدثنا محمد بن إسماعيل البُخَاري أبو عبدالله الجُعْفِي قال: 1- حدثنا أبو الوليد هشام بن عبدالملك، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، سمعت أبا عمرو الشيباني، يقول: أخبرنا صاحب هذه الدار وأَوْمَأَ بيده إلى دار عبدالله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى، قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: ثم بِرُّ الوالدين، قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهادُ في سبيل الله. قال: حدثني بِهِنّ، فلو استزدته لزَادَنِي)). وآخره: 2- حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا سعيد، عن سليمان التيمي، قال: سمعت أبا عمر النهدي، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. آخر الكتاب، والحمد لله على كل حال علّقه لنفسه محمد بن منصور بن علي الحسيني الحلبي نهار الثلاثاء 28 شوال سنة887 بعلو جامع الأزهر بالقاهرة حماها الله تعالى. اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. أتمّ سماعه على الفقير محمد عبدالحي الكتاني العلامة الفاضل محمد بن أحمد الإسماعيلي الزرهوني بقصر كتامة لما جاء يلقاني فيه من مقدمي للحج وذلك في ربيع الثاني سنة 1324هـ)). وقد قام المحقق بنسخ المخطوطة مع ترقيم الأحاديث والآثار الواردة للكتاب، وضبط النص والتعليق عليه، وتخريج الأحاديث مع التعليق على الأسانيد وتخريج الطرق، والتقدمة للكتاب بوصف النسخ المعتمدة وترجمة موجزة للإمام البخاري ونسبة الكتاب له. وعلق الكاتب بعض التعليقات المفيدة والفوائد الفقهية المستنبطة من جمع الإمام البخاري لتلك الأحاديث على وجه الخصوص في بر الوالدين، وقام بخدمة الكتاب عن طريق الفهارس العلمية. والمؤلف هو: أمير المؤمنين في الحديث الإمام البُخاري (194 - 256هـ، 810 - 870م)، واسمه: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله. الإمام الحافظ صاحب الجامع الصحيح المعروف بصحيح البخاري. ولد في بخارى ونشأ يتيمًا. قام برحلة طويلة في طلب العلم. وكان آية في الحفظ وسعة العلم والذكاء. قالوا: لم تخرج خراسان مثله. سمع الحديث ببخارى قبل أن يخرج منها كما سمع ببلخ ونيسابور والرَّي وبغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة ومصر والشام. سمع نحو ألف شيخ، أشهرهم أبو عاصم النبيل والأنصاري ومكي بن إبراهيم وعبيدا لله بن موسى وغيرهم. روى عنه خلائق لا يحصون - كما يقول الذهبي - منهم الترمذي وإبراهيم بن إسحاق الحربي وابن أبي الدنيا والنَّسفي وابن خزيمة والحسين والقاسم ابنا المحاملي وغيرهم. جمع البخاري في الجامع الصحيح نحو ستمائة ألف حديث اختار منها ما وثق برواته. وهو أول من وضع في الإسلام كتابًا على هذا النحو. وهو أوثق كتب الحديث الستَّة. وسبب تأليفه ذكره البخاري في قوله: كنت عند إسحاق بن رَاهَوَيه فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب. وذكر أنه صنّفه في ست عشرة سنة. وللبخاري مصنفات أخرى مطبوعة منها: " التاريخ "، و" الضعفاء في رجال الحديث "، و" خلق أفعال العباد "، و" الأدب المفرد ". أقام في بخارى فتعصب عليه جماعة ورموه بالتُّهم فأخرجه أمير بخارى إلى خَرتَنك - قرية من قرى سمرقند - فمات فيها.
اختصار الترغيب والترهيب للمنذري صدر حديثًا كتاب " اختصار الترغيب والترهيب للمنذري"، اختصره: أبو يوسف محمد بن طه. وقد طبع هذا الكتاب في دار ابن رجب المصرية، في مجلد واحد 520 صفحة. وكتاب «الترغيب والترهيب» كتاب عظيم النفع، جليل القدر، جمع فيه الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (581- 656هـ) رحمه الله أحاديث الترغيب والترهيب في مختلف أبواب الشريعة الغرَّاء؛ كالإخلاص، والعلم، والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والجهاد، والبيوع، والمعاملات، والأدب، والأخلاق، والزهد، والرقاق، وصفة الجنة والنار، وغيرها من الأبواب النافعة، مما لا يكاد يستغني عنه واعظ، أو مرشد، ولا خطيب أو مدرس [1] . وقد أجاد الحافظ الكبير ترتيب كتابه وتصنيفه، وأحسن جمعه وتأليفه، فهو فرد في فنه، منقطع القرين في حُسْنه، كما قاله العلامة برهان الدين الناجي في كتابه «عجالة الإملاء» [2] . وقد قال عنه مصنفه - رحمه الله -: «أمليت هذا الكتاب صغير الحجم غزير العلم، حاويًا لِمَا تفرَّق في غيره من الكتب» [3] . وقد وصفه الحافظ الذهبي – رحمه الله - بأنه كتاب نفيس [4] . وقال عبد الحي الكتاني – رحمه الله -: «هو كتاب عظيم الفائدة» [5] . وقال العلامة ابن باز – رحمه الله -: «وهو كتاب مفيد عظيم» [6] . وكانت طريقة العمل في الكتاب كالآتي: أولًا: قام الباحث بحذف الأحاديث التي أعلَّها أو ضعفها أئمة هذا الشأن، وأما الأحاديث المختلف فيها فبحسب ما ترجح إليه. ثانيًا: قام بحذف الأحاديث المكررة في الباب الواحد. ثالثًا: قام بحذف الروايات والألفاظ التي رأى أنها لا تضيف معنى جديدًا. رابعًا: أثبت الباحث في الهامش الآيات القرآنية المناسبة للأبواب - إن وُجِدت - تتميمًا للفائدة. *** [1] انظر: مقدمة العلامة الألباني $ على كتاب «صحيح الترغيب والترهيب». [2] (1/ 132). [3] في مقدمة «الترغيب والترهيب» (1/ 36). [4] نقله عنه ابن العماد في «شذرات الذهب» (7/ 480). [5] «فهرس الفهارس» (2/ 563). [6] «مجموع فتاوى ابن باز» (24/ 84).
العبث بالذَّات جلدًا في الظروف الصَّعبة التي يمرُّ بها المجتمع المسلم، بأكثريَّته وأقليَّته وجالياته، يكثر ما يسمُّونه اليوم بجلد الذَّات، على مختلف الصُّعُد الإعلامية والدعويَّة، وما تكاد تسمع، أو تقرأ موضوعًا حول الوَضع القائم إلَّا وتشعر بهذه اللهجة، تكاد تكون مسيطرةً على الطَّرح، فإمَّا أنْ نطرح اللَّومَ كلَّه على ذواتنا، وإمَّا أنْ نبحث عن "شمَّاعة"، نعلِّق عليها كلَّ الظروف الصعبة التي نمرُّ بها. لدينا من النُّصوص الحكِيمة الكفِيلة بتشخيص الوَضع من أساسه، يمكن استحضارها لكلِّ حالة على حِدة، نستشهد بها، لعلَّها تعيننا على التفهُّم الموضوعي لما نمرُّ به في زمنٍ من الأزمان، ولدينا من شواهد التاريخ ما يجعلنا نَستحضرها لنتبيَّن منها ما الذي مرَّت به الأمَّة في حقبة من الحقبات، وما أسباب مرورها بتلك المِحن، وهل حقًّا يعيد التاريخ نفسه؟ لدينا مقاييس شرعيَّة قابلة للتمثُّل في كلِّ زمان ومكان، هي معادلات شرعيَّة مؤدَّاها أنَّ القرب من الله تعالى مَدعاة للتَّمكين، وأنَّ البعد عن الله تعالى مدعاة للهوان، وكم ردَّدها العاملون بها! ويبدو أنَّنا نَحتاج إلى المزيد من التذكير بها، ولدينا مقوِّمات للعزَّة والمَنعة، هي واقعية ومنطقيَّة، وعلمية في الوقت ذاته، يقوم بها علماء فقِهوا في الدِّين، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي التربية، وفي النفس الإنسانية؛ يضمُّهم مجمع علمي بأي اسم يُسمَّى به المجمع، ويقرِّر هذا المجمع الموقفَ ممَّا تمرُّ به الأمَّة من الأحداث والوقائع. مهما قيل عن العرب: إنهم عاطفيون، فإنَّ هذه الأمور المصيرية، التي تغيِّر مجرى التاريخ لا تؤخذ أبدًا بالعاطفة، بالمفهوم الذي يتردَّد دائمًا عن العاطفة، وإنَّما تؤخذ بالمعايير الشرعيَّة، التي لا يدركها إلا الرَّاسخون في العلم، وإنْ لم يكن الأمر كذلك فما الحاجة إلى العلماء؟ لدينا في علاقاتنا مع الآخر تقليد أو تقاليد دبلوماسيَّة، وأعراف دولية، من خلالها تُحلُّ الأمور، وتعالج الأزمات، بعيدًا عن الفورات، وردود الفعل الآنية، وكثيرًا ما صبرت البلاد العربية والإسلامية، وتحمَّلَت، ومالت إلى جانب الحكمة في معالجة الأزمات، فنالت المزيدَ من التقدير والثقل الإقليمي والعالمي، وفي ضوء هذا كلِّه فإنَّ جلد الذات يوهن من العزائم، ويضعف الهممَ، ويولِّد الانهزامية، وينزع الثقة من النفس، وقد يصل بنا إلى محذورات شرعيَّة، فيما له علاقة بعقيدة المؤمن، وبقوَّة إيمانه بالله تعالى، ثم بعزِّ هذا الدين ونصرته، ممَّن ينصرونه بنصر الله تعالى. أحسب أننا نمرُّ بأزمة صَعبة، وتزداد صعوبةً مع الوقت، وليست - بحال - خانقة، حتى لا ندخل في مفهوم جلد الذَّات، ولكنها على أيِّ حال صعبة، وسنتجاوزها - بإذن الله تعالى - إلى ما فيه خير للأمَّة عامَّة، وللبلاد خاصة، بعون من الله تعالى، ثم بالنظرة المؤسَّسيَّة للأوضاع ومعالجتها، والتعامُل معها من هذا المنطلق الذي ركَّزَت عليه هذه الوقفة؛ والنظرة المؤسَّسية هذه جمعَت بين الثَّبات والنَّماء، بين الأصالة والمعاصرة، في النظر إلى الأحداث المحدقة [1] . على هذا، فإننا مطالبون - منبريًّا وإعلاميًّا - بالكفِّ عن جلد الذات، والنزوع - بالتالي - إلى النظرة المتعقِّلة التي تعطي هذه الأمَّة قدرها وقيمتها التي هي عليها، وأنَّها أمَّةٌ قامت عزيزةً، وسارت عزيزةً، وستظلُّ على ذلك عزيزةً قويةً مكينةً متمكِّنةً، تنشر الخيرَ، وتحفِّز على الاستقرار، وتبعث في الناس الطمأنينةَ والأمان، على اعتبار أنها أمَّة هي خير أمَّة أُخرجَت للناس؛ لأنَّها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]. وصل جلد الذات ببعض مِن قومنا إلى حدِّ اليأس أو القنوط، إلى درجة ينبري فيها أحد رموز المسلمين في مؤتمر عام، ويشنِّع بالمسلمين جميعًا، ويصفهم بالرِّعاع، وكأنَّه ليس بينهم علماء وحكماء وطلَبة علم، وقيادات تَغار على الدين، وتعمل على تثبيته في النفوس، في الوقت الذي يحاول فيه الآخر - من المستشرقين والمنصِّرين والمنافقين - نزعَ سلطان الدين من النفوس؛ كما يقول كلٌّ من المستشرق المنصِّر هاملتون جب والمنصِّر المستشرق السموءل "صاموئيل" زويمر [2] . لا يتوقَّع المسلمون أن يتحوَّلوا جميعًا إلى رعاع ودهماء، وإنْ توقَّع المسلمون أنْ يكون بينهم رعاع ودهماء، مثلما بين غيرهم من الخليقة، الذين وجدوا في الزمن الماضي، ويوجدون في الزمن الحاضر، وسيوجدون في الزمن الآتي. مع هذا، فلم يتحوَّل المسلمون إلى رعاع ودهماء فقط؛ لأن الأمَّة الإسلامية تمرُّ اليوم بمنعطف حرج، أدَّى بالآخر إلى غزو بعض بلاد المسلمين؛ لتحريرها من تخلُّفها، وليست كل بلاد المسلمين ترفل بسلاسل التخلُّف، بل إنَّ بلادًا من بلاد المسلمين تحكم بما أنزل الله، وتدعو إلى الحكم بما أنزل الله (المملكة العربية السعودية؛ نموذجًا)، وتسعى إلى تقديم ما أنزل الله للآخر، على منهج من الوسطيَّة والاعتدال والتسامُح [3] . هذه الثلاثيَّة التي برزَت الحاجة إليها بقوَّة في هذا الزمان مع الذَّات، ومع الآخر [4] . إنَّ وسم المسلمين بالرعاع إنَّما هو حلقة في سلسلة جلد الذات، وهو من العبَث الذي ما فتئنا نَسمع عنه ونقرأ، مِن قِبَل عدد من أولئك الذين دبَّ اليأس في أذهانهم وعقولهم، ولعلهم يتذكَّرون موقفَ النبي يعقوب عليه السلام عند فقد ولديه: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، و﴿ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 55، 56]. الحذر هنا، مطلوب، وبقوَّة؛ لئلَّا يظنَّ ظانٌّ أنَّ إيراد هاتين الآيتين فيه تصريح، أو تلميح، إلى رَمي الآخرين بالكفر، أو الضَّلال، في الوقت الذي تدعو فيه هذه الوقفة إلى الوسطيَّة والاعتدال والتسامُح [5] ، والحقُّ يقال: إنَّنا نتوخَّى الحذرَ الشديد في إسقاط مدلول الآيات أو الأحاديث على غير معناها المراد بها. لست إخال عالِـمًا من علماء الأمَّة، أطلق عليها لفظ الرَّعاع، يصل به الأمر إلى هذه الدرجة، وإنْ كان هناك مَن يريد أنْ يوصلها إليه، ولكنها أحكام شرعية دقيقة لا تَخضع للهوى، وتحتاج إلى الرَّاسخين في العلم، ليقولوا فيها الحكمَ الشرعي. المؤمَّل ألَّا يُسهم المنتمون لهذه الأمَّة في تحقيق أغراض الآخر، بصورة غير مباشرة، حتمًا، وبحسن نيَّة، لا شكَّ فيها، وبدافع من الغيرة على الأمَّة وقدراتها، وبرغبة أكيدة في التغيير إلى الأفضل، إلا أنَّ الوسيلة قد توافق ما يسعى إليه الآخر، من خلال هذا الطَّرح في جلد الذات، وتثبيط الناس، مما قد يدخل ضمنًا في حديث المصطفى محمَّد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل: هلَك النَّاسُ فهو أهلَكُهم - أو هو أهلَكَهم -)) [6] . السخرية - هنا - أنَّ من وصم المسلمين بالرَّعاع قد أعلى من شأن الآخر بحضوره، حتى لقد قيل: إنَّ المسلمين في هذا الموقف قد خرجوا بحال لا تسُر الصديقَ، وخرج الآخر بحال عالية. مهما يكن من أمر، فبقدر ما يكونون قريبين من شَرع الله ينتفي عنهم، ومنهم، بأنهم رعاع، وسيظل بين المسلمين مسلمون على علم، وعلى وعي، وعلى دراية، فيهم غيرة على الإسلام والمسلمين، ولديهم رؤية واضِحة عن الوضع الذي يعيشونه، ويدركون حكمةَ الله تعالى في هذا الوضع. لتلافي هذا العبَث في القول، لعلَّ من حقِّ الفرد العادي أنْ يهمس في أذن أشخاص غير عاديين، بعلمهم وفضلهم وسبقهم وحكمتهم، بأنْ يتجنَّبوا الخوضَ في أمور الأمَّة، في حال مرورهم بظرف نفسي مؤلِـم، ليجنِّبوا أنفسَهم - وغيرَهم من المتلقِّين – الوقوعَ في زلَّة اللسان، التي قد تهوي بالأمَّة في غياهب الظلمة، وهي أمَّة النور، ومن كتابها وسُنَّة نبيِّها محمَّد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يُستقى النور. [1] انظر: أكرم ضياء العُمَري: التراث والمعاصرة - الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1405هـ - 141 ص - سلسلة كتاب الأمَّة؛ 10. [2] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة: التنصير.. مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته - مرجع سابق - 248 ص. [3] انظر: محمَّد بن عبدالقادر هنادي: تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحديث ونموذج المملكة العربية السعودية - الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، 1419هـ/ 1998م - 134 ص - سلسلة شهادات؛ 2. [4] انظر: رفيق حبيب: حضارة الوسط: نحو أصولية جديدة - القاهرة: دار الشروق، 1422هـ/ 2001م - 259ص - سلسلة في فقه الحضارة العربية الإسلامية. [5] انظر: شوقي أبو خليل: التسامح في الإسلام: المبدأ والتطبيق - ط 2 - دمشق: دار الفكر، 1998م - 143 ص - سلسلة هذا هو الإسلام؛ 3، وانظر أيضًا: عبدالمحسن شعبان: فقه التسامُح - بيروت: دار النهار، 2005 م. [6] رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن قول: هلك الناس، حديث رقم: (4755).
التمايزية الربانية للبشر الإنسان مغاير تمامًا عما يحيطه من المخلوقات، فالملائكة هي عالم بلا طمع، بينما الحيوان عالم طمعٍ بلا تكليف، أما الإنسان فهو مجبول بطمع وتكليف معًا، جعلا له صفاتٍ تمايزية محضة عما يحيطه من المخلوقات، إذًا فما هذه الصفات التمايزية؟ 1- تمايزية التشريف : شرَّف الله الإنسان أن أسجدَ له الملائكة، عندما أراد أن ينفخ فيه الروح بقول الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [ص: 71 - 73]. 2- تمايزية الاختيار والاستخلاف في الأرض: اختار الله الإنسان أن يكون خليفته في الأرض، وجعل له عقلًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]. 3- تمايزية التكليف: إن الله خلق الإنسان مزيجًا من الطمع والعقل، ومن هنا جاء مناط التكليف، ولو لم يوجد التكليف، لَما وُجد التكريم والعقل والاختيار؛ قال الله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]. وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]. وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. وقال الله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]. 4- تمايزية التأقلم: سخر اللهُ الكونَ للإنسان؛ ليكون وسيلته في الاستخلاف والتكليف، بما فيه من حيوان وماء وهواء وأشجار، وليل ونهار، وحَر وقَر، وليؤدي مسيرته فيه من التعمير، جعل له الإرادة ليتأقلم في الحياة؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 73]. وقال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]. 5- تمايزية الفطرة: بموجب التكليف والاختيار يستلزم الإنسان وُجدان روحي، وهذا الوجدان يترتب عليه اتخاذه مقدسات بفطرته السليمة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]. لكن بحكمة أرادها الله جعل على الفطرة السليمة تحديات منها الشيطان، والنفس الأمَّارة بالسوء، وقرين السوء، والشهوة؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]. وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]. وقال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29]. وقال الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]. 6- تمايزية الانتقال: فمسيرة الانتقال تبدأ من بين الصلب والترائب، فرحِم الأم، ثم الحياة، ثم البرزخ، ثم البعث، ثم الجزاء، وجميع هذه المراحل ثابتة بنص القرآن. قال الله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 1 - 3]. وقال الله تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾ [عبس: 17 - 22]. وقال الله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5 - 7]. 7- تمايزية الاختلاف والتبايُن: مع أن الله خلق الإنسان من نفس واحدة خلق منها زوجَها، جعلهم شعوبًا وقبائلَ ليتعارفوا، ومع أَنْ الله جعل معيار الكرامة والتفاضل فيما بينهم بالتقوى، فإنهم ما زالوا يتصارعون؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. 8- تمايزية الابتلاء: خلق الله الإنسان بعقل وإدراك، معه فطرة الإيثار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وليمحِّص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين، وبهذا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، وهذا مدلول قول الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]. ولقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]. 9- تمايزية التفاوت: خلق الله الإنسان متفاوتين في جميع مناحي الحياة، في الفقر والغِنى، والصحة والمرض، والولد والعُقم، والعلم والجهل، والمنصب والجاه، وفي الخِلقة والخُلق، لتتكامل ازدواجية الحياة فيما بينهم، وللابتلاء؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]. وقال الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]. 10- تمايزية التقصير والإنابة: الإنسان يُسول له هواه، ويغرُّه الشيطان، ويوهم له القرين السوء، السعادة والفلاح بتخطي حدود، والله برأفته أعطاه الفرصة ليتدارك قبل فوات الأوان، وقبل الندم والخسران، لعله يصحو من غفلته قبل الغرغرة، وطلوع الشمس من مغربها؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53، 54]. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة)؛ رواه الترمذي، وصحَّحه ابن القيم، وحسَّنه الألباني. وهذا الحديث من أرجى الأحاديث في السنة، ففيه بيان سَعة عفو الله تعالى ومغفرته لذنوب عباده، وهو يدل على عِظم شأن التوحيد، والأجر الذي أعدَّه الله للموحدين، كما أن فيه الحث والترغيب على الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى؛ (من موقع: islamweb.net ). 11- تمايزية القبول: فالله سبحانه وتعالى كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كلَّ شيء، وسبقت رحمتُه غضبه، وهو أفرح بتوبة عبده، تفضلًا منه وإحسانًا ورأفةً سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]. وقال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]. وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]. وقال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39]. وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]. وقال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 71]. 12- تمايزية الجزاء والخلود: بعد رحلة من المد والجزر في زوايا أربعة؛ هي: الشيطان، والشهوة، والنفس الأمارة بالسوء، والقرين السوء تأتي النتيجة التي من أجلها اختير الإنسان، ويكون الجزاء من جنس العمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، من عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها، فهذا يؤتى كتابه بيمينه، فيكون جزاؤه دخول الجنة خالدًا فيها، حسُنت مستقرًّا ومقامًا، وهذا يُؤتى كتابه بشماله، فيكون جزاؤه دخول النار خالدًا فيها، إنها ساءت مستقرًّا ومقامًا؛ قال الله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81، 82]. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيُذْبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) ثم قرأ: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39]. ختامًا: إن الله خلق الإنسان مزيجًا من الطمع والعقل، ولهذا جعل له الخيار، وجعل مناط التكليف العقل، وبه يُثبت تمايزه عن غيره، ومن هنا يكون العلم، فإن امتثل الرسالة الربانية وطبَّقها على واقعه، حصل العمل أيضًا، وإلا يكون مصيره الهمجية، فضاعت عنه صفته التمايزية التي سمحت له العقلَ، وعلى هذا أفلس عن العلم، وبإفلاسه عن العلم فَقَدَ العمل، فيُصبح حينئذ كالأنعام، بل أضل.
احذروا.. أبا عامر الفاسق!! كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من المشركين _ من أهل المدينة _ يسمى (أبو عامر الفاسق) لم يفرح بظهور الإسلام كما فرح به أهل الإيمان.. بل شَرِقَ بريقه لقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. فضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلـم يرغب أن يسمع الأذان مرتفع في سماء المدينة بعد الشرك وعبادة الأصنام، وساءه أن يرى نساء المسلمين محتشمات بلباسهن بعد التكشف والعري، وحَزن حزنًا شديدًا أن يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنته، وأن ينتصر للمظلوم، ويقيم الحدود الربانية، ويرفع شأن المرأة بعد الظلم والاستبداد. فلم يكن منه إلا أن اختار النصارى أصحابًا له يلجأ إليهم في بلادهم، يقربونه ويشبعون رغباته الشهوانية، بل لم يكتف بذلك حتى بدأ يخطط وهو في بلاد النصارى، ويعمل لهدم الإسلام، ويتصل عن طريق الخطابات بحثالة من أصحابه المنافقين في المدينة. حتى قرروا أن يبنوا " مسجد الضِرار "!! تُرى ما هو هذا المسجد؟ مسجدٌ ظاهره الإسلام، لكنَّ بناؤه كان مكرًا وخديعة، ربما انطوى أمرُه على بعض أهل الإسلام والإيمان، كان الهدف منه تفريق المسلمين، وأن يكون مقرًّا لهؤلاء المنافقين، يستقبلون من خلاله رسائل صاحبهم أبي عامر الفاسق. وحتى يزيدوا في إخفاء أمرِ هذا المسجد على أهل الإيمان طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، إلا أنه أرجأ ذلك حتى يعود من غزوةٍ كان يتجهز للخروج إليها. فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة حتى نزل عليه الوحيُ من الله جل وعلا يوضح جليّة أمر هذا المسجد، ويأمر بهدمه وينهي النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، ويفَضْح - تبارك وتعالى - المنافقين في تخطيطهم، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا.. ﴾ الآية [التوبة: 107، 108]. أيها القارئ المبارك.. ما أشبه الليلة بالبارحة!! وما أشبه أبا عامر الفاسق اليوم بأبي عامر الفاسق الماضي!! إن العلاقة الحميمة بين أعداء الدين - اليهود والنصارى - والمنافقين ليست وليدة العصر، بل كانت هذه المودة ضاربة بجذورها منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كثيرًا ما يذكر الله تبارك وتعالى في كتابه هذه العلاقة والمودة التي بينهم، وكيف يحن بعضهم إلى بعض، قال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾ [المائدة: 52]، وقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.. ﴾ [الحشر: 11]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ... ﴾ [المجادلة: 14]. ولذلك ما إن يقوم الغرب الكافر بالتخطيط ضد الإسلام والمسلمين إلا ويجدوا من أخدانهم من يشجع تلك الخطط، ويسعى في تمريرهـا من خلال هتـافاتهم ومطالباتهم، ومقالاتهم الصحفية الخطيرة!! التي ربما انطوى فحواها على عوام الناس، حتى أصبحت بعض الشخصيات التأثيرية كأبي عامر الفاسق! وحتى أصبحت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية كـ "مسجد الضرار"! فهـي صحف ومواقع في ظاهرها إسلامية، وتسعى في قالب النصح للرقي بهذه البـلاد إلى مصاف الدول الغربيـة والانفتاح على العـالم، وإصبـاغ مطالباتهم بالصبغة الشرعية والإطار الإسلامي، وعلى وفق الشريعة ومثل هذه العبارات، ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107]. وإن أعظم شيء يغيظ كفر الخارج ونفاق الداخل، أمران: الأول: "تحكيم الشريعة"؛ لأن بتحكيم الشريعة الإسلامية إقامة للحدود وانتشار للإسلام والفضيلة وإخراج الناس من عبادة الهوى والشيطان إلى عبادة الواحد الديان، ولذلك تأمل أيها المبارك إلى الصحف البريطانية كيف تشن الحملات الصحفية على هذه البلاد لأنها أقامت حدًّا من حدود الله، وكيف تثور ثائرة ( حقوق الإنسان ) عندما تقطع يد سارق، قال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]. والأمر الثاني: مما يغيظهم (شأن المرأة)؛ لأن المرأة دُرةٌ مصونة متى ما ظهرت للناظرين وامتدت إليها أيادي العابثين وزاحمت الرجال في الميادين التي هي من اختصاص الرجال كلما ضاعت هويتها، وهو ما يريده المنافقون عشاق النصارى، ولذلك كثيرًا ما يطالبون بتحريرها من ظلم الشريعة الإسلامية كما يزعمون، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الجاثية: 19]. قال سماحة الوالد العلامة ابن باز - رحمه الله - عن هؤلاء الدعاة الذين تعلموا في بلاد الغرب وجاءوا لينشروا الثقافات الغربية في البلاد الإسلامية، قال: « وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلمهم المناصب الكبيرة في الدولة أخطر من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة... إلخ » [ج 1 /386 الفتاوى]. وفي بحث قدمه عبد الرحمن بن علي إسماعيل _ وفقه الله _ ( المرأة في ظل الجاهلية ) نقطف من بستانه ما يكون سببًا لثبات أهل الإيمان، وإلا فالحق أبلج، قال: « يفتخر العبيد من أبناء المسلمين بما يسمى بتحرير المرأة سواء في الشرق أم في الغرب، وتعجبهم صورة المرأة هناك، حيث تزاحم الرجال كتفًا بكتف، وتمارس المهن التي كانت إلى وقت غير بعيد وقفًا على الرجال، وتعجبهم صورتها وهي تقود السيارة أو الطائرة، وتقوم بما من شأنه أن يُلفت إليها الأنظار، ويُوجه إليها عبارات التشجيع، ولكن ينسون أو يتناسون أن الأنظار سرعان ما تصدف عنها، أو التشجيع سرعان ما يحجب عنها ليُصرف إلى أخرى أصغر منها سنًا، وأكثر منها جاذبية....». ثم قال مستشهدًا بكلام النصارى أنفسهم: « وهذه عالمة أحياء أمريكية، تقول: إن النساء الأمريكيات أصبحن يُصبن بالشيخوخة في سن مبكرة نتيجة صراعهن لتحقيق المساواة مع الرجال. وتقول: إن هذا الاتجاه نحو الشيخوخة في أوساط النساء يبدو جليًّا في كافة أجزاء الولايات المتحدة، إلا أنه يلاحظ بصفة خاصة في المدن، حيث تدخل النساء العاملات في منافسة مباشرة مع الرجال في عالم الأعمال ». « أما رئيسة الجمعية النسائية الفرنسية فتقول: إن المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على حقوقه ».. إلى آخر بحثه النفيس. والحق ما شهدت به الأعداء. أيها الحبيب.. في ظل تطور الأوضاع، وقيام الأعداء على قدم وساق _ من أجل تغريب بلاد التوحيد _ احرص أن تكون سدًا منيعًا أمام هذا التيار الواهي من خلال كلمة توجيهية، أو نشر مقطع يكشف مخططاتهم، أو خطبة منبرية، أو تربية أسرية، أو نشر فتوى أو تواصل مع العلماء... إلخ، كل ذلك محاولةً في التشبه بالصادقين الغيورين الدافعين عن حياض هذا الدين، وليكن حالك وأنت تبذل الغالي والنفيس من أجل هذا الدين كما قال شعيب عليه السلام: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرحلة الثانية في قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام كتب اللهُ على أولي العزم من الرسل الهجرة من بلدانهم التي وقفت بصلف وعناد وعنف أمام انتشار الدعوة، وتحولهم من مرحلة المقاومة السلبية للدعوة إلى مرحلة العدوان والإيذاء البدني أو التصفية الجسدية، وفي هذه المرحلة لا يجد النبيُّ بدًّا من مغادرة البلد الصاد والمتآمر إلى بلد آخر، فما لم يوفق فيه في مكان قد يجد في مهاجره بيئة مناسبة وشعبًا ودودًا متلهفًا لسماع الحق والعمل به. فمنطقة العراق منطقة فرخ بها الشيطان وعشش في القلوب، فجعل أهلها أهلَ تيهٍ وضلال وعقم فكري، فلا يقوى على جمع صفهم على الحق نبي مصلح يهَبُهم حرية التفكير والاختيار، وإنما يحتاجون إلى جبار قاهر أمثال النمرود، لا يكل سيفه من بتر الرؤوس، وسجانوه من تكبيل الدعاة، والدهاة وملء السجون والزنازين بالناس قهرًا وظلمًا وبهذا يساسون. ألم يعجزوا نوحًا عنادًا وسخرية وإيذاء بدنيًّا فكان الغرق مصيرهم؟! وتجدد الخلق نسلًا مؤمنًا طاهرًا من نسل نوح، لكن الأرض التي اغتسلت وأسقطت عنها جنابتها من رجسهم عادت تزخر بالضلال، وجاء دور إبراهيم الذي حاول جاهدًا إصلاحهم ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66، 67]، فكان اعتداؤهم عليه وإلقاؤه في النار، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68] - هو المفاصلة معهم والاستعداد لمغادرة دارهم، وتركهم يتخبطون مع شيطانهم الذي أغواهم، ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، فخرَج إبراهيم عليه السلام وليس معه سوى لوط وامرأة إبراهيم سارة وهي ابنة عمه، فانطلق هذا الركب الصغير في عدده، القوي في إيمانه، قاصدين بلاد الشام، فكانت محطتهم في حران، ومكث فيها فترة، ثم غادرها إلى حلب، ومنها اتجه جنوبًا حتى دخل أرض فلسطين وأقام في الخليل، واتجه لوط بزوجته إلى منطقة سدوم وأقام فيها. وحدث في إحدى السنوات قحط شديد فاتجه بزوجته سارة إلى مصر، ودخل أرض مصر ليمتار الطعام، وكانت سارة على درجة من الحسن والجمال الأخاذ، فوصفت من جواسيس فرعون مصر بهذا الحسن لفرعون، فقال: إليَّ بها، وكان من عادته إذا أخذ النساء المتزوجات أن يقتل أزواجهن؛ لذلك قال إبراهيم لسارة: إذا سألك من أكون بالنسبة لك، فقولي: أخي؛ فإني أخوك في الإسلام، وليس على وجه الأرض هذه غيري وغيرك مسلمًا - يعني بذلك أرض مصر - وهكذا أحضرت إلى الملك، ولما أرادها الملك لجأت إلى الله القوي تستغيثه من هذا الظالم الكافر، ونادت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلِّط علي هذا الكافر)، فضرب الله عليه النوم فغط غطيطًا، ثم صحا، وفي رواية: أنه كلما همَّ بها واقترب منها ليلمِسها كانت تتخشب يده، فهي تستجير بالله من هذا العدو الظالم، وإبراهيم نبي الله يدعو ويتضرع إلى ربه أن يحفظها، والله لا يرد مسألة مظلوم، فكيف وهذا المظلوم نبي وزوجة نبي طاهرة؟! ثم حاول فرعون مرات ثلاثًا وكل مرة يعِدُ سارة إذا عادت يده سليمة ألا يقربها، ثم أيقن أنها ممنوعة منه، فنادى حاجبه أنك قد أتيتني بشيطان خذوها عني، واعترافًا منه بفضلها وعفافها وهبها جارية وترك لها الخيار أن تقيم في مصر معززة مكرمة. وهكذا فرج الله كربة إبراهيم في مصر، وابتاع من الطعام ما شاء، وعاد إلى الأرض المباركة بقافلة من الطعام، وأقام في الأرض المباركة هانئًا يبلغ دعوة الله، ولكن الحياة لا تصفو؛ لأنها دار امتحان، ولو سارت كما يحب المرء لمَا كان فيها امتحان، لكن لا بد من هذا الأمر بين حين وآخر، وقد يكون امتحان الأنبياء أشدَّ وأشق من امتحان عامة الناس، فكان عدم إنجاب سارة - رغم مرور سنين على زواجها من إبراهيم - أمرًا يبعث على الكدر والتأوه، فسنَّة الحياة الإنجاب، وعدمه استثناء من القاعدة العامة، وهو أليم، فلا يكاد يسلِّم فيه المرء الأمر لحكمة رب العالمين في هذا الشأن حتى يعاوده الحنين إلى الولد، خصوصًا عندما يرى الكثرة الغالبة من البشر تنجب، ويُطرِب الزوجين أن ينادَوا من أطفالهما بأبي وأمي، كان هذا حال إبراهيم وسارة، ولما أهدى الفرعون سارة جارية (هاجر)، أهدتها سارة تكرمًا منها إلى إبراهيم ليتسرى بها، فحملت منه، وولدت إسماعيل، وكان فرح إبراهيم لا يوصف، وشاركته سارة الفرح إلى حين، وتعلق قلب إبراهيم بالولد وأمه؛ مما أضرم نار الغيرة في قلب سارة، ثم دب الخلاف بين الضرائر في بيت النبوة، وتفاقم حتى شغل إبراهيم عن المهمة السامية في الدعوة والتبليغ. مرحلة الدعوة في الحجاز: فكان الأمر الإلهي بإبعاد هاجر وابنها إلى وادٍ غير ذي زرع في حرم الله الآمن بمكة المكرمة: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، ولما أوصل إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها إسماعيل إلى ذلك المكان القفر - وإسماعيل لما يزل رضيعًا - ترك عندهم ما حمله من طعام وشراب، فلما ولى ظهره يريد العودة إلى فلسطين، أمسكت هاجر بطرف ثوبه متعلقة به، وقالت: يا إبراهيم، أين تذهب عنا؟ إلى مَن تتركنا في هذه الأرض وليس عندنا من الزاد الكثير؟! فلم يجبها إبراهيم، وألحت بالسؤال وهي لا تزال ممسكة بطرف ثوبه، فلما رأته لا يجيب، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذًا لا يضيعنا، وخلت ثيابه وقفل راجعًا، ولله في خلقه شؤون. فهذا الخلاف بين سارة وهاجر ألم تكن فيه مصلحة لم تدركها كلتاهما في حينها؟ ولقد شاء الله أن يعمر بيته، وأن يجلي مكانه للناس، ويرشدهم إلى سكنى حرمه، فكانت هاجر وابنها إسماعيل بذرةَ الخير فيه. مكثَتْ هاجر وطفلها الوليد في هذه الأرض القَفْر تحرسهما عناية الله، ولكن لا بد للإنسان في هذه الحياة من المكابدة، بهذا أخبرنا الله: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، ليس هناك استثناء من هذه القاعدة لأحد، ونفِد الماء والزاد، ها هو ذا الصغير يطلب الماء باكيًا، وقد بلغ به العطش مبلغه، حر شديد ولا ماء لهذه الكبد الحرى يطفئ جذوتها ويُخمد لهيبها، والصغير يعلو بكاؤه، لقد جف الماء في العروق، وهو غض الإهاب لا يحتمل العطش، ونهضت هاجر تسعى وَلْهَى، تدفعها غريزة الأمومة للبحث عن ماء يروي ظمأ الصغير، وهي تدرك أنها في أرض جافة لا ماء فيها ولا حياة؛ فالأيام المعدودة التي قضتها في هذا الخلاء لم ترَ فيه أي مخلوق، لا طيرًا يطير ولا وحشًا يسير، وراحت تصعد جبل الصفا تطل من فوقه فلم تر أحدًا، وهبطت إلى الوادي وسعت فيه تريد الجانب الآخر المقابل، فصعِدت المروة ونظرت من فوقه شرقًا وغربًا وشَمالًا وجنوبًا، ولكن دون جدوى، وبكاء الصغير يشتد ويزداد، وقلب الأم يتقطع عند سماع البكاء والصرخات، فعلت ذلك سبع مرات وقد أعياها البحث وأجهدها الرمل، وفجأة هدأ بكاء الطفل وسكن المكان، فعادت تستوضح الأمر، فكانت المفاجأة، لقد انبجس الماء غزيرًا عند قدمي الطفل، وكانت المفاجأة، فأسرعت هاجر تجمع الماء بكفيها خشية تفرُّقه، وحوطت عين الماء بالتراب لتحجزه، فسقت الطفل وجمعت ما أمكن جمعه في السقاء الذي كان خاويًا قبل قليل، ولكنَّ جودَ المولى عظيم، لم يكن الماء فورة مؤقتة، ولكنه سريٌّ دائم الجريان؛ ففي الحديث الشريف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجِلَتْ لكانت زمزمُ عينًا معينًا))، وفي رواية: ((لو تركتها لكانت عينًا سائحة تجري إلى يوم القيامة))، ألم تقل لإبراهيم: فإذًا لن يضيعنا الله، لقد أتاها الغوث من الله؛ فحفِظها وابنها من الضياع، وهكذا انقلب المكان إلى أُنس بعد وحشة، والله القائل: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]، أتَتِ الطيور ونبت الشجر، فأقبلت إحدى القبائل من جرهم وسكنت المكان محتفظين بحق هاجر في الماء. ومنذ ذلك اليوم وزمزم حتى الآن تروي العطاش، وقد باركها الله تعالى، ففي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن جابر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ماء زمزم لما شرب له))، والحديث ليس بالقوي، ونشأ إسماعيل بينهم، وتعلم لغتهم حتى بزَّهم فصاحة، وكان إبراهيم يزور زوجه وولده ليطمئن عليهما، وقيل: كانت وسيلته البراق ينتقل عليه بين فلسطين ومكة. وجاء الابتلاء الثاني لهذه العائلة الصغيرة الصابرة، برؤيا رآها إبراهيم أن الله أمره بذبح ولده، يقال: إن سبب هذا الابتلاء أن إبراهيم عليه السلام عندما رزق - على كبر - بولده إسماعيل أعطاه جل اهتمامه له ولأمه، ولربما أخذ من وقت الدعوة نصيبًا ما كان ينبغي أن يكون، فكان الابتلاء الشديد لإبراهيم بولده، بإبعاده عنه وأمه إلى أرض قفر، بينهما مئات الأميال، وما إن استقر إسماعيل وشعر بنوع من الأمان في الحجاز بجوار جُرهم حتى جاء الامتحان الثاني، وهو الأشد، فيؤمر الوالدُ بذبح ولده فِلذة كبده بيده، ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، ويخبر الوالدُ ابنَه بهذا الأمر الإلهي ليرى ما يقول، والولد في سنٍّ تقرُبُ من الرشد، وهو يدرك تمامًا أن والده نبي لا ينطق عن الهوى، والأمر أمر الله، أليس يؤمن أن الله قد خلقه، وهو بالتالي يؤمن أن مرده إلى الله، وهذا الأمر أمره، والخالق يتصرف بعبيده كما شاء وبما شاء لا مرد لحكمه ولا اعتراض على قضائه؟! ولقد ورث الإيمان منذ صغره، ورضعه من ثديي أمه الطائعة لله الراضية، التي سبقته بالقول: (فإذًا لن يضيعنا)، وإسماعيل وإن كان لم يلتقِ بوالده إلا نزرًا يسيرًا، وهو بذلك لم يتلقَّ عنه هذا الفيض الإيماني بعد، ولكن للأم دور في تحبيب الولد بوالده، وغرس القيم والمُثُل فيه، وقص أخبار الوالد التي تنير الطريق أمام الولد، فتتكون لديه تصورات وقناعات بما عليه الوالد من الفضيلة والمهام التي اقتضت هذا البعد، ويكفيها أن تغرس فيه أنه نبي مرسل، يؤدي واجباته لله الذي خلَقه وكلَّفه بهذه المهمة الشريفة، ثم تنشئه وفق منهج والده مسارًا لا يحيد عنه، فكان هذا الجواب من الولد للوالد مطمئنًا إلى أن باكورة ذريته مطيعٌ مؤمن مستسلم لأمر الله، وقاد الوالد ولده إلى الأرض الخلاء لينفِّذَ به أمر الله، ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103]، فاستسلم الولد لما أراد الوالد، والوالد لما أمره الله، فأضجعه للذبح، جاعلًا وجهه تجاه الأرض؛ كيلا تقع العينُ بالعين فيرقَّ له ويفتُرَ عن تنفيذ الأمر الرباني، وباشَر الذبح وآله الذبح عاطلة لا تعمل وهو يجرب ويحاول، وجاءه الأمر من ربه: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 104 - 107]. إضاءات حول قصة الذبيح إسماعيل: ♦ هناك مَن قال بأن الذبيح هو إسحاق، لكن هناك من الدلائل القاطعة ما يقطع كل الحجج الواهية التي أدلى بها من قال: إنه إسحاق، لا أقول هذا انحيازًا لإسماعيل؛ لأنه جدنا، أو تعصبًا له؛ فإسحاق نبي الله نؤمن به، ولو كان هو المعنيَّ لسلَّمنا بهذا طاعة لله؛ ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، وإن إسحاق نفسه لا يرضى أن ينسب له هذا زورًا وبهتانًا، وقد روج اليهود لهذه الفرية بأدلة واهية انطلت على مَن لا علم له بخبثهم، وقد حصل تزوير مماثل عندما ادعوا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد منحهم الإقامة في القدس عندما تسلَّم مفاتيحها، وكتبوا في الوثيقة أسماء الشهود على ذلك، ومنهم سعد بن معاذ، ولما طالبوا الخليفة العباسي بتنفيذها شك في الأمر وأرسل إلى أحد المحدِّثين فكشف زيفها؛ لأن سعد بن معاذ قد استشهد في غزوة الخندق؛ أي: قبل ولاية عمر. ♦ بعد قصة الذبح مباشرة في سورة الصافات والانتهاء منها وفوز إبراهيم بالامتحان وبرضا الله تعالى، بشَّره الله تعالى بإسحاق، فهل يُعقَل أن تذكر القصة وتفاصيلها وطواعية الولد لوالده وإسحاق لم يخلق بعد، بينما الذي كان مولودًا قبل إسحاق بأربعة عشر عامًا هو إسماعيل؛ ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 109 - 112]، فلما هان الولدُ عند إبراهيم أمام أمر الله، وفاز بالامتحان الصعب استحق من الله تعالى ولدًا آخر وذرية طاهرة ترِثُ النبوة حتى النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [الحديد: 26]. ♦ ورَدَتِ البِشارة بإسحاق، ومِن وراء إسحاق يعقوب: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، هذه البِشارة قبل أن يولد إسحاقُ، ولو أن الذبيح إسحاق واللهُ قد بشَّره بأن إسحاق سيزوج، ويأتيه ولد يسميه يعقوب، فبهذه البشارة كان على إبراهيم ألا يخاف من ذبح ولده؛ لأنه بهذه البشارة يعلم أنها لن تتم، فكيف يرزق إسحاقُ بيعقوب إذا تم الذبح؟ والقُرْآن محكم ليس فيه عبث، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ♦ أحداث الذبح كانت كلها في مكة موطن إسماعيل، ولم يُعهَد عن إسحاق أنه قدم الحجاز إلا حاجًّا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عام بأن الأنبياء كلهم حجوا البيت، وليس سند هذا الخبر بالقوي. ♦ ذكَر الله تبارك وتعالى صفة إسماعيل بأنه حليم، وهذه خصوصية لهذا الموقف: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 100، 101]، لكن هذه الأمنية لإبراهيم ادَّخَرها اللهُ له في إسحاق: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]. المزيد من قصة الذبيح إسماعيل والحوار مع أبيه: قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن إبراهيم حين أُمِر بذبح ابنه قال له: يا بني، خُذ الحبل والمُدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشِّعب لنحتطب لأهلك، فلما توجها إلى الشِّعب اعترضه عدو الله إبليس في صورة رجل ليصده عن تنفيذ أمر الله، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشِّعب لحاجة لي فيه، فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا، فأنت تريد ذبحه، فعرَفه إبراهيم، فقال: إليك عني أيْ عدوَّ الله؛ فوالله لأمضينَّ لأمر ربي فيه، فلما يئس عدو الله من إبراهيم اعترض إسماعيلَ - وكان يمشي وراء إبراهيم - فقال: يا غلام، أتدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحتطب لأهلنا من هذا الشِّعب، قال: والله ما يريد إلا ذبحك، قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره به ربه، فسمعًا وطاعة، فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى هاجر أم إسماعيل وهي في منزلها، فقال لها: يا أم إسماعيل، هل تدرين أين ذهب إبراهيم بإسماعيل؟ قالت: ذهب به ليحتطب لنا من هذا الشِّعب، قال: ما ذهب إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حبًّا له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: إن كان الله أمره بذلك فتسليمًا لأمر الله، فرجع عدو الله بغيظه لم يُصِبْ مِن آل إبراهيم شيئًا مما أراد، فكيف ينال منهم والله تعالى قال: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب - وهو فيما يزعمون شعب ثبير - قال له: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]، ثم قال إسماعيل: يا أبتِ، إن أردت ذبحي فاشدد وثاقي، لا يصبك مني شيء، فينقص أجري؛ فإن الموت شديد، وإني لا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدت مسه، واشحذ شفرتك حتى تجهز عليَّ فتريحني، وإذا أنت أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني، ولا تضجعني لشقي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أن تدركك رقة تحُول بينك وبين أمر الله فيَّ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فإنه عسى هذا أسلى لها عني، فافعل، فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، فربطه كما أشار إسماعيل فأوثقه، ثم شحذ شفرته وتلَّه للجبين واتقى النظر في وجهه، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها في يده، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداءً لابنك فاذبحها دونه. ♦ قيل: إن الكبشَ الذي فُدِيَ به إسماعيل هو الكبش الذي قدمه هابيل قربانًا. البشارة بإسحاق: سارةُ الزوجة المحببة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، خرجت معه مؤمنة مهاجرة، وكانت رفيقة دربه في الهجرة إلى الشام، كما رافقته في رحلته إلى مصر، وصانها الله تعالى كريمةً عفيفة من جبار مصر؛ لدِينها وعبادتها وحبها لله تعالى، فعادت من مصر ومعها هدية من جبارها لما رآه من عفتها ورباطة جأشها، وأنها محروسة من قوة كبيرة خفية حالت بينه وبينها فلم يستطع مسها بأذى، وكانت رضي الله عنها عقيمًا، وهذا امتحان لها من الله، ووضعها أمام اختبار صعب، خصوصًا وأن جاريتها هاجر التي أهدتها إلى زوجها إبراهيم قد ولدت إسماعيل، فحرك هذا شجونها ونمى فيها شهوة الولد، وكل أنثى مفطورة على أن تكون أمًّا؛ لذلك لا عيب فيمن تشتهي الولد وتطلبه من ربها صابرة محتسبة، وتتخذ الأسباب بالدعاء والالتجاء إلى الله الذي يملك أن يهَبَها الولد، وأن تسعى أيضًا إلى اتخاذ العلاج الذي شرعه الله سببًا في الإنجاب، فلا ضير في هذا ولا حرج؛ لأنها رغبة فطرية في المرأة، ولا يأس مع الحياة، وبعد أربع عشرة سنة من مولد إسماعيل، وبلوغ سارة سن اليأس، وربما نسيان الولد والالتفات إلى مزيد من العبادة لختام حياة يعمرها الإيمان، ويرضى عنها ربها الرحمن، لكن كانت المفاجأة: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 69 - 71]، وهكذا جاءت البشرى لسارة بأنها ستنجب إسحاق، وسيكون لإسحاق ولد اسمه يعقوب، هكذا أخبرت الملائكة إبراهيم عن أمر ربهم حين زاروه وهم أضياف على صورة بشر، وكانوا في طريقهم إلى لوط، لكن لِمَ الاستعجال في البشارة بيعقوب؟! وسارة يكفيها إسحاق، وهي التي انتظرت هذه الساعة سنين طويلة، وأظنها لا تتطلع لأبعدَ من ذلك، لكن هناك سر في البشارة بيعقوب، وفيها تقديم الطمأنينة لإبراهيم عليه السلام باستمرار الذرية، وأن المواليد الذين يولدون على شكل إعجاز رباني وعلى غير ما أودَعه الله مِن قوانين في هذا الكون سينتهي الإعجاز عندهم، بمعنى أنهم لا ينجبون، لكن هذه المعجزة ستتخطى القوانين أيضًا، فطمأنه الله بأن إسحاق سيُنجب، وسيرزق بالولد، وهذا إعجاز في إعجاز؛ حيث إن سارة قد ولدته وفق إعجاز خارق للعادة، فمثيلاتها لا يُنجِبْنَ وفق قانون الله في الأرض؛ لذلك عجبت من هذه البشارة ﴿ قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ [هود: 72]، فالرجل لا يقف إنجابه عند سن معينة، حتى ولو كان شيخًا، أما المرأة فنعم، إذا انقطع الحيض، وكانت من قبل تُنجب، توقف الإنجاب؛ لذلك تزوج إبراهيم بعد سارة وبعد هاجر بامرأتين (قنطورا)، وأنجبت: مدن - مدين - يقسان - سوح - زمران - أسبق - و(حجور) وأنجبت: كيسان - شورخ - أميم - لوطان - نافس. وعودًا إلى إسحاق، فقد كانت البشارة مزدوجة، بشارة بإسحاق، وأن إسحاق سينجب يعقوب، وعلى هامش القصة فإن الاستنساخ للنعجة دوللي، كما ورد عن الذين مارسوه في هذا العصر، تم - كما زعموا - من تلقيح خلايا أنثوية لم تستعمل فيها البويضة ولا الحيوان المنوي، وهو إنجاب على غير القوانين المتبعة التي أظهرها الله لنا في الأرض، وهذا الإنجاب - في اعتقادي - سينقرض، ولن يكون له نسل، كما حصل للذين مسخهم الله من بني إسرائيل قردة وخنازير؛ عبرة لِما أحدثوه من مخالفات وكفر عظيم ثم انقرَضوا. لقد نالت سارة الصابرة ما تمنَّتْ، وآبت بالرحمة والرضوان من الله تعالى: ﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 73]، وسورةُ الذاريات أظهرت وقع الخبر على سارة، وقد جللها الخجل والدهشة بأن تنجب وهي في سن متقدمة: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الذاريات: 24 - 30]، كانت سارة تقف خلف ستر وهي تساعد إبراهيم في خدمة ضيوفه، ظنًّا من إبراهيم وسارة أنهم ضيوف من البشر؛ لأنهم أتوا في هيئة البشر، ولما قدم لهم الطعام - وهو عِجْلٌ سمينٌ مشويٌّ - اعتذروا عن الأكل، وأخبروه بحقيقتهم، ثم بشروه بغلام عليم من سارة، فسمعت سارة ما قالوا، وضربت وجهها خجلًا، وقالت: عجوز عقيم؛ أي: أتلِد وهي عجوز وعقيم، فذكروها بأن هذا أمر الله، وهو الحكيم العليم، وهي تعلم قدرة الله تعالى، فلا شيء يُعجِزه، والأمر كله بيده، فعادت جنسيًّا مثل الشواب، فحاضت، ومِن ثَم حملت، فكانت ولادة إسحاق.
أسرار الماء في القرآن الكريم وجائزة نوبل في آية خروج الماء بعد الدحو محورا لجائزة نوبل قريبا يثبت العلم الحديث يثبت ذلك.. فحينما أخذت الأرض في التكوين كانت ساخنة بسبب الحرارة الناتجة من تصادم مكوناتها، وبسبب قوة ثقالتها ( جاذبيتها ) ونشاطها الإشعاعي استمرت حرارتها في الازدياد لدرجة صهرت الحديد الذي غاص في باطن الأرض مكونا لب الأرض ( Core ). وسادت ثورة البراكين، فأخرجت الأرض كميات هائلة من بخار الماء وغازات أخرى غطت الأرض فيما يشبه بغلالة أرجوانية أحاطت بما يشبه " بحرًا " من الحمم الحمراء الساخنة. وبعد ذلك أخذت الأرض تبرد رويدًا رويدًا، وتصلبت الأرض ونشأت الجبال على سطحها، وحينئذ سُمح للسحب وبخار الماء بالتكثف وسقطت الأمطار، ونشأت المحيطات، ثم أصبحت مياهها مالحة نتيجة اتحاد الكلورين الموجود في الغازات البركانية بالصوديوم الناتج من التجوية الكيميائية لمكونات قشرة الأرض (شكل1-45). أي أن مصدر الماء على الأرض أتى من باطنها، وحينما خرج لأول مرة صاعدًا في السماء من المنبعثات البركانية اصطادته الأرض أمطارًا بعد أن برد سطحها، وتكونت جبالها فأحدثت توزعات في الضغط ساهم في إنزال المطر. ولنتدبر الترتيب المعجز في آيات سورة النازعات: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 30 -31]. شكل ( 1-45 ): منبعثات الغازات البركانية خرجت من الأرض وكونت الغلاف المائى. هنا يقرر القرآن أن ماء الأرض خرج من الأرض بعد عملية سماها القرآن " الدحو ". ولو أخذنا في الاعتبار أن أحد معاني الدحو في لغة العرب هي التباعد. يقال دحا المطر الحصى عن وجه الأرض، أي باعد بين الحصى. وبناء عليه كلما حدث دحو للأرض كلما خرج الماء من جوف الأرض. وقد سبق ونحن نتحدث عن تقطيع الأرض أن أشرنا أن القرات تتباعد (شكل1-46). وينشأ عن التباعد هذ تكوين محيطات جديدة عند منصفاتها تخرج الحمم ومعها ماء قد خرج من الجوف. وما أتنبأ به أن تكون الآية السابقة محورا لإحدى جوائز نوبل في القريب العاجل. يقول علماء الأرض " الجيولوجيون " أن جوف الأرض ربما يحتوي على محيطات من الماء تختزنها بلايين البلورات، ماء ربما كان في حجم ماء ثلاث أو خمس محيطات العالم، ومن الممكن أن يساعد ذلك الماء في تنظيم مستوى الماء على سطح كوكب الأرض، هكذا يقول الجيولوجيون في جامعة كلورا دو.وترجع فكرة وجود محيطات من الماء في جوف الأرض إلى عشر سنين مضت حينما اكتشف الأستاذ الدكتور جوزيف سميث Professor Joseph Smyth )) معدنا يسمى وادسلييت ( wadsleyite ) على عمق يتراوح من 250 إلى 350 ميل تحت سطح الأرض ويحتوي على الماء. ولا يوجد الماء بذلك المعدن على هيئة سائل، ولكن يوجد في صورة صلبة في بلورات المعدن. وبينما تحتوي صخور الأرض على نسبة قليلة من الماء في حدود 1% فإن الوادسليت يحتوي علي 3.3% من الماء. ومع الأخذ في الاعتبار العدد الكبير من بلورات ذلك المعدن، فإن من المكن أن يخزن ما بين ثلاثة أضعاف إلى خمسة أضعاف الماء الموجود على سطح كوكب الأرض. يقول العالم سميث: "إن الماء يصعد إلى السطح عبر قصبة البراكين عند حيد وسط المحيط حيث تمد الأرض من منتصف قيعان البحار، أو من عند مناطق إنقاص الأرض من عند نطق الانضواء (subduction zones ) حيث تتقابل قطع الأرض المتجاورات. وقد ينصهر معدن الوادسليت مع حركة تيارات حمل الوشاح ويطلق بخار الماء في المحيطات حينما يبرد الصهير. ويوجد معدن الوادسليت عند ضغط 3 مليون باوند، ودرجة حرارة 3،000 فهرنهيت. ويوجد المعدن عند قمة نصف النطاق الانتقالي بين الوشاح العلوي والوشاح السفلي. ويدرس الآن مدى ما يحتوي عليه معدن الوادسليت من ماء من دراسة المعدن في المعمل تحت ظروف تواجده في جوف الأرض. شكل1-46: العلاقة بين دحو "تباعد" الأرض وإخراج الماء ونشأة المحيط الأطلسي
القيادة بالقيم تعتبر القيم حاكم السلوك الأول، رغم أن تكوين القيمة يحمل معنى وجداني بنسبة تزيد عن ٧٠٪؜ من المعاني المعرفية والمهارية؛ ولذلك يكثر الخلط بين مصطلح « القيم » ومصطلح « المبادئ » أحيانًا كثيرة!. وبالنظر إلى مصطلح « القيادة بالقيم » نجد أنه يختصر معنى " دمج القيم في الإدارة " بحيث يصبح القائد شخصية ذات قيم ومبادئ ثابتة يضيفها إلى تعامله مع الأشخاص الذين يعملون تحت قيادته، ويصل هذا النمط القيادي إلى ترسيخ وغرس الولاء والشعور بالذات والميول والدافعية في داخلهم، ويزيل تناقضاتهم حتى يصبح تفكيرهم وهدفهم الأول هو نجاح هذه المؤسسة ونجاح قائدها وتحقيق أهدافها ومهامها. ولعل هذا المصطلح قد برز في الفترة المتأخرة بعد نجاح الأنماط الإنسانية في القيادة وقد بدأ هذا المصطلح يتبلور بوضوح من العام ٢٠١٠ م من خلال بعض الدراسات العالمية والإدارية تحت مسمى « القيادة بالقيم »، و« القيادة الروحانية »، و« القيادة بالسمات ». وعليه فالقائد بالقيم هو في الحقيقة القائد الأخلاقي الذي يتعامل مع الإنسان أولًا قبل القوانين والآلة. وبتعامله بهذا النمط يوظف كل الإمكانات لخدمة أهدافه. ولكي يتبنى القائد هذا النمط في القيادة فيلزمه بناء استراتيجيته الكاملة من البداية إلى النهاية وفق قيم محددة ذات مرجعية ثابتة بطرق علاجية ناجحة وإلا فلن يتمكن من تطبيق هذا النمط القيادي بطريقة صحيحة. ولينجح القائد في تطبيق « القيادة بالقيم » فلابد من تحقيق عدد من المتطلبات لهذا النمط ثم عدد من المعايير الخاصة بالقائد ثم استراتيجية قيمية متكاملة، وفيما يلي تفصيل لكيفية تطبيق هذا النمط القيادي بشكل صحيح وعلمي: أولا: متطلبات القيادة بالقيم: ١- الفهم الدقيق لأهداف المؤسسة التي سوف تقاد بهذا النمط، ومن خلال هذا الفهم والتحليل يستطيع القائد تحديد القيم المناسبة لتعامله مع الأفراد في كل مرحلة من راحل العمل، ولتحديد القيم في هذه المرحلة أهمية كبيرة إذ تساعد على التفكير العميق في أهداف المؤسسة وتنظم الأعمال بدقة وسرعة عالية وكذلك تسهم في استقطاب الأفراد ذوي المهارات والجدارات المناسبة واحتياجاتهم، وتحدد أولويات العمل، وتبعث على راحة العامل والقائد، والمستفيد من هذه المؤسسة إذ سبق وأوضحنا ارتباط القيم بالوجدان والميول النفسي والروحي تجاه المؤسسة وأهدافها. بل أن بعض الكتّاب العالميين مثل ( توم بيتر ) حينما سئل عن نصيحة تعطي الامتياز لأي منظمة كانت اجابته ( عليك بتحديد القيم ). ٢- تحديد مصادر القيم التي سيتبناها لقيادة مؤسسته ولهذه القيم عدد من المصادر ومنها: ♦ القيم الدينية الثابتة اللازمة. ♦ القيم المجتمعية. ♦ سمات العاملين الذين سيقودهم. ♦ التشريعات والقوانين واللوائح التي تنظم منظمته. ♦ القيم التنظيمية المناسبة للمؤسسة. ٣- تحديد القيم التي سوف يتبناها القائد من خلال ما سبق بدقة تتناسب مع نوع وأهداف هذه المنظمة أو المؤسسة، وهذه المرحلة هي الأصعب على القائد. ولتحديد القيم المناسبة للمؤسسة ينبغي أن يعمل القائد في هذه المرحلة على تحليل عدد من العناصر التي سبق ذكرها بحيث يمزج بين هذه العناصر ليستخرج القيم اللازمة لقيادته فيجعل قيمة ( الإخلاص هي القيمة الدينية المحددة - ثم يحدد على سبيل المثال قيمة ( العمل بروح الفريق ) وقيمة ( العدل ) ( والمساواة ) هي القيم الاجتماعية المحددة ثم يحدد قيمة ( المبادرة ) وقيمة ( الإتقان ) و( النزاهة ) قيم تنظيمية مختارة، وقد تزيد هذه القيم حسب كل قائد وكل مؤسسة وسمات العاملين بها، ثم يتبنى هذا القائد قيمة شخصية ( القدوة ) كقيمة محورية تدور حولها جميع القيم لتحقيق أهداف هذه المؤسسة، وبعد الانتهاء من هذه المرحلة يصبح لدى القائد حلقة مترابطة من القيم التي تتجه بجميع العاملين نحو نجاح مؤسستهم. ثانيًا: العمل على بناء الخطة الاستراتيجية القيمية بكامل خطواتها. ينبغي لأي عمل مؤسسي يتبنى القيادة بالقيم أن يشتمل على عددٍ من الأركان، منها: 1) تحديد الرؤية والرسالة الخاصة بالمؤسسة. 2) اختيار النمط القيادي (القيادة بالقيم). 3) تحديد القيم المختارة بدقة في كل مجال. 4) توضيح الأنظمة المرنة التي تتناسب مع عمل المؤسسة، بتوازن بين الجانب القيمي والنظامي، وكلما ارتفع جانب القيم انخفضت الحاجة إلى القوانين. 5) تحديد الأهداف العامة. 6) تحديد الأهداف التفصيلية لكل هدف. 7) تحديد الهيكل التنظيمي للمؤسسة. 8) تحديد واستقطاب الكوادر البشرية لتنفيذ كل هدف. 9) تحديد متطلبات التنمية المستدامة للمهارات اللازمة لأداء عمل المؤسسة بحيث يشمل تنمية القيم المحددة للعاملين. ثالثًا: تطبيق القائد بالقيم لأسلوب هذا النمط القيادي. لتطبيق الخطة المؤسسية بهذا النمط ينبغي أن يتصف القائد بعدد من الخصائص والصفات تعتبر الداعم الأول لنجاح هذا النمط، ومن أهمها: 1) أن يكون له رؤية قيمية تضاف لما لديه من مهارات إدارية وتنظيم استراتيجي بحيث يكون البعد القيمي موجه لهذه الخطط والوسائل والأساليب، وعلى سبيل المثال: نجد أن العاملين لديه يملكون قيمة المبادرة لإنجاز عملهم دون توجيه منه.. ويعملون لتحقيق هدف محدد بروح الفريق اقتداءً به، وكذلك تظهر قيمة النزاهة والشفافية والعدالة والمساواة. 2) امتلاك « الحس الأخلاقي »؛ إذ إن القيم ترتبط بالأخلاق والوجدان أكثر من ارتباطها بالمعرفة والمهارات.. وعليه فيميل بطبعه للجانب الإنساني. 3) القدوة وهي التي تحكم على امتلاك القائد للقيم التي يسعى لتطبيقها وينبغي أن تكون القدوة هي القيمة المحورية التي تدور عليها جميع قيم المؤسسة لأن الجانب القيمي ينمو بالقدوة والتكرار والقدوة والتكرار وسيلة القرآن الكريم لتنمية القيم. 4) أن يبني مقاييس قيمية مساندة لمقاييس الأداء تبين مدى تعديل السلوك المؤسسي وحاكمية القيم عليها. 5) أن يمتلك علاقات أخلاقية متميزة مع جميع الأطراف من عاملين ومدراء ومستفيدين... الخلاصة: أن فلسفة القيادة بالقيم تقوم على الفهم الدقيق لمعنى القيمة وما تحتاج إليه من معارف ومهارات لتكون حاكمة على كل سلوك عام وخاص للمؤسسة، ثم تفعيل هذا التوجه لدى القائد وبناءه في وجدان العاملين معه وتوظيف ذلك في كل إجراءات أداء المؤسسة ومراحل وأساليب التنفيذ لتحقيق أهداف محددة. والحمد لله رب العالمين.
معركة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة) هي معركة تمثِّل منعطفًا تاريخيًّا للعزة الإسلامية المغربية العربية، لا، بل للعالم الإسلامي برُمَّتِهِ. قلَّ ذكرها - على عِظَمِ أثرها - فمن الواجب بيانها للناس، وتذكيرهم بأمجاد الأماجد. في أعقاب طرد الإسبان والبرتغاليين للأندلسيين من بلاد الأندلس - التي كانت في حَوزة المسلمين ثمانية قرون - وذلك بعد سقوط غرناطة، وتسليم أبي عبدالله الصغير مفاتيحَ قصورها للنصارى عام 897هـ أراد ملك البرتغال ( سباستيان ) أن يدوِّن – بظنِّهِ – اسمَهُ في إحدى صفحات التاريخ الأوربي؛ ولذلك قام بغزو السواحل المغربية المتاخمة لإسبانيا والبرتغال؛ يريد بذلك أن يُوسِّعَ مملكته على حساب المغرب، وكذلك ليقطع أيَّ أمل للمغاربة والمسلمين بشكل عام في استعادة الأندلس ( إسبانيا والبرتغال )، أو التفكير في ذلك. فما قصة ذلك الغزو؟ كان يحكم المغرب - آنذاك - السعديون، وعُرفت دولتهم بالدولة السعدية - إحدى الدويلات التي حكمت المغرب ولم تستمر طويلًا - وكان من ملوك السعديين في تلك الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها: الملك الغالب بالله. الملك الغالب هذا له أخٌ اسمه: عبدالملك، ويُدعَى بـ(المعتصم بالله)، وله أيضًا ابنٌ اسمه: المتوكل على الله، فلما تُوفيَ الغالب بالله سنة 982هـ، تولى الحكم ابنه المتوكل، إلا أن عمَّه عبدالملك لم يرضَ بذلك؛ إذ كان يتحفز لتولي الملك من بعد أخيه الغالب - ربما كما هو معهود في دستور تلك الدولة - وكان هذا التولي للمتوكل إيذانًا باشتعال الحروب بين المتوكل (المخلوع)، وعمه عبدالملك، والتي كانت نتائجها كلها لصالح عبدالملك ( الأحق بالملك )، الذي ضيَّق الخِناقَ على ابن أخيه المتوكل، وحَصَرَهُ في مساحة صغيرة من المغرب، حتى اضطر المتوكل بعد ذلك للاستعانة بـ( سباستيان ) ملك البرتغاليين ضد عمه، مقابل أن يعطيَهُ سواحل المغرب كلها إن أحرز الانتصار في المعركة، فوجدها ( سباستيان ) فرصة سانحة لالتهام سواحل المغرب، ومن بعدها المغرب بذاتها ثم إفريقية، أما عبدالملك، فقد استعان بالله ثم بجنوده القلائل، وبمن انضم إليه من الدولة العثمانية، وبعواطف الشعب ودعمهم المعنوي. حشد سباستيان لهذه المعركة 125.000 أو أكثر من الجنود، كان الجيش مُؤلَّفًا من آلاف البرتغاليين، ومثلهم من الإسبان والألمان والطليان، منهم الرَّجَّالة، والفرسان بخيولهم، والرماة بعتادهم، إضافة لـ36 مدفعًا، و 1000 مركب بحريٍّ لحمل الجيش إلى طنجة بالمغرب، وعلى هامش الجيش يقف المتوكل الذي عُرِف فيما بعد بـ(المسلوخ)، ومعه ما بين 300 - 600 من جنوده التابعين له. كل تلك العدة والعتاد الغربي مقابل 40.000 من المجاهدين المغاربة، مُكوَّنًا من الرماة والفرسان و34 مدفعًا، في مقدمتهم عبدالملك (المعتصم بالله)، ومعه أخ له اسمه: أحمد، كُنيته أبو العباس، ويُلقَّب بـالمنصور. عبر الجيش النصراني إلى المدينة الساحلية المغربية (أصيلا)، فخشيَ عبدالملك - وهو في مراكش - بحِنكته أن يواصل سباستيان اجتياح المدن القريبة كمدينة القصر الكبير وغيرها، ويحتلها قبل وصوله إليه؛ فأرسل له رسالة قال فيها: "إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك وجوازك العدوة، فإن ثبتَّ إلى أن نقدم عليك، فأنت نصراني حقيقي شجاع، وإلا فأنت كلب ابن كلب!"، وكان يريد بهذه الرسالة أن يجعل سباستيان يُسلِّط تفكيره على عبدالملك، ويصرف النظر عن احتلال المدن القريبة، والتي كانت آراء المقربين منه تشير له بذلك، فيُحجم عن احتلال المدن؛ وبذلك يكسب عبدالملك وقتًا يصل فيه إلى سباستيان. وفعلت هذه الرسالة أفاعيلها في سباستيان؛ فجعلته يفور من الغضب، وعمِيَتْ بصيرته؛ فلم يَعُدْ يطيع إلا رأيه؛ فخالف آراء قواد جيشه باحتلال المدن القريبة، وأمر بأن يواجه عبدالملك ليُثبتَ أنه ليس كلبًا ولا ابن كلب، وتحقق ما رتب له عبدالملك، فتمكن عبدالملك من تجميع جيوشه وتحرك من مراكش - البعيدة عن وادي المخازن - وكذلك فعل أخوه أحمد (المنصور)، وتحرك بجيوشه من فاس، والتقيا في مكان يسمى: وادي المخازن، أو القصر الكبير. ولما وصل الأخوان - وكان هذا الموقع إستراتيجيًا للجيش الإسلامي - أرسل عبدالملك (المعتصم بالله) رسالة يستدرج بها سباستيان؛ ليجعله يُقدم من السواحل المغربية على وادي المخازن، فقال في الرسالة: "إني قد سرت إليك ست عشرة مرحلة، أفلا تسير إليَّ مرحلة واحدة". استشاط سباستيان غضبًا، وأحس باحتقار عبدالملك له، وقدَّم حماقته على عقله؛ فأمر بالجيش أن يزحف تجاه وادي المخازن، وفعلًا تحرك الجيش، وكان لا بد للوصول إلى وادي المخازن من اجتياز أحد الأنهار عبر جسر يمر من فوقه. تقدمت الكتائب النصرانية، والتي كان من ضمنها كتيبة صغيرة هي كتيبة المتوكل البئيسة، وعبرت الكتائب الجسر - وهذا ما كان مخططًا له من قِبل الجيش الإسلامي - وواصلت تلك الجحافل المسير حتى وصلت وادي المخازن ( أو القصر الكبير، وكلاهما اسمان للمعركة )، وكان بانتظارهم هناك الجيش المسلم الذي كان أقل عددًا وأضعف عدة. كان عبدالملك قد قسم جيشه تقسيمًا بارعًا؛ ذلك أنه جعل المدفعية في المقدمة، ثم صفوف المشاة، ثم القيادة في القلب، وعلى المجنبتين الرماة وبقية المتطوعين، وأخفى كتيبتين للحاجة وللانقضاض في الوقت المناسب، ولمطاردة المنهزمين، وتعزيز النصر بإذن الله، كان هذا في صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ. وقف عبدالملك خطيبًا محمسًا جنده، وحاضًّا لهم على الاستبسال والصبر، ومُذكرًا بوعد الله والجنان: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15] ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45] . كان يبثُّ الحماس فيهم والوعد بالنصر بإذن الله؛ لأنها إن كانت الأخرى، فذلك إيذانٌ بالزحف الأوروبي النصراني لبلاد الإسلام على الأقل في المغرب العربي، وقل ما شئت - بعد ذلك - عن التنصير والخسائر في الأرواح والأموال والبلدان، وفي الجانب الآخر، وقف القساوسة والرهبان يُثيرون جندهم مذكرين إياهم بأن البابا أحل أوزار من يموت ووعده بالغفران. ثم انطلقت النيران إيذانًا ببدء المعركة. هنا أمر عبدالملك (المعتصم بالله) أخاه أحمد ( المنصور ) ومن معه بأن ينطلقوا تجاه الجسر ليهدموه؛ حتى يقطع على العدو خط الرجعة، وليعزل العدو أيضًا عن الإمدادات التي قد تأتيه من أسطوله الرابض على الشواطئ المغربية، ونفذ أحمد ( المنصور ) ومن معه المهمة بخفية عن أنظار النصارى، وهُدم الجسر. "ثم زحف السلطان أبو مروان ( عبدالملك) إلى العدو بجيوش المسلمين وخيل الله المُسوَّمة، وانضاف إليه من المتطوعة كل من رغِب في الأجر، وطمع في الشهادة، وأقبل الناس سِراعًا من الآفاق، وابتدروا حضور هذا المشهد الجليل، فكان ممن حضره من الأعيان الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي وغيره. ولما التقت الفئتان، وزحف الناس بعضهم إلى بعض، وحميَ الوطيس، واسودَّ الجو بِنَقْعِ الجياد، ودُخَان المدافع، وقامت الحرب على ساقٍ، توفي السلطان ( عبدالملك: المعتصم بالله ) أبو مروان رحمه الله عند الصدمة الأولى، وكان مريضًا منذ أن كان في مراكش، يُقاد به في مِحَفَّةٍ، فكان من قضاء الله السابق ولطفه السابغ أنه لم يطلع على وفاته أحدٌ إلا حاجبه مولاه: رضوان العلج، فإنه كتم موته، وصار يختلف إلى الأجناد، ويقول: "السلطان يأمر فلانًا أن يذهب إلى موضع كذا، وفلانًا أن يلزم الراية، وفلانًا يتقدم، وفلانًا يتأخر...". وعلم أيضًا بموته أخوه وخليفته أبو العباس أحمد، فكتمها. ولم يَزَلِ الحال على ذلك، والناس في المناضلة والمقاتلة، ومعانقة القواضب، والاصْطِلاء بنار الطِّعَانِ، واحتساء كؤوس الحِمام، إلى أن هبَّت على المسلمين ريحُ النصر، وأثمرت أغصانُ رِماحِهم زَهْرَ الظَّفَرِ؛ فولَّى المشركون الأدبارَ، ودارت عليهم دائرة البَوَار، وحُكِّمت السيوفُ في رقاب الكفار، ففروا ولاتَ حينَ فِرار، وقتل الطاغية سبستيان عظيم البرتغال غريقًا في الوادي، وقصد النصارى القنطرة، فلم يجدوا إلا آثارها، فخشعت نفوسهم، وتهافتوا في النهر تهافتَ الفَرَاشِ على النار؛ فكان ذلك من أكبر الأسباب في استئصالهم، وأعظم الحبائل في اقتناصهم، ولم يَنجُ منهم إلا عدد نَزْر، وشِرْذِمة قليلة...". وأُسر مَن أُسر، وغرق من غرق، وكان ضمن الغرقى غير سباستيان: الخائن المخلوع ( المتوكل )! فمات الملوك الثلاثة، ولا سَوَاء! مات عبدالملك شهيدًا - إن شاء الله - إثْرَ مرضٍ لازمه، وغرق الاثنان أعداء الإسلام: سباستيان والمتوكل. كانت هذه نتيجة الالتفاف حول قائد واحد، والوعي بخطر العدو، والأخذ بالأسباب بعد التوكل على الله، والانطراح بين يديه. وأما نتائج المعركة غير النصر الساحق: أصبح أحمد الملقب بالمنصور والملقب أيضًا بـ( الذهبي ) سلطانًا على المغرب، وارتفع نجم الدولة السعدية؛ فخطبت الدول الغربية كإسبانيا والبرتغال وفرنسا ودَّها، فأرسلوا الهدايا عبر وفودهم، ودفع النصارى لها أموالًا طائلة مقابل فِكاك الأسرى، وتفرغت الدولة للنهوض بذاتها في شتى المجالات، وبدأ العقل الأوربي في التفكير جِدِّيًّا في الغزو الفكري بدلًا من العسكري. هذه المعركة سُميت بأسماء ثلاثة: معركة وادي المخازن، أو القصر الكبير، وهاتان التسميتان نسبة للمكان، وسُميت كذلك بمعركة الملوك الثلاثة؛ لموت ثلاثة ملوك فيها. انظر: 1- "انبعاث الإسلام في الأندلس"، علي بن محمد المنتصر بالله الكتاني (المتوفى: 1422ه)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م. 2- "سلسلة جهاد شعب الجزائر"، بسام العسلي، دار النفائس. 3- الدولة الثالثة (عوامل النهوض وأسباب السقوط)، علي محمد، دار النفائس.
الحقوق لطالما تغنَّى الشعراء والفنانون والكتَّاب والفلاسفة والمصلحون بالمطالبة بتحقيق الحدِّ الأدنى من حقوق الإنسان والحيوان والبيئة، في مجتمعات قامت على هدر هذه الحقوق أو معظمها،ولطالما حلَم الفلاسفة والمفكرون ببيئات تخلو من الظلم والاستبداد والطغيان والتعدي على حقوق الآخرين، منذ فكرة المدينة الفاضلة التي أطلقها الفيلسوف اليوناني العريق أفلاطون إلى يومنا هذا. ولطالما قامت المنظمات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني المحلي والإقليمي والدولي، التي كان من مقدمة اهتماماتها ترسيخ مفهوم الحقوق، ثم السعي إلى توعية المجتمعات بأهمية أن يكون هناك حدٌّ أدنى للحقوق الإنسانية المشتركة، تلك التي لا تختلف باختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية، وتلك التي لا يجادل فيها أحد من هؤلاء المصلحين (منظمة العمل الدولية، مثلًا)،إلا أن هذه التنظيمات تكتفي بالدفاع عن هذه المفهومات وتسويقها، ولا تملك صلاحيات فرضها على المجتمعات، وإن استعانت بالقوى العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تتلبَّس بلباس الدولية، بينما هي مسخَّرة للقطب القوي من مفهوم الدولية،وتجدها فرصة مواتية لفرض هيمنتها على الدول الضعيفة، بحجة تفعيل حقوق الإنسان والحيوان والبيئة. ولطالما سعى بعض المفكِّرين إلى ترسيخ مفهوم حقوق الإنسان من خلال الإسهامات العلمية والفكرية التي تقعِّد لحقوق الإنسان وتؤصِّل لها من خلال مكنوزات ثقافية تستقى من الأديان والأنبياء والرُّسُل، ومن الحكماء والمصلحين السالفين،وإذا تعذَّر حصر هذه الإسهامات اليوم فإنه يمكن رصد عددٍ هائل من هذه الإسهامات بلغاتٍ مختلفة، بحيث لا يعدم الباحث من توافر كمٍّ هائل من هذه الإسهامات في شتى مجالات الحقوق. ولطالما رُفعت شعارات الحقوق تدغدغ العواطف، وتضخُّ في المجتمعات قدرًا من الحماس الذي لا يلبث أن يفتُرَ، عندما يتبين أنها مجرد شعارات لا تتعدى ذلك، وعندما يتبين أن من يدعو إلى تفعيل الحقوق بشتى مناحيها ربما يكونون هم على رأس من يخالفها على الواقع. ويمكن التمثيل بمفهوم الحرية عمومًا، التي تأتي على أنها المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان [1] ، وحرية المرأة خصوصًا؛ ليتبين مدى الضخ العاطفي المتطرف الذي يلاقي اليوم قدرًا من التنقيح؛ للخروج بصيغة واقعية، تجمع بين مختلف المتطلبات التي تتطلبها الحرية، دون الإخلال بالمهمات الاجتماعية والذاتية السامية التي نُظر إليها من قبلُ على أنها نوعٌ من أنواع التكبيل، بينما يتبين اليوم أنها صيغة عملية من صياغات الحرية، ومنها تحقيق استخلاف الإنسان في هذا الكوكب، وكونه مسخرًا لغيره، ومسخرًا له غيره،﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، وقال الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!". ويمكن الآن رصدُ عدد كثير من المصطلحات الاجتماعية والسياسية ذات العلاقة المباشرة بالحقوق، تنبئ عن حال مِن القلق على الإنسانية وعلى الحياة والبيئة، من حيث حصولُ الفرد على الحدِّ الأدنى من كرامته، ناهيك عن تحقيقه الرفاه الاجتماعي الذي يقصد به تحقيق الوئام والتوافُق بين أعضاء المجتمع الواحد، ثم بين أفراد الإنسانية عمومًا. ويمكن من خلال هذا الرصد للمصطلحات تبيُّن المحلِّق منها في المثالية، والقريب منها إلى الواقعية، كالحرية - مثلًا - التي سبق نقاش طرف منها في الفصل الأول باسم الليبرالية، كلُّها إطلاقات تسعى إلى تصحيح الواقع غير الصحي الذي تعيشه بعض المجتمعات، بغضِّ النظر عن كونها مجتمعات متقدمة أم مجتمعات ناميةً، فهي إذًا ومن حيث الأصل ذات دوافع مخلصة، لا يملِك أحدٌ - ابتداءً - أن يشكك في إخلاصها،والخلاف بينها - في الغالب - يتركز في حدود الحرية ومدى استخدام المصطلح. [1] تنصُّ المادة الأولى من الإعلام العالمي لحقوق الإنسان على الآتي: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلًا وضميرًا، وعليهم أن يُعامل بعضهم بعضًا برُوحِ الإخاء".
ملامح في "الرسالة" للإمام الشافعي هذه ملامح عامة ظهرتْ لي في أثناء قراءة كتاب "الرسالة" قراءة تامة، أضعُها بين يدي المهتمين رجاءَ الانتفاع بالكتاب، وفتح أبواب بحثية مهمة. 1- ذكرَ الشافعيُّ - رحمه الله - النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فقال: (بأبي هو وأمي) أربع مرات. 2- دعا الله تعالى بقوله: (أسألُ الله العصمةَ والتوفيقَ) ثلاث مرات. 3- قال: (واللهُ أعلمُ): (46) مرة. وذلك في أثناء الكلام، وفي آخره. 4- عنونَ بـ (باب): (24) مرة. 5- ذكرَ الإمامَ مالك بنَ أنس بلفظ: (صاحبنا) مرتين. 6- ذكرَ الصحابةَ ذكرًا جميلًا، ومِنْ ذلك قولُهُ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وعمر غايةٌ في العلمِ والعقلِ والأمانةِ والفضلِ). 7- لم يُذكر الإمامُ أبو حنيفة، ولا أحدٌ من أصحابه. 8- غلبَ على أسلوب الكتاب أسلوبُ السؤال والجواب. أو نقول: الجدل والمناظرة. وهل السائلُ حقيقيٌّ أو متوَهَّم، وهل هو واحدٌ أو أكثر؟ كلُّ ذلك محتمل. 9- في الكتاب فوائد تفسيرية جميلة جدًّا. 10- وأقوالٌ في الرواية ومصطلح الحديث مهمة. 11- ومِنْ جميل ما فيها دعوتُه إلى الإصغاء إلى المخالفين، وبيانُه ما فيه عذرُهم. 12- في الكتاب جملٌ رائعةٌ جديرةٌ باستخراجِها وتعميمِ نشرها. 13- يُعينُ على فهم الكتاب وضعُ عناوين جانبيةٍ له تبيّنُ مرادَه، لاسيما الجُمل المُلتفة الطويلة. 14- شُرِحت الرسالة قديمًا خمسة شروح: أربعة في القرن الرابع، وواحد في القرن الخامس. ومن المؤسف أنها ذهبتْ فيما ذهبَ مِن ثروتنا العلمية، ولم تصلْ إلينا (أو نقول: لم يَظهرْ شيءٌ منها). 15- للكتاب هيبةٌ، وفيه جلالةُ، ويَتركُ في نفسِ قارئه مِنْ تعظيم الوحيين أمرًا لافتًا. 16- أكّد الإمامُ الشافعيُّ إمامةَ الأمةِ، وربطَها بلسان النبي صلى الله عليه وسلم. 17- ظهر في الكتاب مِنْ تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان مكانته ووجوب اتباعه الكثيرُ المعجبُ. وقد كرّر هذا مرارًا. 18- مِنْ جميلِ عباراتهِ الموجَّهة إلى طلاب العلم بشأن القرآن قولُه: "فحُقَّ على طلبة العلم: ♦ بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار مِنْ علمهِ (أي: علم القرآن). ♦ والصبر على كل عارضٍ دون طلبه. ♦ وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصًّا واستنباطًا. ♦ والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونهِ ". وقولُه في عاقبة العلم بالقرآن: " فإنّ مَنْ أدركَ علمَ أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالًا، ووفَّقه اللهُ للقول والعمل بما علم منه: فازَ بالفضيلةِ في دينه ودُنياه. وانتفتْ عنه الرِّيب. ونوّرَتْ في قلبه الحكمةُ. واستوجبَ في الدِّين موضعَ الإمامة " [1] . [1] دبي: يوم الأربعاء (21) من جُمادى الأُولى سنة (1439) = (7) من فبراير عام (2018).
قصة سليمان بن داود عليه السلام (3) فتنة سليمان قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ص: 34]، وكان أشقَّ امتحان خضع له سليمان، وقد رُوي أنه غزا عدوًّا في إحدى جزائر البحر، فقتل ذلك الملك، وأسر منهم أسرى، وكان من بين الأسرى ابنة ذلك الملك، وكانت جميلة رائعة الجمال، واسمها "جرادة"، فاختصها سليمان لنفسه وتزوجها بعد أن عرض عليها الإسلام، وقد قبلته على كره منها، ثم احتالت على سليمان بأن أظهرت نفسها حزينة، فقال لها: ما يُحزنك؟ قالت: أذكر والدي وما كنت عليه عنده من العز والدلال، قال: وقد أبدلكِ الله خيرًا منه ومِن ملكه وأنت على الإيمان، قالت: صحيح، ولكني لا أستطيع نسيانه، فلو أمرتَ الجن أن يصوروه لي فيكون لي سلوى، فأمر الرسامين منهم فصوروا لها مثل أبيها وألبسته مثل ثيابه التي كان يلبسها، فكانت تسجد له مع غلمانها وتعبده على عادتهم الوثنية في غياب سليمان، وسليمان لا يدري، ولم يكتشف أمرها إلا آصف بن برخيا بعد أربعين يومًا من عبادتها له، فأخبر سليمان، فعاقبها وحطم الصنم، وخرج إلى البرية تائبًا مما وقع يعبد الله ويستغفر لذنبه، ولهذا الخلل الذي حصل عنده عاقبه الله بسلب ملكه أربعين يومًا، فقد كان من عادته إذا دخل الخلاء نزع خاتمه الذي فيه ملكه وقوته وأودعه عند زوجته الأمينة، فأتى ماردٌ من الشياطين بصورة سليمان منتحلًا شخصه - لأمر يريده الله - وطلب منها الخاتم فأعطته إياه، ولما خرج سليمان من قضاء حاجته وطلب الخاتم أنكرته الأمينة، وقالت: أخذه سليمان، فعرف أنه فتن، فاختفى عن الأنظار، وعمل حمالًا على شاطئ البحر يحمل السمك للبيوت، وجلس الشيطان المارد على كرسي سليمان، ومارَس الحكم من خلاله، وكانت أحكامه مغايرة لما كان عليه سليمان حتى أنكره الناس وتجمع كبارهم لإخراجه، فهرب وألقى الخاتم في البحر، فابتلعه حوت، وقع بأيدي الصيادين، ولما نقل سليمان الحيتان إلى أحد الأشخاص أعطاه أجرًا واحدًا منها ولما أراد شواءه شق بطنه لتنظيفه فوجد الخاتم فيه، فلبسه وعاد له ملكه، وطلب المارد حتى ألقي القبض عليه فحبسه في صندوق من الرصاص وألقي في البحر، وهنا طلب سليمان من ربه، ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]؛ فأُعطي ما سأل، وعاد له ملكه أقوى مما كان. تعليق: هذه القصة وردت عن روايات أهل الكتاب بأساليب متعددة، اخترنا منها هذا الذي أوردناه، لكن ربط قوة سليمان بهذا الخاتم أمر غير معقول، ولو كان الأمر كذلك لكان ذهب ملكه عندما كان يخلعه لقضاء الحاجة؛ فحكمه مؤيد من الله؛ فهو ملك نبي، فوثق الله له الملك والنبوة بتأييد من عنده، وبجنود سخرهم له فأطاعوه بلا تمرد أو عصيان، وكانوا من الجن والإنس والطير والحيوان، كل له عمله ووظيفته، ولكن فتنة سليمان التي ذكرها الله لعلها كانت من أجل الزواج من المرأة المجوسية التي عبدت الصنم في بيته، فكان أن سلبه الله الملك لأيام، فامتنعت الملائكة من دخول بيته بشأن الصنم، وفقد التأييد إلى أن انتبه للتقصير، وأزال الصنم، فعاد له ملكه.
عواصف الأوبئة القاتلة من الطاعون إلى فيروس كورونا لمحمد ديدوس البوغيسي صدر حديثًا كتاب "عواصف الأوبئة القاتلة من الطاعون إلى فيروس كورونا"، تأليف: د. " محمد ويدوس سيمبو البوغيسي الأزهري "، نشر: " دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع "- بيروت بلبنان. وهي دراسة موضوعية مختصرة في فقه الحديث والتاريخ والطب، تناول فيها المؤلف تعريف الأوبئة القاتلة، وتعدادها، وذكر أسمائها، وأسباب انتشارها، وطرق الوقاية منها، مركزًا على الوباء الجديد الذي ظهر وهو "فيروس كورونا" حيث شرح أسبابه، وبين طرق الوقاية منه. وهدفَ الكاتب من دراستها إظهاره لسعة السنة النبوية من خلال بيانها أصول التداوي التي نص عليها الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه، خاصة في مجال الحجر الصحي، حيث أن التدابير الاحترازية للحد من انتشار فيروس كورونا الحالي لا تخرج بالجملة عن تلك الأصول. يقول الكاتب: "هذه الدراسة إنما هي رد فعل لما يعاني منه معظم دول العالم من جائحة فيروس كورونا الحالي ( covid-19 ) فمنذ اشتعال هذا الوباء بمدينة ووهان الصينية في نهاية العام 2019، وأسقط ما أسقط من أرواح بشرية بالجملة بالصين وغيرها من دول العالم، فإني على عزم مربوط بالإصرار والإلحاح على تحرير الكلام في مسألة الأوبئة العالمية القاتلة من زاوية الفقه والتاريخ، ومن الدوافع التي شجعتني على المضي قدمًا في هذه الدراسة هو التيقن التام بأن جميع التدابير الاحترازية للحد من انتشار هذا الوباء من الحجر الصحي ( Quarantine ) والتباعد الاجتماعي ( Social distancing ) ووضع الكف عند العطس وغيرها هي بالجملة لها أصل في أحاديث الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكان هذا الوباء من وقت لآخر قد أظهر صدق الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في كلامه من أن الأمة لا تزال بخير ما إن تمسكت بكتاب الله وسنة رسوله، فإن كتاب الله والسنة النبوية هما الأصل المرجع لأحكام الشريعة الإسلامية أصولًا وفروعًا". وتضمنت الدراسة عدة أبواب على النحو التالي: الباب الأول : لمحة تاريخية عن الطاعون والوباء. الباب الثاني : وباء كورونا الجديد. الباب الثالث : التدابير الاحترازية ضد الأوبئة القاتلة في ضوء السنة النبوية. الباب الرابع : فقه الطاعون والوباء. وأجمل في الخاتمة أهم النتائج التي خرج بها من دراسته حيث بين أن أهم التدابير الاحترازية للحد من انتشار وباء فيروس كورونا في هذه الآونة من الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي ووضع الكف عند العطس وغيرها لا تخرج بالجملة عن أصول التداوي التي نص عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الشريفة. كما أن التراث الإسلامي المتمثل في فتاوى أئمة المذاهب في كتبهم لم يزل مرجعًا لعلمائنا هذا العصر في إصدار الفتاوى التي تخص قضايا العصر الراهن. والمؤلف هو د. " محمد ويدوس سيمب و" أستاذ التفسير والعلوم الإسلامية بجامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
الجامع لمسائل الإمام أحمد رحمه الله كتاب الطهارة لعبد الرحمن آل الشيخ صدر حديثًا كتاب "الجامع لمسائل الإمام أحمد رحمه الله: سؤالات للإمام رحمه الله مرتبة على أبواب الفقه الحنبلي "، السفر الأول منه وهو كتاب الطهارة، تأليف: "ع بد الرحمن بن عبد المحسن بن عبد اللطيف آل الشيخ "، نشر: " دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب هو باكورة مشروع علمي يهدف في المقام الأول لجمع المسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل، في عامة الكتب، سواءً منها كتب الرواية عن أحمد ككتب تلاميذه وغيره، أو من نقل كلام الإمام أحمد، من المطولات والأمهات والشروح وغيرها من مصنفات الحنابلة، حيث نوى جمعها في محالها، والترتيب بينها مع توثيقها، وينقل ذلك من ألفاظ الإمام أحمد نفسه، وليس كطريقة صاحب " الإنصاف " حينما يذكر الرواية في المذهب، فيقول مثلًا: "ر واية عن أحمد كذا.. " فيحيل على رواية، وإنما يذكر الباحث ألفاظ الإمام أحمد في المسائل والروايات، وقد سار على طريقة ابن قدامة في ترتيبه تلك الأقوال على الأبواب الفقهية. وطريقته أنه يأتي بروايات الباب، مع ترقيمها وترتيبها، من مسائل الإمام أحمد، وفي الهامش الإحالة على كل رواية ذكرها إلى موضعها من المصنفات الحنبلية، فبذلك يجمع الكاتب في محل واحد المنقول عن أحمد في سؤالاته وما قاله. ولم يضع الباحث مقدمة وافية بمنهج العمل في تلك الموسوعة الحنبلية، وإنما تمهيد موجز في موضوع الكتاب ثم دخل في جمعه وتصنيفه سؤالات أحمد، وربما بنهاية العمل في موسوعته يضع مجلدًا في فقه تلك الاختيارات، وطريقة الإمام أحمد في السؤالات التي أجاب عليها. وللشيخ "عبد الرحمن بن عبد المحسن آل الشيخ" العديد من الشروح والتعليقات النافعة، منها: • "الجامع لعمل اليوم والليلة من أقوال وأفعال خير البرية صلى الله عليه آله وسلم". • "شرح ثلاثة الأصول وأدلتها" للإمام محمد بن عبد الوهاب. • "شرح المقدمة الآجرومية" للإمام محمد بن داود الصنهاجي. • "حَاشِيَةٌ عَلَى الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ شَرْحِ زَادِ المُسْتَقْنِعِ". • "شرح القواعد الأربع" للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب.
طبعة جديدة من مختصر صحيح البخاري للشيخ سعد الشثري صدر حديثًا طبعة جديدة من كتاب "مختصر صحيح البخاري"، تأليف: أ.د. "سعد بن ناصر بن عبد العزيز أبو حبيب الشثري"، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب اختصر فيه الشيخ "سعد الشثري" أسانيد البخاري الطويلة، من باب اختصار صحيح البخاري في مجلد لطيف واحد، وذكر الشيخ - حفظه الله - أنه أراد تكميل جهود العلماء السابقين في اختصار "الصحيح"، ومنهجُه في المُختصر كما يلي: 1- حذف الأسانيد وآثار التابعين لعدم الاحتجاج بها، والمُعلَّقات لأنها ليست على شرط البخاري في الصحيح. 2- جمع أطراف الحديث في الموطن الأول من المواطن التي وردَ فيها الحديث. 3- أشار للروايات الواردة المُتخالفة في الحاشِية. 4- ذكرَ جميع تبويبات البخاري على الحديثِ في جميع مواطنه وجعلها في الهامِش. 5- شرحَ بعضَ الألفاظ الغريبة. أما مميزات الطبعة الجديدة: • ترقيم الأحاديث من صحيح البخاري وكذا صحيح مسلم. • ضبط الكتاب كاملًا بالتشكيل. • تمييز متن الحديث عن كلام الراوي. • الإخراج الفتي المتميز. ومختصر الشيخ "سعد الشثري" - حفظه الله - هو الغاية لكل لمن أراد حفظ أحاديث البخاري مع ذكر الأبواب، ويرى المؤلف أن جمع أطراف الحديث في موطن واحد من المسائل التي ذكرها العلماء في كتب المصطلح وذكروا ضوابطه وشروطه، وقد حاول الشيخ العمل بهذه الضوابط في هذا المختصر. والشيخ سعد بن ناصر بن عبد العزيز أبو حبيب الشثري هو عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ومستشار في الديوان الملكي السعودي برتبة وزير، وعضو هيئة التدريس بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود. أكمل دراسته الجامعية في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم حصل على درجة الماجستير وكان عنوان رسالته فيها ""التفريق بين الأصول والفروع"، ثم حصل على درجة الدكتوراه عام 1417هـ وقد كان عنوان أطروحته فيها "القطع والظن عند الأصوليين"، وقد عمل كأستاذ جامعي في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من سنة 1409هـ إلى سنة 1422هـ. وقد كان عضوًا في هيئة كبار العلماء السعودية من سنة 1426هـ إلى أن عزل سنة 1431هـ. وفي سنة 1434هـ أصبح عضوًا في هيئة التدريس بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود. وفي سنة 1437هـ عُيِّن كعضو في هيئة كبار العلماء السعودية مجددًا، ومستشارًا في الديوان الملكي السعودي برتبة وزير. له العديد من المؤلفات والشروحات، وقد بلغ عدد مؤلفاته أكثر من 60 مؤلفًا في عدد من المواضيع مثل العقيدة والحديث والفقه والأصول والأخلاق: • المسابقات في الشريعة الإسلامية . • التقليد وأحكامه في الشريعة . • عقد الإيجار المنتهي بالتمليك . • القطع والظن عند الأصوليين . • تقسيم الشريعة إلى أصول وفروع . • قوادح الاستدلال بالإجماع . • مختصر صحيح البخاري . • التفريق بين الأصول والفروع . • مقدمة في مقاصد الشريعة . • عبادات الحج . • شرح الورقات . • أخلاقيات الطبيب المسلم . • مفهوم الغذاء الحلال . • حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء في القديم والحديث . • حكم زيارة أماكن السيرة . • آراء الصوفية في أركان الإيمان . • شرح المنظومة السعدية في القواعد الفقهية . • القواعد الأصولية المتعلقة بالمسلم غير المجتهد . • الطرق الشرعية لإنشاء المباني الحكومية . • العلماء الذين لهم إسهام في الأصول والقواعد الفقهية . • شرح أصول العكبري . • شرح مختصر ابن اللحام في الأصول. وله العديد من البحوث العلمية المنشورة في المجلات العلمية: • المصلحة عند الحنابلة [مجلة البحوث الإسلامية (الإفتاء) ]. • آراء الإمام ابن ماجه الأصولية [مجلة البحوث الإسلامية (الإفتاء) ]. • الاستدلال بالقدر المشترك (مجلة جامعة الإمام) . • آراء الإمام البخاري الأصولية (مجلة جامعة الإمام) . • التخريج بين الأصول والفروع (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة) . • تطبيق القواعد الأصولية على حكم الإسراف في الماء (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة) . • مقاصد الشريعة ووسائلها في المحافظة على ضرورة العرض (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة) . • المؤلفون في القواعد الفقهية في القرن (14) (مجلة الدرعية) . • العلماء الذين لهم إسهام في أصول الفقه (مجلة الدرعية) . • قياس العكس (مجلة جامعة أم القرى) . • القواعد الأصولية التي يمكن تطبيقها على بحوث الخلايا الجذرية (مجلة المجمع الفقهي بمكة) .
مدن المعرفة القيمة المضافة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، حدثت تغيرات كبيرة في بنية الاقتصاديات العالمية. وتتعلق هذه التغييرات في الأساس بالطريقة التي يصنع الاقتصاد من خلالها القيمة المضافة، وذلك كما هي الحال فيما يسمى بالاقتصاد القائم على المعرفة. ويعمل هذا الاقتصاد بالتوازي مع الاقتصاد التقليدي، كما يتداخل معه مباشرة في كثير من الأحوال. ويسمح هذا الاقتصاد المعرفي بالتجديد والابتكار المستمرين في المنتجات وأسلوب تقديم الخدمات. وقد أفرز هذا الاقتصاد هياكل مؤسسية جديدة تعزز عملية تقاسم رأس المال البشري. وعمومًا، فإن أهم ما يميز اقتصادنا المعرفي اليوم هو تسريع وتكثيف عمليات إنتاج واستخدام ونشر المعارف والتقنيات الجديدة. وقد كتب آلان لابوانت من مدرسة الاقتصاد في جامعة مونتريال أن (( الاقتصاد الجديد يتميز بتسارع الاتجاهات التي دفعتنا نحو تحويل أنماط الإنتاج والإدارة)). ويعقب لابوانت بأن هذا الاقتصاد المعرفي يعتبر جزءًا من التطور التاريخي. وفي هذا السياق، أطلقت مدن عدة حول العالم مبادرات مثيرة للجدل، وجهودًا مشتركة واستراتيجيات محددة استهدفت تحسين مواقفها التنافسية على المستوى الوطني والقاري والعالمي من منظور معرفي. ويرى ريتشارد فلوريدا أن معايير التنافس الاقتصادي بين المدن التي تبنت هذا الاقتصاد الجديد تعتمد على قدرتها على جذب المبدعين والموهوبين، كذا الاحتفاظ بهم وصهرهم في بوتقاتها. وكنتيجة لذلك، فإن المدن المعرفية تتنافس في ثلاثة مجالات رئيسة هي: 1- جودة الثقافة المحلية. 2- حجم وكثافة سوق العمل. 3- وجود مرافق وأماكن جذب محلية لها قيمة عالية بالنسبة إلى العاملين في مجال المعرفة. ولذا، يعد الاستثمار في التقنية المتطورة والبنية التحتية التقليدية وكذا الاستثمار الاستراتيجي في الثقافة في إطارها العام أهم ملامح الاتجاه المبدئي التي يجب أن تمضي فيه المدن في حقبة المعرفة. وتختلف كل مدينة في هذا الصدد من حيث الاستثمارات وطرق التنفيذ. لقد جرت مناقشات مكثفة في العشرين عامًا الأخيرة حول أهمية إدارة المعرفة في عالم الأعمال. واليوم، تعد المعرفة أحد أهم المرتكزات لأي مشروع اقتصادي، والتي يجب إدارتها بفاعلية وكفاءة للحصول على ميزة تنافسية في حقبة اقتصاد المعرفة. وقد تحولت إدارة المعرفة إلى أسلوب إدارة استراتيجي، لتجد طريقها في عدة تطبيقات بخلاف عالم الأعمال مثل التعليم، والحكومة، والرعاية الصحية. وقد جرى تبني هذا الطرح من قبل معظم الهيئات الدولية الكبرى - كالمفوضية الأوربية، والبنك الدولي، والأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية – كإطار حاكم للتوجهات الاستراتيجية المتعلقة بالتنمية على الصعيد الدولي، ما يعد دليلًا واضحًا على وجود علاقة ناشئة بين إدارة المعرفة والتنمية القائمة على المعرفة. وقد أوجدت هذه العلاقة الجديدة البيئة المناسبة لظهور مفهوم (( مدينة المعرفة) )، الذي يعد هذه الأيام ذا أهمية كبيرة ومادة ثرية للمناقشة. وبالفعل فقد أعلنت عدد من المدن على مستوى العالم نفسها مدنًا للمعرفة، في الوقت الذي بدأت فيه مدن أخرى تطوير مخططات استراتيجية وتنفيذية لكي تصبح مدنًا للمعرفة في المستقبل القريب. وكما حدث في بدايات ظهور مفهوم إدارة المعرفة فلا يوجد هناك إطار واضح أو منهجية موحدة للتصميم والتنفيذ يمكن من خلالها أن تتحول المدن القائمة إلى مدن معرفة ناجحة، حيث ما يزال النجاح الحقيقي لهذه المدن قيدًا للدراسة في الأوساط البحثية. وبالتالي، فإن تحديد الخصائص التي يجب أن تتوافر في مدن المعرفة الناجحة على أرض الواقع أصبح حتميًا.
الطُموح النَطوح (نظم) [بحر الطويل] نَظْم: ابتسام أزاد (1442) 1. مَعَالي الأُمُوْرِ اطْمَحْ لَهَا، سِرْ مُهرْوِلا [1] *** وَبِاللهِ ثِقْ دَوْمًا، تَجَشّمْ مُقَنْقِلا [2] 2. وَسَدِّدْ وَقَارِبْهَا ، تَدُمْ ثَابِتَ الخُطَى *** تَمَهّلْ ، إِذِ التّسْوِيْفُ إنْ جَا تُعُطِّلا 3. خِيَارَ الْهَزِيْمَةِ امْنَعَنْ مِنْهُ نَفْسَكَا *** رِضَا الْمَرْءِ بِالنُقْصَانِ عَيْبٌ، لِتَعْقِلا 4. تَرَفَّقْ فَبِالرّفْقِ اسْتَبِقْ إذْ تَنالُ مَا *** يَفُوْتُ بِلا رِفْقٍ، كَزَرْعٍ مُسَنْبِلا [3] 5. وَوَاصِلْ كَثَقْبِ الما حِجارًا تَقَحّلَتْ [4] *** بِإِصْرَارِ صَبَّارٍ يَلِي مَا تُؤُثِّلا [5] 6. بِصَبرِكَ وَاظِبْ فِي دُرُوْبِ الكِفَاحِ، إذْ *** يُجَازِي الإلهُ الْمُبْتَلَوْنَ [6] ، فَيُجْزِلا [7] 7. لُزُوْمُ الشُيُوْخِ [8] يُوْرِثُ النَّفْسَ مُكْنَةً *** مَواهِبُ وَهّابٍ لِمَنْ شَاءَ، جُلِّلا [9] 8. وَزَكِّ فأكْثِرْ مِنْ زَكاةِ العُلُوْمِ زِدْ *** لِتَزْدادَ [10] ، إنْ أمسَكْتَ بُخْلا تُسُلِّلا [11] 9. تَبَحّرْ وَفِي القِيْعَانِ غُصْ [12] ، أَبْدِعَنْ [13] ثَرَا [14] *** وَبَيّنْ وَتَمّمْ وَاخْتَصِرْ إنْ تُسُلسِلا [15] 10. بِجَمْعِ شَتَاتٍ رَتِّبَنْ ، أَصْلِحِ الخَطَا *** وَعَيّنْ ، فَثَمِّنْ ذِي الْمَقاصِدَ [16] مُنْجِلا [17] 11. حَمَى اللهُ مِنْ فَرْطِ الأَشَاوِسِ [18] وَالجَفَا *** مَنِ اسْتَهَدَفَ الأسْنَى [19] ، سَمَا [20] ، فَتُكُلِّلا [21] 12. بِتَقْوَى الإِلهِ ارْقَ مَرَاقِيْ الْفُحُوْلِ، تُقْ *** تَحَلَّقْ مُرَفْرِفًا [22] لِتَعْلُوَ مَنْزِلا [1] مُهَرْوِلا: الهَرْوَلَة فوق المشْيِ ودونَ الخَبَبِ، والخَبَبُ دونَ العَدْو. انظر: تاج العروس من جواهر القاموس ، الزَبيدي، (31/ 131). [2] تجشّمْ مُقَنْقِلا : أي تحمّل المشاقَّ مثلَ كُثْبانِ جبالٍ شامخة، بأهدافٍ سامِقة. انظر: لسان العرب ، ابن منظور، (9/ 346). [3] كَزَرْعٍ مُسَنْبِلا: كما أن الزرع حالةَ كونِه مُسَنبِلا يُخرِج سُنبلَه في وقتٍ مقدّر ويُؤتي ثمارَه في أوانِه بعدَ مرورِ مراحلَ تدريجيّةٍ، كذلك بِالرفْق لَتَنالنَّ ما لا تنالُ بغيره؛ كما لو سَقيتَ الزرعَ بماء زائدٍ عن الحدّ المعتاد ليُسنبِل قبلَ أوانه، لمات الزرعُ وعُوقِبتَ بحرمان ثمارهِ. "" مَن استَعجَلَ الشيءَ قبلَ أوانِهِ عُوقِبَ بحرمانِهِ "". ويشهد بذلك الحديث: «يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ. » [ مسلم ، (8/ 22)، رقم (2593)]. وذلك بتَعلُّمِ صغارِ العلمِ قبل كبارِه. وهذا التوجيه من مهمّة العلماء الربانييّن كما في تفسير الآية: ﴿ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]، فقال ابن عباس في تأويلها: ""كونوا حُكماءَ فُقهاءَ"" [تفسير الطبري (5/ 528)، (6/ 542)؛ الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، (2/ 251)]؛ ومن كمالِ الحِكمة وتمامِ الفِقه أن يتدرّج المعلّم فيبدأَ بالأهمّ فالمهمّ، فَمِن مُقتَضى حِكمَةِ « مُعلِّمِ النّاسِ الخيرَ» : تعليمُ ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]. [4] تقَحَّلَتْ: يَبِسَتْ وأَجْدبَتْ وتَقَشّفَتْ. انظر: معجم متن اللغة ، أحمد رضا، (4/ 502)؛ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (2/ 716). كما أن سيلانَ قَطَرَاتِ الماءِ المستمرّ يَثُقُب ويُؤثّر حتى على الصَخْر الصمّاء، كذلك بالإصرار مع حسن التوكل على الله وملازمة الصبر على المشاقّ ينالُ المرء بُغيتَه بإذن الله مهْما عَظُم واستصعبَ إنجازَها؛ فمن واصلَ وصل ومن جدّ وَجَد ومن زَرَعَ حَصَد؛ ثم حتى ولو مات قبل بلوغ الغاية والهدف، فهو مأجور بمجرد نيّته! ومن الأدلة عليه: « إذَا مَرِضَ العَبْدُ أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» [ البخاري (4/ 57)، رقم (2996)] وكالرجل الذي قَتَل تسعة وتسعين رجلا وأكمل بمائة ومات في الطريق إلى الهجرة من « أرْضُ سَوْءٍ » ، « فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فأوْحَى اللَّهُ إلى هذِه [القرية التي هاجر إليها] أنْ تَقَرَّبِي، وأَوْحَى اللَّهُ إلى هذِه [القرية التي هاجر منها] أنْ تَباعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بيْنَهُما، فَوُجِدَ إلى هذِه [القرية التي هاجر إليها] أقْرَبَ بشِبْرٍ، [فقبضتْه ملائكة الرحمة] فَغُفِرَ له» [ البخاري (4/ 174)، رقم (3470)]. [5] تُؤُثِلا : عَظُمَ وتَأَصّل؛ بمعنى: يَلِي أي يَتْبعُ ما عَظُمَ مِن مَهامّ وتأصّل من أمورٍ جِسامٍ، وذلك بعد بذل الأسباب وحُسن التوكّل على الله مع ملازمة الصبر. انظر: لسان العرب ، ابن منظور، (11/ 9)؛ تاج العروس من جواهر القاموس، الزَبيدي، (27/ 428)؛ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (1/ 6)؛ معجم متن اللغة ، أحمد رضا، (1/ 145). [6] المعنى يستفاد من الآية: ﴿ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168] والآية: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزُمر: 10]. [7] فَيُجْزِلا : الفاء للسببية، ناصبة. [8] لُزُوْمُ الشُيُوْخِ: إن الله حافظُ كتابِه وناصرُ دينِه، ومن الأوعية التي حُوفِظَتْ فيها العلوم هي: السطور كَتْبًا، والصدور حِفْظًا، والإجماع القوليّ سَمَاعًا وروايَةً بالتلقّي والمشافهة، والإجماع الفعليّ عملا وممارسةً. أنزل الله الكتب وأرسل الأنبياء والرسل، ولم يكتفِ بأحدهما. لنْ تبلغَ شأوَ العلماء بمجرد الاطلاع على بعض الكتب وحفظِ بعض المتون واستماعِ شيءٍ من الدروس المسجلة والتعلّم الذاتيّ فقط؛ فكل هذه – منها ما هي من "الوِجادة" ومنها ما هي في "حكم الوِجادة" . لا يكفي طلبُ العلم عن طريق "الوِجادة" فحسب، بل لا بد من أخذِه عن الأشيَاخ والشيْخات أخذًا مباشرًا "سَماعًا وروايةً" بــ "التَلَقّي والمشافهة" أيضا، كما في الحديث « تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ» [ سنن أبي داود ، (5/ 500)، رقم (3658)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح]، فنحن "أمة الإسناد" . لذلك يجمع طالب العلم وتجمع طالبة العلم بين الخَيرين. فبملازمة أهل العلم ودوام التواصل معهم تجد أنهم يوفّرون لك الوقتَ والجهدَ بمشيئة الله إلى درجة لا يخطرُ ببال! فمُهِمّتُهم البلاغ ، برفع الجهل عنك؛ ومُهِمّتُهم البيان ، بإرشادك إلى الفقه الصحيح ما قد فهمتَه على غير وجهه وأنت لا تدري أو بإزالة لبسٍ وَهِمتَه فيما خفِيَ عليكَ؛ ومُهِمّتُهم حُسن الدلالة ، باختصار مجلداتٍ ضِخام في جملةٍ أو شبهِ جملة أو حتى في كلمةٍ! وإن لم تتعلم منهم المسائل من أول وَهْلة، فحتْمًا ستستفيد من هَديِهم وسمْتهم الشيءَ الكثيرَ، فالعالم الربانيّ "لا يخلو من بركة"، كما قيل في الكتاب إنه "لا يخلو من فائدة". فالعلماء "ورثة الأنبياء" ، ينفونَ عن العلم تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين. فَلْزَمهم...فَلْزَمْهم! [9] جُلِّلا : عُمَّ وغُطِّيَ وأُغْشِيَ. أي: الله سبحانه هو الوهّاب، يَهَبُ لمن يشاء من عبادِه ويُجلّله أي يكسُوْه حُلَلَ المَواهِبِ والكَرامَة. انظر: لسان العرب، ابن منظور، (11/ 118)؛ معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (1/ 386). [10] لِتَزْدادَ: مَن بثّ العلم، ازْدادَ علمًا، في الحث على البذل والإنفاق جاءت الآية: ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ... « يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» [ مسلم ، (2/ 690)، رقم (993)]. [11] تُسُلّلا: ذَهَب عن صاحبِه خُفيَةً. ومنه الآية: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ﴾ [النور: 63] أي: من لا يؤدي زكاةَ علْمِه ويَحْبِسُه - كَسَلا أو كِبْرًا - يذهب العِلم ويتسرّب عنه خُفيَةً ﴿ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ ﴾ صاحبِه من حيث لا يشعُر! ""العلم يَزيد بالإنفاق ويَنقص بالإمساك"" - هذه من الفوائد التي حفظتها من أول شيخي في القراءات - رعاه الله تعالى. انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (1/ 386). [12] التبحر والتعمق والغوص في قيعان العلوم مطلبٌ أساسٌ للإبداع، إذ الإبداع يعني ابتكار جديدٍ على غير مثالٍ سابق، أي البَداءة من حيث انتهى الناس، لا من حيث بدؤوا؛ ولا يتأتى ذلك إلا بالسبر في نِتاج الأوائل واستقصاء جهود الفطاحل، واستقراء النصوص بالمناجل. فلا بد من الاستقراء التام أو ما يقربُ التمام، أو الاستقصاء الكامل أو ما يقرُب الكمال، ليدرك الباحث المؤلّف ما الجديد الذي يمكن إضافتُه إلى التراث العلمي. [13] مقاصد التأليف الثمانية جمعتُها في هذين البيتين، وهي: 1. الإبداع 2. البيان 3. الإتمام 4. الاختصار 5. الجمع 6. الترتيب 7. الإصلاح 8. تعيين المبهم؛ أول " سبعة مقاصد" ، ذكرها ناظم في هذين البيتين ولم أعثر على اسمه كشأن بقية "الأبيات الطيّارة" أو "الأبيات السيّارة" التي لا يُدرى من قائلها أو ناظمها: أبْدِعْ تمامَ بيانٍ لاختصاركَ في *** جمعٍ ورتّبْ وأصلِحْ يا أخي الخَلَلا (بحر البسيط) [14] ثَرَا: ثراءً، بحذف الهمز، أي بتَبَحُّرك في نهل دررِ العلوم وببثِّها أبدع ثراءً علمِيًّا هائِلا غيرَ مسبوق، لتكونَ إضافةً نوعيةً وليتحقق به على الأقل أحدُ مقاصدِ التأليف. [15] تُسُلسِلا: يتَوالى ويتَتابع مضمونُ التأليف في نسَقٍ واحدٍ خلالَ مراعاةِ هذه المقاصد للتأليف، كما تنتظِم حباتُ الخَرَز في العِقد الأنيق. انظر: المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (1/ 442)؛ معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (2/ 1092). [16] فَثَمِّنْ : فكَمِّل المقاصد السبعة بـ "تعيين الْمُبهَم" واجْعَلْ "ذِي" أي هذه المقاصد للتأليف ثمانية . وخذها من باب «اعقِلْها وتوكَّلْ» [ صحيح الجامع الصغير وزيادته، (1/ 242)، رقم (1064)، حسنه الألباني]، أي: اجعل هذه الأسباب هدفَك ونُصب عَيْنَيْك أثناء التأليف لتُنجِل أي تُحسن وتتوسعَ بعُمقٍ كما تُنجِل الأرض. انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (1/ 328-329). [17] مُنْجِلا : لتُنْجِل أي لتُحسِن بحِذقٍ وبراعةٍ وتتوسعَ وتتعمقَ في نَهْل إرث النبوّةِ ونثْرِ دررِه ومِنْ ثَمَّ لتُبدِعَ في "صناعة التأليف" مُراعيًا هذه "المقاصد الثمانية" آنفةَ الذِكر؛ كما تُنجِل الأرضُ إذا اخْضَرَّتْ وأنبتَتْ النَجِيل، فيفترش على ‌الأرض، ويذهب ذَهابًا بعيدًا؛ والنَجِيل له سوقٌ أرضيةٌ ذاتُ عقدٍ كثيرةٍ وأنابيْب قَصيرة ذات طُعم حُلْو، وهُو نباتٌ عُشبيّ مُعَمَّر من الفَصيلة النَجيليّة. والأنجل : الواسع العريض الطويل، كذلك لَيْلٌ ‌أَنْجَلُ أي: واسعٌ قد علا كلَّ شَيْء وأَلبَسه، وليلةٌ نَجْلاء . ويقال: هُوَ ‌مِنْجَل هَذَا الأَمر حاذقه وَالمِنْجَلُ آلَة يدويةٌ لِحَشّ الْكلأ أَو لحصد الزَّرْع المستحصد، والجمع مناجِل. انظر: المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (2/ 904)؛ القاموس المحيط ، الفيروز آبادي، (1061)؛ معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (3/ 2172)؛ جمهرة اللغة ، ابن دريد الأزدي، (1/ 492)؛ تهذيب اللغة ، أبو المنصور الهروي، (11/ 57)؛ شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم ، نشوان اليمني، (10/ 6506)؛ وموقع الـ( Ontology ): https:// bit.ly/ 3uFJfMS [18] الأشَاوِس: جمع أشْوَس، أي: الغَضُوب الحَقُود المتكبّر الناظر تغيُّظا. انظر: العين ، الخليل بن أحمد الفراهيدي (6/ 273)؛ تهذيب اللغة ، أبو منصور الهروي (11/ 265)؛ المحيط في اللغة ، الصاحب بن عباد (2/ 174)؛ مقاييس اللغة ، ابن فارس (3/ 227)؛ لسان العرب ، ابن منظور (6/ 116)؛ تاج العروس ، الزَّبيدي (16/ 178). [19] الأسنى: الأعلى والأرفع والأشرف. انظر: لسان العرب، ابن منظور، (14/ 403)؛ الصحاح في اللغة والعلوم ، نديم وأسامة، (2465)؛ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (1/ 457)؛ مختار الصحاح ، الرازي، (156). والمعنى: حمى الله من يستهدف الأسنى أي الأرفع والأعلى شأنًا، أي من يهدف إلى معالي الأمور وأشرافها، ويُبْتَلَى في سبيل ذلك بشِرار النُفُوس؛ وهو مفعول به لفعل (حمى). ويحث عليه الحديث: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها» [الجامع الصحيح، الألباني، (1890)]. [20] سَما : علا وارتفع. انظر: العين ، الخليل الفراهيدي (7/ 318)؛ كتاب الأفعال، ابن القَطَّاع الصقلي، (2/ 167)؛ غريب الحديث ، ابن الجوزي (1/ 500). [21] فتُكُلِّلا : الفاء هنا للسببية. فيُلبِسُه الله الإكليلَ وهو التاج، أي: فيُتَوّجُ الله الجهود بالنّجاح ﴿ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾ [الحجرات: 8]. انظر: تاج العروس من جواهر القاموس ، الزَبيدي، (30/ 346)؛ معجم اللغة العربية المعاصرة ، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر ، (3/ 1952). [22] ‌ مُرَفْرِفًا : هذه من صور " الاستِعارة " . رَفرَفَ الطائر : إذا حرّك جناحَيْه حولَ الشيءِ وبَسَطهما أو فرّشهما. انظر: تاج العروس من جواهر القاموس ، الزَبيدي، (17/ 308)، (23/ 357)؛ الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، الفارابي، (3/ 1015).
فهرسة مخطوطات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وبعد : فقد جاءني أحدُ الأساتذة الفضلاء بدشتٍ من الأوراق المخطوطة مبعثرةً متداخلةً، وبعد العكوف عليها، والنظرِ فيها، وإعادةِ ترتيبها، والبحثِ عن عناوينها ومؤلِّفيها، تبيَّنَ أنها الكتبُ الآتيةُ: 1- فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ غاية التقريب . وهو لمحمد بن قاسم بن محمد أبي عبد الله، شمس الدين الغزي، ويعرف بابن قاسم وبابن الغرابيلي (ت: ٩١٨). وعليه حواش مِن حاشية الباجوري. كتبَه علي بن سيد رضا بن سيد محمد بن سيد رضا ساكن قرة أنجيرة [1] ، تاريخ النسخ: 1286. وكَتب بعد هذا: يدومُ الخطُّ في القرطاس دهرًا *** وكاتبُهُ رميمٌ في الترابِ [2] (106ورقات)، (سقطتْ منه الصفحة الأولى، وورقةٌ من داخله). 2- إحدى عشرة ورقة تبيَّنَ أنها مِن كتاب "عمدة السالك وعدة الناسك" لابن النقيب: أحمد بن لؤلؤ بن عبد الله الرومي، أبي العباس، شهاب الدين ابن النَّقِيب الشافعي (ت: ٧٦٩). (سقط أول الكتاب وآخره، وحصل انقطاعٌ في أثنائه من الناسخ، وتم اكتشافُه بعرضه على المطبوع). 3- نسخة أخرى مِن "عمدة السالك وعدة الناسك" . كتبها محمد بن سيد مرتضى [3] بن سيد معلا، وفرغ منها في 20 من صفر المظفر [كذا] سنة: 1278. (89 ورقة)، (سقط أولها، وتمَّ اكتشافُها بعرضها على المطبوع). 4- رسالة في العقائد . مجهولة المؤلِّف. في ثلاث ورقات، أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي المتين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: اعلمْ إذا قيل لك: كم أركان الإسلام؟ فقل: خمسة...". جاء في آخرها: "كتب محمد بن سيد مرتضى [4] بن سيد معلا بن سيد أحمد، والله أعلم [5] ". 5- اللمعة الماردينية في شرح الياسمينية في الجبر لمحمد بن محمد بن أحمد سبط ‌المارديني (ت: 912). فُرِغ مِن كتابتها في 15 من شوال سنة 1283. (6 ورقات). صفحة كُتب فيها: مسألة في الفسخ: قال الإمام الغزالي في المفقود: إذا غاب غيبة... نقله [كذا] مِن خط مولانا نور الدين يوسف. وكُتب في الحاشية هذان البيتان: ‌زيدُ ‌الطويلُ ‌الأزرقُ ابنُ مالكِ فى بيته بالأمس كان متّكى بيده غصنٌ لواهُ فالتوى فهذه عشرُ مقولاتٍ سوا قلتُ: وهما لأحد الفضلاء ينظمُ فيهما المقولاتِ العشر في الحكمة كما في "الكليات" للكفوي ص (627). 6- نسخة أخرى من "اللمعة الماردينية في شرح الياسمينية" . كتبَها مَنْ وَصفَ نفسَه بـ: تراب أقدام المتعلِّمين محمد بن محمود بن محمد بن أحمد الدشكاني [6] الشافعي مذهبًا... سنة 1289. (10 ورقات). 7- فتح الأقفال في شرح أبنية الأفعال لابن مالك، والشارح: محمد بن عمر بن مبارك بن عبد الله بن علي المعروف ببحرق (ت: 930). كتبَه محمد بن السيد عبد الرحيم الفارسي في مكة المكرمة، وفرغ منه في 15 من شهر ذي القعدة سنة 1283. (27 ورقة). 8- ست ورقات تبيَّنَ أنها مِنْ كتاب "فتح الرحمن بشرح زُبد ابن رسلان" لأحمد بن أحمد بن حمزة الرملي (ت: 957). (الخاتمة فقط). 9- قصيدة في التوسل بأسماء الله الحسنى . في (67) بيتًا. لم يُذكر الناظم، وهو الدمياطي، أو ابن عراق الكناني، أولها: بدأتُ ببسم الله والحمد أولا *** على أنعُمٍ لم تُحْصَ فيما تنزَّلا (ورقتان). 10- ست ورقات مِنْ كتابٍ تبيَّنَ أنه "تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب" للقاضي زكريا الأنصاري (ت: 926). 11- ورقة من كتابٍ في الفقه الشافعي لا يُعرف، أولها: المستنجي يقطع به الأذى عن نفسه مقدما وجوبا على طهر سلس ومتيمم لأنه. وفيه شيء مِنْ كلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج". 12- منظومة في العقائد ، تقع في (115) بيتًا، نُظمتْ سنة 1204، والناظمُ غيرُ معروف. أولها: الحمد لله على إنعامه *** ونشكرُ الله على إكرامه (سبع ورقات من القطع الصغير). كُتب في آخها: نقله سيد عبد الرحيم. ♦   ♦   ♦ وأذكِّر في هذه المناسبة بضرورة الحفاظ على ما يكون لدى الكثيرين مِنْ مخطوطات موروثة، وربما كانت تالفة التجليد، متناثرة الأوراق، وقد تحتوي على كتب بالغة الأهمية، من حيث الموضوع، أو من حيث قيمة تلك النسخ، فليُبادَر إلى ترميمها، وتجليدها، وفهرستها، والتعريف بها، وفي ذلك خدمة جليلة للعلم والدين، والله الموفق [7] . [1] في ساحل فارس. [2] كتبَها: الترابي. [3] كتبَه: مرتضا. [4] كتبَه: مرتضا. [5] كتبها الناسخ: وأعلم الله. [6] نسبة إلى قرية دجكان في ساحل فارس. [7] دبي: يوم الأربعاء 17 من شعبان سنة 1442 الموافق 31 من مارس عام 2021م.
كتاب " ملة أبيكم إبراهيم " نبذة وتعريف الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا وحبيبنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد : فإن خليل الله إبراهيم عليه السلام رجلٌ من طرازٍ فريد، كان عليه السلام قامةً سامقة، ورمزًا من رموز البشرية، وفلتة من فلتات الزمان، وعلامةً فارقة من عجائب الدنيا، وسفرًا خالدًا من أسفار التاريخ، وصفحة مشرقة في تاريخ الإنسانية. ونحن المسلمين - ومعنا البشـر جميعًا - مأمورين بالتأسي واتِّباع ملة هذا الرسول العظيم، وذلك في قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]، ونبأنا القرآن العظيم بأنه لا يبتعدُ أو ينحرف عن منهج إبراهيم عليه السلام وتفاصيل ملَّته إلا السَّفيه الضَّال من الناس، ففي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيم َ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]. ثم أمر سبحانه وتعالى أتباع النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم وهم المسلمين باتِّباع تلك الملة، بقوله تعالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 95]. فمن أجل كلِّ ذلك ولتبيان تفاصيله وشرحه أُلّف هذا الكتاب، فلقد بحث المؤلف وتحرى وتتبع فيه خليل الله إبراهيم عليه السلام خطوة على إثر خطوة، في كل مكان وزمان تواجد فيه عليه السلام، وحاول المؤلف أن لا تفوته شاردة ولا واردة من ملته الحنيفية، وقد مَنَّ الله بفضله وأذن أن يطبع الكتاب، وجاء في 496 صفحة، وبغلاف كارتوني وقياس 17 x 24، والرقم الدولي لهذه الطبعة: ISBN 13: 9789933586560 وقد قامت بطباعته دارُ المعراج الدمشقية في بيروت هذا العام 2021م. لقد بيَّن الكتاب الأحداث التي مرت بخليل الله إبراهيم عليه السلام في كلِّ من العراق والشام ومصر ومكة، ومع مختلف الأنواع من البشر؛ الزوجة والولد والحاكم الظالم وعموم الناس، وشرح الكتاب الابتلاءات التي مرَّ بها، وفصَّل خصائصه عليه السلام التي اختصه الله سبحانه وتعالى بها، وذكرَ أدعيته عليه السلام ومناسباتها ومواضعها، وعرَّج الكتاب على موقف ملة إبراهيم عليه السلام من اليهودية والنصرانية وغير ذلك من العناوين، واستنبط من كل ذلك العبر والدروس والفوائد. أما منهجية كتابة هذا الكتاب فقد كانت على طريقة الأصوليين بعناوينَ رئيسة تمثلُ فصولًا تشرح كلَّ حقبة زمنية أو حادثة أو عبرة بعنوان منفصل تسهيلًا للفهم وتيسيرًا للاستيعاب وتخفيفًا على القارئ، والكتاب يختلف في منهجه عما كُتب قبل ذلك عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأن تُسرد سيرته سردًا قصصيًا أو تاريخيًا، بأنه يتناول حياة خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم كمنهج حياة للناس، ثم هو يستنبط ويستكشف العبر والدروس منها ثم يدخل في تفاصيل ذلك كله. واحتوى الكتاب على: • المقدمة، • إبراهيم الإنسان، • ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، • الملة • الحنيفية • السَّمحة • بداية القصة من العراق • إبراهيم عليه السلام يحاور أباه آزر • إبراهيم عليه السلام يحاج النمرود بن كنعان • هجرة إبراهيم عليه السلام إلى الشام • إبراهيم عليه السلام في مصر • إبراهيم عليه السلام في مكة • إبراهيم عليه السلام يذبح ولده إسماعيل. • إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يبنيان بيت الله. • الله سبحانه وتعالى يبتلي خليله إبراهيم عليه السلام . • البراءة من الشرك أساس ملة إبراهيم. • موقف ملة إبراهيم من اليهودية والنصرانية. • خصائص إبراهيم عليه السلام . 1- اختص اللهُ تعالى إبراهيم عليه السلام بالخُلَّة. 2- إبراهيمُ عليه السلام يرى ملكوت السماوات والأرض. 3- أوجب الله سبحانه وتعالى على الناس أن يتَّبعوا ملة إبراهيم عليه السلام . 4- إبراهيم عليه السلام كان أمة. 5- اختص الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة. 6- أنزل الله سبحانه وتعالى على إبراهيم عليه السلام صحفًا. 7- جمع الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام درجتي النبي والصدّيق. 8- إبراهيم عليه السلام أول من مارس سنن الفطرة. 9- إبراهيم عليه السلام هو أول من يُكسى يوم القيامة. 10- إن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء. 11- منح الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام درجة اليقين. 12- كان إبراهيم عليه السلام شاكرًا. 13- وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام بالأواه. 14- وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام بأنه كان قانتًا لله سبحانه وتعالى. 15- وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام بالـ ( أوّاه ) . 16- إنَّ إبراهيم عليه السلام من أولي العزم من الرسل. 17- آتاه الله سبحانه وتعالى الحُجَّة. 18- إنَّ قلبَ إبراهيم عليه السلام كان سليمًا. • أدعية إبراهيم عليه السلام • أدعية إبراهيم عليه السلام بعد مناظرة أبيه وقومه. • دعوته عليه السلام بأن يُرزق الولد. • دعاؤه عليه السلام عندما ترك هاجر وإسماعيل في مكة. • أدعيته عليه السلام وهو يبني الكعبة. • الدعوة التي غيرت مسار البشرية. • الخاتمة • المصادر • محتوى الكتاب.
قصة سليمان بن داود عليه السلام (2) بلقيس والمعجزة الكبرى قال الله تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 20، 21] كان الطير في خدمة سليمان، ومِن هؤلاء الطيور الهدهد، وكان مكلفًا في البحث عن الماء، وهذه ميزة أعطاها الله للهدهد، فإنه يحلِّق فوق الأرض فيرى الماء الباطني فيدلهم على مكانه فيحفِرون ويستخرجون الماء، وقد احتاج سليمان إلى الماء للصلاة وهو في البر بمنقطع من الأرض، فطلب الهدهد ليبحث له عن الماء فلم يجده، وتهدده لهذا الغياب، خصوصًا إن كان غير مبرر، ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ [النمل: 21]، قال المفسرون عن هذا العذاب الشديد بأنه سيأمر بنتف ريشه وتركه في الشمس، وهذا بالنسبة للهدهد مؤلم جدًّا، وعلى الهدهد أن يبرر هذا الغياب بما هو مقنع لسليمان عليه السلام، وحضر الهدهد الغائب يخفق قلبه من الإعياء وكأنه كان في سفر بعيد، ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [النمل: 22]، وسأله سليمان عن سبب غيابه، ﴿ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22]. فسبحان الله! كل هذه الإمكانات لسليمان فقد غاب عنه ما كان يحدث في اليمن جناح الوطن الأيمن، سليمان ينشر التوحيد وأولئك كانوا في شرك ظاهر، قل أيها الهدهد ماذا رأيت؟ ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23]، لقد أتى بنبأ وافٍ صادق، جمع عنه معلومات مهمة تفيد في تكوين رأي متكامل حول هذا البلد، بأن هناك دولة سبأ في اليمن تُحكم من قِبل امرأة قوية - بلقيس - مطاعة في قومها، وأوتيت من كل شيء من القوة والسلطان والجيش، ودليل قوتها وفرض نظامها أن لها عرشًا عظيمًا من حيث الحجم والصنعة والترف في تزيينه بالجواهر واللآلئ والذهب والفضة، وغالبًا فإن هذا يدل على رسوخ الدولة وقوتها وحضارتها، ولكن ما هو غير مقبول من أهل هذه الدولة أنهم كانوا يسجدون للشمس من دون الله، وهذا ما أزعج الهدهدَ، فعاد لاهثًا عجِلًا ليخبر سليمان بالأمر؛ لأنه يعرف أن هذا لا يرضيه، ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، وهنا سكَن عن سُليمان الغضب تجاهه، لكنه تأجج لما سمعه عن دولة سبأ ومقدار هذا الانحراف الخطير عن المنهج الحق، وسجودهم للشمس من دون الله وسيطرة الشيطان على عقولهم وأفهامهم، فقال مستنكرًا عليهم فعلهم: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25]، وقرئ: ﴿ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25]. كان الواجب عليهم أن يدركوا من خلال العقل والتفكير بهذا الكون وما فيه ليصلوا إلى عبادة الله المستحق للعبادة حقًّا، والخبء ما هو مخبوء ومخزون من مطر وعشب ونبات وكنوز، وهم على هذه الدرجة من العيش كان عليهم أن يدركوا الخالق القدير من آثار نعمه، أما عبادة الشمس فهذا فعل من لفّهم الجهل وأطبق عليهم العمى والضلال، ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، وبعد سماع أقوال الهدهد أراد أن يتحقق من أقوال الهدهد أكان صادقًا أم كان ملفقًا لهذه القصة ومخترعًا لها، ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 28] مَن بدأ المهمة فعليه أن يكملها؛ لذلك اختاره سليمان ليكون سفيره إلى قوم سبأ، وأوصاه بأن يلقي إليهم كتابه ثم ينتظر رد فعلهم وتصرفهم إزاء هذا الكتاب، فألقاه إلى بلقيس والكتاب ممهور بالخاتم، وهو في فخامته ملوكي يستدعي النظر فيه والرد عليه، والتزم الهدهد بتوجيهات سليمان، ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 29 - 31]، لقد عرفت بلقيس أن ما ألقي إليها هو كتاب كريم من ملك له شأنه وقوته، ويبدو هذا في شكل الخطاب ومضمونه، فلأول مرة تسمع بالتسمية، وفيها قوة، لم يدعُ سليمان لنفسه، وإنما بدأ بذكر الله الرحمن الرحيم، ثم دعاهم إلى أن يأتوه مسلمين؛ أي: مستسلمين مذعنين لله بالإسلام، وله بالطاعة والولاء، استمع الهدهد إلى عرض الملكة لفحوى الخطاب بموضوعية، وطلبت من مجلس الأعيان والقادة إبداء الرأي: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 32] في هذا الأمر الخطير لم تشأ أن تنفرد بالقرار، وإنما أشركت فيه أهل الرأي؛ لكي يتحملوا معها المسؤولية، فكان جوابهم: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [النمل: 33]، كان في ردهم كياسة وحُسن تصرف؛ فقد عرضوا ما عندهم من قوة وجيش وشجاعة وعدم الخوف من دخول الحرب، فهم على جاهزية عالية من الاستعداد، وهذا ما يخصهم، وأما القول الفصل فقد جعلوه في يدها وهم لا يخالفون لها أمرًا فيما تتخذه من قرار، وهنا لم تشأ أن تورط قومها بحرب غير محسوبة، فهي لا تعرف قوة خصمها، وتخشى الزلة؛ لذلك لجأت إلى الدبلوماسية بعد أن قررت قاعدة مهمة في الحرب، ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 34]، وبعد أن مهَّدت بما ستقوم به من مبادرة دبلوماسية تعرِف فيها عدوها بشكل أوضح وتكسب الوقت لمزيد من الاستعداد، ولكي يكون في مبادرتها إقناع لقادتها، أفصحَتْ عما اعتزمت القيام به، ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35]، وقالت لمستشاريها: إن كان ملكًا فستعجبه الهدية ويقبلها منا ويكف عنا شره، وإن كان نبيًّا فلن يقبلها، ولن يقبل منا إلا أن نتابعه على دينه، وغادر الرسل محملين بالهدايا، وأخبارها قد وصلت سليمان قبل أن يتحركوا؛ فالهدهد نقل له كامل التفاصيل، وجاء الوفد يحمل إلى سليمان الهدايا الفاخرة من نفيس الجوهر واللؤلؤ والذهب، قال للوفد: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: 36]، قال سليمان مخاطبًا رئيس الوفد بعد أن مثل بين يديه: إن ما آتاني الله خير مما آتاكم، فانظر إلى قوتنا وآثار نعم الله علينا وعلى بلادنا وما عندنا من الجنود والأموال، ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37]، وعاد الوفد إلى بلقيس وقصوا عليها خبر سليمان ونبوته وما عنده من قوة وسلطان مؤيد من الله، فتأكدت أنه نبي لا تغريه الدنيا ولا المال، فأرسلت إليه بأنها قادمة مع وفد رفيع المستوى من رجال الدولة والمستشارين، وفي اليمن أنابت مكانها على المملكة وغلقت الأبواب على عرش ملكها ريثما تعود، ووكلت به حراسة قوية، وانطلقت إلى الأرض المقدسة تقابل سليمان الحكيم، ورصد سليمان قدومها وتتبع منازلها يومًا بيوم فكان الجن يأتونه بهذه الأخبار، حتى إذا اقتربت من بلاده، ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]، وكانت فكرةً منه قوية يريد بها إحداث المفاجأة التي تثبت لها قوته وسلطانه، وأنه نبي مرسل، أعطاه الله من كل شيء، فلا يقهره عدو، فاختار أخذ عرشها لضخامته وعظمه، ولأنها وكلت به من يحفظه لها حتى تعود، فأخذُه بهذه الطريقة وتركيبه في مملكته وهو على حاله دون تغيير به أو مساس بأركانه معجزة خارقة، وفيه من المفاجأة لها ما يجعلها تستسلم وتسلم هي ومن معها بلا تردُّد، وبوجود عرشها في بلده يجعلها تعيش أجواء بلدها فترة إقامتها عند سليمان فكأنها في بيتها ودارها، ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ [النمل: 39] قوة خارقة مع تعهد بالحفاظ عليه كما هو، ولكن سليمان يريد إحضاره بسرعة أكبر ليعرف مدى جاهزية من يخدمه وسرعة إنجازهم للأعمال الخطيرة، ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: 40]، وهذا في سرعة البرق، فلا يتصور الإنسان سرعة تفوق ذلك، فأذن له، ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، فلم يُحضره بهذه السرعة عفريت، وإنما أحضره رجل مؤمن، هو آصف بن برخيا، كان صديقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى، ﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 41]، وهنا أمَر بإجراء بعض التغيير على عرشها غير المخل بشكله العام، يريد بذلك امتحان ذكائها وقوة ملاحظتها، ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42] ترى هل نجحت في الامتحان فطنةً وذكاءً؟ وإلا لما كانت ملكة مطاعة في قومها، فمنذ ورد عليها كتاب سليمان تصرفت تصرف العاقل الحكيم، ولكن ما شأن عبادتها للشمس، أليس من يفعل هذا يكون في درجة منحطة من سمو التفكير ورقي الروح وانطلاقة العقل؟! ﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [النمل: 43]، وقد منعها اعتقادها السابق وهو عبادتها للشمس من الاهتداء للإسلام؛ لأنها وُلدت في بيئة كافرة؛ أبًا وعشيرة، واليوم رأت البرهان والنور والضياء والمعجزات الباهرة التي لا تتحقق إلا بقوة قاهرة غالبة من خالق هذا الكون؛ لذلك أقبلت على الإيمان، وتركت ما كانت تعبد من دون الله، وأعلنت إسلامها، ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، كان بناءً في غاية العجب والابتكار والفن الحالم، فكانت مقدمته من زجاج تشف عن مياه تسبح فيها الحيتان؛ لذلك لم تتمالك عندما وضعت رجلها على الزجاج إلا أن رفعت ثوبها خشية البلل، فأغضى سليمان الطرف، وبادر: ﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]؛ أي: لا تخافي البلل، فهذا صرح أملس من الزجاج شفاف، وكان هذا أيضًا من الأمور المبهرة لبلقيس؛ لذلك لم تتمالك من شدة إعجابها ويقينها أنها بحضرة نبي مؤيد من الله إلا أنها أفصحت عن خطأ ما كانت عليه، فأعلنت إسلامها، ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، وهذا غاية في الاعتراف بالخطأ والتكفير عما فات بإعلانها الإسلام قناعة وعقيدة راسخة بدَّدت ظلام السنين التي عاشتها مع شعبها وهي تظن أنها على طريق سوي، وهكذا دخلت اليمن في حظيرة الإسلام، وشمِلتها دعوة التوحيد، الآيات من سورة النم ل: [16 - 44]. حول ما ورد في هذه القصة: • تكلَّم المفسرون كلامًا كثيرًا عن الريح التي حملت سليمان، ومنهم من قال: بساط الريح، والأولى أن يقال كما ورد في النص: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [سبأ: 12] تأتي الريح وفق طلب سليمان فتحمل ما يأمرها أن تحمله وتمضي بالحمولة حيث أُمرت، وأن غدوة منها في قطع المسافة تساوي سفر شهر على الإبل وكذلك الروحة، فالغدو: ما بين الصباح إلى الزوال، والرواح: ما بين الزوال إلى الغروب. • تكلم بعض المفسرين عن النملة التي حذرت قومها من جنود سليمان، فقالوا: اسمها خرسا، وقيل: حرس، وقيل: كانت رئيستهم، وقيل: كانت عرجاء، وقيل: كانت بحجم الذئب، وشطح الخيال بهم بعيدًا، وقد أخذنا من أخبارها قدر ما يفيد. • قيل عن بلقيس: كان أحد أبويها من الجن، وهذا لا يصح، فإذا اختلف الجنسان فلا حمل من معاشرة أحدهما الآخر، وقد يحدث إذا تقارب الجنس؛ كالحمار والحصان، ينتجان البغل، والبغل لا يخلف بعضه من بعض، وكالذئب والكلب، ولكن هناك بون شاسع بين الإنس والجن: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، وقيل: كانت كثيرة الشعر في جسمها؛ ولهذا موَّه لها الصرح لتكشف عن ساقيها ويرى صدق ما أخبر عنه، ومر في الصحيح أنه غض بصره عندما كشفت عن ساقيها، وقيل: طلب من أهل الصناعة أن يصنعوا لها ما يزيل الشعر، صنعوا له "النورة"، وهي مادة قلوية تعمل على إتلاف الشعر، وقد طورت مع الزمن، وهي في عصرنا تباع تحت مسميات عديدة لإزالة الشعر، وورد بخبر لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلى بالنورة، وأخرج أحمد عن عائشة قالت: "اطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة، فلما فرغ منها قال: ((يا معشر المسلمين، عليكم بالنورة؛ فإنها طلية وطهور، وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم) )". • كما قيل بأن سليمان تزوجها، وقيل بأنه زوجها أحد أهل الشرف في قومها "ذا تبع" ملك هَمْدان، وأعادهما إلى اليمن، وجعله ملكًا على اليمن، وكلف أمير جن اليمن ليأتمر بأمره، فساعده، وصنع له الصنائع في اليمن، وبقي كذلك حتى وفاة سليمان.
المتفق والمفترق من كنى الفقهاء لعبد السلام الشويعر صدر حديثًا كتاب "المتفق والمفترق من كنى الفقهاء"، تأليف: أ.د. "عبد السلام محمد الشويعر"، نشر: "دار ركائز للنشر والتوزيع". جمع الكاتب في هذه الدراسة الكنى التي يذكرها الفقهاء في أمات كتبهم مطلقة من غير تقييد، وكان يحمل هذه الكنية أكثر من شخص. فلم يذكر - على سبيل المثال - من اشتهر بكنيته في الفقهاء دون غيره كأبي حنيفة الإمام، وأبي يوسف صاحبه. فأصبحا شرطين في كتابه هذا؛ أن تصدق الكُنية على أكثر من شخص، وأن تذكر في كتب الفقهاء على أكثر من فقيه. ويرى الباحث أن هذا المبحث من دقيق العلم لا من حشوه؛ وقد استدل على أهميته بما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال: ((من تعلم علمًا فليدقق لكيلا يضيق دقيق العلم) ). وقد جعل الكاتب بين يدي هذا البحث مقدمات ثلاث: المبحث الأول: معنى المتفق والمختلف. المبحث الثاني: أهمية معرفة هذا الموضوع. المبحث الثالث: الدراسات السابقة في الموضوع. ثم شرعَ في بيان ما وقف عليه من الكنى المتفقة في الرسم، والمختلفة في المسمى. ونجد أن معرفة هذا النوع من العلوم في الفقه بالخصوص من الأهمية بمكان؛ وذلك أن معرفة منشئ القول وقائله من أهم وسائل المقاصد لدى العقلاء في جميع الفنون؛ لما يبنى عليه من فوائد وآثار لا تخفى. وقد بني عليه التصنيف في تواريخ الرجال وتراجمهم ليتصور القائل ويعرف حاله؛ لأن القول يزدان بقائله. وهذا النوع من العلوم وهو "المتفق والمختلف" من هذا الباب، ومعرفته تفيد التمييز بين المشتركين باللفظ في الكنى والألقاب. لذا قال السخاوي في "فتح المغيث" عن معرفة "المتفق والمختلف": (وهو نوع جليل يعظم الانتفاع به.. وقد زل فيه جماعة من الكبار؛ كما هو شأن المشترك اللفظي في كل علم) . وقد عني بعض الفقهاء بذكر كنى الفقهاء بالخصوص: كابن أبي الوفاء القرشي الحنفي في كتابه "الجواهر المضية"، وغيره. ويذكر الكاتب أن المطالع للكثير من الكتب المحققة، بل وبعض الرسائل الجامعية يرى الخطأ والخلط بين الأسماء والكنى، من غير تمييز للقائل ولا توثيق للمقول، وأن هذا من الأخطاء الجسيمة عند تحقيق هذه النصوص العلمية، والنقول الفقهية بالخصوص. ورأى الكاتب أنه لا يوجد كتاب مفرد في هذا الموضوع، وهو المتفق والمختلف من أسماء الفقهاء خاصةً، ولم يتطرق له في باب مفرد كذلك في الكتب، وإنما هي نتف في كتب التراجم والفقه. وقد تقصى الكاتب في كتابه هذا جملة منوعة من كنى الفقهاء المتشابهة المشتركة حسب الترتيب الأبجدي، وجاءت دراسته كشافًا بالغ النفع للمهتمين بضبط الأسماء والألقاب للفقهاء على وجه الخصوص. والكاتب هو أ.د. "عبد السلام محمد الشويعر" المدرس في الحرمين الشريفين، من مؤلفاته: • "إصلاح لحن المؤذنين". • "فقه صوم المريض". • (تحقيق) كتاب: "فروع الفقه" ليوسف بن عبدالهادي الحنبلي (ابن المبرد) . • "مختارات من خطب الجمعة" - إعداد أ. د. عبدالحليم مازي. • "التتبع لأوهام يحيى بن يحيى الليثي في روايته لموطأ الإمام مالك". • "مجموع فيه أربع رسائل للشيخ موسى بن أحمد الحجاوي الحنبلي" (تحقيق) . • شرح منظومة الآداب لابن عبد القوي والمعنون بـ (فتح الوهاب شرح الآداب) للحجاوي (تحقيق) . • "المسؤولية الجنائية للشخصية المعنوية في الفقه" - بحث. • "الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية" ومعه تحقيق رسالة في تجريد أقوال داود الظاهري من كتب الحنابلة، للشطي. • "شرح طهارة المريض وصلاته". • "التوقيت الحولي في الزكاة وما يترتب عليه من آثار". • "أثر التأجيل في إسقاط زكاة الدين عن الدائن وتطبيقاته المعاصرة". • "عقد الكفالة وتطبيقاته الحديثة"- (بحث) . • "التجريد لأحاديث العمدة في الفقه لابن قدامة". • "أثر عمل المرأة في النفقة الزوجية"- (بحث) . • "بدائل التعاقد بالسعر المتغير". • "فقه حج المريض". • "الإيضاح لأحكام وليمة النكاح". • "استلحاق مقطوع النسب"- بحث. • مختصر (أبي بكر خوقير) في فقه الحنابلة (تحقيق) . • الفارضية (في علم الفرائض والمواريث) لابن الفارضي (تحقيق) .
العقل العربي وصناعة الحضارة لا أحد يستطيع أن ينكر أن الإنسان عبر التاريخ اجتهد في سبيل إعمار الأرض وبناء الحضارة؛ تسهيلا للحياة، وتوفيرًا للحاجات التي فرضتها متغيرات التاريخ، فبنى واخترع وأبدع ما جادت به القرائح عبر العصور، فراكم التجارب وألهم السابقُ اللاحقَ، وتسلسل النتاج وكمل بعضه بعضًا فكانت المنجزات التي عرفناها ولازلنا نشهدها في كل آن وحين، إنها الحضارة تراكمات متوالية أفرزتها عبقريات فذة عبر الملاحظة والتأمل والتفكير العميق والتنظيم والابتكار.. مما تستطيع المعرفة صناعته وإفرازه في واقع الحياة، لذلك فنظرتنا إلى صناعة الحضارة عبر التاريخ جعلتنا نتتبع بعض السيناريوهات المتقلبة بين العقل الغربي والعقل العربي في التعامل مع المعرفة. إن الناظر لمنجزات الحضارة العربية الإسلامية سيحكم على العبقرية العربية في كل مجالات العلوم (الفلك، البصريات، الكيمياء، الجغرافيا، الرياضيات،..وغيرها) لكن النظر إليها والتغزل بما جادت به قرائح العلماء ليس كافيًا لأن الأمر يتطلب إدراكًا للمسببات التي صنعت العقل العربي خلال هاته المرحلة من التاريخ، فالترجمة وإيلاء العناية الكاملة من السلطة الحاكمة وتمازج الثقافات عوامل أسهمت إيجابًا في تفتيق العبقرية العلمية، التي نهل منها العقل الغربي وارتوى من مائها العذب بعد الحروب الصليبية فاتخذها منطلقًا في عصر النهضة لبناء الفكر الغربي وتشييد أساساته القوية التي اكتملت بعد قرون عدة أذكاها الوعي الحقوقي مع مفكري الأنوار وتطور الفلسفة الحديثة، لتشهد أوروبا تحديدًا انطلاقتها القوية في المجال العلمي بمختلف فروعه وإن كان لسلطة الكنيسة أثرها في المنظور العلمي في مرحلة سابقة من التاريخ الأوروبي. نعم، لقد سحب البساط من تحت أقدام العقل العربي حينما كان قادرًا على توجيه دفة التاريخ وقيادة الحضارة الإنسانية، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ضائعة تمامًا بين براثن الفيودالية والإقطاعية المظلمة،.. لقد كان بإمكان العقل العربي أن يتجنب الخطأ التاريخي القاتل حينما أهمل المصنفات والمخطوطات الرائعة والثمينة ليتركها بين يدي الغربيين الذين وجدوا فيها الطريق مُعبَّدًا عبر المنهج العلمي الدقيق وآليات الاشتغال العلمي في المختبرات، فينبغ منهم ( غاليليو، وكيبلر، ونيوتن ) وغيرهم ممن قادوا الثورة العلمية نحو الأمام وشيدوا المجد للعقل الغربي، وهم يعلمون تمام العلم أن ثورتهم هاته لم يكن لها أي وجود لولا مصنفات العرب، لذلك كان على العقل العربي أن يتدارك خطأه الجسيم عبر مرور التاريخ، لكن تماديه في صرف النظر عن إنجازات علمائه زادت الطين بلة وأغرقته في غياهب التخلف في الوقت الذي اجتهد فيه العقل الغربي وهو حانق أشد الحنق على ثقافتنا ومنجزاتنا العظيمة التي أذهلته وجعلته يدرك أن العقل العربي يمتلك من القوة ما يؤهله لقيادة الحضارة وصناعة التاريخ، مما جعله يهيئ كل الوسائل لتدمير هذا العقل ومنعه من رؤية الحقيقة وتحويل عبقرياته إلى وسائل مسخرة عنده مع وأد أسباب صناعة العقل وتطوير الفكر وتحفيز القدرات الإبداعية. إن العقل الغربي لم يجتهد فقط في صناعة المعرفة العلمية المُمَكِّنة من التحكم في زِمام الأمور، بل إنه اجتهد أكثر في قمع العقل العربي ومنعه من بناء الذات متجهًا نحو المنبع الصافي ليسده فيحْظُرَ وصول الماء إلى الأفواه، إنه عقْلٌ غربيٌّ غايةٌ في الدَّهاء، فَعَل كل ما يستطيع من أجل الإبقاء على نفسه زعيمًا بعيد المنال متعسر البلوغ، في ظل استمرار العقل العربي وتماديه في ارتكاب نفس الأخطاء، التي لم يستفد منها عبر التاريخ، لأن صناعة الحضارة ليست أمرًا سهلا وسريع التحقق، وإنما يستلزم ذلك عقودًا طويلة وجهودًا مضنية وسرائِرَ صافية تبتدئ من نقطة الصفر، وهي التصالح مع دعوة الإسلام إلى إعمار الأرض وبناء الحضارة عبر مفهوم الخلافة، تصالح لابد أن يقوم على أساس تهذيب الأخلاق التي تحتاج شجرتها للتشذيب في زمن تردت فيه القيم الجميلة التي دعا إليها الإسلام، وتصالح حقوقي بين الأنا والآخر تتجلى فيه العدالة والحرية في ضوء المنهج الرباني الذي ارتضاه الله تعالى للإنسان المسلم على الأرض، وتصالح معرفي يعود فيه العقل العربي إلى مبدأ لا محيد عنه وهو صناعة الإنسان العارف المثقف، المالك لفكر متحرر قادر على الإبداع وصناعة الذات عبر ترسيخ حب المعرفة والحث عليها وفقا لمناهج تربوية سليمة قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة لتأهيل الإنسان ليكون قادرًا مقدرة حقيقية على صناعة الحضارة. إن هاته المصالحات لا مفر منها، وهي أساسًا تنبني على جزئيات لا يمكن للعقل العربي أن يتجاوزها لأنها لبنات حقيقية وضرورية لصناعة الحضارة وأيُّ تَعَدٍّ لخطوطها نحو صناعة المعرفة لن يجدي بالنفع الكامل إذا لم تتكامل أشكال المصالحات وتتظافر فيما بينها متعاونة في دائرة واحدة.
المفهوم الكوني للأيديولوجيا المفهوم الكوني للأيديولوجيا يتمثَّل بالنظرة التاريخية للعالَم، بعيدًا عن التعصب السياسي لحزب أو اتجاه، وهذا الارتقاء من الخاص إلى العام، ومن الجزئي إلى الكلي، ليس معناه الشمولي بالمفهوم الأيديولوجي الحزبي؛ وإنما بمفهوم الرؤية للعالم. ومن هنا يتبيَّن الفارق بين المفهوم السياسي والكوني للأيديولوجيا، بوصف الرؤية للعالَم مجموعة من الطموحات والأحاسيس والأفكار التي تجمع بين أعضاء جماعةٍ ما، غالبًا ما تنتمي إلى النخبة المثقفة، التي تتجرد من أية نزعة حزبية أو نفعية، وتعترف بالأيديولوجيات الأخرى وما فيها من مزايا. المهم أن الرؤية للعالَم تتجاوز الرؤية الجزئية - الطبقية أو القومية - من خلال منظور إنسانيٍّ قِيَمي بقصد إدراك سيرورة التاريخ وتحوُّلاته؛ فالفرد بإمكانه أن يتجاوز مصلحته داخل الجماعة، وينظر إلى ذاته وإلى أيديولوجيته بصفتها واحدة من الأيديولوجيات، ثم ينتقل إلى الأيديولوجيات كرؤية شمولية، وهذا يحتاج إلى أفراد بلغوا مستوى عاليًا من الثقافة والموضوعية تؤهِّلهم لإصدار أحكام وتقييمات حول العالَم؛ لإدراك دور من أدوار التاريخ كقصدٍ يتحقق عبر الزمن؛ كأن يتصدى عالِم أو فقيه أو مفكِّر لمنعطف تاريخي أو دراسة ظاهرة الاستعمار العالمي بحياد تام. وهذه النظرة لا تتحقَّق إلا عند العلماء والكتَّاب الكبار، في حدود النسبيَّة التاريخية بوصفها مرجعًا وتفكيرًا، وفي مجال الندوات الثقافية والمؤتمرات العالمية التي تتناول قضايا كونية؛ كالحرب والسلام، ومستقبل العالم.
محاذير العولمة تعتبر الخصوصية، بمفهومها الأهم، هي أول محاذير العولمة، بحكم أن العولمة قد تسعى إلى القضاء على الخصوصية.. تلك المحاذير التي يتحدَّث عنها محسن أحمد الخضيري، والتي يمكن إجمالها في الآتي: 1- محاذير انعدام الخصوصية وشيوع العمومية. 2- محاذير "التغريب" والاغتراب عن الذات. 3- محاذير غياب الوعي والاستلاب من الداخل. 4- محاذير التراجُع والارتداد والنكوص والجمود والتحجُّر. 5- محاذير التماثُل في مجالات إدارة الأعمال والمال والتجارة والمعلومات. 6- محاذير حرِّية الحركة وإعطاء المعنى والتفاوُض عليه. 7- محاذير اتِّساع الفجوة الاجتماعية الاتصالية. 8- محاذير تسارُع الحراك الاجتماعي. 9- محاذير التخلِّي عن الواجبات والمسؤوليات، سواء من جانب الدولة أم من جانب الأعمال. 10- محاذير الاطِّراد المتنامي والانخراط المتناظم في إطار مفروض بقوة فوقية [1] . في هذا الصدد يقول الخبير الاقتصادي عبدالعزيز بن إسماعيل داغُستاني عن العولمة: "إن مواجهة الإفرازات العقائدية للعولمة الغربية لا تكون بالرفض السلبي، أو بالشكوى والتحذير السطحي، بل بالتعامل الموضوعي والجدي معها، والعودة إلى مكنون الفكر والتراث الإسلامي وإعادته إلى موقع الريادة والمقدمة، وطرحه ليس كبديل معاصر بل كأصل تغافَل الناس عنه، وانغمسوا في بدائل واهنة، لا ترقى إلى مضمونه، فإن مواجهة التداعيات المادية للعولمة لا تكون هي الأخرى ذات جدوى إذا لم تقترن بعمل منهجي لإصلاح هيكل الاقتصاد العربي، ليكون شريكًا فاعلًا في رسم معالم العولمة وصانعًا لاستحقاقاتها، وهي معالم ما زالت غضة، تستوعب القادرين على تعديل معالمها وتوجُّهاتها،والقدرة مرحلة متقدِّمة من صراع الإنسان مع قدراته الذاتية والمكتسبة، وهو صراع حضاري لا يمكن التغلُّب عليه بالانكفاء والتخاذُل والرفض" [2] . وهذا ما يؤكده كذلك عبدالحي زلوم في كتابه: نذر العولمة [3] . [1] انظر: محسن أحمد الخضيري. العولمة الاجتماعية - القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2001م - ص 221 - 232. [2] انظر: عبدالعزيز إسماعيل داغستاني. العولمة: المبدأ والبعد الاقتصادي - ص 183 - 187 - في: خواطر اقتصادية - الرياض: دار الداغستاني، 1423هـ/ 2003م - 200ص. [3] انظر: عبدالحي زلوم. نذر العولمة: هل يستطيع العالم أن يقول: لا للرأسمالية المعلوماتية؟ - ط 2 - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م. وانظر بالخصوص: الفصل الثاني والعشرين: المطلوب: بالله، لا بالأموال، ثقتنا - ص 377 - 387.
ضيفٌ ثقيلٌ في بَيتِنا (كوفيد 19) صداعٌ شديدٌ في الرأس ودَوخة، لعلّه الزكام أو الكريب (الأنفلونزا) ! سأشرب عصير الليمون والبرتقال بعد الإفطار. كان هذا ما أَلمَّ بي في العشر الأول من شهر رمضان، حيث شعرتُ بأعراض الكريب يوم الاثنين وأنا في عملي في المدرسة، وعندما رجعتُ البيت هرعتُ إلى الفراش لأرتاح، ولم تكن عادتي النوم وقت العصر، وتناومتُ فلم أستطع الاستسلام له، فالنوم يهرب من عيني، ولكن التعب أوهمني بالنعاس، وبعد المغرب اشتدّ عليّ الصداع والدوار وشعرتُ ببردٍ جعل فرائصي ترتجف، وهممتُ أن أرسل رسالة لمدير المدرسة أعتذر له عن المجيء يوم الثلاثاء، ومع ذلك أجّلتُ رسالتي، وعند السحور وصلتْني رسالة من المدير ذكر فيها أنّ حالات المرض زادت بين الطلاب، وظهرتْ الكورونا على بعضهم، فنصحنا بالبقاء بالبيت حِفاظًا على صحتنا، فقلتُ في نفسي: الحمد لله جاءتْ على قدميها. وفي صباح الثلاثاء نويتُ الذهاب إلى المركز الصحي (المستوصف) لتصفَ لي الطبيبةُ هناك بعضَ الأودية للكريب كما جرى معي قبل شهور، فقد تماثلتُ للشفاء بعد يومين من تناولي بعض الأدوية في ذلك الزمن والحمد لله، وفعلًا كتبتْ لي أربعة أدوية: فَوّار فيتامين، ونوعين من حبّ الالتهاب، وبخاخ للفم، وبدأتُ بأخذِ الدواء من نفس اليوم، فقد كانت البرديّة تجعلني أرتجف بشدّة وكأننّي أرقص، ولذلك أفطرتُ لأهدَأ وتذهب عني الرجفة، وصرتُ أتناول الدواء بانتظام، فذهبتْ عنّي البرديّة فقط دون غيرها من الآلام، وقد رحتّ أتعرّقُ كثيرًا فحاولتُ طمْرَ جسمي باللّحافِ ولكن لم أتحمّل الوجع فأتكشّف بسرعة وأنهضُ دون أن أسمح لتلكَ الالتهابات الخروج مع العرق، ومضتْ عِدّة أيام دونَ أيّ تحسن بل زادتْ آلامي وكثرتْ شكايتي، فالصداع زاد بقوة ورافقهُ ألم غريب في الظهر، ثمّ بدأ الوجعُ ينزل إلى أسفلِ الظهر عند الورك فالفخذين والركبتين، وعمّ جميع بدني، وهنٌ شعرتُ خلاله بأننّي لا أقوى على الوقوف أو الحركة، وزاد سُعالي وكأنّه ينتزعُ روحي من عظامي، كذلك أحسستُ مغارةَ حلْقي تتضيقُ تدريجيًا فلا أكاد أطيق بلعَ ريقي، ولم يبقَ في جسمي موضع إلا وبه ألم حتى مَفاصل أصابعي، وكانت أوجاع الظهر والركبتين في الليل تزداد بشكل غريب فقد كان يَنْسلُّ من عظامي كأنّه تيارًا كهربائيًا يجري فيها، فلا أستطيع الاستلقاء ولا القعود ولا الوقوف، فلا يَخفّ الألمُ إلا بالمشي، فأدورُ في البيت كبعيرِ الطاحون حتى تتعبني الحركة، فأكاد أنام ماشيًا، وعند السحور أتناول دوائي وأصلّي الفجر، ثمّ أحاول الاحتيال على نفسي بالاسترخاء لأنام، لكن دون جدوى فلا أستطيع ذلك حتى طلوع الشمس، وبعدها أستسلم للنوم نصف ساعة أو ساعة على الأكثر، ثمّ أقفزُ كمن وُخِز من أسفله بإبرة، أو لدغته عقرب أو حيّة لعودة الألم في ظهري ورجلي فأعودُ للمشي ثانية، وبقيتُ هكذا سبعة أيام، وفي اليوم السابع اتصل بي أربعة من الأخوة الأساتذة في المدرسة والجامعة للاطمئنان عليّ وعندما عَلِموا حالي وسمعوا سُعالي نصحوني جميعًا بالذهاب الى المستشفى وإجراء تحليل الكورونا، وزاد الوهم لدّي بعد إصرار جيراني بضرورة زيارة المستشفى وكذلك قال صديق لي أيضًا، فالجميع يُحذّرني من البقاء بلا علاج، فإنّ هذا المرض ينزل فجأة على الرئتين فلا يقدر المريض بعدها على النَفَس فتخرج روحه مع أخر زفرة. وفي ظلّ هذا النصح والضغط من هؤلاء جميعًا شعرتُ في تلك الليلة أنّها آخر ليلة لي، وأنّ هؤلاء جميعًا ما قاموا بنصحي إلا لعلمٍ قذفهُ اللهُ في قلوبهم أننّي في خطر حقيقي جعلهم يُلحّونَ عليَّ بالأمرِ لألجأ إلى الطبيب، وفعلًا.. ففي تلك اللية ضاقَ نَفَسي وصرتُ أُتمتمُ أتفكّر بوصيتي التي سأكتبها، وغدوتُ في حال وكأنني أستضيف ملكَ الموت، سبحان الله ليلة غريبة قضيتها! وبعد الاستغفار والتوبة والرجوع الى الله، نويت الذهاب إلى المستشفى إن طلعت عليّ شمس هذا اليوم، ولا أنكر أنّ أكثر من أخ وصديق عرض عليّ المساعدة ليأخذني إلى المستشفى خلال هذه الأيام اللهم زِد وبارك في أمثال هذه الثلّة الطيّبة، وفي الصباح قمتُ وجهزتُ نفسي للخروج، وعند الظهيرة اتصلتُ بأستاذ أخ لي جزاه الله خيرًا ليأخذني بسيارته إلى المستشفى، وركبت سيارته من الخلف خوفًا عليه إذا كنتُ مَكْرُونًا، وذهب بي إلى مستشفى الجامعة، فدخلنا قسم الإسعاف وكان فارغًا وهادئًا ونظيفًا فأخذتني الممرضة لتجري لي الفحص، وهو عبارة عن عود يشبه نكّاشة الأذن ولكن أطول منه قليلًا في رأسه قطن، فأدخلتْ العود في فمي فكأنني شعرتُ به يغمزُ معدتي، ثمّ أدخلتْ عُودًا آخر إلى أنفي فغرزته حتى أظنّه وصل إلى الصمام التاجي في القلب ثمّ حرّكتهُ وأخرجتهُ بعجلة كصياد أحسّ بأنّ صنارته قد تحركتْ في الماء فإنّه يرفعها ويخرجها دفعة واحدة ليخترق رأسها فمَ السمكة، ثمّ وضعتْ الأعواد في أنابيب التحليل، وهذا الإجراء يجعل المفحوص يحسّ بأنّ الدنيا قد لَفّتْ به فيشعر بالغثيان، وتبدأ العينان بالدمع والصور أمامه تدورُ كراكبِ دويخة العيد (أرجوحة مستديرة يجلس فيها مجموعة من الأطفال تدور بهم أيام العيد) ، والنجوم تطوف حول رأسه يكاد يفقد توازنه، وكنتُ أظنّ الممرضة من جماعة (ملائكة الرحمة) ولكنّها بعد هذا الفحص تحولتْ إلى الفريق الآخر، فقد بالغتْ في فحصها حتى آذتني وكأنّ لها عداوة وثأرًا معي فأرادتْ أن تَقتصَ منّي، وقد شعر الأخ الذي رافقني بقسوة الممرضة في فحصها، فتصبّرتُ وقلتُ في نفسي أعانها الله وهداها وأصلحها. وقالت لي: اذهبْ إلى البيت، وانتظرْ نتيجة التحليل، فستأتيك رسالة على هاتفك بعد ساعات، وكانت مُدّة الفحص كلّه خمس دقائق في الوقت، وساعات في الألم وخاصة فحص الأنف. عدتُّ إلى البيت، وأخذتُ انتظر النتيجة، وبعد الإفطار وصلتْ النتيجةُ بالإيجاب، يعني أنني حامل.. بذلك المرض (كوفيد 19) وهنا بدأ الاستنفار في البيت، فرفعوا الجاهزية القصوى، ولم ينقصنا إلا صافرات الإنذار، فالجميع آخذ يبتعد عني ويخاف مني، بل ويدفعني ويطلب مني عدم الاقتراب منه، والله أمر عجيب، صار لي سبعة أيام وأنا مريض، والجميع كان يعرف بل ويوقن أني قد تَكَورَنْتُ (فعل الإصابة بالكورونا) ومع ذلك لم يحتاطوا أو يحذروا كما فعلوا الآن، فرسالة صغيرة من المستشفى على الهاتف جعلتهم ينتفضون فيقومون ولا يقعدون مذعورين، يا الله ما أشدّ فعل السلطة والقانون والدولة بالعباد! ففي هذا الموقف أيقنتُ وأنا أتبنّى هذا الرأي أنّ السلطة والحكم لهما الأثر الأكبر على الشعوب لا العكس .. وبعد نصف ساعة اتصلتْ بنا امرأة وقالت أنّها ممرضة من الفريق الطبيّ المتنقل، وستزورني في البيت لتعطيني الدواء، وترشدني ببعض الإرشادات الخاصة بهذا المرض.. وفعلًا جاء فريق طبّي مُكوّن من ممرضتين وسائق ولم يصعدوا إلى بيتي بل أنزلوني إلى أمام البناء، فأعطوني ورقة إرشادات الكورونا، ودواء واحد عبارة عن أربعين حبّة، على أن آخذ ثمان حبّات الآن (كحال الذي يريد الانتحار) ، وفي الصباح ثمان حبّات، وفي المساء غدًا ثلاث حبّات، ثمّ بعد ذلك ثلاث حبّات صباحًا، وثلاث حبّات مساء .. كما قالت لي: إيّاك والصيام، فأنتَ بحاجة إلى السوائل بشكلٍ كبير، وعليك أن تعتزل في غرفة وحدك، ولا تختلط بأهل البيت، ثمّ أخذتْ أسماء أهل البيت، فكان ابني الكبير مسافرًا في ولاية أخرى، ورفض ابني الأوسط الدخول في الحظر فاستأذن صاحبة بيتي والبناء لينام في البيت الأرضي الفارغ، وهكذا بقي عدد المعزولين في البيت أربعة.. فممنوع أن يتخطىّ أحدهم عتبة الباب لعشرة أيام، ومن يخالف عليه جزاء 3000 ليرة تركية يعني (375 دولار) تقريبًا.. وكانت الطبيبة أو الممرضة في المركز الصحي (المستوصف) تتصل يوميًا مشكورة لتسأل عن حالي وحال أهل البيت جميعًا، بينما كانت تأتي دَوريّة من الأمن تتفقدنا بين الحين والآخر (لا كدوريات الأمن المجرمة في سورية) ، ليتحققوا من التزامنا بقرار الحظر، وبأننا لم نخرج منه أبدًا، فكان عنصر الأمن يطلب رؤية جميع أهل البيت من الشرفة للتأكد منهم. إنّ هذا العلاج الذي أعطوني إياه لا أعرف ما هي فائدته، فلم ألمس به أيّ تحسنٍ أو تخفيف أو تسكين للآلام على الإطلاق، فكنت أشربه وأنا مُكره وأعرف أنّه لا فائدة له، فإلى الآن لا يوجد أي علاج في العالم للكورونا، ولكن كما يُقال في المثل: "الغريق يتعلّقُ بقشّة" وكذلك الموجوع يتعلق بحبّة، وبقيتْ هكذا معاناتي أيامًا، حتى نصحني أخ لي بأن آخذ دواء (...) مُسكّن عام للجسم، فهو رخيص ومتوفر في كلّ مكان، وما كنتُ أعرفه من قبل فلستُ من عشاق الأدوية، وفعلًا لقد كان له أثر ملحوظ في تخفيف الألم لا في زواله، وبعد ذلك الحمد لله استطعت الرقاد قليلًا في الليل. لقد كان لهذه العُزلة محامد ومساوئ، فمن حسناتها مع أننّي لم أغتنمها من بدايتها لعدم سكوني بسبب الألم، فالألم يجعلك تتوتر وتدور في الغرفة كالمجنون دون جلوس، ويجعل عقلك وتفكيرك مشوشًا لا تريد أن تشغله بغير الأنين والتأوه، فمن تلك الحسنات عودتي إلى القرآن الكريم بعد أن تركته لأيام مُجبرًا، والتفاتي للقراءة والمطالعة في كتب شتّى أدبيّة وفقهيّة وتاريخيّة ولغويّة وقصصيّة فكنتُ كالنحلة أتنقلُ من زهرة إلى أخرى دون كللٍ أو ملل، وكذلك متابعة لبعض الدروس المرئيّة على الانترنت، وبعض المسلسلات التاريخية المهمّة، وكذلك في الابتعاد قليلًا عن شؤون البيت وحوائجه ومشاكل الأهل، ولستُ دقيقًا في تحقق هذا الأمر تمامًا. ومن محاسن هذا المرض قلّة أكلّي وفقدان شهيتي (من أعراض هذا المرض) أدّى ذلك إلى خسارتي خمس كيلو من وزني، وهذا أفرحني لأننّي كنتُ أودّ أن أنقص وزني منذ زمن ولا أعرف الوسيلة، وأحزنني بسبب انسحال البنطال عن خصري. وكنت أتحرّج الجلوس في الأرض بسبب الكرش وألم في الركبتين وضيق في النفس، أمّا خلال هذه العزلة فقد تعوّدتُ وألفتُ النوم والجلوس أرضًا، ولم أعد أشعر بتلك المضايقات في البطن والركب والحمد لله. أمّا سلبيات هذه العزلة هو الحبس، وعدم التمكن من الخروج من البيت (ولم يكن هذا يهمني فأنا لست من رواده) بل وعدم الاستطاعة على التجول في البيت إلا بشكل محدود جدًا، إضافة إلى الغيظ والكبتِ الذي تحمّلته من مُشاكسة الأولاد لي ولبعضهم ولأمهم، دون قدرتي على قمعهم وكمّ أفواههم والتجبر والهيمنة عليهم وغلّ أيديهم. ومن سلبيات العزلة جعل الأولاد في حالة توتر لمنعهم من الخروج، فقد ملّوا وأخذوا يُفرغون طاقتهم وغيظهم بي أو ببعضهم، وكثيرًا ما كانوا يُحمّلونني المسؤولية بهذا السجن، وكذلك أدّى ذلك إلى كثرة نومهم، وعدم متابعتي لهم في أمورهم وخاصة صلاتهم، وتراخي أمّهم في أخذ مكاني في هذا الأمر، فتحسرتُ مِرارًا وقلت: يا ضيعتهم من بعدي، ثمّ تذكرت أنّ الله هو صاحب الشأن والهادي. ومن سلبياتها انزعاجي من تصرف بعض الأولاد، فعندما يرونني أتسللُ إلى غرفتهم يُسارعون إلى تكميم أفواههم وسدّ أنوفهم وحبسِ أنفاسهم، وهذا تصرف صحي في هذا المرض من جهة، ولكنّه من أولادي بالذات كان موقفًا استفزازيًا، فهم عندما يريدون أيّ أمر منّي كانوا يدخلون غرفتي الموبوءة فيَصِلون حتى فراشي، بل ليس لديهم أيّ مشكلة في تقبيلي أيضًا، دون أيّ تحسس أو تكميم للأفواه والأنوف، ولكن عندما أريدُ منهم شيئًا يبادلونني بتصرفات وكلمات ونظرات أشعر خلالها أنني ابتليتُ بجميع الأمراض المُعدية الوبائيّة، فيتصرفون كأنهم يتوجسون مني انبعاث غازات كيماوية وجرثومية تجعلهم يهربون مني هروب السليم من الجذام، فأيقنتُ أنّ العفاريت يتشكلونَ أحيانًا بصور مختلفة، ومنها صور بعض البشر والأولاد، فإبليس يعجز ويندهش عمّا يفكّر به هؤلاء الأبناء حفظهم الله.. في خلال هذا المرض اتصل بي الكثير من الأهل والأصحاب والأخوة، ولكن للأسف ما كنت قادرًا على التكلم معهم بسبب حدّة وشدّة السُعال الذي كان مُرافقًا لهذا الداء، فقد كان صوتي عند التكلم يشبه السيارة التي لا يدور مُحرّكها بسبب وسخة في الوقود (البنزين) فهي تعمل للحظات ثمّ تفقعُ دقائق، فكنت أستعيض عن الكلام بالكتابة لطمأنتهم عن حالي، أمّا أهلي في الشام فما أخبرتهم بمرضي، فما فيهم يكفيهم أعانهم الله، فكنت أتحيّل بضعف الهاتف والشبكة وهكذا. أظن أنّ هذا المرض كان يشتدّ معي وخاصة الصداع والحلق والصدر عندما كنت أخوض معاركَ طاحنة مع الأولاد، ويحتدّ الجدال والشجار معهم، فكنت أشعر بأن النَفَس لا يكاد يخرج من صدري، وأنني سألقى حتفي في تلك الصولات والجولات، ولا أدري هل سأكون شهيدًا فيها!! ومن ملاحظات هذا المرض أنه يُعطّل ميزة الشمّ والذوق لدى المريض، فأنا من عشاق الطيب والعطور فما عدتّ أستطيع شمَّ أيّ رائحة إلا من خلال دسّها داخل أنفي عندها أشمُّ جزءًا بسيطًا من تلك الرائحة، فغدوتُ لا أميز بين المسك والبصل، بل وفقدت بعض حاسة التذوق بشكل خفيف، وهذا شيء فيه منفعة فما عدتُّ أسأل عن الملح ولا أصرخ للفلفل، والشيء المفيد الذي راق لي أننّي لم أعد أشمّ شيئًا من الروائح التي كانت تنتشر فور عودة ابني من عمله حين خلع حذائه. بقيتُ في هذه النقاهة والعزلة سبعة أيام بعيدًا عن الصيام وبركاته وثمراته ونفحاته، ومع ذلك ما كنت أتناول أيّ طعام خلال النهار إلا بمقدار لقمة أو لقمتين لتسويغ حبوب الصباح، فقط كنت أحتسي المشروبات الساخنة والماء والعصير بكثرة. ومع ذلك كنت مُحافظًا على وقت الإفطار والسحور وكأنني صائم، أرجو الله ألا يحرمني أجر تلك الأيام. وبالنسبة للتراويح فقد تركتها أيامًا لعجزي عن القيام أو القعود بسبب ألم الظهر وأسفله والقدمين والصداع فكنت أكتفي بالفريضة والنافلة فقط، ثمّ عدتّ بعد شعوري بخفّة لِما كنتُ عليه تقبّل الله منّا ومن جميع المسلمين. وفي اليوم الأخير من الحظر والعزل حضرتْ دوريّة الأمن تتفقدني وجميع المعزولين شركائي، وأعلمتنا بأنّه يمكننا الخروج في اليوم التالي. ومع أنّها انتهت فترة العزل والدواء أيضًا فما زلتُ أشعر ببعض الأوجاع في الظهر، ومكان الكليتين والسعال لا كشدتها في الأيام الأولى، وذكرَ لي بعضُ الأخوة أنّ هذه الآلام ستصاحبني مدّة شهر ثمّ تضمحل بإذن الله. وعادتي في المرض عمومًا غريبة ومزعجة، حتى أنني أستنكرها بنفسي، فالمرض يصيبني لا كبقية النّاس، فيكون شديدًا لديّ بشكل لا يُحتمل، ولا أفهم ما السبب، هل لضعف في بدني، أو أنّه اصطفاء لي بهذه الشدّة دون غيري، أو أننّي نقّاق كما يصفني بعض أهل بيتي؟! ولكن الحقيقة .. إنّ مرضي صعب جدًا، وهذا لمسته من خلال سؤالي لبعض المرضى عمّا أصابهم وخاصة الكورونا، فما ذكروا لي هذه الأعراض التي زارتني، لذلك تأكدتُ أن ّمرضي مخلوق لي فقط والله أعلم. اللهم اشف جميع المرضى إنك سميع محيب.
أثرٌ جديد لعالمٍ جليلٍ لفتُ النَّظر إلى الأخذِ بالكتابِ وسنَّةِ سيِّد البشر أثرٌ جديد لعالمٍ جليلٍ: " لفتُ النَّظر إلى الأخذِ بالكتابِ وسنَّةِ سيِّد البشر "، في تسعمائة صفحة، تضمَّنَ أبوابًا من الفقه والحديث والعقيدة والسُّلوك، لمؤلِّفه العلَّامةِ الأثريِّ الشَّيخِ صالحِ بن حُسينٍ العليِّ العراقيِّ، رحمه الله تعالى، وُلدَ في إمارة المنتفق من البصرة سنة 1330ھ وتعلَّم على علمائها، واشتغل في الإفادة والطَّلب، وجدَّ في الاستفادة والأرب، وجمعَ بين المعقول والمنقول، وبرعَ في تحقيق الفروع والأصول، ثمَّ استوطن نجد وانتظم في حلقات العلَّامة ابن إبراهيم، ولتمكُّنه في علوم الآلة والعلوم الشَّرعيَّة والعربيَّة وجَّهه الشَّيخُ ابن إبراهيم إلى التَّعليم والتَّدريس، وطريقته في التَّدريس كانت زاخرةً بعرض مذاهب الفقهاء واختلافهم وشحنها بالفوائد الفقهيَّة واللُّغويَّة والأصوليَّة، ثمَّ يُرجِّحُ ما يعضدُه الدَّليلُ ويجتهدُ في ذلك ويبتعدُ عن التَّقليدِ على طريقة أهل الأثر، وكثيرًا ما ينشدُ: وَانأَى عن التَّقليدِ جُهدكََ واقتفِ الْـ *** وحيين إنَّكَ بالسَّعادةِ ترفلُ وله استنباطاتٌ حسنة، وإدراكاتٌ مستحسنة، ومشاركةٌ جيِّدة في الأدب، واقتدارٌ بديعٌ في النَّظم، وجهود ومآثر عديدة في ميدان الدَّعوة والتَّربية والتَّعليم، فانتفع به الطَّلبة نفعًا عظيمًا. وكثيرًا ما كان مُرافقًا لصديقه وقرينه الشَّيخ ابن باز، يقرأُ عليه في أمَّات الكتب ويستفيد كلٌ منهما من الآخر. من تلاميذه الَّذين انتفعوا به في المعهد العلمي ثمَّ في كليَّة الشَّريعة بالرِّياض، المشايخ: عبدالرَّحمن البرَّاك، صالح الأطرم، عمر الأشقر، عبدالله بن قعود، عبدالله التُّركي، عبد الله الرُّكبان. وهنا تقديم الكتاب لأخصِّ تلاميذه به شيخنا العلَّامة عبدالرَّحمن البرَّاك حفظه الله، يذكرُ شمائله وفضائله عليه وانتفاعه بعلومه وتوجيهه روحيًا وبدنيًا، توفِّي رحمه الله تعالى سنة 1404ھ. وترجمته وسيرته وآثاره ومآثره حافلة جديرة بإلحاقه في طبقات علماء نجد.
قصة سليمان بن داود عليه السلام (1) نبي ملك، خلف والده في الملك وآتاه الله النبوة، وقد برز في حياة والده نابهًا ذكيًّا مؤيَّدًا من الله تعالى: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ... ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، صاحب كرم - مزرعة عنب - وصاحب غنَم، أتى صاحب الكرم داود يشكو صاحب الغنم التي دخلت ليلًا إلى مزرعته وخربتها، حيث عاثت فيها أكلًا وإفسادًا، وطلبا منه أن يحكم بينهما، وكان سليمان جالسًا مع أبيه يسمع الشكوى ويسمع حكم داود فيها، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، قال سليمان: غير هذا يا نبي الله؟ فقال داود: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يكون كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها - ينتفع بألبانها وأصوافها - حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، وهذا هداية من الله لسليمان في هذه الحادثة؛ ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ [الأنبياء: 79]، وكان هذا بداية ظهور نجم سليمان نابهًا ذكيًّا وقد أعده الله للحكم والنبوة خلفًا لأبيه، وحادثة أخرى، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى - لكثرة بكائها - فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: آتوني بالسكين أشقه بينهما، فقال الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى) )، قال أبو هريرة: إنْ سمعت بالسكين إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المُدية، فسُكوت الكبرى عن ذبحه بالسكين دل على أنه ليس ابنها، فأعطاه للصغرى. مِن هاتين القصتين يتبين لنا مقدار الفهم والذكاء الذي يتمتع بهما سليمان عليه السلام، ومن الآية الكريمة ندرك التأييد الإلهي لسليمان ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ [الأنبياء: 79] ليتابع خط والده صعدًا من أجل بناء دولة قوية مؤيدة بقدرات خارقة منحها الله لسليمان، وأيده بكل عناصر القوة لإرساء السلام والأمن في الأرض المقدسة، ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]، وهذا بيان وإعلان من سليمان لشعبه بأنه خليفة داود، وأن الله تعالى أعطاه ميزة ما كانت لأحد غيره، فقد علمه اللهُ منطق الطير ولغته والتفاهم معه؛ أي: لغة متبادلة بينه وبين الطيور كافة، وأن الله تعالى أعطاه كل شيء، بمعنى كل ما يحتاجه الملك من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات، ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]، هذا فضلٌ مِن الله بيِّن ظاهر، منَّ الله به على سليمان. وقد أراد سليمان أن يحشد أمام الناس قوة جيشه ليؤكد لهم مدى القوة التي وهبها الله له، ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17] ويُعَدُّ هذا عرضًا عسكريًّا لجنود سليمان يمرون أفواجًا أفواجًا من الإنس أولًا، ثم تبعهم الجن، ثم الطير وهي تحلق فوق سليمان تظله من حر الشمس تمر فوجًا إثر فوج على حسب أنواعها كأنها في هذه الأيام الطائرات التي تشارك في العرض العسكري، قاذفات ومقاتلات وسمتيات وناقلات جنود، ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17]، يتدافعون فيحجز أولهم آخرهم، يسيرون بانتظام، ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] وصفٌ دقيق لتحرُّك هذا الجيش العجيب الغريب في جيوش ذلك الزمان، وهو معجز أيد الله به سليمان عليه السلام الذي يجمع بين الجن والإنس والطير وقوى أخرى معه، ولما مروا على وادِ النمل - قيل في الطائف وقيل في الشام - والظاهر أن بهذا الوادي تجمعات للنمل كانت قد انتشرت فيه بحُريَّة وهي آمنة بأن أحدًا لن يمر من هنا إذا بالحرس من النمل يرصدون قدوم جيش سليمان تجاههم، فأسرعت النملة المسؤولة عن الحراسة والمراقبة بإنذار بني جنسها لدخول المساكن؛ خشيةَ أن يدوسهن سليمان وجنوده عن غير قصد منهم، ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾ [النمل: 19] وهذا اعتذار لطيف من النملة " جرسى " عن سليمان بأن ما يحصل منهم إن داسوا النمل فهو عن غير قصد؛ فالجيش ماضٍ في هذا الطريق وعلى النمل إخلاء المكان ريث مرور الجيش؛ لذلك تبسَّم سليمان من قولها ضاحكًا لفصاحتها، وما كان من سليمان إلا أن أتبع هذه النعمة على ما آتاه الله بالحمد والشكر، ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، كان عليه السلام دائم الذكر والشكر، والله تعالى قال: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، وكان مُلكه في ازدياد، امتد على بلدان كثيرة مجاورة للأرض المقدسة، ساعده في سَعة هذا الملك ما سخَّره الله له من الريح التي كانت تحمله وتحمل جنده معه لغزو أي بلد يريد، ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [سبأ: 12]، وقد ضرَب الله مثلًا لامتداد هذا الملك بقصته مع بلقيس ملكة اليمن.
هكذا يفكر السعداء لخالد دخيل الجديع صدر حديثًا كتاب "هكذا يفكر السعداء"، تأليف: مهندس "خالد دخيل الجديع"، نشر: "دار تشكيل للنشر والتوزيع". في ظل الضغوط الحياتية المتواصلة في وقتنا الحاضر على المرء، ربما يشعر بأنه غير سعيد، وأن طموحه وراء السعادة سراب خادع، فكل ما يجنيه في يومه الكد والتعب وسط أحاسيس نفسية بالحزن والحسرة، فكيف يتعامل المرء مع تلك الضغوط والهموم الحياتية، ويحولها كوقود نفسي للنجاح وتحقيق السعادة في العمل وفي بيته وفي المجتمع، هذا ما يطرحه م. "خالد الجديع" في منظومة لتطوير الذات بعنوان "هكذا يفكر السعداء "، حيث يطرح 43 طريقة فعالة للتفكير ستساعدك في كل يوم لتصنع حياة سعيدة وناجحة. يقول المؤلف في مقدمة كتابه: "يومي ويومك لن يخلو من التحديات والمنغصات، وحياتي وحياتك وحياة كل إنسان لابد وأن تقتحمها المشكلات والعثرات والتصادمات، فالحياة ليست وردية لكن ما يهم ليس ما نمر به من ظروف فلقد أثبتت الدراسات أن الظروف تؤثر على 10% فقط من سعادتنا. ما يهم هو قراراتك وردود أفعالك، ولذلك نسمع كلمة متكررة لا نعيها أحيانًا ألا وهي " السعادة اختيار ". لا يدرك بعضنا أهمية هذه الفكرة، نعم السعادة قرار واختيار وقرارك يؤثر على معظم سعادتك بل يمكن أن يشكل حياتك كلها. ليس مديرك الغاضب هو من يتسبب في إتعاسك. وليس مشروعك الذي لم ينجح أو قرارات البلدية. وليس صديقك المتعب المؤذي الذي يتربص بك هو من يتعسك. وليست الجامعة التي لم تقبلك أو الوظيفة التي لم ترحب بك هي سبب ما تمر به. قد تندهش وتحاول التوقف عن القراءة، لكن اسمح لي أن أقول لك، أنت أمام أهم منعطف تاريخي في حياتك، فما ستقرؤه في هذا الكتاب قد يغير حياتك للأبد". ومن ضمن تلك الأفكار التي ينادي بها الكاتب دومًا أن هناك عدة أمور عندما تتخلص منها ستتحسن حياتك بالتالي: • تخلص من اتهام النفس بالغباء أو الفشل. • تخلص من فكرة أن شيئًا أو شخصًا يمكن أن يجعلك سعيدًا، سعادتك تبدأ بك. • تخلص من ماضيك السلبي. • لا تدع رأي الناس وأحكامهم تشكل حياتك. • تخلص من المقارنة الهدامة بالآخرين. • لا تطلب الكمال من نفسك أو الآخرين. ويرى الكاتب أنه قد تمر بمصاعب وتشعر بضيق وإرهاق وعدم القدرة على المضي في حياتك، ومن السهل أن تسيطر عليك أفكار سلبية من نوعية: • حياتي لن تتغير. • أنا محبط. • دائما سأعاني. والنصيحة التي يقدمها الكاتب للقارئ: كما تدور الأرض حول الشمس ويأتي الربيع بعد الشتاء ستمر بك أوقات سعيدة وأخرى عصيبة لكنها لن تدوم، مهما كان ما تمر به فالأمور ستتحسن للأفضل. ويطرح "روشتة" بأهم 10 عادات للسعداء: • لا تنتظر سعادتك من أحد لأنها تبدأ بك. • لا تلم نفسك على ما حدث في الماضي. • ليكن لك هدف. • الشكر سر السعادة، إن شكرت الله فسيزيدك الله مما شكرته. • الحسد عدو السعادة. • الصداقة تعني مضاعفة السعادة. • لا تكن حساسًا. • لا تفقد ضحكتك. • عش لحظتك. • افرح بأبسط الأشياء. والكاتب "خالد دخيل الجديع" مهندس خريج جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ويعمل مدير مشاريع في مركز المعلومات بالحرس الوطني، مهتم بالتفكير الإيجابي والتفاؤل والسعادة والتحفيز وكل ما يتعلق بتطوير الذات والرقي بها. مؤسس لمركز "مهارتي التعليمي" وأفكار الرياضيات والقراءة السريعة، من أهم مؤلفاته في التطوير الذاتي: • "بوابة السعادة رقم 1". • "السعادة خارطة طريق".
هجرة الكتب إلى صقلية [1] وكانت الكتب التي يتداولها الطلبة والأساتذة مما يرد على الجزيرة من بلاد المشرق والأندلس والقيروان أو مما يؤلفهُ الأساتذة أنفسهم. وإذا استطعنا أن نعرف الكتب الواردة التي راجت في صقلية، أو أمثله منها على الأقل، كان ذلك خير معين لنا على تصور الثقافة السائدة في الجزيرة وعلى مدى الامتزاج والتفاعل في تلك الثقافة. وقد كانت الكتب ترحل كالناس في بطء وتتحرك من مكان إلى آخر في أناة، وربما كان انتقال كتاب من بلد إلى آخر حدثًا يستحق التأريخ. فليس بغريب أن يصرح ابن القطاع الصقلي حين سأله المصريون عن كتاب " الصحاح " للجوهري بأن الكتاب لم يصل إليهم في صقلية [2] . ويحدثنا ابن رشيق أن أول من أدخل كتاب " اليتيمة " للثعالبي إلى القيروان هو أبو الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدرامي سنة 439هـ [3] ، ولما رحل ابن البر الصقلي إلى المشرق كان كتاب اليتيمة أحد مروياته عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، وعنه تلقاه في صقلية تلميذة ابن القطاع [4] . وقد دخلت " المدونة " في الفقه المالكي عند فتح صقلية أو بعيد ذلك بقليل، وكان كل نشاط الفقهاء يدور حولها اختصارًا وشرحًا، وبيانًا لما فيها من غريب، ونسجًا على منوالها. وظل الأمر كذلك حتى آخر أيام العرب في صقلية. وبديهي أن الموطأ كان يدرس في صقلية أيضًا ويقوم بتدريسه محدثون أعلام، مثل الفقيه السمنطاري، وكان الطلبة لكثرة دروج الاسم على أفواههم يلفظونه بغير الهمز. ويستعملون إلى جانبه كتاب " الملخص " وهو كتاب ألفه القابسي ولخص فيه ما اتصل إسناده من حديث الموطأ وكان الطلبة يسمونه " الملخَّص " - بالفتح - مع أن صاحبه سماه " الملخِّص " بالكسر [5] . وألف ابن جعفر القصري كتابًا سماه بكتاب "تجديد الإيمان وشرائع الإسلام" يشتمل على نيف وستين جزءًا وفيه بحث في المعجزات فدخل صقلية وقرأه الناس [6] . وفي القرن الخامس وردت إلى صقلية نسخة من كتاب " التقريب " وهو كتاب اختصر به البرالي البلنسي (البريلي بخط ابن بشكوال) كتاب المدونة وجمع فيه أقوال أصحاب مالك حتى قال فيه بعضهم: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي [7] وقرأه عبد الحق شيخ فقهاء صقلية في عصره وأراد أن يشتريه فلم يتيسر له ثمنه، فباع حوائج من داره واشتراه [8] ، فلما عرف أهل صقلية ذلك زادت قيمة الكتاب في اعينهم، فاقبلوا عليه وتنافسوا في اقتنائه. وتحدثنا المصادر أن علي بن حمزة اللغوي راوية المتنبي ذهب إلى صقلية وعاش في بلرم وتوفي بها سنة 375هـ؟ وربما روى عنه الصقليون بعض كتبه التي كانت في أكثرها ردودًا على الأئمة كالرد على ابن السكيت في إصلاح المنطق والرد على الجاحظ في الحيوان والرد على الثعلب في الفصيح.. [9] الخ وربما استنتجا بأنه درس هنالك ديوان المتنبي. وأيًّا كان الأمر فمن المحقق أن صقلية عرفت ديوان المتنبي معرفة وثيقة إذ كان جزءًا من ثقافة عالمها اللغوي ابن البر درسه علي ابن رشدين بمصر ثم أخذه عنه طلبته بصقلية [10] ولعل دواوين كثيرة من شعراء المشرق دخلت صقلية أيضًا فنحن نسمع ان المغنين فيها كانوا يغنون أشعارًا لقيس بن الخطيم، وابن الرومي وذي الرمة وسحيم عبد بني الحسحاس وكُثَير عزة وجرير وجميل والشريف الرضى وغيرهم [11] . وفي الأسانيد ما يدل على ان طلبة ابن البر اللغوي رووا عنه " مقدمة ابن بابشاذ " في النحو. ومن الكتب التي درسها هذا العالم كتاب " أدب الكتاب " لابن قتيبة وعنه تلقاه تلميذ أبو العرب الصقلي ثم درسه في الأندلس حين ارتحل إليها [12] . ولا ننس ان كتاب كليلة ودمنة من الكتب التي راجت في صقلية. ولما دخل ابن رشيق إلى صقلية دخلتها كتبه وخاصة كتاب " العمدة " وجرى تدريسه في مدينة مازر حتى لقد رأى القفطي على إحدى نسخ العمدة قراءة ابن منكود والي مازر لهذا الكتاب على مؤلفة [13] . وقد اختصره فيما بعد أحد الصقليين وهو عثمان بن علي الخزرجي وكان في أيام يحيى بن تميم بن المعز [14] . ويدلنا العمدة على بعض المصادر التي كان يستطيع ان يطلع عليها أهل المغرب ومن السهل ان ترحل هذه الكتب إلى صقلية بعد ان تصل إلى القيروان، أي أن أهل صقلية ربما عرفوا كتب قدامه بن جعفر والرماني والعسكري وغيرهم. وقد أثر قدامه في توجيه النقد في المغرب في غير ابن رشيق، ونسمع أن الشاعر المعروف بابن ميخائيل [15] أحد شعراء المعز كان شديد الانتقاد للشعر على مذهب قدامه [16] . وعرفت في المغرب أيضًا كتب أبي حيان التوحيدي ورسائل إخوان الصفا وكان أول من أدخل هذه الرسائل إلى الأندلس هو الكرماني المتوفى سنة 458هـ؟ [17] ، ولعلها دخلت صقلية في تاريخ مقارب. ولعل صقلية كانت تستمد بعض الكتب في الطب من شمال إفريقية فمنذ بدء العصر الفاطمي عرفت القيروان نشاطًا واسعًا في الطب، واشتهر فيها إسحاق بن عمران وابن سليمان الإسرائيلي وابن الجزار وقد ترك هذا الأخير ما يقرب من ثلاثين مؤلفا ولا يعقل أن تكون هذه الكتب مجهولة كلها في صقلية. اهـ المصدر: كتاب " العرب في صقلية دراسة في التاريخ والأدب" لإحسان عباس [1] من كتاب (العرب في صقلية دراسة في التاريخ والأدب) لإحسان عباس رحمه الله. [2] إنباه الرواة. للقفطي (1/ 536) . [3] الذخيرة. لابن البسام (4/68). [4] بدائع البداية على هامش معاهد التنصيص. لابن ظافر (1/ 92) . [5] تثقيف اللسان نسخة الآستانة. لابن مكي (الباب 36). [6] الصلة ( رقم 379 ). [7] رياض النفوس في المكتبة (194). [8] الديباج المذهب. لـ ابن فرحون (113) . [9] معجم الأدباء. لـ ياقوت الحموي (13/ 208) . [10] التكملة. لـ ابن الأبار ( رقم 367 ). [11] تثقيف اللسان. لـ ابن مكي ( الباب الأربعون ). [12] التكملة. لـ ابن الأبار ( رقم 386 ). [13] انباه الرواة. لـ الفقطي - ترجمة ابن رشيق (1/ 277). [14] معجم الأدباء. لـ ياقوت الحموي (12/ 135). [15] هو محمد بن الحسين بن أبي الفتح القريشي المغربي. انظر ترجمته في كتاب المحمدين من الشعراء للقفطي (نسخة دار الكتب المصورة رقم 2177 تاريخ الورقة 76). [16] المصدر السابق. [17] طبقات الأطباء. لـ ابن أبي أصيبعة (2/40).
العولمة الثقافية (1) هناك مَن يُدافع عن العولمة ويرى أنها منهج جديد سلخ ما وراءه من خلفيات احتلالية، وجاء ليبشِّر بالشمولية من خلال سعادة البشرية وتعميق أواصر الرابطة الإنسانية، وأن الذين يعيدون العولمة إلى تلك العوامل المذكورة أعلاه إنما يوظفون مخزوناتهم الفكرية القائمة على هاجس الاحتلال والغزو الثقافي أو الغزو الفكري. هذا الدفاع عن العولمة هو أحد المسارات التي تتجاهل نظرية المؤامرة، أو بالأحرى تنفي وجود مؤامرة من نوع ما [1] ،في الوقت الذي يؤكد فيه فريق آخر أن العولمة شكل جديد من أشكال الغزو الثقافي، وأن العولمة "تحمل دائمًا في طيَّاتها نوعًا أو آخر من "الغزو الثقافي"؛ أي من قهر الثقافة الأقوى لثقافة أخرى أضعف منها" [2] ،إن المسألة لا تتعدَّى هنا الانتقال بالكون من قرية كبيرة في الماضي إلى قرية صغيرة في الحاضر، وتتصاغر هذه القرية تباعًا مع الأيام. لا يحسن تجاهُل البُعد الثقافي في هذه القرية التي تصغر مع الأيام، ناهيك عن الأشهر والسنين،والمراد هنا ليس الغزو الثقافي من ثقافة مهيمنة على ثقافة مهيمَن عليها، وإن كان هذا من الأبعاد التي لا تُتجاهل،العولمة مهدِّدٌ لمسخ جميع الثقافات، وصَهْرها في ثقافة المجتمع التقني (التكنولوجي) الحديث، كما يحلو للدكتور جلال أمين أن يستأثر بهذا الإطلاق، حيث تنتفي الثقافة في هذا المجتمع [3] . لعل التصويت على عدم إقامة مآذن للمسلمين في دولة أوروبية قد أخذ من العولمة والعلمانية حجة للنفوذ إلى كسر المد الإسلامي المتنامي في الغرب، في ضوء القلق الفكري والعقدي المهيمن على ذوي الثقافة الغربية، فهو قرار لا يخلو من نظرة يمينية متطرفة لا تُغفل الدين في منطلقاتها، وإن كانت حجتها أن رفع المآذن يتنافى مع روح العلمانية الشاملة، التي تقتضي بالمقابل منع بناء الكنائس والبِيَع ودور العبادة الأخرى، كما يتنافى مع روح العلمانية الجزئية التي تفصل الدين عن الدولة، لكنها لا تتعرض للحريات الدينية والخصوصيات الثقافية للمجتمعات،وليس ذلك كله سعيًا إلى ثقافة عولمية متعلمنة. وليست حادثة منع المآذن في سويسرا هي الأولى، ولن تكون الأخيرة؛ إذ إن هناك مشروعات أوروبية سابقة كمسألة الحجاب في فرنسا، وأخرى لاحقة كمسألة أن يربط المسلم على ذراعه "سريحة" خضراء ليعرف أنه مسلم، أو تجميع المسلمين في أحياء خاصة بهم يمارسون بها خصوصيتهم الثقافية. تأتي هذه المشروعات غير المنطقية التي تتنافى مع ادعاء الديموقراطية غير المنحازة على علم من الاتحاد الأوروبي لتؤكد للمواطن الأوروبي أيًّا كانت هويته الثقافية أن المراد من ذلك الحدُّ من انتشار الإسلام في الغرب، مما سيكون له آثارٌ إيجابية على المجتمع الغربي في تفهُّمه للإسلام ثم الإقبال عليه،وقد قيل: إن مواطنًا أوروبيًّا قد بنى منارة على بيته تعبيرًا عن احتجاجه على فكرة التصويت على التضييق على المسلمين في الغرب بدعوى الانصهار في عولمة ثقافية معلمنة. إلا أن أنتوني كنج يستبعد العولمة الثقافية؛ ذلك أن المشهد الثقافي الحاضر هو من التعقيد والتعدُّد بحيث يتعذَّر صهره في بوتقة واحدة، بغضِّ النظر عن وجهتها،"فالناس تنتمي لعدة ثقافات مختلفة، والاختلافات الثقافية قد تكون داخل الدولة (أي بين الأقاليم والطبقات والجماعات العِرقية الحضرية والريفية) أو بين الدول،ويتنقل المعماريون وخبراء التخطيط بين نيويورك ولندن وبمباي بصورة أيسرَ مِن تنقلهم بين بومباي وقرى ماهارشترا" [4] . لو تجاهلنا البُعد الثقافي ونظرنا إلى العولمة من منطلق اقتصادي بحت، فإننا نجد من يؤكد قِدَم العولمة،يقول أحمد هاشم اليوشع: "العولمة ظاهرة قديمة جدًّا،وهي تعبِّر عن سعي الإنسان للبحث عن أسواق جديدة لتوزيع منتج أم للحصول على عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال) ،فهي تعبير عن سعي حثيث يصعُبُ ربطه بتفكير أو فترة زمنية محددة،وما نعرف عنها أن الدافع الرئيسي لانتعاشها يكاد يقتصر بشكل أساسي على تعظيم الربحية وزيادة الثروة...إن العولمة من منظور تاريخي ظاهرة قديمة تمتدُّ لتشمل أي تجربة إنسانية ارتبطت بالبحث عن أسواق جديدة كرحلة كرستوفر كولومبس، أو رحلة الشتاء والصيف عند عرب الجزيرة العربية قديمًا" [5] . يمكن أن يقاس على هذه الرحلات القديمة رحلات أهل الخليج في القرنين الماضيين وقبل مرحلة اكتشاف النفط إلى الشرق، الهند تحديدًا، ورحلات تجار وسط جزيرة العرب "العقيلات" إلى الشام ومصر [6] ، بحيث سرت عبارة في المنطقة تنصُّ على أن: "الشام شامك إذا الدهر ضامك، والهند هندك إذا قَلَّ ما عندك". ولم تقتصر الهجرات على مصر والشام فقط التي ركَّز عليها النجديون [7] ، بل شملت الشرق كالهند وجزر الجنوب الشرقي لآسيا بالنسبة للحضارم والخليجيين، والغرب في الدول الإفريقية المتاخمة لجزيرة العرب بالنسبة للحجازيين وأهل الباحة وعسير واليمن وعدن، وإن تكن هذه الجهات الأخيرة مختلفة الظروف، وباعثها طلب العيش والتغلُّب على البطالة والفقر، ومع هذا فلم تتخلَّ هذه الهجرات عن خصوصيتها الثقافية، بل إنها هي من وسائل التوكيد على أن هذه الخصوصية الثقافية خصوصية دافعة؛ فقد أسهمت هذه الهجرات في نشر الإسلام في المواقع التي هاجرت إليها. على أن من الباحثين في تحرير مصطلح "العولمة" مَن لا يذهب هذا العمق في التاريخ وإن اتفق مع غيره على فكرة قِدَم المفهوم، وليس بالضرورة المصطلح،ويعيد ذلك إلى نشوء الرأسمالية "الأوروبية في حركة تناميها على مستوى الأسواق الأوربية الوطنية، ثم في خروجها من حدوها الوطنية إلى الأسواق العالمية في المستعمرات أو في دول العالم الثالث للسيطرة عليها من خلال الشركات ذات الصفة العالمية" [8] . إذا كانت العولمة ستسعى إلى توحيد العالم حضاريًّا، بفعل التقنيات الجديدة، "فلا يعني ذلك أنها "ستوحد" العالم ثقافيًّا، أو أنها ستقضي على الخصوصيات الثقافية" [9] ،ولا يمكن فصل الثقافة عن الحضارة،وفي هذا الصدد يقول الأمير سعود الفيصل: "مما هو مدعاة للأسف أن الفكر العربي لم يواكب ما حملته المتغيرات الدولية المتسارعة من فرص وتحديات،فبدلًا من التفاعل الإيجابي مع العولمة انشغل بعض المفكرين بالتحذير من شرورها، وتهرَّب البعض الآخر من ممارسة النقد الذاتي والتحليل الموضوعي في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليهما...ولعل من أخطر التطورات الفكرية السلبية أن يشيع لدى بعض العرب اليأس والقنوط، أو أن يستبطنوا الهزيمة الداخلية، فيروجوا لخطابات اعتذارية غير مقنعة، أو خطابات تثبيطية تبالغ في جلد الذات واقتناص العيوب وتضخيم السلبيات" [10] . [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة. هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل - بيروت: المركز الثقافي العربي، 1430هـ/ 2009م - 230ص. [2] انظر: جلال أمين. العولمة - القاهرة: دار المعارف، 2002م - ص 50 - (سلسلة اقرأ؛ 636). [3] انظر: جلال أمين. العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث - ص 211 - 229 - في: مركز دراسات الوحدة العربية. العولمة وتداعياتها على الوطن العربي - بيروت: المركز، 2003م - 258ص. [4] انظر: أنتوني كينج. العمارة ورأس المال وعولمة الثقافة - ص 387 - 401 - والنص من ص 398 - في: ثقافة العولمة: القومية والعولمة والحداثة/ إعداد مايك فيذرستون، ترجمة عبدالوهاب علون - القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م - 411ص. [5] انظر: أحمد هاشم اليوشع. عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م - ص 22. [6] انظر: نوَّاف بن صالح الحليسي. عصر العقيلات: الجذور العربية في مصر والشام والعراق، قطوف على هامش قصصهم في مهاجرهم - الرياض: المؤلف، 1417هـ - 338ص - (سلسلة من تراث نجد مع قوافل تجارة العقيلات؛ 1) - وانظر أيضًا: إبراهيم المسلم. العقيلات - الرياض: دار الأصالة، 1405هـ/ 1985م - 314ص. وانظر كذلك: عبدالرحمن بن زيد السويداء. عقيلات الجبل - حائل: النادي الأدبي، 1416هـ - 412ص. [7] انظر: عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم. نجديون وراء الحدود: العقيلات ودورهم في علاقة نجد العسكرية والاقتصادية بالعراق والشام ومصر - بيروت: دار الساقي، 1991م - 312ص. [8] انظر: عز الدين إسماعيل. العولمة وأزمة المصطلح - العربي - ع 498 (5/ 2000م) - ص 165 - 167. [9] انظر: علي حرب. حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000م - ص 37. [10] انظر: سعود الفيصل بن عبدالعزيز (الأمير). أزمة الفكر في العلاقات العربية - الغربية المعاصرة - في: المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي - القاهرة: المؤسسة، 2002م - ص 11 و14.
المنحة في تخريج أحاديث وآثار العدة في شرح العمدة لخالد الشلاحي صدر حديثًا " المنحة في تخريج أحاديث وآثار العدة في شرح العمدة "، تأليف: الإمام " بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي " (ت 624 هـ) ، في 5 مجلدات، تخريج: د. " خالد بن ضيف الله الشلاحي "، نشر: " دار المنهاج القويم للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب في تخريج أحاديث وآثار كتاب "العدة"، شرح عمدة الفقه، للإمام أبي محمد بهاء الدين المقدسي، وأيضًا تناول التخريج أيضًا الكتاب الأصل "عمدة الفقه" للإمام عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي، وراعى الكاتب في تخريجاته للأحاديث ذكر درجتها وتوثيق أماكنها في المصنفات الحديثية والمسانيد الصحاح، مع ذكر وجه العلة إن وجدت، ومناقشة الاعتراضات والإشكالات الواردة حول درجة الحديث، وبيان ما استقر عليه العلماء في نهاية التخريج بالنسبة للحديث وصحته وتوثيق رواته. وكتاب "عمدة الفقه" لابن قدامة المقدسي من أفضل متون الحنابلة وأوضحها عبارة، وأقواها وأكثرها أدلة، مع ندرة من شرحه، ثم إن مؤلفه هو شيخ المذهب كما هو المصطلح عليه عند الحنابلة. وهو أنسب ما يكون للمبتدئين في دراسة الفقه الحنبلي، وطريقته فيه أَنه يصدر الباب بحديث من الصحاح، ثم يذكر من الفروع ما إِذا دققت النظر وجدتها مستنبطة من ذلك الحديث. قال ابن قدامة: "وأودعته أحاديث صحيحة تبركًا بها واعتمادًا عليها، وجعلتها من الصحاح لأستغني عن نسبتها إليها". وقام باعتماد القول المعتمد عنده في المذهب على سبيل الاستنباط من ذلك الحديث. و"عمدة الفقه" أحد الكتب الثلاثة المعتمدة في المذهب الحنبلي وهي: "العمدة" و"المقنع" و"الكافي"، وجميعها ألفها "ابن قدامة المقدسي الدمشقي"، وهي أيضًا متون المذهب المعتمدة. راعى ابن قدامة في تأليفها طبقات التلقي لطالب العلم. وصاحبه هو الشيخ العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجماعيلي، ثم الدمشقي الصالحي، الحنبلي. ولد - رحمه الله - بجماعيل بلدة من أعمال نابلس بفلسطين في شعبان سنة (541 هـ) ، وحينما استولى الصليبيون على أرض فلسطين هاجر والد الموفق بأسرته إلى دمشق سنة (551 هـ) تقريبًا، ونزلوا في مسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي، ثم انتقلوا إلى سفح قاسيون من صالحية دمشق. وكان والده الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن قدامة من أهل العلم والصلاح، فقد كان قبل هجرته إلى دمشق خطيب جماعيل، وعالمها، ومفتيها، ولذا كان من الطبيعي أن يدرس الابن على أبيه، فتلقى الموفق عن أبيه العلم. وقد تتلمذ أيضًا على شيوخ دمشق منهم أبو المكارم عبد الواحد الأزدي الدمشقي المتوفى في جمادى الآخرة سنة (565 هـ) ، وأبو المعالي عبد الله بن عبد الرحمن الدمشقي المتوفى سنة (576 هـ) ، ثم رحل في طلب العلم خارج دمشق، فخرج هو وابن خاله الحافظ عبد الغني المقدسي إلى بغداد فقرأ على علماءها منهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، قرأ عليه (متن الخرقي) ثم توفى بعد أربعين يومًا من لقائه به، ثم لازم أبا الفتح بن المني، وقرأ عليه المذهب، والخلاف، والأصول حتى برع في ذلك. وفي حجة (574 هـ) لقي بمكة إمام الحنابلة بالحرم المكي المحدث أبا محمد المبارك بن علي البغدادي نزيل مكة المتوفى بها في عيد الفطر سنة (575 هـ) ، ثم استقر الإمام الموفق رحمه الله في دمشق، فاشتغل بالتأليف. وقد أثنى عليه كثير من العلماء، قال الضياء: "كان - رحمه الله - إمامًا في التفسير، وفي الحديث ومشكلاته، إمامًا في الفقه، بل أوحد زمانه فيه، إمامًا في علم الخلاف، إمامًا في أصول الفقه، إمامًا في النحو والحساب والأنجم السيارة والمنازل". وقال عنه الذهبي: "سمعت داود بن صالح المقرئ: سمعت ابن المنى يقول: - وعنده الإمام الموفق - إذا خرج هذا الفتى من بغداد احتاجت إليه". وسمعت البهاء بن عبد الرحمن يقول: كان شيخنا ابن المنى يقول للموفق: "إن خرجت من بغداد لا يخلف بها مثلك". وقال المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة: "ما أعرف أحدًا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق". وله - رحمه الله - مؤلفات عديدة أهمها: (1) العمدة في الفقه (للمبتدئين) جعله المؤلف على القول المعتمد في المذهب. (2) المقنع في الفقه (للمتوسطين) أطلق في كثير من مسائله روايتين ليتدرب طالب العلم على الترجيح، فيربى فيه الميل إلى الدليل. (3) الكافي؛ وهو أوسع من المقنع، ذكر فيه من الأدلة ما يؤهل الطلبة للعمل بالدليل. (4) المغني (شرح مختصر الخرقي) ذكر فيه المذاهب وأدلتها. وتوفي - رحمه الله - يوم السبت يوم عيد الفطر سنة (620 هـ) بمنزله بدمشق، وصلي عليه من الغد، وحمل إلى سفح قاسيون فدفن به، وكان له جمع عظيم امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه فرحمه الله رحمة واسعة. أما كتاب "العدة في شرح العمدة" فصنفه بهاء الدين المقدسي تلميذ "ابن قدامة" وجليسه، حيث أخذ عنه الفقه ولازمه، فكان أفهم لأغراضه ومراميه، مما أضفى على شرحه النفاسة، وقد قسم البهاء كل باب من أبواب كتاب العدة إلى مسائل، فيقول: مسألة ثم يذكر مضمونها مركزًا أشد التركيز على ذكر الأدلة وتوجيهها، وذكر علل الأحكام، ولم يتوسع في ذكر الاختلاف والوجوه داخل المذهب، بله المذاهب الأخرى، بل اقتصر على سياق مذهب الأصحاب الحنابلة مؤيدًا بالدليل والتعليل، لذلك جاء شرحه واضحًا مختصرًا، يخدم مقصد المتن الذى رمى إليه الموفق من تأليفه. والشارح هو الإمام العالم، المفتي المحدث بهاء الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور بن عبد الرحمن السعدي الأنصاري المقدسي الدمشقي الحنبلي. ‏ولد بقرية السَّاويا من أعمال نابلس بفلسطين في سنة ست وخمسين وخمس مائة من الهجرة (556 ‏هـ) ، بعد استيلاء الصليبيين عليها بسنوات. ‏لما هاجر به أبوه من حكم الإفرنج إلى دمشق بدأ البهاء بحفظ القرآن الكريم، وختمه وهو لم يتجاوز الخمس عشرة سنة من عمره، وكان ذلك سنة سبعين، وبعد ذلك تنبه البهاء إلى علماء دمشق فبدأ يطلب العلم عن علمائها، وبعد سنتين - أي سنة اثنتين وسبعين - قرر المسير إلى بغداد لطلب العلم على علمائها، فجمعوا له واشتروا له بهيمة وسار إلى بغداد لطلب العلم الشريف. ‏وتفقه البهاء في دمشق على الإمام الشيخ موفق الدين المتوفى سنة (620هـ) وهو مؤلف: "العمدة". وقد لازمه وأخذ عنه الفقه واللغة، وسمع أيضًا من الشيخ أبي عبد الله محمد بن حمزة بن أبي الصقر القرشي الدمشقي المتوفى سنة (580هـ) ، وفي بغداد تفقه على فقيه العراق شيخ الإسلام أبي الفتح نصر بن فتيان بن مطر الشهير بابن المني البغدادي المتوفى سنة (587هـ) ، وسمع أيضًا فيها من الشيخ الثقة أبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد اليوسفي المتوفى سنة (575هـ) ، كما سمع فيها من فخر النساء مسندة العراق الكاتبة العابدة شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري المتوفاة سنة (574هـ) ، وفي حرَّان سمع من أبي الفتح أحمد بن أبي الوفاء عبد الله بن عبد الرحمن الصائغ المتوفى سنة (576هـ) . أما عن تلاميذه فسمع منه البرزالي، والضياء، وابن المجد، والشرف بن النابلسي، والشمس بن الكمال، والعز بن الفراء، والعماد عبد الحافظ، وست الأهل بنت الناصح، وأبو جعفر بن الموا‏زيني وغيرهم كثير. وقيل: إن للبهاء كتبًا كثيرة، منها كتاب العدة شرح العمدة، وكتاب شرح فيه ‏المقنع، ومنتقى من حديث أبي بكر بن الهيثم الأنباري وغيرها. ‏توفي رحمه الله تعالى يوم سابع ذي الحجة سنة 624هـ، ودفن من يومه بسفح قاسيون بصالحية دمشق رحمه الله.
قصة داودَ عليه السلام (3) وفاة داود عليه السلام ورد في قصة آدم أنه استقَلَّ عُمُرَ داود فوهبه من عمره أربعين سنة، فكان عمر داود مائة سنة، وورد أن داود كان فيه غيرة شديدة على حريمه، فكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل أحد على أهله حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لتفضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا أمنع من الحجَّاب، فقال داود: أنت والله إذًا ملك الموت، مرحبًا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس - وكان القيظ شديدًا - فقال سليمان للطير: أظلي على داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض - وقيل: كتمت من شدة تلاصقها الريح، فضاقت أنفاس الناس - فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا، قال أبو هريرة راوي الحديث: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية - أي: غلبت على التظليل الصقور الطوال الأجنحة، وهي التي تسمى المضرحية. وقيل: مات داود فجأة، وهذا لا ينافي ما ورد آنفًا، حيث قبض روحه وسط الدار من غير سابق إنذار ولا مرض، وروى أبو الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد قبض داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا) )، أقول: لأن سليمان ابنه حكم بعده مباشرة على منهج أبيه، وكان أيضًا قويًّا مؤيدًا.
أعلام مجمع اللغة العربية بدمشق في مئة عام لمروان البواب صدر حديثًا كتاب " أعلام مجمع اللغة العربية بدمشق في مئة عام (١٩١٩- ٢٠١٩م) "، تأليف: " مروان البواب "، مراجعة: أ.د. " محمد مكي الحسني "، وأ.د. " مازن المبارك "، نشر: " مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق ". وهذا الكتاب موسوعة مجمعية تحكي حياة أجيال من العلماء الذين جمعهم ( مجمع اللغة العربية )، ووحدت بينهم اللغة الواحدة ورسالة خدمتها ورعايتها، وضم هذا الكتاب تراجم موجزة لأعلام مجمع اللغة العربية بدمشق ( المجمع العلمي العربي سابقًا ) على مدى قرن كامل من الزمان (1919 - 2019 م). وقد بلغ عدد أعضاء المجمع العاملين في المئة الأولى (١٩١٩ - 2019م) من عمره الذين تعاقبوا على كراسيه العشرين (٨٩) تسعة وثمانين عضوًا، وعدد الأعضاء الحاليين (١٩) تسعة عشر عضوًا. وقد تنوعت اختصاصات هؤلاء الأعضاء فشملت معظم حقول المعرفة؛ مثل: اللغة العربية وآدابها والشريعة والقانون والتربية والاجتماع والفلسفة والطب والصيدلة والبيولوجيا والتاريخ والآثار واللسانيات والزراعة والنبات والفيزياء والرياضيات والهندسة. ومثلما تفاوتت المدد الني قضاها الأعضاء في المجمع تفاوتت كذلك أعمارهم سنة دخولهم إلى المجمع؛ فاثنان منهم ( الشبخ محمد بهجة البيطار والأستاذ شفيق جبري ) صارا عضوين في المجمع وسنهما دون الثلاثين (٢٩ عامًا)، وأربعة منهم ( الدكتور محمد أنور الخطيب والدكتور محمد محفل والدكتور عبود السراج والدكتور محمد طيب تيزيني ) صاروا أعضاء وقد بلغوا الثمانين، وسائرهم كانت أعمارهم بين الثلاثين والثمانين. وقد قام الكاتب باستيقاء تراجم أعضاء المجمع من ( مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ) في المقام الأول، ومن سيرهم الذاتية المكتوبة بخط أيديهم، ومن أضابيرهم المحفوظة في المجمع، ومن الكتب الني ألفت عنهم، ومما كتب عنهم في المجلات والصحف، ومما نشر عهم في مواقع الشابكة وما أكثرها وما أغناها! ( تجاوز مجموع صفحات هذه المصادر عشرة آلاف صفحة ). كما قام بتقسيم السنوات المئة الأولى من عمر المجمع إلى عقود عشرة؛ ورتبهم تريبًا زمنيًا تصاعديًا بحسب تواريخ مراسيم تعيينهم. كما ألحق بمتن الكتاب مجموعة من الملاحق (29 ملحقًا) تضمنت مجموعة من الصور التاريخية والجداول الإحصائية استغرقت ما يزيد على مئة صفحة، منها جداول تبين اختصاصات أعضاء المجمع والأعضاء الذين خلفوا زملاءهم. ومنها جداول تتضمن أماكن ولادة أعضاء المجمع، وسني انضمامهم إلى المجمع، ومددهم، ومنها جداول إحصائية بعدد المقالات التي نشرها الأعضاء في مجلة المجمع، وعدد المحاضرات التي ألقوها في المجمع، وعدد الكتب التي ألفوها وصدرت ضمن مطبوعات المجمع. والمؤلف: هو الأستاذ مروان أحمد البواب عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وباحث سابق في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، وضابط جامعي محال على التقاعد برتبة العميد في الجيش السوري 1970 - 2004م، له العديد من المؤلفات منها: • إحصاء الأفعال العربية في المعجم الحاسوبي، مكتبة لبنان 1996. • دليل الأخطاء الشائعة في الكتابة والنطق. دار الرضا، دمشق، ط1، 2000، ط2، 2004. • معجم مصطلحات المعلوماتية، الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية 2000. • الجلسات العملية لقسم اللغة العربية. منشورات جامعة دمشق، 1999- 2000. • دليل جموع التكسير. دار الرضا للنشر، الطبعة الأولى، 2003. • قواعد العدد والمعدود، مجلة الوعي الإسلامي، 2014. • دراسة في تقييم الترجمة الآلية - تقييم المترجم الآلي "غوغل" نموذجًا 2018. الكتب المترجمة من الإنجليزية إلى العربية: • إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن، مكتبة العبيكان، الرياض 2005. • كيف تُعِدُّ خطةَ عملك. مكتبة العبيكان، الرياض 2007. • مَن سَرَقَ مبيعاتي، تُودْ دَنْكان. مكتبة العبيكان، الرياض 2008. • لا تأخذ القطعة الأخيرة، جوديث باومان. مكتبة العبيكان، الرياض 2009. • مصباح علاء الدين، جون فريلي، دار الكتاب العربي، لبنان 2010 (بالمشاركة).
قصة داودَ عليه السلام (2) أخبار داود عليه السلام انتقل الملك إلى داود بعد مقتل طالوت وبنيه، وجمع الله لداود النبوة مع الملك، فأقبل الناس على داود يعلنون الطاعة، ولما اجتمع بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، كتابًا فيه تجديد للشريعة التي أتى بها موسى عليه السلام، وعلَّمه الله صنعة الدروع من الحديد، وألانه له، إما بتشكيله كما يريد معجزة له، وإما باستخدام وسيلة لإلانته؛ كالنار التي تستخدم لهذا الغرض حتى اليوم. وكان داود حسن الصوت، يتلو الزبور تلاوة رائعة، بصوت يخشع له من يسمعه، حتى إن الجبال والطير تسبِّح معه أثناء التلاوة انفعالًا وخشوعًا، ولذة عبادة وتسبيح؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 17، 18]، وهنا وصفٌ دقيق لداود، من حيث حبه للعمل، ويده يد صناع، تعمل لكسب الرزق وحب الإنتاج بما يفيد، وإن أفضل رزق العبد من كسب يده؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خفف عن داود عليه السلام القُرْآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القُرْآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده) ). وفي سورة سبأ وردت هذه المعاني بأسلوب آخر اهتمامًا وتوجيهًا وبيانًا لما كان عليه داود عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11]؛ فالله أعطى داود هذه الميزة منًّا منه وفضلًا؛ حيث أمر الجبال والطير أن تردد معه ما يتلوه من الزبور تهجدًا وتسبيحًا، وفي الآية حثٌّ لداود وتشجيع له بأن الله معه في طلبه الرزق من خلال عمل الدروع وإحكام صنعتها: ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 11]؛ أي: اجعَلِ الأمر في الصناعة محسوبًا في غاية الدقة وحسن الصناعة، فلا إفراط ولا تفريط، وهو ما نعرفه في صناعة اليوم المتقنة، بحيث توضع كل قطعة في مكانها الصحيح حسب غرضها والجهد الذي تتحمله، فيأتي كل شيء بشكل موزون، وهذا ما عنته الآية الكريمة: ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 11]؛ أي: اجعل القطعة الثقيلة القوية في المكان الذي يتعرض فيه المقاتل للإصابة الأكثر والأقوى والقطعة الأقل قوة في المكان الذي يقل فيه التعرض للإصابة، وهذا أصبح قاعدة لصانعي الدروع فيما بعد؛ فالرأس والعنق والصدر والعضدان أماكن تحتاج للحماية القوية بخلاف الظهر، فقلما يتعرض للإصابة، إلا إذا كان المقاتل فارًّا وموليًا الدبر، فلو وضعت القطع على الدرع في كل الأماكن بشكل متشابه وموحد لثقل الدرع كثيرًا، إن كانت من النوع الثقيل، ولضعف الدرع عن تأدية الحماية، إن كانت من النوع الخفيف، فالله منَّ عليه وعلمه هذه الصنعة مع إتقانها: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]. وكان داودُ من العباد الزهاد رغم نعيم الملك: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 18]، فكانت الجبال تسبح اللهَ معه؛ وذلك لحُسن صوته، وكان تسبيحه مساءً وصباحًا، ﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 19]، وكانت الطيرُ تجتمع لهذا الصوت الحسن وتردد معه التسبيح، وذكر "الطبري" أن الله أمر الجبال والطير أن يسبِّحْن معه إذا سبح، ولم يعطِ الله - فيما يذكرون - أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع لصوته؛ "أي من شدة انجذابها للصوت تستسلم لمن يأخذ بأعناقها ولا تقاوم". وكان داود شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء؛ ولذلك كان الصحابة إذا أرادوا الانقطاع للعبادة من صلاة وصوم أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عبادتهم مشابهة لما انتهجه داود، فلا يزيدون عنه؛ لأنهم ربما لا يطيقون أن يفعلوا أكثر منه؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري: أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت الذي تقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت؟) )، قلت: قد قلته، قال: ((إنك لا تستطيع ذلك؛ فصُمْ وأفطر، وقم ونَم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر) )، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومين) )، قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود، وهو أعدل الصيام) )، قلت: إني أطيق أفضل منه يا رسول الله، فقال: ((لا أفضل من ذلك) )، وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) )، هذا في النفل، أما الفرض فكما فرضه الله من صلاة أو صيام. ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ [ص: 20] بتأييده بالمعجزات الظاهرة الباهرة والقوة التي يتمتع بها، والملك بما فيه من الجنود؛ ولهذا كان ملكه قويًّا مستقرًّا يخشاه الأعداء، ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20]، ومِن تمام نعم الله عليه أنه ملِك نبي حكيم، وقوله في المسائل التي تعرض عليه هو القول الفصل الصائب، ورُوي أن داود عليه السلام كان قد جعل له ثلاثة أيام؛ يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه للعبادة، ويوم يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وقيل: له أربعة أيام: يوم لعبادته، ويوم لنسائه، ويوم يقضي فيه بين الناس، ويوم لبني إسرائيل، وهكذا كان دهره، ولما أوتي من العلم والحكمة كان يعرف الفضل لمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، وكان يتمنى أن يمتحن بمثل ما امتحنوا به؛ لينال مثل أجورهم، ولكن الله تعالى قال - كما ذكر في القُرْآن الكريم -: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253]. ومع ذلك يروي أهل السير أن داود طلب من ربه أن يمتحن لترتفع درجته، ومن خلال إيراد هذه القصة الطريفة يتبين لنا مدى الامتحان الذي خضع له داود، قال داود: يا رب، ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم، قال: فأوحى الله إليه إنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل بصورة حمامة من ذهب حتى وقعت عند رجليه وهو قائم يصلي، قال: فمد يده ليأخذها فتنحت فتبعها، فتباعدت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر أين تقع فيتبع أثرها، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خَلقًا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، فسأل عنها فأخبر أن لها زوجًا، وأن زوجها بمسلحة كذا وكذا، فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا - اسم زوجها وكان في الجيش - إلى عدو كذا وكذا، فبعثه ففتح له، وكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسًا، فبعثه، ففتح عليه أيضًا، فكتب إليه أن أبعثه إلى عدو كذا وكذا، فبعثه، فقتل في المرة الثالثة، قال: فتزوج داود امرأته، فلما دخل عليها لم تلبث عنده إلا يسيرًا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين، فطلبا أن يدخلا عليه، فمنعهما الحرس أن يدخلا - فكان في يوم عبادته - فتسوروا عليه المحراب، قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما جالسان بين يديه، ففزع منهما، فقالا: لا تخف إنما نحن ﴿ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ ﴾ [ص: 22]، فكيف يشطط وهو النبي الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب وفي حكمه وقضائه العدل والإنصاف؟ فقال: قصا عليَّ قصتكما، قال أحدهما: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [ص: 23] فهو يريد أن يأخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة، فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة، قال داود: وهو كاره؟! قال: إذًا لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر، قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ذلك ضربنا منك هذا وهذا - الأنف والجبهة - فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأهريا - وذكر أن اسمه أوريا - إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته، قال: فنظر فلم يرَ شيئًا، فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتلي به، قال: فخر ساجدًا فبكى، قال: فمكث يبكي ساجدًا أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدًا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، وكان يقول في دعائه: "رب، زلَّ داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب، رب، إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلوف من بعده"، فأوحى الله إليه بعد أربعين يومًا: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء - وهو يعلم أن لأهريا حقًّا شخصيًّا لا يسقط - إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دمًا في قبل عرشك يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟! قال: فأوحى الله إليه إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة، قال: يا رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض". وصوَّر القُرْآنُ هذه الحادثة عن داود بأسلوب بديع مختصر: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 23 - 25]، هذه الرواية هي من أفضل ما روي في هذه القصة عن داود، وهي تنسجم مع مدلول الآيات، لكن ورد أيضًا كلام فيها أنها ضعيفة، وقال الألباني: والظاهر أنها من الإسرائيليات التي نقلها أهل الكتاب الذين لا يعتقدون العصمة للأنبياء، وبرَّرها علماء آخرون أنها ابتلاء لداود، ثم تاب فتاب الله عليه، وقال آخرون: ليس للقصة صحة، وإنما تعجل داود فأصدر حكمه على صاحب التسع وتسعين نعجة قبل أن يسأله منساقًا إلى كلامه الأول، وكان عليه أن يستمع من الخصمين، غير أن القصة تظهر سماعه من الخصمين ، والله أعلم. وبعد قَبول الله - جلت قدرته - توبة داود التي يستحقها لإخلاصه فيها وبذل العزم على ألا يعود، جاءه الأمر الفصل من ربه ليلتزم تعاليم الله ويبتعد عن هوى النفس؛ فإن هوى النفس يوقع في التهلكة: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].
التَّرتيب الزَّمني لما صنَّفه الإمام النَّووي الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فـ(لا يخفى على ذي بصيرةٍ أنَّ لله تبارك وتعالى عناية بالإمام أبي زكريَّا محيي الدِّين يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي (631 هـ - 676 هـ) - رحمه الله تعالى - وبمصنَّفاته) [1] ، (وقد نفع الله الأمة بتصانيفه، وانتشرت في الأقطار، وجلبت إلى الأمصار) [2] ، (وأضحت للدِّين والإسلام أنجمًا وشهبًا) [3] ، (وانتفع النَّاس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبُّوا على تحصيل تواليفه، حتَّى من كان يشنؤها في حياته مجتهدًا على تحصيلها والانتفاع بها بعد مماته) [4] ، (وقد أُسعِف بالتَّأييد، وساعدته المقادير، فقرَّبت منه كل بعيد، ولا شكَّ أنَّ ذلك يحتاج بعد الأهليَّة إلى ثلاثة أشياء: أحدها: فراغ البال، واتِّساع الزَّمان، وكان -رحمه الله تعالى- قد أوتي من ذلك الحظَّ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من نفس ولا أهل. والثَّاني: جمع الكتب التي يستعان بها على النَّظر والاطلاع على كلام العلماء، وكان -رحمه الله- قد حصل له من ذلك حظٌّ وافر، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت. والثَّالث: حسن النِّيَّة، وكثرة الورع، والزُّهد، والأعمال الصَّالحة التي أشرقت أنوارها، وكان -رحمه الله- قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى. فمن تكون اجتمعتْ فيه هذه الخلال الثَّلاث أنَّى يضاهيه أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها) [5] . وبين يديك وأمام ناظريك جهدٌ متواضعٌ في تتبُّع مصنَّفاته وآثاره العلميَّة من حيث التَّرتيب الزَّمني، اقتصرتُ فيه على ما وقفتُ عليه من نصوصه الصَّريحة [6] أو نصوص أهل العلم بأنَّها من أوائل مصنَّفاته أو أواخرها، وأَثبتُّ عمره في كلٍّ منها. وستتجلَّى لك جُملة جليلة من عادات الإمام النَّووي في تأريخ مصنَّفاته، تتلخَّص فيما يلي: 1- أنَّه يحرص على تدوين تاريخ فراغه في أغلب تصانيفه. 2- أنَّه يدوِّن تاريخ بدايته في بعض تصانيفه، مثل: (التِّبيان في آداب حملة القرآن)، و(حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار)، و(روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين)، و(المجموع في شرح المهذَّب)، و(منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري)، و(الإملاء شرح حديث إنَّما الأعمال بالنَّيَّات)، وتأثَّر بهذه العادة تلميذه النَّجيب علي بن إبراهيم ابن العطَّار (المتوفَّى 724 هـ) كما في (تحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين)، و(حكم صوم رجب وشعبان). 3- أنَّه يدوِّن تاريخ بدايته في المجلَّدات والأجزاء أو فراغه منها، مثل: (المجموع في شرح المهذَّب)، و(منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري). 4- أنَّه يسطِّر دعوات في بدايات بعض مصنَّفاته بإتمامها على أحسن الوجوه وأبركها وأنفعها وأعمِّها وأدومها، مثل: (حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار)، و(روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين)، و(المجموع في شرح المهذَّب). 5- أنَّه يجيز أهل عصره من المسلمين في رواية العديد من تصانيفه عنه، مثل: (إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سنن سيِّد الخلائق صلَّى الله عليه وسلَّم )، و(التَّرخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزيَّة من أهل الإسلام على جهة البر والتَّوقير والاحترام لا على جهة الرِّياء والإعظام)، و(ومختصر التِّبيان في آداب حملة القرآن)، و(حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار)، و(الإشارات إلى أسماء المبهمات)، و(وتحرير ألفاظ التَّنبيه)، و(منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري). وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة. أوَّلًا: مصنَّفات الإمام النَّووي التي نصَّ على تأريخها: 1-«إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سنن سيِّد الخلائق صلَّى الله عليه وسلَّم» المعروف اختصارًا بـ:«الإرشاد»: فرغ من تصنيفه: ظهر يوم السَّبت 11 رمضان سنة 663 هـ، وعمره وقتها 32 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: الظُّهر يوم السَّبت حادي عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وستِّين وستمائة بالمدرسة الرَّواحيَّة بدمشق، حماها الله وصانها وسائر بلاد الإسلام. أجزتُ رواية هذا الكتاب عنِّي لجميع المسلمين، أجزتُ روايته لجميع المشتغلين بعلم الحديث أو سماعه، أجزتُ روايته لجميع المشتغلين بالفقه من الطَّوائف. كتبه مصنِّفه: يحيى بن شرف النَّواوي، وتلفَّظ بالإجازة، عفا الله عنه. وذلك يوم الخميس الثَّاني والعشرين من شعبان سنة خمس وستين وستمائة) ا.هـ. هكذا بخطِّ الشَّيخ القاضي شمس الدِّين محمَّد بن عيسى بن محمود ابن المجد البعلي الشَّافعي (المتوفَّى 730 هـ)، عن حاشية بخطِّ المصنِّف على كتابه (الإرشاد) المختصر منه كتاب (التَّقريب والتَّيسير). التَّقريب والتَّيسير، مكتبة تشستربيتي، رقم (3271) [38/أ] 2-«التَّرخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزيَّة من أهل الإسلام على جهة البر والتَّوقير والاحترام لا على جهة الرِّياء والإعظام » : فرغ من تصنيفه: آخر يوم السَّبت 22 جمادى الأولى سنة 665 هـ [7] ، وعمره وقتها 34 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ من جمعه: آخر يوم السَّبت الثَّاني والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة. أجزتُ رواية هذا الكتاب لأهل زماني. كتبه مصنِّفه: يحيى النَّووي، عفا الله عنه، يوم الثُّلاثاء الثَّاني من ذي القعدة سنة خمس وستين وستمائة، وتلفَّظ بالإجازة ) ا.هـ. الترخيص، مكتبة لا لي له، رقم (1482-m) [56/ب]، منسوخ سنة 720 هـ التَّرخيص، المكتبة البديرية، رقم (249) [82/ب]، منسوخ سنة 757 هـ الترخيص، المكتبة الظاهرية، رقم (6704)، منسوخ سنة 768 هـ الترخيص، مكتبة الفاتح، رقم (4522) [123/أ] 3-«التِّبيان في آداب حملة القرآن » : بدأ في تصنيفه: يوم الخميس 12 ربيع الأوَّل سنة 666 هـ، وفرغ منه: صبيحة يوم الخميس 3 ربيع الآخر من السَّنة نفسها، فأتمَّه خلال 22 يومًا تقريبًا ، وعمره وقتها 35 عامًا. قال الإمام النَّووي: (ابتدأتُ في جمعه: يوم الخميس الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل سنة ست وستين وستمائة، والحمد لله ربِّ العالمين) ا.هـ. وقال: (وفرغتُ من نسخه: صبيحة يوم الخميس الثَّالث من شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وستمائة) ا.هـ. التبيان، مكتبة لا له لي، رقم (102) [1/أ] التبيان، مكتبة لا له لي، رقم (101) [57/ب] التبيان، مكتبة الفاتح، رقم (684) [158/ب] 4-«مختصر التِّبيان في آداب حملة القرآن » : فرغ من تصنيفه: ليلة الثُّلاثاء 8 ربيع الآخر سنة 666 هـ ، فأتمَّه بعد 6 أيَّام تقريبًا من إتمامه لأصله ، وعمره وقتها 35 عامًا. قال الإمام النَّووي -كما وُجد بخطِّه-: (فرغتُ من تصنيفه: ليلة الثلاثاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وستمائة. وأجزتُ روايته لجميع المسلمين) ا.هـ. مختصر التبيان، المكتبة الظاهرية، رقم (6839 ت) [12/ب] 5-«حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدَّعوات والأذكار المستحبَّة في اللَّيل والنَّهار » المعروف اختصارًا بـ:«الأذكار»: بدأ في تصنيفه: يوم الخميس 24 رمضان سنة 666 هـ، وفرغ منه: في المحرَّم سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا، فأتمَّه خلال 4 أشهر تقريبًا. قال الإمام النَّووي: (ابتدأتُ فيه يوم الخميس الرَّابع والعشرين من شهر رمضان سنة ست وستين وستمائة، أسأل الله الكريم إتمامه عاجلًا على أحسن الوجوه) ا.هـ. وقال: (فرغتُ من جمعه في المحرَّم سنة سبع وستين وستمائة سوى أحرف ألحقتها بعد ذلك. وأجزتُ روايته لجميع المسلمين) ا.هـ. الأذكار، مكتبة عاطف أفندي، رقم (1524)، [1/أ] [242/ب] 6-«الإيضاح في مناسك الحج والعمرة » : فرغ من تصنيفه: صبيحة الجمعة 10 شهر رجب سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . قال الإمام النَّووي: (فرغتُ من تصنيفه: صبيحة الجمعة العاشر من رجب سنة سبع وستين وستمائة)ا.هـ. الإيضاح، مكتبة آيا صوفيا رقم (1471) [102/ب] 7-«الإشارات إلى أسماء المبهمات » : فرغ من تصنيفه: ليلة الأربعاء 20 شهر شعبان سنة 667 هـ ، وعمره وقتها 36 عامًا . قال الإمام النَّووي: (فرغتُ من هذا الكتاب: ليلة الأربعاء العشرين من شعبان سنة سبع وستين وستمائة. وأجزتُ روايته لجميع المسلمين) ا.هـ. الإشارات، مكتبة مسجد الأقصى، رقم (62) (ف 95) [26/أ] 8-«الأربعين في مباني الإسلام وقواعد الأحكام » المعروف اختصارًا بـ: «الأربعين النَّوويَّة » : فرغ من تصنيفه: ليلة الخميس 29 شهر جمادى الأولى 668 ه، وعمره وقتها 37 عامًا . قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: ليلة الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وستمائة) ا.هـ. الأربعين، مكتبة مسجد الأقصى، رقم (62) (ف 95) [35/أ] 9-«روضة الطَّالبين ومنهاج المفتين » : بدأ في تصنيفه: يوم الخميس 25 شعبان [8] سنة 666 هـ، وعمره وقتها 35 عامًا، وفرغ منه: يوم الأحد 15 ربيع الأوَّل سنة 669 هـ ، وعمره وقتها 38 عامًا، فأتمَّه خلال سنتين و7 أشهر تقريبًا. قال الإمام النَّووي: (ابتدأتُ فيه: يوم الخميس الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وستين وستمائة. أسأل الله الكريم إتمامه مصونًا على أحسن الوجوه وأبركها وأنفعها وأعمِّها وأدومها ونفعي ونفع مشايخي ووالدي وأهلي وسائر أحبَّتي به) ا.هـ. وقال: ( فرغتُ منه يوم الأحد الخامس عشر من شهر ربيع الأوَّل سنة تسع وستين وستمائة) ا.هـ. روضة الطالبين، المكتبة الظاهرية، رقم (2152) [1/أ] روضة الطالبين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (1195) [247/أ] 10-«منهاج الطَّالبين وعُمدة المفتين»: فرغ من تصنيفه: يوم الخميس 19 رمضان سنة 669 هـ، وعمره وقتها 38 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: يوم الخميس التَّاسع عشر من شهر رمضان سنة تسع وستين وستمائة)ا.هـ. ورآه كذلك بخطِّه في آخر الكتاب: الإمام ابن الملقِّن في «عمدة المحتاج إلى شرح المنهاج » (1/229)، والحافظ السُّيوطي في «المنهاج السَّوي » (ص 68)، والحافظ السَّخاوي في «المنهل العذب الرَّوي » (ص 76). منهاج الطالبين، مكتبة آل عبد القادر بالأحساء، رقم (88/أ)، [158/ب] منهاج الطالبين، مكتبة الفاتح، رقم (2184)، [178/ب] 11-«رياض الصَّالحين » : فرغ من تصنيفه: يوم الاثنين 4 رمضان سنة 670 هـ، وعمره وقتها 39 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: يوم الاثنين رابع [9] شهر رمضان سنة سبعين وستمائة)ا.هـ. رياض الصالحين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (1835)، [261/ب] 12-«العمدة في تصحيح خلاف التَّنبيه » [10] : فرغ من تصنيفه: صبيحة الجمعة 27 رجب سنة 671 هـ، وعمره وقتها 40 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: صبيحة الجمعة السَّابع والعشرين من رجب سنة إحدى وسبعين وستمائة) ا.هـ. مكتبة الأحقاف، رقم (184) 13-«تحرير ألفاظ التَّنبيه » : فرغ من تصنيفه: يوم الأربعاء 25 ذي الحجَّة 671 هـ ، وعمره وقتها 40 عامًا. قال الإمام النَّووي: (فرغتُ منه: يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي الحجَّة سنة إحدى وسبعين وستمائة. أجزتُ روايته لجميع المسلمين. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله سيِّدنا محمَّد النَّبي وآله وصحبه وسلَّم) ا.هـ. مكتبة الأحقاف، رقم (184) 14-«قسمة الغنائم » : فرغ من تصنيفه: في أوَّل سنة 674 هـ ، وعمره وقتها 43 عامًا . قال الإمام النَّووي في (منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري) (10/333): (وقد أوضحتُ هذا في جزء جمعتُهُ في قسمة الغنائم، حين دَعت الضَّرورة إليه، في أوَّل سنة أربع وسبعين وستمائة) ا.هـ. المجلد الثَّالث من منهاج المحدِّثين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (699) [232/أ] 15-«المجموع في شرح المهذَّب » : بدأ في تصنيفه: آخر يوم الخميس 8 من شهر شعبان سنة 662 هـ، وعمره وقتها 31 عامًا، وبدأ في باب الأذان يوم الأربعاء 27 المحرَّم سنة 671 هـ، وختم الجنائز ضحوة يوم عاشوراء سنة 673 هـ، وفي ذلك اليوم بدأ في كتاب الزَّكاة، وختم باب الإحرام يوم الاثنين تاسع شوَّال، وفي ذلك اليوم بدأ بباب صفة الحجّ، وختم رُبع العبادات يوم الاثنين 24 ربيع الأوَّل سنة 674 هـ، وافتتح كتاب البيع إلى أثناء الرِّبا ولم يُعيِّن تاريخًا، وذلك في مدَّة زمنيَّة تزيد على 12 سنة تقريبًا. قال الإمام النَّووي: (ابتدأتُ في هذا المجموع المبارك آخر يوم الخميس الثَّامن من شعبان سنة اثنين وستّين وستمائة. والله المسؤول إتمامه على أحسن الوجوه سريعًا) ا.هـ. وقال عن بدئه في كتاب الزَّكاة: (بدأتُ في هذه المجلَّدة: يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة ثلاث وسبعين وستمائة. أسأل الله الكريم إتمام الكتاب سريعًا مصونًا نافعًا مباركًا، آمين ) ا.هـ. وقال الإمام التَّاج السُّبكي: ( بدأ في شرح المهذَّب كما رأيتُ بخطِّه: يوم الخميس ثامن شعبان سنة اثنتين وستين وستمائة، إلَّا أنَّه يقطع عليه فيه العمل، فرأيتُ بخطِّه ابتدأ في باب الأذان يوم الأربعاء سابع عشري المحرَّم سنة إحدى وسبعين وستمائة، وختم الجنائز ضحوة يوم عاشوراء سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وفي ذلك اليوم بدأ في كتاب الزَّكاة، وختم باب الإحرام يوم الاثنين تاسع شوَّال من هذه السَّنة، وفي ذلك اليوم بدأ بباب صفة الحجّ، وختم رُبع العبادات يوم الاثنين رابع عشري ربيع الأوَّل سنة أربع وسبعين وستمائة، وافتتح البيع إلى أثناء الرِّبا، ومات، ولم يُعيِّن تاريخًا ) ا.هـ. الجزء الأوَّل من المجموع في شرح المهذَّب، مكتبة آيا صوفيا، رقم (1295) [1/أ] المجلَّد الرَّابع من المجموع، مكتبة تشستربيتي، رقم (3380) [1/أ] الترشيح على التوشيح، للتاج السبكي، جامعة الملك سعود، رقم (68) [80/ب] 16-«منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري » : بدأ في تصنيفه: أوَّل يوم الاثنين 3 رجب سنة 664 هـ، وعمره وقتها 33 عامًا، وفرغ إلى آخر كتاب الإيمان يوم الجمعة 2 جمادى الآخرة سنة 666 هـ، وفرغ إلى آخر كتاب صلاة المسافرين وقصرها يوم الأحد 15 ربيع الآخر سنة 672 هـ، وبدأ في كتاب الجمعة في اليوم الذي يليه، وفرغ منه كاملًا أوَّل يوم الاثنين 23 جمادى الأولى سنة 675 هـ ، وعمره وقتها 44 عامًا ، فأتمَّه خلال 11 سنة تقريبًا. قال الإمام النَّووي: (بدأتُ فيه: أوَّل يوم الاثنين ثالث رجب سنة أربع وستين وستمائة) ا.هـ. وقال في آخر كتاب الإيمان: (فرغتُ منه: يوم الجمعة الثَّاني من جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته على سيِّدنا محمَّد وآله أجمعين) ا.هـ. وقال في آخر كتاب صلاة المسافرين وقصرها: (فرغتُ منه: يوم الأحد الخامس عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثنتين وسبعين وستمائة) ا.هـ. وقال في أوَّل كتاب الجمعة: (بدأتُ فيه: أوَّل يوم الاثنين السَّادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثنتين وسبعين وستمائة) ا.هـ. وقال في آخر الكتاب: (فرغتُ منه: أوَّل يوم الاثنين الثَّالث والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وستمائة. وأجزتُ روايته لجميع المسلمين) ا.هـ. المنهاج، المكتبة السليمية، رقم (801/1)، [2/أ] المنهاج، مكتبة فيض الله أفندي، رقم (440)، [63/ب] الجزء الثَّاني من منهاج المحدِّثين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (698) [156/ب] الجزء الرَّابع من منهاج المحدِّثين، مكتبة آيا صوفيا، رقم (700) [255/ب] 17-«الإملاء شرح حديث إنَّما الأعمال بالنَّيَّات » : بدأ في تصنيفه: يوم الخميس 23 ربيع الآخر سنة 676 هـ، وعمره وقتها 45 عامًا تقريبًا، وقبل وفاته بثلاثة أشهر. قال الإمام النَّووي: (بدأتُ فيه: يوم الخميس الثَّالث والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وستمائة، بدار الحديث الأشرفيَّة، بدمشق، حماها الله وصانها، آمين) ا.هـ. الإملاء، مكتبة مسجد الأقصى، رقم (62) (ف 95)، [36/أ] ثانيًا: مصنَّفات الإمام النَّووي التي نصَّ أهل العلم على تأريخها: 1-«نُكت التَّنبيه » : من أوائل مصنَّفاته. قال الإمام الإسنوي في (المهمَّات في شرح الرَّوضة والرَّافعي) (1/97): (ومنها: نُكت على مواضع متفرِّقة من التَّنبيه، في مجلَّدةٍ ضخمةٍ، وهي من أوائل ما صَنَّف) ا.هـ [11] . المهمَّات للإسنوي، المكتبة الظاهرية، رقم (2325)، [2/ب] 2-«النِّهاية في الاختصار للغاية » : من أوائل مصنَّفاته. قال الإمام ابن الملقِّن في (عمدة المحتاج) (1/232): (ومما يُعزى إليه: النِّهاية في الفقه، وعندي أنَّها ليست له [12] ، وإن كانت له، فلعلَّها ممَّا صنَّفه في أوَّل أمرهِ) ا.هـ. المنهل العذب الرَّوي بخطِّ مصنِّفه السَّخاوي، مكتبة الشيخ زهير الشَّاويش، رقم (169)، [25] 3-«التَّنقيح في شرح ألفاظ الوسيط » : من أواخر مصنَّفاته. قال الإمام الإسنوي في (المهمَّات) (1/98): (وشرح على الوسيط سمَّاه: التَّنقيح، وصل فيه إلى كتاب شروط الصَّلاة .. كتابٌ جليلٌ من أواخر ما صَنَّف) ا.هـ [13] . المهمَّات، المكتبة الظاهرية، رقم (2325)، [3/أ] 4/5-«قسمة الغنائم » ، و«مختصره » : هما من أواخر مصنَّفاته. قال الإمام الإسنوي في (المهمَّات) (1/97): (وفي قسمة الغنائم، وهو مجلَّد مشتمل على نفائس، وقد اختصره أيضًا، وهما من أواخر تصانيفه وأمتعها) ا.هـ [14] . المهمَّات، المكتبة الظاهرية، رقم (2325)، [3/أ] 6-«تحقيق المذهب » أو «التَّحقيق » : من أواخر مصنَّفاته. قال الإمام التَّاج السُّبكي: ( وأمَّا تحقيق المذهب للنَّووي، فأظنُّه من آخر مصنَّفاته ) ا.هـ. الترشيح على التوشيح، للتاج السبكي، جامعة الملك سعود، رقم (68) [80/ب] هذا والله أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] قاله التَّاج السُّبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) (8/398). [2] قاله الذَّهبي في (تاريخ الإسلام) (15/329). [3] قاله ابن الملقّن في (عمدة المحتاج إلى كتاب المنهاج) (1/229). [4] قاله تلميذه ابن العطَّار في (تحفة الطَّالبين) (ص 63). [5] قاله التَّقي السُّبكي في مقدمة تكملة (المجموع) (10/3). [6] أمَّا إحالاته في كتبه الأخرى على مصنَّفاته التي لم أقف على تأريخها، -فهي وإن كانت ليست قرينة كافية للجزم-، فلعلَّ الله تعالى أن ييسِّر تتبُّعها بمنِّه وتوفيقه. [7] هذا هو التَّاريخ الصَّحيح الذي تواطأت عليه جُلّ النُّسخ الخطِّيَّة النَّفيسة القريبة من عهد المصنِّف والتي قوبلت وصحِّحت على أصول معتمدة، أمَّا ما تفرَّدت به بعض النُّسخ الخطِّيَّةٍ من أنَّه فرغ منه يوم الخميس بعد الظُّهر التَّاسع والعشرين من المحرَّم سنة 666 هـ، فالظَّاهر أنَّه وَهْمٌ من بعض النُّساخ، والله أعلم. [8] هذا هو الشَّهر الصَّحيح كما: نقله النَّاسخ عبد الكريم بن أبي بكر بن محمَّد بن محمَّد الشَّافعي من خطِّ المصنِّف وأصله، وجاء في نسخة محفوظة منه في مكتبة آيا صوفيا رقم (1188) [1/أ]، وهي مقابلة بنسخة قوبل أصلها بنسخة المصنِّف، وورد هذا اليوم والتَّاريخ بعينه في قيد سماع لكتاب (المجموع) منقول عن خطِّه، كما أنَّه مطابق لليوم والتَّاريخ والشَّهر من السَّنة، أمَّا ما ورد في (المنهاج السَّوي في ترجمة الإمام النَّووي) (ص 64) للحافظ السُّيوطي من أنَّه فرغ منه في شهر رمضان، فالظَّاهر أنَّه من تصحيف النُّسَّاخ، والله أعلم. المجموع، مكتبة آيا صوفيا، رقم (1295) [243/أ]. [9] هذا هو التَّاريخ الصَّحيح الذي وصلنا بخطِّ تلميذه المجاز منه الجمال داود بن إبراهيم ابن العطَّار (المتوفَّى 752 هـ) نقلًا عن نسخة أخيه العلَّامة العلاء علي التي قابلها مع المصنِّف ونسخته وأجازه، وهو المطابق لليوم والتَّاريخ من السَّنة، أمَّا ما ورد في بعض النُّسخ الخطِّيَّةٍ من أنَّه فرغ منه في الرَّابع عشر، فهو وَهْمٌ، والله أعلم. [10] ذكر ابن قاضي شهبة في (طبقات الشافعيَّة) (2/199)، والسَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 77) هذا الكتاب من أوائل ما صنَّف، وهذا نقلٌ منهما عن الإسنوي، وقد وَهِما في ذلك، فكلامه إنَّما عن (النُّكت) لا (العمدة) كما سيأتي. [11] انظر: (طبقات الشَّافعيَّة) (2/199) لابن قاضي شهبة، و(المنهل العذب الرَّوي) (ص 78) للسَّخاوي وسمَّاها: النُّبذ، و(المنهاج السَّوي) (ص 71-72) للسُّيوطي وقال: (وتُسمَّى: التَّعليقة) ا.هـ. [12] ممَّن صحَّح نسبة الكتاب إليه: التَّقي اللَّخمي في ترجمته للنَّووي (ص 57)، وابن طيبغا التنكزي وعلَّق عليه، والتَّقي الحصني وشرحه، والسَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 82)، وممَّن نفى نسبته إليه: الإسنوي في (المهمَّات) (1/98-99). [13] نقله عنه بلا تصريح السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 79)، والسُّيوطي في (المنهاج السَّوي) (ص 72). [14] نقله عنه السُّيوطي في (المنهاج السَّوي) (ص 73).
مستشار اقتصادي: المجتمع بحاجة لحملات توعية وتثقيف عن الاستهلاك جريدة المدينة: الأحد 2/ 5/ 2021م محمد البيضاني - الباحة.. دعا أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور زيد الرماني، إلى التقليل من ظاهرة الإسراف في شهر رمضان والتقنين في شراء احتياجات الشهر الفضيل، حيث إن مشهد التبذير وإهدار الطعام من أكثر السيناريوهات المتكررة في رمضان، وأصبحت الموائد الرمضانية تحتوي على عدد كبير من الأصناف التي تهدر كل يوم ويتم إعداد أطعمة تفوق احتياج وعدد أفراد الأسرة، ويكون مصير أغلب هذه الأطعمة إلى النفايات. وقال الدكتور الرماني: إن حمى التسوق تصيب الكثيرين قبيل قدوم رمضان، بل وتستمر طيلة شهر رمضان، مؤكدًا أن هذا الإسراف والاستهلاك ليس له مبرر، إلا أنها عادة أصبحت لدى الجميع في شهر الصيام. وأوضح أن المجتمع بحاجة حملات توعية وتثقيف عن الاستهلاك حتى لا تتكرر مشاهد بقايا الأطعمة بجوار النفايات كذلك القضاء على العشوائية في الشراء.
العقلية التي ينظر بها الغرب للمسلمين (فرنسا أنموذجا) مع الانفتاح الإعلامي الرهيب، والقرية العالمية الواحدة، وتنوع مصادر الحصول على المعلومة، وتوسع طرق البحث والتنقيب عنها، أصبح اكتساب المعرفة سهل ميسور في متناول الجميع، فيستطيع شخص في أقصى الشرق أن يقرأ تاريخ الغرب من مصادرة الأصلية بضغطة زر وهو في بيته، ويمكنه من الاطلاع على أهم الوثائق والولوج إلى أبرز الموسوعات، والتجول في بين كتب أرقى المكتبات في العالم. ولكن لكي ينشغل الناس عن البحث - عن المفيد - والتفتيش عن النافع والسعي وراء الحقيقة، جاءت وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الأخبار، ودور صناعة السينما والأفلام فألهت الناس عن الفائدة وشغلت المجتمعات عن الحقائق، وأصبحت أداة في أيدي شعوب وشخصيات لها توجهات ومطامع وسياسات تتناسب مع مصالحها، وتنفذ أجندتها وخططها في العالم، فأبعدت الناس عن هذه المعرفة وأشغلتهم عن التنقيب عن المعلومة والسعي وراء الحقيقة. وأغلب هذه الوسائل المؤثرة اليوم مملوكة لكيانات غربية متنفذة تحرك العالم كيف تشاء وتنشر ما تريد، بل إنها تبني دولًا وتتبنى أفكارًا ومناهج وتفرضها على بقية الشعوب، وأصبحت هذه الوسائل هي من تُسير الناس، وتسيطر على عقولهم وأفكارهم حتى قيل: ( الناس على دين إعلامها ). فانخدع الناس بما تظهره هذه القنوات، وتأثروا بما تبثه من أفكار، وانبهروا بهذه الحضارة الغربية التي تقدمها لهم على أنها حضارة المدنية، والعلم والثقافة والحرية، ولو سألت اليوم الشارع العربي والإسلامي عن رأيه في الشعوب الغربية لكال لك كل أنواع المدح والثناء، ولصور لك أن هذه الشعوب، هي النماذج المثلى التي يجب أن نتبعها ونقتدي بها فهم أهل الصناعة وأرباب العلم والثقافة وهم من يعرف معنى الإنسانية ومرسي حقوق الإنسان، وهم من يحمل للعالم الحرية والديمقراطية وغيرها من الصفات التي لا تنتهي. والواجب علينا أن لا نغتر بما تنقله لنا وسائل الإعلام، ومنصات التواصل وقنوات التلفزيون لأن هذه القنوات صنعت لتلمع الثقافة الغربية، وتنقل الوجه البريء للرجل الغربي، وتظهر أن الحضارة الغربية هي الثقافة التي تحترم حقوق الإنسان، وهي المخلص من الظلم والتخلف الذي يعيشه العالم اليوم، فتنقل ما يريدون إظهاره، وتظهر ما يحبون إبرازه فقط، ولكنها في الحقيقة ما هي إلا قناع تخفي وراءها كم هائل من الكذب والتدليس وقلب الحقائق والغش والتزوير، وتحجب المعرفة عن الآخرين، والأحداث اليوم في فرنسا وغيرها من دول أوروبا أكبر دليل على ذلك، وقبل أن نستطرد في ذكر تلك الأحداث والوقائع فإنه ينبغي لنا أن نعرف الواقع الثقافي الأصلي والتاريخ الحقيقي لهذه الشعوب، من أين استقت ثقافتها، وكيف بنت أفكارها، وغرست قيمها، ولكي نعرف ذلك لابد أن نقف على الجذور التي استقت منها أفكارها وبنت عليها تراثها، وكونت منها ثقافتها وهويتها، فلا بد أن نعود إلى الحضارات السابقة وخصوصًا الحضارة اليونانية والرومانية التي تأثرت بها الحضارة الأوروبية المعاصرة، وأخذت كثيرًا من أفكارها ومبادئها وطرق عيشها، يقول أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين": (والظاهرة التي يمتاز بها الروم من بين أمم الأرض المعاصرة بل بعدها، والتي أصبحت لها دينا تدين به وشعارًا تعرف به هي روح الاستعمار والنظر المادي البحت إلى الحياة، وذلك ما ورثته أوروبا المعاصرة عن سلفها الروميين وخلفتهم فيه). فلكي نعرف العقلية الأوروبية اليوم، لابد أن نقف على تلك الحضارات المتعاقبة وكيف كانت تنظر للإنسان والدين والحياة، وهذه الحضارات يمكن أن نصفها بوصف عام قد يبرز في فترة من فترات عمرها، وقد يأفل أحيانا ولكنه مكون ثابت لا يمكن أن تتخلى عنه أو تعيش بدونه إطلاقًا، ويمكن أن نجمل تلك النظرة في نظرتها للإنسان والحياة والدين في (المادية المفرطة)، و الوثنية المتأصلة، والمتعة الشهوانية الجامحة، فما مظاهر الهمجية المتعطشة للدماء والقتل، وما صور الاستعمار التي تنافست فيه أوروبا على السيطرة بعد عصر النهضة والتنكيل بالشعوب واسترقاقها إلا لتشبع تلك الصفات الجامحة بداخلها، والثقافة التي ورثتها من أسلافها، فما عدد القتلى الذين خلفتهم الحروب العالمية، والحروب الاستعمارية إلا من أجل التنافس على السيطرة والنفوذ وتقسيم العالم والسيطرة على مقدراته ومكتسباته، ولكي تقنع هذه القيادات شعوبها ويكون لها اتباع يساعدونها في قتل الشعوب ونهب ثرواتهم وسرقة تاريخهم وآثارهم، عمدت إلى إثارة الحروب وغذت النزاعات بين الشعوب، لكي يكون لهم مدخل يدخلون منه إلى هذه تلك الشعوب والمجتمعات تحت شعار الصلح وحفظ الدماء، وهم في الحقيقة من يذكي الحروب ويغذيها. ثم جاءت هذه الشعوب بنظرية ( الرجل الأبيض ) وجعلت من دعوةِ تفوّق العرق الغربي على باقي الأعراق والأجناس على الأرض وسيلة لإشعال نار الحمية في نفوس شعوبها ومواطنيها، فبررت لنفسها صور استعباد العالم ونهب ثرواته، وقتل أهله وتشريدهم وبيعهم في الأسواق كالكلاب والقطط، وتهجيرهم من قراهم ومدنهم واسترقاقهم للعمل في حقول الإقطاعيين والمتنفذين: يقول الأَمير شَكيب أَرسَلان «إنَّ الإفرنجي هو الإفرنجي.. ما تغير شيءٌ من طبعه، فهو اليوم كما كان عندما زحف إلينا من ثمانمائة سنة!.... وإن المدنية التي يتدرّع بدعواها إن هي إلاَّ غطاء سطحي لما هو كامن في طبعه!، متهيئ للظهور لأدنى حادث، فالمدنية العصرية لم تزد الإفرنجي إلاَّ تفننًا في آلات القتل، وفصاحة في التمويه وتسمية الأشياء بغير أسمائها... وبالجملة فالذي ازددناه منه هو الرثاء لا غير ». بل إنها ترى العيش حقًّا مكفولًا لها دون غيرها، فإذا أردنا أن ندرس العقلية الغربية لابد أن ندرسها ضمن تلك الحضارات، وأنها جزء لا يتجزأ من تلك الشعوب في طريقة تفكيرها ومنطلقها الفكري والعقدي، وثقافتها الأصلية التي بنت عليها حاضرها لنقف على الحقيقة التي لا يراها كثير من الناس اليوم، أو يحاول أن ينسينا إياها الإعلام بما يبثه وينشره من تزوير وكذب، فنظرة الغرب للمسلمين لا تخرج عن تلك الثقافة التي ورثوها، بل إنهم يرون في الإسلام العدو اللدود واللبعبع الذي يجب محاربته، والشماعة التي يبنون عليها فشلهم في السياسة. وقد أخذتُ فرنسا أنموذجًا لأنها هي من تدعي أنها بلد الحرية والديمقراطية، وأنها بلد النهضة ورائدة الفكر والثقافة، وهي من تدعي أنها تدافع عن قيم المساواة و الحرية واحترام الآخر، ولكن عندما ننظر إلى الواقع من الداخل نجد أن هذه الصفات مجرد حبر على ورق، وأن فرنسا هي أكثر تلك الدول دموية وأعظمها حقدًا على بقية الشعوب وأكثرها عنصرية، وما تاريخها في دول شمال أفريقيا وخصوصًا في الجزائر الذي وثقة كُتابها ومؤرخوها إلا شاهدًا حيًّا على فظاعة تلك الحقبة التي أبيد فيها شعب بلا رحمة أو شفقة... وها هي اليوم تعود من جديد لتنكل بالمسلمين الذين يعيشون فيها، وتتعدى على أقدس مقدساتهم، وأعظم مصادر عزتهم باستهزائها بالنبي عليه الصلاة والسلام، وتجريم من يعترض ذلك أو يرفض هذا الواقع، وتضيق عليهم في معيشتهم ومصادر رزقهم، وتمنعهم من شعائرهم وممارسة دينهم والتضييق عليهم في كل ما يخص دينهم، بينما هناك جماعات أخرى دينية لا يتم التدخل في حياتها أو التضييق عليها، وهذا لكي يعلم العالم أن الأمر ليس حالات فردية بل توجه رسمي من الدولة، ونهج مرسوم تسير عليه فلنا أن نتحدث عن تعاملها مع المسلمين الذين يعيشون على أرضها ويبلغ تعدادهم ما يقارب ٨٪ من السكان، والذي يعتبر الدين الثاني في الدولة بعد المسيحية. وإذا أردنا مناقشة نظرة الغرب عامة وفرنسا خاصة للإسلام فأنا سنأخذه من جوانب لا تخرج عن هذه النقاط التي سنتطرق لها، بقليل من التفصيل خشية الاطالة المملة، ومن أراد الاستزادة فليراجع ما كتب حول ذلك العنوان ليرى العجب الذي يقشعر له البدن، وتشيب له الرؤوس. أولًا: اعتقادهم بتفوق العرق الأبيض، وأن بقية الشعوب لا يستحقون العيش إلا تحت سيادتهم وحكمهم، وعليه فهم من يعتلي المناصب المهمة وغيرهم من الشعوب يمتهنون المهن الحقيرة... فنظرتهم إلى من عداهم نظرة دونية، واعتقادهم الثابت الذي يسيرون عليه هو تفوق الجنس الأوروبي الأبيض على بقية الشعوب، وهذه الفكرة منشورة مبثوثة في كتبهم ومؤلفاتهم ورواياتهم أمثال: "نظرية الاستبدال العظيم" لرينو كلموا، ورواية "الاستسلام" لميشال ويلبيك، وكتاب "الانهيا" لميشال ونفري التي تمتلئ بعبارات الكراهية، ونصوص تصف الآخر بالدونية والتخلف والرجعية، وهذه الروايات والكتب هي التي يربون عليها أبناءهم الصغار في المدارس، والمخيمات الكشفية بل إن هذا الفكر هو المحرك لسياستهم والملهم لقادتهم اليوم، ومن الحوادث التي تدل على هذه النظرية: ما وقع للمسلمين في نيوزلندا من هجوم إرهابي راح ضحيته قرابة (51 قتيلًا) والذي نفذه الإرهابي العنصري (برينتون تارنت) عام 2019، حيث وصف نفسه بالرجل الأبيض، وبث خطابه باسم (الاستبدال العظيم)، حيث بين في خطابه أنه يريد الحفاظ على العرق الأبيض من تدنيس المسلمين الغزاة، وهذه الفكرة هي التي يتبناها اليمين المتطرف في أروبا، وما حركة الهوية في ألمانيا إلا لتبني هذا الفكر، والتصدي للهجرة لأوروبا وألمانيا خصوصًا، بل إن الباحثين اليوم خلصوا إلى أن دعاة تفوق العرق الأبيض يستخدمون اليوم مئات المواقع على منصات التواصل الاجتماعي، وعندهم اجتماعات سرية في التخطيط ونشر الكراهية ضد الأعراق الأخرى. ثانيًا: الكيل بمكيالين؛ تدعي فرنسا أنها رائدة العلمانية وحامية الحريات في العالم، فهي تحترم كل الثقافات وتنفتح على كل الشعوب، وتنأ بنفسها عن الدين فهو حرية شخصية لا تتدخل في شئونه، ولكن عندما يأتي الحديث عن الإسلام فإنها تعتبره دين يعيش في أزمة، وتصف المسلمين بأن لهم ارتباطات خارجية، وأنهم يخططون للانفصالية الإسلامية في فرنسا... وغيرها من الادعاءات الباطلة والافتراءات الكاذبة، بل إن وزير داخليتها خرج وقال إن رؤيته لأرفف الطعام الحلال في الأسواق يضايقه ويربط ذلك أيضا بـ الانفصالية الإسلامية، ولكن أين هو من أرفف الطعام اليهودي وباقي الأقليات أليس هذا أيضا يدعو للانفصالية اليهودية أو أنه فقط الطعام الإسلامي الذي يصيبه بذلك، وأيضا ما يجن جنونهم هو أن يروا امرأة محجبة فهذا يعتبرونه رمزًا دينيًّا يجب محاربته والتصدي له، ولكن عندما يرون نساء اليهود وقد غطت كلَّ جسدها فهذا لا يعتبر رمزًا دينيًّا يجب محاربته بل هذا من حرية المعتقد. وبهذه التصريحات واللقاءات من كبار المسئولين في الدولة فإن الحكومة الفرنسي تعمل - على أكبر مستوى لها- ضد الإسلام ومحاولة الحد من تعاليمه والسيطرة عليه، وتكييفه بالطريقة التي تريد وعلى المنهج الذي ترسمه له، وهذا يناقض سياستها التي تدعي أنها تسير عليها، فكيف تدعي الحرية والعلمانية، وعندما تأتي إلى الإسلام تعتبره دينًا دخيلًا غير مرحب به، بل إنها تدعو إلى نبذه، وتنكل بمن يعتنقه وتضيق على رواده، وتصرح بأنه لا يمثل ثقافة فرنسا أو ديانتها وأفكارها، بل تعبره دين دخيل لا يمت لفرنسا بصلة، فهذه ازدواجية توضح لنا البون الشاسع، والفرق الكبير بين ما ينقله الإعلام من دعوات التسامح واحترام الآخر، والحرية المطلقة وقيم المساواة ومبدأ حقوق الإنسان، والترويج لفرنسا على أنها وطن الحريات ومهد التعددية، وبين ما يدار تحت الطاولات ويرتسم في الأروقة من سياسات عنصرية بغيضة لا ترى إلا نفسها ولا تؤمن الا بمبادئها وقيمها الإقصائية وسياساتها البيروقراطية الفاشية. ثالثًا: الحقد القديم: تاريخ فرنسا مع الإسلام قديم جدًّا يعود إلى حقبة الفتح الإسلامي للأندلس في القرن السابع الميلادي، فقد توالت الجيوش الإسلامية على فتح فرنسا بقيادة السمح بن مالك الخولاني، ثم تبعه بعد ذلك عبدالرحمن الغافقي الذي وصلت جيوشه إلى قرى باريس، ولولا انهزام المسلمين في معركة "بلاط الشهداء" لأصبحت فرنسا إمارة إسلامية، تحت راية الدولة الإسلامية، وبهزيمة المسلمين في تلك المعركة الشهيرة وانتصار الفرنسيين بقيادة شارل مارتل (المطرقة) ومنذ ذلك التاريخ وفرنسا تعتقد أنها حامية النصرانية والمتصدية للمد الإسلامي على أوروبا، ففرنسا منذ ذلك التاريخ وهي تحمل ذلك العداء والحقد على الإسلام فلا توجد دولة أوروبية أكثر حقدًا وعداوة للإسلام من فرنسا، والدليل على ذلك المجازر المروعة التي ارتكبتها في حق العرب والمسلمين وخصوصًا في الجزائر، والتنكيل بالشعوب التي استعمرتها أشد التنكيل، بل إنها عملت على طمس هويتهم، ونهب ثرواتهم، وتزوير تاريخهم وتغيير لسانهم، حتى تطمس كل شيء يربطهم بالإسلام، ومحو أيِّ شيء من معالمه في قلوبهم، فاستعملت كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليًّا، واستعملت لغازات السامة التي تبيد كل شيء.. حتى الأشجار والحيوانات لم تسلم منها، وها هي اليوم تعيد ذلك الأمر وتنقض على المسلمين بداخلها الذين لم يرتكبوا جرمًا أو يجنوا جناية في حقها، بل كان لهم بالغ الأثر في الدفاع عنها والإسهام في نهضتها وتطورها، فوصفتهم بالدين الدخيل والمستعمرون الجدد، والدخلاء، وبنت ما يعرف بالإسلامفوبيا أو كراهية الإسلام وغذته بوسائل إعلامها أمثال صحيفة (شارلي ايبدو) فها هو رئيس فرنسا يصرح بدعمه لهذه الصحيفة، ووقوفة معها في صورها المسيئة، وخروجه على وسائل التواصل الاجتماعي مصرحًا بقوله: (لن نتخلى عن الرسوم الكاريكتاورية)، فهذا التصريح كشف لنا مدى التعصب الموغل في القدم والحقد المستشري في الدم، والمتفشي في فرنسا على عكس بقية الدول الأوربية التي تحاول قدر المستطاع دمج المسلمين مع بقية الشعوب الأخرى، فكانت أقرب للاستقرار وظهرت فيها حالات أقل من الإسلامفوبيا. والأدهى من ذلك أن الحكومة الفرنسية علقت كل اخفاقاتها وفشلها أنه بسبب الإسلام، وروجت لهذه الفكرة ودعمتها، حتى يكره المجتمع هذا الدين، وينبذونه عن حياتهم، فانتشر التعدي على المسلمين في الطرقات والمساجد، ووضع كثير منهم في السجون بتهم ملفقة كاذبة، وطُرد المسلمون من أعمالهم وضيق عليهم في أرزاقهم ومعاشهم، واستهزأ بنبيهم ومقدساتهم في الطرقات والمدارس والجامعات، وادرجت الإساءة للنبي عليه الصلاة والسلام في مناهج التعليم الأساسية، رغم أن هناك كثير من الديانات في فرنسا لها أتباع كثر لم يتعرض لهم أو يقال أنهم يحملون شعارات أو رموز دينية فقط المسلمون هم من يحملون رموزًا إسلامية. رابعًا: الحسد: وهذا مذكور في كتاب الله تعالى في كثير من الآيات، حسدهم لهذه الأمة، وهذا الدين الذي يتلاءم مع العقل والفكر، ويجمع السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]. قال ابن كثير: (يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم، وفضل نبيهم). وغيرها من الآيات المبثوثة في القرآن والسنة المطهرة، وهذا واضح من تعامل هذه الحكومات مع أقليات المسلمين في بلدانهم، يحسدونهم على المساواة فيما بينهم فلا فرق في الإسلام بين أبيض وأسود وعربي وعجمي، ويحسدونهم على قوة الترابط بين أفراد المجتمع، والأسرة الواحدة فلا تجد العقوق ولا الزنا والخيانة ولا تجد التشرد للبنت أو الولد كل ذلك مكفول في الإسلام، فتراهم يفرضون عليهم من القوانين التي تريد أن تفرق جمعتهم وتمنعه عن إقامة شعائرهم، والحد من حرياتهم، والتحكم في طريقة معيشتهم. خامسًا: التخلف والرجعية: في الحضارة الغربية يرون أنهم هم أهل الحضارة والمدنية، وأن بقية الشعوب ما هم إلا دخلاء، ومن الواجب التصدي لهم والوقوف أمامهم وطردهم من البلاد، وهذا ما يدور اليوم في أروقتهم وعلى شاشاتهم وفي قنواتهم، ولم لم تكن هذه الفكرة مطروحة في وسائل الإعلام لما فازت أغلب الأحزاب اليمينية المتطرفة في بعض دول أوروبا، وكثرت نسبة الاعتداء على المسلمين ومساجدهم ومقدساتهم في دول أوروبا وظهر ما يعرف بالإسلاموفوبيا الذي أصبح اليوم شعارًا في كل دول أوروبا ينادون به ويتبنونه، حتى أن رئيس وزراء بريطانيا كتب في عموده في جريدة الديلي تلغراف ما نصه: (( إنّ الإسلام تسبّب في تخلّف العالم الإسلامي عن الغرب لعدّة قرون )). وليس غريبا أن يظهر بهذا التصريح فقد سبقه السياسي الفرنسي جول فيرى: 1832 الذي يقول: (إن العنصر الأرقي عليه واجب نقل العنصر الأدنى للحضارة)، وبالتالي فهو يتبع من سبقه في ذلك ويرى أن الإسلام هو ما يؤدي إلى تخلف أوروبا ورجوعها إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى، تخيل أن يصدر هذا ممن يرسمون سياسة أوروبا، فكيف بمن هم دونهم ماذا يا ترى سيقولون أو يفعلون، فكان الواجب أن يقال هذا الكلام من فرد من الأفراد لا سياسي يجب عليه أن يراعي مصالح مواطنيه دون تمييز أو تفرقة. سادسًا: العنصرية والتمييز: لا يوجد شعب على الأرض مارس أنواع التمييز ضد الآخرين كما فعلت أروبا فقد دعت إلى تفوق العرق الأبيض واعتبرته الجنس الذي يستحق يعيش، فأبادوا ملايين من البشر من أجل بقائه وسيادته في أمريكا الشمالية من الهنود الأصليين ومن الأفارقة السود الذين وقعوا تحت الاستعمار والاستعباد من قِبل هذه الفئة العنصرية، بل إنها قامت منظمات مسلحة تدعو إلى إبادة العرق الأسود وأنه لا يستحق العيش ونفذت العديد من الجرائم البشعة والتعذيب المؤلم الذي كان دافعه العنصرية والتمييز. واليوم تعود تلك العنصرية ضد المسلمين بما يعرف (الإسلاموفوبيا) التي زادت في أوروبا وانتشرت. سابعًا: أنهم أصل المشاكل: عاشت أوروبا أزمات متعددة في الاقتصاد والسياسة، وأصبحت هذه الدول تعيش واقعًا صعبًا أثر على المستوى المعيشي للمواطنين، ولكي تخفي ذلك الفشل وتطمس تلك الإخفاقات كان لابد من شماعة يعلقون عليها فشلهم، ويلبسونها كذبهم وخداعهم فنظروا فلم يجدوا إلا الإسلام والمسلمين، فهم يرونهم أصل المشاكل التي تحلُّ بالبلد من فقر وبطالة وانتشار الجريمة والفساد، ويعملون ليلا ونهارًا من أجل إقناع الناس بذلك، و يجندون إعلامهم وأقلامهم المأجورة لترسيخ ذلك المفهوم يقول فنسون جيسير ( Vincent Geisser ): "اليوم، المسلم هو كبش الفداء لإخفاء إخفاقات الديمقراطية الغربية، المسلم ليس هو الضحية المذنب، وإنما هو الضحية الذي من الممكن التضحية به لتبرير مشاكل أوروبا الاقتصادية والاجتماعية". ومنهم من يرى أن هذه المشاكل التي تحاك ضد المسلمين ما هي إلا إرهاصات لعودة الكنيسة للحكم باسم الإله، وبالتالي دعوات تهميش المسلمين وحملات الكراهية ضدهم ما هي إلا للتصالح مع الكنيسة وإعادة دورها في الحياة في فرنسا، فجاءت الدعوات لوضع مشروع (مبادئ تعزيز احترام وقيم الجمهورية)، والتي يقابلها (مكافحة الإسلام الانفصالي) فربطت بين احترام قيم الجمهورية وبين دعوة مكافحة الإسلام الانفصالي، لتبين أن هناك تلازمًا كبيرًا وارتباطًا بين احترام القيم وكراهية الإسلام، وأن الإسلام لا يمكن أن يكون معززا لهذه القيم أو يتواكب معها إطلاقًا، وعليه فإنه يحق للجميع أن يتساءل ما هي الأدلة التي بنت عليها فرنسا أن الإسلام في فرنسا يريد أن ينفصل أو يكون كيانًا تابعًا لأجندات خاصة خارجية، لم تستطع فرنسا أن تثبت شيئًا من ذلك وإنما هي مجرد أوهام، وخيالات وضعتها دون أدلة واقعية تثبت ذلك، فكيف تضيق على أناس، وتحرم آخرين، وتزج بأناس أبرياء في السجون دون دليل يذكر، أين الشفافية والمصداقية؟ كلها مجرد تصريحات لا تتعدى منصات قائليها أو يكون لها أثر في واقع الحياة. ثامنًا: التضييق: تحاول الدول الغربية التضييق على المسلمين في معاشهم وعبادتهم ولباسهم وأكلهم، وهذا التضييق هو ما يعرف بالتمييز لغير الأوروبي في الوظائف وفرص العمل ففي فرنسا مثلا إذا كانت المرأة محجبة فإن فرصة حصولها على الوظيفة تكاد تكون شبه منعدمة.. وسوف أنقل لكم نتائج استطلاع قام به معهد إيفون حيث أكد أن 42% من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا يؤكدون أنهم تعرضوا على الأقل لشكل واحد من التمييز المرتبط بديانتهم، وذلك لمرة واحدة على الأقل خلال حياتهم". وقال 32% إن ذلك حدث في السنوات الخمس الأخيرة. ويتنامى هذا التمييز في حالات عمرية معينة فقد أكد أن أكثر الناس تعرضًا للتميز هم من سن 30-40، وأن التمييز في حق النساء أكثر من الرجال وفي حق المرأة المحجَّبة أكبر. ناهيك عن الاعتداءات اللفظية والحركات العنصرية التي يتعرضون لها يوميًّا في الطرقات والأماكن العامة، ومن هذه الأمثلة يتبن أن التمييز في هذه الدول هو منهج منظم لا يدخل تحت التجريم إذا كان بحق شخص مسلم أو امرأة مسلمة فهؤلاء يعتبر التمييز في حقهم مباح، أما إذا كان هذا التمييز بحق اليهود فهذا يعتبر ضد السامية ونقيض الإنسانية يحاسب عليها القانون، ويتعرض قائلة للحبس والاعتقال. وفي الختام نقول: إن ما يتعرض له المسلمون اليوم في هذه الدول هو نوع من الإرهاب الفكري النفسي، والضغط العصبي، يريدون من خلاله خلق تصور لدى المسلمين في الداخل الفرنسي خاصة والأوروبي عامة يقول لهم إذا تخليتم عن الإسلام فأنتم مرحَّب بكم أما بتمسككم بالإسلام فليس لكم مكان عندنا، وهذا والله لا يزيد المسلمين إلا تمسكًا بدينهم وإقبالًا عليه، ودخول أواجٍ جديدة فيه، ورب ضارة جلبت النفع، فقد بينت هذه الحوادث كذب هؤلاء الغرب وعرَّتهم من القناع الذي يستترون خلفة ويدعون أنهم رواد الحرية والديمقراطية، وأنهم يحترمون جميع الأعراق والأجناس، وكشفت الغطاء عن المخدوعين من المسلمين المنبهرين بهم الذين لا يظهرون في تلفاز أو تجمع إلا وألسنتهم تلهث بالثناء والفخر بحرية فرنسا وديمقراطيتها التي يتغنون بها، فأين تلك الخطب وأين ذلك الثناء مما يجري اليوم من تضييق على المسلمين والتمييز الذي يتعرضون له ولكن لا نقول إلا كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ [محمد: 29]، بل سوف يبين طريقتهم ويعريهم للناس؛ ليعرفوهم على حقيقتهم.
مفهوم العولمة إن "أدبيات" هذا الموضوع (العولمة) مليئةٌ بصورة مذهلة من الطرح الإيجابي لهذا التوجه،كما أن هذه الأدبيات نفسها مليئة كذلك وبالصورة المذهلة نفسها من الطرح السلبي لحركة العولمة [1] ،ومن يسعى إلى تعضيد أي من الرأيين لن يعدم وجود الجدليات المقنعة [2] . لستُ أريد أن أكون من أولئك الذين ينهجون أحد النهجين؛ إذ إن هناك موقفًا ثالثًا، نسميه في ثقافتنا موقف " التوقف " حتى يتبين الأمر، وتكون هناك قدرة على الموازنة بين إيجابيات التوجه وسلبياته، مما يعني أنه توجُّه لا يخلو من الإيجابيات، كما أنه لا يخلو كذلك من السلبيات [3] ، لكن دون المبالغة المفرطة في هذا التوقُّف؛ إذ إنَّ الأحداث المتتالية بسرعة هذا الزمان لا تسمح لمزيد من التردُّد؛ بحجة التوقُّف. قد يتَّهم بعض المتابعين هذا الموقف المتمثِّل في " التوقُّف " أنه مدعاة إلى مضي القطار دون اللحاق به،ومع هذا فمن قال: إن العبرة في ركوب هذا القطار؟ ذلك أنه قطار يمرُّ بعدد من الأنفاق، وقد يؤدي إلى نفق مظلم يصعب الخروج منه،وقد يكون عدمُ ركوب هذا القطار آمَنَ مِن ركوبه؛ لا سيما مع احتمال توقفه معطوبًا في أي لحظة. يصعب تتبُّع الوقفات السلبية إزاء العولمة الحديثة، كما يصعب في هذا المجال الضيِّق تحليل بواعث الوقفات السلبية، إلا أن المتتبع لأدبيات العولمة التي ركزت هذه النظرة السلبية، يرى أنها لا تقوم بالضرورة على منطلق التحفظ لدوافع ثقافية فحسب، بل إن من دوافعها عدم الرضا عن المد الغربي، وهو المسمَّى بالهيمنة التي جاءت بديلًا للاحتلال الآفل، تلك الهيمنة التي يُراد لها أن تكون بديلًا لِما تنادي به بعض التيارات المحلية أو الإقليمية، إلى درجة الدعوة إلى " العولمة المضادة " من منطلق فكري، يوحي بالرغبة في تسجيل مواقف ضدَّ توجُّه فكري آخر قادم من الآخر [4] . لقد أسهم خمسة عشر كاتبًا في ندوة العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي التي عقدها مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع في القاهرة 1419هـ/ 1998م بمعالجة متفاوتة للعولمة، وجاءت إسهاماتهم لتصبَّ في هذه النظرة السلبية تجاه العولمة، بالإضافة ما ظهرت به بعض الأطروحات من أسلوب " جلد الذات " [5] . إن هذا المفهوم المضطرب للعولمة وإن جاء جديدًا في إطلاق المصطلح "العولمة" إلا أن المَعْنيين بالمفهوم يؤكدون أن العولمة مفهومٌ قديمٌ قِدَم الحضارات، التي سعت إلى أن تكون هي المهيمنة متى ما وضح بروزها وتبنِّيها،وفي هذا يذكر الأستاذ كامل الشريف الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة - رحمه الله - أنه "إذا كانت العولمة المعاصرة قد اعتمدت الغزو الثقافي مآخذ الأسلحة لحماية الغزو السياسي والاقتصادي، وشلِّ القدرات الوطنية عن المقاومة، فهو سلاح قديم أيضًا استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع، وخصوصًا في العالم الإسلامي، فالدولة الشيوعية حرَّمت دراسة القرآن الكريم، وأغلقت المدارس الدينية، ومنعت بناء المساجد إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية، ويفتح لدعايتها مساربَ في العالم الإسلامي" [6] . إذا أقحمنا الاحتلال على أنه أداةٌ من أدوات بسط العولمة القديمة، فلا بد من التعريج على مؤثرين آخرين، لا يُستهان بأثرهما في هذا المنحى؛ أحدهما التنصير [7] ، ويعبَّر عنه أحيانًا بالتبشير، والآخر الاستشراق [8] ، بصفتهما أداتين أُخريين من أدوات تسويق العولمة، بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح [9] ، وإن لم يكونا واضحينِ في التأثير؛ إذ إن الأول نحا المنحى التبشيري والثاني نحا منحى البحث العلمي، إلا أنهما سخرا مهمتهما التنصيرية/ التبشيرية والبحثية العلمية في سبيل هيمنة ثقافة الرجل الأبيض متلبسة بالدين على غيرها من الثقافات الأخرى، ومن ثم فإن هناك من ينظر إلى العولمة في ثوبها الجديد على أنها "نوع جديد من أنواع الاستعمار، فيه كل ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسلفه من الأهداف والغايات" [10] . [1] انظر: نعوم تشومسكي وآخرين. العولمة والإرهاب: حرب أمريكا على العالم؛ السياسة الخارجية الأمريكية وإسرائيل/ ترجمة حمزة بن قبلان المزيني - القاهرة: مكتبة مدبولي، 2003م - 276ص. [2] انظر في نقاش البعد الثقافي للعولمة كلًّا من سعيد بن سعد المرطان. البُعد الثقافي لمنظمة التجارة العالمية - وعبدالله السيد ولد أباه. مستقبل الثقافة العربية بين تحديات العولمة وانفصام الهوية - وإحسان علي بوحليقة. تطورات اقتصادية مؤثرة على مستقبل الوطن العربي: الحالة السعودية - وعبدالله بن يحيى المعلمي. الاقتصاد والثقافة في الوطن العربي: نظرة مستقبلية - وحسن بن فهد الهويمل. الثقافة وتحديات العولمة - ص 415 - 560 - وقد وردت في: ندوة مستقبل الثقافة في العالم العربي - الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1423هـ/ 2002م - 1190ص. [3] انظر موضوع الجدل المستمر حول سلبية العولمة أو إيجابيتها. في: نجاح كاظم. العرب وعصر العولمة: المعلومات؛ البعد الخامس - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002م - ص 161 - 170. [4] انظر: عبدالسلام المسدِّي. العولمة والعولمة المضادَّة - (القاهرة): مجلة سطور، (1999م) - ص 338 - 356. [5] انظر: عبدالباسط عبدالمعطي/ محرِّر. العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي - القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999م - 392ص. [6] انظر: كامل الشريف. الشباب المسلم والعولمة - في: المؤتمر العالمي الثامن للندوة العالمية للشباب الإسلامي الشباب المسلم والتحديات المعاصرة - عمان 29 جمادى الآخرة - 3 رجب 1419هـ/ 20 - 23 تشرين الثاني/ أكتوبر 1999م - ص 4. [7] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة. التنصير: مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته - ط4 - الرياض: المؤلف، 1426هـ/ 2005م - 243ص. [8] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة. ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والنشأة والدوافع والأهداف - ط 2 - الرياض: مكتبة التوبة، 1423هـ/ 2003م - 210ص. [9] انظر فقرة: الاستشراق والتغريب وآثارها غير الإيجابية - ص 269 - 270 - في: سيَّار الجميل. العولمة والمستقبل: إستراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين - عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2000م - 439ص. [10] انظر: كامل الشريف. الشباب المسلم والعولمة - مرجع سابق - ص 15.
العبث بتقنية الجنين ظهر في الهند قرارٌ بمَنع استخدام أجهزة الأشعَّة فوق الصوتيَّة، التي تكشف على الحامل من النِّساء، وتدلُّ على طبيعة الجنين، من حيث الجنس، ذكرًا كان أم أنثى؛ والسبب في المنع - على ما قيل - هو أنَّه إذا ظهَر على الجهاز أن الجنين أنثى عمدَت الأمُّ، أو زوجُها، أو أهلُها، إلى إسقاط الجنين بالإجهاض. نقلَت وكالة رويترز للأنباء (الجمعة 24/ 11/ 1427هـ الموافق 16/ 12/ 2006م) عن صندوق الأمم المتَّحدة لرِعاية الطفولة ( اليونيسيف ) أنَّ حوالي عشرة ملايين (10,000,000) طفلة تعرَّضن للإجهاض أو الوأد خلال العشرين سنة الماضية، بمعدَّل خمسمائة ألف (500,000) طفلة سنويًّا، وأنَّ نسبة مواليد الإناث في الهند تقلُّ سبعة آلاف عن المتوسِّط العالمي كلَّ يوم. السبب في إجهاض الجنين الأنثى - على ما قيل - هو أنَّ الأسرة لا تستطيع أن تتحمَّل أعباء هذه الأنثى، عندما تولد، ولا تستطيع تحمُّل الإنفاق عليها عند زواجها، على اعتبار أنها هي المعنية بالمهر، وربَّما التجهيز، فَعُدنا إلى فكرة وأد البنات، ولكن الآن، مع مساعدة قويَّة من منجزات الحضارة الحديثة، والتقنية المتقدِّمة [1] . ليس في هذا اعتراض على منجزات الحضارة الحديثة، ولا على التقنية المتقدِّمة، فهي نتاج العقل البشري، إلَّا أنَّ نتاج العقل البشري يصطدم - أحيانًا - بمعطيات البيئة الثقافيَّة والاجتماعية، مما يؤكِّد مفهوم التوعية والرُّقي بالمجتمعات الأخرى، قبل إقحامها في قبول معطيات التقنية الحديثة، أو إقحام التقنية فيها. ليس الأمر كذلك فقط، بل إنَّ الموضوع يتعلَّق بالنظرة إلى البنات، التي كانت موجودةً من قبل، ولا تزال موجودةً في كثير من المجتمعات، التي لم تصِل إلى مستوى الفهم الدَّقيق للحياة والدنيا، فاتَّكأَت على الأسباب، وكانت نظرتُها قاصرةً، قائمةً على تفكير غير دقيق، والنظرة القاصِرة والتفكير غير الدقيق تؤدِّي إلى مآسٍ في بناء المجتمع، ومنها هذه المأساة في النظرة إلى البنات. ولَّد هذا فئات من النِّساء والرجال نَقموا على المجتمع الذي نظَر هذه النظرة إلى الأنثى، فسعوا - بوعي أو دون وعي - إلى تصديع الأسَر، وإعادة النظر في العلاقات الأسْرية، ضاربين لذلك مثلًا في أنفسهم، بالعزوف عن الزواج، أو الافتراق عن الزوج، إنْ كنَّ متزوِّجات؛ وحيث إنَّ هناك حاجاتٍ فطريةً، لا تحقَّق إلا بالاتِّصال بين الذكر والأنثى، لجؤوا إلى ممارسات تتعارض مع الفطرة، ومع طبيعة الأشياء. من أوَّل ما يتبادر إلى الذهن - هنا - هو التوكيد على النظرة بعيدة المدى، والتفكير السليم؛ وهذه تحتاج إلى قوَّة عظمى في إقناع البشَر، في عدم الاعتماد على الأسباب، مع مطالبتهم في اتِّخاذها، والاجتهاد في طلبها، دون الاتِّكاء الكامل على العقل هنا. نظرتنا نحن المسلمين في هذا المجال واضحة؛ لأنَّ القوَّة العظمى واضحة عندنا، وهي هي عند الجميع، وهكذا ينبغي أنْ تكون - تتمثَّل في وجود خالق مدبِّر رازق - لمن هو موجود من الخلائق من البشَر وغيرهم، ولمن سيوجد، بعلم الله تعالى، من الخلائق كذلك؛ وكل هذا بتدبيرٍ من الله تعالى، ولا نظر هنا إلى الإشاعات حول إمكانية التحكُّم في نوع الجنين، فهذه تقنيات علميَّة، لا يقف الدِّين حيالها موقفًا، بقدر ما تكون بها مصلحة للناس؛ إذ إنَّ "مقاصد الأحكام مَصالح الأنام"؛ كما يقول الأصوليون من علماء المسلمين. لا نظر إلى الحالات الخاصَّة، التي تنعتق من الفئة الرَّابعة، حالة العقم، إلى إحدى الفئات الثلاث السابقة، حالات الإنجاب؛ فهذا كله بإرادة الله تعالى، ثم بالجدِّ في اتخاذ الأسباب، فلا معجزات هنا، ولا تدبيرَ بشريًّا، دون البقاء في الإطار العامِّ لإرادة الله تعالى وتدبيره؛ هذا من ناحية نوع الجنين، وما يعتري البعض عندما يعلم أنه رُزق، أو سيرزق ببنت، فيظلُّ وجهه مسودًا وهو كظيم: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [النحل: 58]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [الزخرف: 17]؛ فهذا خُلُق جاهليٌ، دون النظر إلى الزمان، فالقرن الحادي والعشرون يمكن أنْ تكون فيه جاهليَّات كهذه. أما من ناحية الرِّزق والتربية والتنشئة فإنَّها مكفولة للإنسان، من حيث ما قدَّره الله تعالى له؛ فإن كان الخوفُ من البنات قائمًا على عدم القدرة على تربيتهن مادِّيًّا، فإن الله تعالى قد تكفَّل برِزق الأهل أوَّلا، ثمَّ رزق الأبناء والبنات ثانيًا: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]. وإنْ كان الخوف قائمًا على خشية عدَم قدرة البنات على السير مادِّيًّا في الحياة، مع إمكان التربية في وقت الولادة والطفولة؛ فإن الله تعالى - كذلك - قد تكفَّل برزق الأبناء والبنات، حينما يشبُّون عن الطوق، مع رِزق أهلهم معهم: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، ولدينا العبارة الفطرية القائمة على قاعدة إيمانية حينما نقول: "رزقهم يأتي معهم"، نحن هنا نعني: البنين والبنات. وهذا، متى ما كان الاعتقاد فيه قويًّا، يحصل عمليًّا ومادِّيًّا، أمَّا إذا كان الاعتماد على الأسباب في الرزق، فإن الله تعالى يترك المتَّكل على الأسباب إلى أسبابه، مما يقتضي افتقاره؛ لأن الأسباب ليست عواملَ رِزق، أكثر من كونها أساليبَ ووسائلَ للارتزاق. من هذا المنطلق يمكن لعلماء الأمَّة وحكمائها النَّظر إلى التعامُل، وبمنهج الوسط، مع الفورة السكَّانية التي تَجتاح العالَم، لا سيَّما ما اصطلح على تسميته بالعالم الثالث، المتركِّز في الدول النامية، أو دول الجنوب. الله تعالى، عمومًا، يَرزق مَن يشاء بغير حِساب، ومتى ما كان هذا المفهوم راسخًا في الذِّهن اعتقادًا، انتفَت المخافة من نوع الجنين، وكثرة الأولاد، وما إلى ذلك، مما له علاقة مباشرة بالعيش في هذه الحياة الدنيا. مع قوَّة الاعتقاد ورسوخه عند من يُرزقون بالبنات؛ فإن الله تعالى يجعل فيهن بركةً، لوالِديهنَّ، صغيرات وكبيرات، قد تفوق بركةَ الذكور، الذين يكون التعلُّق بهم - أحيانًا - على حساب الإناث، والوقائع الاجتماعية تعين على تقريب هذا المفهوم من الأذهان، وقد تقف بركة الذكور حين الاعتماد على بركتهم، وعلينا أنْ نواجه هذا المفهوم بجدِّية وعمق وإيمان صادق، واتِّكال على الله تعالى في كل شيء، بما في ذلك الإنجاب، والاعتقاد الجازم أنَّ الإناث لسنَ بأقلَّ بركةً - بإذن الله تعالى - من الذكور، وأنَّهن لا يمكن أنْ يكنَّ عبئًا مادِّيًّا أو اجتماعيًّا، بقدر ما هنَّ لَبِناتٌ لبناء مجتمع حيٍّ نابض. بقيت مسألة رأي شخصي حول هذه الأجهزة التي قد تَكشف عن نوع الجنين، فليس هناك ميلٌ إليها قطعًا؛ لأنَّ الكشف عن الجنين - من حيث جنسُه - قبل ولادته لا يقدِّم ولا يؤخِّر، من حيث نوع الجنين، والانتظار - هنا - ممتِع، وفيه تطلُّع إلى سلامة الجنين ووالدته، أكثر من التطلُّع إلى نوع الجنين، وإنما الذي يُحمد لهذه الأجهزة، إذا انتفى الضَّرر منها، هو قدرتها - بإذن الله تعالى - على متابعة نموِّ الجنين؛ رغبة في التأكُّد من سلامته الخَلْقية، وإمكان معالجة ما قد ينشأ من معوِّقات لدى الجنين، قبل ولادته. الرأي - هنا - لا يقف في طريق التقنيَّة الحديثة، بقدر ما يؤكِّد الغرض، أو الأغراض، التي تُستخدم لها هذه التقنية، بأجهزتها المتطوِّرة، وقد يقال: إنَّه إذا جرَّت التقنيَّة الحديثة إلى مضارَّ - مثل ما يعتقد أنه حاصل الآن في الهند - فإن هناك ما يسوِّغ رفضها، أخذًا بمبدأ درء المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح، وهذا أصل من الأصول التي نؤمن بها. [1] انظر: صالح بن عبدالرحمن الحصين: قضايا بلا حدود - الرياض: المسلم اليوم، 1425هـ - ص (69).
الإمام الشافعي ودوره التجديدي في عصره الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد روى الإمام أبوداود في "سننه" من حديث ابى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدد لها دينها ». روى الإمام البيهقي في " مناقب الشافعي " عن عبد الملك الميموني قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد بن حنبل يرفعه، وقال: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم... وذكر الحديث، ثم قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى. ورُوى مثل ذلك أيضًا عن محمد بن على بن الحسين - رحمه الله - عن بعض أصحابه. فمن هو الإمام الشافعي رحمه الله ورضى عنه؟ هو: أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف، يتصل نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في "عبد مناف". وأُسر جده السائب بن عبيد يوم بدر وفدى نفسه ثم أسلم، وقيل له: لم لم تسلم قبل إعطاء الفداء؟ فقال: ماكنت أحرم المؤمنين ما طمعوه فىّ. وكان شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصورة والخلقة. مولده: ولد الإمام الشافعي رحمه الله سنة خمسين ومائة وهي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وقيل: ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله. قال الإمام البيهقي: هذا التقييد باليوم لم أجده إلا في بعض الروايات أما التقييد بالعام فمشهور بين أهل التواريخ. وكان مولده بـ « غزة »، وقيل: بـ « عسقلان ». ورأت أمه لما حملت به كأن المشترى ( الكوكب المعروف ) خرج من بطنها وانقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظيّة. فقال المعبرون: إنه يخرج من بطنها عالم عظيم يكون علمه في جميع بلاد الإسلام. ولما أتم سنتين خافت أمه من ضياع نسبه لبعده عن أهله فنقلته إلى مكة. وهذا يدلنا على عقل والدة الإمام الشافعي فقد كانت من أعقل النساء، ذكر الإمام الفخر الرازي وغيره: أن أم الإمام الشافعي احتاجت إلى الشهادة في قضية هي وامرأة أخرى فأراد القاضي أن يفرق بينهما ليستوثق من صدقهما فقالت والدة الإمام الشافعي: ليس لك ذلك. قال: ولم؟ قالت لأن الله – عز وجل - قال: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]، فأذعن القاضي. فهذه المرأة العاقلة هي التي قامت بتربية الإمام الشافعي لأنه نشأ يتيمًا، فنقلته إلى مكة خوفًا من ضياع نسبه. وكان الإمام الشافعي في أول الأمر فقيرًا، ولما سلموه إلى المكتب ليحفظ القرآن ما كانوا يجدون أجرة المعلم، فكان المعلم يقصر في التعليم، إلا أن المعلم كان كلما علم صبيانه شيئًا كان الشافعي يتلفف هذا الكلام، ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الأشياء، فنظر المعلم فإذا الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمعها منه، فترك طلب الأجرة، فأتم الشافعي حفظ القرآن كمال سبع سنين. ولما أتم حفظ القرآن انصرفت همته إلى طلب العلم فانشغل بالعربية والشعر حتى وصل إلى منزلة عالية فيه، قال الأصمعي رحمه الله: قرأت " ديوان الهذليين " على شاب من شباب قريش يقال له: محمد بن إدريس الشافعي. وورد عنه أيضًا أنه قال: قرأت شعر الشنفرَى على محمد بن إدريس الشافعي. وكفى بهذه منزلة. وحكى المبرد عن المازني أنه كان يقول: « قول محمد بن إدريس الشافعي حجة في اللغة ». وقال الجاحظ: « نظرت في كتب هؤلاء النابغة، الذين نبغوا في العلم فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي (يعنى الشافعي) كأن لسانه ينظم الدر ». وقال ثعلب: الشافعي يجب أن تؤخذ منه اللغة. وذكر الإمام الزمخشري في " الكشاف " عند قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]. فنقل قول الإمام الشافعي فيها ثم قال: وكلام مثل الشافعي - رضى الله عنه - وهو من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورؤوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد. فهذه شهادات الفحول من أئمة اللغة بتفوق الشافعي ونبوغه في اللغة، ولا عجب في ذلك فهو القائل عن نفسه كما ذكر الذهبي في "السير": أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها. وأما نبوغه في الشعر فهو القائل: ولولا أنَّ الشِّعر بالعلماءِ يُذرِي *** لكنتُ اليومَ أشعرَ من لبيدِ ظل الإمام الشافعي رحمه الله يطلب الشعر إلى أن وقعت له حادثة غيرت مجرى حياته، بل مجرى حياة الأمة، حيث تحول الإمام الشافعي بسببها إلى تعلم الفقه، فكانت حادثة خير وبركة على الأمة كلها. روى الإمام البيهقي في "المدخل" عن مصعب بن عبدالله الزبيري قال عن الشافعي: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يوما يسير على دابة له، وخلفه كاتب لأبى، فتمثل الشافعي ببيت شعر، فقرعه كاتب أبى بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت عن الفقه؟ فهزه ذلك، فقصد لمجالسة الزنجي ابن خالد وكان مفتي مكة. وكان هذا بداية تحول الإمام الشافعي للفقه فلزم مسلم بن خالد الزنجي حتى أذن له بالإفتاء قائلا: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتى. وكانت سنه يومئذ خمس عشرة سنة. وكان الشافعي - رحمه الله - فقيرًا لا يجد ما يكتب عليه، قال رحمه الله: كنت ما أجد ما أشترى به القراطيس فكنت آخذ العظم وأكتب فيه، وأستوهب الظهور من أهل الديوان: ( أي الأوراق المكتوبة المستغنى عنها) وأكتب في ظهرها. ثم سمت همته للقاء الإمام مالك والأخذ عنه، فاستعار كتاب الموطأ من رجل بمكة وحفظه، ثم دخل على والى مكة، فأخذ منه كتابًا إلى والى المدينة، فلما قدم المدينة بلّغ الكتاب لوالى المدينة، فقال والى المدينة: يا فتى لو كلّفتني المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة راجلًا حافيًا كان أهون على من المشي إلى باب مالك. فقلت: إن رأى الأمير أن يحضره. فقال: هيهات. ليتنا إذا ركبنا إليه، ووقفنا على بابه كثيرًا فتح لنا الباب. قال: ثم ركبت وذهبت معه إلى دار مالك فتقدم رجل وقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت الجارية وأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقول: إن كان لك مسألة فارفعها في رقعة حتى يخرج إليك الجواب، وإن كان المجئ لمهم آخر فقد عرفت يوم المجلس فانصرِف. فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والى مكة في مهم، فدخلت ثم خرجت وفى يدها كرسيّ فوضعته، فإذا مالك شيخ طوال قد خرج وعليه المهابة وهو متطيلس فدفع الوالي الكتاب إليه، فلما بلغ إلى قوله: إن محمد بن إدريس رجل شريف من أمره ومن حاله كذا وكذا رمى الكتاب من يده، وقال يا سبحان الله صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يطلب بالوسائل!! قال الشافعي: فتقدمت إليه فقلت: أصلحك الله إني رجل مطلبي من حالي وقصتي كذا وكذا، فلما سمع كلامي نظر إلىّ ساعة، وكان لمالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد، فقال: يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن، فقلت: نعم وكرامة. فقال: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية. ثم قال: إذا كان غدًا تجئ بمن يقرأ لك الموطأ، فقلت له: إني أقرؤه من الحفظ. ثم إني رجعت له من الغد وابتدأت بالقراءة، فكلما أردت قطع القراءة خوفًا من ملالته أعجبه حسن قراءتي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته في أيامٍ يسيرة. فلزم مالكًا حتى توفى مالك رحمه الله ثم ذهب إلى اليمن، ثم دخل العراق وأقام فيها سنتين، لقى فيها أصحاب أبى حنيفة ووقعت بينهم مناظرات، وصنف فيها كتابه القديم وسماه كتاب (الحجة) ثم خرج إلى مصر وأقام بها إلى أن مات سنة أربعة ومائتين، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة ودفن بالمقطم. (رحمه الله تعالى). ثناء العلماء عليه: أثنى على الإمام الشافعي رحمه الله شيوخه وأقرانه وتلاميذه. قال مالك رحمه الله: ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى. وقال يحيى بن سعيد القطان: أنا أدعوا للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة. وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما فبلسان الشافعي. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت قط رجلا أعقل ولا أورع ولا أفصح ولا أنبل من الشافعي. وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبى: أيُّ رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بنى كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للأبدان فانظر هل لهذين من خلف؟ أو عنهما من عوض؟ دور الإمام الشافعي التجديدي: كان للإمام الشافعي دور عظيم في الفقه الإسلامي وأصوله حيث خطا بالفقه الإسلامي خطوات واسعة نقلته إلى رحاب أوسع، وثبتت دعائمه ووضحت أسسه. يتمثل منهج الإمام الشافعي التجديدي في: 1- الرسالة العظيمة التي ألفها الإمام الشافعي في أصول الفقه، والتي عرفت باسم الرسالة، حيث كانت عبارة عن رسالة أرسلها الإمام الشافعي إلى عبدالرحمن بن مهدى بناء على طلبه، هذه الرسالة العظيمة التي قال عنها الإمام المزني: قرأت الرسالة خمسمائة مرة ما من مرة قرأتها فيها إلا وأستفيد فائدة جديدة. هذه الرسالة غدت أصلًا ومرجعًا لعلم أصول الفقه، وهي التي وضحت أصول الاستنباط والأدلة المعتبرة. 2- رد الناس إلى السنة بعد أن انقسموا إلى معسكرين متباينين: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث. 3- إدخاله لعلوم أخرى مساعدة لعلم الحديث: حيث كان الفقهاء قبله يعتمدون على علم الحديث فقط فأدخل الشافعي اللغة والشعر كعلوم مساعدة للفقيه. 4- تغير الاجتهاد بتغير الأحوال والبلاد: وهذا واضح في تغيير الإمام الشافعي لبعض اجتهاداته حين دخل مصر وألف فيها مذهبه الجديد. 5- كلامه عن المسائل التي لم تقع بعد، واجتهاده في بيان حكمها، وكان الفقه قبله مقصورًا على الوقائع التي وقعت، وكانوا إذا سئلوا عن مسألة لم تقع قالوا دعوها حتى تقع، وقال في الحديث الذى نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن السؤال ( كانت المسائل فيما لم ينزّل إذ كان الوحى ينزل مكروهة ). فجعل النهى خاصًا بزمن نزول الوحي خشية أن ينتج عن السؤال تحريم شيءٍ لم يكن محرَّمًا. 6- جمعه بين المدرستين السائدتين في العالم الإسلامي في مدرسة واحدة. فقد كان الناس قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرّأي. أما أصحاب الحديث: فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحدٌ من أصحاب الرأي سؤالًا أو إشكالًا سقط في أيديهم ووقفوا متحيّرين. وأما أصحاب الرأي: فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي رضي الله عنه: فكان عارفًا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محيطًا بقوانينها، وكان عارفًا بآداب النظر والجدل قويّا فيه، وكان فصيح الكلام، قادرًا على قهر الخصوم بالحجّة الظاهرة، وآخذًا في نصرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من أورد عليه سؤالًا أو إشكالًا أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فاجتمعت المدرستان في شخصه رحمه الله. الحديث عن الإمام الشافعي لا ينقضي، ولكن حسبنا ما سقناه، وهذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده. والحمد لله أولًا وآخرًا.
المرحلة الأولى في قصة إبراهيم عليه الصلاة السلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الله ورسوله، نبي مرسل، له تاريخ كفاح طويل في الدعوة، لم يخشَ الطواغيت، بل تحداهم وتحدى عقائدهم وأصنامهم، أتاهم بالحجة والبرهان على عبادة الله الواحد الأحد خالق البشر والأكوان، فأبَوْا رؤية النور وتحرير أفكارهم من الدنيَّة والصَّغار والخضوع إلى أصنام نحتوها بأيديهم، والعكوف عليها يقدسونها ويقدمون لها القرابين بمهابة، وخشوع، وهالَه ضعفُ العقول واختلاطها وعدم التمييز بين الخالق القوي والصنم المصنوع الذي لا يضر ولا ينفع، بل هو مشكَّل بأيديهم وفق تصورهم وخيالهم، غير أن الشيطان استحوذ على عقولهم فضلوا الطريق، وقد ساعدهم على هذا الضلال ذوو النفوذ المسيطرون على الجاه والمال والسلطان، وهم الذين يهمهم أن يبقى الناس منقادين لهذا الخط، مقدسين له؛ لتظل السيطرة لهم على الدوام، وإن أي تصحيح لهذا المسار والاتجاه إلى دعوة إبراهيم عليه السلام سيُفقد هؤلاء السيطرة والنفوذ، وهذا لا يرضيهم؛ لذلك فإن كل ما يهمهم هو بقاء الوضع على ما هو عليه، شعب سادر غارق في الوهم، لا يتطلع إلى الحياة السوية التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان، ولا ينظر إلى التحرر من ربقة القيود والأصفاد التي كبلت عقله وأقعدته رهين إملاءات ذوي النفوذ والسلطان ليستكملوا بناء عروشهم فوق جباه البسطاء من الناس، ويستمر تسخيرهم بلا هوادة باسم الآلهة والتقرب إليها، فأيُّ صحوٍ لهؤلاء البسطاء يعني فَقْدَ ميزة العلو والتسخير والنزول من عل لتتحقق المساواة، ويعمل الجميع بروح الفريق بلا سيد أو مسود، لأجل ألا يصل هؤلاء المنتفعون إلى هذه المرحلة عملوا جهدهم وسخروا قوى شرهم لمنع وصول النور ودعوة الأنبياء التي أتت لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان إلى عبودية الخالق التي يتساوى فيها الجميع في القيمة الإنسانية، ويتفاضلون في الطاعة والولاء له - جل علاه - وبهذا وحده يستحقون السعادة في الدنيا والآخرة. الدعوة في العراق: وُلد إبراهيم عليه السلام في مدينة (أور) ، ووالده آزر صانع الأصنام الشهير، وورد أن اسم والده تارخ أو تارح عند المؤرخين، لكن هذا لا يردُّ صريحَ النص القُرْآني: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]، وكانت نشأةُ إبراهيم عليه السلام نشأة منكرة لعادات قومه منذ صباه، وإن عقله المتنور لم يقبل ما كان عليه قومه من الخضوع لهذه الأصنام، وكان دائم التفكير والتأمل في هذا الكون وخالقه، إنه كون واسع كبير فوق قدرة الإنسان وتخيله، تأمَّل وفكَّر وقال: من أجرى هذه الشمس ونور ذاك القمر، ونثر هذه النجوم على صفحة السماء وفيها مجموعات متميزة سابحة لا تود تغيرًا أو انفكاكًا؟ هذا الليل بصمته وسكونه ولمع كواكبه ونجومه، وهذا النهار بوضوحه وضياء شمسه وحركته ودأبه ونضرة حياته، وهذه الجبال الرواسي على الأرض، وهذه الأنهار الجارية بعذب المياه، والشجر والطير والسباع، تأملٌ أثقل تفكيره، ولا جواب عند قومه على ما يعتمل في صدر إبراهيم سوى عكوفهم على الأصنام وتقديسها، وأمام هذا الجواب التافه الذي لا يمكنه أن يقف أمام تساؤلات إبراهيم، أو أن يصمد إزاء أسرار هذا الكون الرهيب الواسع نفَر إبراهيم عن قومه وما هم عليه، وراح في تأملاته ليصل بالفكر النقي إلى الحقيقة التي ارتاح لها فؤاده، فأشرق النور فيه، وانبعث فيه حياة جديدة أوصلته إلى أن هذا الكون من صنع إلهٍ واحد لا شريك له، ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 75 - 78]، لقد بدأ إبراهيم مع قومه بداية عقلانية، فيها مبدأ التسليم لما يقولون ثم نقضه بالدليل والبرهان، وقد كانوا يعبدون الكواكب والشمس والقمر، حيث مثلوا لكل منها شكلًا معينًا من الأصنام، والكواكب التي كانوا يعبدونها هي الكواكب المضيئة السيارة، مثل: الزُّهَرة، وتظهر في أول الليل عند الغروب، وكانت المقصد الأول، ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 76]، والزُّهَرة شديدة اللمعان متلألئة، تغرب بعد غروب الشمس بساعة أو أكثر قليلًا، فقال لهم: تعبدونها على أنها إله، انتظِروا، وما هي إلا ساعة حتى أفَلَتْ وغابت عن الأنظار، فالتفت إلى قومه وقال: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76]، فلو كانت إلهًا لما غابت، وبعد غيابها بقليل ظهر القمر بدرًا، والقمر يكون مكتملًا في ليالي أربعَ عشرة، وخمس عشرة، وست عشرة، ثم فيما بعد من الليالي يبدأ بالتناقص رويدًا رويدًا، لكن في ليلة أربعة عشر يظهر القمر من الشرق قبل غروب الشمس، وفي ليلة خمسة عشر يظهر القمر بعد الغروب، وفي ليلة ستة عشر يظهر القمر بعد الغروب بأكثر من ساعة، والظاهر أن إبراهيم عليه السلام كان مع قومه في هذه الليلة، بحيث ما كادت الزهرة تغيب حتى ظهر القمر من الشرق، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 77]، فأشار إلى القمر بعد أن أسقط بالبرهان كوكب الزهرة، وهكذا ظهر القمر بنوره الوضيء، بحيث خفت بالنسبة لضيائه ضوء النجوم، واستمر القمر مبحرًا من شرقي السماء إلى غربيها، ثم غاب ضوءُه قبل بزوغ الشمس، وعم الظلام في الأرض، وبرهن لهم أن من يزول لا يكون إلهًا، فأسقط عبادة القمر، وفي الصباح بزغت الشمس، وظهرت عند الأفق الشرقي بحجم كبير مذهل، ثم ارتفعت واشتد ضياؤها، فقال: هذه الشمس أكبر وأشد ضوءًا، فلتكن عند زعمكم ربًّا، وانتظروا، وعند الغروب ضعف الضوء، ثم هوت للمغيب، وعاد الظلام حالكًا، فالقمر ليلة سبع عشرة لن يظهر ليضيء الكون إلا بعد أكثر من ساعتين، حيث يتأخر ظهور القمر كل ليلة عن التي قبلها بمقدار أربعٍ وخمسين دقيقة، وهنا صرخ إبراهيم بأعلى صوته: ﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]، هذه كلها مخلوقات، ومن الخطأ الفادح توجيه العبادة لها، وإنما العبادة الخالصة لخالقها خالق هذا الكون وما فيه، والظاهر أن هذه البراهين ذهبت أدراج الرياح؛ لعدم اقتناع العقول المتحجرة بما نقضه من ضعف آلهتهم وتلاشيها؛ لذلك أخبرهم بأنه مخالف لهم، ومفارقهم في العبادة، فقال: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، وفي فترة هدوء وتأمل في هذا الكون البديع، وقد تجلت قدرة الخالق فيما خلق، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، لم يتأخر إبراهيم في القيام بهذا العمل ليرى عيانًا قدرة الله على إحياء الموتى، لا لشك في قدرة الله؛ فقد أوتي إيمانًا لا يرقى إليه شك، تزول الأرض والجبال ولا يزول، وذكر أنه أخذ أربعة طيور: طاوس، وديك، وحمامة، وغراب، فذبحهن ومزق لحومهن وخلطها بعضها ببعض، ثم نثرها فوق أربعة جبال، ووقف بعيدًا فناداهن، وقيل: حبس رؤوسها عند قدمه، ثم دعاهن - أي قال لها أن تعود كما كانت باسم الله الأعظم - فاجتمعت أجزاؤها متناثرة في الفضاء حتى تشكلت كما كانت، ولكن بغير رؤوس، فاقتربت من إبراهيم وأفرج عن الرؤوس فانطلق كل رأس إلى جسمه المحدد، وعادت كما كانت حية تطير، وهنا فإن إبراهيم لعِظَم ما شاهد انطلق في الدعوة قويًّا، مطمئن القلب، موقنًا بنصر الله، وعبارة: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ [البقرة: 260]، ليست شكًّا في إيمان إبراهيم، والهمزة هنا ليست للاستفهام الذي يفيد الشك، ولكنها استفهام يفيد اليقين، وسماها بعضهم ألف الإيجاب، تمامًا مثل قول الشاعر مادحًا: ألستم خيرَ مَن ركب المطايا *** وأندى العالمين بطونَ راحِ لذلك قال: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43]. مِن هذه البداية بدأ الصراع العقدي بين إبراهيم وقومه، وعُرف عنه مخالفتهم ومفاصلتهم في هذه الناحية، ومع ذلك كان يقوم بواجبه في تبليغ الدعوة، وعدم السكوت عما يقترفونه من مخالفات: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 51، 52]؛ فالله - سبحانه وتعالى - وهَبَه النُّضج العقلي والرشد والإقناع، فانطلق نحو أبيه مخاطبًا له برقة، ويطرح عليه أسئلة فيها عتاب واستنكار، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 41، 42]، هذه الأصنام أنت تنحتها وتشكلها بيديك، من خشب أو صخر، وأنت تعرف أنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عنها ولا عن غيرها شرًّا ولا أذى، وقد ألان له القول ورقق العبارة في مخاطبته، متخذًا الأبوة مقدمة لخطابه؛ ليكسب عطفه وسرعة الاستجابة لدعوته، مخبرًا إياه أنه مكلف من الله تعالى بهذه الدعوة؛ ليوصلهم إلى الصراط السوي، وينقذهم من سوء العذاب: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43]، وكان وقع الكلام على والده قويًّا ومزلزلًا، لم يكن يستطيع أن يجمع قواه وفكره للرد أو التصدي، بل كان يستمع شبه مندهش للنصح ولهذه الأقوال التي لم يكن ليسمعها من قبل، خصوصًا من إبراهيم، فما الذي دهاه يشن هذا الهجوم على المقدسات ويعرِّيها ويكشف وهنها؟ واستمر يذكر الأبوة لتحريك وجدان والده: ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴾ [مريم: 44]، وبعد تعرية الأصنام أشار إلى غَواية الشيطان وعداوته للإنسان وعصيانه للرحمن، وأن عبادة الأصنام هي طاعة للشيطان وعبادة له؛ لأن مراده إغواء بني آدم وإبعادهم عن رضوان الله، وسوقهم زمرًا زمرًا إلى النار: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 45]، وتابَع إبراهيم تصعيد الخطاب شيئًا فشيئًا، وفي كل جولة كان يعري الأصنام ويكشف زيفها وبطلان عبادتها، هل اقتنع والده بهذا الخطاب، وعدَّ وَصْف الأصنام الذي وصفها به إبراهيم صحيحًا، وقرر العودة إلى الرشاد والصواب؟ ما هذه التماثيل التي تحيطونها بهالات التقديس وتتجمعون حولها للعبادة؟ ماذا جلبت لكم من الخير والسعادة حتى تستحق منكم هذا العكوف والتقديس؟ لم يكن عند آزر جواب مقنع وجدال يقارع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وإنما كان التعصب باديًا في لهجة خطابه: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، كان الرد عنيفًا وغير مبني على جدال منطقي فيه إقناع، بل لعله أراد أن يسكت ابنه؛ لاعتقاده أنه تطاول على الأصنام، مهددًا إياه بالرجم والطرد والمفارقة، لم ييئَس إبراهيم من موقف والده، فليست سوى جولة واحدة ستعقبها جولات، ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47]؛ لذلك أبقى على خيوط الود موصولة مع والده على أمل العودة، لكن هذا الصد لم يَثْنِه عن الاستمرار في دعوته، بأن يتخذ صدود والده ذريعة للكف عن الدعوة، على اعتبار أن أقرب المقربين إليه رفضها، فمن باب أولى أنهم سيرفضونها، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، بل زاد إصرارًا على السير بطريق الدعوة؛ إنقاذًا لهؤلاء الجاهلين من النار، فلنتابع هذا الموقف الرائع في الجدل بين إبراهيم عليه السلام وقومه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]، سؤال استنكاري - وهو يعرف ما هي - يريد أن يدخل معهم في حوار من خلال إجابتهم؛ كي يعريها أمامهم من أية هالة قدسية أضفوها عليها؛ ليظهر بعد ذلك عجزها، فكانت الإجابة: ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، أهذا ما دعاكم لعبادتها؟ هل فكرتم فيما كان عليه آباؤكم من صواب أو خطأ؟ وهل عبدوها لميزة ما؟ أكانت تمنحهم الرزق وتشفيهم من المرض وتسبغ عليهم النعيم والهناء والسرور؟ أجربتم في سنة جدباء أن تستغيثوا بها فساقت لكم الأمطار مدرارًا؟ ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]، ضلال وتِيهٌ واضح، فما الذي جعلكم تستمرون على هذا الخطأ؟! ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 55]، لقد دهشوا لقوله، وظنوا أنه يمازحهم؛ لأن هذا الذي هم عليه من العكوف على التماثيل مقدَّس، لا يجرؤ أحد على الخوض فيه، فكانوا إلى ذلك الوقت مقتنعين بما هم عليه من تقليد الآباء، لكن الرد الجاد من إبراهيم عليه السلام كان مؤكدًا على خطئهم وموضحًا لهم الطريق الحق الذي ينبغي أن يسلكوه، ﴿ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]، الله هو الذي خلق هذه السموات وهذه الأرض، وليس - كما تزعمون - هذه الجمادات التي تصنعونها وتضعونها في المعابد، وأنا شاهد على ذلك، وعندي البراهين لو شئتم، لقد أرسلني الله إليكم؛ لأبين لكم هذه الحقائق التي غابت عنكم بسبب عمى القلوب، وتقليد الآباء بلا تمييز أو مناقشة عقلانية بما يفعلونه، وطلبوا منه بيان المزيد عن ربه الذي أرسله إليهم، فقال: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 75 - 80]، هذه قناعتي، وهذا هو ربي الواحد الأحد، خالق هذا الكون وخالقي وخالقكم، مَن له هذه الصفات هو الذي يستحق العبادة لا أصنامكم، فعندما سألتكم: ما تعبدون؟ كان جوابكم: ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ [الشعراء: 71]، وهنا انبرى لهم معنفًا على سوء جهلهم وعدم تمييزهم بين من يستحق العبادة ومن هو جماد لا يحس ولا ينطق، ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، يا خيبة لكم على هذا التفكير وهذه العقول التي هي أدنى مرتبة من الحيوان، ولما تبين له هذا العناد وانغلاق الفهم والإصرار على التمسك بما ورثوه عن الأجداد، أراد أن يبرهن بالدليل القاطع على ضعف هذه الأصنام ووهنها أمام قاصديها بالعدوان: ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 57]، فتوعَّد أصنامهم بالكيد لها، ومعنى هذا أنه سيحطمها ويدخل مع قومه في صراع عنيف ومواجهة خطيرة وهو ما زال وحيدًا في الميدان، ولكن إيمانه بربه قوي راسخ لا يتزعزع مهما تمادى قومه في الإيذاء، وانتظر فرصة مواتية يغادر فيها قومه المعبد، وتحيَّن بفارغ الصبر انفراده بأصنامهم، فجاء عيدهم وهلت احتفالاتهم به، وفيه يجتمعون في ساحة عامة لإقامة مهرجانهم ثم يختمون عيدهم بتقديم القرابين لآلهتهم، فكانت هذه فرصة إبراهيم للكيد من أصناهم مثلما توعدهم به، ولم ينسوا دعوته في العيد ليخرج معهم ويشاركهم أفراحهم، ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾ [الصافات: 88 - 90]، فتذرَّع بالمرض كيلا يخرج معهم؛ وذلك لأمرين، أولهما: أنه لا يريد مشاركتهم في عيد الضلال، والثاني: تنفيذ ما عزم عليه بالكيد للأصنام، ﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 91 - 93]، يا لها من جرأة فيها قوة وعزم يريد بها أن يصدم هؤلاء السادرين في سباتهم الفكري العميق، فلعله يوقظهم ويُحدِث عندهم صحوة في التفكير، فيصِلون إلى الحقيقة؛ ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]، لقد حطمها وفق خطة مدبرة وحكمة بالغة لها ما بعدها؛ لذلك أبقى على أكبرها حجمًا، لا لعجز عن تحطيمه، وإنما لاستخدامه ورقة برهان على تسفيه عقولهم، ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 59]، لقد دخل القومُ مبتهجين حاملين القرابين لآلهتهم وهم يتضاحكون ويترنمون بالأهازيج الدينية التي تقربهم من الآلهة، وإذا بهم يجِدون المعبد على حالة أطارت عقولهم نتيجة الفوضى وتناثر الحطام، وأيقنوا أن أحدًا قد عبث بمعبدهم، وارتكب بحقه جرمًا عظيمًا، وإنه لمن الظالمين، لكن غرابتهم كانت أشد عندما رأوا كبيرهم سالمًا وفي يده أو عنقه الفأس أداة الجريمة التي حطمت الأصنام، ثم بدؤوا يناقشون الأمر ويتساءلون: من هو مرتكب الجريمة يا ترى؟ من أقدم على هذا الفعل، ومن له مصلحة في إيذاء الآلهة؟ بالطبع لا يوجد إلا متهم واحد عاب الأصنام وذكرها بسوء وطلب نبذها وتحطيمها، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60]، ومعنى يذكرهم: يعيبهم ويستهزئ بهم ويدعو إلى تحطيمهم ووأدهم، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 60، 61]، وعمل هنا نظام الملك على بث عيونه لإحضار إبراهيم ومساءلته عن حادث المعبد، وفي الحال أحضر إبراهيم إلى المعبد وقد تجمع الناس في حشد كبير وهم مترقبون ومتلهفون لمعرفة اليد الآثمة التي امتدت بالعنف إلى آلهتهم، فكنت تراهم ما بين مستنكر وغاضب ومتحمس ينادي بالانتقام من الفاعل، ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 62، 63]، ألا ترون الجاني؟ هو هذا الذي لا يزال يمسك بالفأس، كل الأصنام محطمة إلا هو، ولو كان الجاني غير هذا لشمله التحطيم، فاعتذروا من إبراهيم عن شكهم به، وقالوا: نعم، هذا كبير الآلهة، علينا أن نتجه إليه ونسأله عما حدث، ولما اقتربوا منه صدمهم الواقع، هذا جماد لا روح فيه، ولا حس له، ولم يحدث في يوم من الأيام أن تكلمت الأصنام، بل سدنتها هم الذين يتكلمون باسمها ويفرضون الأتاوى والقرابين على الشعب ليقدموها لها بزعمهم، ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الأنعام: 136]، فسدنة الأصنام هم الذين كانوا يوهمون الناس بأنها تمنح وترضى وتغضب وتمنع، لكن الحقيقة أمام هذه الحادثة التي هزت كيانهم نطقوا بالحق، ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 65]، وكان ينتظر منهم هذا الاعتراف، وكانت خطته مبينة للوصول إلى هذه الحقيقة لينطقوا بها على ملأ من الناس؛ لذلك انبرى لهم بقوة مستغلًّا هذا التخبط الذي وقعوا فيه، ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66، 67]، ألم تعترفوا بأنهم لا ينطقون؟ أليس هذا من صفات الجماد؟ أين عقولكم لكي تميز؟ فلماذا تحطون من شأنكم بهذا الاعتقاد الدنيء؟ عليكم أن ترتقوا بالتفكير، وهذا يكون بتحرير العقل من أَسْر هذه الأصنام؛ لتنعموا بقيمة الاعتقاد السليم، وعندها ستشعرون بلذة العبادة لله الواحد الأحد، لكن كلمات الحق دائمًا تضيع أمام الغوغاء والمتنفذين الذين يحققون مكاسبهم وزعاماتهم من طمس الحقيقة، والعمل على توجيه الغوغاء للعبِّ من شراب الخبال، فيرى الباطل حقًّا، والحق باطلًا، وهكذا انطلق صوت المنتفعين ومن ورائهم الغوغاء ليطمس صياحهم وضجيجُهم كلَّ كلمة حق تقال، فقد عرفوا لعبة الهيمنة ووأد الحق في مهده، فانطلق صوتهم قاطعًا كل حوار: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، وانطلقت هذه الصيحات الرعناء التي خفَتَ معها صوت الحق، وضاعت معها خطط إبراهيم في إنقاذ هؤلاء العُمْي من النار، فكان جزاؤه منهم الإحراق بالنار، ولكن رب إبراهيم القادر على كل شيء لم ينسَ إبراهيم من رحمته؛ فهو الحامي له، فلن يترك إبراهيم ليحرقه أهل الضلال، وكانت المعجزة الكبرى أمام الخَلْق، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، وتتجلى قدرة الله في حماية عبده ونبيه إبراهيم، فكانت كلمة (كن) ، التي حوَّلت ضرام النار إلى برد وسلام، أي: برد غير مؤذٍ، فالله الذي أعطى للنار حرارتها لحاجة أهل الدنيا إليها سلبها هذه القوة لحاجة إبراهيم إليها، فكانت عليه بردًا وسلامًا، لقد سعى عباد الوثن إلى جمع الحطب لإحراق الحق انتصارًا للباطل، فشارك في جمعه الكبير والصغير حمية للأصنام وتقربًا منها وانتصارًا لها، وهكذا كان للباطل صولة، أغلبية ساحقة انتصرت للشر ضد نبي مصلح، همه إنقاذ الناس مما هم فيه من الضلال ومن عذاب النار، هكذا كان قرار الأغلبية التحريق والتخلص من النبي المصلح، وهل قرار الأغلبية يكون دائمًا لصالح الخير؟ إنهم يجهِزون على الخير ويعينون قوى البغي والشر، فالمنهج هو الأهم لا قرار الأغلبية، ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 70]، وهل يربح مَن يكون مصيره إلى النار، ولم يقل: الخاسرين، بل جاءت بصيغة المبالغة؛ لأنها خسارة عظمى، فلو خسر الإنسان شيئًا دنيويًّا لكان خاسرًا، أما خسارته الجنة فهو الأخسر، ولما رأى ملك الضلال نمرود الذي أمر بإحراقه أن إبراهيم قد مكث في النار مدة قاربت الشهرين ريث أن خمدت وتكشفت عن روضة كان فيها إبراهيم منعمًا فخرج منها سليمًا معافى، بهت النمرود، وقال لإبراهيم: إن إلهك الذي بلغت قدرته وعزته ما أرى لكبير، خبرني ما هو؟ ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، وهو يقصد الإحياء ابتداءً والإماتة التي كتبها على كل إنسان بأجل معلوم، فكان رد نمرود وفق فهمه السقيم، ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، فهذا كما ادعى سهل، فأحضر اثنين من السجناء محكوم عليهما بالموت، فقال لأحدهما: اذهب فقد عفوت عنك، وقدم الآخر فقتله، وفهم إبراهيم مدى جهله في التفكير، فقال للنمرود: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]، لم يقُلْ له في الأولى: أنت جاهل لا تفقه معنى ما أقول، فكأنه سلم له في الأولى، ثم جرَّه إلى الأمر الأصعب؛ ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، ثم كف عن إبراهيم، ومنعه الله منه، وغادر إبراهيم العراق ولم يؤمن معه بعد كل هذا الجهد إلا ابنُ أخيه لوط عليه السلام. أهم ما ورد في إبراهيم: أخرج البخاري عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيَني يوم يبعثون، فأي خزي من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار) )، فهذا هو مقام والده، أضحى مثل ذكر الضباع المتلطخ، فألقي في النار. وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت - أي داخل الكعبة حين افتتح مكة - لم يدخل حتى أمر بها فمُحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: ((قاتلهم الله، والله إنِ استقسما بالأزلام قط) )؛ أي: رأى - كما ورد في خبر آخر - صورة إبراهيم وإسماعيل على قماش من حرير وقد صوروهما وهما يستقسمان بالأزلام - قداح يلقونها فيها رابح وخاسر، مثل لعب القِمار في العصر الحديث - كما يفعل أهل الجاهلية، فأقسم عليه الصلاة والسلام أنهما لم يفعلا ذلك أبدًا، وهذه الصورة من افتراء الجاهليين عليهما، وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].
أسرار الماء في القرآن الكريم وجائزة نوبل في آية سلوك الماء الفريد 1- سلوك كثافة الماء: للماء في كثافته سر فريد، فهو ينكمش بالبرودة كسائر السوائل الأخرى. وإذا كانت السوائل تزداد كثافتها كلما زادت برودتها، إلا أن الماء يسلك سلوكا فريدًا عند درجة 4 مئوية حيث يبدأ في التمدد ولا ينكمش كسائر السوائل وحينما يتجمد عند درجة الصفر المئوي تكون كثافته قد انخفضت بمقدار 10 % عن كثافته عند 4 م. وحينما تقل كثافته يزداد حجمه. ولو لم تكن للماء تلك الخاصية الفريدة لهبط الثلج الموجود في البحار المتجمدة إلى القاع ويتراكم حتى السطح، وحينئذ يصبح البحر قطعة واحدة من الثلج فتتجمد الأسماك وسائر كائنات البحار، ولكن الماء بتقدير من خالقه بتجمد عند السطح ويظل الماء تحته سائلا رحمة بكائنات تعيش في الماء. وتلعب الظاهرة تلك دورا في تكسير الصخور في المناطق الجليدية، فحينما يتجمد الماء في الشقوق يزداد حجمه ويولد ضغطا على الصخر فيكسره فينتج من فتاة الصخر تربة تزرع. بل إن تجمد الماء وفق تلك الظاهرة تمثل إحدى العلامات تركها الله في الأرض ليقدر بها العلماء درجات الحرارة في أزمنة ماضية عن طريق قياس نسبة نظيري عنصر الأكسجين في بقايا القواقع والأصداف الموجودة كأحافير في الصخور القديمة، حيث تحتوي تلك الأحافير على قدر أعلى من نظير الأكسجين الأخف (أكسجين: 16)، بينما تحتوي جزيئات الماء المتجمد على نسبة أكبر من نظير الأكسجين الثقيل (أكسجين: 18). 2- التوتر السطحي للماء: تشد جزيئات الماء بعضها بعضا بقوة تسمى قوة المط أو التوتر السطحي ( Surface Tension ) تجعل قطرات الماء تتكور عندما تسكب على السطوح، ويترتب على تلك الخاصية ارتفاع الماء في الأنابيب الضيقة وفق ما يعرف بالخاصية الشعرية التي تلعب دورا هاما في صعود العصارات في النباتات، وحركة الماء في تربة الأرض. ولكل سائل شدة توتر سطحي تميزه وتختلف عن السوائل الأخرى؛ فللماء العذب شد يختلف عن شد الماء المالح الأمر يجعل بينهما برزخا وحجرًا. يقول تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 53]، وسيأتي تفصيل لذلك فيما بعد. والماء يتكون من جزيئات، وكل جزيء يتكون من ذرة أيدروجين وذرتين من الأكسجين ( H2O ) تساهمان في تكوين رابطة قوية. وجزيء الماء قطبي على شكل يشبه قضيب المغناطيس ويدور حول نفسه بسرعة كبيرة. وفي كوب الماء الواحد عدد من الأقطاب يفوق عدد سكان العالم اليوم.. وتعكس قطبية الماء سر قوة تلاصقه، وهذه الخاصية تكسب الماء مقاومة ما للدخول إلى الخلايا والانسياب مع الجِبلَّة ( السيتوبلازم ). ويثبت العلم الحديث أن الماء إذا ما عُولج بالطاقة بطريقة مخصوصة تنتظم جزيئاته وترتب أقطابه، ويكتسب مزايا عجيبة ذات فائدة في علاج الأمراض. وتشير الدراسات إلى أن تأثير الماء المُعالج بالطاقة في زيادة نمو الدجاج وإنتاج البيض ومعدل نمو النبات. ولا عجب في ذلك ففي سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يُعَالج المَعِين الذي أصابته العين بالاغتسال بماء استحمام أو وضوء الشخص العائن، ولولا أن هذا الموضوع خارج إطار حديثنا لرأيت العجب في إعجاز أحاديث العين في السنة والعلم في أبحاث العالم الياباني هو شومو موتا ياما.
عرض لكتاب "المنة الكبرى" لضياء الرحمن الأعظمي عنوانه: « المنة الكبرى شرح وتخريج السنن الصغرى ». مؤلفه: محمد عبد الله الأعظمي، المعروف بالضياء. موضوعه: شرح وتخريج لكتاب "السنن الصغرى" للإمام الحافظ أبي بكر البيهقي رحمه الله. قيمته العلمية: تبوأ مكانة علمية كبيرة، وحظي بمرتبة عظيمة، أوضحها في النكات الآتية: 1- يعد هذا الكتاب من أهم الكتب المؤلف لتضمنه على دراسة فقه السنة المقارن. 2- عنايته الفائقة بالتخريج والتعليق والتشريح، وبيان ما يستفاد من الحديث من الفقه وفق منهج المحدثين. 3- بين المؤلف الراجح في ضوء القواعد الحديثية والأصول الفقهية بأحسن وجه. 4- ترجم الضعفاء ترجمة وجيزة وبين مراتبهم في الجرح والتعديل. 5- بين غرض صاحب الكتاب في مواضيع شتى من ترجمة الباب وأورد فيه أقوال العلماء وأدلتهم الباهرة 6- بذل غاية جهده في جمع الأدلة من الكتاب والسنة والآثار. 7- وضح الفرق بين السنن الكبرى وبين السنن الصغرى بنكات علمية متميزة. 8- جمع فيه طريقة الفقهاء والمحدثين في استنباط الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية 9- شهرته الواسعة في الأوساط العلمية، وتلقي العلماء له بالقبول. نسخته في التحقيق: كانت نسخة وحيدة في مكتبة أحمد الثالث بتركيا والمخطوط يقع في ٣٩٦ ورقة في خط مغربي [1] ، راجع نصوص الكتاب على ما يقابلها من كتب المؤلف الأخرى كـ "السنن الكبرى" ، و "معرفة السنن والآثار" ، و "الدعوات الكبير" ، و "الجامع لشعب الإيمان" وغيرها [2] . سبب تأليفه: قال المؤلف - رحمه الله -: « كون هذا الكتاب يشتمل على عدد من الأحاديث الصحيحة التي استدل بها الإمام الشافعي، فأحببت أن أجعله مصدرًا آخر لدراسة فقه السنة المقارن، لأن المؤلف - رحمه الله تعالى - لم يتطرق الي أدلة مخالفيه إلا بإشارات خفيفة لا ينتبه إلي مراده إلا من مارس كتبه » [3] . وألخص منهجه في العناصر الآتية: 1- ذكر المؤلف في مقدمته أهمية "السنن الصغرى" للبيهقي وبين عمله في الكتاب وترجم صاحب السنن ترجمة موجزة. 2- فرق بين "السنن الصغرى" و "السنن الكبرى" للبيهقي بأمثلة. 3- رقم الأحاديث والآثار. 4- خرج الأحاديث على ضوء قواعد التخريج وبين أحكامها وعلل ضعفها. 5- ذكر فقه الحديث مستدلًا بآيات كتاب الله وسنة رسول الله وآثار الفقهاء والمحدثين. طباعته: طُبع الكتب في تسع مجلدات عام ١٤٢٢ في مكتبة الرشد بالرياض. عناية العلماء به: قام الدكتور وهبي ياوز بترجمة بعض المباحث الفقهية إلى اللغة التركية التي نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية [4] . ثناء العلماء عليه: قد قال بعض أهل العلم: لم نجد بعد الإمام الشوكاني من جمع بين تخريج الحديث، وبيان فقهه، وأدلة كل فقيه بالتفصيل مثل ما نجده في "المنة الكبرى" [5] . [1] المنة الكبري ص٩. [2] المرجع السابق ص١١. [3] المرجع السابق ص٤. [4] نبذة عن فضيلة الأستاذ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي ص١٨. [5] المرجع السابق ص١٨.
آيات الماء في الأرض أسرار الماء في القرآن الكريم وجائزة نوبل في آية سؤال: ما أصل ماء الأرض وفق للقرآن الكريم؟ سؤال محير للعلماء تجد إجابته غاية في الوضوح، فهو إما أن ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض. وتبعًا للقرآن: الماء بركة السماء، ينزل بقدر من السماء ويخرج من الأرض، ينزل بعد تلقيح السحب، قد يكون مدرارًا، ثجاج من المعصرات، يخرج من خلال السحب بعد تآلفها وتراكمها، يسكن الأرض، يسلك ينابيع في الأرض، رجع السماء، يخرج به النبات فيخرج منه الخضر وكل الثمرات، تصبح به الأرض مخضرة، يختلط به نبات الأرض، منه الشراب وشجر الرعي، يحي الأرض الميتة). خلق الله الإنسان والدواب وجميع الكائنات الحية من الماء، وأخرجه من الأرض وجعله عذبًا فراتًا وملحًا أجاجًا، وسيره على حالات ثلاث في ظروف الأرض الطبيعية، وأنزله من السماء بقدر في دورة طبيعية تحفظ كميته ثابتة كل عام مع اختلاف تصريفه من بلد إلى بلد.. أساله الله في الأودية بحسبها يشربه الناس والأنعام ويحي به الأرض بعد موتها، وأجراه في البحار المتجاورة بحيث لا يطغى ماء بحر على ماء بحر آخر وأوجد بينهما برزخًا وحاجزًا.. أنزله الله من السماء وأسكنه في الأرض وفق سنن مقدرة.. والقرآن الكريم يزخر بالإشارات العلمية حول خصائص ووظائف وطرق إنزال الماء وحفظه وتأثيره في كافة مخلوقات الله الحية وغير الحية. وسوف نعرض خصائص الماء في القرآن والعلم الحديث في النقاط التالية: 1) يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6]. 2) ﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]. 3) ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]. 4) ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]. 5) ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]. 6) ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52]. 7) ﴿ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ﴾ [إبراهيم: 32]. 8) ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]. 9) ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [النحل: 10]. 10) ﴿ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [النحل: 65]. 11) ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ [طه: 53]. 12) ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]. 13) ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحج: 63]. 14) ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 18]. 15) ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43]. 16) ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان: 48]. 17) ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 60]. 18) ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63]. 19) ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24]. 20) ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الروم: 48]. 21) ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [لقمان: 10]. 22) ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]. 23) ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 21]. 24) ﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الزخرف: 11]. 25) ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ [ق: 9]. 26) ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴾ [نوح: 11]. 27) ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا ﴾ [النبأ: 14]. 28) ﴿ وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ [الطارق: 11]. 29) ﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 31]. يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾.. [الأنبياء: 30]، وخلق كل شيء من الماء، وحفظ كل شيء بالماء، ومن الماء خلق الإنسان. وأدق تعريف للماء أنه سائل الحياة. وخلق الماء ليؤدي دوره في الحياة وفق سنن تسيره فيما قدر له، سننا تجعله سحبا طائرة، وسننا تجعله قطرات متساقطة، وسننا تحوله أنهارًا جارية وعيونا متفجرة، وسننا تدفعه في أغصان الشجر وأوراقه، وسننا تجعل الماء وسطا كيماويا صالح لأداء وظائف حيوية هامة، وسننا تحول الماء جزءا من الدم الجاري في العروق. والإنسان يبدأ من دفقة ماء، يقول تعالى: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 5- 6]، وبعد 3 أيام يحوي الجنين 97 % من وزنه ماء، وعندما يصبح عمره 3 شهور تقل نسبة الماء في جسده إلى 91 % من وزنه ماء، وتصل نسبة الماء في الطفل المولود إلى 80 % من وزنه. وعندما يبلغ عامه الأول تكون نسبة الماء في جسمه 66% كما في البالغين، وتختلف نسبة الماء في كل عضو بحسب وظيفته؛ فخلايا الدماغ تتكون من 70 % من الماء، وتبلغ هذه النسبة 82 % في الدم، بينما تصل إلى 90 % في الرئتين. وسبحانه عز وجل يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54].
العبث بالتناسُل التناسُل نِعمة من نِعم الله تعالى على خلقه، وفيه حِفظ للحياة، وامتداد للعيش على هذه البسيطة، وينفق الناسُ الكثيرَ من الجهد والمال والتفكير، إذا ما تبيَّن لهم أنهم غير قادرين على الإنجاب: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50]. في النفس البشريَّة الرغبة في الحصول على بنت، إذا كانت الأمُّ تنجب بنين: ﴿ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾، وفي النفس الرَّغبة في الحصول على ابنٍ، إذا كانت الأمُّ تنجب بناتٍ: ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ﴾، ويشعر الأبوان بالسعادة إذا ما أنجبا بناتٍ وبنين: ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ﴾. في بعض المجتمعات برزَت ظاهرة استئجار الأرحام، في سبيل الحصول على النَّسل، فتُستأجر امرأة، تحمل للزوجين ( Surrogate Mother ) ، ويتابعانها مدَّة الحمل، وقد تنقلب عليهما في النِّهاية، وتطالب بالاحتفاظ بما في رحِمها، بعد أن تعيش هذه التجربة؛ ولذا لجؤوا - في بعض الحالات إلى أمِّ الزوجة - تحمل من زوج ابنتها، دون اتِّصال جنسي مباشر، حتى يضمن الزوجان عدم تغيير الحامل رأيها، وقرارها من حفظ الجنين تحت رعايتها. المعلوم عندنا - من منطلق انتمائي - أنَّ هذا غير جائز شرْعًا، ومثله شِراء الأطفال أو تبنِّيهم: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5]. نحن نعلم - الآن - أنَّ العالم الغربي يعاني من قلَّة السُّكَّان، رغم صغر المساحة وكثرة الموارد، وأنَّ هناك فجوةً زمنيةً عمْريةً، تكاد تصِل إلى جيل بكامله؛ بحيث أصبحت تلك المجتمعات مقسَّمةً بين كبار السن وصغار السن؛ وصغارُ السنِّ أقلُّ بكثير من أنْ يأخذوا دورهم في بناء تلك البقعة الغنيَّة من العالم؛ ولذا نجد حكماءهم وعلماء الأنثروبولوجيا والديموجرافيا منهم ينادون بحلول جذريَّة لتدارك هذا الفناء البطيء، وهذا سيؤثِّر على تلك البلاد في أوروبا وأمريكا الشمالية، على وجه الخصوص [1] ، بما في ذلك هاجس أن تكثر الهجرات من الدول النامية - دول الجنوب - فتكون هي الأكثرية، على حِساب أهل البلاد الأصليين، مع ما يتبع ذلك من تغيُّرات ديموغرافية وثقافية؛ ولذا زادت الدعوة إلى وجود حوافز للتكاثُر، وخفتت الدعوات في الغرب إلى تحديد النَّسل، وهي قويَّة في الدول النامية. الدعوة إلى تحديد النَّسل تحتاج إلى وقفات انتمائية منقادة إلى الحكم الشرعي، بعيدًا عن التبعية والتأثُّر بغيرنا، لمحرَّد أنَّهم يملكون - الآن - مقوِّمات التأثير على الناس، ولعلمائنا تفصيلاتٌ في هذا الجانب، كما أنَّهم قادرون على النَّظر إلى هذه المسألة، من منطلق عَقَدي، مربوط بحكمة الله تعالى، وتدبيره لهذا الكون، في الماضي والحاضر والمستقبل. كما يملك العلماء - علماء الشرع والأنثروبولوجيا، والاجتماع والتربية وغيرهم - القدرةَ على التوعية بهذا الشَّأن، مؤكِّدين على الاتِّكال على الله تعالى، جاعلين إرادة الناس نابعةً من إرادة الله تعالى ومشيئته، وليست موازيةً لها - زعمًا لا حقيقةً - وبالتالي ليست متعالية عليها، مع التطلُّع إلى الوصول إلى الحِكمة من هذا الخالق الحكيم في خلقه، المتمثِّلة - أوَّلًا - في عبادة الله تعالى، ثم تأتي بعد ذلك عمارة الأرض، والاستمتاع بالحياة، في الحدود الشرعية التي تكفُل استمتاعًا مقبولًا، متماشيًا مع الفِطرة؛ ومن ذلك التناسُل والتكاثُر، والأولى لنا جميعًا أنْ ننظر لهذه النعمة من هذا المنطلق. [1] انظر: باتريك ج. بوكانن: موت الغرب: أثر شيخوخة السكَّان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب ، نقله إلى العربية: محمَّد محمود التوبة، راجعه: محمَّد بن حامد الأحمري - الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م - 529 ص.
دليل الفارض إلى علم الفرائض على ضوء المذهب المالكي صدر حديثًا كتاب "دليل الفارض إلى علم الفرائض على ضوء المذهب المالكي ومدونة الأسرة المغربية: شامل للأمثلة التطبيقية"، تأليف: "عبدالرزاق الحمزاوي"، نشر: "دار الكتب العلمية"، بيروت. وهذا الكتاب يتناول موضوع علم الفرائض أو المواريث؛ لأهميته ولضرورة تعلمه من قبل المؤمنين حتى يحسنوا أداء فرائضهم دون أخطاء؛ فتناولَ الكتاب تعريف علم الفرائض، وأنواعه، والورثة وأقسامهم، والتأصيل لمباحث هذا العلم. وقد دفع المؤلف للاهتمام بهذا الموضوع اعتباران: الأول: أنه من المباحث الفقهية التي تتسم بالتعقيد لغةً، وبناءً، واصطلاحًا، مما يحول بينه وبين كثير من الباحثين والراغبين في معرفة الفقه الإسلامي عمومًا وفقه الفرائض خصوصًا، والثاني: محاربة الدعاوى الهدمية التي تصدر بين الفينة والأخرى من التيار التفكيكي الذي يروم إتيان القواعد من أسسها، بحجة أن نظام الإرث في الإسلام لا يحقق العدالة الاجتماعية ولا يناسب الحقوق الكونية. لذا تناول الباحث موضوع الفرائض من حيث بيان أصوله، وتفصيل كثير من مجمله، وبيان نوازله ومسائله المعاصرة؛ لبيان أن البشرية لم ولن تعرف نظامًا يحقق العدالة في توزيع المال ولا نظامًا أكثر شمولية وواقعية خيرًا من هذا النظام الذي وضعت الشريعة الإسلامية أسسه، وبين القرآن الكريم معالمه في المواريث وقسمة الحقوق. واعتمد المؤلف منهجية تتسم بالمزاوجة بين النظر والعمل، مع مراعاة التكامل والتناسق بين مباحث كتابه، وعلى أسلوب تربوي بيداغوجي. وقسم موضوعات كتابه إلى ستة فصول على النحو التالي: الفصل الأول: يشمل المباحث التالية: 1) في تعريف علم الفرائض. 2) أسباب الإرث. 3) شروط الإرث. 4) موانع الإرث. الفصل الثاني: يشمل المباحث التالية: 1) أنواع الورثة. 2) الحجب. الفصل الثالث: يشمل المباحث التالية: 1) التأصيل. 2) التصحيح. 3) العول. 4) الرد. الفصل الرابع: يشمل المباحث التالية: 1) أحوال الجد. 2) الشواذ الإرثية. 3) الخنثى. الفصل الخامس: يشمل المباحث التالية: 1) المناسخات. 2) الوصايا. الفصل السادس: يشمل المباحث التالية: 1) تصفية التركة. 2) قسمة التركة. وقام الكاتب بوضع العديد من الأمثلة التطبيقية المصورة لتقريب هذا العلم وتبسيطه، وبيان قسمة الفرائض بين مستحقيها من الورثة.
قصة قوم صالح أرسَل الله تبارك وتعالى نبيه صالحًا إلى قومه ثمود بعد أن فشت فيهم عبادة الأصنام، بشيرًا ونذيرًا، وقومه ثمود الذين سكنوا في الحِجر بين الحجاز وتبوك، وهم من العرب العاربة، وهم أبناء عمومة مع قوم عاد، ونسب ثمود الذي سميت القبيلة باسمه ( ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح) ، ومر نسبُ عاد (عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح)، ونبي الله صالح بُعث بعد هلاك قوم عاد بمدة، بمعنى عدم المعاصرة، ومن استعراض الآيات الكريمة التي ذكرت شيئًا عن حياة قوم عاد، وحياة قوم نوح نلحظ التالي: ♦ كان نمط الحياة متشابهًا، بلد شبه صحراوي، ومجتمع جمع بين الزراعة والرعي، وهو بالتالي بحاجة ماسة إلى المطر، مع نزعة لبناء القصور الفخمة، وورد بشأن عاد: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 128، 129]، وورَد بشأن ثمود: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [الشعراء: 146 - 149]. ♦ كان للعاديين مدينة شهيرة، هي (إرم ذات العماد)، وللثموديين مدينة (الحِجْر)، نحتت قصورها في الجبال، ولا تزال آثارها باقية حتى هذه العصور، تظهر ما كانت عليه من الرفاهية والنعيم: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الحجر: 80]. ♦ لم يكن لقوم ثمود قوة جسمية تماثل ما كانت لقوم عاد، إلا أنها لم تكن ضعيفة، وقد عوضوا عن ذلك بالفكر، فالقوة المطلقة لا تبني، لكن مع ارتقاء التفكير تصبح القوة ذات معنى؛ ﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ﴾ [الأعراف: 74]، وكان لثمود حزب وتكتل، يقوده تسعة رهط من كبارهم وأشرارهم، وبه سيطروا على القرار؛ ليكون في صالحهم حسبما يريدون، ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [النمل: 48]. بعد هذه المقارنة - والكفر ملة واحدة - التي ظهر فيها كثير من التشابه في طرز المعيشة على غير اتفاق مسبق، إنما هذا التوافق مرده القرابة والبيئة المتشابهة ومصالح الملأ وهم كبار القوم، حيث المصالح في المال والجاه، والسيطرة لا تكون إلا بتضليل عامة الناس وإبعادهم عن الهدف الأسمى في هذه الحياة، فالقيَم والمساواة والعبادة لله الواحد تجعل الجميع أمام هذا المبدأ سواء، لا كبير إلا بالعمل الصالح، أما الذي يريد أن يصعد على أشلاء الآخرين فلا يهمه صلاح الناس بقدر ما يتحقق له العلو في الأرض والمال والجاه، فمثل هؤلاء يقفون دائمًا معارضين للدعوة والإصلاح، ولقد هام قوم ثمود بالأصنام وعبدوها من دون الله؛ ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]، دعوة من نبيهم صالح لعبادة الله، وفيها تذكير لهم بنعم الله عليهم، فماذا كان الجواب؟ ﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 62]، ومع إصرار أصحاب النفوذ على عبادتهم لغير الله كان لا بد من الجدال بالتي هي أحسن، وأن يلين لهم في القول، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ [هود: 63]، قول فيه منتهى العقلانية، أنتم تصرون على منهجكم الخاطئ الذي ورثتموه عن الآباء، لكن ماذا لو تبين لكم أنني على الحق وأنا الآن أتنعم في رحمة الله لاتِّباعي ما أمر من عبادته وحده، فمن ينصرني لو سلكت مسلككم من الإشراك وأنزل عليَّ غضبه؟ ألا ترون خطأ منهجكم؟ إن جارَيْتكم فلا تزيدونني غير أن أبوء بالخسران المبين، فسألوه أن يأتيهم بآية بينة على صدق ما يدعيه، قال لهم: إن كنتم تشكون في صدقي، فسآتيكم بآية بينة، ﴿ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [هود: 64]، فما خبَرُ هذه الناقة؟ أخرج عبدالرزاق في مصنفه، قالت ثمود لصالح: ﴿ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 154]، قال: اخرجوا، فخرجوا إلى هضبة من الأرض، فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها، فقال لهم صالح: ﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾ [هود: 64]؛ فالناقةُ خرجت من بطن الصخور بقدرة خالقها لتكونَ آية بينة لا لَبْس فيها، ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]؛ أي: آية واضحة يبصرها قوم صالح، وهي امتحان لهم؛ لأن مَن يطلُبُ من نبيه معجزة، فعليه أن يؤمن، فما بعد هذا البرهان من برهان؟! وإلا تعرض لغضب الله، وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحِجْر، قام فخطب فقال: ((يا أيها الناس، لا تسألوا نبيكم عن الآيات؛ فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية، فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وِردها، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها، وتصدر من هذا الفج))؛ أي: كان لها يوم تشرب ماءهم وتعطيهم مقابل ذلك لبنها، وتصوم يومًا وتخلي بينهم وبين مائهم، ﴿ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الشعراء: 155]، تقسيم عادل بينها وبينهم، لا ينبغي التعدي، كما تدل هذه الكمية التي تشربها من الماء على عظمها، فهي على هذا آية مبهرة، وأما عن طعامها، فأخبر تعالى بقوله: ﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73]، من هذه الآية يبدو أن طعامها كان متوفرًا في البراري الفسيحة، بحيث تسرح بعيدًا في أرض الله، فلم يكن لها يوم ترعى فيه، ولهم يوم يرعون فيه، فالمشاركة بالماء فقط، وفي سورة هود: ﴿ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [هود: 64]، وفي سورة الشعراء: ﴿ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 156]، ويبدو أن الناقة هادئة لا تؤذي أحدًا، فالتحذير لهم أن يدعوها ولا يمسوها بسوء، فلم تكن مخيفة رغم حجمها الخارق إذا ما قِيست بما نشهده من طباع الإبل عندما تهيج وتغضب إذا تعرضت لإيذاء الإنسان، فكم قص علينا البدو قصصًا عن هياج الإبل إذا ما تعرضت لإيذاء الإنسان وردها عليه بعنف قاتل. وتآمَر الرهط المفسدون في الأرض على صالح؛ للتخلص منه: ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [النمل: 48، 49]، فما الخطة التي بيَّتها هؤلاء المجرمون للنيل من نبي الله صالح؟ لقد صمَّم هؤلاء المفسدون في الأرض على قتل الناقة أولًا، ثم الهجوم على بيت صالح بعدها للتخلص منه ومن أهله جميعًا، وذلك في مؤامرة سرية لا يعلم بها إلا هؤلاء الرهط؛ لأنهم أقسموا فيما بينهم أن يُبقوا هذا الأمر سرًّا، وقد بيتوا الشر، وحددوا له ساعةً متأخرة من الليل يتسورون فيها منزله، ثم يُعملون في صالح وأهله السيف، فلا يُبقون على أحد منهم؛ كيلا يكون شاهدًا على فعلتهم النكراء، فيضيع بذلك غريمه، ويتفرق بين هؤلاء دمه، وإذا شك أحد من عشيرة صالح بهم؛ لأنهم هم المعاندون له والرافضون لدعوته يقولون مع القسم والأيمان الكاذبة: ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾ [النمل: 49]، وهذا شبيه بما حاكه أبو جهل وأشياعه عندما قرروا قتل النبي صلى اله عليه وسلم في بيته، والفارق أن مجرمي قريش لن ينكروا قتله، وإنما سيعترفون بذلك؛ لأنهم اختاروا من كل قبيلة رجلًا يشارك في هذه الجريمة فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تستطيع عشيرته الثأر منهم، ويرضَون بالديَة، أما هؤلاء فيريدون هدر دمه مع إصرارهم على إنكار ما فعلوا؛ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ [النمل: 48]، قال: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نُبيِّت صالحًا وأهله، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا مِن هذا شيئًا، وما لنا به من علم، وفي هذا الخبر أن إقدامهم على قتل الناقة سابق قتل صالح، فجعلوه هو التالي، فلا يمكنهم قتل الناقة إلا نهارًا؛ لأنها تبيت في فج لا يمكنهم دخوله، وكان الأسهل عليهم قتلها وهي تشرب الماء مدلية برأسها في البئر، ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 50]، فبيَّتوا هذا الغدر، والله رقيب عليهم، يعلم مكرهم، فبيَّت الله لهم مكرًا أشد من مكرهم، وهو الإيذان بتدميرهم، وحماية صالح من شرهم؛ ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 51]، والفاء في: ﴿ فَانْظُرْ ﴾ للتعقيب وبيان عدم إمهالهم بعد قتل الناقة فلم يستطيعوا تنفيذ بقية خطتهم، وهي الغدر بصالح وأهله، ولكن لماذا دمرهم الله تعالى وقومهم أجمعين، وهؤلاء الرهط هم المجرمون دون غيرهم؟ ورد أن "قدار زعيم المجرمين وقاتل الناقة لم يقدم على قتلها حتى أجازه كل رجل وكل امرأة وكل طفل، وروي عن قتادة أن عاقر الناقة (قدار) قال: لا أقتلها حتى ترضَوا، كبيركم وصغيركم، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون لها: أترضين؟ فتقول: نعم، والصبي، حتى رضوا أجمعون"، وهذا يعني أن قوم صالح استحقوا العذاب هم والرهط الذي تآمر، وقدار الذي باشر القتل: ﴿ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [القمر: 29]؛ أي: أعد أسباب قتل الناقة، فكمن لها، فرماها بسهم في ساقها، ثم أقدم فضرب بالسيف عراقيبها؛ أي: ما فوق الخف، فهوت على الأرض، فعاجَلها ونحرها، ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [هود: 65]، وهنا ذكر عقر الناقة بالجمع والفاعل المباشر واحد، وهذا دليل اشتراك الجميع في القصد والتواطؤ على نحرها، فلماذا أوعدهم ربهم أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام؟ وهل عنى بالتمتع الإقامة الطيبة؟ كلا؛ فهم لا يستحقونها، وإنما هذا من باب التبكيت والوعيد، كمن يقول لهم: ودعوا داركم فلن تبقوا فيها، وهم يستحقون صب العذاب عليهم من ساعتهم! لكن في هذا الإمهال مزيد عذاب، لقد قهرهم العذاب في الأيام الثلاثة، فذاقوا خلالها الويل، ولو كان مباغتًا لربما كان أسهل عليهم، ففي اليوم الأول انقلبت ألوانهم إلى الصفرة مع ألم وإرهاق، وفي اليوم الثاني اشتدت المعاناة، وانقلب اللون إلى حمرة الدم، وفي اليوم الثالث تغيرت ألوانهم إلى السواد الحالك، ثم أخذتهم الصيحة كأشد ما يكون الصوت، فصعقوا في أماكنهم وعلى هيئات أوضاعهم، ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾ [القمر: 31]، والمحتظر: الزرع الذي تسور به الحظيرة، يجف مع الأيام، ثم يُضْحي هشيمًا، وفي سورة الأعراف: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 78]، ذكرت الرجفة، وفي سورة القمر ذكرت الصيحة، ولا تناقض بينهما؛ فالثانية تنتج الأولى، فالانفجار يولد هزة قوية، ولم ينجُ سوى المؤمنين من أتباع صالح؛ ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ [هود: 66]، لقد نجَوْا بإيمانهم من عذاب الدنيا المرعِب، ومن خزي الموقف في الآخرة، وحتى يتبين لنا مدى غضب الله عليهم، فقد ورَد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مر بالحجر قاصدًا تبوك قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين))، وعندما عجن الصحابة عجينهم من ماء بئر الحجر، أمَرهم عليه الصلاة والسلام ألا يأكلوه، فعلفوه للبهائم، فبعد مئات السنين لا تزال منطقة هؤلاء المغضوب عليهم موبوءة لا تسكن، وقد أشار القُرْآن الكريم إليها مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52]؛ فالبيوت التي نحتوها في الجبال ظلت شاهدًا على قوم ثمود الذين بادوا ﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 78]، واقعين موتى على أم رؤوسهم، وهذا كانت عاقبة الكفر والعناد وقتل ناقة الله التي جاءت آية باهرة مؤيدة لدعوة صالح، فلا يكون عند قومه شك في صدق دعوته، ومع ذلك عبر صالح عن هذا الموقف بأسى بالغ لما آلوا إليه مفضلين طريق الشيطان على هدى الرحمن؛ ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79].
العبث بالأسرة المقصود به - هنا - التصدُّع الأسري، لا سِيَّما بين المتزوِّجين الشباب؛ حيث تشير الإحصائيات أنَّ نسبة الطلاق بينهم مرتفعة، وأنه لا تكاد تمرُّ أيام، أو شهور، على الزواج إلَّا وتنشأ بين الزوجين خلافات، تؤدِّي بهما إلى اللجوء إلى المحاكم، مع أن هناك نسبةً منهم يُنهون ارتباطهم ببعض، دون اللجوء إلى المحاكم، إلا لإخراج صكِّ الطلاق. هناك - على سبيل المثال - ستون (60) حالة طلاق بالمملكة العربية السعودية في اليوم؛ (14) حالة منها في الرياض، وهناك 240 في مصر، وتصِل نسَب الطلاق في المملكة العربية السعودية 21 %، وفي الإمارات العربية المتَّحدة 40 %، وفي قطر 38 %، وفي الكويت 35 %، وفي البحرين 34 %. يواجه القضاة مسؤوليَّة عظيمة، عندما يدركون أنَّ الأسباب التي أدَّت إلى هذه الحال ليست بذات بال، بل ربما كانت في نظَر القاضي، وبعض المتعقِّلين، أسبابًا لا تصِل إلى مستوى الخلاف، فيعمد القضاة إلى إصلاح ذات البَين، وإعطاء الزوجين المهلةَ للتفكير في الأمر، لا سِيَّما إذا كانت نتيجة هذا الزواج طفلًا أو طفلين. إنَّ مجرَّد التفكُّك، بحدِّ ذاته، دون النظر إلى وجود أطفال، يُعدُّ مأساةً اجتماعيةً، لها آثارها النفسيَّة على الزوجين، ومع هذا يظل هناك هامشٌ معقولٌ ومقبولٌ - عقلًا وعرفًا - في وجود عدم توافُق، ينهي العلاقةَ بالطلاق، طالت المدَّة أم قصُرَت، وتعدَّدت الأسباب وراءَ هذه المشكلة. لعلَّ من أسباب تفشِّي هذه المشكلة - الآن - في بيوتنا هو ما يتمخَّض عن المسلسلات الاجتماعيَّة، التي تلبس لباسنا، وتتحدَّث لهجتنا، ولو مصطنعةً متصنَّعةً، فتصوِّر الحياة الزوجية على أنها نزاعٌ وتنابُزٌ وتحدٍّ بين الزوجين، وتَطاولٌ من كلٍّ منهما على الآخر، فأضحَت الحياة في هذه المسلسلات، التي تُعرض في ساعات الذروة، تجسِّد الصِّراع، وتفتح أبوابًا وآفاقًا للخلاف، على حساب بعض المفهومات في العلاقات الأسرية، التي تكفُل الحدَّ من مسبِّبات الخلاف؛ كالمودَّة والرحمة، والشراكة والحبِّ. من النادر أنْ تعرض هذه النوعيَّة من المسلسلات عن زوجين بينهما انسجام تامٌّ، وتفاهُم، وتحمُّل من أحدهما للآخر، بل ربما أخذ هذا الطابع من الصِّراع سِمة الفُكاهة والطُرفة، وهو - في الوقت نفسه - يترك في نفوس الشباب الانطباعية أنَّ الحياة الزوجية إنَّما تقوم على هذا الأسلوب من الحياة، تكون فيه الزوجة - دائمًا - مكشِّرةً، ويكون فيه الزوج - دائمًا - عاليَ الصوت في البيت، ملتفتًا عن بيته بأصحابه وزملائه، ولا يأتي البيت إلا ليأكلَ وينام، إنْ لم يأكل في الخارج، وأغفلت هذه المناظرُ التمثيلية عواملَ السَّكَن بين الزوجين، وأنَّ أحدهما سكَنٌ للآخر، ولباس للآخر، وأنَّ الأصلَ أنْ تقومَ بينهما - بقدرة الله تعالى وبالتوكُّل عليه - مودَّةٌ ورحمةٌ. يبدو أنَّ هذه المسلسلات عاملٌ مؤثِّر جدًّا، في العقل الباطن للشباب من الجنسين، وهو مؤثِّر سلبًا - مع الأسف الشديد - لا إيجابًا، وإنْ كان يظهر عليه طابعُ التهريج، حتى لتشعر أنك تشاهد عروضًا مسرحيَّة مدرسية، من الناحية الفنية والمضمون، بعيدةً عن أنْ تكون ذات رسالة سامية هادفة، بل قد تجرُّ المرءَ المتابع إلى أنْ يتَّهمها بأنَّها ذات رسالة هادِمة، وهو ليس قصدَ من يقومون بالـمَشاهد؛ لأنَّ معظمهم لا يصل إلى هذا العمق، بل هم مركِّزون على الشهرة والأضواء، والمقابل المادِّي، الذي يتلقَّونه من المحطَّات التلفزيونية، التي أضحت "على قفا مَن يشيل"، وما يدرون، وليتهم يدرون، أنَّهم يتحمَّلون - بعملهم هذا - وِزْر أيِّ بيت يتصدَّع في مستقبل الأيام، وما ينتج عن ذلك كله من آثار وَخيمة على المجتمع. لستُ أدعوهم إلى مراعاة ذلك، فلن يراعوه؛ لأنهم لن يجدوا مادَّة تضمن لهم الإقبال، ولكنِّي أدعو المقبِلين إلى أنْ يُدبِروا عنهم، وأدعو الآباء والأمَّهات إلى تنبيه الأولاد - بنين وبناتٍ - بالقدوة، بأنَّ الحياة خير كلُّها، إذا أريد لها أنْ تكون خيرًا كلَّها، وأنَّ قيام البيت يتَّكئ على عوامل، كلُّها تصُفُّ في مسار التفاؤل والتضحية ومعرفة الأدوار، والاحترام المتبادل، وإيجاد جوٍّ من المودَّة والرحمة والحبِّ، وهذا ما لا تقدِّمه المسلسلات السطحية، التي يُقبل عليها الناس، لا سِيَّما الشباب والشابات منهم.
تنبيه الغبي على مقدار النبي لابن العربي المالكي صدر حديثًا كتاب " تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم "، للإمام الحافظ " أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد ابن العربي المعافري الإشبيلي " (ت 542 هـ)، دراسة وتعليق: د. " عبد الله التوراتي "، تقديم: أ.د. " محمد الطبراني "، نشر: " دار الحديث الكتانية ". وهذا الكتاب من جملة مؤلفات الإمام "ابن العربي المالكي " في السيرة النبوية والعقيدة، والتي قصد بها الذب عن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ضد أهل الأهواء من غلاة الصوفية والمعتزلة والفلاسفة، حيث نجد قبسًا من تتبع ابن العربي للفرق الكلامية التي كثرت في بلاد الأندلس على عهده فيما يجوز في حق الأنبياء، وما يجب ويستحيل، وهذا الكتاب من أنفع ما ألفه المغاربة في تعظيم قدر النبوة والنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبان فيه شفوف ابن العربي ونبوغه، وامتلاكه لناصية علم الكلام، ومعرفته بقواعده ومقاصده، وما ينضاف إلى ذلك من المخالطة لمقالات الفرق، والمعرفة بأغراضها، والوقوف على شبهها، والرد عليها بطريقتهم الجدلية في إثبات عظم قدر النبوة وعلو مقامها. يقول الأستاذ "عبد الله التوراتي" في تقديمه للكتاب: "إنما شرع القاضي أبو بكر فيه لما يرجوه من الدُّخر، ويبتغيه من الأجر؛ بصون مقام النبوة عن طعن الطاعنين، وافتراء المفترين، وكان من آكد ما يدعوه إلى ذلك قصد بعض العارفين لقدره، والمدركين لنُبله، إلى كشف ما يجول في كتب المفسرين، مما يحتطبه البعضُ في تصانيفهم، وفيه المساءة للنبوة، والشَّين لمقام القدوة، ولا أرى في ذلك إلا إحدى بركات مجالس الإمام أبي بكر، فبعد أوبته من رحلته، وما جلبه في سَفرته، وقد كان من نهجه ذِكْرُه لمفاخر ما رآه، ومباهج ما لاقاه، وفيها تلك القواعد الركينة من علم التوحيد وكُتبه، فتطلَّعت همته إلى تبيّن حقيقة ما يُشاع من تلك الروايات، من غير نظر إلى أسانيدها، ولا مداخلة لدلائل دَفعها، فكان ذلك الرجاء الذي أثمر هاته الرسالة المنبهة. وقد ألقى الإمامُ هنا باللائمة على كُتب التفسير، لجمعها كل ما قيل، وتقصيرها في تمحيصه، وقد كانت الأندلس على دُستور من سبقها؛ من الاعتمال بالقرآن، والنظر في حروفه، والاقتصار على معانيه، من غير خلط ذلك بعلم الكلام، فكانت تفاسيرهم على نهج أهل الأثر، وربما أوردوا في أثناء الفَسر والبيان ما يكون مشكلًا، ولا يرون التعرض له، أو النقض لمفهومه، إلى أن رَحل الرحَّالون من أهل النظر؛ كأبي الوليد الباجي، وابن العربي، وغيرهما ممّن سلك طريق المتكلمة، ورام تنزيه مقام الدين، وتبيان قواعد اليقين". قال الإمام أبو بكر: "وسببُ ذلك: أن كل مُتعرِّض للقول على كتاب الله تعالى، وإن تبحَّر في فَنٍّ من العلوم والفنون؛ فإنه تَقْصُرُ خُطاه عن الترقي إلى ذُروة البحث عن الإله وصفاته والنبي وأحكامه، فإنْ أَخَذَ في ما يُحسنه من فنون عِلْمِ الكتاب أجاد، وإن وقع في هاتين الدَّيمُومَتين اعتسف من غيرها". وقسم ابن العربي كتابه على ثلاثة فصول، وثلاثة أصول: الفَصْل الأوَّل: في شَرح النُّبوة والنبيّ. الفصل الثاني: في وَجْهِ معرفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بكونه نبيًّا. الفصل الثالث: في وَجْهِ معرفة الخَلق بكونه نَبِيًّا. أما الثلاثة الأصول التي قامت عليها مادة الكتاب: الأصل الأوَّل: في معرفة ما يجوز عليه من صفات البَشر الذي هو منهم. الأصلُ الثاني: في تسطير الروايات في المسألة ومقارنتها بجميعها. الأَصْل الثالث: في وَجْهِ تخريجها على مِقدار الجائز عليه. والمعضلاتُ التي قَصَد إليها ابن العربي في هذا التنبيه هي: الأولى: حكاية الغرانيق، وما جاء فيها من الروايات الباطلة. الثانية: زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها، وما قيل في ذلك من الأخبار الباطلة. الثالثة: أحاديثُ السَّهو؛ حديث ذي اليَدَيْنِ، وعبد الله بن مسعود، وابن بُحَينة. وأجاب عن كل معضلة بما يُزيح عنها وجوه الإشكال، وبَسط ذلك وأتمّه على ما ينبغي البيان وأكثر. وأورد على المعضلة الأولى بعد بيان فسادها واختلال رواياتها ونكارتها ثمانية إشكالات، ثم أجاب عنها، وكان جوابه على هذا النحو: الإشكال الأوَّل: أجاب عنه من ثلاثة عشر وجهًا من وجوه البيان. سائر الإشكالات: أجاب عن كل واحد منها بوجه واحد من أوجه البيان. والمعضلة الثانية ذَكر ما ورد فيها من الروايات، وأجاب عن كل واحدة منها، بعد استضعاف الزائغ منها، السائر على غير أَمم الوثاقة. والأخيرة من تلك المعضلات ذَكر فيها الأصل الذي ينبغي أن يعول عليه في ما أشبهها، ثم فسّر ما يحسُن تفسيره. وقد قام المحقق بتحقيق متن الكتاب على نسخة خطية وحيدة هي من كتب العلَّامة الشريف عبد الحي بن عبد الكبير الكتَّاني، في ثمان وعشرين ورقة، بخط نسخي قديم نوعًا، وعلى الكتاب خط الوفائي وتملُّكه. وعلى الرغم من وجود نقص في نسخة الكتاب، فقد أعمل الأستاذ "عبدالله التوراتي" جهده في جبر ذلك النقص، ويسّر الله تعالى له في تقدير ذلك النقص، والنظر فيه، مع الاستعانة بكُتب الإمام ابن العربي، حيث جرّد منها ما يُعين على فهم مسائل الكتاب، وربطها بعضها ببعض. وقام بالتقدمة للكتاب بدراسة مختصرة، ذكر فيها زمن تأليفه، وموضوعه، والباعث على تصنيفه، وموارده، وغير ذلك من مسائل التحقيق وأصوله . وصاحب السفر هو أبو بكر ابن العَرَبي (468 - 453 هـ = 1076 - 1148 م) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي. قاض، من حفاظ الحديث. ولد في إشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين. وصنف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ. وولي قضاء إشبيلية، ومات بقرب فاس، ودفن بها. قال ابن بشكوال: ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. من كتبه: • (العواصم من القواصم). • (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي). • (أحكام القرآن). • (القبس في شرح موطأ ابن أنس). • (الناسخ والمنسوخ). • (المسالك على موطأ مالك). • (الإنصاف في مسائل الخلاف) عشرون مجلدًا. • (أعيان الأعيان). • (المحصول) في أصول الفقه. • (كتاب المتكلمين). • (قانون التأويل)، في التفسير.