text
stringlengths
0
254k
الإسلام والنبي والمجتمع المدني لقد كان مسار الإسلام - في جانب المجتمع المدني - ذا نظرة شمولية لا ينقصه الكمال، إذ وجه للاهتمام بالصغير والكبير والذكر والأنثى باعتبارهم اللبِنات الأساسية التي تكون الأسرة والتي تُعد أصغر نواة للمجتمع المدني، وعلى هذا فإن الاهتمام به يقود إلى الاهتمام بالمجتمع ككل، فكلما كانت الأسرة قوية متماسكة كان المجتمع أكثر قوة وتماسكًا، وكلما كانت ضعيفة هشة كان المجتمع أكثر ضعفًا وهشاشه. وهو أمر يميز الإسلام في المجتمع المدني. لقد مثل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقه المجتمع المدني خير تمثيل عبر البناء الاجتماعي من القاعدة الجماهيرية الأولى التي كونت المجتمع المدني في مهده الأول مكة، فأسس الأمة الناشئة التي رباها على تعاليم الإسلام ومنظومة القيم والأخلاق، والتي أمست أساس الصرح المجيد الذي شيد فيما بعد اعتمادًا على هذه الثلة المباركة. من التطبيقات العملية التي أجراها الإسلام ونبيه والتي تقع ضمن الفقه الحضاري في المجتمع المدني، النهي عن كل ما يعكر العلاقات المجتمعية من الغيبة والنميمة والتحاسد والتباغض وكل ما يفسد العلاقات الاجتماعية ويرمي بها في غيابات الخصام وأعماق التباغض. فمما لا ريب فيه أن الإنسان اجتماعي بفطرته؛ فلا بد أن يتفاعل مع بني جنسه لكي يحيا على نحو طبيعي متوازن، حيث غدى تفاعل الإنسان مع بني جنسه يشكل الركيزة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، مما ينتج منظومة من الأعراف والثقافات التي تتسم بالخصوصية لدى أي مجتمع من المجتمعات، وهذه الخصوصية تختلف بطبيعة الحال باختلاف النطاق الزماني والمكاني مما يجعل دراسة ثقافة المجتمعات والأعراف السائدة فيها ضرورية. بيد أن اختلاف فئات المجتمع وتباين حاجاتها وحقوقها وواجباتها يحتم علينا إدراك أهمية توفير الرعاية لجميع الفئات كل بحسب متطلباته. لقد عد الإسلام الاهتمام بجميع أفراد المجتمع المدني أمرًا لازمًا في صياغته المجتمع المدني السليم، فالعناية بالطفل وحقه في الحياة مكفولٌ لِكُلِّ إنسانٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ [الإسراء: 31]، فضلا عن المساوة وعدم التمييز بين الذكر والأنثى، والاهتمام به وبتعليمه وتربيته، لينشأ إنسانًا سويًّا قادرًا على بناء المجتمع، كما أوصى بالأيتام وأوجب مراعاتهم ماديًّا ومعنويًّا والحرص على تحري الأصلح له، يقول المولى جل وعلا: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 220]، وفي الحديث الشريف: « أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتينِ»، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. واهتم بالشباب وحث على تثمير طاقاتهم وقدراتهم وتوجيهها إلى سواء الصراط، ولم يغفل كبار السن بل ركز على وجوب رعايتهم والعطف عليهم ومراعاة ما يولده كبر السن من تغير نفسي وعاطفي وعقلي. وأكد على حق المرأة والاهتمام بها أمًا وأختًا وابنة وزوجة وإعطائها الحقوق اللازمة لتعيش حياة كريمة وتكون عنصرًا فاعلا في المجتمع، فضلا عن حقوق الرجال في مختلف الميادين وإعطائهم دورهم القيادي في المجتمع المدني والذي ينسجم مع المهام الموكلة بهم. كما أولى كبار السن عناية خاصة سواء أكانوا أبوين أم غير أبوين، يقول الله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، وفي الحديث: « ليس منَّا مَنْ لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ». وقد كفل الإسلام حقَّ المسافر وابن السبيل وجعل لهما حقًّا في الزكاة المفروضة. والجار الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورثه»، وشرع من الأحكام ما أمن له الحياة الكريمة. لقد أمسى الفرق واضحًا بين المنهج الإسلامي وغيره من المناهج الغربية في إعداد المجتمع والاهتمام به وضوح الشمس في كبد السماء، فأين من يبني المجتمع على أساس أن الإنسان أخ للإنسان له من الحقوق والواجبات ما يتلاءم وطاقاته ومسؤوليته، ومثال ذلك ما قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليوصي أحد قضاته على مصر قال: (فإنهم إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وأين بعض المناهج الغربية التي تعد الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان لابد أن يشرب دمه ويأكل لحمه ويكسر عظمه لأجل أن يتطور ويصل مراتب عليا في هذا المجتمع. إن غايات الإسلام في بناء المجتمع المدني لو أتيحت لها الفرصة لكي تطبق في العالم لاستطاع أن يقضي على المشاكل المجتمعية التي يعاني منها العالم اليوم، وليس هذا انحيازًا أنما هو ما عبر عنه الكثير من الباحثين والمفكرين والفلاسفة الغرب أنفسهم في كتبهم حيث تكلموا بمنطقية على تجربة الإسلام في هذا الصدد، وحلوله الناجعة في هذا.
المسائل المشتركة بين علوم القرآن وعلوم الحديث لفواز منصر سالم الشاووش صدر حديثًا كتاب "المسائل المشتركة بين علوم القرآن وعلوم الحديث دراسة وصفية تحليلية"، تأليف: د. "فواز بن منصر سالم الشاووش"، نشر: "دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع". وهي من الرسائل العلمية الجيدة، التي تدرس المسائل التي اشترك فيها علمان دراسة مقارنة، وهذا نوع من التأليف الهام، ومن فوائده: بيان ترابط العلوم الشرعية، والنظر في كيفية تناول كل فن لتلك المسائل المشتركة. ويأتي هذا البحث - بدراسته النقدية المقارنة - كاشفًا عن تلك العلوم والمسائل التي فيها تأثُر ظاهر بعلوم الحديث، ومبيِّنًا العلوم الأصيلة في كتب علوم الحديث ثم أُلحقت مؤخرًا في كتب علوم القرآن، وذاكرًا أشهر من تأثر بالمحدثين من علماء علوم القرآن. فإنه لا يخفى على ذي لُبِّ مكانةُ السنة من الكتاب حتى إن بعضهم قال: إن السنة قاضية على الكتاب، بمعنى أنها تفسِّره وتبيِّنه، ولما كانت السنة النبوية بهذه المنزلة عني علماء الحديث بها رواية ودراية، ووضعوا القواعد والضوابط التي يُعرف من خلالها صحتُها من ضعفها، وتفننوا في عرض المسائل والأنواع، وألفوا في ذلك المؤلفات، مما جعل بعض علماء علوم القرآن يحذون حذوهم، ويسيرون على نهجهم في بعض العلوم والمسائل. وانقسمت خطة هذا البحث إلى مقدمة، وتمهيد، ومبحثين، وخاتمة. المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع. التمهيد: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: التعريف بعلوم القرآن وعلوم الحديث. المطلب الثاني: العلاقة بين علوم القرآن وعلوم الحديث. المطلب الثالث: تأثر علماء علوم القرآن بالمحدثين. المبحث الأول: العلوم الأصيلة في كتب علوم الحديث والدخيلة في كتب علوم القرآن: وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: الموضوع. المطلب الثاني: المدرج. المطلب الثالث: المسلسل. المطلب الرابع: الأسماء والكنى والألقاب. المبحث الثاني: علوم القرآن المتأثرة بعلوم الحديث: وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: أسباب النزول. المطلب الثاني: العالي والنازل. المطلب الثالث: المتواتر. المطلب الرابع: الشاذ. المطلب الخامس: المنكر. الخاتمة: وفيها ذكر أهم النتائج والتوصيات. ويرى الباحث في دراسته بأنه لا شك في وجود علاقة بين علوم القرآن وسائر علوم الشريعة عمومًا، وتتفاوت هذه العلاقة قوة وضعفًا بحسب قرب تلك العلوم من القرآن الكريم أو بعدها عنه، وأما علاقة علوم القرآن بعلوم الحديث فهي علاقة قوية من القدم، ويمكن أن تلخيص هذه العلاقة في بعض النقاط الآتية: أولًا: أن كلا العِلْمين متعلقان بالوحي، ومنبثقان منه، ويساعدان على فهمه الفهم الصحيح الموافق لمراد الله تعالى، ومراد رسوله. ثانيًا: أن نشأتهما كانت في وقت واحد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ظهرت فيه بعض أنواع علوم القرآن وعلوم الحديث. ثالثًا: حاجة كلا العلمين إلى علم الإسناد، أما في علوم الحديث فالأمر ظاهر، وأما في علوم القرآن فمن حيث إن علم التفسير المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وتابعيهم قائم على الإسناد، وعلم القراءات القرآنية قائم على الإسناد كذلك. خامسًا: أن كثيرًا ممن صنَّف في علوم الحديث رواية عقد بابًا أو كتابًا للتفسير، وفضائل القرآن، ومن أمثلة هؤلاء: الإمام الدارمي (255هـ) فإنه عقد في مسنده كتابًا لفضائل القرآن، وكذا الإمام البخاري (256هـ) فإنه عقد في صحيحه كتابًا للتفسير، وكتابًا لفضائل القرآن، وهذا يدل على تداخل علوم القرآن مع علوم الحديث. كما تأثر علماء علوم القرآن بالمحدثين، ويظهر هذا التأثر من خلال النظر في كتبهم ومؤلفاتهم، فتجد أن من أهم أسباب تأليفهم في علوم القرآن نظرتهم إلى علوم الحديث ومصنفاته، كما يظهر هذا جليًا في مقدمات كتبهم؛ كمقدمة كتاب "فنون الأفنان" لابن الجوزي (597ه)، و"البرهان في علوم القرآن" للزركشي (794ه)، و"مواقع العلوم في مواقع النجوم" للبلقيني (824هـ)، و"التحبير في علم التفسير"، و"الإتقان في علوم القرآن" كلاهما للسيوطي (911هـ)، إضافةً إلى أن لكلِّ واحدٍ من هؤلاء العلماء باعًا في علم الحديث، والتأليفِ فيه، الأمر الذي أدَّى إلى تأثرهم بالمحدثين في بعض المسائل والأنواع، والتي أتى الكاتب على ذكرها بالتفصيل في تضاعيف هذا البحث. كما أن من أهم النتائج والتوصيات التي خرج بها الكاتب من بحثه: 1- علاقة علوم القرآن بعلوم الحديث علاقة قوية من القدم منذ العهد النبوي، فقد ظهرت فيه بعض أنواع علوم القرآن وعلوم الحديث. 2- من أهم أسباب التأليف في علوم القرآن هو النظر إلى علوم الحديث ومصنفاته، ويظهر هذا في مقدمات تلك المؤلفات. 3- أشهر من تأثر بالمحدثين من علماء علوم القرآن: الزركشي (794هـ)، والبلقيني (824هـ)، وابن الجزري (833هـ)، وأكثرهم تأثرًا بهم السيوطي (911هـ). 4- كما يوصي الكاتب بالكتابة في مسألة تأثر علماء علوم القرآن والمحدثين بالأصوليين، وبيان المصطلحات الأصولية التي دخلت كتب علوم القرآن وعلوم الحديث. والباحث د. " فواز بن منصر سالم الشاووش " حاصل على دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن تلك الرسالة موضوع الكتاب، وكانت رسالته لنيل درجة الماجستير في التفسير بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة بعنوان "أساليب العرب في الكلام وأثرها في التفسير من خلال جامع البيان للطبري "دراسة نظرية تطبيقية"" .
تحقيق الكلام في سماع ابن الحدَّاد من النَّووي الإمام [1] بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعدُ: فهناك رأيان حول سماع الشَّيخ محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن علي بن مُجلِّي ابن الحدَّاد الصَّالحي الدِّمشقي الحنفي (666 هـ-757 هـ) [2] من الإمام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي الدِّمشقي الشَّافعي (631 هـ - 676 هـ)، وهما: الأوَّل: أنَّ ابن الحدَّاد ممَّن رأى الإمام النَّووي، ولَقِيَهُ، وصَحِبَهُ، وسَمِعَ منه، ورَوَى عنه. ومُستند هذا الرَّأي ما يلي: 1- أنَّ ابن الحدَّاد قاله وصرَّح به، حيث كان يَذكُرُ أنَّه رأى الإمام النَّووي، وسَمِعَ منه. قال الحافظ أبو الفضل الزَّين العراقي [3] : (كان يَذكُرُ أنَّه رأى الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي، وسَمِعَ منه) ا.هـ. 2- أنَّ ابن الحدَّاد ضَبَطَ تفاصيل سماعه من الإمام النَّووي، وذلك حين سمَّى: الكتاب المقروء عليه (الأربعين النَّوويَّة)، ووالده القارئ. قال الحافظ السَّخاوي [4] : (رأيتُ أيضًا في أسانيد المجد اللُّغوي [5] ص احب (القاموس): أنَّه قَرَأَ (الأربعين) للشَّيخ -يعني: النَّووي- على محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن أبي الحسن علي بن طاهر بن بركات الدِّمشقي، عُرف بابن الحدَّاد، بمنزله على مقربة من جامع دمشق [6] ، بسماعه لها بقراءة والده على مؤلِّفها ) ا.هـ. المنهل العذب الرَّوي بخطِّ مصنِّفه السَّخاوي، مكتبة الشيخ زهير الشَّاويش، رقم (169)، [51] 3- أنَّ تلامذة ابن الحدَّاد الرُّواة عنه قد اعتمدوا هذا الرَّأي، واقتصروا عليه دون غيره، وعدُّوه خاتمة أصحاب الإمام النَّووي. فقد صاغ تلميذه الحافظ شمس الدِّين محمَّد بن علي الحسيني الدِّمشقي (715هـ-765 هـ) -وهو من أهل بلده- عبارةً غاية في الدِّقة لا تصدرُ إلَّا بعد تثبُّت ومعرفة، فقال في ترجمته [7] : ( خاتمةُ أصحاب الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي ) ا.هـ. وذَكَرَ تلميذه العلَّامة القاضي مجد الدِّين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي اللُّغوي (729هـ -817 هـ) أنَّه يروي كتاب (الأربعين النَّوويَّة) عنه بسماعه له بقراءة والده على المؤلِّف ، كما تقدَّم [8] . 4- أنَّ سماع ابن الحدَّاد منه ممكنٌ جدًّا، فالشَّيخ جمال الدِّين داود بن إبراهيم ابن داود ابن العطَّار الدِّمشقي (665 هـ-752 هـ) مَثَلًا معدودٌ ضمن تلامذة الإمام النَّووي الذين رووا عنه وأجازهم [9] ، وسَنة ولادته كما ترى مقاربة جدًّا لسَنة ولادة ابن الحدَّاد. وقد ذهب إلى هذا الرَّأي جماعة من الأئمَّة، منهم: المقريزي [10] ، والسَّخاوي [11] . الثَّاني: لم نقف على ما يثبت سماع ابن الحدَّاد من الإمام النَّووي. ومُستند هذا الرَّأي ما حكاه المؤرِّخ صلاح الدِّين ا لصَّفدي في ترجمته، فقال [12] : (أخبرني ولده الأمير ناصر الدِّين محمَّد أحد البريديَّة بدمشق، قال: توجَّهتُ مع والدي إلى عند قاضي القضاة تقي الدِّين السُّبكي -رحمه الله تعالى-، وقال له وأنا أسمعُ: إنَّ والده أحضره إلى الشَّيخ محيي الدِّين النَّواوي -رحمه الله تعالى- بالرَّواحيَّة وهو أمردٌ؛ ليشتغل عليه، فقال له: هذا صبيٌّ أمردٌ، وأنا مذهبي أنَّ النَّظر إلى الأمرد حرامٌ مطلقًا، ولكن توجَّه به إلى تاج الدِّين الفزاري، فأخذه والده وجاء به إلى الشَّيخ تاج الدِّين وهو يشتغل في الجامع الأموي، أو كما قال) ا.هـ. وقد ذهب إلى هذا الرَّأي جماعة من الأئمَّة، منهم: أبو الفضل الزَّين العراقي [13] ، وتقي الدِّين الفاسي [14] . فإنْ صَحَّت هذه الحكاية [15] ، فإنَّها لا تتعارض مع ما تقرَّر في الرَّأي الأوَّل؛ لأنَّ ابن الحدَّاد سمع منه بعد ذلك بقراءة والده ومعيَّته، ثمَّ النَّظر إلى الأمرد للتَّعليم ونحوه يُباح بقدر الحاجة، كما نصَّ عليه الإمام النَّووي نفسه [16] . وبهذا تظهر قوَّة الرَّأي الأوَّل ووجاهته الذي يقرِّر ثبوت صحبة ابن الحدَّاد للإمام النَّووي وسماعه منه وروايته عنه، كما أنَّه داخلٌ بلا ريب في إجازته العامَّة لأهل العصر. والله تعالى أعلم. وصلَّى الله على نبيَّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] الفضل -بعد الله تعالى- في إفراد هذه المقالة المتواضعة لفضيلة الشَّيخ شبيب بن محمَّد العطيَّة في مدارسة علميَّة جرت بيننا، فجزاه الله تعالى خير الجزاء. [2] انظر ترجمته في: (ذيل العبر) (4/ 173) للحسيني، و(أعيان العصر وأعوان النَّصر) (5/ 568-571)، و(الوفيات) (2/ 194)، و(تاريخ ابن قاضي شهبة) (3/ 112)، (الدُّرر الكامنة) (6/ 191)، و(قلادة النَّحر) (6/ 277). [3] انظر: (تاريخ ابن قاضي شهبة) (3/ 112)، و(الدُّرر الكامنة) (6/ 191). [4] (المنهل العذب الرَّوي) (ص 131)، وعدَّد الحافظ المقريزي في (درر العقود الفريدة) (3/ 174) و(المقفى الكبير) (7/ 260) مسموعات شيخه الفيروزآبادي بدمشق، فقال: (ومن: يحيى بن علي بن مُجَلِّي ابن الحدَّاد الحنفي (الأربعين النَّواويَّة) عن النَّووي) ا.هـ. [5] هو الإمام العلَّامة إمام اللُّغة القاضي أبو طاهر وأبو عبد الله مجد الدِّين محمَّد بن يعقوب بن عمر الفيروزآبادي الشِّيرازي الشَّافعي (729 هـ -817 هـ). [6] كانت قراءته عليه وإجازته له في شهر شوَّال سنة 757 هـ، كما في (قلادة النَّحر) (6/ 277). [7] (ذيل العبر) (4/ 173). [8] أفادني فضيلة الشَّيخ شبيب بن محمَّد العطيَّة -لا حرمنا الله فوائده- بأنَّ الفقيه عفيف الدِّين عبد الله بن محمَّد بن أبي بكر الهمداني قرأ كتاب (منهاج الطَّالبين) سنة 829 هـ على شيخه الفقيه عبد الولي بن محمَّد الخولاني، ثمَّ قال العفيف: (يروي -يعني: شيخه الخولاني-الكتاب المذكور عن شيخه الإمام قاضي القضاة مجد الدِّين بروايته عن الشِّيخ يحيى بن مُجَلِّي ابن الحدَّاد عن الإمام النَّووي، ويروي سائر مصنَّفات الإمام النَّووي بهذا السَّند المذكور) ا.هـ. [9] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الدُّرر الكامنة) (2/ 219): (وُلد في شوَّال سنة 665 هـ، فأجاز له: ابن عبد الدَّائم، والنَّجيب، والنَّووي، وابن مالك، وغيرهم) ا.هـ، وذكره الحافظ السَّخاوي ضمن من أخذ عنه في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 130)، وقال في (الذَّيل التَّام) (1/ 121): (أخو العلاء تلميذ النَّووي، بل هو أيضًا تلميذه) ا.هـ. [10] (درر العقود الفريدة) (3/ 174)، و(المقفى الكبير) (7/ 260). [11] (المنهل العذب الرَّوي) (ص 131-132، 152). [12] (أعيان العصر وأعوان النَّصر) (5/ 569)، وذكره اختصارًا غير واحد. [13] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني أثناء ترجمة ابن الحدَّاد في (الدُّرر الكامنة) (6/ 191) : (وكان يَذكُر أنَّه رآه، وأنَّه سمع منه، قال شيخُنا العراقي: ولم أقف على ذلك ) ا.هـ. [14] قال في (العقد الثَّمين) (2/ 246) أثناء ذكره لمسموعات المجد الفيروزآبادي: ( ومن يحيى بن علي بن مجلِّي بن الحدَّاد الحنفي (الأربعين النَّواويَّة)، عن النَّواوي سماعًا، بدعواه، وما قُبِلَ ذلك منه ) ا.هـ. [15] أومأ الحافظ السَّخاوي إلى وهن هذه الحكاية والنَّظر في مدى ثبوتها أثناء حديثه عن شدَّة ورع الإمام النَّووي، فقال في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 152): (وكان يرشدهم -يعني: الشَّباب- إلى التَّاج ابن الفِركاح، كما أسلفتُهُ عند ذكر الآخذين عنه، إنْ صَحَّت تلك الحكاية) ا.هـ. [16] قال في (منهاج الطَّالبين) (ص 373): (ويُباح النَّظر: لمعاملةٍ، وشهادةٍ، وتعليمٍ، ونحوها، بقدر الحاجة) ا.هـ.
الشيخ عبدالرحمن بن سعد العياف رحمه الله (1343_1442هـ) فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (متفق عليه). بلغنى اليوم الثلاثاء 12 من شهر ذي القعدة لعام 1442هـ الموافق 22 من شهر يونيه لعام 2021م وفاة مجيزنا بقية السلف وبقية أئمة الدعوة الإصلاحية، عالم الطائف وفقيهها ومسندها، شيخنا عبدالرحمن بن سعد بن محمد العيّاف الدوسري الودعاني، رحمه الله تعالى عن عمر يناهز 99 عامًا هجريًا، حيث ولد شيخنا سنة ١٣٤٣هـ، وأخبرنا بخبر الوفاة الشيخ بدر بن طامي العتيبي فيما كتب به الينا عبر برنامج التواصل تويتر، وانتشر بعد ذلك نبأ وفاة شيخنا الراحل عبر وسائل الاتصال الحديثة المختلفة انتشارًا سريعًا كالبرق بين تلاميذه ومحبّيه في مشارق الأرض ومغاربها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. والشيخ من خواص طلاب الشيخ العلامة الفقيه المحدث سليمان بن عبدالرحمن الحمدان المكي (1322 - 1397هـ) – رحمه الله تعالى – فقد تفقه عليه، واشتدت ملازمته له وقرأ عليه الكثير من الكتب المطولة والمختصرة منها أول صحيح البخاري، وصحيح مسلم كاملًا، والروض المربع كاملًا من أوله إلى آخره قراءة بحث وتحقيق، وكتاب التوحيد، وشرحه فتح المجيد، وغير ذلك من الكتب في فنون شتى من النحو والفرائض ونحوها. حتى أجازه الشيخ سليمان بن حمدان بالإجازة الحديثية، وهو عمدته، وأجازه العلاّمة عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل (1335- 1432هـ) ، والشيخ المفسر عبدالقيوم بن زين الله الرحماني (1336 _ 1429هـ) وغيرهم. وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى عالمًا متضلّعًا، وأسدًا من أسود التوحيد والسنة قائما بنصرتهما، شديدا على أهل البدع والمنكرات، محبًّا للعلم وأهله، و باذلا للعلم والتعليم والدعوة والنصح حتى آخر أيامه! ورزقه الله تبارك وتعالى مزايا جمّة وخصائص كثيرة فذّة لا تجتمع في رجل واحد عادة؛ فكان يجمع مع الصلاح، الزهد والورع ودماثة الخلق، عاش متحليًا بالرفق والعطف على الكبار والصغار، يكثر من الدعاء لهم، مما جعل كثير من طلابه وتلاميذه حتى الذين أُجيزوا منه ولم يرزقوا لقاءه يحبونه حبا جمًا أخبرتنى إحدى طالباته التي لم تعرفه إلا من مدة غير بعيدة، وحضرت له بعض مجالسه الأخيرة عبر البث، وقد تأثرت جدا بوفاته، وقالت: ما تأثرت ولا تألمت بفقد أحد بعد والدى مثل وفاة شيخنا عبدالرحمن، وكيف لا والله يشهد أنه كان أبي بعد أبي. والشيخ يسر الله لي زيارته من عشر سنوات، وقد دلني على بيته ومسجده، بل ووافانى برقم هاتفه الشيخ عبدالله علاف، بل وهو أول من استجاز لي ولغيري منه، ثم تيسر لي بفضل من الله ومنه وكرمه لقائه والسماع منه والقراءة عليه والاستجازة لي ولأهلي وأولادي، وقد فصلت هذه الرحلة في (فسحة أهل الرواية) وتكلمت عن كرمه وحسن استقباله وحفاوته رغم كبر سنه رحمه الله. ومن محبتي للشيخ وبري به رويت عنه في غير رسالة، وجزء حديثي، أخرها في "العقود اللؤلؤية من الأربعين الرمضانية" (الحديث 21 منها) . فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم اغفر لشيخنا، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، وتقبل منه أعماله الصالحة الطويلة، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. اللهم يًمِّن كتابه، ويسّر حسابه، واجعله من عبادك المقربين، وألهم ذويه وأهلَه ومن يتعلق به ويحبه فيك ولاسيما أبناءه وطلابه ومحبيه الصبرَ والسلوان، إنك بالإجابة جدير، ونعم المولى ونعم النصير.
قصة سليمان بن داود عليه السلام (5) بناء بيت المقدس رُوي أنه لما عاد إلى سليمان ملكُه بعد أربعين يومًا من سلبِه الملكَ من قِبل الشيطان "صخر" الذي احتال على أخذ الخاتم، قرر سليمان عليه السلام أن يبني المسجد الأقصى، وكان مكانه قد حدده داود عليه السلام؛ وذلك أن الناس في زمانه قد أصابهم طاعون جارف، فخرج بهم داود إلى موضع بيت المقدس وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء؛ فلهذا قصده ليدعو فيه، فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم فاستجاب له ورفع الطاعون، فاتخذ ذلك الموضع مسجدًا، وروي أنه شرع في بنائه لإحدى عشرة سنة من ملكه وتوفي قبل أن يتم بناءه، وأوصى إلى سليمان بإتمامه. وفي رواية أخرى: أن سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد، فبناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، وقوِيَ على ذلك بالجن والشياطين، حتى غدا آية في الفن والجمال، وقد وقعت إشكالية عند عدد من المؤرخين بسبب الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (( المسجد الحرام ))،، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (( المسجد الأقصى ))، قلت: كم كان بينهما؟ قال: (( أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصَلِّه؛ فإن الفضل فيه ))؛ "أي الصلاة في وقتها أينما كنت ففيها الفضل"، وفي رواية الأعمش: (( فإن الأرض كلها مسجد )). من هذا الحديث كان للمؤرخين في بناء المسجد الأقصى أقوال: أفضلها أن أول من بناه هو النبي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو الصحيح، وهذا ما يؤيده الحديث السابق، وأما فعل سليمان أو داود فكان من باب التجديد، ولا يخفى أن ما آتاه الله لسليمان من الإمكانات وتسخير الجن له يعد ما بناه هو البناء الأكمل والأجمل؛ لذلك نسب إليه؛ لذلك أشكل على بعض المؤرخين فقالوا: أول من بناه سليمان، وقد روي في بنائه من قبل سليمان الكثير، وذلك من حيث الفخامة والإتقان والزخرفة والترصيع بالجواهر والتذهيب والنحاسيات والفضيات التي استخدمت في تزيينه، ورُوي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ( إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خِلالًا ثلاثًا، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون الثالثة لنا: سأله حُكمًا يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها )). *****
مناهج أصحاب الكتب الستة ومالك وأحمد والدارمي لوليد عثمان الرشودي صدر حديثًا كتاب " مناهج أصحاب الكتب الستة ومالك وأحمد والدارمي "، تأليف: " وليد بن عثمان الرشودي "، تقديم: د. " ماهر ياسين الفحل "، نشر: " دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع ". ويتضمن الكتاب دراسة في بيان مناهج أصحاب كتب الحديث التسعة وهي؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه، وموطأ مالك، ومسند أحمد، ومسند الدارمي. وهذه أهم الكتب التي اشتهرت بين كتب السنة، وقد لقيت عناية خاصة واهتمامًا كبيرًا من العلماء فيما يتعلق بمتونها ورجالها. وهذه الكتب هي عمدة أهل الإسلام وفيها ما يُحتاج إليه من أحاديث ولا يكاد يخرج عنها حديث تحتاج إليه الأمة في شيء من أمر، وقد عظَّمَ الأئمة شأن هذه الكتب، ونوهوا بها في كثير من مصنفاتهم. ولعظم هذه المنزلة لهذه الكتب؛ قام الكاتب بالتعريف بها وبمؤلفيها حيث كان من الأهمية بمكان التعرف على مناهج مصنفيها في تأليفها، وعاداتهم في إيراد الأحاديث، وما يتعلق بتوثيق نسبتها، وفضلها، ومزاياها، ومواضيعها، وعدد الأحاديث في كل مصنف منها، وما يتعلق بشروطها، وكيفية انتقاء أحاديثها، وترتيب أبوابها، وتراجمها، وما يتعلق بمعلقاتها وموقوفاتها، وكلام العلماء على درجة أحاديثها، وترتيبها من حيث التقديم والمزية، وإيضاح ما يشكل مما يتعلق بها. . . إلخ، وهي مباحث هذه الدراسة في كل مصنف متناول من متون السنة التسعة التي أوردها الكاتب؛ ليسهل الاستفادة منها، وليكون المستفيد منها على دراية بها فيسهل الانتفاع بها ويزول الإشكال عن المواضع المشكلة ويعظم قدرها في النفوس وكذلك يحترز عن بعض مواطن الخلل في بعضها. والكاتب " وليد بن عثمان الرشودي "، يعمل أستاذًا مشاركًا في السنة النبوية وعلومها في قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين، ورئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين، حاز على درجة الدكتوراه في السنَّة النبوية بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. من مؤلفاته: • "أيها العاق تذكر". • "شرح الأربعين في فضائل القرآن".
حُسنِ السِّيرَة في مآثر العلَّامة محمود مِيرَة رحمه الله تعالى إعداد: عمير الجنباز إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، انتقل إلى جوار ربِّه صباح اليوم: الجمعة 27 شوَّال سنة 1441ھ، شيخنا الجليل العلَّامة الأستاذ الدكتور محمود بن أحمد مِيرَة، تغمَّده الله برحمته ورضوانه، وأورده موارد مغفرته وإحسانه، وأعلى مقامَه، وبلَّغه في دار الجزاء مرامَه. وهو من العُلماء المُحقِّقين، والنُّبلاءِ المُدقِّقين، صاحبُ الآثار والشَّمائل، والمَعارف والفَضائل، والمآثر العديدة في ميدان الدَّعوة والتَّربية والتَّعليم. وهو المحدِّثُ المحقِّقُ المُتفنِّن، الخبيرُ بالتُّراث والمخطوطات، أستاذُ الحديث وعلومه في الجامعة الإسلاميَّة من سنة: 1385هـ إلى سنة: 1406هـ، وفي جامعة الإمام بالرياض من: 1406هـ إلى: 1416هـ، وفي كليَّات البنات من: 1417هـ إلى:1425هـ، وقد شارك خلالها في إدارة قسم المخطوطات بمكتبة الجامعة الإسلاميَّة، وجلبَ المخطوطات وصوَّرها إليها من بلدان العالم، ووضع المناهج والخطط الدراسيَّة في علوم الحديث الشَّريف والسُّنَّة النَّبويَّة، وأشرَف وناقَش العديد من الرَّسائل العلميَّة ( الماجستير، الدكتوراه ) للطلَّاب والطَّالبات. والشَّيخ محمود من مواليد حلب الشَّهباء سنة: 1348هـ، 1929م، حيِّ الكلَّاسة زُقاق المبلِّط، تلقَّى تعليمه الأوَّلي في المدرسة الشَّعبانيَّة ( معهد العلوم الشَّرعيَّة ) بحلب، وتخرَّج فيها سنة:1373/ 1954م، وإلى جانب دراسته كان يُساعدُ والده في مهنة البناء والعمارة، ثمّ التحق في كليَّة الشَّريعة بالجامعة السُّورية ( جامعة دمشق ) وتخرَّج فيها سنة:1380هـ/ 1960م، ثمَّ حصل على دبلوم التَّأهيل التَّربوي من الجامعة نفسها سنة:1381ھ، 1961م، ثمَّ أكمل دراسته العليا في كليَّة أصول الدِّين بالأزهر، وحصل على الماجستير سنة :1388ھ/ 1968م، وأطروحته بعنوان: دراسة حديث: (يا أبا عُمَير، ما فعل النُّغَير؟) حديثيًّا وفقهيًّا، مع تحقيق رسالة أبي العبَّاس ابن القاصِّ أحمد بن أبي أحمد الطَّبري (ت 335هـ)، ثمَّ حصل على الدُّكتوراه بمرتبة الشَّرف الأولى سنة1392هـ/ 1972م، عن أطروحته: (الحاكم النَّيسابوري وكتابه المستدرك على الصَّحيحين ). درَّسَ وأفاد، وبلغَ الطَّلبة به كلَّ مُراد، ونالَ من العلوم أقصى مرامَه، وتوطَّد من العوارفِ أعلى مقامَه، إلى أن فاق أمثالَه، ونال آمالَه، ولا ريب أنَّه فارسُ التَّحقيق بعدَ اندراسِه، ورائدُ التَّدقيق بعدَ انطماسِه، فهو حقيقٌ بكلِّ تذكيرٍ وتقدير، وتنويهٍ وتصدير. بحرُ الفضائل ملتقى مجموعها *** همعُ الهوامع مرتوي ظمآنها كان مطبوعًا على المعروف والخير، مجبولًا على المساعدة ودفع الضَّير، كثير النَّصيحة والفوائد، جديرًا بالعطايا والعوائد، مُحبَّا للكتب وجمعها، مُعتنًا بها وعارفًا لمخطوطها ومطبوعها، مؤكدًا ترك العجلة في إخراجها ونشرها بلا تدقيقٍ ولا تحقيق، بل لا بُدَّ من الرَّويَّة والتُّؤدة والإتقان، متمثِّلًا بقول القائل: لا تَعرِضَنَّ على الأنام قصيدةً ما لم تكُن بالغتَ في تهذيبِها فإذا عرضتَ الشِّعرَ غيرَ مهذَّبٍ عَدُّوه منكَ وَساوسًا تَهذي بها وبالجُملة: كان الشَّيخُ محمودَ السِّيرةِ والسَّريرة، عالمًا دَيِّنًا، مُصلحًا صَيِّنًا، سالكًا طريق السَّلف الأخيار، ناهجًا سبيل السُّنَّة والآثار، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المُنكر، متقنِّعًا بالقناعة والعفاف، مشتملًا على النَّزاهة والكفاف، بدرًا مُنيرًا للمسترشدين، وبحرًا زاخرًا للمستفيدين. وله جلَدٌ على مدارسةِ أمَّات الكتب ودواوين السُّنَّة، مع حافظةٍ جيِّدة، ونُطقٍ فصيح، وذكاءٍ مليح، وبيتٍ مفتوح، وطعامٍ ممنوح، يلاطف تلاميذه أجمل المُلاطفة، لا تملُّ مجالسته، ولا تعلُّ مؤانسته، وكثيرًا ما يحنُّ لموطنه حلب الَّذي تركه قسرًا بسبب نشاطه الدَّعوي والتَّربوي، فكانت حلب وسوريَّة تملأ ناظريه، وترنُّ في أذنيه شوقًا وطوقًا، ويأمل خلاصها من الظُلم والطُّغيان، وينشدُ في أكنافها ونفحها الشِّعر الرَّطيب، والنَّثر الخصيب.. إلى جوانب أخرى في سعيه لأعمال البرِّ والخير. كَتمَ الصَّنائعَ فَاستَشاعَ ثَناؤُها *** مَن ذا يَصُدُّ الصُّبحَ عَن أَن يُشرِقا ولم يزل مهتمًّا بآلام أمَّته وآمالها، يفيدُ كلَّ طالب، ويدعو النَّاس إلى الفضائل والرَّغائب، إلى أن آن ارتحاله، وحانَ انتقاله، وذَوى عُوده، وتقلَّصت من الحياة بُروده، وتقشَّعَ سحابه، وأفلَ شهابه، وذَوى غصنه اليانع، وسقى قبره الغيوثُ الهوامع، فغفرَ الله له وأعلى في المَدارج مُرتقاه، وجعلَ الجنَّة مثواه ومأواه، وأخلف على المسلمين خيرًا. عالمٌ قد سما هامَ الثُّريَّا ونالَ من العُلا أعلى القداحِ إلى قصب المكارمِ حاز سبقًا وجارَى الغيث في بذل السَّماح بروض المجد قد غرست يداه غصون الفضل بادية النَّجاحِ
أحكام الوطء لمحمد بن يحيى بن سراقة العامري صدر حديثًا كتاب " أحكام الوطء "، تأليف: الإمام "أبي الحسن محمد بن يحيى بن سراقة العامري الشافعي "، تحقيق: "محمد بن عبد الله الشعار " ود. " عادل آل سدين مكي "، نشر: "دار الحديث الكتانية للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب كان في عداد المفقودات، ومخطوطته ورد ذكر لها - كما ذكرَ الباحث المحقق د. "عبد الحكيم الأنيس " - ضمن رسالة " الفلك المشحون " للإمام السيوطي، ولكنه ناقصٌ، وفي كتب الفقه نقولٌ منه. وهو مخطوطٍ نفيسٍ في ( الفقه الموضوعي ) من القرن الرابع والخامس الهجري، وهو: (أحكام الوطء ) للإمام الشيخ أبي الحسن محمد بن يحيى بن سراقة القادري. وقد بناه على عشرة أبواب، وهي: الباب الأول: في ذكر ما يتعلقُ بالعبادة المحضة على البدن دون الحج. الباب الثاني: في ذكر ما يتعلقُ في الحج والعمرة بالوطء من الأحكام. الباب الثالث: في ذكر ما يتعلقُ بالوطء على البدن من الحدود. الباب الرابع: في ذكر ما يتعلقُ بالوطء من أحكام التحريم. الباب الخامس: في ذكر ما يتعلقُ في الأموال بالوطء من الغرامات. الباب السادس: في ذكر ما يتعلقُ بالوطء من أحكام التخيير. الباب السابع: في ذكر ما يتعلقُ بالوطء من أحكام العدد. الباب الثامن: في ذكر ما يتعلقُ بالوطء من أحكام الولايات، والنسب. الباب التاسع: في ذكر الأحكام التي لا تثبتُ في الشريعة إلا بالوطء. الباب العاشر: في ذكر ما يُشترط في القبل والدبر، وما ينفردُ به كلُّ واحدٍ منهما. قال المؤلِّفُ: "وتجد ذلك مشروحًا بفروعه وأصوله إنْ شاء الله". وقد قام المحققان بالعثور على نسخة نفيسة لمخطوطة الكتاب، وقاما بتحقيقه مع إكمال النقص من النقولات عنه، والتقدمة للكتاب بمقدمات نفيسة عن المؤلف وكتابه. والمؤلف وردت ترجمته في كتاب " طبقات الشافعية الكبرى " للسبكي أنه مُحَمَّد بن يحيى بن سراقَة أَبُو الْحسن العامري الْبَصْرِيّ الْفَقِيه الفرضي الْمُحدث صَاحب التصانيف فِي الْفِقْه والفرائض والشهادات وَأَسْمَاء الضُّعَفَاء والمتروكين. أَقَامَ بآمد مُدَّة وَدخل فِي الحَدِيث، وَذكر لَهُ أَبُو الْفَتْح الْموصِلِي بالموصل فانحدر إِلَيْهِ وَسمع مِنْهُ تصانيفه، وَأخذ عَن أبي الْفَتْح كِتَابه فِي الضُّعَفَاء ثمَّ نسخه وراجع فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ. وروى عَن ابْن داسة والهجيمي وَابْن عباد. وَدخل فَارس وأصبهان والدينور والأهواز. وَكَانَ حَيًا سنة أَرْبَعمِائَة، ويرجح أنه توفّي فِي حُدُود سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة".
الاقتصاد الأسود لا يخفى ما ظهر في الآونة الأخيرة من وجود ارتباط بين الدخول المتحققة في الاقتصاد الخفي وأنشطة الإرهاب المحلي والعالمي، وتشجيع العنف في مختلف أنحاء العالم. ونظرًا للارتباط الوثيق بين الاقتصاد الخفي والجرائم الاقتصادية، اتجهت وزارات الداخلية في مختلف دول العالم إلى إنشاء إدارات متخصصة للأمن الاقتصادي وملاحقة عمليات غسيل الأموال القذرة وتعقب الجرائم الاقتصادية وكشف علاقتها بالإرهاب والعنف والتطرف مع الحرص على تعميق روابط التعاون الدولي لمنع الجرائم الاقتصادية والمرتبطة بالاقتصاد الخفي أو الاقتصاد الأسود. فقد أوضحت بعض الدراسات أن أرباح مافيا السوق السوداء في بعض الدول أصبحت تمثل 50% من حجم الاقتصاد الوطني. وبينت تلك الدراسات أن حجم الأرباح التي تحققها المافيا من الاقتصاد الخفي بلغت في عام واحد حوالي 150مليار دولار، مما يوضح سيطرة الاقتصاد الخفي أو الاقتصاد الأسود على مختلف دول العالم النامية والمتقدمة على حد سواء. ومما يزيد الأمر تعقيدًا انتشار عمليات غسيل الأموال للدخل المتحقق في ظل الاقتصاد الخفي في السنوات الأخيرة بمعدلات متسارعة في بعض دول العالم. وللأسف فإن عصابات الاقتصاد الخفي ومافيا المخدرات وبغول الأموال القذرة استطاعت تحقيق دخول مرتفعة من معاملات السوق السوداء، وتجارة العملات والذهب والخمور والقمار والدعارة والمخدرات. إن الاقتصاد الخفي يتمثل في مجموعة الأنشطة غير المسجلة ضمن إطار الحسابات الوطنية. وتشمل الإنتاج القانوني غير المعلن في قطاعات: الزراعة، والصناعة والتشييد والبناء، والتجارة الداخلية، والسياحة والفنادق والنقل والمواصلات، والتمويل والتأمين، والخدمات العامة والاجتماعية. كذلك يضم الاقتصاد الخفي إنتاج السلع والخدمات المحظورة، وإنتاج المخدرات، وتوزيع الحشيش، وتوزيع السجائر المهرّبة، ودخول المراهنات والمقامرات والدعارة وسرقة المواد الخام والمواد الصناعية. وقد انقسم الاقتصاديون تجاه الاقتصاد الخفي ما بين مؤيّد ومعارض، وما بين شارح لمزاياه وإيجابياته، ومفصّل عيوبه وسلبياته. حيث يرى بعض الاقتصاديين أن بعض أنشطة الاقتصاد الخفي تؤدي إلى رفع مستوى الرفاهية الاقتصادية في ظل ظروف معينة، عادة ما تكون مقيدة. كما يرى معظم الاقتصاديين أن الاقتصاد الخفي يؤثر بشكل سلبي على القيمة المضافة المتحققة لدى شركات قطاع الأعمال العام والحكومة، إذ تؤثر الأعمال الإضافية للعاملين في جهات أخرى على ضعف إنتاجيتهم في الشركات العامة، ومن ثم نجد الدخل الشخصي مقوّمًا بأقل من قيمته الحقيقية، مما يؤثر سلبًا على الدخل الوطني.
اتِّفاقيات حقوق الإنسان لا نسعى هنا إلى استقصاء ما كُتب ونُشر عن الحقوق بلغة واحدة، ناهيكم عن اللغات المختلفة، فليس هذا مجال الاستقراء وتكرار الأفكار التي وردت بها تلخيصًا وتحليلًا من منطلق الموافقة أو الدفاع أو الهجوم، هجومًا أو دفاعًا، رغم أن هذه المهمة سهلة المنال من الناحية الفنية في ضوء القدرة والسيطرة على تقنيات المعرفة، كما تعمل مكتبة حقوق الإنسان في جامعة منيسوتا بالولايات الأمريكية ومكتبة حقوق الإنسان في مركز عمَّان لدراسات حقوق الإنسان، وغيرهما من المكتبات المتخصصة بالحقوق عمومًا،إلا أن هذا الأسلوب، رغم أهميته وسيلةً لنقل المعلومة وإيصالها لمحتاجيها، يتَّسم بقدر من المهارات الفنية لدى ذوي الاختصاص، ولا ينظر هذا الأداء إلى العمق الفكري الذي يتَّسم به المشاركون والمشاركات في نقاشات مستفيضة حول حقوق الإنسان، لا تكاد تتعدَّى الطاولات المستديرة وقاعات الاجتماعات. المهم هنا هو الاتِّفاق في حدِّه الأدنى على مفهومات هذه المصطلحات المتداولة، الأمر الذي تعاني منه الأوساط القانونية والفكرية التي يتردَّد بينها عددٌ من المصطلحات، لكنها تجد صعوبةً في تحديد مفهوماتها بصيغة ثقافية وفكرية مشتركة تراعي التنوعات الثقافية قابلة للتطبيق على الواقع. مِن هنا تتأخَّر بعض الاتفاقيات المَعْنية بحقوق الإنسان، أو تتعثَّر من حيث التوقيع والموافقة ومن ثم التطبيق؛ وذلك للغموض والاضطراب في بعض المصطلحات الواردة في هذه الاتفاقيات، وافتقارها إلى التحديد الدقيق، مع وجود هاجس أنها صِيغَتْ بذهنية لا تتسم بالموضوعية المطلقة، فهي إما مسيَّسة أو متحيِّزة وذات اتجاه واحد، وتمثل ذهنية واحدة ذات أبعاد محلية غير ذات قابلية للتعميم. وفي نبذ الإرهاب الذي هو اليوم الشغل الشاغل للدول والشعوب مثلًا حفظ للحقِّ في الحياة، ومع هذا فإنه لم يتَّفق دوليًّا على صيغة واضحة لتعريف الإرهاب - كما مر ذكره في الفصل الأول من هذا الكتاب - رغم محاولات البعض الوصول إلى تعريف مشترك يجمع شتات الأفكار التي تتضمنها التعريفات الكثيرة؛ حيث وصلت تعريفات الإرهاب إلى أكثر من مائة وعشرة (110) تعريفات، بحيث قيل: إن وصف ظاهرة الإرهاب أسهلُ من تعريفه ا [1] ، ومع هذا فلا جدال على شجب الممارسات الواضحة إنسانيًّا أنها التخريب والترويع والإفساد بعينه، ولا مسوغ البتة لأي سلوك يكون من أهدافه التعرض لحقوق الإنسان، والإرهاب هو أبرز أنواع النكران الفعلي لحقوق الإنسان. يظهر هنا التحيُّز في التعريف، بحيث يُخلط بين الإرهاب البيِّن ونضال الشعوب من أجل تقرير المصير، كما هي الحال مع القضية الفلسطينية في الوقت الراهن التي يتجسَّد بها الكيل بمكيالين والانتقائية وتطبيق المعايير المزدوجة، فيما يعدُّ انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان العالمية [2] . على أن عدم الاتفاق على مفهوم محدد للإرهاب، على اعتبار أنه مِن وسائل سلب الحق في الحياة والأمن، لا يعني أن المعترضين على المفهوم القاصر المقترح لا يتَّفقون على نبذ الإرهاب بشتى أنواعه وصوره،وإنما الحديث هنا عن المفهوم المفروض لظاهرة مرفوضة [3] . ولطالما تدخَّل العقل البشري بإخلاص في رسم خريطة حقوق الإنسان من خلال الانطلاق من بيئات ثقافية لا يتوقَّع منها إلا أن تكون ضيقة، ما دام هناك نزوع إلى فرض ثقافة طاغية على ثقافات أخرى مغلوب على أمرها آنيًّا، وليس بالضرورة دائمًا. [1] انظر: أمل يازجي ومحمد عزيز شكري. الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن. مرجع سابق - ص 93. [2] انظر: أمل يازجي ومحمد عزيز شكري. الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن - المرجع السابق - ص 59. [3] انظر: علي بن فايز الجحني. الإرهاب: الفهم المفروض للإرهاب المرفوض - الرياض: أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، 1421هـ/ 2001م - 430ص.
الرؤية الاقتصادية السليمة للمال كلما كانت الإمكانات محدودة والموارد شحيحة، احتجنا إلى براعة أكثر في إدارتها؛ حيث إن علينا أن نؤمِّن حاجاتنا من وراء رأس مال محدود. ومما يساعد على خفض النفقات تأجيل شراء بعض الأشياء إلى الأوقات التي تكون فيه رخيصة، كإجراء المكالمات الهاتفية في أوقات التخفيض، وأكل بعض الفواكه والخضار في مواسمها؛ حيث تكون عادة منخفضة. ولا بد مع هذا وذاك من الإقلاع عن عادات الإسراف والتبذير، والمباهاة والتقليد الأعمى في المأكل والملبس والمسكن. وللأسف، فإن غالبية النساء تنفق الأموال الطائلة على الملابس وأدوات الزينة، بل إن كميَّات كبيرة من الطعام المعدّة للأكل لا تجد غالبًا مَن يأكلها. وللحقيقة فإن المال أداة إنتاجية مهمّة، والرؤية الاقتصادية السليمة تحث على جعله متحركًا ناميَّا؛ حيث إن في حركته توفير فرص عمل للمحتاجين إليه، كما أن فيها تنشيطًا للاقتصاد الوطني، وعائدًا على الدولة وأصحاب رؤوس الأموال، إذا   ما أُدير بشكل جيد ومنظم. إن لدى النفس البشرية ميولاً غريزية نحو الكسل والفوضى والهروب، من الواجبات والابتعاد عن الواجبات. فمن ثم فالواجب القضاء على المفاهيم المغلوطة، والأفكار الرديئة، والتوجُّهات العقيمة، وكذا استخدام الأوقات في تطوير المهارات، وتعلُّم المهن المناسبة، وتحسين الوضع المعيشي، واغتنام الفرص المتاحة وإدارة الإمكانات والموارد المحدودة بعقلانية ورشادة، وهذه بعض أسرار النجاح. إن كثيرا من الناس في هذا الزمان يعيش على حافة الفقر، وهناك شكوى عامة من تزايد صعوبة توفير الحاجات الأساسية؛ حيث تحوَّل كثير مما كان يُعدُّ من الكماليات إلى أشياء ضرورية تصعب استقامة الحياة بدونها، أضف إلى هذا وجود بطالة متصاعدة في قطاع الشباب، لا سيما المتعلم منه إلى جانب ارتفاع الأسعار على نحو مستمر. ولمواجهة هذا الوضع كان لزامًا على المرء تحسين دخله؛ حيث بإمكانه أن يُوجِدَ لنفسه عملاً فرعيًّا، يُدر عليه دخلاً إضافيًّا، ومهما ساءت الأحوال، فإن هناك دائمًا بعض الفرص للحصول على مصدر يزيد في دخل الإنسان. في الماضي غير البعيد كانت متطلبات العيش محدودة نسبيًّا، ولذا فإن الواحد من الناس كان يقوم بمعظم حاجاته، ومع ارتقاء الإنسان في مدارج الحضارة، أخذت أساليب الحياة تتعقد شيئًا فشيئًا، وزاد اعتماد الناس بعضهم على بعض؛ مما جعل تقسيم العمل يزداد شمولاً وعُمقًا، وصارت صلاحية الإنسان في البناء الاجتماعي تستمد اكتمالها من مدى ما يمكن أن يقدمه لمجتمعه من إسهامات هو بحاجة إليها. وللأسف، فإن بعض الناس ينفق دخله الشهري في أيام معدودة، ثم يستدين إلى نهاية الشهر، وكثير منَّا يُسيء استخدام موارده المالية، فينفق المال الوفير على أشياء ترفيه أو ولائم مظهرية دون حاجة. ولذا جاءت فكرة الصندوق الاحتياطي التي يعمل بها بعض الناس فكرة جيدة ومفيدة؛ حيث يقوم بعضهم باجتزاء 10% من الدخل الشهري مثلاً، ويضعه في ذلك الصندوق؛ ليُستخدم فيما بعد في الحالات الضرورية والطارئة.
كتب مفردة في أشراط الساعة، وفي عالَم البرزخ والآخرة الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فهذه طائفة من عنوانات الكتب المفردة في أشراط الساعة، ثم في عالم البرزخ والآخرة، رجوتُ أن يكون في جمعها وترتيبها على وفيات المؤلِّفين فائدة، وأن تكون سببًا في الاهتمام والإقبال عليها، وقراءتها والانتفاع بها، وإحياء ما لم يُطبع منها بالتحقيق والنشر، والله الموفق. أولًا: كتب مفردة في أشراط الساعة: • " أشراط الساعة وذهاب الأخيار وبقاء الأشرار "، لعبدالملك بن حبيب القرطبي (ت:238). • " النهاية في الفتن والملاحم "، لابن كثير (ت:774). • " رسالة في أشراط الساعة "، لعبدالرحيم القره حصاري (ت بعد:865). • " الأسرار الخفية والآثار البهية " (في أشراط الساعة)، للجامي (ت:898). • " القناعة فيما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة "، للسخاوي (ت: 902). • " الضاعة في أشراط الساعة "، للسيوطي (ت: 911). • " سواء الصراط في بيان الأشراط "، لمحمد حجازي الشهير بالواعظ القلقشندي (ت: 1035). • قال الـمـُحبي في "خلاصة الأثر": "هو كتاب جليل في أشراط الساعة أوصلها فيه إلى ثلاث مئة". • " الإشاعة لأشراط الساعة "، لمحمد بن رسول البرزنجي (ت: 1040). (واختُصِرَ وتُرجم إلى التركية). • " رسالة في أشراط الساعة "، لنيازي المصري (ت:1105). • " مختصر الإشاعة "، لحسن العجيمي (ت: 1113). • " الذخائر المهمات فيما يجب الإيمانُ به من المسموعات " (في أشراط الساعة) لأحمد البنا الدمياطي (ت: 1117). • " مختصر الإشاعة "، لعبدالله الطرابلسي (ت: 1154). • " رسالة في أشراط الساعة "، لحسين حسني الكريدي (ت: 1218). • " رسالة في أشراط الساعة "، لعلي بن محمد الميلي التونسي (ت: 1248). • " الإذاعة لما كان وما يكونُ بين يدي الساعة "، للقنوجي (ت: 1307). • " التصريح بما تواتر في نزول المسيح "، لمحمد أنور الكشميري (ت: 1352). • " إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة "، لحمود التويجري (ت: 1413). • " أشراط الساعة "، ليوسف بن عبدالله الوابل، رسالة جامعية. ويُنظر: • المعجم المفهرس، لابن حجر (فصل في أشراط الساعة وأحوال يوم القيامة). ♦♦ ♦♦ ♦♦ ثانيًا: كتب مفردة في عالَم البرزخ والآخرة: • " التوهُّم في وصف أحوال الآخرة "، للمحاسبي (ت:243). • " البعث "، لابن أبي داود (ت: 316). • " التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة "، للآجري (ت:360). • " البعث والنشور "، للبيهقي (ت:458). • " الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة "، للغزالي (ت: 505). وللسيوطي تخريجُ أحاديثه، يسَّر اللهُ العثور عليه. • " العاقبة في أحوال الآخرة " [أو في البعث]، لعبد الحق الإشبيلي (ت: 582). • " المُقلق " لابن الجوزي (ت: 597). • " التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة "، للقرطبي (ت: 671). • " قلادة الدر المنثور في ذكر البعث والنشور "، للدِّيريني (ت: 694). وفيه ذكرٌ لأشراط الساعة أيضًا. • " كشف الريَّــْب والإيمان بالغيب "، للدِّيريني. ذكرَ فيه سؤالَ منكر ونكير، ونعيم القبر وعذابه، ووزنَ الأعمال [1] . • " التخويف من النار "، لابن رجب الحنبلي (ت: 795). • " العلوم الفاخرة في النظر في أمور الآخرة "، للثعالبي (ت: 875). • " رسالة في أحوال الموتى والمحشر وأحوال القيامة "، للسخاوي (ت: 902). • " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور "، للسيوطي (ت: 911). • " الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف "، للسيوطي (ضمن "الحاوي للفتاوي"). • " کتاب البعث "، للسيوطي (ضمن "الحاوي"). • "کتاب المعاد" ، للسيوطي (ضمن "الحاوي") [2] . • " البدور السافرة في أمور الآخرة "، للسيوطي. • " الآيات العشر في أحوال الآخرة في الحشر "، لابن کمال باشا (ت: 940). • " مختصر تذكرة الإمام القرطبي "، للشعراني (ت: 973). • " نتيجة الفكر ونخبة النظر في جمع الآيات الدالة على الحشر "، لإبراهيم الميموني (ت: 1079) وهو في تفسير آيات الحشر والنشر والجنة والنار، وضعه على منوال كتاب "البدور السافرة في أحوال الآخرة" للسيوطي. • " التذكرة الفاخرة بأحوال الآخرة "، للسحيمي (ت:1178)، وهو مختصر مِن تذكرة القرطبي أيضًا. • " البحور الزاخرة في علوم الآخرة "، لمحمد بن أحمد السفاريني (ت: 1188). • " الحشر "، للنُّوْرسي (ت: 1379). • " الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها "، للشيخ عبد الله سراج الدين (ت:1423). • " فقه علوم الآخرة "، للشيخ محمد بشير الشقفة. • " القيامة أرضية أم كونية ومواضيع أخرى "، للدكتور محمد صالح العاني [3] . [1] انظر: "الأنوار الواضحة في تفسير الفاتحة" له ص138. [2] أمّا كتاب «الدُّرر الحسان في البعث ونعيم الجنان» - وهو كتاب قصصٍ في أحوال الآخرة من حين الموت إلى أن يدخل أهلُ الجنة الجنة، وأهلُ النار النار، مع وصف نعيم الجنة وشقاء النار طُبع منسوباً إلى السيوطي - فقد قال عنه الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال في كتابه "مكتبة الجلال السيوطي" ص ۱۸۸: "يبدو مِن سياق وضعه ووهن أسلوبه أنه مكذوبٌ على الجلال السيوطي". وهو كما قال. [3] خلاصتُه أنَّ الساعة تشمل الأرض والمجموعة الشمسية، وليس الكون الفسيح كله.
قصة سليمان بن داود عليه السلام (4) سليمان الملك والقوة غاية القوة أن يعطى إنسان قدرات هائلة يمنحها الله له بتسخير قوى ظاهرة من البشر وأخرى خفية من الجن ووسيلة نقل خيالية لم ينتج البشر مثلها أو قريبًا منها إلا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، حيث الطائرة "إيرباص"، وهي طائرة ضخمة قد تحمل ألف راكب، وفيها أسواق، هذا أقصى ما وصل إليه عالم الطيران اليوم؛ فقد سخر الله الريح لسليمان يحمل عليه ما يشاء من جنود وعتاد، ويجري بإذن الله رخاء؛ أي: بسرعة معتدلة تعادل اليوم سرعة الطائرات النفاثة التجارية تقريبًا، ولن أعتمد النقل عن الإسرائيليات، وإنما أنقل نص الكتاب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سبأ: 12]، إضافة إلى الريح التي أعطيت له ومعجزة لم يحصل عليها نبي من قبل ولا من بعد، فقد سخر الله له عينًا تجري مِن النحاس المذاب ليعمل عنده العاملون أصنافًا من القدور والتحف والإنجازات الكثيرة من النحاس، وقد كلف الجن بالعمل دون توقف مع التهديد للمخالف بأنه سيذوق عذاب السعير: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، كانت هذه صنعةَ الجن له، صناعات ثقيلة لا يقدر عليها البشر، وكان نحت التماثيل في شريعته جائزًا، أو لعلها ليست من ذوات الأرواح، وفسرت المحاريب بالأبنية الكبيرة المرتفعة، والجفان بالأحواض الكبيرة التي يخزن فيها المياه، والقدور الراسيات الثابتات التي يصعد إليها بالسلالم، ولعل كل ما ذكر من أجل تغذية الجيوش الجرارة التي هي بحاجة إلى مثل هذه الأواني للطبخ، وبالطبع عليها الجن الذين يقومون بمثل هذه الأعمال الشاقة، وكل ذلك مِن باب إعداد العدة للجهاد في سبيل الله؛ لذلك أُتبعت بالأمر بالعمل بطاعة الله وشكره، وهذه من صفات آل داود: الشكر للمنعم على نعمه، وفي سورة ص ذِكْر لنعم أخرى أنعمها الله على سليمان: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 30 - 33]، وكان مما آتاه الله الخيلُ الأصيلة، وقد وُصفت بالصافنات الجياد؛ فالخيل الأصيلة تقف على ثلاث أرجل، والرابعة ترفعها قليلًا، وتركز على الأرض طرف حافرها، والجياد الأصيلة المعروفة النسب سريعة لا تُسبق، ومع هذه الصفات العالية لخيل سليمان التي فتنته فأحبها واستوقفته كثيرًا ليتمتع بجمالها، وهو مأخوذ بهذا الشغف بجمالها فقد صلى الظهر ثم راح يستعرضها إعدادًا لها للجهاد، وكانت ألف فرس، فما كاد ينتهي من رؤية معظمها حتى غربت الشمس وهو لا يشعر بذلك حيث فتن بمنظرها، ففاتته صلاة العصر، فاهتم للأمر وعلَتْه كربة فظيعة؛ إذ كيف ينسى الواجب تجاه ربه من أجل الانشغال برؤية الخيل وهو ليس بالأمر المهم، وكان بإمكانه التأجيل أو المتابعة بعد أداء الصلاة، ولكي يبطل هذه العادة راح إلى الخيل يجندلها بسيفه مسحًا بالسوق والأعناق، وكان هذا بمثابة الذبح لها، فوزع لحمها على الفقراء، فعوَّضه الله عنها بالريح التي تحمله وجندَه أنى شاء، وعنى بالخير: الخيل الجياد. ووصل منتهى مد سليمان بالقوة من رب العالمين أنه دعا أن يهبه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجيب له، وكان من هذا المدد الريح التي ذكرناها وتسخير الجن والشياطين وهم أعتى من الجن؛ ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 36 - 40]، فقد ذلل له الجن والشياطين يبنون له ما يأمرهم به على أحسن حال وبديع صنع، ويستخرجون له كنوز البحار ليرصع به البناء والقصور، فكان ملكه أبهة وعظمة، فليس هذا من باب الإسراف وإنما يدل على عظمة الخالق الذي أعد للمؤمنين جنانًا تفوق ما صنعه سليمان؛ لذلك كافأه على هذه الأعمال التي أبرزت قدرة الله القادر بأن: ﴿ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 40]. حبه للجهاد: كان له من النساء مائة، وقيل أكثر، وقيل أقل، إضافة إلى الجواري، وقد حدَّث نفسه مرة أنه سيطوف على نسائه المائة فيلدون له مائة فارس يجعلهم في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، وقد ورد هذا الخبر في حديث لأبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل امرأة منهن تلد غلامًا يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، وفي رواية: - ونسي أن يقول: إن شاء الله - فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن إلا امرأة، ولدت نصف إنسان - وفي رواية: ساقطًا أحد شقيه))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله، لولدت كل امرأة منهن غلامًا يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل))، يتبيَّن مِن هذا الخبر حبُّ سليمان عليه السلام للجهاد في سبيل الله، فأراد أن يمده بأبنائه؛ طمعًا بمزيد من الثواب؛ وذلك لِما أعد الله للمجاهدين في سبيله من الثواب الكبير، وقد استعمل الريح لنقل جنوده، فغزا أقوامًا عن يمينه وعن شماله وفي جزر البحر، ويعتقد أنها قبرص وكريت، فكان عهده عهد جهاد، مسخِّرًا ما أعطاه الله من قوة في هذا السبيل.
التَّبيين لما قيَّده ابن رَزِين عن تلميذه النَّووي محيي الدِّين الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فمن الفرائد التي حفظها لنا الإمام شمس الدِّين أبو الخير محمَّد بن عبد الرَّحمن السَّخاوي (831 هـ-902 هـ): ما قيَّدَهُ الإمام تقي الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن الحسين ابن رَزِين العامري الحموي (603 هـ-680 هـ) حول عرض كتاب (التَّنبيه) عليه من قِبل تلميذه الإمام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شَرَف النَّووي (631 هـ-676 هـ) سنة 650 هـ، وهي السَّنة الثَّانية لقدومه إلى مدينة دمشق. وقد قمتُ بنسخ ما يتعلَّق بذلك على الطَّريقة الإملائيَّة الحديثة، ثمَّ قابلتُ المنسوخ بنُسخ خطِّيَّة عديدة، وأثبتُّ أهمّ الفروق والتَّعليقات في الحاشية، وختمتُه بذكر شيء من الفوائد. وعلى الله الكريم توكُّلي واعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنِّعمة، وبه التَّوفيق والعصمة. *** جاء في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 55) للحافظ السَّخاوي نقلًا عن الإمام النَّووي ما نصُّه: (وحَفِظتُ (التَّنبيهَ) [1] في نحو أربَعة أشهر ونصف. قُلتُ: وعَرَضَهُ في سنة خمسِين، فقد قَرَأتُ بخَطِّ العِزِّ القاضي [2] أبي عُمَر ابن جَماعة [3] : وَقَفْتُ على ورَقةٍ بخَطِّ الحافظ عَفيف الدِّين أبي السِّيادة المطَري [4] ، أنَّه شاهَدَ على نسخة صاحِبهِ الفقيه الإمام بدر الدِّين ابن الصَّائغ الدِّمشقي الشَّافعي [5] من كتاب (التَّنبيه) ما مِثالُهُ: الحمدُ للهِ كما هُوَ أَهلُهُ. عَرَضَ عَلَيَّ: الفقيهُ، أبو زكريَّا يحيى بن شَرَف بن مِرَى [6] النَّوَوِي من أوَّل كتاب (التَّنبيه) في الفقه هذا وإلى آخِرِهِ، مَوَاضِعَ امتَحَنْتُ بها حِفْظَهُ دَلَّتْ على ذل [7] ، وآذَنَتْ بتكرارهِ عَلَى [8] جَميعِهِ، وتحصِيلِهِ، وحِرصِهِ على العِلم، وَفَّقَنِي اللهُ وإيَّاهُ لهُ وللعَمل به. وذلك: في مجلسٍ واحدٍ، لسَبعٍ مَضَيْن من شهر ربيع الأوَّل سنة خمسين وستمائة [9] . كَتَبَهُ: محمَّد بن الحُسين بن رَزِين الشَّافعي. حامدًا [لله] [10] ، مُسلِّمًا [11] ، مُستغفِرًا. وابنُ رَزِين [12] هذا هو: قاضي القضاة، تقي الدِّين، أبو عبد الله، كانَ ممَّن أَخَذَ عن ابن الصَّلاح، ودَرَّسَ بالشَّامِيَّة الحُسَاميَّة [13] ، وأَمَّ بدار الحديث الأشرفيَّة [14] ، ثمَّ وَلِي قضاء مِصر، وكان كبير القَدر، جميل الذِّكر، مات بَعد الشَّيخ بأربع سنين، في رجب سنة ثمانين. قال شيخُنا في (رَفع الإِصر) في ترجمته [15] : رَوَى عنه: الدّمياطِي، والبدر ابن جماعة، ومِن قَبلِهما: الشَّيخُ مُحيي الدِّين النَّووي، انتهى كلامُ شيخِنا [16] . وأَخَصُّ من هذا أنَّ الشَّيخ نَقَلَ عن ابن رَزِين في (الأُصُول والضَّوابط) [17] [مع أنَّ وفاته تقدَّمَتْ على وفاة ابن رَزِين، فقد كانت في رجب سنة ثمانين وستمائة بالقاهرة] [18] انتهى) ا.هـ. المنهل العذب الرَّوي بخطِّ مصنِّفه السَّخاوي، وهو من إبرازاته الأولى خزانة الشَّيخ زهير الشَّاويش، رقم (169) [9-10] المنهل العذب الرَّوي بخطِّ أبي بكر الحسيني تلميذ المصنِّف، ومقابل على نسخته، وعليه خطُّه مكتبة لاندبيرج، رقم (234) [4] المنهل العذب الرَّوي بخطِّ تلميذ المصنِّف، ومقابل على نسخته، وعليه خطُّه مكتبة برلين، رقم (1742 We ) [143] المنهل العذب الرَّوي بخطِّ محمد بن محمد ابن السقا تلميذ المصنِّف المكتبة الظاهرية، رقم (6179) [4/ب-5/أ] *** وقد نَقَلَ الإمام النَّووي عن شيخه الإمام ابن رَزِين في موضعَين اثنَين من كتابه (رؤوس المسائل وتحفة طلَّاب الفضائل): الأوَّل: في تحقيق المثقال الذي يُعتبر في نصاب الزَّكاة (ص 195-197)، وافتتحه بقوله: (قال الشَّيخ تقي الدِّين ابن رَزِين، حفظه الله، ورضي عنه) ا.هـ. والثَّاني: في استفتاء طويل حول مسألة معيَّنة (ص 200-203)، وافتتحه بقوله: (أجاب الشَّيخ تقي الدِّين [ابن] رَزِين، رضي الله عنه) ا.هـ. مسائل نُقلت من خطِّ الإمام النَّووي (رؤوس المسائل) مكتبة تشستربيتي، رقم (3854) [150-151/أ] *** ومن الأمور المستفادة ممَّا سبق: 1- أنَّ من عظيم التَّربية أن يوجِّه الشَّيخُ تلميذَهُ إلى اغتنام مواهبه، لا سيَّما في بدايات طلبه للعلم، وينصحه، ويدعو له بالتَّوفيق والسَّداد. 2- أنَّ من أجلِّ أساليب شحذ الهمم نحو القِمم أن يعتني الشَّيخُ بتحفيز تلميذِهِ، وتشجيعه، والثَّناء عليه بما هو أهلٌ له. 3- أنَّ من تمام البرِّ أن يوقِّر التِّلميذُ شيخَهُ، ويذكره بخير، وينشر علمه وفضله، ويدعو له في حياته وبعد مماته. 4- ضرورة العناية بالمتون العلميَّة المنهجيَّة حفظًا وفهمًا وعملًا وتعلُّمًا وتعليمًا. 5- أهميَّة إحياء مجالس عرض الكتب وسماعها على أهل العلم، وتقييد ذلك. هذا والله أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] للإمام جمال الدِّين أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشِّيرازي (393هـ-476هـ)، وكتابه هذا من الكتب المشهورة المتداولة بين السَّادة الشَّافعية، حفظهُ وشرحهُ ودرَّسه خلقٌ كثيرٌ، قال عنه الإمام النَّووي: (من الكتب المشهورات النَّافعات المباركات المنتشرات الشَّائعات؛ لأنَّه كتابٌ نفيسٌ حفيلٌ، صنَّفه إمامٌ مُعتمدٌ جليلٌ، فينبغي لمن يريد نصح الطَّالبين، وهداية المسترشدين، والمساعدة على الخيرات، والمسارعة إلى المكرمات أَن يعتني بتقريبه، وتحريره، وتهذيبه) ا.هـ، وقد اعتنى هو به عناية خاصَّة، فأفرد حوله عدَّة مصنَّفات، منها: (نُكت التَّنبيه)، و(تحرير ألفاظ التَّنبيه)، و(العمدة في تصحيح خلاف التَّنبيه)، و(تحفة الطَّالب النَّبيه في شرح التَّنبيه)، و(مختصر التَّنبيه). [2] في نسخة مكتبة لاندبيرج: (القاضي العز). [3] عز الدِّين أبو عمر عبد العزيز بن محمَّد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني الشَّافعي (694 هـ- 767 هـ)، انظر ترجمته في: (المعجم المختص بالمحدِّثين) (ص146)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/79-81)، و(الدُّرر الكامنة) (3/176-180). [4] عفيف الدِّين أبو السيادة عبد الله بن محمَّد بن أحمد المطري الشَّافعي (698 هـ- 765 هـ)، انظر ترجمته في: (المعجم المختص بالمحدِّثين) (ص 125)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/34-35)، و(الدُّرر الكامنة) (3/65-66). [5] بدر الدِّين أبو اليسر محمَّد بن محمَّد بن عبد القادر ابن الصَّائغ الأنصاري الدِّمشقي الشَّافعي (676 هـ- 739 هـ)، انظر ترجمته في: (الوافي بالوفيات) (1/248-249)، و(طبقات الشَّافعيَّة) لابن قاضي شهبة (2/388-389)، و(الدُّرر الكامنة) (5/495). [6] (مِرَى، مِرَا): بكسر الميم، وفتح الرَّاء الـمُهملة المخفَّفة، بعدها ألِف مقصورة تارةً، وألِف ممدودة تارةً أُخرى، وهو الضَّبط الصَّحيح لاسم جدِّه الذي لا يحتمل غيره، كما فصَّلتُ ذلك في مقالة مُفردة بعنوان: (رفع المِرَا عن ضبط اسم جدِّ الإمام النَّووي مِرَا). [7] قال التَّاج السُّبكي في (طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (10/341) في ترجمة علاء الدِّين الباجِي (المتوفَّى 714 هـ): (وكانت بينه وبين الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي صداقةٌ وصحبةٌ أكيدة، ومُرافقة في الاشتغال، حَكَى لي ناصر الدِّين بن محمود، صاحب الباجِي، قال حَكَى لي الباجِيُّ، قال: ابتدأتُ أنا والنَّوويُّ في حفظ (التَّنبيه)، فسبقَني إلى النِّصف الأوَّل، وسبقْتُهُ إلى خَتمهِ) ا.هـ. [8] في المطبوع (عَلَيَّ): بعد اللَّام ياءٌ تحتانيَّة مفتوحة مشدَّدة، والصَّواب أنَّ ما بعد اللَّام ألِف مقصورة؛ وذلك حتَّى يستقيم المعنى بأنَّ المواضع التي امتَحَنَهُ فيها دَلَّتْ على حفظه، وأَعْلَمَتْ بتحقُّق هذا الحفظ وتكراره على جميع الكتاب، ومن عادة الحافظ السَّخاوي أنَّه يضبط الحرف المشدَّد تمييزًا له عن غيره، وقد أهمله هنا، والله أعلم. [9] وعمر الإمام النَّووي يومها 19 عامًا . [10] ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة المكتبة الظَّاهريَّة. [11] في نسخة مكتبة لاندبيرج: (مُصلِّيًا)، مع الإشارة إلى أنَّه في نسخة كما المثبت أعلاه. [12] انظر ترجمته في: (تاريخ الإسلام) (15/399-400)، و(العبر في خبر من غبر) (3/345-346)، و(طبقات الشَّافعيَّة الكبرى) (8/46-48)، و(العقد المذهب في طبقات حملة المذهب) (ص 170-171)، و(ذيل التقييد) (1/118)، و(طبقات الشَّافعيَّة) للإسنوي (1/594-596)، و(طبقات الشَّافعيَّة) لابن قاضي شهبة (2/187-189)، (شذرات الذَّهب في أخبار من ذهب) (7/642-643)، وهو من أوائل شيوخه. [13] المدرسة الشَّامِيَّة الحُسَاميَّة:تقع في محلَّة العوينة من حي العقيبة، أنشأتها في العهد الأيوبي الخاتون ست الشَّام ابنة نجم الدِّين أيُّوب أخت الملك النَّاصر صلاح الدِّين، ودرَّس بها: ابن الصّلاح، والشَّرف ابن الزكي، وابن أبي عصرون، وابن رزين، وابن قاضي شهبة، وغيرهم، وتُعرف أيضًا بالمدرسة الشَّاميَّة البرَّانيَّة، والمدرسة الشَّاميَّة الكبرى، والمدرسة الحساميَّة نسبةً إلى حسام الدِّين عمر ابن ستِّ الشَّام، ولا يزال مبناها قائمًا، انظر: (الدارس في تاريخ المدارس) (1/208-227)، و(منادمة الأطلال ومسامرة الخيال) (ص 104)، و(خطط الشام) (6/79)، و(معجم دمشق التاريخي) (2/187). [14] دار الحديث الأشرفيَّة: تقع بجوار باب القلعة الشَّرقي، غربي العصرونية، وشمالي القيمازية الحنفية، وكانت دارًا للأمير قايماز بن عبد الله النجمي، فاشتراها الملك الأشرف موسى بن العادل في العهد الأيوبي، وبناها دار حديث، ونجز بناؤها سنة 630هـ، ونُسبت إليه، وممَّن تولَّى مشيختها: ابن الصلاح، وأبو شامة المقدسي، والنووي، وابن الزملكاني، والمزي، والتقي السبكي، وابن كثير، والتاج السبكي، وغيرهم، وتُعرف أيضًا بدار الحديث الشَّافعية، ودار الحديث الأشرفيَّة الأولى، ودار الحديث الأشرفيَّة الدمشقيَّة، ودار الحديث الأشرفيَّة الجوَّانية، ولا يزال بناؤها قائمًا، انظر: (الدارس في تاريخ المدارس) (1/15-36)، (منادمة الأطلال ومسامرة الخيال) (ص 24-32)، و(خطط الشام) (6/71-72)، و(معجم دمشق التاريخي) (1/269). [15] (رَفع الإِصر عن قضاة مصر) (ص 356). [16] سقط من نسخة مكتبة لاندبيرج: (انتهى كلام شيخنا). [17] وقفتُ عليه في كتابه (رؤوس المسائل) كما سيأتي، ولم أجده في الكتاب المذكور أعلاه، وأصل هذا الكلام للإمام الإسنوي حيث قال في (طبقات الشَّافعيَّة) (1/594): (كان إمامًا بارعًا في الفقه والتَّفسير، مشاركًا في علوم كثيرة، ويكفيك أنَّ الشَّيخ محيي الدِّين نَقَلَ عنه في (الأُصول والضَّوابط) مع تأخُّر موته عنه) ا.هـ، ثمَّ تناقله جماعة دون نسبة إليه، منهم: ابن الملقّن في (العقد المذهب) (ص 170-171) حيث قال: (ومن جلالته نَقَلَ النَّووي عنه في (الأصول والضَّوابط) مع تأخُّر موته عنه) ا.هـ، وابن قاضي شهبة في (طبقات الشَّافعية) (2/189) حيث قال: (وممَّا يدل على جلالة قدره أنَّ الشَّيخ محيي الدِّين النَّواوي نَقَلَ عنه في (الأصول والضَّوابط) مع تأخُّر وفاته عنه) ا.هـ، والسَّخاوي، وابن العماد الحنبلي في (شذرات الذَّهب) (7/643) حيث قال: (وممَّن نَقَلَ عنه الإمام النَّووي) ا.هـ، وغيرهم. [18] ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة مكتبة برلين والظَّاهريَّة.
تنقيح اللباب وبذيله الدقائق على تنقيح اللباب لأبي زرعة العراقي صدر حديثًا كتاب "تنقيح اللباب" وبذيله "الدقائق على تنقيح اللباب"، تأليف: "أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي المصري الشافعي"، تحقيق: "أبو ياسر محمد حسين الدمياطي"، نشر: "دار ابن عفان للنشر والتوزيع"، و"دار ابن القيم للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يطبع لأول مرة على ثلاثة نسخ خطية، إحداها بخط البوصيري تلميذ المؤلف صاحب (زوائد ابن ماجه)، ومقابلة على نسخة المؤلف. وترجع أهمية الكتاب العلمية لمكانة المتن وأصله، فقد وضع الإمام المحاملي المتوفى سنة (415هـ) كتابه "اللباب" في مسائل الفقه، فتلقاه أئمة الشافعية بالقبول، واعتمدوه وأفادوا منه، ونقلوا عنه كثيرًا من المسائل الفقهية في كتبهم كالنووي وابن الوكيل والزركشي والسيوطي وغيرهم. ولما كانت عبارة الكتاب يعتريها بعضُ القُصور قام أحدُ أعلام المذهب الإمام العلَّامة الأصولي المُحدِّث الفقيه أبو زرعة ولي الدين العراقي، المتوفى سنة (826هـ) بإصلاح ذلك، فعدَّل وصوَّب، وصحَّح وزاد، وقدَّم وأخَّر، وحذف وأضاف، وقيَّد ما أطلقَ، وأَوضَح ما أَوهم، وأبدَل من الألفاظِ بما هو أَولى؛ ليصير كتابه "تنقيح اللباب" خير ما أنتجته قريحتُه الفقهيةُ، ولبنة في بناء المذهب، تَرِدُه طلبةُ العِلم عَذبًا فراتًا سائغًا للمتفقهين. وعلى هذا "التنقيح" كثرت الشروح والمختصرات، ومنها بذيل الكتاب (الدقائق على التنقيح) أيضًا للعراقي بنفس الوصف السابق. والمصنِّف هو ولي الدين العراقي أبو زرعة أحمد بن الحافظ الكبير أبي الفضل عبد الرحيم العراقي بن الحسين المعروف بابن العراقي, كردي الأصل قاهري الولادة والنشأة والوفاة، أحد أئمة الشافعية بمصر في عصره، كان عالمًا فاضلًا، صاحب كتب في الأصول والفروع. ولد أحمد العراقي سنة 762 هـ الموافق 1360م، واعتنى به والده عبد الرحيم العراقي فأسمعه الكثير من أصحاب الفخر وغيرهم، ارتحل إلى دمشق ومكة والمدينة المنورة، وتفقه على يد والده أولًا ثم على يد إيناسي والعفيفي القزويني. كان بارعًا في الحديث والأصول والفقه واللغة، تولى القضاء نحو عشرين عامًا ثم تركه ليتفرغ إلى الإفتاء والتعليم والتأليف، ثم تولى أخيرًا قضاء الديار المصرية بعد جلال الدين البلقيني. وحمدت سيرته. ولم يدار أهل الدولة فعزل قبل تمام العام على ولايته. توفي ولي الدين العراقي في توفي في يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة 826 هـ (الموافق 1422) عن ثلاث وستين سنة وثمانية أشهر ودفن عند والده، رحمهما الله تعالى. وصفه تلميذه تقي الدين الفاسي، فقال: (هو أكثر فقهاء عصرنا هذا حفظًا للفقه، وتعليقًا له وتخريجًا، وفتاويه على كثرتها مستحسنة، ومعرفته للتفسير والعربية والأصول متقنة، وأما الحديث.. فأوتي فيه حسن الرواية، وعظيم الدراية في فنونه). وأشاد السخاوي بعلمه وفضله وتواضعه، فقال: (برع في الحديث والفقه وأصوله، والعربية والمعاني والبيان، وشارك في غيرها من الفضائل، وأذن له في غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس، واستمر يترقى لمزيد ذكائه، حتى ساد وظهرت نجابته ونباهته، واشتهر فضله وبهر عقله مع حسن خُلُقه وخَلْقه، ونور خطه، ومتين ضبطه وشرف نفسه وتواضعه، وشدة انجماعه وصيانته وديانته وأمانته وعفته). وقال البرهان الحلبي: (وكان بعد موت الجلال البلقيني أوحد فقهاء مصر والقاهرة، وعليه المعتمد في الفتيا). وقال ابن تغري بردي: (كان إمامًا فقيهًا عالما، حافظًا محدثًا أصوليًا، محققًا واسع الفضل، غزير العلم، كثير الاشتغال). وقال الحافظ ابن حجر: (واستيعاب فضائله يطول، وكان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم، وقيامًا في الحق، وطلاقة وجه، وحسن خلق، وطيب عشرة). وقال الداوودي: (وبرع في الفنون، وكان إمامًا محدثًا، حافظًا فقيهًا محققًا، أصوليًا صالحا، له الخبرة التامة بالتفسير والعربية). وقال بدر الدين العيني: (كان عالمًا فاضلًا، له تصانيف في الأصول والفروع، وفي شرح الأحاديث، ويد طولى في الإفتاء، وكان آخر الأئمة الشافعية بالديار المصرية). وقال ابن هداية: (كان أعجوبة أهل زمانه، قوي الفكر، موجه الاعتراض، حلاَّل الألفاظ الموهمة، ومفصل العبارات المجملة). وقال السيوطي: (كان إمامًا محدثا، حافظا محققا، أصوليا صالحا). من كتبه: • البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح. • تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل. • شرح سنن أبي داود. • النهجة المرضية فى شرح البهجة الوردية. • شرح جمع الجوامع في الأصول. • شرح نظم البيضاوي. • شرح نظم الاقتراح. • شرح تقريب الأسانيد، المسمى: طرح التثريب في شرح التقريب، وقد كان والده من بدأ العلم عليه، ثم تمَّمَه هو. • حاشية على الكشاف. • مختصر المهمات. • نكت الأطراف والمهمات. • النكت على الحاوي والتنبيه والمنهاج. • النكت على منهاج البيضاوي. وغير ذلك. وقد قدم المحقق للكتاب بمقدمة وافية عن منهج أبي زرعة العراقي في كتابه "تنقيح اللباب"، وما أسهم به في تطور الفقه الشافعي وتيسيره لجمهور طلابه، وبهذا التحقيق أبان "محمد حسين الدمياطي" أنه قد أكمل سلسلة تحقيق الكتاب والتي بدأها بـ"اللباب" للمحاملي، ثم "تنقيح اللباب" لأبي زرعة العراقي، وأبان أن لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري شرح على التنقيح... ما زال مخطوطًا... وقد اعتمدَ عليه في ضبط نص تنقيح اللباب، ثم "تحرير تنقيح اللباب" للأنصاري أيضًا، ثم "تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب" للأنصاري (صدر أيضًا بتحقيقه)، ثم الحواشي على التحفة.
الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدداتها (الحقائق) هناك حقائق عدة تحكم العلاقة بين المسلمين والغرب، وليس كما يقال عادة بين الإسلام والغرب، ولا بد من وضع هذه الحقائق في الحسبان عند اعتبار هذه العلاقة، ومن هذه الحقائق تلك التي ذكرها المؤلف هادي المدرسي في كتابه: لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب [1] ، ومجمل هذه الحقائق يتلخص في الآتي: 1- الحقيقة الأولى: أن ذاكرة المسلمين تحتفظ بصورة سلبية حول تعامل الآخر معهم؛ ذلك أن العالم الإسلامي قد تعرض، ولا يزال يتعرض، لهجمات غير مسوغةٍ من قبل أرباب الديانات الأخرى وأتباعها. 2- الحقيقة الثانية: أن معظم أقطار العالم الإسلامي قد تعرضت للاحتلال "الاستعمار" العسكري المباشر، الذي جثم على المجتمع المسلم رَدَحًا من الزمان، تخطى في بعض الجهات مئات السنين، وترك آثارًا سلبية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، لا تزال المجتمعات المسلمة تعاني منها. 3- الحقيقة الثالثة: أن هناك تمييزًا ضد المسلمين قائم على سوء فهم العالم الإسلامي، مبني على استقاء المعلومات من علماء غربيين مستشرقين، لم يكونوا في مجملهم منصفين للمسلمين، ولقد ذكر الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عن المسلمين أنه: "ليس هنالك من شعب له صورة سلبية عند الأمريكيين بالقدر الذي للعالم الإسلامي" [2] ، فيُكبَّر ما يتعرض له الغربيون من بعض المسلمين، ويُصغَّر ما يتعرض له المسلمون من بعض الغربيين. 4- الحقيقة الرابعة: أن هناك خلطًا بين المسلمين وبعض الحكومات التي لا تمثل بالضرورة المسلمين فيها، وحتى تزداد الصورة وضوحًا، فإن هذا ينطبق على الحكومات الشيوعية التي فرضت على شعوب مسلمة، ومثل هذا يقال عن أولئك الذين سعوا إلى تبني الشيوعية أو الاشتراكية أو القومية أو العلمانية بديلًا من الإسلام. أفرزت هذه الحقائق الأربع تنميطَ العالم الإسلامي إلى أنه عالم يتعطش للحروب، مع أنه هو المحارَب، وبالتالي ظهر الفهم الخاطئ أن الإسلام يدعو أتباعه إلى العنف والإرهاب، بالمفهوم الغربي للإرهاب، القائم على الترويع والتخريب، وأخذ الأبرياء بأخطاء المذنبين. كما أفرزت هذه الحقائق اعتبار المسلمين قوة جيوسياسية موحدة متزايدة من حيث السكان والثروات؛ إذ يؤلف المسلمون الأكثرية في ستين (60) دولة، ويتجاوز نمو المسلمين 15% من حيث تحول الناس إليه (الهداية)، ومن حيث التكاثر، ويحتضن العالم الإسلامي 66% من نفط العالم، و37% من الغاز [3] ، والموارد البشرية، ونسبًا عالية من الثروات الطبيعية الأخرى؛ كالفوسفات مثلًا،ومن ثم ظهرت الدعوة إلى تجزئة العالم الإسلامي وتفتيته ومنعه من الوحدة، بل وإثارة المشكلات؛ لتضرب دول العالم الإسلامي بعضها ببعض، فيدعم الطرفان بطرق مباشرة أو غير مباشرة، كما حدث بين العراق وإيران، ثم بين العراق والكويت. ومن الدعم غير المباشر كذلك زيادة حدة التوترات في العالم الإسلامي في المجال الفكري، ثم تأييد حركة الحداثة لمواجهة الحركات الإسلامية [4] ، التي تسمى بالأصولية، وضرب هؤلاء بأولئك [5] ، وكذلك تأييد الحركات الانفصالية للأقليات غير المسلمة داخل العالم الإسلامي، كما هو حاصل في جنوب السودان وشرق تيمور في إندونيسيا،وربما قيل: إن هذه الحقائق الأربع لم تنطلق من واقعية في التطبيق، وبالتالي فإنها غير صحيحة، ويذكر هادي المدرسي أن عدم واقعيتها وعدم صحتها نابعٌ من وجهات عدة: أولها: أنها تستند إلى مبدأ احتلالي "استعماري" قديم، هو: فرِّقْ تَسُدْ، وهو مصطلح سياسي عسكري اقتصادي، الأصل اللاتيني له: " divide et impera "،ويعني تجزئة قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة بعضها مع بعض، مما يسهل التعامل معها، كذلك يتطرق المصطلح للقوى المتفرقة التي لم يسبق أن اتحدت، والتي يراد منعها من الاتحاد وتشكيل قوة كبيرة يصعب التعامل معها [6] ،ويترجم ذلك قول الشاعر العربي: تأبى الرماحُ إذا اجتمَعْنَ تكسُّرًا *** وإذا افترَقْنَ تكسَّرَتْ آحادَا. وثانيها: أن الإسلام يقف بأتباعه صفًّا واحدًا لأي عدو خارجي، مهما كانت المحاولات لتمزيقه إلى طوائف وقوميات وأعراق. وثالثها: أن هناك انبعاثًا جديدًا في العالم الإسلامي سمي بالصحوة، وهناك من يتحفظ على هذه التسمية، والإسلام ليس دينًا منفصلًا عن الحياة، كما هو الحال التي آلت إليه في الأديان الأخرى، وأن الإسلام نفسَه بالمسلمين هو الذي يأتي في "مقدمة الأسباب المحورية التي أدت إلى انهيار الشيوعية في العالم الشيوعي نفسه" [7] . [1] انظر: هادي المدرسي ، لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب - بيروت: دار الجديد، 1996م - ص 174 . [2] انظر: هادي المدرسي ، لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 102 . [3] انظر: هادي المدرسي ، لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 100 - 101 . [4] انظر: عبدالإله بلقزيز، محاور ، الإسلام والحداثة والاجتماع السياسي: حوارات فكرية - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004م - ص 147 - (سلسلة حوارات المستقبل العربي: 1) . [5] انظر: محمد عمارة ، الأصولية بين الغرب والإسلام - القاهرة: دار الشرق، 1418هـ/ 1998م - ص96. [6] انظر: موسوعة ويكيبيديا الحرة على موقعها في الشبكة العنكبوتية "الإنترنت" - 6/ 12/ 1430هـ، الموافق 23/ 11/ 2009م . [7] انظر: هادي المدرسي ، لئلا يكون صدام حضارات: الطريق الثالث بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 102.
الشيخ العلامة محمد عبد الله دِرَاز رحمه الله (1311 – 1377هـ = 1894 – 1958م) دِرَاز ( بكسر الدال المهملة بعدها راء ثم زاي كلُّها مخففة ) . وُلِد الشيخ « محمد عبد الله دراز » في قرية " محلة دياي " بمركز دسوق ، التّابع لمحافظة كفر الشيخ ، على الفرع الغربيِّ للنيل في عام ١٨٩٤م، ونشأ في بيت عِلم وتقوى، فوالده هو: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن حسنين دِراز، كان مولده بـ " محلة دياي " أيضًا في 12 يناير 1874م، في أسرةٍ علميّةٍ كان لها نشاطٌ تعليميٌّ بارز، فأبوه ( الشيخ محمد ) وعمّه ( الشيخ أحمد ) وجدّه ( الشيخ حسنين ) وغيرهم، كانوا يلقون دروس اللّغة العربية وعلوم الشريعة، بالمسجد العمريِّ في بلدة "دياي"، والتي كان يؤمّها طلاب العلم من البلدة وما جاورها، يتلقّون العلوم بطريقةٍ منظمة، يُراعَى فيها سُلّم تعليميّ متدرّج بحسب مستويات الطلاب، ويُتاح لهم استعارة الكتب العلميّة التي وقفها الجدُّ الشيخ حسنين على أولاده وذريّته . وكان والده الشيخ عبد الله دراز فقيهًا ولغويًّا واسع العلم، وضع شروحًا معتبرة لكتاب « الموافقات » للإمام الشاطبي، قال الشيخ مشهور حسن سلمان في مقدمة تحقيقه لكتاب "الموافقات" في سياق الكلام على تقويم طبعات الكتاب السابقة: « والحق يقال أن أجود هذه الطبعات طبعة الشيخ عبد الله دراز، ولا سيما أنَّه بذل جهدًا عظيمًا فيها، وذلك من خلال شرحه كلام المصنف، وتعقبه له وإحالته الدقيقة على كلام المصنف في مباحث فاتت أو ستأتي، وهذه التعليقات تدل على علم واسع ونظر ثاقب وقدم راسخة في علم الأصول، ودراسة دقيقة عميقة لكتاب "الموافقات" » [1] . تأثر الشيخ محمد عبد الله دراز بهذه البيئة العلمية؛ فأتم حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ عشر سنين، ثم التحق بالدراسة في الأزهر وحصل على شهادة العالمية عام ١٩١٦م. بعدها عمل مدرسًا ﺑ « معهد الإسكندرية الأزهري » حتى عام ١٩٢٨م. ثم محاضرًا في كلية أصول الدين وكانت وقتها من الكليات الأزهرية الناشئة عام ١٩٣٠م فكان محبوبًا من تلامذته وزملائه على حدٍّ سواء لأخلاقه الكريمة وتواضعه الجم مع سعة علمه. ابتعثه الأزهر إلى فرنسا سنة 1936م حيث دَرَس الشيخ فلسفة الأديان في « جامعة السوربون » ونال منها شهادة الليسانس والدكتوراه، بعد أن مكث في فرنسا اثنتي عشرة سنة (من مايو 1936 - مارس 1948م) يدرس ويتعلم ويطلع على الحياة الغربية، فلم يزده ذلك إلا اعتزازًا بثقافته العربية والإسلامية؛ وقد ظهر ذلك في مؤلفاته. والشيخ محمد عبد الله دراز وإن لم يكثر من التأليف إلَّا أنه ترك أعمالًا شغلت مكانة خاصة في المكتبة الإسلامية، أهمها: • « دستور الأخلاق في القرآن »، وهو رسالته للدكتوراة كتبه باللغة الفرنسية، ونقله إلى العربية الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، رحمه الله. • « مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن »، وهذه الدراسة مع « دستور الأخلاق » حصل بهما على درجة الدكتوراه، وتمت مناقشتهما في السوربون يوم 15 / 12 / 1947م. • « النبأ العظيم .. نظرات جديدة في القرآن »، طبع بدار القلم، الكويت. • « الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان »، طبع بدار القلم، الكويت. • « المختار من كنوز السنة »، طبع بعناية عبدالله بن إبراهيم الأنصاري، مدير الشئون الدينية - قطر. • « الميزان بين السنة والبدعة »، طبع بدار القلم، الكويت. • « نظرات في الإسلام »، طبع بدار الأرقم للطباعة والنشر، القاهرة. سافر في يناير سنة 1958م إلى باكستان لحضور المؤتمر الإسلامي في مدينة " لاهور "، وألقى فيه بحثًا بعنوان: « موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها »، وقد توفي في لاهور أثناء انعقاد المؤتمر في السادس من يناير سنة 1958م، الموافق 14 جمادى الآخرة سنة 1377هـ، رحمه الله. وأشهر الذين شاركوا الشيخ (دراز) في هذا اللقب: • والده الشيخ عبد الله دراز، محقق وشارح كتاب " الموافقات " للشاطبي. • الشيخ محمد عبد اللطيف دراز: والد زوجة الشيخ أحمد حسن الباقوري، (والشيخ الباقوري كان أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين، لكنه قبل منصب وزير الأوقاف بالحكومة المصرية بعد ثورة سنة 1952، وقدم استقالته من مكتب إرشاد جماعة الإخوان ومن هيئتها التأسيسية). وهو أيضًا من نفس أسرة دراز، ومن مواليد قرية ( محلة دياي ) التابعة لمركز دسوق عام 1890 م . مصادر الترجمة: • " الأعلام "، للزركلي (6/ 246)، و"النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" لمحمد رجب البيومي (2/ 239-256). [1] "الموافقات"، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق مشهور سلمان، دار ابن القيم، وابن عفان، الطبعة الأولى 1424هـ = 2003م، (ج1 / ص 59).
عيسى ابن مريم عليه السلام (1) سنتعرَّض لسيرة عيسى عليه السلام من خلال استعراض الآيات الواردة في سورتي آل عمران ومريم، وتبدأ القصة من ولادة مريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 33 - 35]، الاصطفاء بمعنى الاختيار والصفوة، وقد بدأ بآدم وهو أبو البشر، ثم اصطفى من ولد آدم نوحًا، ثم اصطفى من ولد نوحٍ إبراهيمَ، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيلَ وإسحاق، واستمرت النبوة في ولد إسحاق حتى عيسى ابن مريم عليه السلام، ووالد مريم عمران الذي يرجع نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام، وكان خاتمُ الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل. ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فقد نذَرت مولودها عتيقًا خالصًا لخدمة بيت المقدس، متفرغًا من شواغل الدنيا، ورجَتْ من ربها أن يتقبل ذلك منها، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، وكان في نيتها أنَّ حملَها سيكون غلامًا؛ لأنه الأقدر على الخدمة، فلا يعتريه ما يعتري البناتِ من حيض وحجاب يمنعها من المخالطة للرجال، وهذا ما درج عليه مَن يهَب أو يحرِّر للخدمة في المسجد، ومع ذلك وفَّتْ بنذرها، وسمت المولودة مريم، وقامت هي بالأمر؛ لأن زوجها عمران قد توفي قبل أن تضع المولودة، وقد عوذتها بالله هي وذريتها من الشيطان الرجيم، فاستجاب الله لها ذلك، وقد ورد في الحديث الصحيح: ((ما من مولود إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، إلا مريم وابنها))، ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 37]، وقبِلها الله من أمها، وكان علامة ذلك أنه أنبتها نباتًا حسنًا، فكانت تنمو نموًّا مختلفًا عن أقرانها؛ جسمًا وعقلًا وخلقًا، فلما كملت أتت بها إلى الأحبار، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا في كفالتها؛ لأنها بنت إمامهم، فقال زكريا: أنا أحق بكفالتها؛ لأن خالتها تحتي، والخالة كالأم، فقالوا: لا حتى نقترع، وكانوا تسعة وعشرين حبرًا، فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقَوا فيه أقلامهم، على أن من يثبت قلمه في الماء يكون كفيلها، وهذا ما ذكرته الآية: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، وكانت النتيجة أن الماء قد جرف الأقلام ما عدا قلم زكريا، فتم له كفالتها، ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما كفلها كانت المعجزة؛ فلقد تكفل الله لها الرزق، فكان كلما جاء زكريا يتفقدها ليرى حاجتها يجد عندها رزقًا، وكما ذكر المفسرون، كان يجد أمرًا غريبًا، يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ لتتحقق المعجزة، فلا يظنن ظان أن أحدًا يأتيها بالطعام، فلما استبانت المعجزة لزكريا تجاه مريم، ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38]، وكانت الاستجابة لدعائه؛ فرُزق بيحيى، وأما مريم فكان لها شأن آخر، فلم تكن العناية بها من رب العالمين إلا لإعدادها لأمر مهم، ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، فقد أخبرها جبريلُ بكيفيةٍ ما بأن الله اختارها؛ لطُهرها وعفافها وفضلها على نساء زمانها؛ فهي أفضلهن منزلة وتدينًا وقربًا من ربها؛ ولذلك كان حثها على زيادة الطاعة والسجود والركوع؛ أي: زيادة التقرب إلى الله بالصلاة والتسبيح، ثم كانت المفاجأة المدهشة لمريم، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، فكانت البِشارة لمريم بهذا التغير الجديد مفاجأة مذهلة؛ لذلك كان وقع البشارة عندها في فتور وتساؤل وحساب دقيق لوضعها بين قومها، ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [آل عمران: 47]، وفي سورة مريم: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20]، سؤال وجيه رغم أنها صبية صغيرة لم تكن قد جربت هذا الأمر بزواج، وإنما هي تعلم أنه لا يكون حَمْلٌ إلا بممارسة جنسية، فكيف يكون هذا وهي تخشى بعد سمعتها الطيبة وتصوُّنها وعفافها أن تُتَّهَم بالزنا؟ وألسنة السوء جاهزة للانطلاق والخوض في عِرضها، فكان الهمُّ مسيطرًا عليها، فهي ليست بذات زوج، وليست من البغايا، وكان من تدينها أن اعتزلت أهلها واتخذت مكانًا شرقيًّا؛ حيث أصبحت في سن البلوغ وجاءها الحيض، ففي هذا المكان تخلع ثيابها للتطهر، وهو بعيدٌ عن أعين الناس وحركة مرورهم؛ صونًا لعِرضها، وتفرغًا للعبادة، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، فبعد هذا الحرص والتدين تحمل غلامًا! ماذا يقول قومها عنها؟ ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]، ومِن أجل هذا الأمر ليتمَّ ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]، فتملَّكها خوف شديد؛ لذلك لجأت إلى الله واستعاذت به، ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 18] إن كنت من أهل التقوى فتنتهي عني وتتركني لشأني، وهو كذلك، ولكنه عبد مأمور، جاء لينفذ ما أُمِر به، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19]؛ فالنقاش في هذا الأمر لا يجدي؛ فقد تقرر هذا من قبل قيام السموات والأرض، وأما الخوف من قيل وقال، فإن الله تكفل به، وأعَدَّ لإسكات ألسنة السوء معجزات تظهر لكل ذي عينين؛ لذلك أراده الله معجزة بذاته، ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21] هذا أمر قد قضاه الله وحتَّمه وقدَّره وقرَّره، فجرى فيه القضاء، وكتب له الوجود، ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 22، 23]، كانت الولادة في مدينة بيت لحم، كما ورد أن حملها كان ككل النساء، تسعةَ أشهُر، ولا اعتدادَ لقول مَن قال: تسع ساعات؛ لذلك كان لا بد لها من الابتعاد عن مجتمعها؛ لأن الحمل مع الوقت سيظهر بكبر البطن، وفي العادة فإنه لا يخفى أمر المرأة الحامل على الآخرين، وذكر أن أول من لاحظ عليها الحمل ابن خالها يوسف النجار، وكان يخدم معها في المسجد، فجعل يتعجب من ذلك عجبًا شديدًا؛ وذلك لِما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حُبلى، وليس لها زوج، فعرَّض لها ذات يوم في الكلام، فقال: يا مريم، هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمَن خلق الزرع الأول؟! ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: نعم، فمن خلق الشجر الأول؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبريني خبرك، فقالت: إن الله بشَّرني، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، وكذلك فإن يوسف النجار رغم تديُّنه لم يسلم من التهمة بالخَلوة بمريم، وذكر أن خالتها لما زارتها قالت لها: إني حامل، وقالت مريم لها: وأنا حامل، ولما ضمتها إلى صدرها قالت: أشعر أن الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، وهذا تفسير قول يحيى: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 39]؛ لأن المسيح كلمة الله، والسجود هنا في ديانة مَن كان قبلنا للتعظيم، وليس للعبادة، وبالرغم من التطمين الذي قيل لمريم بأن لا تخاف، وأن الله معها، فإنها ظلت وجِلة خائفة، جللها الهم، وخامرها الخوف، فأحزانها بادية قلقة، وخطواتها متعثرة، وأفكارها مضطربة مما سينتظرها؛ لأن ما سيحصل لها بعد الإنجاب هو خلاف المعهود، وهي منزَّهة العِرض، حافظة الفَرْج والشرف، وكان أكثر ما يقلقها نظرات الآخرين المريبة ولمزات الأخريات؛ لذلك تمنت الموت، وألا تكون قد وُجدت على ظهر هذه الأرض، أو أن تكون نسيًا منسيًّا لم تخلق بعد، أو متاعًا متروكًا لا يأبه له أحد، وكانت في هذه اللحظة الحرجة بحاجة إلى التثبيت وبث الثقة في النفس، وأن الله هو الذي سخرها لهذا الأمر العظيم، وجعلها محضنًا لميلاد النبوة المعجِز، فكان هذا التثبيت من جبريل الذي كان يراقب ما يعتَوِرها، ويدرك جيشان خواطرها وما يعتمل في فِكرها من خيالات مخيفة تراودها بعد الولادة واستهلال الولد: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 24 - 26]، كان يريدها ألا تكون بائسة تنظر للأمر وكأنه خطيئة، وإنما يريد لها ولادة ميسرة، تلتفت فيها إلى نفسها من حيث إعطاؤها الاهتمام الكافي من الغذاء والماء، وأن تقر عينًا بهذا المولود الذي سيكسبها شرفًا أبديًّا، وأن ترفع بذلك رأسًا، وتشرف عزًّا، فلتلتفت الآن إلى غذائها الذي وفره الله لها، وهو المناسب لحالة الولادة، نخلة تحمل الرطب، وجدول ماء زلال قراح، وقد حار المفسرون من أين للنخلة هذا الرطب والولادة كانت في الشتاء، ولا بد لهذه الولادة المعجزة أن يرافقها آيات معجزة؛ كوجود هذا الرطب في مثل هذا الوقت؛ فهو لها غذاء طبيعي لا يحتاج لإجراء تحضير له، وهو أيضًا توجيه لمن بعدها من النساء إلى أهمية هذا الغذاء للائي يلِدْن، ومع ذلك لم يلغ دور العمل للإنسان ليحصل على المنفعة: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، ثم زودها بالرد الوافي الشافي إن سُئلت عن المولود، وستُسأل، ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وكان الصومُ عن الكلام في شريعتهم مشروعًا ومعمولًا به، وبعد الولادة الميسرة والتزوُّد بما وصاها به جبريل عقدت العزم وتوكلت على الله فحملَتْه عائدة إلى دارها، ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27] حملَتْه جهارًا نهارًا ليشهده الناس، وهذا هو المقصد؛ لكي يتعرف عليه الناس منذ ولادته، وكان بإمكانها إخفاؤه، ولكن الله يريد هذا، فوقعوا فيها، واتهموها كما توقعت، فهذا الفعل بحقها - كما قالوا - ذنب كبير لا يغتفر، ثم ذكَّروها بأهلها وما كانوا عليه من الدين والأخلاق، ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28]، أنت من دوحة عظيمة، وعائلة كريمة، لم تقترف الإثم في حياتها، وأنت بفعلك هذا تشوِّهين تاريخ هذه الأسرة القويم، ونداؤهم لها بأخت هارون لا يستوجب أن يكون لها أخ اسمه هارون، ولكن نسبوها لرمز الشرف؛ فقد كان اسم هارون عندهم يعني السمو الروحي والديني، فكثرت التسمية به؛ لأن أمها يوم نذرت ولدًا للخدمة في المسجد لم يكن عندها ولد، فولدت مريم، ولو كان عندها ولد لوهبته للخدمة، وبعد هذا التقريع والتبكيت، ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29]، لقد أفهمَتْهم أنها نذرت للرحمن صومًا عن الكلام، فانتبهوا إليه ما بين منكر لما أشارت إليه، وغير مصدق أنها تعني ما تقول، فكيف يكلمون صبيًّا ما زال في المهد وعمره لا يزيد عن أربعين يومًا؟! ولكن بهذا التوجه تحقق الأمر الثاني، وهو أن ينتبهوا ويقروا بأنه طفل في المهد جرت العادة أنه لا يتكلم، فسايروها على غير اقتناع منهم وسألوه: من أنت؟ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، سألوه: مَن أنت؟ فأفاض بالجواب الشامل الوافي، ولم يذكر أبًا؛ لأن الله خلقه من غير أب، ذكر أمه وحسب، ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ﴾ [مريم: 32]؛ فكل إنسان مطلوب منه بر الوالدين، وهو فقط مطلوب منه بر الوالدة؛ لأنه لا والد له، فقد أعطاهم تصورًا من بداية حياته ووظيفته في الدنيا وعمله خلال فترة حياته وطبيعة نفسه الرضية المتواضعة إلى أن يتوفاه الله، وذكر أنه لما ولد خرَّت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، كما روي أنه ظهر نجم عظيم في السماء، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك، فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض، فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى هذا المولود، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عمَّ أقدمهم؟ فذكروا له عن ظهور النجم، ودلالة ذلك على ميلاد عظيم في هذه الديار، فسأل عن ذلك الوقت ومن ولد فيه، فقالوا: وُلد عيسى ابن مريم ببيت لحم، واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد، فأرسلهم إليه بما معهم، وسألهم عن سبب اختيار هذه الهدايا، فقالوا: الذهب سيد المتاع، والمولود سيد أهل زمانه، وأما المر فهو دواء يجبر فيه الجرح والكسر، وكذلك هذا المولود يشفي به الله كل سقيم، وأما اللبان فإن دخانه ينال السماء، ولا ينالها دخان غيره، وكذلك هذا المولود يرفعه الله إلى السماء، ولما سمع منهم قيمة هذا المولود حسَده وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا، فقيل لها: إن رسل ملك الشام جاؤوا ليقتلوا ولدك، فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت فيها اثنتي عشرة سنة. ورد أن النصارى يتجهون إلى الشرق في صلاتهم إكرامًا لهؤلاء الذين أتوا بالهدايا من الشرق.
شرح الفواكه الجنية على متممة الآجرومية لعبدالله بن أحمد الفاكهي صدر حديثًا "شرح الفواكه الجنية على متممة الآجرومية، لأبي عبدالله الحطاب الرعيني"، تأليف: "جمال الدين أبي علي عبدالله بن أحمد الفاكهي" (ت 972 هـ)، تحقيق: "محمود نصار"، نشر: "دار الكتب العلمية"- بيروت بلبنان. وهذا الكتاب شرحٌ للفاكهي على "متممة الآجرومية" لأبي عبدالله الحطاب الرعيني، وكتاب "الحطاب الرعيني" من أكثر المختصرات فائدةً في النحو، ألَّفه على مِنوال ألفية ابن مالك، فهو كمختصر وممهِّد لها، ولكنه ليس فيه مسائل صرفية، وقد وضَعَه ليكون كالواسطة بينه وبين كتب النحو المطوَّلة، مراعيًا فيه دقة العبارة، والابتعاد عن القضايا الخلافية في النحو، مع الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأبيات الشعرية. وقد وضع العلامة "جمال الدين عبدالله بن أحمد الفاكهي" هذا التعليقَ اللطيف عليه، مقررًا معانيه، محررًا لمبانيه، مع فوائد وزوائدَ مهمة، وهو من باب تمهيد الطريق أمام الطالب المبتدئ للوصول إلى المطولات في علم النحو. لذا يُعَدُّ هذا الكتاب من عيون كتب النحو العربي التي لا غنى لطالب العلم عنها؛ لأنه جمع أبواب النحو، وذكر العديد من آراء وأقوال العلماء والكثير من الشواهد النحوية، بالإضافة الى الآيات بما فيها من قراءات قرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة. والحطاب الرعيني صاحب المتن هو: محمد بن محمد بن عبدالرحمن بن حسين المعروف بالحطاب الرعيني؛ فقيه، أصولي، أصله من المغرب، وولد بمكة عام 902 هـ، وتوفي بطرابلس الغرب سنة 954 للهجرة. من أهم كتبه: "مواهب الجليل في شرح الشيخ خليل" في الفقه المالكي، و"قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين" في الأصول، و"تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، و"هداية السالك المحتاج" في مناسك الحج، و"تفريح القلوب، بالخصال المكفرة لما تقدَّم وما تأخر من الذنوب"، و"شرح نظم رسائل القيرواني لابن غازي"، و"تحرير الكلام" في الفقه، ورسالة في "استخراج أوقات الصلاة بالأعمال الفلكية بلا آلة". والشارح هو "جمال الدين أبو علي عبدالله بن أحمد الفاكهي " (899 - 972 هـ = 1493 - 1564 م)، لغوي وفقيه شافعي حجازي، من أهل القرن العاشر الهجري، ولد في مكة في عائلة مهتمة بالأدب من أمٍّ حبشية، نشأ ودرس بها، ثم سافر إلى القاهرة وتعلَّم الفقه واللغة، يعد من العلماء المشاركين في علوم كثيرة، وقد كانت براعته الأولى في النحو، وقد استنبط في النحو حدودًا وجاء في كتابه "حدود النحو" بمائة وسبعةٍ وأربعين حدًّا، توفي في مكة ودُفن بها، له مصنفات عديدة في اللغة والنحو والفقه، وله أيضًا شروح، منها: • "حدود النحو، أو الحدود النحوية". • "شرح الحدود النحوية". • "مناهل السمر في منازل القمر، أرجوزة". • "الفواكه الجَنِيَّة على مُتَمِّمَةِ الآجروميَّة للحطاب". • "كشف النِّقاب عن مُخدرات مُلحة الإعراب للحريري". • "مُجيب النِّدا إلى شرح قَطر النَّدا". • "شرح الجُمَل". • "شرح المُعلَّقات".
الطبري: حياته وآثاره لفرانز روزنثال صدر حديثًا كتاب " الطبري: حياته وآثاره"، تأليف: "فرانز روزنثال"، ترجمة: د. "أحمد العدوي"، نشر: "مركز تراث للبحوث والدراسات". وهذه هي الترجمة العربية لمقدمة فرانز روزنثال ( Franz Rosenthal ) للترجمة الإنجليزية لتاريخ الطبري، والمُسمَّاة بـ" المقدمة العامة " General Introduction ، والتي تضمَّنت سيرةً مُفصَّلةً للطبري، بلغت الغايةَ في التحقيق والتدقيق، والإنصاف لهذا المفسِّر والمؤرِّخ العظيم. وقد اعتنى روزنثال بدراسة سيرة الطبري ورحلته في طلب العلم، كما ناقش جوانبَ من حياته بوصفه فردًا عاش في مجتمع كبير ومعقَّد مثل بغداد في القرن الثالث الهجري، متعرِّضًا لسماته الشخصية، وأخلاقه وميوله، وعلاقاته الاجتماعية. كما تناول الطبري بوصفه عالمًا وفقيهًا ومفسِّرًا ومؤرخًا. مستعرضًا نشاطه على الصعيد العلمي، وتأسيسه لمذهبه الذي أُطلق عليه اسم " المذهب الجريري ". كما تطرق لأخبار الخصومة والفتن التي اندلعت بينه وبين الظاهرية، ثم الحنابلة، وأسبابها ونتائجها. كما ناقش مصنَّفات الطبري؛ ما وصلنا - مخطوطًا أو مطبوعًا - وما فُقِد منها. وما اكتمل منها وما لم يكتمِل. وما نُسِب منها إلى الطبري وهمًا أو زورًا. يقول المترجم في ظروف ترجمته هذا الكتاب: "عندما بدأت جائحة كورونا في الاشتداد، وبدأت الحكومات حول العالم في تبني سياسة الإغلاق الجزئي أو الكلي كنت منهمكًا في ترجمة مقدمة روزنثال العظيمة عن الطبري المسماة "المقدمة العامة"، وعندما فرضت الحكومة التركية الإغلاق الجزئي اشتمل هذا الإغلاق على الجامعات وطُلب منا استكمال محاضراتنا للطلاب عبر برامج التواصل. لم يكن هناك حديث للناس إلا عن الجائحة وهل ستعود الحياة إلى طبيعتها مجددًا... أما أنا فكنت في شغل شاغل... سرعان ما وجدت السلوى في صحبة روزنثال وأبي جعفر... وجدت روزنثال يشاركني الإعجاب الشديد بأبي جعفر والانبهار بمصنفاته. فتفاعلت معه. وعدت إلى مصادره، ثم أدليت بدلوي مُتعقبًا فواته تارة، ومنبهًا على تناقض أو خطأ وقع فيه تارة أخرى، ومنيرًا إيماءةً له تارة ثالثة، ومفصلًا ما أجمل تارة رابعةً، حتى أضحت تعليقاتي على متن روزنثال أشبه بنصٍّ موازٍ، لو رآه أحد القدماء لوصفه قائلًا: كتاب روزنثال في سيرة أبي جعفر الطبري وبهامشه شرح العدوي عليه. أنا مدين حقًّا لروزنثال ولأبي جعفر وصحبتهما، فقد كانا سببًا في مرور فترة الإغلاق وحظر التجوال والحنق الناجم عن تقييد الحرية مرور الكرام. ووالله لا أبالغ إن قلت: إنني ما شعرت بها أصلًا". وتضمنت تلك المقدمة القيمة عدة مباحث قيمة على النحو التالي: مقدمة المؤلف. حياة الطبري ومصنفاته. ١) ملحوظات على المصادر. ٢) الطبري: صباه وشبابه. نصف قرن من النشاط العلمي في بغداد. ١) الطبري الإنسان. ٢) الطبري العالم. ٣) وفاة الطبري. مصنفات الطبري. تاريخ الطبري وترجمته إلى الإنجليزية. أولًا) تاريخ الطبري في الإسلام والغرب. ثانيًا) النص. ثالثًا) الترجمات السابقة. الملاحق . والمصنِّف هو فرانز روزنتال أو روزنثال (بالإنجليزية: Franz Kurt W. Rosenthal )، مستشرق ألماني، ولد في برلين بألمانيا لعائلة يهودية بتاريخ 31 أغسطس عام 1914 م والتحق بجامعة هومبولت ( Humboldt-Universit ä t zu Berlin ) في برلين عام 1932م حيث درس الحضارات واللغات الشرقية بها، ثم حصل على درجة الدكتوراه عام 1935م من نفس الجامعة تحت إشراف أستاذه Hans Heinrich Schaeder ، وكانت عن "الأبجدية التدمرية": الأبجدية السامية المستخدمة في تدمر، ثم درس لمدة عام في فلورنسا بإيطاليا، ثم أصبح معلمًا في معهد حاخامي في برلين، وفي عام 1938م أكمل دراسته في تاريخ الآرامية وحصل على جوائز من الجمعية الشرقية الألمانية، لكن بعد العنف والاضطهاد الذي تعرض له اليهود من النازية في ألمانيا غادر في ديسمبر 1938م إلى السويد حيث تمت دعوته من خلال مكاتب مؤرخ الأديان السويدي H.S. Nyberg ومن هناك تحول إلى إنجلترا في أبريل 1939م ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940م ليعمل أستاذًا للغات السامية في كلية الاتحاد العبري: المعهد اليهودي للأديان ( HUC ) في سينسيناتي بولاية أوهايو. أصبح مواطنًا أمريكيًا في عام 1943م وعمل أثناء الحرب العالمية الثانية على ترجمات من اللغة العربية لمكتب الخدمات الإستراتيجية في واشنطن العاصمة. درس اللغة العربية في جامعة بنسلفانيا عام 1948م، شغل منذ عام 1956م منصب أستاذ كرسي في وقف Louis M. Rabinowitz للغات السامية في جامعة ييل Yale University حتي عام 1967م، عين أستاذًا فخريًا للغة العربية وباحثًا في الأدب العربي والإسلام في جامعة ييل Yale University من1967م إلى 1985م. قام بترجمة وتحقيق مقدمة ابن خلدون، وله مؤلفات مستفيضة في دراسة الحضارة الإسلامية منها: • مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي. • تحقيق مقدمة ابن خلدون. • تاريخ الطبري. • مفهوم الحرية في الإسلام قبل القرن التاسع عشر. • انتصار المعرفة: مفهوم المعرفة في إسلام العصور الوسطى. • تحقيق وترجمة تاريخ ابن جرير الطبري. • دراسة عن الفكاهة والنكات في بدايات الإسلام. • قواعد اللغة الآرامية التوراتية. • كتيب في اللغة الآرامية. • عشبة الحشيش عند المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى. • أحلى من الأمل: شكوى وأمل في الإسلام في العصور الوسطى. • المقامرة في الإسلام. • الانتحار في الإسلام. • الفرد مقابل المجتمع في الإسلام في العصور الوسطى ( يغطي الدراسات والمقالات حول التوترات والصراعات بين الأفراد والمجتمع باعتبارها محور دراسته للتاريخ الاجتماعي الإسلامي ). وكان يكتب مؤلفاته بالألمانية والإنجليزية وترجمت للعربية والروسية والتركية. وتوفي في 8 أبريل 2003م في مدينة نيو هيفن في ولاية كونيكتيكوت أو بلدة نورث برانفورد في ولاية كونيكتيكوت.
المنحة في تخريج أحاديث وآثار العدة في شرح العمدة صدر حديثًا "المنحة في تخريج أحاديث وآثار العدة في شرح العمدة"، تأليف: الإمام "بهاء الدين عبدالرحمن المقدسي" (ت 624 هـ) ، في 5 مجلدات، تخريج: د. "خالد بن ضيف الله الشلاحي"، نشر: "دار المنهاج القويم للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب في تخريج أحاديث وآثار كتاب "العدة"، شرح عمدة الفقه؛ للإمام أبي محمد بهاء الدين المقدسي، وأيضًا تناول التخريج أيضًا الكتاب الأصل "عمدة الفقه"؛ للإمام عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي، وراعى الكاتب في تخريجاته للأحاديث ذِكرَ درجتها وتوثيق أماكنها في المصنفات الحديثية والمسانيد الصحاح، مع ذكر وجه العلة إن وُجدت، ومناقشة الاعتراضات والإشكالات الواردة حول درجة الحديث، وبيان ما استقر عليه العلماء في نهاية التخريج بالنسبة للحديث وصحته وتوثيق رواته. وكتاب "عمدة الفقه" لابن قدامة المقدسي، من أفضل متون الحنابلة وأوضحها عبارة، وأقواها وأكثرها أدلة، مع ندرة من شرحه، ثم إن مؤلِّفه هو شيخ المذهب كما هو المصطلح عليه عند الحنابلة. وهو أنسب ما يكون للمبتدئين في دراسة الفقه الحنبلي، وطريقته فيه أنه يصدِّر الباب بحديث من الصحاح، ثم يذكر من الفروع ما إذا دقَّقتَ النظر وجدتها مستنبطة من ذلك الحديث؛ قال ابن قدامة: "وأودعتُه أحاديث صحيحة تبركًا بها واعتمادًا عليها، وجعلتها من الصحاح؛ لأستغني عن نسبتها إليها"، وقام باعتماد القول المعتمد عنده في المذهب على سبيل الاستنباط من ذلك الحديث. و"عمدة الفقه" أحد الكتب الثلاثة المعتمدة في المذهب الحنبلي، وهي: "العمدة"، و"المقنع"، و"الكافي"، وجميعها ألَّفها "ابن قدامة المقدسي الدمشقي"، وهي أيضًا متون المذهب المعتمدة، راعى ابن قدامة في تأليفها طبقات التلقي لطالب العلم. وصاحبه هو الشيخ العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجَمَّاعِيليُّ، ثم الدمشقي الصالحي، الحنبلي. ولد رحمه الله بجَمَّاعيل؛ بلدة من أعمال نابلس بفلسطين، في شعبان سنة (541 هـ) ، وحينما استولى الصليبيون على أرض فلسطين هاجَرَ والد الموفق بأسرته إلى دمشق سنة (551 هـ) تقريبًا، ونزلوا في مسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي، ثم انتقلوا إلى سفح قاسيون من صالحية دمشق. وكان والده الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن قدامة من أهل العلم والصلاح، فقد كان قبل هجرته إلى دمشق خطيب جماعيل، وعالمها، ومفتيها؛ ولذا كان من الطبيعي أن يدرس الابن على أبيه، فتلقى الموفق عن أبيه العلم. وقد تتلمذ أيضًا على شيوخ دمشق، منهم أبو المكارم عبدالواحد الأزدي الدمشقي المتوفى في جمادى الآخرة سنة (565 هـ) ، وأبو المعالي عبدالله بن عبدالرحمن الدمشقي المتوفى سنة (576 هـ) ، ثم رحل في طلب العلم خارج دمشق، فخرج هو وابن خاله الحافظ عبدالغني المقدسي إلى بغداد، فقرأ على علمائها منهم الشيخ عبدالقادر الجيلاني، قرأ عليه (متن الخرقي) ، ثم توفي بعد أربعين يومًا من لقائه به، ثم لازم أبا الفتح بن المني، وقرأ عليه المذهب، والخلاف، والأصول، حتى برع في ذلك. وفي حجة (574 هـ) لقي بمكة إمام الحنابلة بالحرم المكي المحدِّث أبا محمد المبارك بن علي البغدادي نزيل مكة المتوفى بها في عيد الفطر سنة (575 هـ) ، ثم استقر الإمام الموفق رحمه الله في دمشق، فاشتغل بالتأليف. وقد أثنى عليه كثير من العلماء، قال الضياء: "كان رحمه الله إمامًا في التفسير، وفي الحديث ومشكلاته، إمامًا في الفقه، بل أوحد زمانه فيه، إمامًا في علم الخلاف، إمامًا في أصول الفقه، إمامًا في النحو والحساب والأنجم السيارة والمنازل". وقال عنه الذهبي: "سمعت داود بن صالح المقراء: سمعت ابن المني يقول - وعنده الإمام الموفق -: إذا خرَجَ هذا الفتى من بغداد احتاجت إليه". وسمعت البهاء بن عبدالرحمن يقول: كان شيخنا ابن المني يقول للموفق: "إن خرجتَ من بغداد لا يخلف بها مثلك". وقال المفتي أبو بكر محمد بن معالي بن غنيمة: "ما أعرف أحدًا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما دخل الشامَ بعد الأوزاعي أفقهُ من الشيخ الموفَّق". وله رحمه الله مؤلفات عديدة، أهمها: (1) العمدة في الفقه (للمبتدئين) ، جعله المؤلف على القول المعتمد في المذهب. (2) المقنع في الفقه (للمتوسطين) ، أطلق في كثير من مسائله روايتين؛ ليتدرب طالب العلم على الترجيح، فيربي فيه الميل إلى الدليل. (3) الكافي، وهو أوسع من المقنع، ذكر فيه من الأدلة ما يؤهل الطلبة للعمل بالدليل. (4) المغني (شرح مختصر الخرقي) ، ذكر فيه المذاهب وأدلتها. وتوفي رحمه الله يوم السبت يوم عيد الفطر سنة (620 هـ) بمنزله بدمشق، وصلِّي عليه من الغد، وحُمل إلى سفح قاسيون فدُفن به، وكان له جمع عظيم امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه، فرحمه الله رحمة واسعة. أما كتاب "العدة في شرح العمدة"، فصنَّفه بهاء الدين المقدسي تلميذ "ابن قدامة" وجليسه، حيث أخذ عنه الفقه ولازمه، فكان أفهم لأغراضه ومراميه، مما أضفى على شرحه النفاسة، وقد قسم البهاء كلَّ باب من أبواب كتاب العدة إلى مسائل، فيقول: مسألة، ثم يذكر مضمونها، مركزًا أشد التركيز على ذكر الأدلة وتوجيهها، وذكر علل الأحكام، ولم يتوسع في ذكر الاختلاف والوجوه داخل المذهب، بله المذاهب الأخرى، بل اقتصر على سياق مذهب الأصحاب الحنابلة مؤيدًا بالدليل والتعليل؛ لذلك جاء شرحه واضحًا مختصرًا، يخدم مقصد المتن الذى رمى إليه الموفق من تأليفه. والشارح هو الإمام العالم، المفتي المحدث بهاء الدين أبو محمد عبدالرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبدالرحمن بن إسماعيل بن منصور بن عبدالرحمن السعدي الأنصاري المقدسي الدمشقي الحنبلي. ‏ولد بقرية السَّاويا من أعمال نابلس بفلسطين في سنة ست وخمسين وخمسمائة من الهجرة (556 ‏هـ) ، بعد استيلاء الصليبيين عليها بسنوات. ‏لما هاجر به أبوه من حكم الإفرنج إلى دمشق، بدأ البهاء بحفظ القرآن الكريم، وختمه وهو لم يتجاوز الخمس عشرة سنة من عمره، وكان ذلك سنة سبعين، وبعد ذلك تنبَّه البهاء إلى علماء دمشق، فبدأ يطلب العلم على علمائها، وبعد سنتين - أي: سنة اثنتين وسبعين - قرر المسير إلى بغداد لطلب العلم على علمائها، فجمعوا له واشتروا له بهيمة وسار إلى بغداد لطلب العلم الشريف. ‏وتفقه البهاء في دمشق على الإمام الشيخ موفق الدين المتوفى سنة (620هـ) وهو مؤلف: "العمدة". وقد لازمه وأخذ عنه الفقه واللغة، وسمع أيضًا من الشيخ أبي عبدالله محمد بن حمزة بن أبي الصقر القرشي الدمشقي المتوفى سنة (580هـ) ، وفي بغداد تفقه على فقيه العراق شيخ الإسلام أبي الفتح نصر بن فتيان بن مطر الشهير بابن المني البغدادي المتوفى سنة (587هـ) ، وسمع أيضًا فيها من الشيخ الثقة أبي الحسين عبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد اليوسفي المتوفى سنة (575هـ) ، كما سمع فيها من فخر النساء مسندة العراق الكاتبة العابدة شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري المتوفاة سنة (574هـ) ، وفي حرَّان سمع من أبي الفتح أحمد بن أبي الوفاء عبدالله بن عبدالرحمن الصائغ المتوفى سنة (576هـ) . أما عن تلاميذه، فسمع منه البرزالي، والضياء، وابن المجد، والشرف بن النابلسي، والشمس بن الكمال، والعز بن الفراء، والعماد عبدالحافظ، وست الأهل بنت الناصح، وأبو جعفر بن الموا‏زيني وغيرهم كثير. وقيل: إن للبهاء كتبًا كثيرة، منها كتاب العدة شرح العمدة، وكتاب شرح فيه ‏المقنع، ومنتقى من حديث أبي بكر بن الهيثم الأنباري وغيرها. ‏توفي رحمه الله تعالى يوم سابع ذي الحجة سنة 624هـ، ودفن من يومه بسفح قاسيون بصالحية دمشق رحمه الله.
الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (الاهتمام) يزداد الاهتمام اليوم بالإسلام والمسلمين من قِبل أولئك الذين لا يدينون بالإسلام وليسوا من المسلمين،ليس هذا الاهتمام جديدًا على الإسلام والمسلمين؛ فقد اهتم به الآخرون منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فالإسلام يقدم نفسه على أنه بديلٌ لجميع الأنظمة والقوانين القائمة التي تريد أن تهيئ للإنسان حياةً طيبة، وتحقق له الرفاه الاجتماعي، ولكنها في نظر المسلمين تقصر دون ذلك؛ لأنها لا تملك القدرة على وضع النظام المتكامل، الذي يهيئ للإنسان حياة طيبة في الدنيا والآخرة. وازدياد الاهتمام بالإسلام والمسلمين اليوم ناتج على ما يبدو عن سببين رئيسيين؛ أولهما: هذه العودة الصادقة، التي يسميها بعض المتابعين بالصحوة أو الإحيائية الثانية، إلى الإسلام في المجتمعات المسلمة، والجاليات المسلمة المغتربة في المجتمعات غير المسلمة. والمسلمون اليوم - بفضل الله تعالى - موجودون في كل المجتمعات، وهم في ازدياد ملحوظ يأتي على حساب الثقافات الأخرى، التي ما فتئ المنتمون لها يحذرون من هذا " الطوفان " الذي يجتاح مجتمعاتهم في ضوء تناقصهم السكاني "الديموغرافي"، ومن ثم يغيِّر في التركيبة السكانية والتوجهات الثقافية. وكان المسلمون موجودين من قبل في الغرب خصوصًا، ولكنهم لم يكونوا يجهرون بإسلامهم بالصورة الواضحة التي يعلنونها اليوم، بل إن منهم من نسي الإسلام في تلك المجتمعات غير المسلمة، وربما أنه هرب من المجتمع الإسلامي المتدين واندمج في الثقافة الغربية بقدر عالٍ من النبه، فوصل به الأمر إلى الانسلاخ التدرجي من الهوية الإسلامية. وحيث وجد الفراغ الروحي لدى هذه الفئة بحثوا من جديد عن جوانب التعلق بالله تعالى، من خلال العقائد الموجودة في المجتمعات التي يعيشون فيها، ومن ذلك إعادة النظر فيما انسلخوا عنه من قبل، والتفكير بالعودة إليه في ضوء القلق الذي يجتاح الثقافات الأخرى، التي نظر إليها من قبل على أنها هي البديل الأولى. هذا مع عدم إغفال ما ترتب على هذه العودة، أو الصحوة أو الإحيائية، من تطورات في فهم الإسلام، خرجت به في حالات عن الفهم الصحيح، مما ترتب عليه نشوء حالات من الغلو ( التطرف ) من جانبين؛ غلو في الالتصاق بالدين، وغلو في تكييف الدين للحياة الجديدة، لا تكييف الحياة الجديدة للدين، وبرزت آثار ذلك محليًّا وعالميًّا على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعة، مما كان سببًا في امتطاء الإسلام في أعمال لا يقرها الإسلام الذي قام على السماحة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن داخل المجتمع المسلم وخارجه. والسبب الثاني الرئيسي لزيادة الاهتمام بالإسلام أنه مع عودة المسلمين إلى الإسلام بدأ انحسار العقائد الأخرى لدى الآخر [1] ، تلك التي كانت تشغل الساحة العالمية؛ كالشيوعية مثلًا، فعندما انقشعت الشيوعية عاد معتنقوها إلى خلفياتهم السابقة، التي أخفيت قبل تسعين سنة مضت منذ الثورة البلشفية في ذي الحجة من سنة 1335هـ أكتوبر من سنة 1917م، فالنصارى بدؤوا يتلمسون نصرانيتهم من جديد، والمسلمون وجدوا في العودة إلى الإسلام بديلًا للتوجه الشيوعي أو الاشتراكي أو القومي المناهض أو العلماني للدين، الذي فرض على معظمهم بقوة السلطان والثورات، حتى وصل بعضهم إلى الاقتناع به خيارًا وحيدًا للحياة [2] . ومع هذا التفرغ لوحظ أن الذي يمكن أن يملأ هذا الفراغ هو الإسلام؛ ولذا كان لا بد من زيادة الاهتمام بالإسلام والمسلمين، ليس بالضرورة رغبةً في التعرف عليه لتبنِّيه، ولكن الذي يبدو هو محاولات تجنبه، والحد من انتشاره وعدم حلوله بديلًا للأنظمة المنتعشة والقائمة آنذاك. ومن المؤسف أن الإسلام في المجتمعات غير المسلمة يقدم علميًّا وثقافيًّا من خلال مجموعة من مراكز الدراسات الإسلامية أو العربية أو الشرق أوسطية الأكاديمية، ويجمعها جميعًا اسم المراكز الاستشراقية، وبعض هذه المراكز ينطلق من خلفية معادية للإسلام، فهي تصور الإسلام بالصورة التي صوره فيها طلائع أرباب هذه المراكز قبل أكثر من ثمانمائة سنة خَلَت [3] ، لا سيما مع انتهاء حروب الفرنجة أو الحروب الصليبية، وعودة الصليبيين إلى ديارهم من دون تحقيق الأهداف التي جاؤوا إلى الشرق من أجلها [4] . ولا يعتقد، في الجانب الآخر، أن المراكز الإسلامية "الدعوية" [5] التي يديرها مسلمون قد وفقت إلى الآن في تقديم الإسلام بصورته الواضحة لغير المسلمين على المستوى الذي تقدمه لهم مراكز الدراسات الإسلامية الاستشراقية، لأسباب متعددة، من أهمها: قلة العلماء في المراكز الإسلامية، وقلة الإمكانات من الأموال والكتب، وبالتالي ضحالة المعلومات التي تقدم الإسلام للآخر بصورته الواضحة. ومع أن المراكز الإسلامية "الدعوية" التي أقامتها الجاليات المسلمة المغتربة ذات طابع دعوي، إلا أنها تقتصر في أغلب الأحيان على دعوة المسلمين أنفسهم، وإن كانت أحيانًا تمد خدماتها لغير المسلمين. ويحاول الدعاة والعلماء الآن في المجتمعات المسلمة والتجمعات الإسلامية، نقل الصورة الصحيحة عن الإسلام إلى المجتمعات غير المسلمة، كما أنهم يحاولون كذلك توضيحَ الإسلام الصحيح للمسلمين العائدين إلى الإسلام، مثل حرصهم على تقديمه لغير المسلمين. وليست هذه المناقشات بصدد طرح أوليات العمل الإسلامي في الخارج، بقدر ما يراد منها التوكيد أن هذا الاهتمام المتزايد بالإسلام والمسلمين اليوم يفرض على المسلمين نمطًا مختلفًا من التعامل مع الآخر في الجوانب العلمية والدعوية، يستوجب الحرص المتواصل، من قِبل المعنيين بشأن العلاقات بين الشرق والغرب، أو العالم الإسلامي والآخر، على العمل لتقديم الإسلام بصورته الصحيحة، بدلًا من أن يتركَ المجال لتلك الفئات التي أخطأت في فهم الإسلام، ونقلت هذا الخطأ في الفهم إلى الآخرين، فتراكمت الأخطاء، وخسر الجميع. [1] يعبر بالآخر بدلًا عن الغير كلما وردت؛ لما يحدثه لفظ الغير من لبس في اختيار اليهود له يعبرون به عن غير اليهود، وربما يسمونهم الأغيار، مع الأخذ بالاعتبار قرارات المثقفين العرب، الذين عقدوا لقاءً في تونس، سنة 1405هـ/ 1985م، سعوا فيه إلى وضع إستراتيجية ثقافية عربية، ومن ضمنها اختيار "الغير" بدلًا من "الآخر" ، وكنت قد استخدمت لفظة "الغير" في الطبعتين السابقتين، فعدلت عنها في هذ ه الطبعة . [2] انظر: هيثم الجنابي ، الإسلام في أوراسيا - دمشق: دار المدى، 2003م - ص 287. [3] انظر على سبيل المثال: هنري ماسيه ، الإسلام/ ترجمة بهيج شعبان، تقديم مصطفى الرافعي، تعليق محمد جواد مغنية - ط 3 - بيروت: منشورات عويدات، 1988م - ص 282 . [4] سيأتي نقاش دوافع الحروب الصليبية في المحدد الخامس: الحروب ، وانظر: أيوب أبو دية ، حروب الفرنج حروب لا صليبية - بيروت: دار الفارابي، 2008م - ص 182 . [5] سميت بالدعوية هنا؛ لأنها تمارس الدعوة إلى الله بالمفهوم الشامل لمصطلح الدعوة إلى الله، الذي تتعدد وسائله، وتقيم شعائر الإسلام، بخلاف المراكز "العلمية" التي تنحو منحى معاكسًا لهذه المراكز، فتعتمد في الغالب الإسهام في تشويه الإسلام .
السيدة آسية بنت الشيخ بشير الله المفتاحي زوجة شيخنا العلامة سعيدالرحمن الندوي هي السيدة الفاضلة الصالحة آسية بنت الشيخ بشير الله المفتاحي المئوية الهندية. ♦ مولدها وأسرتها: ولدت مديرية مئو بولاية أترا براديش، عام 1946م (أي ه 1365أو66 هجريًا). والدها هو الشيخ بشير الله المفتاحي رحمه الله وقد كان ممن تخرج في أول دفعة من مدرسة مفتاح العلوم بمدينة مئو، وكان عالمًا تقيًا، صالحًا عابدًا لله، رزقه الله ابنًا واحدًا، وسبع بنات، كانت أصغرهن الشيخة الكريمة آسية. وأما زوجها فهو شيخنا الكاتب القدير، والأديب النحرير، والصحفي الكبير، والخطيب المفلق، العلامة المعمر سعيد الرحمن الندوي بن شيخ الحديث العلامة محمد أيوب الأعظميّ بن الشيخ محمد صابر المئوي الهندي حفظه الله، وقد عقد قرانه عليها سنة 1961م، أي قبل أكثر من ستين عامًا، فكانت امرأةً صالحةً، مطيعةً، قانتةً لله سبحانه وتعالى، وفيةً لزوجها، صابرةً على ما أصابها، وشاكرةً على النعم التي أنعم الله بها عليها. حياتها العلمية: كانت السيدة آسية من فضليات النساء الصالحات، عاشت حياةً مليئةً بالإخلاص والتقوى والصبر والشكر، ذات علم واسع، تشغل أوقاتها في الصلوات النافلة وتلاوة القرآن الكريم، والذكر والدعاء، مع أداء الشئون المنزلية، وكانت تطالع الكتب الدينية، فتطلع على المسائل النسوية، وتخبر النساء الأخريات اللائي يزرنها، فكانت مربيةً ومعلمةً من المعلمات، وكانت تشتري المجلات النسوية التي تصدر شهريًا من الأوساط العلمية، ذلك مثل مجلة "رضوان" لصاحبها فضيلة الأستاذ السيد محمد حمزة الحسني الندوي ( حفظه الله تعالى )، فترسل إليها اشتراكاتها. وكانت نموذجًا في المعاملة الإنسانية وتربية الأولاد والبنات، تزورها النساء من أحياء مجاورة حينًا لآخر، فيجدن عندها طمأنينةً وحبًا وكرامةً، وكانت كثيرة البذل والعطاء، لا ترد السائل والمسكين، فلا يزال عند باب منزلها عدد من المحتاجين، وهم ينالون منها ما يسد فقرهم من النقود والأطعمة والمأكولات، وقد شاهدنا بأم أعيننا أنها لا تزال ترسل العطايا والهدايا إلى بعض بيوت أساتذة جامعة ندوة العلماء، وكل ذلك خفيةً وإسرارًا من الآخرين، قال لمولانا محمد فرمان الندوي وهو الذي نقلت عنه الترجمة : قد لقيني أحد العمال في ندوة العلماء، وهو يبدي أسفه على وفاتها، ويقول : كانت الراحلة الكريمة لا تزال ترسل إلى بيتي حوائج البيت، غفر الله لها، وتقبل حسناتها. عقبها وذريتها: قد رزقها الله تعالى ابنين وست بنات: أربع من صلبها، واثنتين من أخت إيمانية لها، فكانت خير مربية للجميع، وقد علّمت جميع الأولاد والبنات التعليم البدائي في مهدها، فتخرج الأبناء حفاظًا وعلماء. أما الابن الأول فهو الحافظ لطف الرحمن الأعظمي، والابن الثاني الأستاذ الدكتور الحافظ عطاء الرحمن الأعظمي الندوي، (وهو أستاذ مساعد في جامعة معين الدين الجشتي للغات بلكناؤ، ورئيس معهد الفردوس بلكناؤ). وأما بناتها فهن محصنة وسعاد، وبشرى وعذراء وزهراء وأسماء، وكلهن عالمات بالشريعة الإسلامية، وقد رزقهن الله تعالى أزواجًا صالحين، وهم الأستاذ إقبال أحمد الندوي المدني، والأستاذ إرشاد أحمد الأعظمي، والأستاذ مهتاب عالم، والأستاذ شفيق أحمد، والأستاذ جنيد أحمد القريشي الندوي، والشيخ الأستاذ محمد عبد الله المخدومي الندوي. وفاتها: كانت الشيخة الكريمة مصابةً بمرض خفيف في الأيام الأخيرة، لكن لم يكن عضالًا، وقد لبت نداء الله تعالى، وتوفيت في مقرها بحي مكارم نغر، دالي غنج، لكناؤ ( الهند ) في 12من شهر شعبان الماضي لهذه السنة 1442ه، الموافق 26 من شهر مارس 2021م، صلى عليها في رحاب ندوة العلماء بعد صلاة المغرب، شيخنا ومجيزنا سماحة الشيخ العلامة محمد الرابع الحسني الندوي ( رئيس ندوة العلماء العام ) بجمع كثير كان لا يرجى بسبب مرض " كرورنا "، وقد اكتظت بها ساحات ندوة العلماء في الجانب الأيمن للمسجد الكبير، وتم دفنها بدموع ساخنة وابتهالات قلبية في مقبرة دالي غنج، بلكناؤ ( الهند ). المراجع: ♦ مجلة البعث الإسلامي، مقال بعنوان (سلام عليك يا أماه) لمولانا محمد فرمان الندوي بتصرف بسيط.
أسرار الشهادتين في التفسير المأثور لحسين إسماعيل الجمل صدر حديثًا كتاب "أسرار الشهادتين في التفسير المأثور"، تأليف: الشيخ "حسين إسماعيل الجمل"، نشر: "دار اليسر للنشر والتوزيع". وتضمَّن هذا الكتاب جمعًا ودراسة للمرويات التفسيرية لأئمة التفسير في تفسير الشهادتين، وعليهما مدار عقيدة المسلم، وذلك من خلال التفسير بالمأثور، أو التفسير بالمنقول، وهو تفسير القرآن بالقرآن نفسِه، وبالسُّنة وبالآثار عن الصحابة والتابعين. وقيل في تعريفه: "التفسير الذي يعتمد على صحيح المنقول والآثار الواردة في الآية فيذكرها، ولا يجتهد في بيان معنى من غير دليل، ويتوقف عما لا طائل تحته، ولا فائدة في معرفته، ما لم يَرد فيه نقلٌ صحيح". يقول المؤلِّف: "بالشهادتين يدخل المُكلف في الإسلام، وهو آخر ما يخرج به من الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ))، فهو أول واجب، وآخر واجب. ولهذا كانت عناية السلف - رحمهم الله - بهذين الأصلين فوق كل عناية، والاهتمام بهما فوق كل اهتمام، ويظهر ذلك الاهتمام جليًّا في مجال التفسير، والمتمثل في أقوال المفسرين ومروياتهم التفسيرية، حيث قاموا بتفسير العديد من الآيات القرآنية بالشهادتين، تارةً بـ "لا إله إلا الله"، وتارةً أخرى بـ "محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام"، وتارة يفسِّرونها بأشهر نواقض الشهادتين أعني الشرك، مما يدلُّ دلالة واضحة على اهتمام أئمة السلف - رحمهم الله - بالعقيدة بشكل عام، وبالشهادتين بوجه خاص في أقوالهم التفسيرية. بَيْدَ أن أقوال المفسرين ومروياتهم في هذا الشأن نجدها مبثوثة ومبعثرة في بطون كتب التفسير المسندة، لا يجمعها مصنَّف مستقل - فيما أعلم -؛ ومن ثم عقدتُ العزم على تتبُّع أقوال أئمة التفسير في هذا الجانب، وأن أُودعها مجموعةً مرتَّبة في مصنَّف مستقل؛ لإظهار عناية المفسرين بالركن الأول من أركان الإسلام، ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث وجِدته، في مجال التفسير بالمأثور، والله وليُّ التوفيق". وقد قام الكاتب بتتبُّع كل ما يتعلق بالشهادتين في كتب أهل التفسير من مرويات الصحابة رضي الله عنهم، وطبقة التابعين، وتَبَعِ الأتْباع رحمهم الله. كما ألحق عقب بعض المرويات التفسيرية شيئًا من التعليقات التفسيرية الموجزة لأصحاب المصنَّفات في التفسير من أهل السُّنة؛ وذلك لتأييد الرواية التفسيرية وتقويتها. مع تخريج المرويات التفسيرية من مصادرها الأصلية، والترجمة لأصحابها. وخدمة الكتاب بالفهارس لمن أراد الرجوع للأعلام المترجم لهم. وجعل الكاتب كتابه في مقدمة وثلاثة فصول على النحو التالي: الفصل الأول: شهادة أن لا إله إلا الله: في مبحثين: المبحث الأول: دعوة الرسل عليهم السلام. المبحث الثاني: التفسير المأثور بكلمة التوحيد. الفصل الثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ورد فيها من روايات تفسيرية: وذلك في مبحثين اثنين: المبحث الأول: تمهيد: حاجة الناس إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني: مسرد الآيات القرآنية. الفصل الثالث: الشرك: وذلك في مبحثين: المبحث الأول: مسرد منتقى من الآيات القرآنية الواردة في الشرك. المبحث الثاني: التفسير المأثور بأهم نواقض الشهادتين.
يحيى بن زكريا عليه السلام مرَّت رغبة زكريا في الولد، فدعا ربه كما ورد في سورتي "آل عمران ومريم" ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، وفي سورة "مريم": ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5]، وفي "سورة الأنبياء": ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90]؛ فكانت الاستجابة لهذا النبي الكريم من رب العالمين سريعةً، وفيها أصلح الله له زوجه وكانت عاقرًا فعادت تحيض وتستعد للإنجاب، ونتيجة لذلك كان المولود يحيى، وقد ذكر الله تعالى صفات يحيى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]؛ فهو وريثه في العلم والدعوة، ونبيًّا متبوعًا، حيث لا يتبع إلا السيد، وجعله حصورًا لا يأتي النساء، وليس في حاجة إليهن، وفي هذا تقوية له، ورفعه فوق شُبَه التهمة من هذه الناحية، فكان نموذج النبي العابد المهتم بالآخرة بلا شواغل من الدنيا؛ لأن شواغلها عادة تأتي من الأسرة والأبناء، وهذا يذكِّر بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يضم إلى صدره الحسن والحسين ابني فاطمة رضي الله عنهم: ((إن الولد مَبْخَلة مَجْبنة))؛ أخرجه ابن ماجه؛ أي: مَن يكون له أولاد فإنه ينشغل بهم، فلا يقدم على الاقتحام والمخاطرة أو الإنفاق، وإنما لأجلهم يُمسك، وهكذا حمَل عبء الدعوة مع والده وهو لا يزال صغيرًا، وكونه نبيًّا من الصالحين أنه لا يحمِل ذنبًا، وعن عبدالله بن عمرو قال: ما أحد إلا يلقى الله بذنب، إلا يحيى بن زكريا، ثم تلا هذه الآية: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12]؛ أي: ابن ثلاث سنين، وقيل: ابن سبعة، والكتاب هو التوراة، وهو أصل الدِّين لبني إسرائيل من لدن موسى، وقد أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة وعزيمة لا تردد فيها، وقد آتاه الله الفهم الواسع للكتاب وأحكامه، ملَكة وهبه الله إياها، وهذه معجزة له تحببه إلى الناس الذين يفتنون بمثل هذا النبوغ المبكر ويجلونه، تذكر الآيات بقية ما منحه الله من الصفات، ﴿ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 13 - 15]، فقد أعطي الأمانَ والسلام في المواقف الثلاثة المهمَّة للإنسان. نُبذة من حياة يحيى عليه السلام: كان عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة - تجوزًا؛ لأن أم يحيى خالة مريم - وكان عيسى يلبَس الصوف، وكان يحيى يلبَس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم، ولا عبد ولا أمة، ولا مأوى يأويان إليه، أينما جنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى: أوصني، قال: لا تغضب، قال: لا أستطيع إلا أن أغضب، قال: لا تقتنِ مالًا، قال: أما هذه فعسى. وروى الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ، فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أُمرتَ بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلِّغَهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذَّبَ أو يخسف بي، قال: فجمع بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن اللهَ عز وجل أمرني بخمس كلمات؛ أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا؛ فإن مثَلَ ذلك مثل من اشترى عبدًا من خالص ماله بورِقٍ أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلَّتَه إلى غير سيده، فأيكم يسُرُّه أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه قِبَل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وأمركم بالصيام؛ فإن مثَل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسَره أعداؤه فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرًا؛ فإن مثَل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره، فأتى حصنًا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل))، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن؛ بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله؛ فإن مَن خرج عن الجماعة قِيدَ شِبر فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومَن دعا بدعوى الجاهلية فهو مِن جثا جهنم ))، قالوا: يا رسول الله، وإن صلى وصام! قال: (( وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، ادعو المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل )). وذكر أن يحيى بن زكريا عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما كان يأنس إلى البراري، ويأكل من ورق الأشجار، ويرِد ماء الأنهار، ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان، ويقول: مَن أنعم منك يا يحيى؟! ورُوي أن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعامًا، فكان يأكل مع الوحش؛ كراهة أن يخالط الناس في معايشهم، وطلب زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية، فإذا هو قد احتفر قبرًا وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني، أنا أطلبك منذ ثلاثة أيام وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه، فقال: يا أبت، ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين؟ فقال له: ابكِ يا بني، فبكيا جميعًا، وذكر أن كثرة البكاء أثرت في خديه من كثرة الدموع. نُبِّئ يحيى وهو ابن ثلاثين سنة، وكان يكبر عيسى بستة أشهر، وقد اختار يحيى الشام للدعوة فيها، وكان عيسى في فلسطين، وقيل: التقيا عند نهر الأردن، وقيل: إن تعليمات في الشريعة بلغها عيسى للحواريين ليبلغوها للناس كما بلغها ليحيى ليبلغها في منطقته، وكان منها منع نكاح ابنة الأخ، وكان الملك هيرودوس بالشام، فأراد أن يتزوج ببعض محارمه، أو ممن لا يحل له تزوُّجها، فسأل يحيى فنهاه عنها، وقال: لا تحل لك، وعلمت أمُّ البنت بذلك فأضمرت الشر ليحيى؛ لأنه سيحرم ابنتها من أبهة الملك ونعيمه، فقالت لابنتها: إذا دخلت عند الملك فاسقِيه خمرًا حتى السكر، ثم اطلبي منه قتل يحيى، ففعلت، فامتنع أول الأمر، ثم لبى طلبها وقتله وقدم رأسه لها في طست، ولما أصبح كان دمه يغلي، ففاض من الطست، ثم سقط على الأرض وهو في شدة غليانه، فوضع فوقه التراب فلم يسكن، وهم في خضم هذا الحدث بعث الله عليهم ملكًا من ملوك بابل غزاهم ونكل بهم، حتى قتل منهم سبعين ألفًا، فسكن الدم، ورُويت القصة بغير هذا السياق، لكن كلها حول هذه المرأة تدندن، وقيل: كان هذا ببيت المقدس، لكن الصواب في دمشق، وروي عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أُخرج من تحت ركن من أركان القِبلة، يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير، وفي رواية: كأنما قتل الساعة، وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة، والله أعلم.
إتحاف الرَّاغبين بما نَقَلَهُ الذَّهبيُّ عن ابن العطَّار ممَّا ليس في كتابه ( تُحفة الطَّالبين ) بقلم: عبد الله بن محمَّد سعيد الحسيني الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد: فقد صرَّح الإمامُ الحافظُ مؤرِّخُ الإسلام شمس الدِّين أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن عثمان الذَّهبيُّ (المتوفى 748 هـ) أثناء ترجمته لشيخ الإسلام محيي الدِّين أبي زكريَّا يحيى بن شرف بن مِرَى النَّووي (المتوفى 676 هـ) في عدَّة مواضع من كُتُبهِ بالنَّقلِ عن شيخه وأخيه من الرَّضاعة الإمام العالم علاء الدِّين أبي الحَسن علي بن إبراهيم بن داود ابن العطَّار (المتوفى 724 هـ) [1] ، وجُلُّها مُقتبسةٌ من كتاب شيخه: (تُحفة الطَّالبين في ترجمة شيخنا الإمام النَّووي محيي الدِّين) [2] ، الذي هو عُمدتُهُ (بل عُمدةُ كلِّ مَن أَتَى بعدَهُ) [3] . وفي كتابه (تاريخ الإسلام) ثلاثة مواضع صرَّح فيها بالنَّقل عنه ممَّا ليس في كتاب (تحفة الطَّالبين)، وهي كالتَّالي: الموضع الأوَّل: قال في (تاريخه) (15 /325): (قالَ ابنُ العطَّار: قالَ لي الشَّيخُ.. قالَ: وبَقِيتُ أكثر من شهرين أو أقلّ لمَّا قرأتُ: يجبُ الغُسْلُ من إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، أعتقدُ أنَّ ذلك قَرْقَرَة البطن، وكنتُ أستحمُّ بالماء البارد كُلَّما قَرْقَرَ بطني) ا.هـ [4] . تاريخ الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي، مكتبة آيا صوفيا، رقم (3014) [42/أ] وفصَّل ذلك في موضع آخر، فقال [5] : (حدَّثنا الشَّيخ علاء الدِّين ابن العطَّار، قال: خَتمتُ القرآن، وبعد ذلك جرى بين الصِّبيان أنَّ الولد يكونُ من المجامعة، ويَخرجُ من الفَرْج، فأنكرتُ ذلك، وقلتُ: لا تَلدُ المرأةُ إلَّا مِن سُرَّتها! قال: واحتلمتُ وعُمري [اثنتا عشرة] [6] سنة، فبقيتُ ثمانية أشهر أَحتلِمُ، ويَبقَى المنيُّ في لباسي كالقمل، ويَشُوكُني، وأنا لا أدري! إلى يومٍ قلتُ لإنسانٍ [يُعالِجُ] [7] : إنِّي أَجِدُ كيت وكيت، فَوَضَعَ أصبعه على أنفي وجَسَّهُ، ثمَّ قال لي: بَلَغْتَ، فذَهبتُ إلى أُمِّي، وقُلتُ لها، وكانت ترى ذلك، ولا تعلم أبي، قال: فاستَفتَيتُ شيخَنا محيي الدِّين النَّووي في قضاء الصَّلوات، فقال: أُخبِرُكَ بعجيبةٍ، قَدِمتُ دمشق، وقَرَأتُ في «التَّنبيه«، فحفظتُ فيه، فلمَّا قَرأتُ: «ويجبُ الغُسْلُ على الرَّجُل من شيئين: من خروج المنيِّ، ومن إيلاج الحَشَفَةِ في الفَرْجِ«، أُلقِيَ في نفسي أنَّ إيلاج الحَشَفَةِ في الفَرْجِ إنَّما هو قَرْقَرَةُ البطن، وكُنتُ في إِيوان الرَّواحيَّة مُقِيمًا، ولا بيتَ لي بعدُ، وأَتكفَّى بخزانة المدرسة، فكُنتُ كُلَّما وَجَدتُ قَرْقَرَةً، ذَهَبتُ إلى طهارةِ جَيرُون أَغتسِلُ، ورُبَّما تمَّ ذلك غير مرَّة في اليوم، - قال الشَّيخ علاء الدِّين: وكان عُمر الشَّيخ إذا ذاك عشرين سنة أو [تسع عشرة] [8] - قال: وبَقِيتُ أَغتسِلُ مِن ذاك مُدَّة حتَّى عَرَفتُ) ا.هـ. الفرائد والفوائد الملتقطة من تذكرة البرهان ابن جماعة بخطِّ الحافظ ابن طُولُون، مكتبة تشستربيتي (3101) [291/أ] الموضع الثَّاني: قال في (تاريخه) (15/ 330): (وعَزَمَ عليه الشَّيخُ برهان الدِّين الإسكندرانيُّ أن يُفطرَ عنده في رمضان، فقال: أَحضِرِ الطَّعامَ إلى هُنا، ونفطرُ جُملةً، قالَ أبو الحَسن: فأَفْطَرْنا ثلاثَتنا [9] على لونَين من طعام أو أكثر، وكان الشَّيخُ يَجمَعُ إدامَين بعض الأوقات) ا.هـ [10] . تاريخ الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [45/أ] الموضع الثَّالث: قال في (تاريخه) (15 /332): (وحَكَى لنا الشَّيخُ أبو الحسن ابن العَطَّار أنَّ الشَّيخَ قَلَعَ ثوبَهُ، فَفَلَاهُ بعضُ الطَّلبةِ، وكان فيه قَمْلٌ، فَنهاهُ، وقالَ: دَعْهُ) ا.هـ [11] . تاريخ الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [46/ب] ♦      ♦      ♦ وهذه المواضعُ الثَّلاث التي صرَّح فيها الحافظ الذَّهبيُّ بالنَّقل عن شيخه الإمام ابن العطَّار ممَّا ليس في كتاب (تحفة الطَّالبين) -وكذلك مواضع أخرى في هيئة الإمام النَّووي وصفاته وشؤونه وأحواله، هي منقولةٌ عنه بلا ريب وإن لم يُصرِّح بذلك-، قد تَلَقَّاها مُشافَهةً سَماعًا منه بدلالة صيغ التَّحديث التي ذَكَرها (حدَّثنا، حَكَى لنا)، وذلك -فيما يظهرُ لي- أثناء قراءة الكتاب عليه [12] ، لا سيَّما أنَّ ابن العطَّار اقتصَرَ فيه على ذِكر بعض مناقب شيخه وأحواله، ونصَّ على أنَّ وقائعه معه والأمور التي رآها منه تَحتملُ مجلَّدات، فقال في المقدّمة (ص 37): (فلمَّا كان لشيخي وقُدوتي إلى الله تعالى، الإمام الرَّباني أبي زكريَّا يحيى بن شرف الحِزَامي النَّواوي -تغمَّده الله برحمته، وأسكنه جنَّات النَّعيم، وجَمَعَ بيني وبينه في دار كرامته، إنَّه جواد كريم- عليَّ من الحقوق المتكاثرة، ما لا أطيق إحصاءها؛ بَعَثَني ذلك على أن أَجمَعَ كتابًا في بعض مناقبِهِ، ومآثرِهِ، وكيفيَّة اشتغالِهِ، وما كان عليه من الصَّبر على خُشونة العيش، وضِيق الحال، مع القدرة على التَّنعُّم والسَّعة في جميع الأحوال) ا.هـ، وقال (ص 97): (وجَرَى لي [13] مَعَهُ وقائع، ورَأَيتُ منه أُمورًا تَحتملُ مجلَّدات) ا.هـ. هذا والله أعلم. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. [1] انظر: (سير أعلام النُّبلاء) (ص 340-344)، و(تاريخ الإسلام) (15/324-332)، و(تذكرة الحفَّاظ) (4/174-176). [2] هذا هو العنوان الصَّحيح التَّام للكتاب، كما في النُّسخة الخطِّية النَّفيسة المحفوظة بخطِّ أخيه داود ابن العطَّار والتي قُوبلت على نسخة المصنِّف، وقد وَصَفَ الحافظ الذَّهبيُّ هذا الكتابَ بوصفَين دقيقَين، أحدهما: يتعلَّق بعدد كراريسه، حيث قال في (تذكرة الحفَّاظ) (4/175)، و(سير أعلام النُّبلاء - الجزء المفقود) (ص 342) ما نصُّه: (وقد جَمَعَ ابن العطَّار سيرته في ستِّ كراريس) ا.هـ ، وهذا العدد قريبٌ جدًّا من نسخة داود التي تقع في نحو خمس كراريس، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار تفاوت حجم الأوراق والخطوط وعدد الأسطر من ناسخ لآخر، وثانيهما: يتعلَّق بالمراثي التي فيه، حيث قال في (تاريخ الإسلام) (15/332) ما نصُّه: (وقد رثاهُ غيرُ واحد يبلغون عشرين نَفْسًا بأكثر من ستّمائة بيت، منهم: مجد الدِّين ابن الظّهير، وقاضي القضاة نجم الدِّين ابن صَصْرَى، ومجد الدِّين ابن المهتار، وعلاء الدِّين الكِندي الكاتب، والعفيف التِّلمساني الشَّاعر) ا.هـ، وهذا العدد يكاد يتطابق مع نسخة داود التي بلغ فيها عدد من رثاه 22 نفسًا، وعدد أبيات جميع المراثي 631 بيتًا. تنبيه: أَدرجَ الحافظ السَّخاويُّ في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 221) في كلام الحافظ الذَّهبي عن المراثي هنا ما نصُّه: (أَوردَ الكثير من ذلك ابنُ العطَّار) ا.هـ، ثمَّ قال (ص 223): (وأَوهمَ كلامُ الذَّهبي أنَّ مجموع ذلك لم يُورده ابن العطَّار، بل أكثره، وكأنَّه لم تقع له النُّسخة المُوفية) ا.هـ. (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي، خزانة الشَّيخ زهير الشَّاويش، رقم (169) [118، 119] قُلتُ: ليس الأمر كما قال، بل اطَّلعَ الحافظ الذَّهبيُّ يقينًا على الكتاب كاملًا بمراثيه بدلالة الوصفَين السَّابقَين، وأمَّا ما أدرجه الحافظ السَّخاويُّ في كلامه، فلم نقف عليه في نُسخة (تاريخ الإسلام) المحفوظة بخطِّه، ولا في طبعاته المحقَّقة التي بين أيدينا، والظَّاهر أنَّه حاشية لغيره أُدرِجَت في كلامه، والله أعلم. تاريخ الإسلام بخطِّ مصنِّفه الحافظ الذَّهبي [46/ب] [3] قاله الحافظ السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 181). [4] قال الحافظ السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 56): (وأَدْرَجَ الذَّهبيُّ في تاريخ الإسلام في كلام ابن العطَّار هُنا ممَّا لم أرَهُ في النُّسخة التي وقفتُ عليها)، فساق النَّص أعلاه، ثمَّ قال: (والظَّاهرُ أنَّ الحياء كان يمنعُهُ السُّؤالَ عن ذلك) ا.هـ. (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [10] قُلتُ: قد حصل هذا الموقف للإمام النَّووي أوَّل قدومه إلى مدينة دمشق سنة 649هـ تقريبًا مع بدايات طلبه للعلم وإقباله على حفظ كتاب (التَّنبيه)، وأراد بتلك الحكاية العجيبة أن يُؤانس تلميذه، ويُلاطفه، ويُسكِّن من رَوعه، ويَرفق بحاله، ويُبيِّن له أنَّ مثل هذا لا يَسلمُ منه أحدٌ، وهذا السُّلوك التَّربويُّ يندرج ضمن ما دوَّنه ابن العطَّار عن علاقة شيخه به، فقال في كتابه (تحفة الطَّالبين) (ص 52-53): (كان رحمه الله رفيقًا بي، شفيقًا عليَّ .. مع مراقبته لي رضي الله عنه في حركاتي وسكناتي، ولُطفِهِ بي في جميع ذلك، وتواضعه معي في جميع الحالات، وتأديبه لي في كلِّ شيء حتَّى الخطرات، وأعجزُ عن حصر ذلك) ا.هـ، والله أعلم. [5] هذا النَّصُّ الفريد منقول من خطِّ الحافظ ابن طُولُون في كتابه: (الفرائد والفوائد الملتقطة من تذكرة العلَّامة البرهان إبراهيم بن جماعة الشَّافعي) المحفوظ في مكتبة تشستربيتي برقم (3101) [291/أ]، عن (تذكرة ابن جماعة) بخطِّه، عن شيخه الحافظ الذَّهبي، عن شيخه وأخيه من الرَّضاعة علاء الدِّين ابن العطَّار، وأفادني به مشكورًا مأجورًا الشَّيخ المحقِّق المفيد د. محمَّد بن عبد الله السّريّع، لا حرمنا الله درره. [6] في الأصل: (اثنا عشر)، والصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتين. [7] في الأصل: (يلاج)، ولعلَّ الصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتين، كما أفادني بذلك فضيلة شيخنا الجليل العلَّامة المحقِّق نظام يعقوبي العبَّاسي، حفظه الله تعالى ونفعنا به وبعلومه. [8] في الأصل: (تسعة عشر)، والصَّواب المثبت أعلاه ما بين المعقوفتين. [9] في (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ الحافظ السَّخاوي: (ثلاثِين)، والصَّواب المُثبت أعلاه من خطِّ الحافظ الذَّهبي. [10] قال الحافظ السَّخاوي في «المنهل العذب الرَّوي« (ص 147-148): (وفيما أَدْرَجَهُ الذَّهبيُّ في كلام ابن العطَّار ممَّا لم أَقف عليه في النُّسخة التي وقفتُ عليها)ا.هـ، فساق النَّص أعلاه. (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [61] [11] قال الحافظ السَّخاوي في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 150): (وقَلَعَ ثَوبَهُ، فَفَلَاهُ بعض الطَّلبة، وكان فيه قملٌ، فنهاهُ، وقال: دَعْهُ) ا.هـ، ولم يُشر إلى أنَّه من إدراج الذَّهبي في كلام ابن العطَّار ممَّا لم يقف عليه في (تحفة الطَّالبين). (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [62] قُلتُ: قد نصَّ الإمام النَّووي في (المجموع) (7 /317) و(منهاج المحدِّثين وسبيل طالبيه المحقِّقين في شرح صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج القُشيري) (11 /185) على استحباب قتل القمل وغيره من المؤذيات، وجواز تفليته من الرَّأس أو من غيره وقتله، وأراد بهذا الموقف أن يُبيِّن له أنَّه يَتولَّى ذلك بنفسه دون خدمةٍ من أحد، وهذا ممَّا حكاهُ عنه تلميذه ابن العطَّار، فقال في كتابه (تحفة الطَّالبين) (ص 52): (لا يُمكِّن أحدًا من خدمتِهِ غيري على جَهدٍ منِّي في طَلَبِ ذلك منهُ) ا.هـ، والله أعلم. [12] كان الإمام ابن العطَّار ممَّن يعتني بإقراء كُتُبِهِ في مجالس القراءة والسَّماع، ومنها هذا الكتاب، فقد وَقَفَ الحافظُ السَّخاويُّ كما في (المنهل العذب الرَّوي) (ص 181-182) على نُسخةٍ منه بخطِّ تلميذِهِ: محمَّد بن محمَّد بن زكريَّا بن يحيى بن مسعود بن غنيمة السُّوَيداوي القدسي (المتوفى 731 هـ)، كَتَبَهَا: بالخانقاه السُّميساطيَّة بدمشق، وسمعها على مؤلِّفها بمنزله بدار الحديث النُّوريَّة بدمشق قبل وفاته بأشهر، بقراءة: المحدِّث ناصر الدِّين أبي عبد الله محمَّد بن طغريل بن عبد الله ابن الصَّيرفي (المتوفى 737 هـ)، سوى ورقتين، فبقراءته، وذلك في ثلاث مجالس، آخرها: يوم الأربعاء 16 من شهر ربيع الآخر سنة 724 هـ، وصحَّحَ المؤلِّف بخطِّهِ. (المنهل العذب الرَّوي) بخطِّ مصنِّفه الحافظ السَّخاوي [87] [13] سقطت كلمة (لي) من المطبوع، وأثبتُّها من النُّسخة الخطِّيَّة المعتمدة فيه المحفوظة بخطِّ أخيه داود [12/أ].
آيات وإعجاز الجزء الأول الحديد من بين عناصر الأرض التي تبلغ خمسةً ومائة عنصرٍ (105) هو العنصر الوحيد الذي سميت باسمه سورة في القرآن الكريم، وهو أكثر العناصر انتشارًا في الأرض، تقدر نسبته 9. 35 %، وبذلك يشكل أكثر من ثلث كتلة الأرض، وأغلب هذا الحديد موجود في قلب الأرض يتناقص تدريجيًّا من داخل مركز الأرض إلى سطحها، وهذا الذي مايز الأرض إلى سبع أرضين. والحديد يوجد على الأرض ممتزجًا بعدد من العناصر الأخرى، ولا يوجد بصورته النقية إلا في جوف الكرة الأرضية، وهو عنصر ثابت شديد التماسك بين كل من نواته وإلكتروناته، حيث تمتلك ذرة الحديد مستوى مرتفع من الطاقة على عكس العناصر الأخرى، والحديد هو العنصر الوحيد الذي يضم الخصائص المغناطيسية، فضلًا عن مرونته وقابليته للتشكل والطرق والسحب؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]. اختلف المفسرون في لفظ (أنزلنا) الوارد في هذه الآية الكريمة بين مَن صرَفه إلى معناه المجازي الذي يعني عندهم الخلق والجعل والتقدير والتسخير، وربما يعود ذلك لاستصعاب فَهم أو تصوُّر نزول الحديد من السماء، وبين مَن أخذ هذا اللفظ على معناه الحقيقي بمعنى الهبوط والنزول والانتقال، وهو ما يتوافق مع لغة العرب التي نزل القرآن الكريم بها، خصوصًا أنه لا توجد قرينة تصرِف اللفظ إلى معنى آخر. من الاكتشافات العلمية في الربع الأخير من القرن العشرين معجزة تؤيد ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الثاني من المفسرين وهو أن الحديد قد نزل إلى الأرض إنزالًا؛ أي هبط من السماء بمعنى أنه ليس مُكون من مكونات الأرض الأصلية، إنما وفد إليها ضيفًا عزيزًا جاء من مكان بعيد. وقد توصل أحد العلماء إلى أن الحديد لا يمكن أن يكون قد خلق في الأرض في الأساس أثناء تكوُّنها، وهذا يعني أن الحديد قد هبط على الأرض من السماء، والسبب في ذلك أن ذرة الحديد حتى تتكون لا بد أن يتوافر لها طاقة تصل إلى ثلاث أو أربع أضعاف طاقة المجموعة الشمسية، وبذلك فهذا العنصر قد وفد إلى الأرض من الكون الخارجي، كذلك وجدت بعض البقايا من ذرات عنصر الحديد المحترقة نتيجة اصطدام الشهب والنيازك في الفضاء، وهذا يعني أنها تسقط على الأرض من الفضاء، في حين حاول البعض إثبات أن عنصر الحديد قد تكون داخل المجموعة الشمسية، وعند البحث في هذا الأمر تبيَّن أن طاقة الشمس غير قادرة على دمج ذرات الحديد، وهنا اتجه العلماء إلى أن الحديد قد هبط على الأرض عن طريق الشهب والنيازك تلك المقذوفات الفلكية المتفاوتة الأحجام والأشكال التي تتألف من العديد من المعادن، ومن بينها الحديد، وكل هذه الإثباتات تشرح الآية الكريمة التي تحدثت عن إنزال الحديد إلى الأرض. وقد لاحظ العلماء أن الشمس لا يتكون بداخلها الحديد، وأن الأرض وباقي كواكب المجموعة الشمسية انفصلت أصلًا عن الشمس، فمن أين جاء حديد الأرض؟ قال العلماء: لا بد أن أرضنا عندما انفصلت من الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد، ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية، وبحكم كثافة الحديد العالية احترقت كومة الرماد، واستقرت في قلبها، فعندما انطلق الحديد تحولت الطاقة التي يتحرك بها إلى حرارة، فانصهر هذا الحديد وصهر هذه الكومة من الرماد، ومايَزها إلى سبع أرضين، والأرض تتلقى سنويًّا آلاف الأطنان من النيازك الحديدية، وعندما نزلت كانت بكميات كبيرة وبسرعة كونية عالية، وبحكم كثافة الحديد اخترق الأرض واستقرَّ في قلبها. ويقول أحد العلماء في وكالة ناسا الفضائية الأمريكية: ذرات الحديد ذات صفات مميزة، ولكي تتحد الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد، فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربعة أضعاف الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية، ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها. وقد ثبت للعلماء بعد دراسة مستفيضة أن الحديد لا يتكون إلا في نجوم عملاقة أكبر من الشمس بمراحل كبيرة تسمى المستعرات العظمى، وفي عملية كيميائية يستهلك الحديد طاقة النجم، فينفجر النجم وتتنافر قطع الحديد إلى الكون، ومنها ما يصل إلى الأرض بتقدير مناسب من الله عز وجل، وبذلك ثبت للعلماء بأدلة علمية لا تقبل الرفض أن كل الحديد في أرضنا بل في مجموعتنا الشمسية، قد أنزل إلينا إنزالًا. للحديد فوائد كثيرة، فلو لم يكن للأرض هذه الكمية الضخمة من الحديد الصلب والسائل في جوفها، لم يكن لها مجال مغناطيسي، وما كانت لها قوة جاذبية، وإذا فقدت مجالها المغناطيسي وقوتها الجاذبية ما استطاعت أن تمسك بغلافها المائي والهوائي، ولا استطاعت أن تمسك بالحياة على سطحها، ولو لم يكن للأرض هذا اللب الصلب ما كان لها قرار في دورانها حول محورها أمام الشمس، ولكانت تترنح ترنُّحًا شديدًا، والحديد يشكل أغلب المادة الحمراء في دماء الإنسان والحيوان، ويدخل في عملية البناء الضوئي للنبات، ويدخل في الصناعات المدنية والعسكرية، وفيه بأس شديد كما يقول الله تعالى عنه، وسورة الحديد رقمها في القرآن الكريم 57، وهو يساوي الوزن الذري للحديد في الجدول الدوري، ورقم الآية في السورة 25 وهو يساوي العدد الذري للحديد. وقد ورد ذكر الحديد في القرآن الكريم في ست آيات هي: ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾ [الإسراء: 50]، وقوله عز وجل على لسان ذي القرنين: ﴿ ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ [الكهف: 96]، وقوله عز وجل في وصف عذاب الكافرين: ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [الحج: 21]، وقوله تعالى في وصف داود عليه السلام: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سورة سبأ: 10]، وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَ ٰ ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22]، وفي سورة الحديد آية 25: ﴿ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾. ومن هذه الآيات الكريمة التي تحوي دلالات وإشارات إعجازية لها علاقة بالحديد قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22]. فُسرت هذه الآية بوجود غطاء أو غشاء على بصر الإنسان في الحياة الدنيا يَمنعه الرؤية القوية أو النافذة، فإذا قرب الإنسان من الموت بوقت قصير أو بعد الموت، ترفع هذه الغشاوة أو الغطاء عن بصره، فيرى كل الأشياء بوضوح تام ودقة متناهية، وهذا لحكمة أرادها الله في خلقه، فتكون حواس الإنسان يوم القيامة قوية حادة للإحساس بالنعيم أو بالعذاب، فلا يعتريها نقص أو مرضٍ أو خلل للإحساس بالألم القوي للكافر، أو التمتع والتلذذ بالنعيم الدائم للمؤمنين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أُحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)؛ مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 2851، 2 / 1307، وفي حديث: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)؛ مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 2852، 2 / 1307، وحاسة البصر مفصولة عن الروح لقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قُبِضَ تَبِعَهُ البصر)؛ مسلم، كتاب الجنائز، حديث 920، 1 / 409). ولَمَّا كان القرآن الكريم كتابًا منزلًا من الله العزيز العليم، وهو دائم العطاء والتجدد ومواكب لتطور العصر، فقد كشفت الدراسات الحديثة عن وجود علاقة بين بصر الإنسان والحديد، إن أهم جزء في العين هو الشبكية التي تحتوي على الخلايا التي تحس الضوء، والشبكية تُغذَّى بأوردة وأوعية دموية شعرية دقيقة جدًّا، يمر بها الدم لتغذية خلايا الشبكية من أجل تجدُّد الخلايا بصورة مستمرة. يوجد الحديد في الدم بشكل حر، ويوجد كذلك مرتبط بكريات الدم الحمراء، ولما كان الحديد له مجال مغناطيسي، فإن ذرات الحديد أو جزيئاته المرتبطة بكريات الدم الحمراء، تنتج مجالًا مغناطيسيًّا يتنافر مع المجال المغناطيسي الموجود في جدران الأوعية الدموية، وهذا التنافر بين كريات الدم الحمراء وجدران الأوعية الدموية، يَمنع كريات الدم الحمراء من الالتصاق بجدار الوعاء الدموي، وبالتالي يقلل احتكاك الدم بجدار الوعاء الدموي، فالحديد له وظيفتان في الدم نقل الأوكسجين وضمان سلاسة تدفُّق الدم إلى الشبكية عن طريق آلية علمية وهي التنافر المغناطيسي، ومنع التصاق الكريات الحمراء بجدار الوعاء الدموي، وبالتالي يضمن تدفُّق وتجدُّد مستمر، وقوة إبصار كبيرة. وفي دراسة أجراها أطباء عيون في ألمانيا عام 2001م لأناس اشتكوا من انسداد في الأوعية الدموية، وضَعف البصر، وعندما لم يجد هؤلاء الأطباء الأسباب التقليدية المعروفة التي يفهمها أطباء العيون، وجدوا أن هؤلاء الأشخاص عندهم أنيميا أو فقر دم، سببه نقص الحديد في الدم (حتى لو كان بنسبة خفيفة) ، عند ذلك ربطوا بعلاقة مباشرة بين أمراض الشبكية وضعف الإبصار، وبين تركيز مادة الحديد في الجسم، وقد قدم هؤلاء الأطباء توصية مستقبلية لأطباء العيون تركز على ضرورة الوعي والربط بين أمراض نقص الحديد في الدم، وبين أمراض العين والشبكية، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم على الحبة السوداء أو حبة البركة؛ لأن فيها شفاء من كل داء إلا السأم، فهي تحتوي على كميات جيدة من الحديد. وإضافة إلى المجال الطبي، ففي المجال الهندسي وُجد أن إضافة ذرات أو جزيئات الحديد إلى زيت المحرك يقلِّل الاحتكاك في محركات السيارات في آلية علمية شبيهة بوجود الحديد الذي يمنع التصاق كريات الدم الحمراء بجدار الوعاء الدموي، وصدق الله العظيم القائل: ﴿ ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]، وبعد ذلك: ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 31، 32]. المصادر: ♦ د. زغلول النجار، موقع قصة الإسلام. ♦ إعجاز القرآن الكريم (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)، طريق الإسلام. ♦ الإعجاز العلمي في سورة الحديد / المرسال، 12 / 12 / 2019. ♦ اكتشافات واختراعات من القرآن الكريم. د. زيد قاسم محمد غزاوي الجزء 12.
مراكز الأبحاث والدراسات الغربية امتداد للمؤسسة الاستشراقية تعرض العالم الإسلامي منذ القدم وإلى الآن إلى غزو عسكري وغزو فكري نصراني، شمل مختلف المجالات، والكل يعلم أن الغزو الفكري أخطر على الأمة من الغزو العسكري، فالتغيير في الفكر والعقيدة والنفسية يعني استئصال الأفكار والمعتقدات الأصيلة، أو التشكيك فيها، وإحلال معتقدات جديدة محلها لفرْض التبعية الفكرية للجهة الغالبة، وقد حاول الغرب استخدام مختلف الوسائل والطرق في اختراق العالم الإسلامي، من ذلك دراسة علوم الشرق ودينه وحضارته، أو تقديم مساعدات مادية في الدول الفقيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، متبعين وسائل غير محترمة، بُغية نشر معتقداتهم وإخراج المسلمين من دينهم، أو تشكيكهم في عقيدتهم، أو وضعهم في موقف غير الآبهِ أو غير المهتم بما يتعرَّض له الإسلام والمسلمون في بلدانهم. وقد صور بعض المستشرقون العالم الإسلامي منذ القديم تصوير غير حقيقي ونقلوا الصورة مشوهة للمواطن الغربي، ومن ذلك استخدامهم الرسم لتصوير النساء المسلمات بصورة غير لائقة، ولا تتناسب مع صورة المرأة المسلمة في بيئتها، متَّخذين من الغش والخداع وسيلة قذرة لتحقيق أهدافهم. الاستشراق هو علم يقوم بدراسة كلِّ ما يتعلق بالشرق وحضارته [1] ، ويعرف المستشرقون بأنهم أولئك النفر من الباحثين الغربيين الذين تخصصوا في دراسة لغات الشرق بعامة وآدابه وعقائده، وتعتبر ظاهرة الاستشراق فريدة غير مسبوقة في تاريخ الحضارات كلها، فلم تقم حضارة بمثل هذا الجهد الشامل لدراسة حضارة أخرى من جميع وجوهها لتحقيق غايات محددة مرسومة سلفًا [2] . اتفقت الآراء على أن حركة الاستشراق قامت بدور كبير في تعريف الغرب بحضارة العرب والمسلمين وآدابهم، وأثرها في الغرب نفسه ونهضته العلمية والفكرية على حد سواء، وأخذوا يستفيدون مما وصل إلى أيديهم من المؤلفات الإسلامية الكثيرة [3] ، فقد أقبل الأوروبيون بنشاط في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين على ترجمة كتب العلوم والآداب العربية الإسلامية، ونقلها إلى بلادهم، وكان ذلك نتيجة لجهود دعاة الصليبية السلمية الذين كانوا هم أنفسهم من أبرز أعلام الاستشراق، والصليبية السلمية هي تحويل قسط من جهود الحركة الصليبية من الاتجاه العسكري إلى اتجاه آخر هو العمل على تنصير غير النصارى، عن طريق الإقناع بحيث يكون هذا الاتجاه مكملًا للاتجاه الأول وليس بديلًا عنه [4] . وكان الدافع الديني وراء نشوء هذه الحركة وتطورها حتى عهد قريب لذلك، هو دراسة اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة الإسلامية لخدمة أهداف الحركة الصليبية منذ بداية ذلك العصر [5] ، فالاستشراق ظاهرة صاحبت الصحوة الفكرية التي عاشتها أوروبا منذ أن شعرت بالتهديد الإسلامي، عن طريق الأندلس غربًا، وتركيا شرقًا بعد ذلك [6] . بعد فشل الحروب الصليبية، بحث الغرب عن مخطط بديل يحقِّق أهدافهم دون مواجهة عسكرية، بحيث يؤدي إلى تشويه الإسلام في أعين الغربيين، وتخويفهم منه، بُغية صرفهم عنه، لذلك تحوَّل جماعة من رجال الكنيسة إلى مستشرقين محترفين يدرسون الإسلام من كل جوانبه؛ من أجل دحضه أو تشويهه، بغية تسميم عقل الإنسان الغربي ووِجدانه ضد الإسلام ورموزه؛ ليصبح كارهًا له خائفًا منه، وبذلك يبلغ الغرب هدفه في تحصين مواطنيه ضد هذا الدين [7] ، وخاصة بعد أن عاد المحاربون النصارى من الحروب الصليبية وهم يحملون صور طيبة عن معاملات المسلمين وسماحة الإسلام، خاف رجال الكنيسة من الإسلام، فقام المنصرون بمحاولة خبيثة لتشويه الإسلام والمسلمين في نظر شعوب أوروبا، بهدف حجب الإسلام عن أوروبا، والحيلولة دون نفاذه إليها [8] . ويُرجع بعض الباحثين بداية الاستشراق الإنكليزي إلى ما قبل الحروب الصليبية؛ حيث توجه نفر من الإنجليز إلى الأندلس للدراسة في جامعاتها ومدارسها، ويَعدُّ بعض الباحثين بداية القرن السابع عشر الميلادي البداية الحقيقية للدراسات الاستشراقية في إنكلترا، ولكن هذه البداية المبكرة لم تؤلف تيارًا يمكن أن يطلق عليه حركة استشراقية، وذلك باستثناء كراسي للغة العربية في الجامعات البريطانية الكبرى [9] ، وعند البعض تأسس الاستشراق رسميًّا، وبدأ انطلاقته الحقيقية في القرن الرابع عشر ميلادي بقرار من الكنيسة، ليعمل لحسابها على أساس أن الإسلام يمثل مشكلة للغرب النصراني، ومِن ثَم كان على الغرب أن يتعامل مع هذه المشكلة (الإسلام) بوسائل فعالة [10] . وقد لعب المستشرقون المتطرفون دورًا بارزًا في تشويه صورة العرب والمسلمين، من خلال تقديمهم أفكارًا مغلوطة لمجتمعاتهم الغربية عن سلوك المسلمين وطبيعة دينهم، فقد تسببت أعمال المستشرقين في توتُّر دائم في العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي، فالصورة النمطية التي رسمها الاستشراق للإسلام، وسوَّقها للمواطن الغربي في العصور الوسطى، قد انتقلت - مع تراكم في التشويه، وتوظيف لأحدث الوسائل التقنية الإعلامية - إلى المواطن الغربي في العصر الحديث، وقد أثر المستشرقون أعمق تأثير وأخطره في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام، ومن ثم كانت لهم اليد الطُّولى في تشكيل موقف الغرب إزاء الإسلام والمسلمين على مدى قرون عديدة، وحتى اليوم [11] . وهذا التأثير لا يقتصر على الغرب فقط، وإنما تعداه إلى الفكر الإسلامي، فقد أثبت الواقع أن للمؤسسة الاستشراقية تأثيراتها العميقة الفاعلة في الفكر الإسلامي الحديث، فالمستشرقون أثروا إلى أبعد حدود التأثير في بناء بعض العقول الإسلامية النشطة، وصياغة رؤيتها الخاصة عن الإسلام ذاته، مع التمكين لها، وإذاعة فكرها ونشره على أوسع نطاق، ولذلك كانت جهود المستشرقين عبارة عن غزو فكري وثقافي مركَّز [12] . نشأ الاستشراق أول مرة في أحضان الكنيسة، خدمةً للهدف الذي حدَّده بطرس المحترم رئيس رهبان دير كلوني في إسبانيا - وبطرس المحترم هذا قد درَس في الأندلس وأشرف على ترجمة القرآن الكريم لأول مرة إلى اللغة اللاتينية في إسبانيا عام 1143م - المتمثل في دراسة الإسلام من أجل دحضه وإبطاله، ولخدمة هذا الهدف تَمَّت بموجب قرار كنسي الموافقة على تعليم اللغة العربية في خمس جامعات كبرى سنة 1312م، وهم يعتقدون بذلك أن الإنسانية سوف تتحول كلها إلى العقيدة الكاثوليكية [13] . وقد رأى النصارى ضرورة دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية؛ لأنهم كانوا يرون في المسلمين العدو الأول للنصرانية الأشد خطرًا عليها، ثم قاموا بتدريسها للرهبان المنصرين؛ ليكونوا أقدر على النهوض بالمهمة الموكَلة إليهم سواء في بلاد المسلمين أو سواهم [14] . ومن دوافع الاستشراق - إضافةً إلى التعرف على بلاد المسلمين ومعتقداتهم تمهيدًا للتأثير على هذه البلاد وأهلها - الحد من انتشار الإسلام في الغرب، وحماية الإنسان الغربي من الإسلام، ووضع الخطط السياسية مطابقةً لِما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبقًا لما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة لسلطانها [15] . وإضافة إلى الدوافع الدينية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، ازدادت أهمية التبادل التجاري مع العالم الإسلامي، وكان لا بد من معرفة اللغات الإسلامية، وازدادت هذه الأهمية بعد وصول العثمانيين إلى أواسط آسيا، وضرورة تبادل الرسل والدبلوماسيين بين أوروبا والعالم الإسلامي، وفي القرن التاسع عشر للميلاد انتشرت حركة الاستعمار العالمي، وأصبحت بريطانيا أكبر قوة استعمارية في العالم، ووقعت أجزاء كبيرة من الشرق ومن العالم الإسلامي تحت الاستعمار البريطاني، ومع استمرار الدوافع الدينية والاقتصادية للاستشراق، تَميز القرنان التاسع عشر والعشرون بالدافع الاستعماري، وعلى العموم فقد تميز الاستشراق الإنكليزي في القرن التاسع عشر بالارتباط الوثيق بالاستعمار وخدمته للأهداف الاستعمارية، ووصف المستشرقون بأنهم عملاء لحكوماتهم وأنهم شركاء لها في صُنع القرار [16] . وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحوُّل مركز الثِّقل وقيادة العالم في أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يَمَّم الاستشراق والمستشرقون وجههم شطرَ أمريكا، ودخلت الحركة الاستشراقية مرحلة جديدة معاصرة، ومن ذلك دراسة المجتمعات الإسلامية دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا [17] . وتتلخص أهداف المستشرقين في تفتيت وَحدة المسلمين وإضعافها، والتمهيد لاستعمار العالم الإسلامي، واستغلال الثروات، والانتقام من المسلمين الذين قاموا في القرون الوسطى بمواجهة النصرانية [18] . قد تبدو كلمة الاستشراق لفظة قديمة، كان لها وقع ونشاط في زمن معين، ثم انتهى دورها، ولكن المتأمل في الظروف والأحوال السياسية، يجد أن لفظة الاستشراق نزعت ثوبها القديم، وعادت لترتدي زيًّا جديدًا مواكبًا لتطورات العصر، يسمى مراكز الأبحاث والدراسات التي تكون في معظمها طبعًا أمريكية، الدولة الأولى صاحبة القرار والأطماع والمصالح العابرة للقارات، ومصالحها كما كانت مصالح أوروبا الصليبية يتركز معظمها في بلدان العالم الإسلامي. تسعى المراكز الفكرية الأمريكية المهتمة بالشرق الأوسط إلى تقديم العديد من التوصيات للإدارة الأمريكية، لتوجيه المعركة الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي، وقد مثلت مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية في الوقت الحالي امتدادًا واستمرارًا للعمل المؤسسي الاستشراقي، ذلك أنها تُمِدُّ صُناع القرار بالدراسات التي توضح لهم الواقع الذي يعيش فيه المسلمون وكيفية التعامل معه، ومن أبرز هذه المؤسسات مؤسسة (راند) ، وهي مؤسسة بحثية أمريكية تضم نخبة من السياسيين والخبراء البارزين، ومن أعضائها كوندا ليزا رايس صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة وتقسيم الشرق الأوسط، وهنري كيسنجر ورامسفيلد، وديك تشيني، وغيرهم كثير، وتعتمد هذه المؤسسة في تمويلها على الحكومة وتبرعات من رجال أعمال كبار نصارى ويهود، وتعتبر أكبر مركز فكري في العالم يؤثر على صناع القرار الأمريكي، اهتمت مؤسسة راند بما يسمى بالخطر الإسلامي منذ سنوات عديدة، وصدر عنها العديد من الدراسات. تقوم هذه المؤسسة برفد الحكومة الأمريكية بالدراسات والتوصيات التي توضح لها كيفية التعامل مع الواقع الإسلامي، وتقديم خيارات وحلول لمعالجة المشاكل التي تعترض الهيمنة الأمريكية على المنطقة الإسلامية، والقارئ لمذكرات بول بريمر الحاكم المدني للعراق بعد احتلاله يلاحظ أنه استعان بهذه المؤسسة البحثية، حيث قدم له جيم دوبنز الدبلوماسي السابق والمحلل الخبير في مؤسسة راند دراسة للاستعانة بها في إدارة العراق في تلك المرحلة، وقد قدمت هذه المؤسسة على مدار السنوات عددًا من التوصيات والتوجيهات لصُنَّاع القرار الأمريكي من أجل تقسيم العالم الإسلامي، وإيجاد موطئ قدم للغرب في الشرق الأوسط. وفي عام 1999م قبل أحداث 11 أيلول بعامين، أصدرت مؤسسة راند كتابًا بعنوان (مواجهة الإرهاب الجديد) ، وهو من إعداد مجموعة من الخبراء الأمريكيين، وأشار الكتاب إلى أن خطر الإرهاب الجديد سيتركز في منطقة الشرق الأوسط، وسيهدِّد مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني. وبعد أحداث أيلول قامت مؤسسة راند في عام 2004م بإصدار تقرير بعنوان (العالم المسلم بعد 11 أيلول) في أكثر من 500 صفحة؛ حيث يقسم التقرير العالم الإسلامي إلى مناطق معينة، من حيث كونها معتدلة أو متطرفة، وركز التقرير على الخلافات القائمة بين المسلمين، وضرورة دعم طرف معين على حساب الطرف الآخر، واستغلال الخلافات لحسابات سياسية على مبدأ فرق تَسُدْ، ومن جهة ثانية للقضاء على ولاء بعض الجماعات لدول أخرى. وفي عام 2005م صدر لمؤسسة راند تقرير بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والإستراتيجيات) ، ودعا إلى فهْم طبيعة الإسلام في المنطقة الذي يقف سدًّا منيعًا أمام محاولات التغيير في المنطقة. ونشرت هذه المؤسسة في عام 2007م تقريرًا يحمل عنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) ، والمعتدل في رأيهم هو من يرفض تحكيم الشريعة الإسلامية، والدين عنده يكون شأن فردي لا علاقة له بالحياة يبقى حبيس البيت أو المسجد، ويوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تُمثل التيار العلماني والليبرالي في العالم الإسلامي [19] . من الطبيعي أن يقوم أي عدو - خاصة إذا لم يكن محكومًا بقيم أخلاقية - بتسخير كل ما يُتاح أمامه لتحقيق النصر، ومن الذكاء أن يقوم أي طرف بدراسة الطرف المقابل ومعرفة أحواله، وأن تكون لديه فكرة عما سيواجهه والتحديات التي سيجابهها، ولكن الخطأ هو خطأ من يدفن رأسه في الرمال، ويتوقع حسن النية من عدوه، والله سبحانه وتعالى يقول:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، ويقول عز وجل وهو أصدق القائلين: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة 217]. [1] الحروب الصليبية في شمال إفريقية: أثرها الحضاري، الدكتور ممدوح حسين والدكتور شاكر مصطفى، ص 689. [2] الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، الدكتور محمد عبدالله الشرقاوي، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، 1437هـ - 2016م، ص 26. [3] الحروب الصليبية في شمال إفريقية: أثرها الحضاري، ص690 - 691. [4] المصدر نفسه، ص 690 - 692. [5] المصدر نفسه، ص 692. [6] أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، إشبيليا للنشر، الرياض، ط1، 1421هـ - 2000م، ص 102. [7] الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، ص 28. [8] أضواء على الثقافة الإسلامية، ص 145. [9] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، د. مازن بن صلاح مطبقاني، الرياض، 1416هـ - 1995م، ص 27 - 28. [10] الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، ص 14. [11] المصدر نفسه، ص 25، 29. [12] المصدر نفسه، ص 25، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة؛ ناصر بن عبدالله القفاري، وناصر بن عبدالكريم العقل، دار الصميعي للنشر، الرياض، ط1، 1413هـ -1992م، ص 78. [13] الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، ص 33 - 34. [14] الحروب الصليبية في شمال إفريقية: أثرها الحضاري، ص 692. [15] أضواء على الثقافة الإسلامية، ص 104. [16] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، ص 30- 32. [17] الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، ص 15، 17. [18] الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، الأستاذ عبدالرحمن حبنكة الميداني، القسم السادس، 1401هـ - 1981م، ص 470. [19] ينظر: المفهوم الأمريكي للاعتدال الإسلامي (قراءة في تقرير راند 2007م)، باسم خفاجي، مجلة البيان، وينظر: مؤسسة راند وصناعة إسلام معاصر، سوسن الزعبي، رسالة بوست.
موضوعات رسائل وأطروحات الاقتصاد الإسلامي مسؤولية مشتركة بين الأستاذ والطالب الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على مصطفاه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن مسألة اختيار العنوان والموضوع بشكل عام تعد عقبة مهمة تواجه طالب الدراسات العليا بوجه خاص والباحث بشكل عام؛ لما يترتب على العنوان من تحديد التخصص الدقيق، زيادة إلى بقية الالتزامات البحثية المعروفة التي تترتب على الطالب من استيفائها. وفي ظل تنامي ظاهرة العولمة بمختلف صورها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وانفتاح العالم بعضه على بعض لدرجة لم نكن نتصورها، من سهولة طرق التواصل بمختلف طرقه وانتقال الأخبار والنشاطات وتغطية فعاليات ما يقام من ندوات ومؤتمرات ومناقشات وغيرها، فإن الكثير منا تجذبه بعض العناوين وتشده بعض الموضوعات، التي تستثير همته وتتوافق مع توجهاته، فيحاول الانتفاع منها، وهذا لا شك أمر طيب مفيد، ولكن لا يخفى على ذي لُب، أنه لا بد للعنوان والموضوع المختار من أرضية خصبة تتوافق مع تخصص الطالب الدقيق وموضوع دراسته العامة (الأم) أولًا؛ بحيث يمكن للباحث التحرك فيها بفهم تام لكل جزئية تمر عليه؛ كونه يبحث في شاطئه، وشأن الباحث في ذلك شأن المزارع والفلاح الذي يمكن أن يحصل أو يشتري أو يرسل إليه أحد معارفه بذورًا من مكان بعيد عن بيئته، ويريد أن يزرع هذه البذور في أرضه؛ التي تختلف كليًا عن الأرض الأم التي زرعت فيها آنفًا، ويتوقع النتيجة أن تكون النبتة متشابهة مع الثمرة الأصلية! ذات الجودة العالية والمذاق الطيب. ولكن النتائج عادة تكون على خلاف ذلك إلا نادرًا. وكذلك الحال بالنسبة للباحثين الذين لم يتعرفوا على طبيعة الدراسة المختارة موضوع البحث بشكل عملي - وكلامي هنا عن المسائل المعاصرة في المعاملات المالية تحديدًا- باعتبارها قضايا ليست نظرية فحسب؛ بقدر ما هي قضايا عملية تطبيقية بالدرجة الأساس، وتحتاج إلى تصور وإلمام بأصغر التفاصيل، التي لا يمكن الإحاطة بها؛ كون مكان الدراسة (بلد الطالب مثلا) تنقصه الكثير من أدوات ووسائل هذه المعاملة أو تلك (موضوع البحث) إن لم تنعدم من الأساس، ولا مكان لها سوى في الأسماء والعناوين فقط! وهذا ما ينعكس على أداء الطالب في تصوره العام لموضوعه، فضلا عن إصدار الأحكام المتعلقة ببحثه. ومن جانب آخر لا يقل أهمية عن الأول، هو مسألة مراعاة التخصص (العام) للطالب في دراسته الأولية، وهذا يشمل مختلف القضايا المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي على مستوى (المعاملات المالية بأقسامها المتشعبة) أو (الفكر الاقتصادي الإسلامي) أو حتى (القضايا التاريخية المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي) بشكل عام، فطالب كلية الشريعة مثلًا يختلف عن طالب كليات الإدارة والاقتصاد والتجارة؛ من حيث المواد والمساقات العامة والخاصة التي درسها طيلة السنوات الأربع في مرحلة البكالوريوس التي تمثل الأساس والقاعدة لما سيأتي بعدها، وحتى المواد المشتركة بين بعض التخصصات، لها من الخصوصية ما يتطلب مراعاة معينة في طريقة تدريسها وطرحها لطلاب كل تخصص عن الآخر، من انتقاء بعض الموضوعات منها، دون بعضها الآخر، أو إضافة بعض المواد إليها كذلك. فلذلك أذكر نفسي وإخواني الأساتذة الكرام بضرورة سؤال الطالب عن كليته في دراسته الأولية قبل توجهه إلى الدراسات العليا، وعن طبيعة اهتمامه ومطالعته وقراءته وتوجهه المعرفي العام أولًا، إن كان تم التواصل بينهما من خلال آليات وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يعرفه شخصيًا من قبل ولم يلتقيه يومًا. فعلى سبيل المثال مسائل مثل: معدلات دخل الفرد في البلدان ذات الاقتصاد الريعي، والتأثيرات الضريبية، وعوائد الدخل القومي وتأثيراته وبيع الخيارات والمستقبليات وغيرها من الموضوعات ذات الصلة لا يمكن لطالب الشريعة الإحاطة التامة أو حتى الإلمام بها، فضلا عن المجيء بالجديد منها؛ كونها تمثل ملعبًا غير ملعبه الذي نشأ وتدرب فيه! وكذلك الحال بالنسبة لطلاب الإدارة والاقتصاد والتجارة والمحاسبة وغيرهم من الكليات الأهلية ذات التخصصات المختلفة، التي تركز في توجهها على سوق العمل، وتحاول تغذية المجتمع بما يغطي متطلباته من خريجيها، ومنها على سبيل المثال قسم (المالية والمصرفية) الذي أضيف إليه مؤخرًا مساق (المصرفية الإسلامية) فطلاب هذه الكليات لا يمكنهم الخوض في قضايا المعاملات المالية المعاصرة، وتصورها من حيث الجانب النظري؛ كونهم لم يدرسوا فقه البيوع والمعاملات، ولم يكن لأحدهم تصور بدقائق علم أصول الفقه والأحكام الشرعية المبنية على دلالات الألفاظ والقواعد الفقهية المتعلقة بها، ولم يطلعوا على أسباب خلاف الفقهاء، وغيرها من المسائل التفصيلية الدقيقة الأخرى. لذلك ألتمس من الأساتذة الكرام ملاحظة هذه المسألة، قبل تزويد الطالب الذي يتواصل معهم، وربما بينهما المسافة البعيدة، في وقت يكون الأستاذ منشغلًا بموضوع ما، وقد يكون يفكر فيه ويجول في خاطره بتصورات أولية عامة عنه، وفقًا لاطلاع وثقافة وبيئة ومطالعات الأستاذ، فيستأثر الطالبَ به، زكاةً لعلمٍ علمه، ونشرًا لخير يرغب في إذاعته، أو تنفيسًا لكُربة يراها في ملهوف، وهو يدرك أن الله (عز وجل) في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. وعادة ما يتلقف الطالب الموضوع في مثل هذه الحالات ويطير فرحًا وينطلق إلى كليته، كونه في وقت حرج ضيق، فيمرر الموضوع ويقدم إلى مجلس الكلية التي ترى الجدة والحداثة والأهمية في العنوان والخطة المرفقة، فتوافق عليه، وبعد ذلك يبقى صاحبنا الطالب حيرانًا يبحث في مواقع التواصل الاجتماعي عمن يعينه، ثم يمضي الوقت عليه، ويكون كمن أضاع الطريقين. وفي النهاية هي وجهات نظر، وليست بالضرورة تكون صوابًا جميعها، ولكنها لم تأتِ من فراغ أبدًا. والله الموفق للصواب، والهادي إلى سواء السبيل.
كتاب الانفعال للصغاني صدر حديثًا "كتاب الانفعال"، تأليف: "رضي الدين أبي الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني" (ت 650 هـ)، تقديم وتحقيق: د. "أحمد خان"، نشر: "دار الكتب العلمية"- بيروت بلبنان. وهذا الكتاب من ذخائر مكتبتا اللغوية التراثية، وهو كتاب لغوي معجمي لطيف، جمع فيه الصغاني الكلمات التي استخدمتها العرب في باب الانفعال، وأشارَ إلى معانيها العديدة ذاكرًا الشواهد والأدلة على ذلك. ونجد أن اللغوي "الصَّغاني" كان أول من أدلى دلوه في تأليف الكتب على زنة الأبنية، فأكثر فيها، وجمع فيها كلمات لغوية مستعملة في كلام العرب، واجتهد أن يجمع فيها الكلمات العربية القحة، وهذا الكتاب فريد في بيانه ومن أجود الكتب في موضوعه، يقول الصغاني: "اخترعته فلم يدع لي ابتداعه مماريًا فيه ولا منازعًا، وهو مما لم يسبقني إليه سابق فيما أعرف". وأما الكلمات التي عالجها الصغاني جمعًا وشرحًا بالشواهد من كلام العرب نظمًا ونثرًا فهي دون ما أوجدها المولدون، حيث حرص على إيجاد الكلام الفصيح من لغة العرب، متجنبًا كل ما استهجن من اللغات واللهجات، وقام بحشد الكلمات التي استعملها العرب من باب الانفعال، وأشار إلى معانيها العديدة قدر ما كان يعرفها، أو يستحضرها آنذاك، ووشحها بالشواهد من أشعار العرب وآي القرآن والأحاديث، وقد أكثر من الاستشهاد بالحديث النبويِّ؛ لكونه أفصح لغات العرب، وسعة استخدامه في توضيح اللغة العربية وآدابها. وأورد الصغاني في كتابه 437 كلمة كلها استعملتها العرب، وهذه الكلمات من باب الثلاثي المجرد لا غير، والكتاب مرتب حسب ترتيب حروف المعجم، فأورد الصحيح أولًا فالمضعف ثم الأجوف فالناقص ثم اللفيف، والمهموز في النهاية. وقد اجتهد المحقق د. "أحمد خان" عضو مركز حماية المخطوطات العربية بإسلام آباد بباكستان في تحقيق نص الكتاب على ثلاث نسخ خطية، قابَلَ بينها، وأثبت الفروق، ثم قدَّمَ للكتاب بمقدمة ثمينة عن المؤلِّف وكتابه، وإثبات أن اسم الكتاب حُرِّف في كثير من النصوص، فذُكر مرة بأنه كتاب "الأفعال"، وأخرى بأنه كتاب "الافتعال"، وأثبت أن كل هذه الأسماء لكتاب واحد، هو كتابنا هذا. كما أن المحقق قام بإضافة معاني الكلمات التي غابت عن المؤلِّف حين تأليفه الكتاب، وذلك من كتب الصغاني نفسه والمعاجم اللغوية الكبيرة. كما قام بتكملة وتصحيح الكتاب ببعض نصوص الكتب التي نقلت منها، كما جاء بالعديد من الشواهد لكلمات لم يورد الصغاني لها استشهاداته، كما نسب بعض الأراجيز إلى قائليها، ذكرها الصغاني دون عزو، كما قام بتشكيل الكتاب وخدمته الخدمة العلمية اللائقة. ومؤلف الكتاب هو " رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصَّغَانِيُّ " المحدث الفقيه الحنفي اللغوي، صاحب تصانيف الموضوعات. وُلد بمدينة لاهور في العاشر من شهر صفر سنة 577 هـ الموافق الخامس والعشرين من يوليو سنة 1181 م، ونشأ بغزنة، ثم رحل إلى بغداد سنة 610 هـ، ثم غادرها بالرسالة الشريفة إلى صاحب الهند سنة 617 هـ فبقي هناك مدة، ثم رجع إلى بغداد سنة 624 هـ، ثم عاد إليها في ذات السنة، بعدها رجع إلى بغداد إلى 637 هـ. من شيوخه الذين أخذ عنهم العلم: "أبو الفتوح نصر بن الحصري"، و"إبراهيم بن أحمد بن أبي سالم القريضي"، و"سعد الدين خلف بن محمد الحسناباذي"، و"محمد بن الحسين المرغيناني"، و"أبو منصور سعيد بن محمد بن الرزار". وكان أعلم أهل عصره في اللغة، وكان فقيهًا محدثًا. وتوفي ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان سنة 650 هـ الموافق التاسع من أغسطس سنة 1252 م، ودفن بداره في منطقة الحريم الظاهري ببغداد، ثم نقل إلى مكة فدفن بها، وكان قد أوصى بذلك، وأعد خمسين دينارًا لمن يحمله إلى مكة. ومن مؤلفاته اللغوية: • "مجمع البحرين" مجلدان في اللغة. • "العباب الزاخر" معجم في اللغة. • "الشوارد في اللغات". • "التكملة"، جعلها تكملة لصحاح الجوهري. • "الفحول". • "الأضداد". • "العروض". • "أسماء العادة". • "الفرائض". • "الضعفاء". • "كتاب الموضوعات". • "مشارق الأنوار في الجمع بين الصحيحين" في الحديث، ألفه للمستنصر العباسي. • "شرح البخاري". • "در السحابة في وفيات الصحابة". • "شرح أبيات المفصل". • "ما تفرد به بعض أئمة اللغة".
الخصوصية الثقافية الدافعة في مجال سَنِّ القوانين الخصوصية الثقافية الدافعة في مجال سَنِّ القوانين وتطبيقها تملي على متمثِّليها مهمة تسويقها، وليس بالضرورة فرضها بأي شكل من أشكال القوة السياسية أو الفكرية، فهي خصوصية دافعة تقتضي التأثُّر بها، وقابلية الأخذ منها [1] ، أما الخصوصية الحاصرة فهي شكلٌ من أشكال التمترُس وراء موروثات شعبية غير قابلة للتسويق، بل ربما إن متمثليها يقصُرون دون دفعها؛ لأنهم يرون أنها لهم وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم،أو أنها ربما تستغلُّ للإفلات مِن بعض الالتزامات الدولية [2] ، حينما تُستخدم في وجه الموافقة على مواثيق حقوقية دولية، بحجَّة أن مواد هذه المواثيق تتعارض في مجملها مع الثقافة، ومن ثم قد تخدش الخصوصية! وهذا تقوقع لا يقبله التوجُّه اليوم نحو القرية الكونية التي تصغُر تباعًا، لكنها على صغرها لا تُصادر الخصوصيات الدافعة. لذا فلا بُدَّ من العودة إلى التركيز على الخصوصية الثقافية الدافعة لا الحاصرة، وأخذها في الحسبان عند سنِّ النظم والقوانين الدولية التي تحكم العلاقات الإنسانية والاجتماعية [3] ، وتتبناها المنظمات الدولية الحقوقية وغيرها، وتستفيد منها في مراجعاتها لبنود حقوق الإنسان، على اعتبار أنها بديل لا يسعى إلى خدمة مصالحه الخاصة، كما هي بعض الأطروحات التي تنطلق من توجهات محدودة الانتشار [4] ، ومِن ثم تطالب الدول الأعضاء بتبنيها والعمل بموجبها. يأتي التركيز على هذا البعد في الخصوصية الدافعة من منطلق أن "كرامة الإنسان وحقوقه أمرٌ لازمٌ وثابت له، قد ينطلق من معتقد ديني أو نصٍّ قانوني أو موقف إنساني، لكن حقوق الإنسان تبقى في النهاية أمرًا لا بُد من سعي الأفراد والدول والمنظمات الدولية والجمعيات والمؤسسات المدنية للدفاع عن هذه الحقوق والمحافظة عليها" [5] . والمراد بهذه الكرامة والحقوق ما يتماشى مع فطرة الإنسان التي أقرَّتها التشريعات السماوية، وجاءت بها الكتب المنزلة، وبلَّغها الأنبياء المرسلون، وتبنَّاها المصلحون والمفكرون الإيجابيون مع مجتمعاتهم ومع المجتمعات الأخرى، المؤمنون بمفهومات التعارُف والتعاوُن والتحالف الحضاري بين الأمم. [1] انظر: رضوان زيادة. الإسلاميون وحقوق الإنسان: إشكالية الخصوصية والعالمية - ص 133 - 156 - في: مركز دراسات الوحدة العربية. حقوق الإنسان العربي - مرجع سابق - 300ص. [2] انظر: محمد فائق. حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية - ص 195 - 208 - في: مركز دراسات الوحدة العربية. حقوق الإنسان العربي - مرجع سابق - 300ص. [3] انظر: فوزية العشماوي. الحوار بين الحضارات وقضايا العصر: العولمة وآثارها على الخصوصيات الثقافية - الاجتهاد - ع 52 و53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ) - ص 97 - 112. [4] انظر: محمد فائق. حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية - ص 195 - 208 - في: مركز دراسات الوحدة العربية. حقوق الإنسان العربي - مرجع سابق - 300ص. [5] انظر: سعيد حارب المهيري. حقوق الإنسان في العلاقات الدولية الإسلامية - الاجتهاد - ع 52 و53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ) - ص 133 - 185.
بيت آل تيمية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد: فهذه وقفة سريعة مع بيت آل تيمية للتوضيح أن شيخ الإسلام ابن تيمية الحفيد نشأ في بيت علم وأدب وفضل، وذلك ردًّا على من ظهر يقول: إن ابن تيمية لم يكن له شيوخ، وإنما دخل في العلم وحده، وهذا الكلام لا يؤيده البحث العلمي لدى المنصفين. فشيخ الإسلام هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبدالله بن تيمية الحراني. وكنيته: أبو العباس؛ [العقود الدرية، لابن عبدالهادي ص:24]. قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (45 /134) رقم (134) في ترجمة محمد بن أبي القاسم الخَضِر، وهو عم جد شيخ الإسلام ابن تيمية: "حجَّ جدُّه ولَهُ امرأة حامل، فلما كَانَ بتَيْمَاءَ، رأى طِفلةً قد خرجت من خِباء، فلمَّا رجع إلى حَرَّان، وجد امرأته قد وَلَدَتْ بنتًا، فلمَّا رآها قال: يا تيميَّة، يا تيميَّة، فلُقِّبَ به. وأمَّا ابن النجَّار، فقال: ذَكَرَ لنا أنَّ جدَّه محمدًا كانت أمُّه تُسمَّى تيميَّة، وكانت واعظة، فنُسِبَ إليها، وعُرِفَ بها"؛ انتهى. ميلاد شيخ الإسلام ابن تيمية: كان مولد ابن تيمية يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران، سنة إحدى وستين وستمائة، وقدِم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير؛ ["البداية والنهاية"، لابن كثير(14 /142)]. وفاته: توفِّي رحمه الله في العشرين من ذي القعدة من عام 728 للهجرة في السجن في دمشق، ويعتبر المؤرِّخون جنازته من الجنازات النَّادرة، ويشبهونها بجنازة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. أسرته: (1) عم جده: مُحَمَّدُ بنُ الخَضِرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الخَضِرِ الحَرَّانِيُّ (ابْنُ تَيْمِيَةَ). الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، المُفْتِي، المُفَسِّرُ، الخَطِيْبُ البَارِعُ، عَالِمُ حَرَّانَ، سَمِعَ الحَدِيْث مِنْ: أَبِي الفَتْحِ ابنِ البَطِّيِّ، وَيَحْيَى بن ثَابِتٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بنِ النَّقُّوْرِ، وَسَعْدِ اللهِ بْنِ الدَّجَاجِيِّ، وَجَعْفَرِ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَشُهْدَةَ، وَجَمَاعَةٍ. وَصَنَّفَ (مُخْتَصَرًا) فِي المَذْهَب، وَلَهُ النَّظم وَالنَّثْر. وَرَوَى عَنْهُ: ابْنُ أَخِيْهِ؛ الإِمَام مَجْد الدِّيْنِ، وَالجمَال يَحْيَى بن الصَّيْرَفِي، وَعَبْداللهِ بن أَبِي العِز، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ إِلَيَاس الرَّسْعَنِي، وَالسَّيْف بن مَحْفُوْظ، وَأَبُو المَعَالِي الأَبَرْقُوْهِيُّ، وَالرَّشِيْد الفَارِقِي، وَجَمَاعَة. تُوُفِّيَ: فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَلَهُ ثَمَانُوْنَ سَنَةً؛ [له ترجمه في سير أعلام للذهبي (22 /289)]. (2) جده: عَبْدُالسَّلاَمِ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ الخَضِرِ الحَرَّانِيُّ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، فَقِيْه الْعَصْر، شَيْخ الحَنَابِلَة، مَجْد الدِّيْنِ، أَبُو البَرَكَاتِ عَبْدالسَّلاَمِ بن عَبْدِاللهِ بنِ الخَضِر بن مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ الحَرَّانِي، ابْن تَيْمِيَّةَ. وُلِدَ: سَنَةَ تِسْعِيْنَ وَخَمْسِيْنَ مائَة تَقْرِيْبًا، وَتَفَقَّهَ، وَبَرَعَ، وَاشْتَغَل، وَصَنَّفَ التَّصَانِيْفَ، وَانتهت إِلَيْهِ الإِمَامَة فِي الفِقْه، وَكَانَ يَدْرِي القِرَاءات، وَصَنَّفَ فِيْهَا أُرْجُوزَةً. قال الذهبي: سَمِعْتُ الشَّيْخ تَقِيَّ الدِّيْنِ أَبَا العَبَّاسِ يَقُوْلُ: كَانَ الشَّيْخ جَمَال الدِّيْنِ بن مَالِك يَقُوْلُ: أُلِينَ لِلشيخِ المَجْدِ الفِقْهُ كَمَا أُلِينَ لِدَاوُدَ الحديدُ. تُوُفِّيَ: بِحَرَّانَ، يَوْم الفِطْرِ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ. له كتاب منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني في كتابه: نيل الأوطار. واسم الكتاب: المنتقى من أخبار المصطفى؛ تحقيق محمد حامد الفقي، وقيل: المنتقى في الأحكام الشرعية من كلام خير البرية. عدد الأحاديث فيه 3926، رتَّبه على الكتب والأبواب الفقهية حسب طبعة الشيخ طارق عوض الله، وله ترجمه في سير الذهبي (22 / 291). (3) أبوه: هو شهاب الدين أبو المحاسن عبدالحليم بن مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله الحراني، والد الشيخ ابن تيمية ، من كبار أئمة الحنابلة وأئمتهم، وُلد في حران سنة627 هـ ، خرج مع عائلته من حران إلى دمشق عام 667 هـ بسبب استيلاء التتار عليها، وكان عمر ابنه الشيخ تقي الدين ابن تيمية 6 سنوات، كان يدرس بجامع دمشق، وتولَّى مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان مسكنه، ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده، توفي في السابع والعشرين من ذي الحجة عام682 هـ ، ودُفن في مقابر الصوفية بدمشق؛ [البداية والنهاية 13/ 320]. قال ابن القيم في مدارج السالكين (1 / 520): وكان شيخ الإسلام كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: أنا المكدي وابن المكدي *** وكذا كان أبي وجدي قال في "تاج العروس": المُكَدِّي بلُغَةِ أَهْلِ العِرَاقِ وهوَ الشحَّّاذُ؛ ا هـ. قال ابْنُ الأَعرابي: أَكْدَى: افْتَقَر بَعْدَ غِنًى؛ [لسان العرب (15 /217)]. وهذا من تواضُعه رحمه الله تعالى مع ما هُو فيه مِن عُلو ورِفعة. (4) عمته: سِتُّ الدَّار بنت مجد الدين ابْن تَيْمِية. قال ابن حجر العسقلاني في ترجمة رقم (1157) من "الدرر الكامنة": مُحَمَّد بن حمد بن عبدالْمُنعم بن حمد بن منيع بن أبي الْفَتْح الْحَرَّانِي التَّاجِر الْمَعْرُوف بِابْن البيع، وُلِدَ سنة 681 وَسمع جُزْء البانياسي بِقِرَاءَة الشَّيْخ تَقِي الدين ابْن تَيْمِية على عمته سِتِّ الدَّار بنت مجد الدين ابْن تَيْمِية حَاضرًا فِي سنة 683؛ راجع ["الدرر الكامنة" لابن حجر (5 /171)( 1157)]. "المسودة في أصول الفقه": من الشواهد على تواصل الأجيال في بيت آل تيمية، وأن الولد امتداد أبيه - كتاب "المسودة في أصول الفقه"، ألَّفها آل تيمية، بدأ بتصنيفها الجدُّ مجد الدين عبدالسلام بن تيميَّة (ت:652هـ)، وأضاف إليها الأب: عبدالحليم بن تيميَّة (ت:682هـ)، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية (728هـ). شيوخ ابن تيمية من غير بيت آل تيمية: قال ابن كثير: وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِحَرَّانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمَ مَعَ وَالِدِهِ وَأَهْلِهِ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ عبدالدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ عَطَاءٍ الْحَنَفِيِّ، وَالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَمَجْدِ الدِّينِ بْنِ عَسَاكِرَ، والشَّيخ جَمَالِ الدِّينِ الْبَغْدَادِيِّ، وَالنَّجِيبِ بْنِ الْمِقْدَادِ، وَابْنِ أَبِي الْخَيْرِ، وَابْنِ عَلَّانَ وَابْنِ أَبِي بكر الهروي، وَالْكَمَالِ عَبْدِالرَّحِيمِ وَالْفَخْرِ عَلِيٍّ وَابْنِ شَيْبَانَ، والشرف ابن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث؛ [البداية والنهاية، لابن كثير( 14 /142)]. قال ابن عبدالهادي: شيوخ ابن تيمية الذين سَمِعَ منهم أكثرُ من مائتي شيخ؛ [العقود الدرية، لابن عبدالهادي، ص 19]. ثم قال ابن عبدالهادي أيضًا: "سمع شَيخنَا الْكثير من ابْن أبي الْيُسْر والكمال ابْن عبد، وَالْمجد بن عَسَاكِر، وَأَصْحَاب الخشوعي، وَمن الْجمال يحيى بن الصيرفي، وَأحمد بن أبي الْخَيْر، وَالقَاسِم الإربلي، وَالشَّيْخ فَخر الدين بن البُخَارِي، والكمال عبدالرحيم، وَأبي الْقَاسِم بن عَلان وَأحْمَدْ بن شَيبَان، وَخلق كثير". هذا والله وحده من وراء القصد.
إضاءات حول مقال د/سيد أحمد الناصري "تأملات في قضايا ومشكلات تاريخ الجزيرة العربية في عصور ماقبل الإسلام" وكتاب إلويس موسيل "صحراء شمالي الجزيرة العربية " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين؛ وبعد: تحدث د. سيد الناصري في مقاله عن أخطاء المستشرقين الذين كتبوا في تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام في النقاط التالية: ♦ أن منهم من هو متأثر بحرفية نصوص التوراة، خاصة بتاريخ العرب القدماء، وحتى يحافظوا على هذه الحرفية نجدهم يحولون مجرى الأحداث؛ حتى يتماشى مع تفسير نصوص التوراة. مثل: مرحلة المؤرخين الذين كانوا أسرى لنصوص الإلياذة؛ حيث فسروا المكتشفات الأثرية في ضوء أبياتها على نحو ما فعل سليمان. ♦ قليل من يرجع من المستشرقين للقرآن الكريم الذي هو أدق وأكثر معرفة بأصول العرب في جاهليتهم الأولى والثانية، فهو مصدر رباني لم يتعرض لأقلام البشر كما حدث في التوراة والانجيل التي حرفت، قال تعالى عن القران الكريم: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] . ♦ كذلك قليل ما يرجع المستشرقون إلى كتب التراث العربي أو كنوز الشعر العربي في الجاهلية. ♦ فّضل المستشرقون نصوص المصادر الإغريقية والرومانية، بالرغم من اعترافنا بأهميتها إلا أنها كانت من الدراسات الحديثة لم تفهم تراث الشرق الذي كان في نظرها غريبًا وأسطوريًا، وهذا ما أتضح من كتابات هيردوت عن جزيرة العرب أو ما كتب لأهداف سياسية كما هو الحال في النصوص الرومانية. ♦ إن عقدت الغرب ونظرة الاستعلاء على الشرق جعلته يتحدث عن الجزيرة العربية من وجهة نظره لذا يجب ألا نؤمن بصحتها إيمانًا كاملًا. نستنتج من ذلك اختلاف المصادر التي يستقي منها المستشرقون في دراسة تاريخ العرب قبل الإسلام عن المصادر التي أوصى د/ سيد الناصري الباحثين بها على أن تكون منهجًا عربيًّا لدراسة تاريخ الجزيرة قبل الإسلام وهي حسب الأولوية على الترتيب الآتي: ♦ القران الكريم، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] . ♦ الحديث الشريف حديث خاتم الأنبياء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ♦ النقوش والكتابات والزخرفة والمكتشفات الأثرية من التماثيل و الرقم الطيني، والعملة وأدوات طبخ، وأدوات زينة.. الخ. ♦ التوراة والإنجيل مع التدقيق والتمحيص ومقارنتها بما يتفق بما جاء به القران الكريم من أخبار الماضين وترك ما يتنافى منها مع القرآن الكريم لأنها كتب دينية محرفة من البشر. ♦ نصوص كتاب الإغريق والرومان. ♦ القصائد الشعرية (الشعر ملحمة العرب). ♦ المباني المعمارية (معابد - دور - ومقابر). أورد د. سيد الناصري أمثلة على تجاوزات المستشرقين فعلى سبيل المثال: ♦ ماورد في كتاب مونتجمري عن جزيرة العرب في التوراة، كان أصل مجموعة مقالات عام 1930 م، أصدرت كتاب عام 1933 م، وأعيد نشرها عام 1969 م، بعد أن كتب له جون فان بيك مرفق لتصحيح أخطائه، وفض الاشتباك بين ما كتبه المستشرقون الأوربيون واليهود في ضوء التوراة، وبين الحقائق الجديدة التي كشفت بالتنقيب والمسح الأثري؛ مثل: عام 1969 م خاصة بالمملكة بموقع الفاو (لكن الاستاذ جون لم يستطع فض الاشتباك) . نلاحظ أن كتاب مونتجمري مر عليه حوالي 60 عامًا، لذلك يجب على العقل العربي أن يستيقظ من سباته ويحرر تاريخ أشرف البقاع من بلاده من احتكار مفسري التوراة وهيمنة العقل الأوربي. بالمقال يورد كاتب المقال د. سيد الناصري مثال للجانب الإيجابي الذي شهدته الجزيرة العربية من نهضة بعد الحرب العالمية، حيث حملت جامعاتها رسالة البحث عن تاريخها العريق وإزاحة تلال الرمال عنه، وقيامها للتنقيب عن آثارها بسواعد أبنائها.. فكشفت عن مصادر جديدة وصححت مفاهيم تقليدية عتيقة، استقلت عن التبعية لتاريخ بني إسرائيل القديم الذي كان الهدف الأول لكثير من المستشرقين، وإعادة النظر في آراء مونتجمري. وأورد د. سيد الناصري مثالًا حول رؤية الباحث المسلم من خلال القرآن الكريم الذي حفظه الله سبحانه وتعالى لنا، ورؤية المستشرقين لها من خلال التوراة والأناجيل المحرفة، حول زيارة بلقيس ملكة سبأ لسيدنا سليمان عليه السلام وأنها لعلاقات تجارية بينهما، بينما نجد أن القران الكريم يضع بعدًا جديدًا في ذلك، وهو الصراع الديني بين وثنية الجنوب ووحدانية الخالق في الشمال، أما أ/ بيك فيقول بوجود ارتباط تجاري بين فلسطين القديمة وسبأ، مستدلًا بأن جيمس وجد مباخر عربية جنوبية في تل حميه للضفة الغربية لنهر الأردن. نقول أن المباخر وجدت بكل مكان وليست محصورة بمكان بعينه في الجزيرة العربية، وأنه بالمقابل لم توجد مواد عبرية بجنوب الجزيرة العربية، وهذ ا ليس دليل يستند إليه. أن الجزيرة العربية شهدت حضارات بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها وسواحلها الجنوبية الشرقية عمان ( ماجان ) ( ميلوخا ) سواحل الخليج التي كانت تحت ظل حضارة بلاد الرافدين حتى سقوط آشور ثم تحولت لنفوذ الفرس. وما حضارة جنوب الجزيرة العربية إلا مثال لما اشتهرت به من أنظمة الري وبناء السدود للحفاظ على مياه الأمطار ( وادي بيجان ) بالقرب من حجر بن حميد وغيره، كما اشتهرت بالمنمنمات الزخرفية البارزة ( الدانتيل ) وفتحات الهواء والنوافذ ذات المشربيات مثل معبد المقه في مأرب الشهير بمحرم بلقيس. وغير ذلك الكثير. فكانت الحضارات العربية في الجزيرة العربية منذ القدم - وهنا دلالة كثيرة على تطوراتها عبر العصور - من مصادرنا المختلفة وأولها القران الكريم وآخرها عمليات التنقيب والبحث في الجزيرة العربية على يد أبنائها، إنها لدلالة أن للجزيرة العربية عمق حضاري عربي قديم. يجب على الباحث عدم الاعتماد الكلي على ما يكتبه المستشرقون دون تمحيص وتدقيق في بحوثهم و في دراستهم خاصة لتاريخ الجزيرة العربية قبل الاسلام مثل: الويس موسيل الذي كانت كتابته عن دراسة تاريخ الجزيرة قبل الاسلام تعتمد اعتمادًا كليًّا على التوراة والإنجيل ويحاول كتابته على مفسري نصوصها. ونحن بذلك لا ننكر جهودهم في البحث والتنقيب والمسح الأثري والعثور على مكتشفات أثرية لتلك الحقب البعيدة، ولكن نوجه الباحث في التاريخ القديم بالأخذ بالحذر الشديد في النقل والكتابة من مصادرهم التي يعتمدونها، لذلك كانت أراء وكتابات د. سيد الناصري رحمه الله جميعها سديدة، وخاصة فيما يتعلق بالمصادر التي يجب على المؤرخ في التاريخ القديم للجزيرة العربية الاعتماد عليها حسب أولويتها وأهميتها. هذا والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
زكريا ويحيى ذكر الله زكريا في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران، ومن الجمع بين السورتين سنكوِّن فكرة عن زكريا وابنه يحيى؛ قال الله تعالى: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ [مريم: 1، 2]، في الآية الكريمة: وجهان، وكلاهما جيد: إما أن يكون ﴿ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ [مريم: 2] صفة لزكريا، بمعنى أن زكريا بدل أو عطف بيان، ويكون المعنى أن الله تعالى يبين لنا في هذا الكتاب الكريم ذكر عبده زكريا بشيء من التفصيل في الجانب الذي أراد الله أن يبرزه في حياة هذا النبي لتتم الفائدة والعبرة منها لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على مدى الدهر، وقد عودنا القُرْآن الكريم في سيرة كل نبي أنه يختار منها الجانب الأهم دون التطرق إلى مسيرة النبي كاملة خلال مسيرة حياته ودعوته في قومه، فهناك ولا شك أمور متشابهة في حياة الأنبياء، وذِكرها كلها سيكون من باب التكرار، وفي واحدة منها تتحقق الفائدة؛ وذلك لأن القصد من ذكر سير الأنبياء وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبِّتَه ويقوي بها فؤاده ويعلمه عن أشهر ما مر به كل نبي من المحن والابتلاء مع قومه، أو بما امتُحن به في نفسه وأهله، وإظهار حالته التي عاش عليها، ومدى صبره وعزمه وتوكله؛ ولذلك تنوعت قصص الأنبياء وتباينت أخبارهم، وفي كل منها دروس مستفادة وعبر في مسيرة الحياة. وإما أن يكون رحمة ربك بعبده زكريا، على تقدير حذف حرف الجر وانتصاب (عبده) بنزع الخافض، ورحمة الله بعبده زكريا باستجابة دعائه؛ ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3]؛ فقد نادى ربَّه ودعاه بصوت خفي لا جهر فيه؛ وذلك ليكون سرًّا بينه وبين ربه، فهناك نداء القلوب خفقًا لخالقها، وهناك نداء العيون فيضًا من الدموع، وهملانها في موقف الخشية والرهبة من الخالق العظيم، وهناك نداء الجلود قشعريرة وانكماشًا؛ تعبيرًا عن الخضوع والذلة لله المعبود، فما أحسن النداء الخفي في هدأة الليل والناس نيام! والمستغيث بالله قائم يتضرع وينادي الله وهو السميع العليم، فلا يريد بندائه أن يوقظ الليل من سكونه، كأنما يريد الانفراد بربه والتضرع له ليكون أبلغ في الخشوع، وأجمع لاستحضار القلب وثبات الجنان، فينطلق اللسان بالذكر والشكر ما لا ينطلق في الجهر والإعلان، ويكون الاتصال بالله قويًّا، والإجابة حاضرة لا تبطئ، وقد لا يريد الداعي إظهار ما يريد من ربه على الملأ، إما حياءً وإما رهبة من الناس وخشية من ظالم أمعن في الظلم، فما كان لردعه إلا سهام الليل تنطلق من والهٍ حزين تناجي نصير الضعفاء والمساكين في ساعة غفل فيها الناس، واستسلمت للنوم أجفانهم، إلا ذلك المقهور المظلوم فإن ألمه صَحْو وجرحه ثرثار، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4]، فماذا كان فحوى دعائه؟ كان دعاءَ يشخِّص حالته وما وصل إليه، وهذا ما جعله يخفي الدعاء ويُسرُّه، يشكو مما وصل إليه من أنه تقدم في العمر؛ فقد رق جلده ووهن عزمه ودق عظمه واشتعل شيب رأسه بياضًا، وهذا دليل كِبَر السن، ثم يتبع شكواه بحسن ظنه بالله وتعوده على كرم الله ومنِّه عليه بالاستجابة، بأنه كان مستجاب الدعاء، وهذا ما تعود عليه من ربه، فلم يرُدَّ الله دعاءه في يوم من الأيام، بل كان بدعائه هنيئًا سعيدًا، ويتابع زكريا الإفصاح عن مكنون دعائه الخفي: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5] فقد خاف ذوي قرباه الذين يحق لهم أن يرثوه، فلماذا الخوف من الأقرباء؛ ألم يكونوا على مستوى المسؤولية؟ إن زكريا أكثرُ معرفةً وخبرة بأمرهم؛ فلعلهم كانوا ممن لا يؤتمنون على الدعوة وعلى إرث زكريا، إنه بالطبع غير خائف لو كانوا سيرثون ماله، فهو ليس من ذوي الأموال، وإنما الخوف على تضييع الأمانة التي سيتركها لهم؛ أمانة العلم والدعوة إلى الله، قيل: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين؛ فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب وليًّا يقوم به بعد موته، فكان إذًا لب الدعاء الخفي لزكريا: أنه يطلب من الله ولدًا يخلفه، ويشكو أن امرأته كانت عاقرًا؛ لذلك يحار في كيفية المخرج من هذا الهم، فأوكل الأمر إلى الله القادر، والظاهر أن الذي شجعه على هذا الطلب ما رآه عيانًا من أمر مريم، ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 37، 38]، لقد شاهَد عيانًا ما كان يأتي مريمَ من الرزق، وهو بلا شك من الله الرزاق ذي القوة المتين، ولم لا يلجأ إلى الله في طلب الوريث؟ فالذي جعل الطعام يفيض في محراب مريم بأشكاله المتنوعة قادر على منح زكريا هذا الوريث؛ لذلك لهج لسانه بالدعاء، وفي هذه المرة طلب "ذرية طيبة"، والله هو المانح، ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 6]، وأكد زكريا على ما يريده من الوريث، وريث نبوة وعلم، لا وريث مال وعقار؛ لأنه ذكر في معرض دعائه آل يعقوب، وهم الذين وضع الله فيهم النبوة تسلسلًا حتى زكريا، ولم ينسَ هذا الوريث من الدعاء له؛ ليكون صالحًا ينال رضاك يا رب، ويفوز أيضًا برضا الوالدين، فيكون في الحالين مرضيًّا. سبحانك ربي!! ما أسرع ما تستجيب لعبادك الصالحين عندما يحتاجون لعاجل رحمتك وجميل فرجك! ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7]، إنها بِشارة وأيَّة بشارة؟! يسأل الله فيأتيه الجواب الشافي والرد المبهج، ألا ينبغي أن تكون بشارة رائعة تعلو بالنفس إلى قمة بهجتها وسمو تطلعها، يا لزكريا من عبد محبوب! نعم بالرضا والقبول من ربه، يهبه الولد كما طلب، وزاد تمييزه باسم فريد لم يسمَّ به أحد من قبل؛ فالله العالم بالأسماء من حين أن خلق الخلق اختار له اسمًا فريدًا يعرف به هو، ولا يشاركه أحد فيه، فإذا قيل: يحيى، فهو يحيى بن زكريا لا سواه، عَلَم متميز لا لبس فيه مع سمي آخر. ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]، عاد مِن صدمة البشارة التي تلقاها وما رافق ذلك من فرح في النفس وبهجة عارمة ليسأل سؤال مستعلم مستوضح - وهو يعلم أن الله لا يُعجِزه شيء - لأن في هذه البشارة معجزة وخرقًا للعادة والقانون الذي وضعه الله في الأرض، فهناك وفق القانون الدنيوي عقبتان أمام إنجاز البشارة: امرأة عاقر، وبلوغ سن كبيرة، قد يتعذر عليه ممارسة الجنس مع زوجه، أو في تولد الحيوانات المنوية في هذه المرحلة العمرية المتقدمة جدًّا، ولكن الله الذي بشر بيحيى بيده مقاليد الأمور، إذا قال للشيء: كن، فيكون. ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]، فكان الجوابُ مِن الله العلي القدير مؤكدًا ما أراده الله وقدره، وأنه أمر هين على الله، وكان خلق الإنسان من قبل - الذي أنت منه - من العدم، فلم يكن شيئًا، وبقدرتي أنا الخالق العظيم كان، فكيف والأمر الآن؟ فإيجاد الولد بطريق التوالد المعتاد من التقاء النطفة بالبويضة أهون وأسهل، ولكي يطمئن قلب زكريا، ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ [مريم: 10]، ولقد فُسر هذا بما جاء في سورة آل عمران: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]، فسوف تمرُّ عليك ثلاثة أيام بلياليها، تمتنع فيها عن الكلام دون علَّة الخرَس، فيربِط الله على لسانك فلا تستطيع الكلام باستثناء التسبيح؛ لذلك أمر بالتسبيح صباح مساء، وقال ابن عباس: اعتُقل لسانه من غير مرض، وأن لغة المخاطبة مع قومه ستكون بالإشارة، فيستعمل للمخاطبة مع المؤمنين الذين يكلمونه إشارة الخرس في هذه الأيام الثلاثة ريثما تنقضي، وبعدها تنحل عقدة لسانه. ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]، وهكذا ظهرت عليه علائم الآية؛ فمنعه الله من الكلام رغم محاولته الكلام؛ لذلك لما خرج على قومه من المحراب وسألوه لم يستطع الإجابة، فأشار لهم باليد بأن يسبحوا الله بكرة وعشيًّا، وقيل: كتب لهم هذا الأمر كتابة، وتحققت البشارة وأقبل يحيى إلى الدنيا، وريث حق شرعي لوالده في النبوة والحكمة والدعوة إلى الله. نهاية زكريا: كان زكريا من أحبار بني إسرائيل، وكان له الشرف في كفالة مريم؛ فقد نذَرت أمُّها أن تهب حمل بطنها للخدمة في المعبد، فكانت المولودةُ أنثى، ومع ذلك وهبتها للمعبد كي تتربى فيه، وكان والدها عمران قد توفي وهي حامل، وكان كبيرَ الأحبار وإمامهم في الصلاة، وهنا تطوَّع زكريَّا بكفالتها وتربيتها؛ لأنه زوجُ خالتِها، وأبى عليه زملاؤه؛ فكل يريد أن يكفلها تقربًا إلى الله وعرفانًا بفضل حبرهم عمران، فاقترعوا فيما بينهم بأن يلقوا أقلامهم في نهر الأردن، فالذي يثبت ولا يجرفه التيار يُضحي كفيلها، وهكذا جرف التيار المائي كل الأقلام، ما عدا قلم زكريا، فتمت له كفالتها، فضمها إلى خالتها لتربيتها، والخالة - كما قال عليه الصلاة والسلام - بمنزلة الأم، وكان زكريا كبير الأحبار وإمامهم ونبيهم، وقد ورد في خبر أن زكريا كان يعمل بالنجارة لكسب قوت يومه، وربما هذا في فترة شبابه، أما وفاته فكان فيها غرابة وعبرة، وقد ذكر أنه كان يصلي في المحراب وإلى جانبه ابنه يحيى يصلي أيضًا، ثم أتى الزبانية بأمر من الحاكم يطلبون يحيى لقتله فقتلوه وأبوه في صلاته لم يقطعها وحملوا رأسه إلى الحاكم، فما أمسَوا حتى خسف الله بهم، قال مناصرو الملك: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا، فطلبوا زكريا ليقتلوه، فهرب منهم، فانصدعت شجرة ونادته ليختبئ في جوفها ففعل، لكن طرف ردائه ظل خارج الشجرة فعرَفوه، وقيل: دلَّهم عليه إبليس اللعين، ثم أتوا بالمنشار فنشروه مع الشجرة فقطعوه نصفين، فانظر إلى حكمة الله تعالى، إن صح هذا الخبر، أن زكريا طلب من ربه من يرثه، ولو ترك الأمر لله لكان أجدى، فاستجاب الله لطلبه ورزقه ولدًا ذكيًّا، محفوظًا نبيًّا، ثم شهد مصرعه ومات قبله، فلم تتم الوراثة كما طلبها زكريا، بل لقد رأى ولده فِلذةَ كبده يقتل أمام ناظريه، أليس هذا قاسيًا على قلب الوالد؟ لكنها حكمة الله، وهناك رواية أن مريم لما ولدَتْ عيسى عليه السلام اتهمها بنو إسرائيل بالزنا، واتهموا زكريا بأنه الفاعل؛ لأنه بنظرهم الوحيد الذي كان يدخل عليها، فاتفقوا على قتله، فهرَب منهم واختبأ في الشجرة، وعلى هذا القول يكونُ قد مات قبل ابنه يحيى.
القطوفُ الدَّواني في مآثر العلَّامة محمَّد بن إسماعيل العمراني رحمه الله تعالى (1340- 1442 هـ) انتقل عن دار الفناء بعدَ حياةٍ عامرةٍ في خدمة العلوم الشَّرعيَّة وميادين التَّعليم والقضاء والدَّعوة والإفتاء، علَّامةُ اليمنِ الميمون، ملواحُ كلِّ فلاح، ومصباحُ كلِّ صلاح، مُربِّي الأجيال شيخنا العلَّامة القاضي الجليل الشَّيخ محمَّد بن إسماعيل العمراني، تغمَّده الله برحمته ورضوانه، وأورده موارد مغفرته وإحسانه، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.. وهو أحدُ أعلام الدِّيار اليمنيَّة وعلمائها، ومُفتيها وقاضيها، ومحدِّثُها وفقيهُها، وشيخُ أهل السُّنة فيها، وخزانةُ معارفها وآدابها، وبهجةُ نبهائها، ومهجةُ ألبَّائها، درَّسَ وأفاد وأفتى، وتميَّز بمكارم وفنون شتَّى، حازَ من الرُّتب المُنيفة أعلاها، ومن الأوصاف الشَّريفة أغلاها وأسناها، نالَ من الفضائلِ والعرفان، ما قدَّمه على الأمثالِ والأقران، وهو من أهل بيتٍ قد عمَّرَ بالعلم ربوعَه، وزيَّنَ بالفضل أصولَه وفروعَه. لا تذكُرَنَّ لَهُ المكارمَ وَالعُلى *** فَتهيجَ صَبًّا أَو تشُوقَ مُشَوَّقا اشتغلَ منذ نشأته بالعلمِ والتَّحصيل، وأدركَ كبارَ علماء اليمن ذوي القدر الجليل، فخاضَ بحارَ المنقول، وقطعَ مفاوزَ المعقول، وكان مشمِّرًا عن ساعد الجدِّ والاجتهاد، متوقِّدًا ذكاءًا مع ارتياض وارتياد، سالكًا طريقة الإمام الشَّوكاني والإمام ابن الأمير الصَّنعاني، ومجدِّدًا لمدرستهما في العلم والتَّعليم والفُتيا والقضاء، عالمًا بمناهجِ العلماء واختلافِ المذاهب، مُطِّلعًا على المِلَل والنِّحل والغرائب، مُتمسِّكًا بالدَّليل والسُّنَّة، ذا نفسٍ رويَّةٍ مُطمئنَّة، مواظبًا على الطَّاعة، حافظًا أوقاته عن الإضاعة، صدَّاعًا في قوله، معتمدًا على الله تعالى في قوَّتهِ وحولِه، لا يميلُ مع نفسِه إلى مُلائم، ولا تأخذُه في الله لومة لائم، لطيفَ المعشرِ والكلام، حسنَ السِّيرةِ بين الأنام. طَودٌ تنوَّرَ من هُدى الرَّحمنِ وسَرى بقلبٍ عامرِ الإيمانِ وكساهُ من حُلل الوَقارِ إلهَهُ حتَّى تميَّز بالسَّنا الرَّبَّاني وممَّا تميَّزَ به: دعوته إلى توحيد الصَّفِّ بين المسلمين وجمع كلمتهم ونبذ الفرقة والاختلاف، وإحياؤه للسُّننِ الَّتي أُميتت، وإزالته للبدعِ الَّتي أُذيعت، وتواضعه وتوقيره لأهل العلم والفضل من مُعاصريه، فاشتهر علمه وفَاق، وسما قدره في الآفاق، وانتفع بعلومه الكثير، وأخذَ عنه الجمُّ الغفير، وممَّن تشرَّفتُ بحمد الله بلقائه والقراءة عليه وحضور دروسه ومجالسه، فكان بدرًا مُنيرًا للطَّالبين، وبحرًا زاخرًا للسَّائلين، فاﻓ‍‍ﺘ‍‍ﺨ‍‍ﺮَ ‍ﺑ‍‍ﻪ‍ ‍ﻋ‍‍ﺼ‍‍ﺮ‍ُﻩ‍، ‍ﻭ‍ﺍ‍ﺷ‍‍ﺘ‍‍ﻬ‍‍ﺮ‍َ ‍ﺑ‍‍ﻪ‍ ‍ﻣ‍‍ِﺼ‍‍ﺮ‍ُﻩ‍، ولم يزل على حالته المرضيَّة، وإفادته السَّنيَّة، إلى أن اخترمته المنيَّة، وكانت جنازته مشهودة في ازدحام المُشيِّعين، وكثرة الحاضرين المُحبِّين، فقد شيَّعه أهل البلد، ولم يتخلَّف عنها كبير ولا ولد، وغصَّت الطُّرقات من الازدحام، وعلَت الأصوات بالدُّعاء الَّذي لا يُرام، أحسن الله قراه، وجعل الجنَّة مأواه ومثواه، وبلَّغه ما يرجوه، وضوَّاه بالمغفرة يوم تبيضُّ وجوه، وعوَّضَ الأمَّةَ بفقد علمائها وصُلحائها العاملين، وأحسنَ عزاء أهله وطلَّابه ومُحبِّيه، وأخلف على المسلمين خيرًا، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]. إن عُدَّت العلماء فهو إمامُهم شهدت له بفضائل ومآثرِ قد حازَ أنواع المعالي جملةً بوراثةٍ من كابرٍ عن كابرِ سعدت بسيرة فضله أوقاته مسرى النَّسائم في رياضٍ أزاهرِ ولَم تزل هذه الشَّريعة الغرَّاء ذي المحجَّة البيضاء، واضحة البُرهان، مشيَّدة الأركان، بوراثة العلماء، وجهابذة العظماء، على خدمتها قوَّامون، ورعايتها قائمون، للأحكام يستخرجون، وللدَّقائق الجِسام يَستنبطون، وكلَّما مَضى سَلف، أعقبه خَلف، وهكذا حتى تقوم السَّاعة، وتنقضي الدُّنيا الَّتي هي كساعة، فلله من خصيصةٍ بهذه الأمَّة اختصَّت، وامتازت بها عن غيرها وجلَّت. وما الإنسانُ في الدُّنيا خلودٌ ولكن ربما صنعَ الخلودا وأعني في كلامي أهلَ علمٍ إذا تركوا لنا علمًا فريدا يخلَّد ذكرَهم عِلمٌ قويمٌ وجيلٌ يخدمُ العلمَ التَّليدا الإثنين: الثَّاني من ذي الحجَّة 1442هـ.
أحكام الهدم والنقض في الفقه الإسلامي لخالد بن عبدالله آل سعيد صدر حديثًا كتاب "أحكام الهدم والنقض في الفقه الإسلامي دراسة فقهية مقارنة"، تأليف: د. "خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن آل سعيد"، تقديم: د. "هشام قُريسة"، نشر: "دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدَّم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الزيتونة بتونس، وتبحث فيما يتصل بالأحكام المتعلقة بالتصرفات والأفعال والعقود الجارية على غير مقتضى الشرع، فإن حكمها الإبطال، والإبطال إما هدمٌ وإما نقض، والنقض هو بدوره هدم، ولكنه هدم حُكميٌّ، فإن الباطل من الأفعال والعقود والتصرفات لا يجوز استمراره ويجب هدمه؛ لأن قيامه لم يكن على أساس ديني أو إذنٍ شرعي. وتظهر أهمية هذه الرسالة في ارتباطها بشؤون المسلم في أمور عباداته ومعاملاته، خاصة وأنها تتصل بأحكام تصرفات خارجة عن نطاق مقتضى الشريعة مما استوجب إبطالها، فما كان مجاله حسيًّا فإنه يُهدم؛ كالبناء بغير ترخيص في الأماكن المستوجبة للترخيص، أو كالبناء في مِلكٍ عام لأمرٍ خاص، وكالبناء في مكان خطير كمجرى الوادي، وكبناء جناح لبيت مما يتسبب في تضييق الطريق، أو كجدار مائل قد يشكل خطرًا على المارة، وكالبناء على الأرض المغصوبة، فإن كل هذا حكمُه الهدم. أما ما كان مجاله معنويًّا؛ كالعقود الباطلة، والالتزامات والتصرفات اللامشروعة الواقعة على غير مقتضى الشريعة، فإن حكمها النقض، ومعناه: فسخ هذه العقود وحلُّ ارتباطاتها، ومن أنواع هذه العقود التي تُنقض ما تبرمه الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى في مجال العلاقات الدولية، من الصلح، والسلم، والهدنة، والتعامل التجاري والاقتصادي، فإنه إذا آلت الأوضاع مع هذه الدول إلى وقوع المفسدة العظيمة، أو توقُّعها توقعًا راجحًا، فإن للمسلمين أن ينبذوا هذه العقود ويبطلوها. ومن ذلك أيضًا عقود المعاوضات، كالبيع مثلًا، فإن المعقود عليه - ثمنًا كان أو سلعة - إذا كان شيئًا غير طاهر، أو غير معلوم، أو كان غير منتفع به، أو غير مقدور على تسليمه، أو كان أحد العاقدين لا يملك الأهلية لإبرام العقد لعارض من العوارض القادحة فيها؛ كالجنون أو العته، أو الصغر أو السفه، أو الإفلاس، أو السكر، أو المرض - مرض الموت - فإن هذا العقد يكون باطلًا، ولا تترتب عليه آثارُه الشرعية، وقد يكون فسخ العقد بالتراضي بين العاقدين، ويسمى (إقالة) أو (فسخًا اتفاقيًّا)، وهو رجوع كل من العوضين لصاحبه، فيرجع الثمن للمشتري، والمثمَّن للبائع، وأكثر استعمالها قبل قبض المبيع. وكذلك عقد الإجارة، وعقود الزواج، وعقود المكارمة، وعقود التبرعات، كل هذه العقود تنقض بأسباب وجيهة عدَّدها الفقهاء ووضحوها. كذلك نجد أنه بالنسبة لنقض الحقوق، فإن جملة من الحقوق؛ كحق (الشفعة)، وحق (الضمان)، وحق (الميراث)، وحق (الطلاق)، تعتريها أسباب توجب إبطالها ونقضها، على اختلاف بين المذاهب في أحكام مسائلها، وقد اعتنت كتب الفقه ببيانها وتفصيلها، وقد أشار إليها الباحث واستقصى أسبابها ونتائجها. وقد ختم الباحث رسالته بفصل عنون له: (نقض الأحكام في السياسة الشرعية)، وقصد بذلك نقض أحكام القضاء والحسبة، وهذا من الأهمية بمكان، فغالب مسائل هذا الفصل ترتبط بجلب المصلحة ودرء المفسدة، وما يتصل بإقامة الحدود والتعازير، وكذلك ما يتصل بإنصاف المظلومين من الظالمين، خاصة إذا كان الظالم من أهل الولايات، وما يتصل بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى في وقت السلم والحرب، ويتصل بالعلاقات التجارية وغيرها. وقد جاءت الدراسة في مقدمة، وتمهيد، وبابين، تندرج تحتها عدة فصول ومباحث، وخاتمة، هذه بيانها: فصل تمهيدي: تمهيد: المبحث الأول: حقيقة الهدم: المطلب الأول: تعريف الهدم. المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة. المبحث الثاني: مشروعية الهدم، والحكمة منه: المطلب الأول: مشروعية الهدم. المطلب الثاني: الحكمة من مشروعية الهدم. المطلب الثالث: الدولة تتكفل بهدم ما يستحق الهدم شرعًا عند خوف مفسدة أعظم. المبحث الثالث: أنواع الهدم والنقض: المطلب الأول: الهدم الحقيقي. المطلب الثاني: الهدم المعنوي (التقديري). الباب الأول: أحكام الهدم في الشريعة الإسلامية (الهدم الحقيقي). الفصل الأول: هدم دور العبادة والآثار المترتبة عليها. تمهيد: المبحث الأول: هدم الكنائس والمعابد القديمة. المطلب الأول: تعريف المعابد القديمة. المطلب الثاني: أحكام الكنائس والمعابد القديمة من حيث الهدم وعدمه. المطلب الثالث: حكم تجديد ما خرب من الكنائس والمعابد القديمة. المبحث الثاني: هدم المساجد: المطلب الأول: هدم مسجد الضرار والمباهاة. المطلب الثاني: هدم المسجد إذا تعطلت منافعه. المطلب الثالث: انهدام المسجد. المبحث الثالث: انهدام الكعبة: المطلب الأول: هدم الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم عليه السلام. المطلب الثاني: كيفية الطواف حول الكعبة إذا انهدمت. المطلب الثالث: هدم ما بني في أرض المناسك. المبحث الرابع: الآثار المترتبة على هدم دور العبادة المطلب الأول: من الآثار المترتبة على هدم المساجد وتعطلها. المطلب الثاني: الأثر المترتب على انهدام الكعبة. المطلب الثالث: تعطل الجهة الموقوف عليها. المطلب الرابع: من الآثار المترتبة على هدم الكنائس. الفصل الثاني: هدم وسائل الشرك والتعظيم والآثار المترتبة عليها. المبحث الأول: هدم الأصنام والأوثان والتماثيل والصور: المطلب الأول: تعريف الأصنام والأوثان والتماثيل والصور والفرق بينهما. المطلب الثاني: هدم الأصنام والأوثان. المطلب الثالث: هدم التماثيل والصور. المطلب الرابع: اقتناء الصور واستعمالها. المبحث الثاني: هدم ما بُنِيَ على القبر: المطلب الأول: هدم ما ارتفع من القبر. المطلب الثاني: هدم البناء على القبر. المطلب الثالث: هدم القباب المبنية على القبور. المطلب الرابع: هدم المسجد المبني على القبر. المبحث الثالث: الآثار المترتبة على هدم مظاهر الشرك والتعظيم: المطلب الأول: حماية التوحيد. المطلب الثاني: الوقف لبناء مسجد على قبر. المطلب الثالث: النذر للبناء على القبور. المطلب الرابع: الصلاة في المساجد التي على القبور. المطلب الخامس: نبش القبر إذا بني في المسجد. المطلب السادس: هدم المسجد إذا بني على قبر. المطلب السابع: لا يضمن من هدم قبرًا مشرفًا. المطلب الثامن: الضمان في إتلاف الصور وآلات التصوير. المطلب التاسع: حكم ضمان إتلاف الأنصاب ونحوها. المطلب العاشر: حكم التصرف في أنقاض الوقف. الفصل الثالث: هدم ما فيه ضرر والآثار المترتبة عليه: تمهيد: المبحث الأول: تعريف الضرر، وقاعدة الشريعة الإسلامية فيه: المطلب الأول: تعريف الضرر. المطلب الثاني: قواعد الشريعة الإسلامية في الضرر. المبحث الثاني: مسائل الهدم المتعلقة بالإضرار: المطلب الأول: هدم أماكن المعاصي ودُور المنكر. المطلب الثاني: هدم المقتطع من طريق المسلمين. المطلب الثالث: هدم الأبنية القديمة المهجورة. المطلب الرابع: هدم القبور المبنية على الأرض الموقوفة. المطلب الخامس: هدم ما بني على الأرض المغصوبة. المطلب السادس: هدم الحمامات لاجتناب استقبال القِبلة. المطلب السابع: هدم ما بني على حريمِ نهرٍ. المطلب الثامن: هدم الحائط المائل. المطلب التاسع: هدم الروشن أو الساباط في الطريق النافذ. المطلب العاشر: هدم ما يضر بالمصالح العامة. المطلب الحادي عشر: هدم البيت المبني على جدار مسجد. المبحث الثالث: الآثار المترتبة على هدم ما فيه ضرر: تمهيد: المطلب الأول: الضرر المترتب على هدم المغصوب وأجرته. المطلب الثاني: رد العين أو القيمة في المغصوب وضمانه. المطلب الثالث: سقوط الجدار أو الساباط وما في حكمها في طريق المسلمين. الفصل الرابع: هدم المنافع المشتركة. تمهيد: المبحث الأول: المقصود بالمنافع المشتركة: المطلب الأول: المعنى اللغوي. المطلب الثاني: المعنى الاصطلاحي. المبحث الثاني: هدم المنافع المشتركة: المطلب الأول: انهدام العلو والسفل. المطلب الثاني: انهدام الجدار المشترك. المطلب الثالث: انهدام الجدار المغروز فيه خشبة الجار. المبحث الثالث: الآثار المترتبة على هدم المنافع المشتركة: المطلب الأول: أثر انهدام العلو دون السفل إن كان مشتركًا. المطلب الثاني: مطالبة أحد الشريكين شريكه ببناء جدار مشترك بعد تهدُّمه. المطلب الثالث: أثر هدم أحد الشريكين الجدار المشرك بغير إذن شريكه. الباب الثاني: أحكام النقض في الشريعة الإسلامية (الهدم الحكمي أو المعنوي). تمهيد: المقاصد الشرعية للنقض. الفصل الأول: نقض العقود المبحث الأول: نقض عقود الأمان: المطلب الأول: نقض عقد الهدنة. المطلب الثاني: نقض عقد الذمة. المبحث الثاني: نقض عقود المعاوضات: المطلب الأول: نقض عقد البيع. المطلب الثاني: نقض عقد الإجارة. المبحث الثالث: نقض عقود المكارمة والتبرعات: المطلب الأول: نقض عقد النكاح. المطلب الثاني: نقض عقد الوقف. المطلب الثالث: نقض عقد الوصية. الفصل الثاني: نقض الحقوق : تمهيد: المبحث الأول: تعريف الحقوق: المطلب الأول: تعريف الحق. المطلب الثاني: أقسام الحقوق. المبحث الثاني: نقض حق الشفعة وصوره: المطلب الأول: تعريف الشفعة. المطلب الثاني: نقض حق الشفعة. المطلب الثالث: أثر النقض على حق الشفعة. المبحث الثالث: نقض حق الميراث: المطلب الأول: تعريف الإرث. المطلب الثاني: الموت الجماعي ينقض الميراث. المطلب الثالث: اللعان ينقض الميراث. المطلب الرابع: أثر النقض على حق الميراث. المبحث الرابع: نقض حق الطلاق: المطلب الأول: تعريف الطلاق. المطلب الثاني: المراد بإطلاق الهدم في الطلاق عند الفقهاء. المطلب الثالث: هدم طلاق البائن بالثلاث متى تزوجت بآخر ودخل بها. المطلب الرابع: هدم طلاق الزوج لمطلقته بما دون الثلاث، متى تزوجت بآخر ودخل بها. المطلب الخامس: نقض الطلاق للظهار. المطلب السادس: أثر النقض على حق الطلاق. الفصل الثالث: نقض الأحكام في السياسة الشرعية . تمهيد: المبحث الأول: مفهوم السياسة الشرعية: المطلب الأول: تعريف السياسة الشرعية. المطلب الثاني: مجال السياسة الشرعية. المبحث الثاني: نقض أحكام القضاء: المطلب الأول: الأحوال التي ينقض فيها القضاء. المطلب الثاني: الأحوال التي لا ينقض فيها القضاء. المبحث الثالث: نقض الأحكام الراجعة إلى الاجتهاد والفتوى: المطلب الأول: تعريف الفتوى والاجتهاد. المطلب الثاني: نقض الاجتهاد أو الفتوى. المطلب الثالث: لا ينقض الاجتهاد أو الفتوى باجتهاد . الخاتمة. والكاتب هو د. " خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن آل سعيد " القاضي بمحكمة الاستئناف بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية.
الإمام الشوكاني (1172هـ = 1760م / 1250هـ = 1834م) ♦ محمد بن علي الشوكان الصنعاني اليمني، نسبة إلى قرية شوكان أحد قرى اليمن، ونشأته بصنعاء عاصمة اليمن السعيد. ♦ أسرته أسرة علم وقضاء، احتلت مكانة سياسية مرموقة في عهد الأئمة الزيديين، لمناصرتها لهم في حروبهم ضد الأتراك. ♦ كان أبوه من حفظة القرآن وارتحل إلى صنعاء لطلب العلم، ثم بدأ في التدريس بجوامعها ثم زاول الإفتاء والقضاء. وقد قال الشوكاني عن كريم خصاله وتعففه: «والحاصل أنه على نمط السلف الصالح في جميع أحواله». ويعتبر والد الشوكاني أول شيوخه ومن تلقى عليهم العلم، ثم توسع في نهل العلم من شيوخ صنعاء. ♦ نشأ الشوكاني نشأة طبيعية، وكان وهو صغير يلعب مع أقرانه من الصبيان، واتفق أن مر عليه يوما شباب من فوقه سنا وكانوا يطلبون العلم، فقالوا له: أنت ابن القاضي ونحن نطلب العلم، وأنت تلعب مع الصبيان، فقال لهم: أنا إن شاء الله أطلب العلم طلبا لم تطلبوه. ♦ وبعد حفظه القرآن شرع في طلب العلم، حيث وجد بيئة علمية غزيرة -عامرة بالشيوخ في صنعاء التي لم يغادرها- مكنته من سهولة الطلب، فقد ذكر الشوكاني في سياق حديثه عن شيخه الحسن بن إسماعيل المغربي: «وكان رحمه الله يقبل علي إقبالا زائدا، ويعينني على الطلب بكتبه، وهو من جملة من أرشدني إلى شرح المنتقى (كتاب لجد شيخ الإسلام ابن تيمية المشهور) وشرعت في حياته، بل شرحت أكثره، وأتممته بعد موته، وكان كثيرا ما يتحدث في غيبتي أنه يخشى علي من عوارض العلم الموجبة للانشغال عنه، فما أصدق حدسه، وأوقع فراسته، فإني ابتليت بالقضاء بعد موته بدون سنة». ♦ ومن أجل شيوخه أيضا العلامة «محمد بن إبراهيم الوزير»، الذي يقول عنه الشوكاني: «فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل، وقد نفع الله به من جاء بعده». يذكر أن من أهم مؤلفات ابن الوزير: « العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم »، «إيثار الحق على الخلق »، «الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ». ♦ لقد نهل الشوكاني ما في كنانات أهل عصره من العلوم، حتى استوعبها وصار مالك زمامها، وشارك مشايخه، ولما أخذ عن كل واحد منهم ما عنده هم بالارتحال وتعويض الرجال لتحصيل ما لم يجده عند مشايخ صنعاء، فبينما هو يقوم رجلا ويؤخر أخرى، إذ بلغ أمر تردده الإمام العلامة المتبحر الأوحد السيد عبد القادر الكوكباني، وكان ذلك عقيب وصوله من كوكبان إلى صنعاء، فأرسل إليه يقول له: إنه بلغني عنك أنك تريد الارتحال عن وطنك، لتحصيل علم ما لم يكن عن مشايخ زمانك، وها أنا بغيتك وعلى الخبير وقعت. فذهب إليه الشوكاني -خاصة وأن أبواه لم يأذنا له في مغادرة صنعاء- فقرأ عليه ونهل من علمه... وكان الشوكاني يرى أنه لم يكن في اليمن له نظير. ♦ ومن شيوخه علي بن هادي عرهب الذي وصفه الشوكاني بقوة الفهم وسرعة الإدراك وتحقيق المباحث الدقيقة وعدم التقليد والاجتهاد بالرأي والإحاطة بعلوم الاجتهاد والزيادة عليها. ♦ وقد قضى الشوكاني معظم عمره في طلب العلم والتدريس، حيث بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاث عشر درسا، وزاول القضاء الأكبر، والعمل الوزاري ورئاسة الفتوى، فتمكن من تطبيق جانب من آرائه وأفكاره. ♦ لقد أدى التغريب التربوي إلى وجود واقع تربوي لا هوية له، في حين أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى العودة إلى مناهل الفكر التربوي الإسلامي المنسجم مع عقيدتها وثقافتها وواقعها. وقد أشار مؤتمر بيروت للتربية الإسلامية (21مارس1981) إلى مخاطر التغريب الثقافي لا على البلاد العربية والإسلامية فحسب، وإنما على العالم المتقدم نفسه، وبين المشتركون أن مما يزيد في خطورة التغريب والتبعية للنموذج الحضاري الأجنبي في الغرب والشرق، أن هذا النموذج وصل إلى طريق مسدود، وفشل في بناء مجتمع جديد للإنسان. ولأن الفكر التربوي يعتمد على الشخصيات ( المفكرين التربويين ) كوسيلة لعلاج ظاهرة التغريب، فلعل ما في تراثهم الحي من أفكار وآراء ما يغنينا عن الاستيراد من الخارج. ♦ كان الإمام محمد بن علي الشوكاني من نماذج الفكر المتجدد في عصره، وصاحب فكر تربوي متميز يتصل بالطبيعة الإنسانية والمعرفة والمجتمع، وآرائه حافلة بالاتجاهات التربوية المعاصرة. والشوكاني ( زيدي المذهب ) ولكنه خلع ربقة التقليد لمذهبه، وعمره لا يزيد على الثلاثين، وأصبح من كبار المجتهدين المتأخرين. فهو نموذج من نماذج اليقظة الإسلامية المعاصرة. وكان الشوكاني معاصرا للشيخ محمد بن عبد الوهاب ومتناغما مع دعوته، بل وسابقا لسائر رجال اليقظة الإسلامية الحديثة. حتى أن أحمد أمين صاحب كتاب «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» اعتبر الشوكاني ممثلا لدعوة محمد بن عبد الوهاب وإن لم يتلقاها عنه. ويعتبر محمد صديق خان واحدا من تلاميذ الشوكاني، فقد كان هذا المفكر أمير لمملكة «بهويال» بالهند، وكان مهتما بنشر تراث أستاذه. ويمكننا اعتبار الشوكاني أحد أعلام ورواد المدرسة السلفية الاجتهادية التي تنبذ التقليد وتأخذ بأرجح الأدلة من أي مذهب كان وفق أصول الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة. ♦ يقول الشوكاني في كتاب «أدب الطلب»: كنت بعد التمكن من البحث عن الدليل والنظر في مجاميعه أذكر في مجالس شيوخي ومواقف تدريسهم وعند الاجتماع بأهل العلم ما قد عرفته من ذلك لاسيما عند الكلام في شيء من الرأي مخالف الدليل أو عند ورود قول عالم من أهل العلم قد تمسك بدليل ضعيف وترك الدليل القوي أو أخذ بدليل عام وبعمل خاص أو بمطلق وطرح المقيد أو بمجمل ولم يعرف المبين أو بمنسوخ ولم ينتبه للناسخ أو بأول ولم يعرف بآخر أو بمحض رأي ولم يبلغه أن في تلك المسألة دليلا يتعين عليه العمل به فكنت إذا سمعت بشيء من هذا لاسيما في مواقف المتعصبين ومجامع الجامدين تكلمت بما بلغت إليه مقدرتي، وأقل الأحوال أن أقول استدل هذا بكذا وفلان المخالف له بكذا ودليل فلان أرجح لكذا، فمازال أسراء التقليد يستنكرون ذلك ويستعظمونه لعدم الفهم به وقبول طبائعهم له حتى ولد ذلك في قلوبهم من العداوة والبغضاء ما الله به عليم. ♦ وقد ألف الشوكاني رسالة بعنوان: «القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد» وفيها عرف التقليد فقال: قبول قول الغير من دون مطالبة بحجة. وقال: وشأن المقلد ألَّا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي، ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد. وقال: فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات، والمذاهب والمبتدعات، إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل ملة واحدة ونبي واحد وكتاب واحد، لكان ذلك كافيا في كونها غير جائزة. وناقش الشوكاني مقولة أن سؤال أهل الذكر هو سؤال من لا علم له لأهل الذكر الأعلم منه، مما يفيد جواز التقليد.. ورد عليها بما يفيد أنها تعني سؤال أهل القرآن والسنة، وهذا ليس بتقليد لأنه تجاوز للسؤال عن مذهب المقلد. وفسر سؤال آية الذكر بأنها قد نزلت ردا على المشركين الذين أنكروا كون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبشرا، كما ذهب إلى ذلك السيوطي في الدر المنثور، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء:7]. ♦ ويلخص الشوكاني قضية التقليد المذموم والتعصب للمذاهب بقوله: فإن قلت فما الطريقة المنجية إذن؟ قلت طريقة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وهي العمل بحكم الكتاب والسنة، والوقوف عن متشابهها، كما أمرك الله، من دون محاباة على مذهب، فيكون مذهبك الإسلام جملة، وسلفُك ومحاماتُك على الكتاب والسنة، فإن كنت لهذه النصيحة أهلا فعض عليها بالنواجذ، فإني قطعت شطرا من عمري في تحقيق الدقائق، وتدقيق الحقائق، ولم أقف على منهل، فتارة أخوض معارك علم المعقول، وحينا أمارس دقائق فحول أئمتنا أئمة الأصول، وآونة أرتب البراهين، وأركب القوانين، وبعد هذا كله تراجع اختياري إلى الاستحسان ما إليك أرشدتك، أرشدني الله وإياك. المصادر: ♦ « الإمام الشوكاني حياته وفكره»، الدكتور عبد الغني قاسم، رئيس قسم أصول التربية بجامعة صنعاء.
ما جرى عليه العمل في محاكم التمييز على خلاف المذهب الحنبلي لفيصل الناصر صدر حديثًا كتاب " ما جرى عليه العمل في محاكم التمييز على خلاف المذهب الحنبلي "، تأليف: د. " فيصل بن إبراهيم الناصر "، القاضي في المحكمة العامة بالرياض، من إصدارات " الجمعية العلمية القضائية السعودية "، نشر: " دار الحضارة للنشر والتوزيع ". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تَقدَّمَ بها الكاتب لنيل درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصص عقيدة، وذلك من كلية التربية بجامعة الملك سعود، تحت إشراف د. "عبدالله بن برجس الدوسري"، وذلك عام 1437 - 1438 هـ. ومصطلح ( ما جرى عليه العمل ) مصطلح مالكيُّ المنشأ، أندلسيُّ المبدأ، وقد اشتهر عند المالكية وألَّفوا فيه وجمعوا مسائله، وقد تطوَّر الأخذ بما جرى عليه العمل لديهم فصار يُفرَد بالتصانيف. ويراد بهذا المصطلح في هذا البحث (القول الفقهي المخالف للمعتمد من المذهب الحنبلي لدى متأخري الحنابلة، الذي ألزم القضاة بالحكم به، أو حكم به ثلاثةٌ منهم فأكثر؛ لسبب معتبر، وجرى عمل المحكمة المختصة بتدقيق الحكم على تصديق الحكم الموافق لهذا القول). وقد وجد الكاتب خلال تجربته في العمل القضائي أن ثمت مسائلَ فقهية جرى فيها عمل قضاة المحاكم السعودية أو كثير منهم على خلاف المذهب الحنبلي، وإنما ذهبوا إلى ذلك مراعاة لأسباب واعتبارات متنوعة، كما سبقت الإشارة إليه، فرأى أنه من النافع جمع هذه المسائل ودراستها، والوصول إلى سبب العدول فيها عن المذهب الحنبلي؛ ففي هذا الجمع وهذه الدراسة إفادةٌ عظيمة للمبتدئين في القضاء وللقضاة عمومًا وللمشتغلين بالفقه الإسلامي دراسة أو تدريسًا؛ إذ يهمهم معرفة ما جرى عليه العمل في المحاكم؛ ليصلوا إلى ربط الجانب النظري بالواقع العملي. لذا فقد توجه هذا البحث لجمع هذه المسائل، ودراسة سبب العدول فيها عن المذهب الحنبلي، وقد بلغت هذه المسائل ثمانين مسألة، هي أهمها، مع دراسة متميزة لهذه التطبيقات والأسباب التي أدت إلى العدول فيها عن المذهب الحنبلي، وأهمية ذلك في الترجيح والاختيار بين الأقوال. وهذه الدراسة العلمية -إضافةً إلى متانتها وجودتها العلمية- كُتبت من فقيه وممارس في هذا المجال، ونجد أن القضاة كانوا في المملكة يجتهدون في الوقائع المعروضة أمامهم دون التقيد بمذهب معيَّن، ثم جاءت التوجيهات القضائية العليا بأن على القضاة مراعاة عدم الخروج عن المذهب الحنبلي إلا لاعتبارات مقبولة، ومن ثم التزم القضاة المذهب الحنبلي، ولكن جرى عملهم في عدد من المسائل على خلافه لأسباب متنوعة، وهذه المسائل التي جرى عملهم فيها على خلاف المذهب الحنبلي متفرِّقةٌ تحتاج إلى جمع؛ لتكون بمتناول القضاة وغيرهم ممن يستفيد من هذه المسائل، كما أنه لا بد من معرفة سبب الخروج عن المذهب في هذه المسائل، وكذا معرفة الراجح فيها، عن طريق دراستها دراسة مقارنة بكلام فقهاء المذاهب، مع الرجوع للأدلة الشرعية والقواعد الفقهية المعتبرة. ويتحدد البحث في المسائل التي جرى فيها عمل قضاة محكمة التمييز في المملكة العربية السعودية على خلاف المذهب الحنبلي المعتمد عند المتأخرين من الحنابلة، في أبواب الفقه المتصلة بالعمل القضائي في المحاكم التابعة لوزارة العدل - محاكم القضاء العام -، وهي أبواب المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والحدود والأقضية وما يتصل بها. واتبع البحث: أ- المنهج الاستقرائي، وذلك بجرد مظانِّ المسائل التي جرى عليها العمل القضائي بخلاف المذهب الحنبلي، وجمعها وتقييدها. ب- المنهج الاستنباطي، وذلك بدراسة المسائل المقيدة دراسة علمية، بهدف الوصول إلى سبب عدول القضاة عن المذهب الحنبلي في هذه المسائل. وتتكون الخطة العامة للبحث من مقدمة، وقسم نظري، وقسم تطبيقي يتضمن دراسة مسائل الموضوع في أربعة فصول، وخاتمة، وبيانها حسب الآتي: المقدمة: تشتمل المقدمة على مدخل للبحث، وعنوانه، وبيان مشكلته، وحدوده، وأهميته وأسباب اختياره، والدراسات السابقة حول الموضوع، وتشمل أهداف البحث، والمنهج الذي سار عليه الباحث، وإجراءات البحث، وخطة مجملة لمحتويات البحث ومسائله. القسم النظري: وفيه تمهيد في التعريف بمصطلح ما جرى عليه العمل، وتاريخه، وأسباب جريان العمل، ومدى إلزام القضاة بالحكم بما جرى عليه العمل، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: تعريف مصطلح ما جرى عليه العمل. المبحث الثاني: نبذة تاريخية عن جريان العمل في الفقه الإسلامي. المبحث الثالث: مصادر الأحكام القضائية في الشريعة الإسلامية. المبحث الرابع: الإلزام بمذهب معين في القضاء وحكم الخروج عنه وأحوال الاجتهاد والتقليد لمتولي القضاء. المبحث الخامس: أسباب اختيار القول الذي جرى عليه العمل. المبحث السادس: الإلزام بالحكم بما جرى عليه العمل. القسم التطبيقي (مسائل البحث) : الفصل الأول: ما جرى عليه العمل في المعاملات المالية. المسألة الأولى: جواز بيع رباع مكة. المسألة الثانية: جواز الجمع بين شرطين في البيع. المسألة الثالثة: العلة الربوية في الذهب والفضة الثَّمَنيَّة. المسألة الرابعة: اعتبار الأجَلِ في القرض. المسألة الخامسة: لزوم الرهن بالعقد. المسألة السادسة: صحة الضمان بكل لفظ يدل عليه. المسألة السابعة: صحة إسقاط بعض الدَّين الحالِّ وتأجيل الباقي. المسألة الثامنة: صحة الصلح عن الدَّين المؤجَّل ببعضه حالًّا. المسألة التاسعة: عدم حبس المدين المماطل إذا أمكن الوفاء من ماله. المسألة العاشرة: حبس الاستظهار لمدعي الإعسار ببينة مفوض إلى القاضي. المسألة الحادية عشرة: عدم ضرب المدين المماطل. المسألة الثانية عشرة: جواز إجارة رباع مكة. المسألة الثالثة عشرة: جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم الشرعي. المسألة الرابعة عشرة: ثبوت الشفعة للجار الذي بينه وبين جاره منفعة مشتركة. المسألة الخامسة عشرة: ثبوت الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار. المسألة السادسة عشرة: اشترط إذن الإمام في إحياء الموات. المسألة السابعة عشرة: عدم اشتراط الإحياء لتملُّك الإقطاع السكني. المسألة الثامنة عشرة: تصحيح الوقف على النفس. المسألة التاسعة عشرة: جواز نقل الوقف للمصلحة. المسألة العشرون: عدم توريث الإخوة مع الجد. المسألة الحادية والعشرون: عدم توارث من التبس زمن موتهم. المسألة الثانية والعشرون: توريث القاتل خطأ من مورثه. الفصل الثاني: ما جرى عليه العمل في القضايا الزوجية: المسألة الأولى: بطلان إجبار الأب البكرَ البالغة على النكاح. المسألة الثانية: صحة ولاية الفاسق في النكاح. المسألة الثالثة: انتقال الولاية من العاضل إلى القاضي. المسألة الرابعة: انعقاد النكاح بشهادة أصول الزوجين أو الولي أو فروعهم في النكاح. المسألة الخامسة: عدم اشتراط كفاءة النسب في النكاح. المسألة السادسة: عيوب النكاح التي يثبت معها الخيار محدودة لا معدودة. المسألة السابعة: فسخ النكاح بثبوت العنة طبيًّا وعدم التأجيل سنة. المسألة الثامنة: توصيف حكمي الزوجين بأنهما شاهدي خبرة. المسألة التاسعة: اعتبار الخلع فسخًا. المسألة العاشرة : إلزام الزوج بالخلع. المسألة الحادية عشرة: اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقةً واحدة. المسألة الثانية عشرة: عدم وقوع طلاق الحائض. المسألة الثالثة عشرة: من قال لزوجته: (أنت عليَّ حرام) ولم ينو شيئًا، فهو يمين. المسألة الرابعة عشرة: إذا قال لزوجته: (أنت عليَّ حرام) ونوى شيئًا، فالعبرة لنيته. المسألة الخامسة عشرة: اعتبار الحلف بالطلاق يمينًا إذا نوى معناها. المسألة السادسة عشرة: لا تصح الرجعة إذا لم تعلم المرأة أو وليها فتزوجت ودخل بها. المسألة السابعة عشرة: اعتداد المختلعة بحيضة واحدة. المسألة الثامنة عشرة: الرجوع للحاكم في مدة انتظار المفقود. المسألة التاسعة عشرة: الرجوع إلى العرف في وقت تسليم الكسوة الواجبة على الزوج. المسألة العشرون: استحقاق الأم حضانة بنتها بعد السابعة. المسألة الحادية والعشرون: استحقاق الأم لحضانة الولد ولو انتقلت أو الأب للسكنى في بلد آخر. الفصل الثالث: ما جرى عليه العمل في القضايا الجنائية: المسألة الأولى: قتل قاتل الغيلة حدًّا. المسألة الثانية: استيفاء ولي الأمر القصاص قبل بلوغ القاصرين. المسألة الثالثة: استيفاء القصاص قبل إفاقة المجنون. المسألة الرابعة: استيفاء القصاص في النفس بغير السيف (بالمماثلة). المسألة الخامسة: الأصل في الدية الإبل وغيرها بدل عنها. المسألة السادسة: عدم تغليظ دية قتل الخطأ في الحرم والإحرام والأشهر الحرم. المسألة السابعة: اعتبار القرائن من اللوث في القسامة. المسألة الثامنة: عدم التفريق بين أنواع الجلد في الصفة. المسألة التاسعة: قتل من زنا بذات محرم. المسألة العاشرة: حد شارب الخمر بالاستشمام. المسألة الحادية عشرة: تعزير القاتل عمدًا للحق العام. المسألة الثانية عشرة: تعزير القاتل في شبه العمد للحق العام. المسألة الثالثة عشرة: تعزير القاتل خطأ للحق العام. المسألة الرابعة عشرة: جواز التعزير بأكثر من عشر جلدات. المسألة الخامسة عشرة: جواز التعزير بالقتل. المسألة السادسة عشرة: جواز التعزير بالمال. المسألة السابعة عشرة: التخيير في حد الحرابة راجعٌ للإمام. المسألة الثامنة عشرة: نفي المحاربين بالسجن. المسألة التاسعة عشرة: دخول الخطف من أجل العرض في الحرابة. الفصل الرابع: ما جرى عليه العمل في المرافعات الشرعية: المسألة الأولى: عدم اشتراط كون القاضي مبصرًا (صحة تولية الأعمى للقضاء). المسألة الثانية: صحة تولية غير المجتهد للقضاء. المسألة الثالثة: لزوم إنذار الممتنع عن جواب الدعوى ثلاثًا. المسألة الرابعة: سماع الدعوى في الدَّيْن المؤجل والحكم به في أجله. المسألة الخامسة: عدم اشتراط ذكر شروط العقد المدعى به. المسألة السادسة: الاكتفاء في الترجمة بواحد. المسألة السابعة: الاكتفاء في التعريف بواحد. المسألة الثامنة: قبول كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود. المسألة التاسعة: عدم اشتراط الشهادة على كتاب القاضي إلى القاضي. المسألة العاشرة: قبول كتاب القاضي إلى القاضي ولو كان دون مسافة القصر. المسألة الحادية عشرة: لزوم تفريق الشهود. المسألة الثانية عشرة: التحليف في كل حقوق العباد. المسألة الثالثة عشرة: رد اليمين على المدعي راجع لاجتهاد القاضي. المسألة الرابعة عشرة: القضاء بالنكول في غير الأموال وما جرى مجراها. المسألة الخامسة عشرة: لزوم إنذار الناكل عن اليمين ثلاثًا. المسألة السادسة عشرة: طلب القاضي يمين الاستظهار إذا رأى ذلك. المسألة السابعة عشرة: كون اليمين في جانب أقوى المتداعيين. المسألة الثامنة عشرة: عدم تجزئة الإقرار على المدعى عليه. الخاتمة: وعرض فيها أهم نتائج البحث التي توصل إليها، وأهم التوصيات التي رأى أهميتها. ومن أهم ما توصلت له الرسالة: بيان المراد بجريان العمل في الفقه الإسلامي، ونبذة تاريخية عنه، وبيان مصادر الأحكام القضائية في الشريعة الإسلامية، وفي المملكة العربية السعودية، وحكم إلزام القضاة بمذهب فقهي، أو بما جرى عليه العمل، وأسباب جريان العمل على قول. وتوصلت إلى أن القضاة في السعودية لم يلزموا بمذهب إلا في عام ١٣٤٧هـ، فقد ألزموا بالمذهب الحنبلي، ثم رفع الإلزام عام ١٤٢١ هـ بالمادة الأولى من نظام المرافعات. وتوصلت إلى أن العمل القضائي جرى على خلاف المذهب الحنبلي في مجموعة من المسائل متفرقة في أبواب الفقه، واشتملت هذه الرسالة على ذكر مجموعة منها، بلغت ثمانين مسألة، هي أهمها، منها ثلاثون مسألة إلزامية، وأربعون اجتهادية، وسبعٌ اختيارية. كما أوصت الرسالة بأهمية توحيد الأحكام القضائية في المسائل الخلافية، ودراسة أثر تولي القضاء على الفقهاء، وأثر الفقه المالكي على القضاء السعودي في أبواب الجنايات والحدود.
الكرامة والضرورات ينبني على الوقفة السابقة أن مفهوم حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية ينطلق من أنه إنسان مكرم، وكرامته مصونة من خلال الحفاظ على الضرورات الخمس التي تقوم عليها حياته الكريمة، والتي لا تستقيم حياته وحياة مجتمعه دونها، تلك الضرورات التي فصَّلها الإمام الشاطبي، من أئمة المسلمين في القرن الثامن الهجري (790 هـ) الرابع عشر الميلادي (1388م)، في كتابه الموافقات (1: 31)، يقول: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وُضِعَتْ للمحافظة على الضروريات الخمس، هي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل" [1] . ويمكن التفصيل في كل ضرورة من هذه الضرورات الخمس وتطويعها للواقع المعاصر، وبيان مدى توفرها في المجتمعات، وبيان مدى توافرها في الإعلان الدولي لحقوق الإنسان (1368هـ/ 1948م)، ونسبة هذا التوافر ومداه، ووجود التشريعات والخطوات التنفيذية التي تفرضه،وليس هذا مجال التفصيل والإطالة في ذلك. ثم يلي ذلك العناية بالحاجات التي تقوم عليها هذه الضرورات،تلك الحاجات التي فصَّلها الإمام أبو حامد الغزالي، من أئمة المسلمين في القرنين الخامس والسادس الهجريين (450 - 505 هـ)، الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين (1058 - 1112)،ثم جاء أبراهام ماسلو وبنى منها الهرم الاحتياجي، الذي يبدأ بالحاجات العضوية (الفيزيولوجية)، والرغبة في الأمن والأمان والانتماء والحب وتقدير الذات وتحقيق الذات، ثم يصل إلى الحاجة إلى الفهم والمعرفة،ومن المهم أن تعتمد هذه الحاجات وما يتفرَّع عنها وما تقوم عليه، على أنها من الحقوق الأساسية التي تقاس المجتمعات في حضاريتها بمدى توفيرها لأفراد المجتمع [2] . ومِن المهم أيضًا التوكيد أن هذه الحقوق، القائمة على كتاب منزل وحديث صحيح ونهج سلفي قويم، إنما وُضِعت لتُطبَّق، وأيُّ خلل في التطبيق يُحسب على المطبِّقين، ولا يحسب على هذه الحقوق وعلى مَن سنها لبني آدم، بمعنى أن تجاوزها بأي درجة من درجات التجاوز لا يعني عدم صلاحيتها، أو عدم قابليتها للتطبيق، بل يعني خللًا في الفهم، وقد يعني خللًا في التطبيق نفسه، يصل إلى حدِّ التقاعُس في التطبيق، وإنْ لم يكن الخلل في الفهم نفسه، مما يعني أن هذه الحقوق تعدُّ في الثقافة الإسلامية ضروراتٍ تفعيليةً واجبة التنفيذ من أعلى سلطة في البلاد، أكثر من كونها حقوقًا تنظيريةً تعتمد على المناشدة فحسب [3] . والضرورات تقتضي في تحقيقها أن تكون تكاليف لازمة التطبيق على أنها من واجبات المجتمع بسلطاته التي تكفل التحقيق الأمثل لهذه التكليفات، فليست منحةً من السلطات [4] . قد يفضي النقاش حول هذا الموضوع إلى الاعتقاد بالخصوصيات الثقافية التي تقتضي الاستثناء الثقافي - كما مرَّ ذكره في أكثر من موضع من هذا الكتاب - الذي نادت به فرنسا سنة 1413هـ/ 1993م، عند السعي إلى طغيان الثقافة المهيمنة ذات الاتجاه الواحد، من خلال منظمة الجات General Agreement on Tariffs and trade ( GATT ) [5] ، وقد وافقت على هذا المفهوم في الاستثناء الثقافي عددٌ من الثقافات الأخرى التي تنادي بقدر من الخصوصية الثقافية الدافعة لا الحاصرة [6] ،وتأكد هذا المطلب في اللقاء الذي عُقد في اليونسكو في أكتوبر من سنة 2005م، بموافقة 185 دولة، ومعارضة كلٍّ من الولايات المتحدة والدولة اليهودية في فلسطين المحتلة، وامتناع أربع دول عن التصويت،ومنذ ذلك الوقت تقود فرنسا مفهوم الاستثناء الثقافي في وجه منظمة التجارة العالمية [7] . مِن المؤكد أن يلقى هذا المفهوم تهوينًا من بعض الدول والمفكرين والكتَّاب الذين رضوا بالهيمنة الغربية، الأمريكية تحديدًا في شتى المجالات، بما في ذلك المشهد الثقافي، ورغبوا في كونية ثقافية تمحو - إن استطاعت - الثقافات المحلية والإقليمية وتلك المترسخة عبر القرون،ومن هؤلاء المفكرين عربٌ ومسلمون وشرقيون آخرون [8] ،ولم يقتصر الأمر هنا على الثقافة والفكر، بل إن العلوم صِيغَتْ وبُنيت مقدماتها بعقلية غربية، وبما يلائم فلسفة الغرب وفكره، "وبسبب هذه العلوم وتطبيقاتها نتجت هيمنة الحضارة ومناهجه" [9] . [1] انظر: إبراهيم اللخمي الشاطبي. الموافقات - 1: 31. [2] انظر: أحمد بن علي القرني. الإبداع العلمي: دراسة تأصيلية تكشف أسس التفوق في مجال العلم ومقوماته ووسائل تحصيله - د. م.: دار الجبهة، 1429هـ/ 2008م - ص 109. [3] انظر: محمد عمارة. الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق - جدة: مركز الراية للتنمية الفكرية، 2005م - 304ص. [4] انظر: رضوان السيد. حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر بين الخصوصية والعالمية - التوحيد - مج 15 ع 84 (تشرين الأول/ أكتوبر 1996م) - ص 38. [5] انظر: http..//an/.Wikibedia.Org/wiki/cultural-excebtion (1/ 12/ 1429هـ - 29/ 11/ 2008م). [6] انظر: علي بن إبراهيم النملة. السعوديون والخصوصية الدافعة - مرجع سابق - 312ص. [7] انظر: Catherine Trautmann. The cultural excepton is not negotiabale - . Le Monde - . (October 11 th 1999). (1/ 12/ 1429هـ - 29/ 11/ 2008م). [8] انظر: الاستثنائية الشرق أوسطية - ص 44 - 52 - في: فريد هاليداي. الأمة والدين في الشرق الأوسط/ ترجمة عبدالإله النعيمي - بيروت: دار الساقي، 2000م - 254ص. [9] انظر: صالح بن عبدالله المالك. أسلمة العلوم الاجتماعية/ تقديم خالد بن حمد المالك - الرياض: المؤلف، 1430هـ/ 2009م - ص 36.
مهنة الطب والصيدلة من منظور تاريخي لا شك أن علاقة الإنسان مع علم الطب والتمريض والصيدلة علاقة قديمة قدم التاريخ، فهي امتداد لحياته ووجوده على سطح الأرض حين استخلفه الله فيها. وقد خبر الإنسان الأول منذ الأزل أنّ جسمه عرضة للإصابة بضروب شتى من العلل والأسقام، وكان على رأس اهتماماته التي فطره الله عليها أن يسعى إلى حفظ بدنه، ويرتقي بصحته، وأن ينشد حياة بلا داء أو ألم. وأخذ الناس ينقّبون في كنوز الأرض وخيرات البيئة ويشحذون هممهم بما أتيح لهم من معطيات وإمكانات لعلهم يجدون فيها ضالتهم من النباتات والمواد التي تعينهم على التداوي، وتخطي معاناتهم وآلامهم التي سبّبها لهم ما أصابهم من علل وأسقام مختلفة. ولاحظ الإنسان القديم عن طريق المحاولة، أو المصادفة غير المقصودة أحيانًا أنّ بعض المواد ذات الأصل النباتي أو الحيواني أو المعدني تساعده في شفاء ما ألمّ به من أمراض، وأنّ لبعضها أيضاَ خواص وقائية تكسب جسمه مناعة ضد الأمراض. وتم توارث تلك الخبرات، وأخذ الخلف يضيف الجديد إلى جهود السلف، فتجمّع مع الوقت نتيجة ذلك موروث ضخم من المعرفة التي تعاقبت على نقلها الأجيال. وتطورت لاحقًا شؤون الطب والتطبب والبحث عن الدواء، وغدا الأمر حاجة إنسانية ملحّة وضرورة بشرية جعلت من تلك العلوم صنعة أصيلة، وإن تباينت وسائلها وتنوعت طرائقها ومناهجها بين الأمم والشعوب والحضارات المختلفة. وقد امتهن الكهنة صنعة الطب والصيدلة في بلاد ما بين النهرين، وشاب طبّهم وما اعتمدوه من وسائل علاجية الكثير من السحر والتنجيم واستخدام الطلاسم، وكان المرض في اعتقادهم عقابًا من الإله على ما ارتكبه المريض من معاص وذنوب. وذاع بين كهنة تلك البلاد وصف الأعشاب والعقاقير الطبية والمركبات ذات المصادر المختفة، وقد أتت الألواح المنسوخة التي وصلتنا من تلك الحقبة على ذكر الكثير من المواد ذات المصدر الحيواني والنباتي والأخرى المستخرجة من المعادن، وقد استخدم ذلك لصناعة عقاقير في علاج أمراضهم المختلفة، ومن ذلك: استعمالهم نبات الحشيش والأفيون قبل الجراحة لتخدير المريض. أما طب الحضارة الفرعونية فلم يُبْنَ على أسس علمية بحتة، فقد اختلط فيه العلم بالسحر والخرافة والمعتقدات الغريبة، وخضع ذلك لتنظيم المعابد وكهنتها، وزعم القوم أن الأروح الشريرة التي سكنت أجسامهم هي وراء ما نزل بهم من أمراض مستعصية، فاتخذوا آلهة تضرعوا إليها لطرد تلك الأرواح، كما لجؤوا لتحقيق ذلك الهدف إلى الكهانة وتعليق التعاويذ واستخدام التمائم. ومن الأمثلة التي تظهر لنا واقع الطب والصيدلية في تلك الحضارة نص ورد في إحدى بردياتهم من ذكر علاج داء الثعلبة، جاء فيه: " أتون، أنت المضيء الذي لا تتحرك من مكانك، الذي يحارب الخطيئة، نجّني مما أصاب قمة الرأس"، وقد كانت تتلى هذه الصلاة على الصلصال والحبوب المختلفة والعسل ثم تسحق هذه المواد ويدهن بها رأس المصاب. ثم ظهر لاحقًا جيل جديد من الأطباء والصيادلة الذين عالجوا المرض وفق أسلوب شبه علمي بعيد عن الشعوذة، واشتهر عن صيادلتهم في ذلك الوقت تحضير الأدوية المختلفة والعقاقير، ويدلّ على ذلك ما وجد في نقوشات أوراق البردي من وصف للأدوية الفموية وأدوية الغرغرة والدهونات الجلدية والأدوية التي تؤخذ عبر الاستنشاق، وما جاء في تلك النقوشات من ذكر وصفات نباتية مختلفة لعلاج الكثير من الأمراض، كأمراض المعدة والذبحة الصدرية وداء الكزاز. أما الصينيون فقد كان جلّ اعتمادهم في علاج مرضاهم على استخدام الأدوية والعقاقير المحضرة من نباتات بلادهم وأعشابها، ولجؤوا كذلك إلى وسائل أخرى كالكي والوخز بالإبر، ومما يحسب للحضارة الصينية هنا قلة اعتماد أطبائها وصيادلتها على الخرافات والمعتقدات الباطلة التي سادت عند غيرهم من الأمم. وقد تجمّع لدى الصينيين موروث كبير من الوصفات الدوائية، ومن ذلك على سبيل المثال ما قام به أحد مصنفيهم من ذكر الأعشاب والنباتات الطبية في كتاب ضخم، يروى أنه كان في اثنين وخمسين مجلدًا، وقد كتبه خلال ستة وعشرين عامًا. وقد شابه الطب الهندي طبَّ الكثير من الحضارات الأخرى، فمزج بالخرافات والأساطير والشعوذة والسحر، واعتقد الهندي القديم أنّ العلل والأسقام تولد مع الإنسان، وأنها تزيد لاحقًا نتيجة ما يقترفه من ذنوب وخطايا. واستخدم الهنود لعلاج أمراضهم نباتات وأعشابًا كثيرة، ومهر القوم في استعمال الأدوية المضادة للسموم والنباتات المخدرة، مثل القنّب، وقاموا بتشخيص الكثير من الأمراض كداء الجذام والملاريا والسكري، وأتوا على ذكر وسائل علاجها. وقد تطورت العلوم الطبية والصيدلانية لدى الهنود على نحو واضح، مما دفع العرب لاحقًا الى ترجمة الكثير من علومهم، زمن ازدهار عصر الترجمات. وظل الطب حبيس المعابد اليونانية والرومانية مدة طويلة من الزمن، وبقي فيها خاضعًا لإدارة الكهنة الذين غلب عليهم معالجة المرضى بالسحر والتنجيم وكتابة التعاويذ وطلب العون من القوى الخارقة، وأنشئت في تلك البلاد مستشفيات خاصة بهياكل العبادة وأخرى خاصة بأفراد الجيش، وأولى أطباؤهم وصيادلتهم العناية بمن يرجى برؤهم من المرضى، وأهملوا الميؤوس منهم. ثم بدأ علماء تلك الحضارات تحت قيادة طبيبهم " أبقراط " بالتحرر من تلك القيود، فأطلقوا العنان لبحوثهم التجريبية، فتطورت علومهم الصحية، واهتموا بنتاج أسلافهم وزادوا عليه الكثير. وأثريت في تلك الحقبة كتابات طبية كثيرة حول الحشائش الطبية، مع بيان مصادرها المختلفة، واستخداماتها الصيدلانية. ولجأ من لم يكن بوسعه دفع أجر الطبيب في تلك الحضارة إلى المشعوذين وعرّافي القرى والحلاقين الذين امتهنوا تركيب الأدوية وعمل التعاويذ والأحجبة التي زعموا قدرتها على علاج المرضى. ولم تشجّع الديانة النصرانية المحرفة أبناءها على التداوي وطلب العلاج، ونرى في نصوصها شحًا واضحًا في الحث على تناول العقاقير، أو الإفادة من الطبيب أو الصيدلي، ولم تفرّق نصوص العهد القديم بين الكاهن والطبيب. والمرض في تلك النصوص ليس إلا عقابًا إلهيًا على خيانة الإنسان لخالقه، حينما نقض عهده معه وأطاع غيره، ويحتاج المريض وفقًا لذلك إلى طقوس خاصة لشفائه، ومن ثَمّ وجب تدخل الكاهن لتحقيق هذا الغرض. وشابه ذلك الحال ما كان في " العهد الجديد " التي ذكرت نصوصه أن المريض قد ارتكب ذنبًا، فدخله شيطان المرض، فإذا قوي إيمان المريض، وتاب عن ذنوبه، خرج ذلك الشيطان من جسده، وإلا فلا. واعتقد رجال الكنيسة أن العلاج حق من حقوقهم المقدسة، ولم يسمح لأحد غيرهم أن يمارس هذا الحق، وإلا اتهم بالدجل والسحر والشعوذة. وأمرت الكنيسة في تلك الحقبة بحرق الأطباء والصيادلة أحياء، أو وضعهم على آلة الخازوق حتى الموت. أما عن حال التطبب في العصر الجاهلي قبل الإسلام، فقد نشأت قبائل العرب في بيئة قليلة الحاضرة، وشحيحة العلوم، عمّت فيها الخرافة، وانتشر الجهل بسطوته وسلطانه، وقد أخذت العرب شيئًا من موروثها الثقافي وعلوم الطب والدواء عن جيرانها من الفرس والروم، الذين ربطتهم بهم علاقات تجارية متبادلة. وذاع في صفوف عرب الجاهلية إتيان الكهان والعرافين لطلب التداوي، وعمّت الخرافات التي توارثها الأجيال، واعتقدت العرب بوجود قوى خفية كالجن والشياطين والأرواح وراء ما نزل بساحتهم من علل وأسقام، كما عالجوا أمراضهم بالسحر والطلاسم والتمائم والرقى، وطلبوا لذلك العون من النجوم وقوى الطبيعة من حولهم. إلا أنه وجد على استحياء طائفة محدودة من الأطباء والصيادلة الذين استخدموا ما توافر في البيئة العربية من النباتات والأعشاب البرية، كالثوم والكمون والحبة السوداء والحناء والشيح، فاستخرجوا منها العقاقير المختلفة. كما تداوت العرب بشرب العسل، وعُرف عن بعضهم ممارسة الجراحات الصغرى كالحجامة والفصد والكي بالنار وبطّ الورم الصغير، كما عُدّ تناول الخمرة بين صفوفهم ضربًا من ضروب الاستشفاء. وقد وصفت العرب الكثير من الأمراض، وأتى القوم على ذكر جانب مما استخدموه من أدوية في علاجها، كداء اليرقان، والصداع، والشقيقة، والزحير ( وهو داء يصيب الأمعاء )، والهيضة ( أو ما يعرف اليوم بالكوليرا )، والنقرس، والفالج، والباسور، وغير ذلك كثير. ويذكر ممن اشتهر من أطباء العرب وصيادلتهم في تلك الحقبة: الحارث بن كلدة الثقفي، وضماد الأزدي، وقد أدركت طائفة منهم الإسلام، واستمروا في مزاولة مهنتهم فيه. الطب والصيدلة بعد ظهور الإسلام: وسط ظلام كوني داكن ذاقت فيه الأمم الأمرين، بزغ نور الإسلام فوق جزيرة العرب، فأشرق في مكة فجر جديد، إذ أذن الله تعالى بإخراج الناس من ظلامات الشرك والجهل إلى أنوار التوحيد والعلم، فبعث لذلك الغرض نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله. وقد فطن الرسول الكريم إلى أهمية العلم، وأدرك بنظر ثاقب ما يعانيه القوم في أقبية الجهل المطبقة ودياجير الظلام، فعمد إلى توجيه أنظارهم نحو طلب العلم وإطلاق طاقة العقل وتنشيط الذهن. وسرعان ما انتشر نور العلم، واندفع المسلمون الأوائل إلى الاستزادة من علوم الدين والدنيا النافعة، فتألقت مدرسة المعرفة الأولى على يد مؤسسها الذي بناها روضة زاهية بالحكمة، وجعل مَعينها نصوصًا مباركات من الكتاب والسنّة، وطويت بذلك صفحات من الماضي الذي سادت فيه بين القوم الخرافة والمعتقدات الخاطئة. يقول "توماس كارليل" Thomas Carlyle واصفًا حال العرب في كتابه "الأبطال": "ولقد أخرج الله بالإسلام العرب من الظلمات إلى النور، وأحيا به أمّة هامدة، وأرضًا هامدة، وهل كانت العرب إلا فئة من جوالة خاملة فقيرة، تجوب الفلاة منذ بدء العالم، لا يُسمع لها صوت، ولا تُحس منها حركة ؟، فأرسل الله لهم نبيًا بكلمة من لدنه، ورسالة منه، فإذا الخمول قد استحال شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوة، ووسع نور الإسلام الأنحاء، وعمّ ضوؤه الأرجاء، وأشرقت دولة الإسلام حقبًا عديدة، ودهورًا مديدة، على نصف المعمورة، بنور الفضل والنبل والمروءة ورونق الحق والهدی". من جهة أخرى فقد أمرت تعاليم الدين الجديد بالأخذ بالأسباب، وطلب الدواء، بحثًا عن العافية، والشفاء من الأمراض. وحورب بذلك ما ساد بين الناس من معتقدات خاطئة، ومُنِع السحر والتنجيم والكهانة، وعُدّ ذلك كله من ضروب الجهل الممقوت. وفتح الإسلام الباب على مصراعيه أمام التفكير والتأمل والطب التجريبي المبني على أسس علمية ومنهجية، وحثت نصوصه على ذلك، وصححت مساق التعليم ومساره، ودعت إلى الإفادة من تجارب من سلف، وسارع المسلمون الأوائل فأقبلوا على تعلم العلوم الصحية النافعة، وعُدّ هذا ضربًا من ضروب فرض الكفاية، وحاز الإسلام بذلك قصب السبق، فكان أول دين يحرّر العلم والطب والصيدلة من سيطرة المعتقدات الدينية الباطلة وقيد الخرافات. وقد ظهر مزيد من الحاجة إلى طلب التداوي والتطبب في صدر الإسلام، وكان من أسباب ذلك تعرض الجنود المسلمين في أثناء غزواتهم إلى إصابات مختلفة، تستدعي سرعة إسعافهم، يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: " لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم ". وها هو طلحة رضي الله عنه يوم أحد، وقد جرح أربعة وعشرين جرحًا، وقُطع نساه، وشُلّت أصبعه، وكان سائر الجراح في جسده، وغير ذلك من الأمثلة كثير. ولم تتخلّف الصحابيات الجليلات عن اللحاق بقافلة النور وركبها الميمون، فوقفن ببسالة مع الرجالات، يشاركنهم في فتوحاتهم وغزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد برع منهنّ رضي الله عنهنّ طائفة اشتهرت بالتمريض ومداواة الجرحى، بما توافر لديهن من أدوية تمت صناعتها من أعشاب بيئة المدينة ونباتاتها. ومن هؤلاء النسوة المباركات: أم سُليم بنت ملحان التي كانت تداوي الجرحى في غزواتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي أم عمارة وقد جُرح ابنها عبدالله بن زيد يوم أحد في عضده، فسارعت بمداواته وتضميده بما كان معها من عصائب وخِرَق، وهي من قالت يوم خيبر: "خرجنا نغزل الشعر فنعين به في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السويق". ومن تلكم الصحابيات أيضًا: رُفَيدة التي نصبتْ لها خيمة كانت تداوي فيها جرحي الصحابة ومرضاهم في أثناء الغزوات، ويرى الدكتور أحمد عيسى بك أن خيمة رفيدة هذه كانت أول مستشفى حربي متنقل في الإسلام. ومن هؤلاء المباركات أيضًا: الربيع بنت معوذ، وحمنة وليلى الغفارية رضي الله عنهن جميعًا. وقد اكتسبت السيدة عائشة رضي الله عنها خبرة خاصة في أدوية ذلك الزمان، إذ كانت تشرف على نحو مباشر على ما يتناوله زوجها عليه الصلاة والسلام من تلك الأدوية. تقول عن ذلك: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلًا مسقامًا، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم". وتتابعت تلك الخطوات المباركات على درب العلم، مرورًا بعهد الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم، خلال عهود الدولة الإسلامية. وقد أنجبت الحضارة الإسلامية من رحمها الولود الكثير من العلماء الأفذاذ، الذين أضاؤوا الأرض بنور العلم، وكانوا صورة مثّلت روح الحضارة التي عاشوا بين جنباتها. ولم يقف هؤلاء عند حدود الطب النبوي، وما جاء فيه من وسائل علاجية ووقائية مع يقينهم بنفعه وبركته، بل أدركوا منذ وقت باكر أنّ علمَي الطب والصيدلة يحتاجان إلى دوام البحث والنظر، وإلى الوقوف على ما عند الأمم الأخرى منه، ودفَعَهم إلى ذلك دعوة الإسلام للاستزادة من كل ما هو نافع ومفيد، والبحث عن الحكمة أنّى وُجِدت. واشتهرت طائفة من علماء المسلمين بترجمة الكتب المتخصصة بعلوم الطب والصيدلة، ومصادر الأدوية النباتية وخصائصها وطرق تركيبها. وأعقب ذلك مرحلة جديدة تناولت التعليق على تلك الكتابات المترجمة، ونقدها، وشرحها، ليتم لاحقًا إقرار صوابها، وتصويب خطئها، وما هي إلا مدة وجيزة حتى انتقل المسلمون نحو فضاءات الازدهار العلمي، فولوا وجوههم شطر الأصالة والتأليف والإبداع، فأضافوا الجديد والمفيد إلى علوم الطب، وعُرفتْ كتاباتهم تلك في حينها بالأقرباذينات. وكان أبو حنيفة الدينوري أول من ألّف كتابًا عن النباتات، وقد عُرف مصنّفه باسم " كتاب النبات"، وقد أتى فيه على ذكر أكثر من ألف نبتة من النباتات الطبية في الجزيرة العربية. وكان أبو بكر الرازي ممن كتب في علم الصيدلة أيضًا، واشتهر بوصف الأدوية، وألّف الكثير من الأقرباذينيات التي عُدّت مراجع أصيلة في مدارس الغرب والشرق على حد سواء. ومن علماء المسلمين أيضًا في هذا المجال: البيروني صاحب كتاب "الصيدلة في الطب"، وابن الصوري صاحب "الأدوية المفردة"، وابن العوام الإشبيلي صاحب "الفلاحة الأندلسية". أما ابن البيطار فقد ارتحل إلى مالقة ومراكش ومصر وسورية وآسيا الصغرى، بحثًا عن النباتات الطبية، فكان يراها بنفسه، ويجري عليها تجاربه، ويذكرها في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" الذي كان المرجع الرئيس للصيادلة والأطباء زمنًا طويلًا، وقد جاء فيه ذكر أكثر من ألف وأربعمئة دواء من أصل نباتي، منها أربعمئة عقار لم يسبقه أحد إلى وصفها. يقول الدكتور راغب السرجاني: "وبازدهار صناعة الصيدلة، وجد الصيادلة المسلمون مجالًا خصبًا للإبداع الذي انتهوا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية، ذات أوزان معلومة، وقطعوا شوطًا كبيرًا عندما استفادوا من علم الكيمياء في إيجاد أدوية جديدة ذات أثر في شفاء بعض الأمراض، کمركبات الزئبق وملح النشادر، واختراع الأشربة والمستحلبات والخلاصات الفطرية، وقادهم البحث الجاد إلى تصنيف الأدوية استنادًا إلى منشئها وقوتها. كما قادتهم تجاربهم إلى اكتشاف أدوية نباتية جديدة، لم تكن معروفة من قبل کالكافور والحنظل والحناء". وأبدع الصيادلة المسلمون في تحضير العقاقير المختلفة وتركيبها، واستخدموا في ذلك طرقًا مبتكرة عديدة، منها: طريقة التقطير لفصل السوائل، وطريقة التنقية لإزالة الشوائب، وطريقة التصعيد لتكثيف المواد المتصاعدة، وطريقة الترشيح لعزل الشوائب، والحصول على محلول نقي. وكان من ابتكارات صيادلة المسلمين: مزجهم للأدوية بالعسل أو بالسكر أو عصير الفاكهة، وإضافة مواد محبّبة كالقرنفل، ليصبح طعم الدواء مستساغًا، وجَعْلهم الكثير من الأدوية في صورة أقراص مغلفة، وتحضير أقراص الدواء عبر كبسها في قوالب خاصة، وإخضاع الدواء الجديد للتجربة على الحيوان، قبل وصفه للمريض، للتأكد من سلامته وأمانه. يقول الدكتور "جورج سارتون George Sarton ": "إن بعض الغربيين الذين يستخِفّون بما أسداه الشرق إلى العمران، يصرّحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة، ولم يضيفوا إليها شيئًا، وهذا الرأي خطأ، فلو لم تنتقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية، ولولا إضافات العرب الهامة إليها، لتوقف سير المدنيّة بضعة قرون". واهتم صيادلة المسلمين وأطباؤهم بزراعة النباتات الطبية، والأعشاب العلاجية في مزارع وُضعتْ بجوار ما بنوا من بیمارستاناتمدن الدولة المختلفة، واهتموا بجلب بذور تلك النباتات من كل حدب وصوب. وخصصت لكل بیمارستان منها صيدلية تقدّم ما يصفه الطبيب للمريض من أشربة وأدوية. يقول عبد الله الدفاع في كتابه "أعلام العرب والمسلمين في الطب": "وضع العلماء المسلمون في كل مستشفى صيدلية منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وهكذا فإن فكرة إنشاء صيدلية داخل المستشفى هي فكرة نقلها العالم عن الحضارة العربية الإسلامية، التي طبقتها قبل أكثر من ثمانية قرون". وفُرض على كل صيدليات الدولة الإسلامية أن تحوي كتب الأقرباذين، وأن يتوافر فيها أنواع العقاقير المفردة والمركبة المختلفة، والمواد الخام اللازمة لتحضيرها، سواء كانت نباتية المنشأ، أو حيوانية، أو معدنية، أو كيماوية، كما وجب أن تحوي الصيدلية ما يلزمها من معدات لتحضير الدواء، كالموازين الحساسة، والأوعية ذات المقاسات المختلفة، وقوالب صناعة الأقراص، بالإضافة إلى سجلات خاصة لتدوين عمليات تحضير الدواء، وما يَرِد من وصفات الأطباء الدوائية. وقد ضمّت البيمارستانات أيضًا مكتبات طبية حوت أمّات كتب الصيدلة ومراجعها، وكان أساتذة هذا العلم يتناقشون مع طلابهم حول الداء، وما يناسبه من الدواء، في حلقات تسودها الأجواء العلمية، وألزم الطلبة بحضور جلسات تركيب الدواء، مما أكسبهم ثقة علمية، وخبرة عملية، وأصبح علم الصيدلة بذلك علمًا تجريبيًا قائمًا على المتابعة الدقيقة والملاحظة. تقول المستشرقة "زيغريد هونكه": "أين هي الدولة التي عرفت مثل هذا الجمع الكبير من الأخصائيين بشتى حقول الصحة، وتركيب الأدوية والعقاقير، كما كانت الحال عند العرب؟ وهل كان للمستشفيات الحديثة في الأصقاع العربية آنذاك مثيل في أي طرف من أطراف الأرض؟ إن وسائل العلاج عند العرب تتحدث ببلاغة عن عظمة أبحاثهم، كما إن علم الصحة عندهم لأروع مثل يُضرب، ولم العجب والدهشة والوضع كان كما نعلم؟". ومن مآثر علماء المسلمين في مجال الطب والصيدلة أيضًا: ما أدخلوه من نظام الحسبة ومراقبة الأدوية، فنقلوا بذلك المهنة من تجارة حرة لا ضوابط لها، إلى مهنة خاضعة لرقابة الدولة. وكان من مهام المحتسب إجراء جولات تفتيش على حوانيت بيع الأدوية، والتأكد من توافر الدواء فيها، ومتابعة طريقة تحضيره بشكل آمن، وبدون غش، والتأكد من أن الدواء لا يباع إلا وفق وصفة طبية، ومراجعة كشوفات تحضير الأدوية، بالإضافة إلى منح تصاريح العمل للصيادلة، وإيقاف عمل من تدعو الحاجة والمصلحة إلى ذلك. وقد كان للمحتسب سجلات، يُدوّن فيها أسماء أصحاب الحرف والمهن المختلفة، بما فيها أماكن حوانيت الصيادلة. وكان على المحتسب أيضًا أن يُحلّف الصيادلة ألا يعطوا أحدًا دواء مضرًا، وألا يركبوا له سمًا، وألا يصفوا التمائم لأحد من العامة، وألا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وأضيف إلى مهام المحتسب أن يخوّف الصيادلة ويعظهم وينذرهم بالعقوبة والتعزير، وأن يراجع عقاقيرهم في كل أسبوع. ويرسل المحتسب رقيبًا على الصيادلة خبيرًا بالعقاقير، وطرق تركيبها، ووسائل غشها؛ كي يكشف المغشوش منها فيتلفه. كما قامت الدولة الإسلامية بتوظيف " عميد الصيادلة "، وقد وُسّد إليه مهام الإشراف الفني على صيدليات المدينة، وإجراء امتحان للصيادلة، ومنحهم الشهادات، وتصريح العمل بممارسة صنعة الصيدلة، بالإضافة إلى إعداد سجلات خاصة للصيادلة. وقد عُدّ عميد الصيدلة هذا المرجع الأعلى فيما يستجد في ساحة العمل من الأمور المتعلقة بهذه المهنة. وتنقل لنا كتب التاريخ صورًا مشرقة من ضبط المسلمين لمهنة الصيدلة، ومن ذلك ما نراه من أحداث في عهد الخليفة المأمون الذي أمر بضبط هذه المهنة، وإخضاعها لمراقبة الدولة المباشرة، وقد دعاه إلى ذلك أن بعض المدلّسين امتهنوا الصيدلة، وعالجوا المرضى كيفما اتفق، كما غش نفر منهم الأدوية، فأمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة. وألزم الأطباء لاحقًا بكتابة ما يصفون من أدوية لمرضاهم على ورقة خاصة، عُرفتْ في الشام باسم " الدستور "، وفي العراق باسم " الوصفة "، وفي المغرب باسم "النسخة"، وكان ذلك من إسهامات المسلمين في إنشاء علم الطب والصيدلة على أسس علمية سليمة. وسنّ أطباء المسلمين قواعد صارمة في عملية وصف الدواء، ومن ذلك: ألا يوصف أي دواء قبل إقرار التشخيص المؤكد للمرض، والتأني في ذلك إذا كان في مقدور المريض تجاوز مرضه دون دواء. وكان على الصيدلي أيضًا إيضاح جرعة الدواء المتناولة، وطريقة استخدامه، ومواعيد تعاطيه، وما قد يظهر له من تأثيرات غير مرغوبة في جسمه. كما كان لزامًا على الصيدلي مراعاة تركيب الدواء، بالتأكد من جودة المادة الخام قبل الشروع في ذلك، والالتزام بالمقادير المحددة بدقة عالية، والعناية بحفظ مواد صناعة الدواء، ووسائل تخزينها لكيلا تفسد، وتدوين جميع ما يوصف للمريض من أدوية في سجله، والتيقن من تناول المريض ما وُصف له تحديدًا، ليسلم من حلول الخطأ. وأمام تلكم الصور المشرقة التي تدل على واقع راق وأفق خصب لمهنة الطب والصيدلة، ووسائل المداواة، والخدمات العلاجية المتقدمة التي توافرت في مستشفيات الدولة المسلمة، وحينما كانت شمس المسلمين تسطع في سماء العلوم، نرى بالمقابل واقعًا مغايرًا للخدمات الصحية في أوروبا والغرب في تلك الأثناء، فقد رفض الكثيرون هناك مبدأ التطبب، وأبوا تعاطي الأدوية باستثناء ما يصفه لهم رجالات الكنيسة، بل عدوا تناول العقاقير ضربًا من الجنون، وقلة الاعتماد على الآلهة، وها هو على سبيل المثال رئيس جمعية الرهبان "برنارد کلارفو" Bernard of Clairvaux يحرّم على رهبانه تناول العقاقير، والاتصال بالأطباء إذا ما داهمهم المرض، وكان يأبى أن تعبث بأجسامهم العقاقير الأرضية التي تهدد حياة المريض على حدّ زعمه. كما نرى بابا الكنيسة وهو يهدّد الطبيب بحرمانه من دخولها إن هو تجرأ فعالج مريضًا بطريقة تخالف أهواء الكنيسة. وقد عُدّت المعاصي آنذاك سببًا لإصابة الإنسان بالمرض، فإذا بعد هذا السبب، وتخلص المريض من عبء ذنوبه بالاعتراف، فإن ذلك سيقود إلى شفاء علته، فتختفي بذلك الآلام الجسدية. تقول "زيغريد هونکه": "لقد كان الرجال المثخنون بالجراح المدمّاة، يضطرون إلى الانتظار طويلًا استعدادًا للتقرب من سر الاعتراف بذنوبهم، والإقرار بخطاياهم في الكنيسة، وتناول خبز جسد الرب، قبل أن يكتنفهم مأوى أو ملجأ". ومما ساد في الغرب حينها من مظاهر التخلف الحضاري نرى لجوء القوم إلى اتباع وسائل غير علمية في علاج ما ألمّ بهم من أمراض، كإقامة الصلوات بغية طرد الشياطين، واللجوء إلى مسوح الكهنوت والرهبان، سعيًا إلى إنقاذ الإنسانية المريضة، وتخليصها من براثن الداء والألم، وتقصّ علينا "هونکه" قصة اشتهرت عن تأخر طب أوروبا، وتخلف وسائل العلاج في تلك الحقبة، فقد وقع في المرض فارس كبير القدر، فأشرف على الموت، فعُرِض على قسّ، فلما قام بفحصه، أمر بإحضار شمع، فليّنه وعمله مثل عقد الإصبع، وأدخله في فتحات أنف الفارس المريض الذي سرعان ما اختنق ومات، فقالوا للقس: "قد مات" فقال القس: "نعم، كان يتعذب، فسددت أنفه حتى يموت ويستريح". كما أتت "هونکه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" على وصف الحال المزرية التي كانت عليها مستشفيات أوروبا، وافتقاد أدنى وسائل الوقاية والعلاج فيها، ومن ذلك قولها: "كان ثمة قَــش كثير على أرض المستشفى، وتزاحم المرضى إلى أن أصبحت أقدام بعضهم إلى جانب رؤوس الآخرين، ووضع الأطفال قرب الشيوخ، والرجال بجانب النساء. وكان قرب الموعوكين أناس ذوو أمراض معدية، ولم يكن ثمة مانع من وضع الحبلى التي تعاني آلام المخاض إلى جانب الطفل الذي يعالج سكرات الموت، أو وضع المصاب الذي يهذي من الحمى، بالقرب من مريض السل الذي يبصق دمًا، وقد ازدحم بناء المستشفى بأخطر الحشرات، وفسد هواؤه، وكانت جثث المرضى تُترك أربعًا وعشرين ساعة، مما جعل الروائح النتنة تفوح في الأجواء، وشجّع البعوض على الانقضاض نهشًا وأكلًا من اللحم المتعفن".
قصة النبي يونس عليه السلام يونس نبي الله صاحب القصة الشهيرة التي جعلته يتفرد بها عن غيره، وصاحب القوم المتفردين عن بقية الأقوام، أليس كل قوم من السابقين قد تحدى تهديد نبيه بالعذاب، ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 70]، فكانت تأتي أمارات العذاب، فلا يرعوون ولا يرتدعون حتى يحُلَّ بهم، ﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24]، وأما يونس فكان قومه خلاف كل الأقوام، فحين رأوا بوادر النقمة آبوا إلى ربهم وإلى طريق الحق، فنجاهم الله من العذاب. ولنستعرض قصة يونس من هاتين الناحيتين من خلال النص القُرْآني؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98]،وقد أرسل الله يونس نبيًّا إلى مدينة نِينوى، وهي قريبة من مدينة الموصل في العراق، وكان فيها كثافة بشرية وحضارة راقية: ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 147، 148]، فكان عددهم - على اختلاف الأقوال - ما بين مائة وعشرة آلاف إلى مائة وسبعين ألفًا. وتبدأ قصة يونس في دعوته قومه إلى التوحيد، لكنهم كذبوه وعاندوه وتمردوا عليه وأصروا على كفرهم، فلما طال ذلك عليه ولم تنفع معهم نصيحة ولا تخويف من العذاب، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، فتعجل وخرج من قريتهم غاضبًا؛ خشية أن يصيبه العذاب. قال ابن مسعود: فلما خرج يونس من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح - ملابس من شعر غليظة - وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت - الرغاء صوت الإبل - الإبل وفصلانها - الفصيل ولد الناقة - وخارت البقر - الخوار صوت البقرة - وأولادها وثغت - الثغاء صوت الشاة - الأغنام وحملانها، فكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم - بحوله وقوته ورأفته ورحمته - عنهم العذابَ الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ [يونس: 98]؛ أي: هلَّا وُجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، وهذا يدل على الامتناع وعدم وجود مثل هذه القرية من قبل، ﴿ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98]، وهذه مَيزة لقوم يونس؛ أنهم آمنوا أجمعين، لكن يونس لم يدرِ بهم، بل غادرهم وهام على وجهه تاركهم لمصيرهم، فركب سفينة في نهر الفرات نازلة باتجاه البحر محاولًا الابتعاد عنهم إلى أقصى الحدود، ومصممًا على مفارقتهم الأبدية؛ دليل الصد والجدال العقيم الذي تلقاه منهم والقلوب القاسية التي صدت النور وأبَتِ الانفتاح له، فقد غلفها ران صلد مصاحب لفكر متحجر رافض للتغيير ومقيم على تراث الأجداد المنغلق، ألم يقل مَن كان قبلهم: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، فكان هذا حالَهم، ومِن أجل تيئيس يونس من إصلاحهم واستجابتهم لدعوته تكتلوا ضده وكلموه بصوت واحد، لغتُه الامتناع والإباء عن تلبية دعوته، فما نفع معهم تخويف ولا ترغيب أو ترهيب، فانطلق مغاضبًا لهم، هاجرًا بلدتهم، فقادته قدماه إلى سفينة البؤس والشقاء والابتلاء المخيف، فما كادت تنتهي من النهر لتدخل البحر وتركب موجه في رحلة على شواطئ الخليج حتى ثار البحر هائجًا على غير عادة منه في مثل هذا الوقت، ونادى منادي الربان: أن ألقوا ما معكم من حمولة؛ فالأمر خطير؛ فقد ثقلت السفينة حتى غشيها الماء من شدة الموج، فزادها ثقلًا إلى ثقلها، وألقى الركاب ما معهم من حمولة مستغنين عن المال فداءً للروح، وألقيت الأحمال كلها، والخطر لا يزال محدقًا بالسفينة، والأمواج العاتية تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، ويونس في عالم آخر سارح بفكره في القوم الذين غادرهم متوعدًا إياهم بالعذاب، ترى ماذا حل بهم؟ وهل هياج البحر هذا مقدمة لذلك العذاب الموعود؟ لا بد واصل إليهم مدويًا مزمجرًا مهلكًا، كل الركاب مرتبكون ما بين مهموم ومحزون أو عامل باذل جهده لدفع الخطر بما يستطيع، ولكن الحيلة في مثل هذه الظروف ضئيلة، سفينة أضحت رغم ثقلها كالريشة في مهب الريح، وأي حيلة من هؤلاء الركاب للسيطرة عليها ليست بذات نفع، وما لهم إلا الالتجاء إلى الله وحده؛ فبيده وحده إنقاذهم، وأحس يونس بالخطر المحدق، وانتبه من سرحان التفكير، إذ طرق سمعه صوت الربان وهو يقول: جاء دور تخفيف الحمل من البشر، ولكن لا بد من إجراء القرعة ليتحقق العدل، يا ألله، ماذا حل بالسفينة؟ وفي هذه الأثناء كانت القرعة تجري والرجل الذي وقعت عليه القرعة كان يونس، أنت أيها الغريب اختارتك السماء لتلقى في البحر تخفيفًا للحمولة، وانطلقت كلمة من أحد المسافرين: لا تلقوا هذا الغريب الطيب إني أشفق عليه، وأيده آخرون، فأعاد الربان القرعة فوقعت على يونس، وأعيدت للمرة الثالثة والنتيجة كما هي، واضطر الربان أمام هذا الحظ العاثر لهذا الغريب أن يلقوه في البحر ويلقوا معه نحسه، لكأن البحر لم يهِجْ إلا لأجل هذا المصير الذي ينتظر يونس: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [الصافات: 139 - 142]، تصوير قُرْآني رائع، بكلمات ذات دلالات بلاغية نزلت في مكانها المناسب، فأنتجت عبارات عالية المعاني والبيان، فيها الصورة المتحركة المعبرة، فكلمة "أبق" استعمالها العربي الغالب للعبد الهارب من مولاه، فكأنه هرب من المكان الذي كلفه فيه ربه ليقوم بالدعوة صابرًا محتسبًا؛ لذلك ورد أن البحر لما هاج بهذه الشدة غير المعهودة قال أصحاب السفينة: هناك عبد أبق من سيده ستظهره القرعة، فوقعت القرعة على يونس، فألقي في البحر جزاء لهروبه من سيده، والفُلك المشحون عبارة وصفت بها من قبل سفينة نوح، دليلًا على حملها من كل صنف من البشر والدواب والبضائع، والمساهمة تقال عادة لمن يدخل في القرعة وقد غلب فيها حيث وقعت القرعة عليه، فالتقمه الحوت، وهذا مبالغة في البلع؛ لأنه بالنسبة للحوت لقمة صغيرة لا يحتاج لقضمه وتجزئته، وهو مليم: فقد أتى يونس أمرًا يلام عليه من حيث هروبه دون إذن من ربه، وربما هو قد لام نفسه ووبخها لما فعل، فلقي هذه المشقة وهذا المصير، ورُوي أن الله تعالى منع الحوت من أكله أو كسر عظمه، أوحى إليه - كما أوحى إلى النحل - أن هذا ليس برزق لك، فكان الحوت بمثابة المستودع ليونس؛ لذلك لما شعر يونس وهو في جوف الحوت أنه يتحرك ويتنفس استذكر ربه فسبح الله ومجده: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]، وهنا تكمن قيمة التسبيح والتهليل وذكر الله، حيث يغفل اليوم كثير من المسلمين عن الذكر والتسبيح والتعرف إلى الله في الرخاء لكي يتعرف عليهم في الشدة، وقد وصفت حالة يونس في سورة الأنبياء وهو في أحلك أيامه وأشدها خطورة: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وهو يونس عليه السلام، والنون هو اسم الحوت، فعُرف بصاحب الحوت الذي خرج مغادرًا قومه دون إذن من ربه، وكان خروجه غضبًا لله وأنفة لدينه وبغضًا للكفر وأهله، فقد برم بقومه لطول ما ذكرهم به فلم يتذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وغاضبهم تاركًا قريتهم وهاجرًا لهم، وظن أن ذلك يسوغ، فعاتبه ربه عتابًا شديدًا، تارة بقوله تعالى: ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87]، وتارة: ﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ [الصافات: 140]، وتارة: ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [الصافات: 142]، لكن يونس أدرك خطورة فعلته ومقدار امتحانه الشديد فنادى وهو في جوف الحوت حيث حالك الظلمة، مضافًا إليها ظلمة البحر وظلمة الليل، بنداء مؤثر يظهر الضعف البشري والحاجة التي لا غنى عنها لأي مخلوق إلى رحمة الله ولطفه بعباده: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87] إقراره على نفسه بالظلم كان بابًا ولج منه لشاطئ النجاة، ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]، تعليم لنا ولكل مخطئ أن يُعلن عن هذا فيحصل على الاستجابة وتفريج ما عليه من الهموم، قال الحسن: ما نجاه الله إلا بإقراره على نفسه بالظلم، وعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، لم يدعُ بها مسلم ربه في شيء قط إلا استُجيب له))، وقال أيضًا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: دعوة يونس بن متى ))، قلت: يا رسول الله، هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: ((هي ليونس خاصة، وللمؤمنين عامة إذا دعوا به، ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]؛ فهو شرطٌ مِن الله لمَن دعاه))، ولما دعا يونس بهذا الدعاء نجاه الله من بطن الحوت فلفظه، ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145]، وكان النبذ على شاطئ رملي لا ظل فيه ولا ماء، مكان قاحل تلفحه الشمس، وعليك أن تتصور سواحل الكويت أو البصرة جفافًا وحرًّا وقد لفظه الحوت بعد أن أمضى في بطنه يومًا على بعض الأقوال، وأيامًا ما بين السبعة والأربعين يومًا، لكن الأقوى أن الأمر لم يطل في بطن الحوت؛ لأن الفاء تفيد التعقيب، ومن حالته التي كان عليها عندما خرج من بطن الحوت هي بالطبع أكثر من يوم؛ لأن الأذى قد نال من جسمه؛ أي: بدأ لعاب الحوت وإفرازاته الهضمية تؤثر في جلده، فخرج في مرحلة ما قبل الهضم؛ ولذلك سخر الله له شجرة من يقطين لتداوي جسمه، ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ [الأنبياء: 88]، وفي الحديث عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحمًا، ولا تكسر عظمًا، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسًّا فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا بأرض غريبة، قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح! قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله: ﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145]))، ورُوي عن أبي هريرة قال: طُرح يونس بالعراء، وأنبت الله عليه اليقطينة، قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء - وهو القرع - قال أبو هريرة: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض، أو قال: من هشاش الأرض، قال: فتفشخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت، قال ابن مسعود: ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145] كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وحكمة إنبات شجرة اليقطين: أنها مناسبة لمن يكون حاله مثل حال يونس، فورقها كبير ناعم يصلح فراشًا وغطاء، وهو لطيف في غاية النعومة، لا يقربه الذباب، وهذا أمر مهم، فلو وقع الذباب على جسم يونس وهو في حالة من الرقة والحساسية لآلمه وأزعجه، وربما يتمكن من إحداث قروح فيه تسبب له مضاعفات خطيرة وألمًا لا يطاق، زِدْ على ذلك أنه طعام يؤكل نيئًا ومطبوخًا، ولقد تجلت حكمة الله بهذا الصنع. لقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم يونس بن متى؛ فقد أخرج البخاري عن أن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ))، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يونس عندما ذهب للدعوة في الطائف وآذاه يومذاك أهلها، فلجأ إلى حائط فجاءه عداس بقطف عنب ليأكله بناءً على طلب سيديه ابني ربيعة عتبة وشيبة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (( مِن أي البلاد أنت؟ ))، فقال: مِن نِينوى، فقال عليه الصلاة والسلام: (( مِن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ))، فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ذاك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبي ))، فانكبَّ على يديه ورِجْليه يقبلها - وتمام الخبر في السيرة، وبعد أن شفي يونس عليه السلام مما أصابه من الحوت بسبب إقامته في بطنه أرسله الله مجددًا إلى قومه الذين غادرهم وهم مسلمون على أحسن حال، فأقام بينهم نبيًّا مرشدًا وموجهًا حينًا من الزمن؛ قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: 48 - 50]، والاجتباء: النبوة، فقد عاد إلى قومه نبيًّا، واستمرت دعوته فترة طويلة من الزمن إلى أن توفاه الله، ثم أصاب نِينوى ما يصيب الأممَ مِن تغيرات على مدى الزمن.
كتاب التوحيد لسعيد بن هليل العمر صدر حديثًا " كتاب التوحيد "، تأليف: الشيخ " سعيد بن هليل العمر "، نشر: " دار السنة للنشر والتوزيع ". وهذا الكتاب يحوي فرائدَ عقَديَّة، ومنتخباتٍ أصولية، وفوائد ونكتًا إيمانية في مبحث التوحيد، جمعها الكاتب وولف بينها في عدة أبواب جامعة، في بيان حقيقة التوحيد، وأقسامه، ومراتبه، وفضائل التوحيد، وبيان أنواع من الشرك القادح في التوحيد، التي تنقضه وتنافيه. كما بيَّن الكاتب صفات الموحدين، ورقائق إيمانية في باب الرجاء والخوف من الله، وأمثلة من ذكر الموحدين. وقد جاء الكتاب شاملًا جامعًا لأغلب أبواب التوحيد، بأسلوب مبسط ميسر كمدخل لدراسة العقيدة، وراعى فيه الكاتب الصحيح الثابت من منهج أهل السنة والجماعة، مع التركيز على بيان مقاصد وثمرة التوحيد. وهدف الكاتب من دراسة كتاب التوحيد أن يكون غرضه "ضبط أصول مسائل توحيد الألوهية، وما يناقضه من الشرك بأنواعه". ومن ضمن مباحث كتاب التوحيد وأبوابه التي أوردها الكاتب في دراسته ما يلي: • باب: التوحيد حق الله على العبيد. • باب: توحيد العبادة. • باب: توحيد الربوبية. • باب: توحيد الأسماء والصفات. • باب: التوحيد أساس الملة وأصل الدين. • باب: التوحيد مفزع أوليائه. • باب: التوحيد مفزع أعدائه. • باب: الأمن لأهل التوحيد في الدارين. • باب: فضائل التوحيد. • باب: تحقيق التوحيد. • باب: دعاء الموحدين. • باب: الدعوة إلى التوحيد. • باب: أفضل الذكر كلمة التوحيد. • باب: مضادة الشرك للتوحيد. • باب: الخوف من الشرك. • باب: مضادة السِّحر للتوحيد. • باب: حماية التوحيد. • باب: موالاة أهل التوحيد. • باب: معاداة من رفض التوحيد. • باب: قيام أهل التوحيد على من خالفهم. • باب: قوادح التوحيد. • باب: الرُّقى الشركية تُضادُّ التوحيد. • باب: التبرك المنافي للتوحيد. • باب: الذبح المنافي للتوحيد. • باب: الاستعاذة بغير الله تُضاد التوحيد. • باب: الشفاعة للموحدين. • باب: الغلو في الصالحين ينافي التوحيد. • باب: الاستغاثة بغير الله تضاد التوحيد. • باب: بناء المساجد على القبور يضاد التوحيد. • باب: تعظيم القبور وتشييدها يقدح في التوحيد. • باب: التطير يقدح في التوحيد. • باب: الاستسقاء بالنجوم والأنواء ينافي التوحيد. • باب: توكل الموحدين. • باب: حب الموحدين. • باب: خوف الموحدين. • باب: رجاء الموحدين. • باب: الموحد لا يأمن مكر الله. • باب: صبر الموحدين. • باب: الرياء يقدح في التوحيد. • باب: الطاعة في المعصية تقدح في التوحيد. • باب: الموحِّدون لا يَرضَون إلا بحكم الله. • باب: الشرك الخفي يقدح في التوحيد. • باب: سب الدهر يقدح في التوحيد. • باب: الألقاب العظيمة منها ما يقدح في التوحيد. • باب: الاستهزاء بالدين وأهله يناقض التوحيد. • باب: جحد نعمة الله ينافي التوحيد. • باب: الألفاظ التي تقدح في التوحيد. • باب: إنكار القدَر يضاد التوحيد. • باب: الغلو يقدح في التوحيد. • باب: ذكر الموحدين. يقول الكاتب: "هذه أبواب في التوحيد جمعتُها وذكَرتُ أدلتها من الكتاب والسُّنة وما جاء عن سلف هذه الأمة، وسلَكتُ فيها مسلك المتقدمين من السلف الذين يُعنَون بالأدلة من نصوص الوحيين دون استطراد في الشرح". والشيخ "سعيد بن هليل العمر" له العديد من المحاضرات والدروس العلمية في شرح متون أهل السنة، وله من المؤلفات: • "أسماء الله الحسنى". • "أسباب النزول". • "آثار الكرام على بلوغ المرام". • "بدعة تحديد العزاء". • "الرسالة المكية في بيان العقيدة السلفية". • "آداب الزفاف ومنكرات الأفراح". • "السلام آداب وأحكام". • "الجواب النافع لأسئلة المزارع". • "خصال يجب تحققها فيمن ينصب نفسه للفتيا". • "الرسائل في بيان بعض المسائل". • "النصيحة (وملحق النصيحة)". • "تحذير الموحدين من تتبع آثار المشركين والغلو في الصالحين".
الرياح في المرسلات والنازعات قَسَمٌ وتحذير : القسم من الله، والتحذير من رسوله؛ يُقسِم تعالى بالذاريات في قوله تعالى في الآية الأولى من سورة الذاريات: ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾ [الذاريات: 1]. ويحذِّر رسول الله من الذَّرِّ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((غَطُّوا الإناء، وأَوكئوا السِّقاء؛ فإن في السَّنة ليلةً ينزل فيها وباء، لا يمرُّ بإناء ليس عليه غطاء، أو بسقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء) ). قسم: ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾ [الذاريات: 1] . تقتضي معالجةُ هذا القَسَم ضرورة ذِكر أنواع القَسَم في مطلع سور الذاريات والمرسلات والنازعات؛ حيث يقول تعالى: • ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ﴾ [الذاريات: 1 - 4]. • ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴾ [المرسلات: 1 - 5]. • ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾ [النازعات: 1 - 5]. وجواب القسم: على تعدُّدِ معانيه يكاد يكون واحدًا، وهو وقوع يوم القيامة؛ ففي السورة الأولى نجده ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الذاريات: 5، 6]، وفي السورة الثانية: ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ [المرسلات: 7]، وفي النازعات: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ﴾ [النازعات: 6] . ما الذاريات والمرسلات والنازعات؟ الذاريات : هي الرِّياح باتفاق، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير فيما روي عن سعيد بن المسيَّب قال: جاء صَبِيغٌ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، أَخبِرْني عن ﴿ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾، فقال رضي الله عنه: هي الرياح، ولولا أني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلتُه. قال: فأَخبِرْني عن ﴿ الْجَارِيَاتِ يُسْرًا ﴾، قال رضي الله عنه: هي السفن، ولولا أني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلتُه. وقيل: الذاريات: هي الريح، والحاملات: هي السحاب، والجاريات: السفن، وقيل: النجوم، والمقسِّمات: الملائكة. ووجود حرف الفاء في الأقسام الثلاثة التي تلي قَسَمَ ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾، تشير إلى أن الأقسام الأربعة يجمعها رابطٌ واحد، عبْرَه تتصاعد أو تتطور الرياح. هذا الإعجاز في السُّنة له علاقة بالسحابة السوداء، وتلوُّث الهواء، والوقاية من الأمراض، من ذاريات، إلى حاملات، إلى جاريات. وفي النهاية يأتي تدبير تلك الرياح وما ينجم عنها. المرسلات : ورد في تفسير ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴾ [المرسلات: 1] أنها الرياح التي ترسل متتابعةً، وقيل أيضًا: الملائكة، وقيل: الرسل، وقيل: السحاب. أما ﴿ الْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴾، فهي الرياح بغير خلاف، وإن كان قيل أيضًا في تفسيرها: إنها الملائكة الموكَّلون بالرياح، أو بعصف روح الكافر، وقيل: إنها الآيات المهلِكة؛ كالزلازل والخسوف. وقيل عن ﴿ النَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴾: إنها الملائكة الموكَّلة بالسحب فينشرونها، والرياح التي يُرسِلُها الله نشرًا للسحاب، والأمطار التي تنشر النبات، وما يُنشَر من الكتب وأعمال العباد، والبعثُ تُنشَر فيه الأرواح. أما ﴿ الْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴾، فهناك اتفاق على أنها الملائكة تَفرِق بين الحقِّ والباطل، أو تفرق من الرزق والآجال والأقوات، وقيل: الرياح تفرق بين السحاب وتبدِّده، وقيل: الفرقان، وقيل: الرسل. النازعات : وأيضًا تعدَّدت التفسيرات بالنسبة لآيات القَسَمِ في صدر سورة النازعات؛ فقيل عن ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴾: الملائكة تَنزِع أرواحَ بَني آدم، وقيل: أنفُسَ الكفار، وقيل: الموت. أما ﴿ النَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴾، فقيل: إنها الملائكة، وقيل: النجوم، وقيل: السفن، وقيل: أنفُس المؤمنين، وقيل: الموت، وقيل: الوحش، وقيل: النفوس. ونفس الحال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴾؛ فقيل: الملائكة، أو النجوم، أو السفن، أو أرواح المؤمنين. واتُّفِق على أن ﴿ الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾: هم الملائكة.
الفاحشة وطاعون الإيدز قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتُليتُم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن...) )، وذكر منها: ((... ولم تظهر الفاحشةُ في قوم قط يعمل بها علانية، إلا فشا فيهم الطاعونُ والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) )؛ رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي. وإذا ما نظرنا إلى آثار العلاقات الجنسية المحرَّمة؛ من زنا ولواط وإتيان النساء في أعجازهن، نجد انتشار الكثير من الأمراض الجنسية؛ مثل السيلان، والزهري " الإفرنجي "، والتريكوموناس المهبلي، والتهاب الإحليل بالكلاميديا، وداء الإيدز العضال، هذا بالإضافة إلى كثرة ولد الزنا. وتكشف الإحصائيات أن علاج الأمراض الجنسية يكلِّف أمريكا عشرة بلايين سنويًّا. ولا شك أن العلاقات الجنسية الشاذة هي المسؤول الأساسي عن معظم حالات الإيدز التي تحدُث في سن المراهقة والشباب، وكلما زاد عدد الذين يمارس معهم الجنس، زاد انتشار الوباء. وقد نشرت مجلة العلوم الأمريكية في سنة 2000 أنه في زيمبابوي يقتُل الإيدز جيلًا من البالغين في مقتبل حياتهم؛ حيث معدل إصابة واحد فقط من كل أربعة زيمبابويين بفيروس "HIV" يكون تقديرًا متفائلًا، كما نشرت نفس المجلة في مايو 2001 أن تسعة من كل عشرة أطفال مصابين بالفيروس "HIV" يعيشون في إفريقيا جنوب الصحراء، وتعاني جنوب إفريقيا من أعلى نسبة في العالم، وللأسف ينتقل المرض من الأم إلى الأجنة في البطون وكأنه قتل مبرمج. ويكلِّف تأمين الرعاية الطبية السنوية للمرض 2400 دولار في حالة تخفيض أسعار الدواء بنسبة 80%، الشيء الذي لا تتحمله ميزانية أيِّ دولة من الدول النامية، ومريض الإيدز في حاجة إلى تناول 26 حبة يوميًّا طبقًا لبرنامج جرعات صارم، وعلى امتداد سنوات ودون انقطاع، وتلك تكلفة لا يمكن أن تَتحمَّلَها ميزانية أي دولة من الدول النامية، ناهيك عن الدول الفقيرة. وفي يونيو 2001 يطرح جون كوهين في مقالته "البحث العصي عن لقاح للإيدز" سؤالًا يتعلق بأخلاقيات الطب، يقول كوهين: هل يسوِّغ انتشارُ المرض في إفريقيا أن تُتخذ أرضًا للاختبارات التجريبية؟ وهل من الأخلاقيات اختبار لقاحٍ ما، في بلدٍ ما، في حين تم تطويره في بلد آخر؟ ويقترح كوهين مسيرة الدولار لمكافحة الإيدز، مع أنه من وجهة نظري يلزم أولًا تحريم وتجريم العلاقات الجنسية الشاذة، ورفع شعار العفة قبل شعار "ادفع دولارًا تنقذ مريضًا بالإيدز"، ومع ذلك يصرح كوهين بأن مشروعه قد لا يصل إلى اليوم الذي يرى فيه العالم أنه حقَّق آماله ووجد لقاحًا فعَّالًا ضد مرضِ نقص المناعة "الإيدز"؛ بمعنى أن العالم يكفيه شرفُ المحاولة. وما زالت المجلة السابقة حتى مايو سنة 2003 تسأل: هل من لقاح للإيدز في إفريقيا؟ ولا أعرف لماذا لم يُدخِلوا أمريكا في الحسبان، مع أن 80 ألف طفل أمريكي فقَدَ أباه أو أمَّه حتى تاريخ طرح السؤال؟ شكل(21): صورة تعكس بشاعة مرض الإيدز الناتج عن العلاقات الجنسية الشاذة. شكل(22): الفاحشة وأثرها السيئ في مريض الإيدز.
الجذور الثقافية العلاقات بين الحضارات ليست أسيرة حادث آني، كما هي الحال في عصرنا الحاضر عندما استولت على الأذهان حادثة الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة 1422هـ الموافق الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر من سنة 2001م، وإن كانت هذه الحادثة غير العادية قد أثَّرت ربما سلبًا على التواصُل الحضاري بين الشرق والغرب عمومًا، وبين المسلمين والغرب خصوصًا. مع هذا تظلُّ العلاقات الحضارية لا تخضع لحدث آني مهما كان حجمه في أوانه؛ إذ إن جذور هذه الثقافات راسخة متبادلة بين تأثُّر وتأثير، سواء بين الثقافات القائمة على وحي منزَّل كاليهودية والنصرانية والإسلام [1] ، دون مصادرة لخصوصية كل دين، أم بينها وبين الثقافات التي اتكأت على هذه الديانات الثلاث، مع الأخذ في الحسبان أنه من نتائج هذا الحدث ظهرت مناهج متباينة، منها ما أكد على الارتماء في أحضان الغرب والنهل من معطياته الحضارية دون قيد أو شرط،وهذا نهج في التبعية قديم تجدَّد مع اختلاف في المنهجية والتعبير [2] . ويقابله نهجٌ آخر مضادٌّ دعا إلى القطيعة الحضارية ونبذ كل ما هو غربي، ومن ثم الانسلاخ من الهيمنة والتبعية، وكأن التأثُّر بالإنجازات الحضارية الغربية يفضي إلى تلك الهيمنة الغربية والتبعية الشرقية. معلوم أن هذا الموقف السلبي من الحضارات الأخرى - والغربية منها خاصةً - ينبع من إفراط في الحرص على نبذ الدخيل على الثقافة الإسلامية؛ خوفًا عليها، من منطلق أنها ثقافة قائمة بذاتها، لها خصوصيتها التي لا ينبغي أن تُخترق [3] . الحفاظ على الخصوصيات الثقافية داخل المجتمع العربي المسلم لا يعني العزلة والتمترُس، ولا يتنافى مع التعايش بين الثقافات وتبادل المنافع بينها، وإظهار مكنوناتها الإنسانية التي قامت على تكريم بني آدم، مهما بشَّر بعض المثقفين المتعجلين بسيطرة النظرة العولمية على هذا الكوكب، ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]. وادِّعاء سيطرة العولمة قد يثبت المستقبل القريب عدم فاعليته، لا سيما مع التواتر بين المفكرين على أن الدعوة إلى العولمة في كل شيء لم تثبت جدواها؛ لأنها تسير في اتجاه واحد، في ضوء شيوع نظرية المركز أو المحور والأطراف، وأن الأطراف ينبغي أن تخدم المركز، وأنه لم يظهر في الأطراف علماءُ مؤثرون، بل متأثرون، بحيث أصبح الإنسان في الأطراف غير مؤثر، حتى إذا ما "رحل" إلى المركز "لا يلبث أن يصبح عالمًا مرموقًا أو باحثًا لامعًا بعد الهجرة إلى إحدى الدول الرأسمالية المركزية، والانخراط في بنائها المركزي المتكامل" [4] . بل وصل الأمر إلى تسنُّم المناصب القيادية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، يتم ذلك بعد تبني ثقافة المحور وتجاهل ثقافة الأطراف، وربما التنكُّر لها ولو ظاهريًّا؛ إذ يصعب واقعيًّا التنكُّر للجذور على الدوام. ولذا فلا بُدَّ من التركيز على هذه الخصوصية الثقافية الدافعة لا الحاصرة، وأخذها في الحسبان عند سنِّ النظم والقوانين الغربية التي تحكم العلاقات الإنسانية والاجتماعية [5] ، وتتبناها المنظمات الدولية الحقوقية وغيرها، وتطالب الدول الأعضاء بتبنيها والعمل بموجبها. يأتي التركيز على هذا البُعد من منطلق أن "كرامة الإنسان وحقوقه أمرٌ لازمٌ وثابت له قد ينطلق من معتقد ديني أو نصٍّ قانوني أو موقف إنساني، لكن حقوق الإنسان تبقى في النهاية أمرًا لا بد من سعي الأفراد والدول والمنظمات الدولية والجمعيات والمؤسسات المدنية للدفاع عن هذه الحقوق والمحافظة عليها" [6] ،والمراد بهذه الكرامة والحقوق ما يتماشى مع فطرة الإنسان التي أقرَّتها التشريعات السماوية، وجاءت بها الكتب المنزَّلة، وبلَّغها الأنبياء المرسلون. [1] انظر: هافانا لازاروس - يافه. الفكر الإسلامي والفكر اليهودي: بعض جوانب التأثير الثقافي المتبادل - الاجتهاد - ع 28 (صيف العام 1416هـ/ 1995م - ص 179 - 209. [2] في تحرير الإشكال في المصطلح "الحضارة" انظر المناقشة المستفيضة: الحضارة بين إشكاليات الترجمة وتعدُّد المفاهيم - ص 9 - 28 - في: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية - دمشق: دار القلم، 1424هـ/ 2003م - 176ص. [3] انظر: من النهضة إلى الردة - ص 111 - 153 - في: جورج طرابيشي. المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي - دمشق: دار بترا، 2005م - 184ص. وينقل جورج طرابيشي هذه الجدلية عن منير شفيق في كتابه: الإسلام في معركة الحضارة - ط 2 - بيروت: دار الكلمة، 1983م. [4] انظر: أيوب أبو دية. لماذا انحسرت التأثيرات العلمية المتبادلة بين العرب والغرب - ص 271 - 282 - في: عبدالواحد لؤلؤة، وآخرين/ محررين. العرب والغرب: أوراق المؤتمر العلمي السنوي السابع لكلية الآداب والفنون، جامعة فيلادلفيا - عمان: الجامعة، 2003م - 599ص. [5] انظر: فوزية العشماوي. الحوار بين الحضارات وقضايا العصر: العولمة وآثارها على الخصوصيات الثقافية - الاجتهاد - ع 52 و53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ) - ص 97 - 112. [6] انظر: سعيد حارب المهيري. حقوق الإنسان في العلاقات الدولية الإسلامية - الاجتهاد - ع 52 و53 (خريف وشتاء العام 2001 - 2002م/ 1422هـ) - ص 133 - 185.
تطور مفهوم الأيديولوجيا الأفكار تُشبِهُ الكائن الحيَّ من ناحية النشأة والنمو؛ فالفكرة لا تُولَد كبيرةً وكاملة، ولكنها تمرُّ بمراحلَ من حيث التولد والنمو، ثم التطور والرقيُّ والكمال، ثم الانحدار والتلاشي، والأيديولوجيا ليست بِدْعًا في ذلك؛ فقد سبق أن ذكرنا أن "تراسي" أول من استخدم هذا التعبير، وقد عرَّفه بأنه عِلمُ الأفكار، أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يَحمِلُها الناسُ، هذه الأفكار التي تُبنى منها النظريات والفرضيات التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع. وانتشَر استعمال هذا الاصطلاح بحيث أصبح لا يعني علم الأفكار فحسْبُ، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يعبِّر عن مواقف الأفراد حول العالم والمجتمع والإنسان. وقد طبِّق هذا الاصطلاح بصورة خاصة على الأفكار والعواطف والمواقف السياسية التي هي أساس العمل السياسي وأساس تنفيذه وشرعيته. وعندما دخل المصطلح إلى لغة الفلسفة والجدل السياسي، اتَّخَذ معنى جديدًا على يد ماركس وأنجلز، وقد وصفها الأخير (بالوعي الزائف) ، باعتبارها تشويهًا للفكر والحقيقة؛ لأن الطبقة الحاكمة تحجُبُ الوعيَ والرؤية الصحيحة عن الطبقة المنتجة، وتدَّعي الحقيقة المطلقة لتسويغ موقفها وتثبيت شرعيتها. وممن أشار إلى هذا التطوُّرِ الدكتور اليحيى في مقاله "الأيديولوجيا المفهوم والدلالة" بقوله: المفكِّر الذي توسَّعَ في معنى الأيديولوجيا حتى شمل دلالتَه الحديثة هو لينين [1870-1924م]، وأضاف إلى هذا المصطلح معنى جديدًا وأسماه (الحزبية) ليس بمعنى التحزُّب أو التشيُّع، وإنما بالمفهوم السياسي المؤدلج، والذي يدلُّ على الوعي الحزبي الفعلي. أما في عصرنا الحديث فقد انحصرت وظيفة الأيديولوجيا بالتعمُّق في دراسة قضية التقدُّم والتخلف في مجتمع معيَّن، وقد ترتبط بأيِّ مذهب سياسي أو ديني، أو فلسفي أو اجتماعي، فلا يكاد حزب يخلو من الأيديولوجيا بما هي منهج (فكري - فلسفي) ودليل نظري، فالحزب الذي لا يمتلك أيديولوجية هو حزب انتهازيٌّ ظرفي.
مقومات الصحة النفسية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فنعم الله جل جلاله على عباده لا تعد ولا تحصى، ومن أجل النعم بعد نعمة الإسلام والإيمان: نعمة الصحة، فهي نعمة عظيمة، لا ينتبه لها كثير ممن يتمتعون بها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) [أخرجه البخاري] وأخرجه الدارمي ولفظه: (إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله، مغبون فيهما كثير من الناس) . ومن تمتع بالصحة، وكان آمناً، ولديه قوت يومه، فكأنما ملك الدنيا، فعن عبيدالله بن محصن الأنصاري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، مُعافيً في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) [أخرجه الترمذي، وصححه الألباني، برقم (2318) في السلسلة الصحيحة]. والصحة قسمان: صحة بدنية، وصحة نفسية، والصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة البدنية، إن لم تزد عليها، فالحالة النفسية للحامل تؤثر على جنينها، وكثير من الأمراض البدنية المزمنة منشأها نفسياً، ومن تمتع بالصحة النفسية سلِم من الاضطرابات النفسية التي هي بوابه الأمراض النفسية، فيجب الاهتمام بالصحة النفسية، والصحة النفسية لها مقومات، من أهمها: بداية اليوم بطاعة الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب مكان كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) [متفق عليه] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) دليل على فضل العمل الصالح، وأن له تأثيراً حتى على نشاط المرء، وطيب نفسه، وأن عدم العمل الصالح يؤثر على الإنسان حتى في نفسه وعزمه، ولهذا قال: (كسلان) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (طيب النفس) أي: لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وبما زال عنه من عقد الشيطان قال فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن صالح الدهش: قال: (عليك ليل طويل) أي: نم نوماً طويلاً عميقاً لا تقوم معه لذكر الله ولا إلى الصلاة قال: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة) فتخلص بهذه الأعمال الثلاثة من عُقدِ الشيطان ثم أصبح نشيطاً طيب النفس، فهو نشيط في بدنه، طيب في قلبه، وإذا اجتمع الأمران فلا تسأل عن انبساط الإنسان وسعادته، يكون يومه من أسعد الأيام في حياته ويقضي أعماله ومهماته بنشاط وحيوية...وهذا النشاط يشمل الأعمال الأخروية والدنيوية...فهذه يتقوى الإنسان عليها بذكر الله عز وجل، فإذا وجدت الإنسان يؤدي وظيفته وعمله بنشاط فإنك تظن فيه أنه ممن ذكر في الحديث. أداء الصلاة بخشوع وطمأنينة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جُعلت قُرةُ عيني في الصلاة) [أخرجه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني برقم (3291) في السلسلة الصحيحة] وقال علية الصلاة والسلام: (يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بالصلاة) [أخرجه أبو داود، وصححه الألباني برقم (7892) في صحيح الجامع] قال ابن القيم رحمه الله: وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسرُّ ذلك أن الصلاة صِلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتنقطع عنه من الشرور أسبابها، وتُفيضُ عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم والأفراح والمسرات، كلها محضرة لدية، ومسارعة إليه. وقال رحمه الله: من علامات صحة القلب أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا واشتد عليه خروجُه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرَّة عينه وسرور قلبه. ومن الصلاة التي ينبغي أن يجاهد الإنسان نفسه على أدائها: صلاة الليل، فله أثر على صحة الإنسان النفسية، قال مسلم بن اليسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل. وكان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم، ونهاية مطلوبهم... من لم يشاركهم في هواهم وذوق حلاوة نجواهم، لم يدر ما الذي أبكاهم قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس. نظر الإنسان إلى من هو أدنى منه في أمور الدنيا: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه) [متفق عليه] وفي رواية مسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) قال العلامة السعدي رحمه الله: يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية!...قد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن يلحظ العبد _ في كل وقت _ من هو دونه في العقل والنسب والمال، وأصناف النعم، فمتى استدام هذا النظر، اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه، فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثيرٌ منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخَلق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول: الحمد الله الذي أنعم عليَّ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. ينظر إلى خلق كثيرٍ ممن سُلِبوا عقولهم، فيحمد لابَّه على كمال العقل، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قُوت مدّخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه. ويرى خلقاً كثيراً قد ابتلوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو معافى من ذلك، مسربل بالعافية، ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي، والله قد حفظه منها أو من كثير منها. ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، وملكهم الحزنُ والوساوس، وضيق الصدر ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيراً يفوق بهذه النعمة _ نعمة القناعة وراحة القلب _ كثيراً من الأغنياء. ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالماً كثيراً أعظم منه وأشد مصيبةً، فيحمد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد أعظم منه. فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى لله عليه وسلم، لم يزل شكره في قوة ونموّ، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتوالى، ومن عكس القضية، فارتفع نظره، وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فقد الشكر، ترحَّلت عنه النعم، وتسابقت إليه النِّقم، وامتُحن بالغمِّ الملازم، والحزن الدائم، والتسخُّطِ لِما هو فيه من الخير. القناعة برزق الله في كل شيءٍ: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) [أخرجه الترمذي وصححه الألباني في الصحيحة:930]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس) [متفق عليه] وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه، فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه، فلا يغنيه ما أُكثر له في الدنيا، وإنما يضُرُّ نفسه شُحُّها) [أخرجه النسائي وصححه الألباني برقم (7816) في صحيح الجامع] قال السعدي: ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني، قانع برزق الله...فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا، لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق، فليسع لراحة القلب وسكونه وطمأنينته. الحرص على المرأة الصالحة، المسكن الواسع، الجار الصالح، المركب الهنيء: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق) [أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني برقم (282) في الصحيحة] ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث أربع من السعادة من حظي بها كانت جالبة للفرح والسرور، والذي هو لب الصحة النفسية، وهذه الأمور، هي: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، فغير الصالحة قد توقع زوجها في أمور محرمة تجلب له الشقاء، والمسكن الضيق لا يرتاح فيه الإنسان، والجار السيء الذي لا يكف أذاه عن جاره يجعل جاره في ضيق كلما دخل وخرج من منزله، والمركب إذا كان لا يرتاح فيه، وأعطاله كثيرة ودائمة فإنه تنكد على الإنسان، فمن بعد عنها سلِمَ من آثاره الضارة التي تشوش عليه في حياته. تجنب الوحدة: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده. [أخرجه أحمد، وصححه الألباني]قال الطبري: هذا زجر أدب وإرشاد لما يخاف على الواحد من الوحشة وليس بحرام، فالسائر وحده بفلاة، والبائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش سيما إن كان ذا فكرة رديئة أو قلب ضعيف". الإنسان الوحيد تنفرد به الشياطين، وتوسوس له أشياء لا حقيقة لها، ولا وجود لها، مما ينعكس سلباً على نفسيته، ومن ثم على صحته النفسية، فليحذر الإنسان منها، ومن اضطر إليها لضرورة، فليكن أنيسه الدائم ذكر الله. عدم الاقتراض: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها.) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (الدَّينُ) [ أخرجه أحمد، وقال الألباني في الحديث رقم (2420) في سلسلة الأحاديث الصحيحة: هذا إسناد جيد، رجاله ثقات]. قال الشيخ أحمد عبدالرحمن الساعاتي رحمه الله، في كتابه: " بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ": والمعنى لا تخيفوا أنفسكم بالدين بعد أمنها من الغرماء، وإنما كان الديّنُ جالباً للخوف، لشغل القلب بهمه، وقضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته إلى تأخير أدائه، وربما بعد الوفاء يحلف أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف فيحنث، أو يموت فيرتهن. فالإنسان في آمن، وراحة، إذا لم يكن عليه دين، فإذا استدان، وحلَّ وقت الوفاء، ولم يكن عنده وفاء، فإنه قد يقول ويكذب، ويعد فيخلف، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) [متفق عليه]. فمن مقومات الصحة النفسية: البعد عن الديون، لأنها هموم، وتكدير للخاطر، ومن اضطر إليها لضرورة من مأكل ومشرب وملبس دواء ونحوها فليكن من نيته عند الاقتراض أنه سوف يقوم بقضاء الدين حتى يعينه الله فيسلم من هم الدين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) [أخرجه البخاري]. النظر إلى المحاسن وغضّ الطرف عن المساوئ: عن أبي هريرة الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقاً رضي منها غيره) [أخرجه مسلم] قال العلامة السعدي رحمه الله: هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حُسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الكريمة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها، فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الكريمة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها، وسُوء عشيرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً! وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفاً أغضى عن مساويها لاضمحلالها في محاسنها وبهذا تدم الصحبة، وتُؤدى الحقوق الواجبة والمستحبة، وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله. وأما من أغضى عن المحاسن، ولحظ المساوي _ ولو كانت قليلة _ فهذا من عدم الإنصاف، ولا يكاد يصفو مع زوجته. وهذا الأدب الذي أرشد إليه صلى الله عليه وسلم ينبغي سُلُوكُهُ واستعمالُهُ مع جميع المُعاشرين والمُعاملين، فإن نفعه الديني والدنيوي كثير، وصاحبه قد سعى في راحة قلبه، وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، لأن الكمال في الناس متعذر، وحسب الفاضل أن تُعدَّ معايبه، وتوطين النفس على ما يجيء من المُعاشرين _ مما يخالف رغبة الإنسان _ يُسهّل عليه حُسن الخُلُق، وفِعل المعروف والإحسان مع الناس، والله الموفق.
الهندسة المالية وأساليب تطوير المنتجات في الاقتصاد الإسلامي وفيه مبحثان: المبحث الأول: حقيقة الهندسة المالية، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الهندسة المالية. الهندسة المالية تتمثل في تطبيق أساليب رياضية وإحصائية وحاسوبية مختلفة لحل المشكلات المالية، فهي تعني تصميم وتطوير وتنفيذ أدوات وآليات مالية مبتكرة، وصياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل، وصياغة المدخلات المالية لتلبية حاجيات وميول المستثمرين فيما يخص المخاطرة وفترة الاستحقاق والعائد. فالهندسة المالية تتضمن ثلاثة أنواع من الأنشطة هـي: أ- تصميم أدوات مالية مبتكرة: مثل بطاقات الائتمان، وأنواع جديدة من السندات والأسهم، وتصميم عقود تحوط مبتكرة. ب- تطوير الأدوات المالية وتلبية هذه الأدوات المبتكرة لحاجات تمويلية جديدة، أو التغيير الجذري في العقود الحالية لزيادة كفاءتها فيما يخص المخاطرة وفترة الاستحقاق والعائد. ج- تنفيذ الأدوات المالية المبتكرة وابتكار إجراءات تنفيذية مبتكرة من شأنها أن تكون منخفضة التكلفة ومرنة وعملية. المطلب الثاني: أهمية الهندسة المالية. الهندسة المالية تعتبر منهجًا لنظم التمويل المعاصرة يهدف إلى تحقيق الكفاءة في المنتجات المالية المعاصرة وتطويرها في ظل الاحتياجات المالية والتي تتصف بأنها متجددة ومتنوعة. وتكمن أهمية الهندسة المالية - خصوصًا في عالمنا المعاصر- بأنها تقوم بالموازنة بين عدة أهداف ومن ثم تصميم أدوات مبتكرة تستوعب كل هذه الأهداف معًا، وهذه المهمة ليست باليسيرة حيث تحتاج إلى تضافر جهود على شكل تنظيمي بين الأجهزة الشرعية والاقتصاديين والمصرفيين والمحاسبين للخروج بمبتكرات فعالة. "ويزيد في أهمية الهندسة المالية بالنسبة للبنوك الإسلامية أنها تتعامل ضمن الضوابط والقيود الشرعية التي تنظم آلية أعمالها التمويلية والاستثمارية، ولهذا يتوجب على المهندس المالي في البنوك الإسلامية مراعاة هذه الضوابط وعدم اللجوء إلى الحيل، لأن الأحكام والضوابط الشرعية جاءت لتحقق مصلحة الفرد والمجتمع معًا" [1] . المطلب الثالث: مبادئ الهندسة المالية في الاقتصاد الإسلامي، وفيه فرعان: الفرع الأول: مبادئ الهندسة المالية المتعلقة بالأهداف. ترسم المبادئ المحاسبية الإطار العام الذي يحكم الطرق والإجراءات في إثبات العمليات المالية، وفي إعداد القوائم والبيانات المالية وقد اهتم الباحثون في الاقتصاد الإسلامي بالهندسة المالية وذلك من خلال استحداث أدوات متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، ونعرض فيما يلي أهم مبادئها المتعلقة بالأهداف والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: مبادئ خاصة ويمكن حصر بعضها فيما يلي: 1- ابتكار الصيغ الاستثمارية؛ والتي تساعد على كسب السمعة الجيدة في السوق، وجذب العملاء، ولا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية. 2- تطوير وسائل تسويق المنتجات الحالية لدى المصرف. 3- تطوير مهارات الموظفين، بما يلبي احتياجات سوق العمل. 4- تخفيف الأعباء وتقدير التكاليف الحقيقية [2] . 5- تحقيق الربحية التجارية؛ باختيار الاستثمارات ذات المردود المالي الجيد [3] . القسم الثاني: مبادئ عامة ويمكن حصر بعضها فيما يلي: 1- المساهمة الحقيقية في التنمية بجميع جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. وهذا مبدأ مهم من مبادئ الاقتصاد الإسلامي، حيث إنه لا يوجد تناقض بين الأهداف الكلية للمجتمع في التنمية الاقتصادية، وآلية تعامل الأفراد في السوق الإسلامية. 2- إرساء وتدعيم مبدأ التكافل الاجتماعي، الذي بدأ يضعف تأثرًا بالمدنية [4] . 3- القضاء على "التضخم": فالإسلام يحرم الربا بجميع صوره، فبتركه يقضى على مشكلة التضخم، وترجع العملات كما كانت أثمانًا، وقيمًا حرة؛ لها وزنها المستقل عن أي مؤثر خارجي [5] . 4- الحفاظ على المال وتنميته: من خلال تجميع مدخرات الأفراد، ودفعها إلى مجالات الاستثمار، لتحقيق المكاسب والأرباح [6] . 5- تقديم الخدمات المصرفية المتعددة، والمتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، بحيث تُسهل على المتعاملين مصالحهم وأمورهم، ومن أمثلتها: التمويلات الداخلية والخارجية، خطابات الضمان، الحوالات، الاعتمادات المستندية، إيجاد حلول لسداد أقساط العملاء المتعثرة والمستحقة، التورق الشخصي، ونحو ذلك مما لابد منه في حياة الأفراد. الفرع الثاني: مبادئ الهندسة المالية المتعلقة بالمنهجية. ترتكز الهندسة المالية في المصارف الإسلامية على عدة مبادئ وهي: أولًا: اجتناب المحرمات: إن أهم السمات والخصائص التي تميز المصرف الإسلامي عن غيره هي تطبيق النصوص الشرعية في جميع التعاملات المالية للمصرف. والنواهي الشرعية في باب المعاملات كثيرة، هذه بعضها: 1- الربا، دليل تحريمه قوله عز وجل: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [7] . 2- الغرر، ودليل تحريمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الحصاة وبيع الغرر ) [8] . 3- الغش، ودليل تحريمه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم: مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام )؟، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( ألا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني ) [9] . 4- الاحتكار، ودليل تحريمه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحتكر إلا خاطئ ) [10] . 5- بيع المحرمات بأنواعها، وعلى اختلاف مسمياتها؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [11] . ثانيًا: ربط الغنم بالغرم [12] . أي: أن المغنم والربح لابد أن يكون مرتبطًا بضمان الخسارة وضمان أصل السلعة على صاحبها، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك ) [13] . ثالثًا: إلغاء الاستثمار بالقروض والديون [14] : القرض في أصله جائز، وهو ما يسمى بالقرض الحسن، قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [15] . أما اتخاذ القروض مصدرًا للربح والزيادة في المال المسترد، فهذا هو الربا الذي نهى الله تعالى عنه، وهو ربا النسيئة، وتحريمه معلوم من الدين بالضرورة، ويطلق عليه ربا الديون، وهو غالب ربا الجاهلية [16] . وأدلة تحريمه كثيرة منها قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [ سورة البقرة: 278-279]. وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [17] ، قوله عز وجل: ﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [18] . وما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، في سياق حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الربا في النسيئة ) [19] . رابعًا: أداء الحقوق المالية [20] : والتي تتمثل في الزكاة كفريضة شرعية على المال النامي، وقد قرنها الله في كتابه الكريم بالصلاة في آيات كثيرة. قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [21] . وأدلة وجوبها من نصوص الكتاب والسنة متضافرة. وكذلك سائر الحقوق المالية، كالنفقات والصدقات، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [22] . المبحث الثاني: أساليب تطوير المنتجات في المصارف الإسلامية. إن مستقبل الاقتصاد الإسلامي يزداد نموًا وتفوقًا، لكن مدى نموه مرتبط بقدرته على تطوير منتجات جديدة، وأساليب أفـضل لتقيـيم وإدارة المخاطر تجمع بين الخدمات المميزة من الدرجة الأولى، والتسهيلات المتوافقة مع الشريعة؛ خصوصًا إن هناك فرصًا عدة واعدة تدعو إلى إنتاج بدائل تتقيد بأحكام الشريعة وتدر إيرادات أفضل من العروض القائمة. ويمكن تقسيم المنهج الذي تسير عليه المصارف الإسلامية في تطوير منتجاتها إلى منهجين: المنهج الأول: أسلوب الهندسة المالية العكسية. وهو باختصار إتباع منهجية المنتجات التقليدية الموجودة فعليا في الأسواق المالية العالمية، حيث يتم اختيار أفضل وآمن المنتجات وأقربها تطبيقا للشريعة الإسلامية، ثم يتم إعادة هيكلتها وتكييفها وفق مبادئ الشريعة الإسلامية. وهذا هو حال المؤسسات المالية الإسلامية التي تخلت عن مهمة البحث والابتكار والإبداع واكتفت باقتباس أفكار الغير وإعادة هيكلتها. ولهذا المنهج مزايا جيدة أبرزها سهولة وسرعة تطوير المنتجات وبأقل تكلفة، واستخدام منتجات موجودة فعليًا في الأسواق فلا تحتاج للتجربة أو التسويق، وفي المقابل لها سلبيات كثيرةٌ جدًا أبرزها تفريغ الاقتصاد الإسلامي من محتواه وإيجاد اقتصاد مطابق للاقتصاد التقليدي، وهذا تعطيل للتفكير والتطوير والابتكار، والاعتماد على ما يفكر به الآخرون ثم اقتباس الفكرة وإعادة هيكلتها إسلاميًا. المنهج الثاني: أسلوب الهندسة المالية الإبداعية . وهو يعني البحث والدراسة والابتكار والتنفيذ والمتابعة سواء لإيجاد منتجات جديدة، وأدوات مالية جديدة، وآليات وصيغ مالية وتمويلية جديدة، أو إعادة تطوير ما هو مطبق في السوق لكي يتناسب والتغيرات الدائمة في عالم الأسواق المالية الإسلامية. وتتمثل أساليب تطوير المنتجات في المصارف الإسلامية في ما يلي: 1- وضع بدائل إسلامية للعقود التقليدية مبنية على العقود المسماة، مثل: عقد السلم، وبيع العربون، والخيارات، أو استحداث عقود جديدة متوافقة مع النصوص الشرعية لتحقيق غرض التحوط وإدارة المخاطر . 2- تفعيل دور الرقابة الشرعية في عملية تطوير المنتجات والمتابعة المستمرة لعمليات التنفيذ. 3- العمل على تجميع الجهود وتضافرها لوضع معايير شرعية موحدة للصناعة المالية الإسلامية وهذا من شأنه أن يقدم رؤية واضحة للضوابط الشرعية للمنتجات المالية الإسلامية ويعزز ثقة الجمهور والمساهمين بها [23] . 4- تشجيع البحث العلمي، وتخصيص عوائد مالية من أرباح المنتجات المالية؛ لأغراض الدراسات، والبحوث العلمية التي تهدف لتطوير المنتجات. 5- العمل على إنشاء سوق مالية إسلامية تضمن تسويق مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية منتجاتها من خلالها، وتأمين السيولة اللازمة لها حيث أن هذه المؤسسات تواجه تحديات كبيرة، وعوائق عديدة في تسويق منتجاتها، وإيجاد التمويل المناسب لها من خلال الأسواق التقليدية [24] . 6- تأسيس وتفعيل دور مؤسسات البنية التحتية في الصناعة المالية الإسلامية، مثل: مجلس الخدمات المالية الإسلامية، والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وغيرها من المؤسسات التي تساعد في مجال التطوير والابتكار [25] . 7- الوصول في تكلفة الإنتاج إلى أدنى مستوياتها؛ لتحقيق ميزة تنافسية على مثيلاتها التقليدية. 8- تدريب وتأهيل العاملين في تشغيل هذه المنتجات، حيث تلعب خبرة هؤلاء الموظفين دورًا مهمًا في تقليل المخاطر، ويؤدي فهمهم الدقيق لطبيعة المنتج إلى الاحتراز من الوقوع في المخالفات الشرعية وفهم أكبر لمتطلبات التطوير [26] . [1] الهندسة المالية وتطوير أدوات التمويل الإسلامي، أحمد محمد نصار، صحيفة الغد، الأردن، نقلًا عن موقع: http:/www.alghad.com . [2] ينظر: محاسبة البنوك التجارية والمصارف الإسلامية، للتهامي، ص (246). [3] أساسيات العمل المصرفي الإسلامي، للدكتور عبد الحميد البعلي، ص (142). [4] المعاملات المالية المعاصرة، الزحيلي، ص (518)، محاسبة النشاطات المتميزة، التيجاني، ص (14). [5] ينظر: إدارة العمليات المصرفية الإسلامية، الخياط، ص30، والمعاملات المالية المعاصرة، للزحيلي، ص (520). [6] ينظر: أهم النظم البديلة في أعمال المصارف، محمد العربي، ص (18)، ومحاسبة البنوك التجارية والمصارف الإسلامية، للتهامي، ص (246). [7] سورة البقرة آية (275). [8] رواه مسلم في كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، برقم (1513). [9] رواه مسلم: كتاب الإيمان باب قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" برقم (102). [10] رواه مسلم كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات برقم (1605). [11] سورة المائدة آية (2). [12] محاسبة البنوك التجارية والمصارف الإسلامية تهامي، ص 161. [13] تقدم تخريجه، ص (25). [14] الترشيد الشرعي للبنوك القائمة، جهاد أبو عويمر، 1986م، بدون طبعة، القاهرة، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية ص (321). [15] سورة البقرة آية (245). [16] ينظر: ما لا يسع التاجر جهله، الرياض، د. عبدالله المصلح ود. صلاح الصاوي، 2001م، دار المسلم ص (279– 281)، وتطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، د. سامي حمود، 1991م، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار التراث ص (154– 157). [17] سورة آل عمران (130). [18] سورة الروم ( 39 ). [19] رواه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء، (3/31) برقم: (2178)، ورقم: (2179)، ولفظ البخاري (لا ربا إلا في النسيئة) وينظر الفتح (4/381)، ومسلم، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، (3/1218) برقم: (4088). [20] محاسبة البنوك التجارية والمصارف الإسلامية، تهامي، ص (161). [21] سورة البقرة آية (43). [22] سورة المعارج الآيتين (24-25). [23] صناعة الهندسة المالية. نظرات في الواقع الاسلامي، سامي السويلم، مركز البحوث، شركة الراجحي للاستثمار، ديسمبر 2000، ص (48). [24] مقال في جريدة الاقتصادية، 1/9/1427ه، بعنوان: "المنتجات المالية الإسلامية بين الإبداع والتقليد"، للدكتور سامي السويلم. [25] نحو منتجات مالية إسلامية مبتكرة، إعداد: محمد عمر جاسر، مستشار الرقابة الشرعية بيت الاستثمار الخليجي، دولة الكويت، ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر المصارف الإسلامية اليمنية المقام تحت عنوان: " الواقع..وتحديات المستقبل"، تنظيم نادي رجال الأعمال اليمنيين في الفترة 20-21 مارس 2010 صنعاء، الجمهورية العربية اليمنية، ص (12). [26] الهندسة المالية الإسلامية بين النظرية و التطبيق، عبد الكريم قندوز، ص (40).
الإبرازات المتعددة للكتاب لحاتم باي صدر حديثًا كتاب "الإبرازات المتعددة للكتاب (دراسةٌ في مفهوم الإبراز وتعدده، وتأسيسٌ لمنهج الحكم على الكتاب بتعدُّد الإبراز وطريقة تحقيقه)"، تأليف: أ.د. "حاتم باي". وقد طُبعَ هذا الكتاب ضمن مشروع إصدارات "دار أسفار" لنشر نفيس الكتب والرسائل العلمية بدولة الكويت، وهو الإصدار التاسع والعشرون من إصداراتها المميزة. وتهتم هذه الدراسة المطولة بقضية هامة للمعتنين بتحقيق التراث الإسلامي المخطوط وهي "تعدد إبرازات المؤلف لكتابه" ، حيث تداخلت فيها المفاهيم واستشكلها طلبة العلم واختلفت فيها إطلاقات المعاصرين، واجتيح لمنهج علمي واضح المعالم لكيفية تحقيق "الكتاب ذي الإبرازات" . ونجد أن المؤلف في عصر المخطوطات، كما هو الحال في عصرنا، ربما أعاد النظر في كتابه، زيادة وحذفًا وتنقيحًا، فينتسخ النساخ من إبرازته الأولى، وينتسخ آخرون من إبرازته الأخيرة، فتختلف النسخ، وتتباين زيادةً ونقصًا. وفي كتابنا هذا بيان شمولي للإبراز، ومفهوم تعدده، وفك الارتباط عما يداخل الإبراز من المشابهات وتمييزه عنها، وبيان أقسامه بحسب الحيثيات والاعتبارات، ومصطلحاته الدالة، ورصد لأسباب التعدد، وبيان مظانه من العلوم، وموقف المعاصرين منه، كما تضمن "منهجية الحكم ب ـ"تعدد الأباريز" على الكتاب بشكل مفصل، ومنهج ترتيب الإبرازات زمنيًا، وإجرائيات الاستدلال على وقوعها، واستثمر ذلك: بوضع منهجية علمية لتحقيق الكتاب متعدد الإبرازات. وقد سلك مؤلفه المنهج الاستقرائي في تتبع أشتات الموضوع فجمعها وأعاد عرضها بأسلوب منظم رتيب، ولغة علمية رصينة، وعززه بالتوثيق من المصادر، فأثمر دراسةً تأصيليةً مستوعبة، يُرجى لها أن تحسم مادة الجدل في "حقيقة اختلاف النسخ الخطية"، وتفتح أبواب البحث العلمي المنضبط في (تحقيق المخطوطات). والكاتب هو أ.د. "حاتم باي" أستاذ أصول الفقه بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر، له من المؤلفات: • "الأصول الاجتهادية التي يبنى عليها المذهب المالكي" (دراسة نظرية تطبيقية). • "التحقيق في مسائل أصول الفقه التي اختلف النقل فيها عن الإمام مالك بن أنس". • "نكت المحصول في علم الأصول" لابن العربي المالكي- تحقيق.
قصة داودَ عليه السلام (1) طالوتُ وظهور داود نقل ابن كثير في تاريخه عن ابن جرير ما يلي: ثم مرج أمر بني إسرائيل وعظمت منهم الخطوب والخطايا، وقتلوا مَن قتلوا من الأنبياء، وسلَّط الله عليهم بدلًا من الأنبياء ملوكًا جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضًا، وكانوا إذا قاتلوا أحدًا يكون معهم تابوت الميثاق، "وكان يحتوي على صور الأنبياء أنزله الله على آدم ، وفيه نعلا موسى وعصاه وعمامة هارون وقفيز من المن ورضاض من الألواح وطست من ذهب كان يغسل به صدور الأنبياء"، فكانوا يُنصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه، فمات كمدًا، وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راعٍ، حتى بعث الله فيهم نبيًّا من الأنبياء يقال له: أشمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا ليقاتلوا معه الأعداء، وذكر أن مدة ما بينه وبين يوشع أربعمائة وستون سنة، وقد ذكر القُرْآن الكريم حالتهم هذه في سورة البقرة: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]، آية واضحة صريحة تصور الحالة التي وصل إليها بنو إسرائيل، والتفكك الظاهر والحماسة الهوائية التي تعلو وتشتد عند الكلام والخُطب، ولكن عند العمل ووضعهم على المحك الأساس في البذل والدفاع عن المقدسات كانوا يتراجعون، فهم قوَّالون لا فعالون، ألم يقولوا لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]،. فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة، لما قضى جيل الهزيمة نحبه وحل محله جيل الشباب انطلقوا مع يوشع بعزيمة ماضية فدخلوا الأرض المقدسة، وبعد فترة هانوا وعادوا لطبيعتهم من جديد، طبيعة الذل والمهانة والركون إلى الدنيا، وعندما فقدوا التابوت ضجوا لما حصل لهم من الذل، فعادوا إلى رشدهم، وطلبوا العون من الله، فأرسَل الله إليهم نبيًّا " أشمويل " ليبصرهم في أمرهم، وما هم فيه من التيه، والوسيلة التي فيها يخرجون من هذا المأزق والذل والهوان، فبادروا إلى نبيهم، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم يقودهم إلى النصر واسترداد التابوت. قال لهم: إذا فرض عليكم القتال أخشى أن تخلفوا العهد فتجبنوا عن القتال، فعاهدوه على المضي مع الملك في القتال؛ لأنهم قد جرحوا كرامتهم وأخرجوهم من ديارهم وسبَوْا أبناءهم، لكن عندما كتب عليهم القتال فعلًا تراجع قسم كبير منهم، وفقدوا حماستهم للجهاد، ويمضي القُرْآن يصور لنا القلة القليلة التي صمَّمت على القتال، فماذا كان موقفهم إزاء اختيار نبيهم ملكًا يقودهم؟ ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ [البقرة: 247]، فهذا اختيار الله لهم، عالم بما يناسبهم، وهذا من قبيل رحمتهم ومعاضدتهم لينقذهم من الوضع الذي هم فيه، فهو سبحانه أعلم بما ينفعهم، وقد خفف عنهم مشقة الاختيار التي ربما لا تكون في صالحهم، فاختار لهم ملكًا يقودهم إلى النصر، لكنهم رغم هذه المعاضدة لهم من الله لم ينسَوا غطرستهم وجدالهم، ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 247] كيف يصبح ملكًا علينا؟ ولماذا وما الميزة التي أهَّلَته لهذا المنصب؟ ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 247]. وكانت نظرتهم القاصرة إلى الملك أن يكون ذا مال وغنى وثراء، وهل يجلب الغنى والثراء النصرَ؟ فكان الرد على نظرتهم المحدودة، ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247]، تأكيد على اختيار الله له من أجل هذه المهمة، ومن ميزاته العلم وقوة الجسم، فهذه الصفات هي التي تنفع الحاكم ونظام الحكم، فالعلم للتعامل على أساسه مع الناس، فلا تضيع الحقوق؛ لأن الجهل يعد صفةً ذميمة من شأنها تضييع الحقوق، والقوة مهمة جدًّا في قيادة الحرب والصمود أمام الأعداء، ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]؛ فلله الحق في أن يختار من يشاء للملك؛ لأنه العليم بالناس وما مدى مقدرتهم وما جُبلوا عليه، ثم أخبرهم نبيهم عن صفات أخرى لهذا الملك القائد يزوده الله بها، ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [البقرة: 248]؛ فقد سخَّر له عددًا من الملائكة فاستردوا الصندوق من العماليق وأعادوه جهارًا ونهارًا محمولًا بين السماء والأرض والناس ينظرون إليه حتى وضعوه عند طالوت. عند ذلك فرح بنو إسرائيل واعترفوا بزعامة طالوت عليهم وأيقنوا بالنصر، وقال النسابون: إن طالوت من سبط بنيامين بن يعقوب، وقد كانت معارضتهم له لهذا؛ لأن المتَّبَع عندهم أن الذي يتولى الحرب يجب أن يكون من سبط يهوذا، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248]، وقد رأَوْا هذه الآية واطمأنوا لها وعقدوا العزم على السير خلف طالوت وقتال الجبارين، ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]، ويصور القُرْآن الكريم خروج طالوت بجنوده الذين جمعهم من بني إسرائيل لقتال العدو وقد زادوا على خمسين ألفًا، ثم وقف فيهم خطيبًا لكي يمتحن إرادتهم وصمودهم ومقدار صبرهم على لقاء العدو، وأخبرهم أن الله سيبتليهم بنهَر يعبرونه وهم عطشى، وعليهم ألا يشربوا منه؛ لامتحان صبرهم على الشدة والبلاء، والذي سيشرب من هذا النهر سوف يرسب في الامتحان، وبالتالي سيحرم من المشاركة في الجهاد، والذي يصبر ولا يشرب فسيمضي مع طالوت لجهاد الأعداء، واغتفر لمن يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه، فماذا كان مقدار الصبر عندهم؟ ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 249]، إن مَن لا يصبر على العطش لهو أكثر فقدًا للصبر على ما هو أشد؛ كبذل النفس، وكان نتيجة الامتحان أن سقط فيه الأغلبية، فردَّهم طالوت، وبقي معه القلة المخلصة التي اكتفت بالغرفة من الماء، فكفتهم، وبارك الله لهم فيها، فلم يظمؤوا، وكان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلًا، ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249]، واجتاز النهر مع القلة المؤمنة وهو يرى فيهم الكفاية للصبر الذي أبدَوْه، ولكن هذه القلة على الرغم من صبرها وأنها وهبت نفسها لله وهي تطلب الشهادة، فقد بدر منهم ما يفُلُّ العزم أيضًا عندما تقابلوا مع جيش العدو ورأوا كثرته عدة ورجالًا، ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249]. وهنا تكلمت الصفوة من المجاهدين بأن الغلبة ليست بكثرة السلاح والرجال، وإنما بالإيمان وتأييد الله للمجاهدين، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي: الموقنون بالحساب والآخرة، وأن مرَدَّهم إلى الله، ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، هذا هو أصل الاعتقاد بالله؛ التوكل والظن الحسَن بالله، وأن كل شيء بيده، ينصر من يشاء، ويؤيد من يشاء، ويبقى الصبرُ في المعارك أساسًا قويًّا، ويعني الثباتَ مهما اشتد الخطب في المعركة واستحر القتل؛ فإن الصبر مهم، وقلة الصبر تعني الهزيمة، والصبر حتى النهاية يعني النصر، وقد كان المسلمون يقولون في معاركهم: النصر لأصبر الفريقين، ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، هذا هو موقفُ الثبات الذي لا تزعزعه الخطوب، موقف المؤمنين المتوكلين الذين يقرنون التوكل بالعمل؛ فهم إلى جانب مباشرتهم للقتال لم ينسَوُا الاعتماد على الله، والدعاء لاستجلاب النصر، والاستعانة بالقوي القادر على دحر الأعداء، وهذا تعليم لكل مجاهد بألا يكون اعتماده على القوة الذاتية أو العدد أو العدة، وإنما عليه أن يُعد العدة حسب قدرته واستطاعته ثم يجعل توكله على الله، وأن يدعوه ساعة اللقاء ويتضرع إليه لكي يثبِّت أقدامه في حومة الوغى ومعترك الأبطال والدعاء إلى النزال، وأن ينصره على الأعداء. ما أجملها من كلمات وما أبلغها من عبارات! ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ [البقرة: 250] لكأن الصبر مختزن بخزائن الرحمن مثل الماء ثم يفرغه الله على المجاهدين فيغتسل منه كل مجاهد ويصبغ به، فما أحلاه من تشبيه! ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250]؛ فثباتُ الأقدام مهم في المعركة، وعدم ثباتها معناه الفرار، ثم طلب النصر من العلي القدير صراحة؛ لأنهم بحاجة ماسة إلى النصر، والهزيمة تعني تغلب أهل الكفر على أهل الإيمان وسيطرتهم على مقدَّرات البلاد، وعيثهم فيها الفساد، ولكن إرادة الله مع المؤمنين، ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251]، كان هزيمة منكرة للعدو، قُتل فيها طاغيتهم جالوت ، ذلك الجبار المخيف الذي سيطر بالعنف والقوة الغاشمة التي يستخدمها دون رحمة بأعدائه، ولكن الله تعالى سخَّر داود الفتى الشاب الذي كان في جيش طالوت وكان يحمل مقلاعًا فأطلق منه حجرًا أصاب مقتلًا من جالوت، فكانت نهايته ونهاية جيشه وسيطرتهم على جزء كبير من الأرض المقدسة، وهكذا عاد جيش طالوت ظافرًا، وعادت أيام بني إسرائيل للعلو والإقبال بعد فترة إدبار طويلة. ◄ ما رُوي عن طالوت: ورد عن السدي: أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكرًا، وسمع داودُ طالوتَ وهو يحرض بني إسرائيل على القتال وقتلِ جالوت وجنوده، ويعد بأن من يقتل جالوت سيزوجه من ابنته ويشركه في ملكه، وكان داود يرمي بالمقلاع رميًا عظيمًا، وبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني، فإنك بي تقتل جالوت، فأخذه، ثم حجر آخر ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته، فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى المبارزة، فتقدم إليه داود، فقال جالوت: ارجع؛ فإني أكره قتلك، فقال داود: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في المقلاع، ثم أدارها، فصارت حجرًا واحدًا، ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه، وفر جيشه منهزمًا، فوفى له طالوت وزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه. ◄ ما قيل عن الزيغ الذي آل إليه طالوت: ذكَر المؤرخون - نقلًا عن الروايات الإسرائيلية - أن طالوت قد حسد داود وأراد قتله أو التخلص منه، وأنه قتل كثيرًا من علماء بني إسرائيل حتى استأصلهم وطغى وبغى ثم عاد إلى نفسه وطلب التوبة، فأشار عليه نبي ذلك الوقت بأن يجاهد الكفار حتى يستشهد ففعل. أشك في هذه الرواية؛ فبنو إسرائيل اتهموا أنبياء الله بأكثرَ من هذا، واتهام طالوت أسهل عليهم، ولا يُعقَل أن يصدر هذا من طالوت؛ فالله اختاره وجعله ملهمًا؛ فهو القائل لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ [البقرة: 249]؛ فهذا نوع من الإلهام أو الوحي المشابه لما أوحى الله به لأم موسى، فالله الذي زكاه وأيده بالمعجزات: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248]، ثم بعد هذا يظهره الإسرائيليون بمظهر الطاغية الناقم، وهم بهذا لا ينتقدون طالوت، وإنما ينتقدون حكمة الله في اختياره، وكأنهم بهذا يقولون: هذا الذي اخترته لنا على كره منا وزكيته، لقد كان رأينا فيه أصوب، وكنا نتوقع منه هذا الارتداد، وهكذا - قاتلهم الله - يريدون تشويه سمعة مَن زكاه الله؛ عنادًا وكفرًا بالله، وأن تفكيرهم ومصالحهم هي الأهم، وهي التي تصلح للحياة، فشريعتهم قانونهم الذي يؤمِّن مصالحهم وكفى.
حملات الإساءة إلى نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم الجذور التاريخية وسبل المواجهة تأليف الدكتور عبد المنعم التمسماني تقديم وقراءة د ــ محمد سعيد صمدي أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين/ طنجة منذ نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وشبهات النيل من شخصه الكريم لم تتوقف، تحوَّلَ مدحُه ووَسمه بالأمين والصادق وذي النسب الكريم إلى ادعاءات زائفة وأوصاف مُنتقِصَة لا تستقيمُ مع جوهر شخصِهِ البشريِّ ومقامِه النبويِّ وما أثبتته وقائع التاريخ والسِّيَر. إن رسول الإسلام بما جسده شخصُه الكريمُ من عقيدة توحيدية وقيم إنسانية كونية بالغة العمق والتسامح، سيجعلُ العداءَ له ينتقل من الفكر والنظر والشريعة إلى المس بشخصه الكريم حقيقة ورمزًا. لكن القرآن الكريم قطعَ بِجَزْمِ حُسن العاقبة في هذا الشأن، وبأن المراهنةَ على الكيد والانتقاص والتشهير مآلُها ونهايتُها نهاية للمشهِّرِ البائسِ والكائد الحقودِ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]؛ وقال أيضا: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10، والأنبياء: 41]. فما يكاد يعلو صوتٌ هنا أو هناك من ألسنةٍ حِدادٍ سخريةً وشتمًا وتشكيكًا، وخاصة في زمن ادعاء حرية الفكر والتعبير وزيف الحداثة؛ ويستعِرُّ لظى ردودِ الأفعال غير المنضبطة والمفتوحة على كل احتمال، حتى يُنسى ويُطوى ذكرُ الساخر (ة) الشاتم (ة) ، ويبقى اسمُه الشريُف ذائعًا ساريًا في الآفاق، لا تشوبه شائبة التشهير والافتراء. يقول صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرفُ اللهُ عنّي شتمَ قريش ولعنَهم! يشتِمُون مُذَمَّمًا، ويلعنون مُذَمَّمًا، وأنامحمّدٌ" [1] . وقد ألهمَتْ أحداثُ الانفلات الأخلاقي والقيمي والإعلامي في السنوات الأخيرة الأستاذَ الباحثَ الدكتور عبد المنعم التمسماني المدرس بكلية آداب تطوان، للبحث والنظر في نازلةِ التشهير والإساءة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وتقصِّي جذورِها ومقاربةِ التصدي والمواجهة، فألف كتابًا وسَمَهُ بعنوان "حملات الإساءة إلى نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: الجذور التاريخية وسبل المواجهة"، الطبعة الأولى صدرت بتطوان أواخر سنة 2020، في سِفرٍ يضم 126 صفحة. ولا يُنكر عاقلٌ الصدى والتأثيرَ البليغ الذي تخلفه مثل هذه الإساءات والتشهيرات والتحرُّشات الصليبية التي أصبح لها طابع الحملات المنظمة على عقلية الشعوب والفئات المستهدفة خاصة من عموم الناس وبالأخص الغربيين الذين أصبح الإعلامُ مصدرَ تمثلاتِهم ومعتقداتهم، مما يصوِّغُ الاعتقادَ والقولَ بأنها حملات منظَّمة ومخططٌ لها وغيرُ بريئة. ومعلوم من نصوص الكتاب الحكيم وآثار السنة النبوية أن السخرية والاستهزاءَ بل والافتراءَ على المرسلين دأبٌ أزلي ومكرٌ لم يخْلُ من بلائه نبي مرسلٌ ولا مصلحٌ رائدٌ. ولقد حاول الأستاذ عبد المنعم التمسماني في تأليفه الجديد أن يرصد مخططات الإساءة لنبي الإسلام في العصر الحديث؛ وعلى رأسها اعتماد الصورة / الكاريكاتير باعتبارها الوسيلة الرخيصة والدعامة الهجينة الأكثر استهلاكا واشتهاءً عند عموم القراء وصغار النفوس، والتي تجد لها صدى وتأثيرًا في نفسية المشاهدين، والتي تساهم بدور كبير في صناعة التمثل والقناعة؛ لما تحتوي عليه سلطة الصورة من سرعةِ الوصول للجمهور وجرأةٍ على المواضيع وتلخيصها، وشجاعةٍ على الطابوهات بلغة الحداثيين. ويريد الكاتب من خلال بحثه هذا أن ينحو بمنحى ردود الأفعال تُجاه الإيجابية واستثمار التردي الأخلاقي والتراجع القيمي وانزياح الحداثة الغربية لإبراز قيم التسامح الحقيقي في الفكر الإسلامي الأصيل، يقول المؤلف في مقدمة بحثه: "وقد آن الأوان لكي نغير تصوراتنا حول الإساءات المتكررة لمقدساتنا، وفي طليعتها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ونعيد النظر في تعاملنا معها، وذلك بأن نُحسن استثمارها بما يعود بالنفع والخير على رسالتنا وأمتنا؛ لأن من دلائل وأمارات وعي الأمة ونضجها ورُشدها: حسن استثمارها لمختلف الأحداث القاسية المريرة التي تمر بها، وقدرتها على تحويل الأزمات إلى فرص للتحرك الإيجابي والعمل المؤثر، وإحالة المحن إلى منح... [2] . ويطمح الباحث أيضا إلى توجيه الأنظار إلى خطورة ردات الفعل التي اتسمت بـ "الارتجالية، والظرفية، والانفعالية" مما يدفع أهل الاختصاص والفكر إلى الإسهامِ في إحياء ثقافة ضبط الانفعال المجاني الذي يستفيد منه أولًا وأخيرًا المخالِفُ المستفِزُّ، وترشيدِ منسوبِ المواجهة وحِدة المقاومة واستثمارِ الجهدِ بما يعود على القضية المستهدفة نفعًا وريادة لا تأزيمًا وحِدَّة أكثر. قسم الكاتب تأليفه إلى أربعة مباحث تلخص عناوينها مضمون هذا العمل: 1- حملات الإساءة إلى نبي الإسلام: تأريخها / ردود الأفعال عليها / ضرورة تجريمها. 2- الجذور التاريخية لحملات العداء والإساءة إلى نبي الإسلام. 3- كيف نواجه حملات الإساءة إلى نبي الإسلام. 4- محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة. وخُتم الكتابُ بملحق فريد استقصى فيه المؤلف جملةً من أقوال وشهادات المنصفين من الغربيين والأمريكيين (من سنة 1876 إلى 1932) في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد تولى كِبَرَ هذا الافتئات المجاني والتشهير المنحط جمهرةٌ من قساوسة الكنيسة الإنجيلية باستخدام وسائل الإعلام المتنوعة باسم الثقافة والفن والإبداع واستئجار الأقلام الخسيسة؛ تحت غطاء سياسي من مستوى عال. وقد فطِن هؤلاء الأفاكون إلى حساسية ومكانة وأهمية أدوات السمعي البصري، ونزوع الأكثرية إلى الانبطاح والاستسلام أمام الشاشة للتلقي السهل والتشبع بمعارف واهية وأخبار مُرجفة من أفواه مستأجَرَة، لذلك تجد أن أغلب ما قيل وما كُتِب وما رُسِم لا يعدو عن مفردات وجمل ورسومات مكثفة مشحونة بالحمولة العدائية والجرأة الخسيسة التي تستهدف الإثارة والاختزالية في الشهوات والشبهات والتشكيك العقدي والتعميم اللفظي الذي يَستشف منه القارئ الذكي سذاجةً وسطحيةً واهتزازًا فكريًّا لا يصمد أمام الشخصية المستهدفة وما حُفِظ عنها في الذكر الحكيم وآثارٍ صحاحٍ. إن المرءَ السويَّ الذي لا يستطيع أن يقرأ ويتابع نصوصًا إنجيلية عبثت بها أيادٍ مُحرِّفةٌ، بسبب التركيب اللغوي والمعجمي الخسيس المنحط والذي لا ينتظمه ناظم ولا تربطُ سياقاته رابطةٌ، لا يستطيع أيضا أن يقرأ هذه الجمل المستهدِفة لنبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي ترد في سياقات نشازٍ تُشعِر القارئ أنها تُدَسُّ دسًا وتُقصَد قصدًا وتُحبَكُ حبكًا، ويكفي شاهدًا على ذلك المثالُ الذي صدَّر به المؤلف عبد المنعم التمسماني كرونولوجيا التشهير والإساءة: الهندي سلمان رشدي في كتابه الذي نُسِبَ لجنس الرواية وهو يفتقر لأبسط مقومات بنية النص السردي الروائي المُحبك. يقول المؤلف: " في 26 سبتمبر 1988م، أصدرت دار النشر البريطانية اليهودية (فايكنج بنجوين) التي يوجد مقرها بلندن، رواية آيات شيطانية ( The Satanic Verses ) للروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، وهي رواية قصصية خيالية، ناضحة بأبشع ألوان القدح والتجريح والهزء بالإسلام وبنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وبزوجاته الطاهرات، وبمقدسات المسلمين عموما...وخاصة الفصلان الثاني والسادس منها، فقد انطويا على أكبر نسبة من الألفاظ والعبارات النابية الخسيسة والساخرة من ديننا ومن نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام" [3] . ولكي يفهم جيدا القارئ الكريم مدى السخافة التي تصلها مثل هذه المسودات المسماة كتابات وروايات، يمكن أن نكتفي بهذه الجمل الدنيئة، معتذرين لنبينا صلى الله عليه وسلم رفع الله ذكره وصلى عليه عددَ خلقِه ورضى نفسه وَ زِنَةَ عرشه ومِدادَ كلماته، يقول عبد المنعم التمسماني: "ومن النعوت البذيئة التي نعت بها صاحب هذه الرواية الخبيثة السافلة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان (رجلا طموحا يحلم بأن يكون السيد الأول في مدينة الجاهلية) ، و (أنه كان يخطط لذلك من خلال تلك الخلوات التي يهيئها لنفسه في ذلك الجبل والتي يدعي أنه يقابل الملاك فيها!!) ، وأنه (أخبر أتباعه أن اللواط والوضعيات الخلفية من الأمور المقبولة عند الملائكة!!) ، وأنه (غير سويٍّ في علاقاته مع النساء!!) إضافة إلى اتهامِه بالصرع والهلوسة!!، ونعْتِ نسائه الطاهرات بـ (العاهرات) إلى غير ذلك من السخافات" [4] ، إضافة إلى كونه أطلق اسم (ماهوند) على نبي الإسلام؛ وقد استقاها من معجم القرون الوسطى لدى المسيحيين المتطرفين. وهذه وغيرها كلُّها عبارات تشي بالروح الحاقدة المتشبعة بالكراهية والتي تفتقد لأدنى معايير العلم وبعيدة كل البعد عن منهجية البحث العلمي النزيه وحقائق التاريخ. وتلعبُ الإساءة الفرنسية في الآونة الأخيرة (شتنبر2020) دورًا خسيسًا في تعكير أجواء التسامح وقيم التعايش التي يجسدها الإسلام بشريعته السمحة وتعايشِ أبنائِه مع الآخر في ود ووِئام واحترام، لتأتي تلك الإساءاتُ المخطط لها؛ لتعكر الأجواء وتُسبب في إثارة المشاعر من جديد ودفعِ البعض للردودٍ الطائشة غير المشروعة. ومن بين ردود أفعال الغربيين على احتجاجات الأمة المسلمة، يُسجل المؤلفُ دعمَ وتأييدَ قادة الغرب لكل ادعاءٍ تحرري مؤذٍ وجارح؛ يقول المؤلف: "وفي مقابل تلكم الموجة العارمة من الاحتجاجات والإدانات في مختلف الأمصار والأصقاع... فإننا نسجل ــ بامتعاض شديد، وأسى بالغ، وانزعاج كبير.. المواقف السلبية المخزية للقادة الأوربيين والأمريكيين وغيرهم من الإساءات المذكورة إلى أقدس مقدسات المسلمين، والتي حاولوا عبثًا تسويغها بمسوغات فارغة وغير منطقية، تمُجُّها الفِطَرُ السوية وترفضها العقول السليمة" [5] . وفي هذا الصدد وقف المؤلف على مدى التناقض الذي حصل للدولة البريطانية أمام إصدار كتابين، الكتاب الأول وضعه أحد العاملين بقصر (باكنغهام بلاص) قصر الملكة، الكاتبُ (مالكوم باركر) الذي كشف المستور من الغرائب والمنكرات داخل البلاط. والكتاب الثاني كتاب الهندي ذي الجنسية البريطانة (آيات شيطانية) . فالكتاب الأول لقي مناهضة ورَدَّةَ فعلٍ جد سريعة من القصر الملكي قصد إقباره وعدم نشره، في حين احتفت بريطانيا بالكتاب الثاني ودعمته بل وصل الحد بالملكة أن منحته وساما من درجة فارس بمرتبة عندهم تُعرَف باسم (سير) ، وقد قال وقتئذ هذا الكاتب الهندي: " إنني أشعر بالسعادة الشديدة والتواضع لأن أتلقى هذا الشرف العظيم كما أنني ممتن جدا لأن أعمالي لاقت هذه النظرة" [6] . ولم يغفل الأستاذ عبد المنعم التمسماني من باب الإنصاف في البحث العلمي أن ينوه بأحرار الفكر الغربي الذين آثروا الصدع بالحقيقة وعدم الانصياع للدكتاتورية الفكرية والأنا الغربية المتعالية؛ وعلى رأسهم عميد الأدباء الأمان (غونترغراس Gunter Grass ) الذي "شن هجوما حادا على صحيفة بولاندس بوستن الدنماركية التي نشرت الرسوم....، ونعتها بالصحيفة اليمينية المتطرفة، معتبرًا أن نشرها هذه الرسوم، التي وصفها بالمهينة والمؤذية لمشاعر المسلمين حول العالم، كان مخططا متعمدًا منها لاستفزاز المسلمين... " [7] . ثم انتقل المؤلف لتوثيق صورة الإسلام في التراث الغربي؛ منذ العصور الوسطى إلى الآن، والذي اتسم ويتسم بالحقد والكراهية وغياب المصداقية العلمية والنزاهة الفكرية والتعبيرات السخيفة والدنيئة والتي لا تمت بصلة لمعجم القيم والعلم والتواصل البشري، ويظهر من سرد تلك النقولات التي أوردها المؤلف مدى الحنق والحقد؛ يقول:" وقد أسهمت تلكم المواقف العدائية المشحونة بروح صليبية في بلورة صورة نمطية سلبية تجاه الإسلام ونبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وترويجها وترسيخها في (الوعي الجمعي) لدى الشعوب الغربية والأمريكية، وفي تأسيس وتشكيل عقلية غربية معاصرة حاقدة ومعادية لنبينا ومقدساتنا..." [8] . لينتهي الباحث إلى أن تراكم الحقد وحِدَّة العداء لدى نخبة الغرب وساستها، قديمها وحديثها، يقتضي من الوعي المسلم المعاصر "تغيير النظر إلى ما يستجد من الإساءات، واعتبارها حلقة صغيرة من حلقات مسلسل العداء الممتد والمستمر، تلك سنة من سنن التدافع بين الحق والباطل الجارية إلى قيام الساعة" [9] . وفي هذا السياق يجب التنبيه - حسب المؤلف - إلى أنهم "ليسوا سواء" فلا يمكن التعميم على كل مكونات المجتمع الغربي الذي تتواجد فيه أصوات عاقلة لا تتحمل مسؤولية التهور والاستفزاز والإساءة البالغة من لدن السَّدَنَة المَكَرَة، يقول في هذا الصدد: "وعليه، فينبغي أن نميز - في سياق حديثنا عن عداء الغرب للإسلام ومقدساته - بين الحاقدين المجاهرين وبين الإنسان الغربي عمومًا الذي لا يحمل أية خلفية حاقدة، ولا يُكِنُّ أي عداء مسبق لديننا ورسولنا وكل مقدساتنا، بل يقف منها موقف المتفهم والمحترم لها، فمن الجهل والغباء والحيف والجور أن ننظر إلى الغرب بكل فئاته وأطيافه وتياراته على أنه كتلة واحدة ومواقف موحدة إزاء ديننا ورسولنا وحضارتنا..." [10] . ويهدف الكاتب من خلال وضعه لهذا التأليف الجديد إلى ترشيد ردود الأفعال وانتهاج سبل راقية للتعامل مع هذه الإساءات، مع اعتبار أهمية استمرار الإدانة المشروعة التي تحيي في الأمة جذوة المحبة النبوية والإشراقة المحمدية. وخطابُ المؤلف يُستشفُّ منه توجيه الناشئة وعموم الأمة إلى التشبع بقيم الإسلام والعدل في الخصام والنزاع، والتفطن لعدم الانجرار لمخططات الإساءة وتوجيه بوصلة التغيير والتنمية والإصلاح المتعثر. وضمَّن الكاتبُ مقاربتَه للموضوع تصورَ بعضِ الشروط التي يراها ضرورية لتحقيق التواصل الحضاري، وهي من وجهة نظرنا أصيلة ومقاصدية لكنها بعيدة التحقق والتنزيل، باعتبار بُعد الواقع الغربي أولًا والعقلية الشعبية الإسلامية ثانيًا عن فهم هذه القيم والشروط التي تحدث عنها المؤلف؛ بَلْهَ التشبع بها وتمثُّلها وتنزيلها، فكرونولوجيا الإساءة الغربية متواصلة بزخم، والعقلية التسطيحية عند عوام المسلمين سائدة بزخم؛ مما يدعو إلى بذل جهود مضاعفة لإيجاد بيئة تواصلية حضارية مؤهلة للتعايش والتفاهم مع ضرورة الاختلاف والتعددية المُغنية للحوار الحضاري لا المُفقِرة له. [1] ــ الحديث مشهور وقد أورده البخاري في جامعه الصحيح. [2] ــ حملات الإساءة إلى نبي الإسلام: المقدمة ص 8. [3] ـ 6 ـ نفسه: 9. [5] ــ نفسه: 21 [6] ــ نقلا عن الموقع الرقمي: الملكة-إليزابيث-تمنح-المؤلف-المثير-لل/https://alghad.com/ [7] ــ حملات الإساءة: 29. [8] ــ نفسه: 45. [9] ــ نفسه: 52. [10] ــ نفسه: 55.
الخصوصية الدافعة والخصوصية الحاصرة الخصوص - كما في القواميس - الانفراد، ويقابله العموم،ومن مفهوماته الانحصار، ويقابله الانطلاق،والواضح أن المراد بهذه الخصوصية الثقافية الجمع بين أحد المعنيين في كلا المفهومين؛ إذ المقصود الانفراد من المفهوم الأول، والانطلاق من المفهوم الثاني،والمؤكد هو النزوع عن مفهوم الانحصار، من حيث كونه مفهومًا من مفهومات الخصوصية،ويقال - كما في لسان العرب -: خاصٌّ بَيِّن الخَصوصية، بفتح الخاء وضمها، والفتحُ أفصح [1] . يتردد كثيرًا الاهتمام والتركيز على الخصوصية الثقافية للمجتمع العربي والإسلامي،وهذا التركيز فرضه الانتماء الثقافي للمجتمع، الذي جعلها تتبنى الإسلام منهجًا للحياة ومنبعًا للثقافة، في وقت تنصرف فيه بعضُ الدول العربية والإسلامية رسميًّا - وليس بالضرورة على المستوى الشعبي - عن هذا التركيز في جانب الخصوصية الثقافية، ومن ثم تميل بعض الحكومات إلى تبني منهج العلمانية أسلوبًا للحكم فقط فيما يسمى بالعلمانية الجزئية، أو الحكم والحياة معًا فيما يسمى بالعلمانية الشاملة [2] ، في الوقت الذي كانت فيه هذه الدول ترعى الإسلام وتمتلك ناصية القيادة فيه، ثم تحولت إلى التركيز على إضعاف انتمائها ثقافيًّا لهذا الدين، وضيقت على بعض الأفراد الذين يرغبون في هذا الانتماء ويصرُّون فيه على الخصوصية الثقافية، ويعلنون ذلك في كل مناسبة محلية كانت أم إقليمية أم دولية. ومِن باب ردود الأفعال ولَّد تبنِّي العلمانية تيارًا متطرفًا مبالغًا في المطالبة في البقاء على منهج الخصوصية، ظهر على صورة تجمُّع فكري أو تجمعات أو أحزاب أو جماعات فكرية اتخذت وسيلة المجابهة والمصادمة أسلوبًا في الوصول إلى أهدافها، دون توخي الحكمة في تسويق الفكر الذي غالبًا ما بدأ معتدلًا، ثم لم يلبث أن شطح وغلا، وانبثقت عنه أفكار زادت في الغلو والتطرف، فكانت المواقف من بعض الدول المضي في استعارة المنهج العلماني، بحجة أن هذا الفهم للخصوصية لن يفلح في سعي الدول إلى النهوض، فكان هذا الإصرار الرسمي نتيجة لذلك الغلو في فرض الخصوصية الثقافية الحاصرة، أو هو من نتائجه على وجه الدقة. إذ نفخر بهذا التميز والخصوصية ينبغي أن نتوخى الحذر من هذا الإطلاق؛ إذ إن هذه الخصوصية الدافعة يلزم أن تكون حافزًا إلى المزيد من التميز الذي لا يعيقنا البتة عن السير في "ركب الحضارة"، والإسهام فيها واستخدام الوسائل المعينة على ذلك،ومن ثم فلا تعني الخصوصية الحد من إسهامنا في الحياة العامة، والإحجام عنها تحت قيد التميز والخصوصية الحاصرة [3] . إننا لا نريد أن نعيش "شعورًا بالخصوصية المتفوقة، تُرتَّب على جهل بحقيقة ما يجري في عالم اليوم، على مستوى الفكر والتخطيط ونضوج التنمية البشرية" [4] ،يقول إبراهيم بدران: "إن التمسك المبالغ به بمقولات الخصوصية الثقافية، والتشدد في عدم التعامل مع مفردات العولمة، أو الحضارة المعاصرة عمومًا، بحجة الحفاظ على الهوية القومية والخصوصية الثقافية - أمرٌ غير منتج، وفيه الكثير من الأذى والإعاقة لانطلاق الأمة ونهضتها" [5] ،ويقتضي هذا قدرًا واضحًا من التوازن بين مفهومي الخصوصية والكونية. لا تعني الخصوصية الثقافية القطيعة الحضارية مع الثقافات الأخرى، فهذه خصوصية حاصرة لا دافعة، كما لا يعني الانفتاح المطلوب على الحضارات مجرد المحاكاة المتطلبة لنكران التراث النافع في مقابل الأخذ بأسباب المعاصرة والحداثة،هذا الموقف يعبِّر عن صراع مصطنع بين الأصالة والمعاصرة، لا ينبغي الاستسلام له من منطلق تناقُض المفهومين وادعاء تعذُّر اجتماعهما في مسيرة حضارية واحدة في ضوء الخصوصية الدافعة وليست الحاصرة [6] ،فلا انغلاق على التراث لمجرد أنه تراث، ولا انفتاح على الحداثة يفضي إلى الانسلاخ من الأصالة،إنها نظرة توازنية فيها قوة في عامل الثقة، وفيها اعتراف بالحاجة إلى الإقلاع [7] ، دون إغفال المعطيات الثقافية التي جعلت من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة منطلقًا لها. في تحرير هذه الثنائية المصطنعة والتضاد المفترض ينقل عبدالله السيد ولد أباه عن طه عبدالرحمن أن واقع التداخل بين الخصوصية والكونية يأتي من وجهين؛ هما كون "الخصوصية عنصرًا في الكونية"، باعتبار أن الكونية "تأليفٌ صريحٌ بين خصوصيات مختلفة"، كما أن "الخصوصية جسدٌ للكونية"، فالكوني لا يتجرد من الخصوصي بأي حال، "وإذا بطَل القول بالتضاد بين الخصوصية والكونية جاز أن تقبل الخصوصية الإسلامية الاجتماع إلى الكونية؛ أي أن تكون باصطلاحنا خصوصية جامعة" [8] ،كما جاز أن تقبل الكونية الاجتماع بالخصوصية الإسلامية وأن تأخذ منها وعنها. إن من حق المجتمع العربي والإسلامي "أن يدافع عن هويته الثقافية، وأن يتمسك بمقومات ثقافته الأصلية وعناصرها ومكوناتها، ولكن من الخطأ أن يكون السبيل إلى ذلك هو الانطواء الثقافي على الذات، والانغلاق عن التأثيرات الثقافية الأجنبية؛ لأن ذلك الانغلاق سوف يؤدي إلى جمود الثقافة العربية ذاتها وإضعافها وعدم تجديد حيويتها وحرمانها من فُرَص التطور والتقدم والانطلاق إلى آفاقٍ واسعة جديدة" [9] ،ويتنافى - كذلك - مع القول بأن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها. من منطلق أن الأصل في الأشياء، لا سيما المعاملات، الإباحة، فإن هذا الأصل يجب أن يكون هو منطلقنا في النظر إلى التطورات التي نشهدها اليوم في مجالات العلاقات الدولية والثقافية، مما يدخل في نطاق الوسائل التي هي - في أغلب الأحيان - أوعية لما يوضع فيها، وسبل لتحقيق الأهداف. أقول هذا وأنا ألحظ منطلق بعضنا المعاكس لهذه القاعدة الأصولية؛ إذ ربما يذهب الذهن عند بعض هؤلاء إلى أن الأصل في الأشياء المنع، أو حتى التحريم عند البعض، لا سيما إذا وردتنا من طرق خارجية؛ كالمتغيرات التي لا تؤثر في الثوابت من الاختراعات والتطورات العلمية والتقنية والسلوكيات الاجتماعية والاتصالات الدولية والأطروحات الثقافية التي يلزم الإسهام بها وتصديرها لا التوقف عند ورودها ثم استهلاكها. وقد حدث في السابق القريب رفضٌ من بعض الناس لهذه الإنجازات الداخلة في مفهوم المتغير، ليس من منطلق اجتماعي ضيق، ولكن من نظرة تُعزى إلى الدين، بحجة أنها تؤثر سلبًا على الثوابت [10] ،دون إغفال أن هذا الموقف ناتجٌ في منطلقه عن هاجس حماية الدين من أي دخيل، فمنبعه الإخلاص، لكنه قد يكون جانَبَه الصواب، وقد قيل: إن الإنسان عدوُّ ما جهل،وقد عولجت هذه المواقف في حينها من قِبَل بعض القيادات السياسية والعلمية بحكمة وروية، وسرت هذه التغييرات بهدوء، وأفاد منها الكثيرون. يقول حسن حنفي: "جدل الثوابت والمتغيرات موجود في كل فكر وثقافة وحضارة ودين، وليس في الفكر الإسلامي وحده؛ لأنه يعبِّر عن العلاقة بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصر، بين النقل والإبداع، بين التأخُّر والتقدم، بين الثبات والحركة في تاريخ الأمم والشعوب،لا غنى لأحدهما عن الآخر،ويقوم الجدل على التكامُل وليس على الإقصاء، وعلى التبادُل وليس على الاستبعاد،هما لفظان متضايفان لغويًّا، لا يُفهم أحدهما إلا بالآخر...وكلاهما صحيح،ليس أحدهما صوابًا والثاني خطأ،الثابت ضروري للمتغير، والمتغير ضروري للثابت،كل منهما يتضمن الآخر فيه" [11] . إن خصوصية المجتمع العربي والإسلامي تنبع من تمثُّله دافعية الشرع، ولا تنبع من تقهقره، بحيث لا نسمح بالقول بأن تأخره إنما جاء بسبب تمسكه بالإسلام، كما يردد بعض المتحمسين للعلمانية، ومن بينهم بعض المستشرقين وبعض المنصِّرين الذين درسوا الإسلام [12] . يقول محمد أسد في كتابه: الطريق إلى مكة: "الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام فيما يأتي: "انحطاط حال المسلمين ناتجٌ عن الدين الإسلامي ذاته، ولا يمكن أن نعده عقيدة دينية مثل المسيحية واليهودية، وأنه أقرب إلى خليط غير مقدس من خيالات الصحراء والحسية الشهوانية والخرافات والاتكاليات والإيمان بالقدر، وهي قيمٌ تحول بين المسلمين وإحراز أي تقدم اجتماعي راقٍ وفاضل، وبدلًا من تحرير البشر من عراقيل الغموض والظلام كبَّلهم الإسلام أكثر، وبمجرد تحرُّرهم من العقيدة الإسلامية وتبني مفاهيم الغرب في أسلوب حياتهم وفكرهم فإن ذلك سيكون أفضلَ لهم وللعالم كله" [13] . على أي حال، فإن هذه المقولة قد وُظفت من منطلقات مختلفة، وكلها تصبُّ في النهاية في الدعوة إلى التخلي عن هذه الخصوصية القائمة على الإسلام دينًا وثقافةً،وقد تأثر بها بعضٌ من بني قومنا فأصبحوا لا يحبِّذون هذا المنطلق، بل ربما يدعون إلى نبذ هذه الخصوصية؛ خوفًا من أن تُخرجنا من هذا الركب،وإذا ما حصل هذا فعلًا فإنه لم يعُدْ في الأمر خصوصية [14] . ليس مِن السهل أن نتوقف عند كل تطور ونرفضه بحجة أنه يتعارض مع خصوصيتنا،ولا يعني هذا كذلك عدم إعمال التقويم لكل جديد والنظر في توافُقه أو تعارُضه مع مشروعنا الثقافي والحضاري، ولكن الأمر هنا يتعلق بالمنطلق الراقي جدًّا، القائم على أن الأصل في الأشياء القَبول. ستظلُّ لنا خصوصيتنا المتفاعلة مع الواقع، المتطلعة إلى المستقبل، الراغبة في الإسهام في الحركة الحضارية القائمة،وفي هذا يقول عبدالرحمن بن صالح العشماوي في كتابه: بلادنا والتميُّز: "وهذا التميز لبلادنا يجعل مسؤوليتها كبيرة جدًّا في الحفاظ عليه قولًا وعملًا؛ فهو ركن ركين، يحفظ كيانها، ويرفع مكانتها في العالمين،إن بلدًا هذه مكانته الروحية وهذا تميُّزه لجديرٌ أن يُخضع كل وسيلة من وسائل الحياة المادية لخدمة هذه المكانة والحفاظ على هذا التميُّز" [15] . الشرعية الكاملة لدينا تقوم "على الاقتران الوثيق بين العقيدة والشريعة وبين الدين والدولة،وهكذا فإنه في وعي المعتدلين (منَّا) أو أتباع التيار الرئيس: هناك منهج إسلامي كامل في شتى مناحي الحياة العقلية والشعورية والمادية،ومن جوانب هذا المنهج ضرورة أن يكون النظام السياسي أداةً بيد الدين من أجل اكتمال تطبيق المنهج" [16] ،وليس العكس؛ فلا يكون الدين أداةً بيد النظام السياسي. وكما يقال ذلك عن الشأن السياسي يقال أيضًا عن الشأن الاقتصادي، لا سيما أن هذا الدين القويم قد أتى بالحلول الاقتصادية التي تُخرج الناس من جور الرأسمالية وضنك الاشتراكية إلى سعة التعامُل مع المال، بحيث لا تكون الربحية هي المعيار الوحيد أو الأمثل للكفاءة الاقتصادية [17] . يقول رضوان السيد: "ليس من حق أحد أن يطلب منا التخلي عن ثوابتنا، أو حتى القول بنسبية الحقيقة، بل المطلوب منا تطبيق منهج "التعارُف" القرآني الأقرب من التسامُح إلى طبيعة الإسلام،والتعارف هو المعرفة المتبادلة، وهو الاعتراف المتبادل بالحق في الاختلاف: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]،وهذا الحق لا يمكن أن ينبني إلا على المعرفة والتعارف، وأن نعيش عصرنا وعالمنا،ولا خشية على الهوية والانتماء من الانفتاح؛ لأن الهوية المنفتحة والمتجددة هي الباقية،ولا واصل بين الثوابت والمتغيرات غير منهج التعارُف" [18] . إن مفهوم الخصوصية قد بدأ يأخذ منحنى آخر غير المراد منه، فأضحى بعضنا يختبئ وراءه، كلما واجهتنا حال من حالات تستدعي التعامُل معها بقدر عالٍ من الإيجابية،إننا نحتاج إلى التشبث بهذه الخصوصية بمفهومها الدافع المنطلق نحو الأفضل، وإلى آفاق الحياة المعاصرة، دون التخلِّي عن الثوابت والمُثُل والمبادئ، لا بذلك المفهوم الحاصر الذي بدأ يبرز الآن واتخذ من الحفر بالثوابت منطلقًا له للهروب من التفرُّد والتميُّز، حيث يمثل الإسلام قلب هذه الخصوصية [19] . ومع نهاية هذه الوقفة لا بدَّ من التوكيد على المفهوم الإجرائي للخصوصية ذي العلاقة المباشرة بالأمة في مقابل خصوصيات أكثر تحديدًا ذات علاقة بالأفراد أو الأسر أو المجتمعات،وخصوصية الأمة هي المرادة هنا، ويعبَّر عنها بالخصوصية الثقافية [20] . [1] انظر ابن منظور. لسان العرب/ حققه عبدالله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي - 5مج - القاهرة: دار المعارف، 2: 1173 - 1174. [2] انظر: عبدالوهاب المسيري. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - 2مج - القاهرة: دار الشروق، 1423هـ/ 2002م - 1: 15. [3] انظر فقرة: وثنية الخصوصية - ص 13 - 18 - في: عبدالرزاق عيد ومحمد عبدالجبار. الديمقراطية بين العلمانية والإسلام - دمشق: دار الفكر، 1421هـ/ 2000م - 264ص - (سلسلة حوارات لقرن جديد). [4] انظر: صلاح الدين أرقه دان. التخلف السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر - بيروت: دار النفائس، 1423هـ/ 2003م - ص 214. [5] انظر فقرة: أين تذهب الخصوصية؟ - ص 189 - 191 - في: إبراهيم بدران. أفول الثقافة - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002م - 294ص. [6] انظر: علي بن إبراهيم النملة. السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميُّز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1428هـ/ 2007م - 312ص، وعلى هذا المرجع وغيره من إسهامات الباحث حول موضوع الخصوصية الثقافية تتكئ هذه الدراسة وتقتبس كثيرًا منها. [7] انظر: من النهضة إلى الردة - ص 111 - 153 - في: جورج طرابيشي. المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي - مرجع سابق - 184ص. [8] انظر: عبدالله السيد ولد أباه الحداثة والكونية: جدل الخصوصية والعالمية في المقاربة التحديثية - التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006م) - ص 54 - 74. [9] انظر: سماح أحمد فريد. الحداثة والتقاليد المبتدعة: رؤية لقضايا الثبات والتغيُّر وإعادة التشكُّل - التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006م) - ص 33 - 53. [10] انظر: بشير عبدالفتاح. الخصوصية الثقافية - القاهرة: نهضة مصر، 2007م - ص 37. (سلسلة الموسوعة السياسية للشباب؛ 20). [11] انظر: حسن حنفي. جدل الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي. التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006م) - ص 10 - 22. [12] انظر: رضوان السيد. مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين في الأزمنة الحديثة - أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003م - ص 9 - (سلسلة دراسات إستراتيجية؛ 89). [13] انظر: محمد أسد. الطريق إلى مكة/ ترجمة رفعت السيد علي، تقديم صالح بن عبدالرحمن الحصين - الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1425هـ - ص 269. [14] انظر: فرانسوا بوجارت. الخصوصيات لا تعني أن هناك تناقضًا جوهريًّا بين القيم - قضايا إسلامية معاصرة - ع 28 - 29 (صيف وخريف 2004 - 1425هـ) - ص 71 - 80. [15] انظر: عبدالرحمن صالح العشماوي. بلادنا والتميز: مقالات نثرية - ط 2 - الرياض: مكتبة العبيكان، 1424هـ/ 2003م - ص 7 - 14. [16] انظر: رضوان السيد. الهوية الثقافية بين الثوابت والمتغيرات - التسامح - ع 13 (شتاء 1427هـ/ 2006م) - ص 23 - 32. [17] انظر: أحمد جمال الدين موسى. الخصخصة - القاهرة: نهضة مصر، 2007 - ص 32. (سلسلة الموسوعة السياسية للشباب؛ 1). [18] انظر: رضوان السيد. التعدد والتسامح والاعتراف: نظرة في الثوابت والفهم والتجربة التاريخية - التسامح - ع 12 (خريف 1426هـ/ 2005م) - ص 11 – 20. [19] انظر: بشير عبدالفتاح. الخصوصية الثقافية - مرجع سابق - ص 25. [20] انظر: فريد هـ. كيت. الخصوصية في عصر المعلومات/ ترجمة محمد محمود شهاب - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009م. - ص 33 - 47.
صور مشرقة من تاريخنا الإسلامي وسط ظلام كونيّ داكن ذاقتْ فيه الأممُ الأمَرّين، بزغ نور الإسلام فوق جزيرة العرب، فأشرق في مكة فجْرٌ جديد، إذ أذِن الله تعالى بإخراج الناس من ظلامات الشرك والجهل، إلى أنوار التوحيد والعلم، فبعث لذلك الغرض نبيّه محمداً عليه الصلاة والسلام، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليُظْهره على الدين كلّه. وقد فطن صلّى الله عليه وسلم إلى أهمية العلم، وأدرك بنظرٍ ثاقب ما يعانيه القومُ في أقبية الجهل المطبقة، ودياجير الظلام، فعَمَدَ إلى توجيه أنظارهم نحو طلب العلم، وإطلاق طاقة العقل، وتنشيط الذهن. وسرعان ما انتشر نور العلم، واندفع المسلمون الأوائل إلى الاستزادة من علوم الدين والدنيا النافعة، فتألّقَتْ مدرسة المعرفة الأولى على يد مؤسّسها الرسول الكريم، الذي بناها روضة زاهية بالحكمة، وجعل مَعينها نصوصاً مباركات من الكتاب والسنّة، وطُوِيَتْ بذلك صفحاتٌ من الماضي الذي سادت فيه بين القوم الخرافة، والمعتقدات الخاطئة. يقول "توماس كارليل" Thomas Carlyle واصفاً حال العرب في كتابه "الأبطال": "ولقد أخرج اللهُ بالإسلام العربَ من الظلمات إلى النور، وأحيا به أمّة هامدة، وأرضاً هامدة، وهل كانت العرب إلا فئة من جوّالة خاملة فقيرة، تجوب الفلاة منذ بدْء العالَم، لا يُسمَع لها صوت، ولا تُحسّ منها حركة؟، فأرسل الله لهم نبيّاً بكلمة من لدنه، ورسالة من قِبَله، فإذا الخمول قد استحال شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوة، ووَسِع نورُ الإسلام الأنحاءَ، وعمّ ضوءه الأرجاءَ، وأشرقَتْ دولة الإسلام حِقَباً عديدة، ودهوراً مديدة، على نصف المعمورة، بنُور الفضل، والنّبل، والمروءة، ورونق الحقّ والهدى" [1] . من جهة أخرى فقد أمرَتْ تعاليمُ الدين الجديد بالأخذ بالأسباب، وطَلَب الدواء، بحثاً عن العافية، والشفاء من الأمراض، وحورب بذلك ما ساد بين الناس من معتقدات خاطئة، ومُنِع السّحرُ، والتنجيم، والكهانة، وعُدّ ذلك كلّه مِن ضروب الجهل الممقوت. وفَتَحَ الإسلامُ البابَ على مصراعيه أمام التفكير، والتأمّل، والطبّ التجريبيّ المبنيّ على أسُسٍ علمية ومنهجية، وحَثّت نصوصُه على ذلك، وصَحّحَتْ مساقَ التعليم ومساره، وَدَعت إلى الإفادة من تجارب مَن سَلَف. وسارع المسلمون الأوائل، فأقبلوا على تعلّم العلوم الصحية النافعة، وعُدّ هذا ضرباً من ضروب فرض الكفاية، وحاز الإسلام بذلك قصب السبق، فكان أول دينٍ يحرّر العلمَ، والطبّ، والصيدلة من سيطرة المعتقدات الدينية الباطلة، وقَــيْد الخرافات. وقد ظَهَر مزيدٌ من الحاجة إلى طلب التداوي، والتطبّب في صدر الإسلام. وكان من أسباب ذلك تعرّض الجنود المسلمين في أثناء غزواتهم إلى إصابات ميدانية، وجروح مختلفة، تستدعي سرعة إسعافهم. يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: "لَقِيتُ كذا وكذا زحْفاً، وما في جسدي شِبْرٌ إلا وفيه ضربة بِسَيفٍ، أو رمية بِسَهم" [2] ، وهاهو طلحة رضي الله عنه يوم أحُد، وقد جُرِح أربعة وعشرين جرحاً، وقُطع نَسَاه، وشُلّت أصبعه، وكان سائر الجراح في جسده [3] . ولم تَتخلّف الصحابيات الجليلات عن اللحاق بقافلة النور، وركبها الميمون، فوقَـفْنَ ببسالة مع الرجالات، يشاركنهم في فتوحاتهم وغزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بَرَع منهنّ رضي الله عنهنّ طائفة اشتهرتْ بالتمريض، ومداواة الجرحى، بما توافر لديهنّ مِن أدوية تمّت صناعتها من أعشاب بيئة المدينة، ونباتاتها. ومِن هؤلاء النسوة المباركات: أم سُلَيم بنت مِلحان رضي الله عنها [4] التي كانت تداوي الجرحى في غزواتها مع رسول الله عليه الصلاة والسلام. وها هي أمّ عمارة رضي الله عنها [5] وقد جُرح ابنها عبدالله بن زيد رضي الله عنهما يوم أحُد في عضده، فسارعتْ بمداواته، وتضميده بما كان معها من عصائب وخِرَق، وهي من قالت يوم خيبر: "خرجنا نغزل الشَّعر، فنعين به في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السّويق" [6] . ومِن تلكم الصحابيات أيضاً: رُفَيدة [7] التي نُصِبَتْ لها خيمة كانت تداوي بها جَرحى الصحابة، ومرضاهم في أثناء الغزوات. ويرى الدكتور أحمد عيسى بِك أنّ خيمة رفيدة هذه كانت أول مستشفى حربيّ متنقّل في الإسلام [8] . ومن هؤلاء كذلك:الرُّبَــيّع بنت مُعَوّذ [9] ، وحَمْنة [10] ، وليلى الغِفارية [11] ، رضي الله عنهنّ. وقد اكتَسَبَت السيدة عائشة رضي الله عنها خبرة خاصة في أدوية ذلك الزمان، إذ كانت تُشْرِف على نحوٍ مباشر على ما يتناوله زوجُها عليه الصلاة والسلام مِن تلك الأدوية. تقول رضي الله عنها: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مِسْقاماً، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلّم منهم" [12] . وتتابعَتْ تلك الخطوات المباركات على درب العلم، مروراً بعهد الخلفاء الراشدين، ومَن سار على نهجهم مِن التابعين وتابعيهم، خلال عهود الدولة الإسلامية. وقد أنجبَت الحضارة الإسلامية مِن رحمها الولود الكثيرَ من العلماء الأفذاذ، الذين أضاؤوا الأرضَ بنور العلم، وكانوا صورة مَثّلَتْ روحَ الحضارة التي عاشوا بين جنباتها. ولم يَقِفْ هؤلاء عند حدود الطبّ النبوي، وما جاء فيه مِن وسائل علاجية ووقائية -مع يقينهم بنَفْعه وبَرَكته-، بل أدركوا منذ وقت باكر أنّ علم الصيدلة يحتاج إلى دوام البحث والنظر، وإلى الوقوف على ما عند الأمم الأخرى منه، ودَفَعَهم إلى ذلك دعوةُ الإسلام للاستزادة من كلّ ما هو نافع ومفيد، والبحث عن الحكمة أنّى وُجِدَتْ. يقول د. راغب السرجاني: "يُعَدّ الطبّ من أوسع مجالات العلوم الحياتية التي كان للمسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة. وكانت تلك الإسهامات على نحوٍ غير مسبوق شمولاً، وتميّزاً، وتصحيحاً للمسار، حتى ليخيّل للمطّلع على هذه الإسهامات الخالدة كأن لم يكن طبّ قبل حضارة المسلمين. ولم يَقتصر إبداعُ المسلمين في العلوم الطبية على علاج الأمراض فحسب، بل تعدّاه إلى تأسيس منهجٍ تجريبيّ أصيل، انعكسَتْ آثاره الراقية والرائعة على جميع جوانب الممارسة الطبية وقاية وعلاجاً، أو مرافق وأدوات، أو أبعاداً إنسانية وأخلاقية تَـحْكم الأداءَ الطبيّ" [13] . واشتهرَتْ طائفة من علماء المسلمين بترجمة الكتب المتخصّصة بعلوم الصيدلة، ومصادر الأدوية النباتية، وخصائصها، وطرق تركيبها. ومما تمّت ترجمته: كتب "أرسطو" Aristotle وتلميذه "ثيوفراستس" Theophrastus المعروف بأبي عِلْم النبات. وأعقب ذلك مرحلة جديدة تناولَت التعليقَ على تلك الكتابات المترجمة، ونقْدها، وشرْحها، ودراستها، ليتمّ بعدها في خطوة تالية إقرار صوابها، وتصويب خطئها. وما هي إلا مدّة وجيزة، حتى انتقل المسلمون نحو أفُقٍ آخر سامٍ من الازدهار العلميّ والفكريّ، وولّوا وجوهَهم شطرَ الأصالة والتأليف والإبداع، فأضافوا الجديد والمفيد إلى عِلْم الصيدلة، تَدْفعهم حماستهم التي استشعروا بها التقرّبَ إلى الله تعالى بِطَلَب العلم، وقد عُرِفَتْ كتبهم تلك في حينها بالأقرباذِينات [14] . وكان أبو حنيفة الدينوريّ [15] أوّل مَن ألّف كتاباً عن النباتات، التي أولاها المسلمون عناية خاصة، لما علموا أنها مصدر رئيس لحاجتهم مِن الأدوية. وعُرِف مُصنَّف الدينوريّ هذا باسم "كتاب النبات"، وقد أتى فيه على ذِكْر أكثر من ألف نبتة من النباتات الطبية في الجزيرة العربية [16] . وكان أبو بكر الرازي [17] ممّن كَتب في علم الصيدلة أيضاً، واشتهر بوصْف الأدوية، وألّف الكثير من الأقرباذينيات التي عُدَّتْ مراجع أصيلة في مدارس الغرب والشرق على حدّ سواء. ومن علماء الصيادلة المسلمين أيضاً: البيروني [18] صاحب كتاب "الصيدلة في الطب"، وابن الصّوري [19] صاحب "الأدوية المفردة"، وابن العوّام الإشبيلي [20] صاحب "الفِلاحة الأندلسية". أمّا ابن البيطار [21] فقد ارتحل إلى مالَقة، ومرّاكش، ومصر، وسورية، وآسيا الصغرى، بحثاً عن النباتات الطبية، فكان يراها بنفسه، ويجري عليها تجاربه، ويَذْكرها في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" الذي كان المرجع الرئيس للصيادلة زمناً طويلاً، وقد جاء فيه ذِكْرُ أكثر من ألف وأربعمئة دواء من أصل نباتي، منها أربعمئة عقار لم يَسْبقه أحَدٌ إلى وَصْفها. يقول الدكتور راغب السرجاني: "وبازدهار صناعة الصيدلة، وَجَدَ الصيادلة المسلمون مجالاً خصباً للإبداع الذي انتهوا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية، ذات أوزان معلومة. وقطعوا شوطاً كبيراً عندما استفادوا مِن علم الكيمياء، في إيجاد أدوية جديدة ذات أثَرٍ في شفاء بعض الأمراض، كمركبات الزئبق، وملح النشادر، واختراع الأشربة، والمستحلبات، والخلاصات الفطرية. وقادهم البحثُ الجاد إلى تصنيف الأدوية استناداً إلى منشئها وقوّتها، كما قادتهم تجاربهم إلى اكتشاف أدوية نباتية جديدة، لم تكن معروفة من قبل، كالكافور، والحنظل، والحنّاء" [22] . وأبدع الصيادلة المسلمون في تحضير العقاقير المختلفة وتركيبها، واستخدموا في ذلك طرقاً مبتكرة عديدة، منها: طريقة التقطير لفَصْل السوائل، وطريقة التنقية لإزالة الشوائب، وطريقة التصعيد لتكثيف المواد المتصاعدة، وطريقة الترشيح لعَزْل الشوائب، والحصول على محلول نقيّ. وكان من ابتكارات صيادلة المسلمين: مَزْجُهم للأدوية بالعسل، أو بالسكر، أو عصير الفاكهة، وإضافة مواد محبّبة كالقرنفل، ليصبح طعم الدواء مستساغاً، وجعْلهم الكثير من الأدوية في صورة أقراص مُغَلّفة، وتحضير أقراص الدواء عبر كبْسها في قوالب خاصة، وإخضاع الدواء الجديد للتجربة على الحيوان، قبل وَصْفه للمريض، للتأكّد مِن سلامته وأمانه [23] . يقول الدكتور "جورج سارتون" George Sarton: "إنّ بعض الغربيين الذين يَسْتَخِفّون بما أسداه الشرق إلى العمران، يُصَرّحون بأنّ العرب والمسلمين نقلوا العلومَ القديمة، ولم يُضيفوا إليها شيئاً. وهذا الرأي خطأ، فلو لم تَنتقل إلينا كنوزُ الحكمة اليونانية، ولولا إضافات العرب الهامّة إليها، لتوقّف سَيْر المدنيّة بضعة قرون" [24] . واهتمّ صيادلة المسلمين بزراعة النباتات الطبية، والأعشاب العلاجية في مزارع وُضِعَتْ بجوار ما بَنَوا مِن بيمارستانات [25] مُدُن الدولة المختلفة، واهتمّوا بجَلْب بذور تلك النباتات من كلّ حدب وصوب. وخُصّصَتْ لكلّ بيمارستان منها صيدلية تُقَدّم ما يَصِفُه الطبيبُ للمريض مِن أشربة وأدوية. يقول عبد الله الدفّاع في كتابه "أعلام العرب والمسلمين في الطب": "وَضَع العلماءُ المسلمون في كلّ مستشفى صيدلية منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وهكذا فإنّ فكرة إنشاء صيدلية داخل المستشفى هي فكرة نَقَلها العالمُ عن الحضارة العربية الإسلامية، التي طبّقتْها قبل أكثر من ثمانية قرون" [26] . وفُرض على كلّ صيدليات الدولة الإسلامية أن تحوي كتبَ الأقرباذين، وأن يتوافر فيها أنواع العقاقير المفردة والمركّبة المختلفة، والمواد الخام اللازمة لتحضيرها، سواء كانت نباتية المنشأ، أو حيوانية، أو معدنية، أو كيماوية. كما وَجَب أن تحوي الصيدلية ما يلزمها مِن معدّاتٍ لتحضير الدواء، كالموازين الحساسة، والأوعية ذات المقاسات المختلفة، وقوالب صناعة الأقراص، بالإضافة إلى سجلّات خاصة لتدوين عمليات تحضير الدواء، وما يَرِدُ من وَصفات الأطباء الدوائية [27] . وقد ضَمّت البيمارستانات أيضاً مكتبات طبية حَوَت أمّات كتب الصيدلة، ومراجعها. وكان أساتذة هذا العلم يتناقشون مع طلابهم حول الداء، وما يناسبه من الدواء، في حَلَقاتٍ تسودها الأجواءُ العلمية. وأُلزم الطلبة بحضور جلسات تركيب الدواء، مما أكسبهم ثقة عِلْمية، وخبرة عَمَلية. وأصبح عِلْم الصيدلة بذلك علماً تجريبياً، قائماً على المتابعة الدقيقة، والملاحَظة [28] . تقول المستشرقة "زيغريد هونكه" Sigrid Hunke: "أين هي الدولة التي عَرفَتْ مثل هذا الجمع الكبير من الأخصائيين بشتى حقول الصحة، وتركيب الأدوية والعقاقير، كما كانت الحال عند العرب؟. وهل كان للمستشفيات الحديثة في الأصقاع العربية آنذاك مثيلٌ في أيّ طَرَف من أطراف الأرض؟. إنّ وسائل العلاج عند العرب تتحدّث ببلاغة عن عظَمة أبحاثهم، كما إنّ عِلْم الصحة عندهم لأروع مَثَل يُضرَب. ولِمَ العجب والدهشة، والوضع كان كما نعلم؟" [29] . ومِن مآثر علماء المسلمين في مجال الصيدلة أيضاً: ما أدخلوه من نظام الحُسْبة، ومراقبة الأدوية، فنَقَلوا بذلك المهنةَ من تجارة حرّة لا ضوابط لها، إلى مهنة خاضعة لرقابة الدولة. وكان مِن مهام المحتسِب إجراء جولات تفتيشٍ على حوانيت بَيْع الأدوية، والتأكد من توافر الدواء فيها، ومتابعة طريقة تحضيره بشكل آمِن، وبدون غش، والتأكد مِن أنّ الدواء لا يُباع إلا وَفْق وَصْفة طبية، ومراجعة كشوفات تحضير الأدوية، بالإضافة إلى مَنْح تصاريح العمل للصيادلة، وإيقاف عَمَل مَن تدعو الحاجة والمصلحة إلى ذلك. وقد كان للمحتسب سجلّات، يُدَوّن فيها أسماءَ أصحاب الحرف والمهن المختلفة، بما فيها أماكن حوانيت الصيادلة [30] . وكان على المحتسب أيضاً أن يُحَلّف الصيادلة ألا يعطوا أحداً دواءً مضرّاً، وألا يُركّبوا له سُمـّاً، وألا يَصِفُوا التمائمَ لأحَدٍ من العامّة، وألا يذكروا للنساء الدواءَ الذي يُسْقط الأجنّة، ولا للرجال الدواءَ الذي يَقْطع النسل. وأضيف إلى مهام المحتسب أن يخوّف الصيادلة، ويَعِظهم، ويُنذرهم بالعقوبة والتعزير، وأن يراجع عقاقيرهم في كلّ أسبوع. ويُرسل المحتسبُ رقيباً على الصيادلة خبيراً بالعقاقير، وطرق تركيبها، ووسائل غشّها؛ كي يكشف المغشوشَ منها، فيُتـْلِفه [31] . كما قامت الدولة الإسلامية بتوظيف "عميد الصيادلة"، وقد وُسّد إليه مهام الإشراف الفنيّ على صيدليات المدينة، وإجراء امتحانٍ للصيادلة، ومَنْحهم الشهادات، وتصريح العمل بممارسة صنعة الصيدلة، بالإضافة إلى إعداد سجلّات خاصة للصيادلة. وقد عُدّ عميد الصيدلة هذا المرجعَ الأعلى فيما يستجدّ في ساحة العمل من الأمور المتعلّقة بهذه المهنة [32] . وتَنقل لنا كتبُ التاريخ صُوَراً مشرقة من ضَبْط المسلمين لمهنة الصيدلة، ومن ذلك ما نراه من أحداثٍ في عهد الخليفة المأمون الذي أمَر بضَبْط هذه المهنة، وإخضاعها لمراقبة الدولة المباشرة. وقد دعاه إلى ذلك أنّ بعض المدلّسين امتهنوا الصيدلة، وعالجوا المرضى كيفما اتفق، كما غَشّ نَفَرٌ منهم الأدوية، فأمَر المأمون بعَقْد امتحان أمانة الصيادلة. وأُلزِم الأطباءُ لاحقاً بكتابة ما يَصِفُون من أدوية لمرضاهم على ورقة خاصة، عُرفتْ في الشام باسم "الدستور"، وفي العراق باسم "الوصْفة"، وفي المغرب باسم "النسخة"، وكان ذلك مِن إسهامات المسلمين في إنشاء عِلْم الصيدلة على أسُسٍ علميّة سليمة [33] . وسَنّ الصيادلة المسلمون قواعدَ صارمة في عملية وَصْف الدواء، ومن ذلك: ألا يُوصَف أيّ دواء قبل إقرار التشخيص المؤكَّد للمرض، والتأنّي في ذلك، إذا كان في مقدور المريض تجاوز مَرَضه دون دواء. وكان على الصيدليّ أيضاً إيضاحُ جرعة الدواء لمتناوِله، وطريقة استخدامه، ومواعيد تعاطيه، وما قد يَظهر له من تأثيرات غير مرغوبة في جسمه. كما كان لزاماً على الصيدليّ مراعاة تركيب الدواء، بالتأكد من جَودة المادة الخام قبل الشروع في ذلك، والالتزام بالمقادير المحدّدة بدقّة عالية، والعناية بحِفْظ موادّ صناعة الدواء، ووسائل تخزينها لكيلا تَفْسد، وتدوين جميع ما يُوصَف للمريض من أدوية في سجلّه، والتيقّن مِن تناوُل المريض ما وُصِفَ له تحديداً، ليَسْلم من حلول الخطأ [34] . [1] الأبطال ص 82 - 83 [2] سِير أعلام النبلاء 1 / 382 [3] المصدر السابق 1 / 32 [4] صحابية خزرجية، أم أنس بن مالك رضي الله عنه. كانت وفاتها نحواً من سنة 30 هـ. انظر : سِيَر أعلام النبلاء 2 / 304 [5] نَسيبة بنت كعب، صحابية خزرجية، أسلمتْ قديماً، كانت وفاتها نحو سنة 13 هـ . انظر: سِيَر أعلام النبلاء 2 / 278 [6] انظر: حياة الصحابة 1 / 594 [7] رفيدة الأنصارية، صحابية كانت تداوي الجرحى. قال ابن حجر: "ولما أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل حوّلوه إلى رُفيدة". الإصابة 13 / 382 [8] انظر : تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص 9 [9] الرّبَيّع بنت مُعَوّذ الأنصارية، صحابية بايعتْ تحت الشجرة، كانت تسقي القوم وتردّ الجرحى إلى المدينة، عاشت إلى زمن عثمان. انظر: الإصابة 13 / 375. [10] حَمْنة بنت جحش الأسدية، أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنهما، كانت تداوي الجرحى. انظر الإصابة 13 / 291 [11] صحابية كانت تخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مغازيه، وتداوي الجرحى، وتقوم على المرضى انظر: الإصابة 14 / 186 [12] رواه الحاكم في المستدرك 4 / 218 برقم 7426، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرّجاه". والمسقام: الكثير السقم. انظر: لسان العرب مادة (سقم) 12 / 289. [13] قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 9. [14] الأقرباذين: كلمة يونانية تعني دراسة مركّبات الأدوية، وبيان أجزائها وتركيبها. انظر: القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل ص 28. [15] أحمد بن داود الدينوري، بَرع في فنون عديدة، وألّف فيها. توفي سنة 282 هـ. انظر: سِير أعلام النبلاء 13 / 422. [16] انظر: قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 122 – 124. [17] أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، كان إليه تدبير بيمارستان الريّ، ثمّ بيمارستان بغداد. له كتاب "الحاوي في الطب"، وكتاب "الأعصاب"، توفي سنة 311 هـ. انظر : سِير أعلام النبلاء 14 / 354. [18] محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني، كان مصنّفاً في شتى الفنون، وعَلَت شُهرته، وتُرجمتْ بعض كتبه، توفي سنة 440 هـ. انظر: الأعلام 5 / 314. [19] رشيد الدين بن أبي الفضل بن علي الصوري، عالم بالطب والنبات، كان رئيس الأطباء في عَصره، توفي سنة 639 هـ. انظر : الأعلام   3 / 23. [20] يحيى بن محمد بن العوام الإشبيلي، توفي سنة 580 للهجرة. انظر: الأعلام 8 / 165. [21] ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي النباتي الطبيب، توفي بدمشق سنة 646 هـ. انظر : سِيَر أعلام النبلاء 23 / 256. [22] قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 117 [23] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 429 - 436 ، وقصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 118 - 119 [24] نقلاً عن الموسوعة الحرة   www.wikipedia.org  مادة "الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية". [25] البيمارستان: لفظة فارسية تعني دار المرضى. انظر: المعرَب للجواليقي ص 577. [26] نقلاً عن الموسوعة العربية العالمية 10 / 413. [27] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 33. [28] انظر: الإعداد التربوي والمهني للطبيب عند المسلمين ص 121، وتنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 334 – 339. [29] شمس العرب تسطع على الغرب ص 217. [30] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 276 – 281 ، و: ص 445 – 446. [31] انظر: نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 42 و: ص 98. [32] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 446. [33] انظر: قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 115 – 116، والصيدلة في التاريخ الإسلامي ص 7. [34] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 429 - 436.
الحضارة والثقافة والعالم المعاصر الحضارة هي جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات [1] ، ومن عناصرها: اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات؛ فالحضارات هي (نحن) الكبرى [2] ، وقد شاع استعمال الحضارة للدلالة على التقدم في الوسائل والمخترعات والابتكارات التي توصَّل المجتمع الإنساني بها إلى آفاقٍ بعيدة من الرقي والتنظيم المادي والرفاهية في الحياة، كما أُطلقت كلمة الحضارة على كل ما يُنشِئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانبه ونواحيه؛ عقلًا وخُلُقًا، مادةً وروحًا، دينًا ودنيا [3] . والحضارة تشتمل على كل مُقدَّرات الإنسان وأعماله، من الحصول على الغذاء إلى أدواته الإنتاجية، وأفكاره وإبداعه الفني؛ فالحضارة هي المحيط الذي يخلقُهُ المجتمع ويعيش من خلاله لتأمين احتياجاته المادية والمعنوية، وإن هذا المحيط متطوِّرٌ يتعلمه أفراد المجتمع بالتوارث الاجتماعي [4] . ويفرق بعض الباحثين بين الحضارة والثقافة؛ فالحضارة في نظرهم هي التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة [5] ، والثقافة هي تأثير الدين على الإنسان، أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة، أو على العالم الخارجي [6] ، ويعتقد بعض العلماء أن الحضارة ما هي إلا مجرد نوع خاصٍّ من الثقافة، أو بالأحرى شكل معقد أو "راقٍ" من أشكال الثقافة [7] . بينما يعتقد البعض الآخر أن الحضارة أعمُّ من الثقافة التي تُطلَق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة، بينما تشمل الحضارة الجانبين الروحي والمادي، أو الفكري والصناعي، ويمكن أن تكون بين الثقافة والحضارة علاقةُ تلازُمٍ ولا حرج - بسبب هذه العلاقة - من تناوُبِ الكلمتين بحيث يُقال: إن حضارة أي مجتمع أو ثقافته إنما تتمثل في القيم والمعاني والنُّظُم التي تنطوي عليها حياته، ويمكن القول: إن السمة التي تميِّزُ أية أُمَّةٍ من الأمم إنما هي حضارتها أو ثقافتها؛ ومن هنا فالتفرقة بين الثقافة والحضارة ليست ضرورية، ومما يؤكد العلاقة بين الثقافة والحضارة أن الحضارة إذا كانت هي التطبيق المادي للتراث الثقافي، فهي - من ناحية أخرى - وليدةُ هذا التراث في البيئة التي تقوم فيها، كما أنها المرآة التي تعكس لنا مقومات الثقافة في المجتمع وخصائصها العامة [8] . فالثقافة ليست ظاهرة مادية فحسب، وهي تشمل: الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونُظُمَ القيم والمعتقدات والتقاليد [9] . والثقافة الإسلامية يُقصَد بها: المفاهيم الصحيحة عن الله، والكون، والإنسان، والحياة؛ عن الله كخالق للكون، وعن الكون كمُسَخَّرٍ للانتفاع الإنساني، وعن الإنسان كمُسْتَخْلَفٍ في الأرض لاستعمار الكون، ومسؤول عن تصرفاته الحسنة والسيئة، وعن الحياة كمجال للعمل الإنساني على أُسُسٍ إسلامية، والثقافة الإسلامية مجموعة من القيم الاجتماعية، والصفات الخُلُقِيَّةِ المُكتسَبة والمُسْتَمَدَّة من التعاليم الإسلامية [10] . ويعتبر البعض أن التقدم العلمي ليس دليلًا على الثقافة؛ فيقول (علي عزت بيجوفيتش) [11] : "إن التعليم وحده لا يرقى بالناس، ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه، أو أكثر حرية، أو أكثر إنسانية، إن العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعًا للمجتمع، وإن تاريخ الاستعمار مثالٌ لشعوب متحضرة شنَّت حروبًا ظالمة استئصالية استعبادية، ضد شعوب مختلفة أقلَّ تعليمًا، كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم، فالمستوى التعليمي الراقي للغُزَاةِ لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة، وفرض الهزيمة على ضحاياهم"، وقد اعتبر الرئيس المفكر علي عزت بيجوفيتش أن القوتين العالميتين العُظمَيين في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي (سابقًا) هما القوتان العسكريتان العظميان، ولكنهما ليستا أعظم دول العالم ثقافةً، فعنده أن روما هي النموذج لحضارة قوية، ولكنها محرومة من الثقافة [12] . يعتبر المجال الثقافي - الحضاري أحد عناصر قوة الدولة؛ فمقدار مناعته أمام الثقافات والحضارات الأخرى يُضاعِف من نفوذ الدولة أو الأمة المعنية، ومن ثَمَّ يزيد من تأثيرها وقوتها [13] ؛ فالثقافة تمثل عادات المجتمعات وقِيَمَهُم، وليست عادات الأفراد كأفراد؛ لذا لا تموت الثقافة بموت الفرد؛ لأنها ملك جماعيٌّ وتراث يَرِثُهُ أفراد المجتمع جميعهم، كما أنه لا يمكن القضاء على ثقافة ما إلا بالقضاء على أفراد المجتمع الذي يتبعها، أو بتذويب تلك الجماعة التي تمارس هذه الثقافة بجماعةٍ أكبرَ أو أقوى تفرض ثقافة جديدة بالقوة [14] . ولقد لَقِيَ البعد الحضاري والثقافي اهتمامًا كبيرًا لدى العديد من المُنظِّرين في العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة؛ بحكم تحوُّلِ طبيعة الصراع الدولي إلى صراع حضاري أو ثقافي [15] . وقد وُضِعت الحضارة الإسلامية في موقع الصراع مع الغرب؛ بسبب النمو السكاني الكبير، والحيوية، والانبعاث الثقافي والحضاري، وهو ما اعتبره البعض تهديدًا لنمط الحياة الغربية، فهم يعتقدون أن الحضارة الغربية ستكون مُهدَّدةً من العالم الإسلامي [16] ، وسوف توجد محاورُ عديدةٌ يصطدم على امتدادها هذان العالمان؛ أهمها: الإنتاج النفطي الذي سيبقى محصورًا في العالم الإسلامي، والذي هو مهمٌّ لنشاط العالم الغربي، وثانيًا: الهجرة من البلدان الفقيرة وغير المستقرة نحو بلدان غنية وآمنة [17] . يملك الغرب عناصرَ قوةٍ تُذْكَر له؛ فقد قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصِرْ ما تقول، قال: أقول ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلتَ ذلك إن فيهم لَخِصالًا أربعًا: إنهم لأحَكْمُ الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرَّةً بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك)) [18] . إلا أن الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي قد أخذ في مرحلته الأخيرة دور الهيمنة والقهر السلبي الاستغلالي الاستعماري، بل والاستيطاني في حالة فلسطين؛ وذلك بسبب الضعف واختلال التوازن في كِيانِ الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية، ومثَّل بذلك نقطةَ جذبٍ للقوة الغربية في صراع عسكري تسلُّطي للسيطرة على العالم الإسلامي، وإضعافه لمصالحه [19] . وقد سعى الغرب لفرض ثقافته وحضارته وأفكاره على العالم الإسلامي، ولكن هذه الحضارة والثقافة والأفكار لا يمكن أن تكون عالمية؛ لأنها لا تعتمد على أسس ثابتة وواضحة؛ فالحضارة الغربية رغم كل منجزاتها تبقى حضارة قائمة على القِيَمِ المادية واحتقار الآخرين، فالدول الغربية لا تهتم إلا بمصالحها. تركِّز الثقافة الغربية في العموم على قضية الصراع، وتَعُدُّهُ حالة لا بد منها لاستمرار الحياة؛ فعدم وجود الصراع يؤدي إلى ركود الحضارة الغربية، ومن ثَمَّ لا يتهيأ الحافز للتقدم، ومما يبرر الصراع مع الآخر كذلك هو الخشية من عدم استجماع الرأي حول هدف خارجي معادٍ؛ الأمر الذي قد يسرع في ظهور التصدُّعات والصراعات داخل الحضارة الغربية نفسها، وهذا ما دفع بالعديد من القُوى الغربية المتنفذة إلى طرح الإسلام بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سابقًا كعدوٍّ أُنْمُوذجيٍّ للحضارة الغربية، وفي الوقت نفسه سَعَتِ القُوى الغربية إلى توكيد صواب أنموذجها الحضاري، وفشل ما عداه، وهي بهذا اعتمدت التدخل الدائم في تحديد صلاحية الأنموذج الأمثل الغربي استنادًا على القوة في تجريد النماذج الأخرى من محتواها، وملء المحتوى الغربي في الفراغ الناجم عن تلك العملية [20] . ويقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس بيل كلينتون:إن الغرب ليست لديه مشاكل مع الإسلام، لكن مع الإسلاميين المتطرفين العنيفين فقط، بينما أربعة عشر قرنًا من التاريخ تُثْبِتُ العكس، فالعلاقات بين الإسلام والنصرانية كانت دائمًا مضطربة [21] . والتصادم مع الغرب قد يرجع إلى سيطرة فكرة الهيمنة السياسية والعسكرية والمادية للقيم الغربية، وليس فكرة التعايش مع الآخر؛ فهذا قد يُوَلِّدُ ردودَ فعلٍ تدفع إلى الصراع مع الغرب [22] ، الذي يقوم على النفي واستبعاد ثقافات الأمم والشعوب، ومحاولة فرض ثقافة واحدة، وتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر [23] . يوجد في العموم توتُّرٌ بين الثقافة الغربية والإسلامية، ولما كان الإسلام صُلْبَ ثقافة المسلمين، ارتبط سوء فهم الغرب للمسلمين به، وسوء الفهم عملية مقصودة قائمة على وجود العدو الذي تتوحَّد الحضارة الغربية ضده، لقد رُبط الإسلام في نظر الغرب بالإرهاب والعنف، وتقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، في حين جاء فهم العرب المسلمون للغرب في أعقاب تجربة تاريخية قاسية قامت على سيطرة غربية مباشرة، وتحكُّمٍ بمفاصل القرار والوجود العربيين، والأهم احتضانه للمشروع الصهيوني، لقد بدأ الصدام بين المشروعين عندما أخذ المسلمون نشر الإسلام وتقويض الامتداد الإمبراطوري الروماني، وكانت الحروب الصليبية لحصر وجود المسلمين، ولاحتواء بلادهم، واستلاب مواردها، وفي المراحل اللاحقة أخذ الصراع صورًا جديدة تتمثل بالسيطرة الغربية المباشرة على البلاد الإسلامية، وظلت محاولات السيطرة تتلوَّن بين فترة وأخرى؛ ففي الصدام الأول تذرَّع الغربيون بالاعتبارات الدينية (طرد المسلمين من الأماكن المسيحية المقدسة)؛ لذلك نشبت الحروب الصليبية، ثم ظهر في مراحل متأخرة بزيِّ الاحتلال والاستحواذ على موارد البلاد الإسلامية المحتلَّة، المسألة الأساسية في الإسلام كدِينٍ هي إظهار الرسالة وتثبيتها، ولقد تسبَّب العمل على تحقيق هذا المَقْصِدِ في توليد الاحتكاك مع المرجعيات غير الإسلامية، القائمة على قيم الاستعلاء والتعالي على الآخر [24] . ويرى برنارد لويس أن الإسلام والنصرانية دينان لا يلتقيان أبدًا، والسبب يكْمُنُ في أن كليهما يسعى إلى نشر دعواه المختلفة في العالم كله، وهذا يؤدي إلى تنامي الصراع والعَدَاءِ بينهما، ولقد ربط الكثير من المستشرقين الإسلامَ بالسيف والقتل، وقد عمِلت كلٌّ من الدول الأوروبية وأمريكا على تشويه صورة الإسلام، ونشرها من خلال وسائل الإعلام؛ بهدف تعميق شعور العداء والكراهية ضد المسلمين، وهي الصورة التي تأصَّلت في أذهان العديد من الأوروبيين والأمريكيين [25] . وقد ارتبط صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوربا بالعداء والكراهية للمسلمين؛ ومن أمثلة هذا العداء: الصور المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالدانمارك والنرويج، ثم فرنسا التي منعت ارتداء الحجاب في المدارس والمعاهد، وتبعتها بلجيكا، ثم إقرار قانون يقضي بحظر النقاب في الأماكن العامة في عديد من الدول الأوروبية، ثم وصول الأمر إلى قانون حظر المآذن في سويسرا، الذي رحبت به أحزاب اليمين المتطرف، وطالبت بتعميمه على كامل الدول الأوروبية، ومن مظاهر هذا العداء تصوير الإسلام بأنه دينٌ رَجْعِيٌّ أدنى مرتبة من القيم الغربية، بربريٌّ غير عقلاني، عدائي تجاه المرأة، داعم للإرهاب، محرِّضٌ على صراع الحضارات، وكذلك من الأسباب المؤدية لنشوء الكراهية والمواجهة بين الغرب والمسلمين التناقضُ بين القيم التي تشكِّل ثقافة الإسلام (القائمة على التعاونية)، والقيم التي تشكِّل ثقافة الغرب (القائمة على العداء)، إضافة إلى أن الإحساس بالانتماء إلى الأمة الإسلامية الواحدة يشكِّل أعظمَ مخاوف الغرب من الإسلام؛ ولذلك يعمل الغربيون باستمرار على تفتيت الأمة الإسلامية، وعلى الحيلولة دون توحُّدِها، وهذه من أخطر القضايا بين الغرب والمسلمين، خاصة بعد أن ثبت أن الإسلام روحُ كلِّ مقاومة يُبدِيها شعب مغلوب سياسيًّا، وقد حمل الإسلام في أكثر الأحيان رايةَ الصراع مع الاستعمار، والصعود والتوسع السريع للدولة الإسلامية وازدهار الحضارة الإسلامية، مع إيمان كلٍّ من أمة الإسلام والنصرانية أن ميثاقها مع الله يقتضي تحقيقَ وحيِ الله، وأن الوحيَ أو الرسالة التي جاءتها خاتِمَةٌ للوحي والنبوة [26] . شارك الإعلام الغربي [27] في نقل ونشر الصورة الذهنية السلبية عن المسلمين، ويُعيد إنتاجها، ولا شك أن عملية التشويه المُمنهَجِ للعرب والمسلمين ليست وليدةَ اللحظة، بل تمتد لجذور تاريخية وفكرية عميقة، ولكنها اتسعت في الفترة الأخيرة، وانتشرت بشكل كبير، وإن عملية صناعة الصورة الذهنية التي تشوِّهُ العرب والمسلمين لها جذورها وأهدافها، كما أن لها أناسًا متخصصين يساهمون في صناعتها وإنتاجها، وهذه العملية تتم عن قصدٍ وبشكل مُتعمَّد؛ وذلك كمحاولة منهم لمنع انتشار الإسلام، بل وبث الخوف من الإسلام في أوساط المجتمع الغربي [28] . وفي الحروب الصليبية الأولى تم تصوير المسلمين بأبشع الأوصاف والصور، مستخدمين في ذلك العديد من القصص والأساطير الخرافية عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القرن الرابع عشر زادت المواقف المعادية للعرب والمسلمين عمقًا وتجذُّرًا، حتى أصبحت أحد المكونات الأساسية للحركة الإنسانية، وتكرَّر ذلك العداء والكراهية مع ظهور الطباعة في القرن 16م؛ حيث انتشرت الكتابات والمنشورات المسيئة والمشوِّهة للإسلام، وتصفه بصورة سلبية للغاية، وأنه مصدر الإرهاب، ويسعى للانتشار بحد السيف [29] ، وقد جاءت الرسوم الكاريكاتورية التي ظهرت مؤخرًا والتي تصف النبي الكريم بأنه إرهابي ومتطرف تَكرارًا لأساطير وخرافات الحروب الصليبية [30] . إن الصورة الذهنية التي تتكون لدى الشعوب عن بعضها البعض تلعب دورًا هامًّا في التأثير على طبيعة العلاقات واتجاهها، وإن الخطر الكبير لتشويه صورة المسلمين في الغرب يكمُنُ في أن بعض المواطنين الغربيين يتعرفون على الإسلام عن طريق ما يتم عرضُهُ في وسائل الإعلام الغربية؛ حيث إن هذه الوسائل لا تقدم إلا الصورة المشوهة والسيئة والمنحرفة عن الإسلام والمسلمين [31] . ويقول الفيلسوف الفَرنسي الدكتور جوستاف لوبون متأسِّفًا ما نصه: "إن العقيدة الكاثوليكية المتوارَثة فينا تجعلنا من ألد الأعداء للمسلمين [32] ، ولما كانت أوروبا جملة لم تستطع أن تتحرر من عقدة التعصب النصراني ضد الإسلام، فقد كان ما كتبه المستشرقون الأوائل المادة التي ألهبت أوار التعصب، وشَحَنَتْهُ بمزيد من الحقد والكراهية" [33] . ويرى بعض الباحثين أن الغربيين يعادون الإسلام لجهلهم به، وهذا الجهل سببُهُ استقاء المعلومات من مصادر غير موثوقة تفتقر للموضوعية والنزاهة والتجرد، ومن ثَمَّ فإن هذا الجهل يؤثر على التواصل الإيجابي والتبادل الثقافي بين الثقافات والفهم المتبادل [34] ، والمواطن العادي الأوروبي والأمريكي يتأثر كثيرًا بما يشاهد في أجهزة الإعلام، ويتكوَّن عنده انطباع عميق لا ينساه أبدًا، ولن يُكلِّف نفسه عناءَ التَّثَبُّتِ والبحث عن الحقيقة، بعد أن تكوَّنت في ذهنه صورة مشوَّهة عن ذلك العربي المسلم [35] . وقد أعلن اليمين النصراني أن أمريكا مملكةُ الرب ذات الرسالة الصليبية العالمية؛ لتهيئة العالم لمجيء المسيح [36] ، فالعالم الغربي يعتبر نفسه أنه الممثل الوحيد للرب، ووسيلة الخلاص الوحيدة، وقد رَأَوا في الإسلام تهديدًا لتفرد دور المسيحية الذي يرعاه الرب [37] ، واعتبار كل الأشخاص والمجموعات والدول التي تُعارِض أو تناهِض دولة إسرائيل أعداء الله؛ لأنهم يعوقون النبوءات التوراتية [38] . ومثلما يؤمن اليهود بأنهم شعب الله المختار، وأن السيادة على العالم يجب أن تكون لهم، فيؤمن النصارى أن دعوتهم دعوة عالمية، وتبليغها ونشرها واجبٌ مُقدَّس، وهم مأمورون بتنفيذه بِناءً على أقوال تُنسَب للسيد المسيح عليه السلام؛ منها: "وينبغي أن يكرز أولًا بالإنجيل في جميع الأمم" [39] ، "وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد، خلص، ومن لم يؤمن، يُدَن" [40] ، وفي نصوص أخرى تُنسَب للمسيح عليه السلام: "كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم" [41] ، "فقال لهم يسوع أيضًا: سلامٌ لكم كما أرسلني الأب، أرسلكم أنا" [42] . وعلى فرض صحة الأقوال المنسوبة إلى السيد المسيح عليه السلام، فإن العقيدة الدينية التي جاء بها عيسى ومن قبله موسى عليهما السلام قبل التحريف لا تتعارض مع العقيدة الدينية عند المسلمين، فما جاء به كل الرسل والأنبياء هو عقيدة واحدة، وهي عبادة الله وحده وعدم الشرك به، وطاعته وعدم معصيته، وتنفيذ ما أمر به، أما بعد التحريف وما دخل فيها من عقائدَ باطلةٍ، فهي لا تستحق صفة العالمية، ولا يجب فرضها على الناس. وكانت قد أخذت المواجهة مع إسرائيل منحى المواجهة مع الغرب بأكمله؛ باعتبار أن هذا الغرب مسؤول عن دعم فكرة (الوطن القومي) لليهود في فلسطين، ومتواطئٌ في قيام الدولة الصهيونية عام 1948 [43] ، ويعتبرون أن المجتمع الأمريكي رغم عيوبه يظل أسمى أخلاقيًّا حين يُقارَن بمجتمعات أخرى، أو بمعنى الاعتقاد بالتفوق الأخلاقي [44] . إن هذه النزعة العُدوانية والروح الاستعلائية قديمةٌ قِدَمَ تأسيس أمريكا، وصرح بها جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ قال في خطاب رئاسته في عام 1789م: "إنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي"، ومن بعده قال جون آدمز الرئيس الأمريكي الثاني: "إن استيطان أمريكا الشمالية تحقيق لمشيئة إلهية"، وقال الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت: "أمركة العالم هي مصير وقدر أمَّتِنا" [45] . وقد سعى المحافظون الجدد أو اليمين النصراني إلى تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترَض أنها تشكِّل مصادرَ تهديدٍ لأمن ومصالح أمريكا في العالم، ثم إعادة تشكيلها وفق مهمة أمريكا في بناء العالم الجديد، وتستند هذه الرؤية إلى التراث الاستشراقي خصوصًا لبرنارد لويس، هذا التراث الذي لا يستطيع أن يرى الوطن العربي إلا بكونه تجمُّعًا لأقليات دينية وعِرْقية عاجزة عن العيش معًا في كِيانات وطنية [46] . إن دعوة الإسلام تقوم على الأخلاق، والحضارة الإسلامية قبِلتِ الآخر، وتفاعلت معه أخذًا وعطاءً، وتعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من سُنَنِ الكون [47] ، والعدل في الإسلام يلتزم به المسلم كواجب أساسي في حالة الصداقة والعداوة [48] ، وقد حرص الإسلام على وضع التشريع والنظام الاجتماعي على مختلف المستويات؛ وهي: الأسرة، وعلاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقة المسلمين بغير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية، وعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، وعلاقتها بالمسلمين القاطنين خارج الدول الإسلامية [49] ، فالإسلام يهتم بالجوانب الدينية في المعاملات والمعتقدات؛ مما نتج عن ذلك خوف شديد لأنه أصبح يُهدِّد المعتقدات والقيم الغربية [50] . وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تفضح أهل الكتاب وزَيْغَهم وعدوانهم؛ لذلك هم يطالبون دائمًا ويضغطون من أجل تجديد الخطاب الديني، ويَعْنُون بتجديد الخطاب الديني إلغاءَ كلِّ نصٍّ ديني يرى فيه اليهود والنصارى إساءة لهم، أو تحريضًا على مقاومة عدوانهم [51] ، فنصوص القرآن الكريم تقرر عقيدة هؤلاء النصارى واليهود بالنسبة للمسلم وتصوِّرهم له؛ فيقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]، ويقول تعالى: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]. ومع ذلك فهم ليسوا سَوَاءً، فالإسلام لا يبخس الناس حقوقهم؛ فيقول تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113]، ويقول الله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82]، وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((عُرِضَت عليَّ الأممُ، ورأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل: هذا موسى في قومِهِ)) [52] . وبذلك نخلص إلى أن لكلِّ أمَّةٍ حضارةً تميِّزها عن غيرها من الأمم، وهذه الحضارة أو الثقافة تدل على خصوصية ورقيِّ الأمة أو الدولة، وتتمثل الحضارة والثقافة في الإنجازات المادية والمعنوية التي تُحقِّقها الشعوب المختلفة على مختلف مراحل حياتها، وأن الحضارة الإسلامية حضارة متميزة تقوم على أسس ثابتة من العدل والأخلاق، وهي حضارة إنسانية تقوم على التعايش والتفاعل مع الحضارات الأخرى، وليس على الصراعات والحروب، والقيم الإنسانية في الإسلام التي تقوم عليها هذه الحضارة هي قِيَمٌ ثابتة مع الجميع، وفي كل الأحوال. وفي الوقت الحاضر يلعب الإعلام ووسائله دورًا كبيرًا وأساسيًّا، وقد استخدمه العالم الغربي ضد العالم الإسلامي بذكاء كبير؛ لتحقيق أغراضه مستغلًّا التقدم الذي حقَّقه في هذه الصناعة دون ضوابط، ودون توخي الأمانة في نقل الأخبار؛ بهدف التشويش على المواطن الغربي أولًا، ولتشويه الإسلام ثانيًا، وزحزحة إيمان المسلمين في دينهم وعقائدهم، وبثِّ الرعب في النفوس تجاه الدين الإسلامي، والتخويف من المسلمين، وقد بيَّن القرآن الكريم أثر الإعلام في آيات كثيرة؛ منها قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]، وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60]؛ والإرجاف: هو إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به، والإرجاف واحد أراجيف: الأخبار، وقد أرجفوا في الشيء؛ أي: خاضوا فيه [53] - مؤكدًا على الصدق والأمانة في نقل الخبر، والتثبت والتيقُّن قبل التصرف إزاء الأخبار التي تصل إلينا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؛ والتبيُّن: التثبت [54] . ويؤكد الله سبحانه وتعالى أن مكر الأعداء ودسائسهم لن تُجدِيَ نفعًا: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، فهؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الله؛ أي: ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم، فمَثَلُهم في ذلك كمَثَلِ مَن يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه؛ ولهذا قال تعالى مقابلًا لهم فيما راموه وأرادوه: ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[التوبة: 32]، والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ومنه سُمِّي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الأشياء، والزارع كافرًا؛ لأنه يغطي الحَبَّ في الأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ﴾ [الحديد: 20] [55] . وعلى الرغم من كثرة المؤسسات ومراكز البحوث المتخصصة في دراسة الإسلام، فإن الغرب يبدو جاهلًا بالإسلام الحقيقي، أو يرفض الانفتاح عليه نتيجة التعصب، وهذا بالتأكيد شيءٌ مُخطَّط له ومقصود، فلن يسمح الغربيون المتعصبون بنقل الصورة الواضحة والحقيقية للإسلام، أو لأن الباحث الغربي يدخل في هذا المجال أساسًا وهو مُحمَّلٌ بالحقد والأفكار السيئة عن الإسلام والمسلمين؛ مما يحجُبُ الصورة الحقيقية والمشرقة للإسلام عنه وعن مجتمعه. وهذه النظرة القاصرة والجاهلة بالإسلام تدفعه إلى ممارسة سلوكيات غير طبيعية، ومن صور التعصب عند الغرب ذلك الهجوم الدموي على مسجدين في نيوزيلندا؛ حيث فتح مُسلَّحٌ متعصب النار على مصلين أثناء صلاة الجمعة في عام 2019م؛ مما أدى إلى مقتل خمسين شخصًا، وإصابة آخرين، وغير ذلك من الممارسات والأفعال والأقوال الشيء الكثير. المصادر: القرآن الكريم. الإنجيل. 1- إدارة الصراعات وفض المنازعات، سامي إبراهيم الخزندار، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة - قطر، الطبعة الأولى، 1435هـ - 2014م. 2- الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ترجمة: محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ - 1994م. 3- الإسلاموفوبيا في أوروبا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، المركز العربي الديمقراطي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين - ألمانيا، الطبعة الأولى، 2019م. 4- أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، إشبيليا للنشر، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م. 5- الإنسان دراسة في النوع والحضارة، محمد رياض، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة – مصر، دون ذكر الطبعة، 2013م. 6- البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية، الدكتور يوسف الحسن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1990م. 7- البعد الديني لعلاقة أمريكا باليهود وإسرائيل وأثره على القضية الفلسطينية خلال الفترة (1948 - 2009م)، يوسف العاصي الطويل، مكتبة حسن العصرية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1435هـ - 2014م. 8- تحليل الصراعات الدولية المعاصرة بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الإستراتيجية، دكتور فوزي نور الدين، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر - بسكرة، العدد: 36/ 37، 11/ 2014م. 9- تعريف الحضارة وأسسها في الإسلام، ياسر تاج الدين حامد، موقع الألوكة، تاريخ النشر: 11/ 11/ 1436 - 26/ 8/ 2015م، الرابط الإلكتروني: https://www.alukah.net/ 10- تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (700 - 774هـ)، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، السعودية، الطبعة الثانية، 1420هـ - 1999م. 11- الجامع لأحكام القرآن، تأليف: أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت: 671هـ)، تحقيق: الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، شارك في تحقيق هذا الجزء محمد رضوان عرقسوسي، ماهر حبوش، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1427هـ - 2006م. 12- دور المحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية، أحمد فايز صالح، رسالة ماجستير، باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2011م. 13- صحيح البخاري، الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256هـ)، دار ابن كثير للطباعة والنشر، دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1423هـ - 2002م. 14- صحيح مسلم المسمى المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261هـ)، دار طيبة للنشر، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1427هـ - 2006م. 15- صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ترجمة: طلعت الشايب، دون ذكر مكان الطبع، الطبعة الثانية، 1999م. 16- الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي (كتاب منشور في شبكة الألوكة)، أبو بكر عزيز أحمد اللواع، كلية الإعلام، جامعة مرمرة، تركيا، 2017م. 17- العقيدة الإسلامية في مواجهة التنصير، عبدالجليل إبراهيم حماد الفهداوي، دار ورد للنشر، عمان - الأردن، 2009م. 18- العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، صالح عبدالرحمن الحصين، مكتبة العبيكان للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1429هـ - 2008م. 19- الفكر الحركي للتيارات الإسلامية، دكتور عبدالله النفيسي، مكتبة آفاق للنشر، الكويت، الطبعة الثانية، 1435هـ - 2014م. 20- القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، دكتور خضر عباس عطوان، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 2010م. 21- اللعبة الكبرى: الشرق العربي المعاصر والصراعات الدولية، هنري لورنس، ترجمة: دكتور محمد مخلوف، دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، الطبعة الأولى، 1992م. 22- المحافظون الجدد: قراءة في خرائط الفكر والحركة، أميمة عبداللطيف، تصوير أبي عبدالرحمن الكردي، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م. 23- المسيح اليهودي ونهاية العالم، رضا هلال، مكتبة الشروق، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م. 24- مفهوم الثقافة وخصائصها، غني ناصر حسين القريشي، جامعة بابل، تاريخ النشر: 5/ 23/ 2011م، على الرابط: http://www.uobabylon.edu.iq/ 25- موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، العلامة محمد علي التهانوي، تحقيق: الدكتور رفيق العجم، الدكتور علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1996م. 26- نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرانسيس فوكوياما، فريق الترجمة: دكتور فؤاد شاهين، دكتور جميل قاسم، رضا الشايبي، مركز الإنماء القومي، لبنان - بيروت، 1413هـ - 1993م. 27- وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه، الدكتور محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طبعة خاصة، 1401هـ - 1999م. [1] تعريف الحضارة وأسسها في الإسلام، ياسر تاج الدين حامد، موقع الألوكة، تاريخ النشر: 11/ 11/ 1436ه - 26/ 8/ 2015م، الرابط الإلكتروني: https://www.alukah.net/ [2] صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ترجمة: طلعت الشايب، دون ذكر مكان الطبع، الطبعة الثانية، 1999م، ص: 71. [3] أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، إشبيليا للنشر، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1421ه - 2000م، ص: 19. [4] الإنسان دراسة في النوع والحضارة، محمد رياض، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة – مصر، دون ذكر الطبعة، 2013م، ص: 12، 215. [5] الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ترجمة: محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، الطبعة الأولى، 1414ه - 1994م، ص: 94. [6] الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص: 94. [7] مفهوم الثقافة وخصائصها، غني ناصر حسين القريشي، جامعة بابل، تاريخ النشر: 5/ 23/ 2011م، على الرابط الإلكتروني: http://www.uobabylon.edu.iq/ [8] أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، ص: 19 - 21. [9] مفهوم الثقافة وخصائصها، غني ناصر حسين القريشي. [10] أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، ص: 13. [11] وُلد (علي عزت) سنة 1925م في أسرة مسلمة بوسنية عريقة، بمدينة كروبا في جمهورية البوسنة والهرسك، التي كانت جزءًا من الاتحاد اليوغسلافي، تعلم في مدارس مدينة سراييفو والتحق بجامعتها، وحصل على درجات في القانون والآداب والعلوم، ثم عمِلَ مستشارًا قانونيًّا لمدة 25 عامًا اعتزل بعدها، وتفرَّغ للكتابة والبحث، وكان خلال حياته كلها نشيطًا في مجالات العمل الإسلامي كتابةً ومحاضرةً، أصبح رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك: الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص: 13، 23. [12] الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص: 97، 101، 103. [13] القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، دكتور خضر عباس عطوان، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 2010م، ص: 141. [14] مفهوم الثقافة وخصائصها، غني ناصر حسين القريشي. [15] تحليل الصراعات الدولية المعاصرة: بين الأبعاد الثقافية والاعتبارات الاستراتيجية، دكتور فوزي نور الدين، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر - بسكرة، العدد: 36/ 37، 11/ 2014م، ص: 179. [16] صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ص: 171، 199. [17] نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرانسيس فوكوياما، فريق الترجمة: دكتور فؤاد شاهين، دكتور جميل قاسم، رضا الشايبي، مركز الإنماء القومي، لبنان - بيروت، 1413ه - 1993م، ص: 259. [18] صحيح مسلم المسمى المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261ه)، دار طيبة للنشر، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1427ه - 2006م، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، حديث: 2898، المجلد الثاني، ص: 2222. [19] الفكر الحركي للتيارات الإسلامية، دكتور عبدالله النفيسي، مكتبة آفاق للنشر، الكويت، الطبعة الثانية، 1435ه - 2014م، ص: 71. [20] القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، دكتور خضر عباس عطوان، ص: 142 - 143. [21] صدام الحضارات ... إعادة صنع النظام العالمي، صامويل هنتنجتون، ص: 338. [22] إدارة الصراعات وفض المنازعات، سامي إبراهيم الخزندار، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة - قطر، الطبعة الأولى، 1435ه - 2014م، ص: 142. [23] الإسلاموفوبيا في أوروبا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، المركز العربي الديمقراطي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين - ألمانيا، الطبعة الأولى، 2019م، ص: 124. [24] القوى العالمية والتوازنات الإقليمية، دكتور خضر عباس عطوان، ص: 161 - 162. [25] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، ص: 80 - 81، 84. [26] المصدر نفسه، ص: 23 - 24، 136، 141، 145، 207. [27] الإعلام لغة هو الإخبار(1)، والإعلام بالإنكليزية media (ميديا)، وهو عبارة عن مجموعة من قنوات الاتصال المستخدمة في نشر الأخبار والإعلانات الترويجية أو البيانات، ويعرف أيضًا بأنه الوسيلة الاجتماعية الرئيسية للتواصل مع الجماهير، والإعلام لغة يعني: الإبلاغ، الإفادة، نقل معلومة لشخص ما، وتأكيد درايته بها، أما اصطلاحًا: فهو عبارة عن إحدى الوسائل أو المنظمات التجارية التي تتولى مسؤولية نشر الأخبار، وإيصال المعلومات إلى الأفراد، وتكون عادة وسائل غير ربحية، وتختلف في ملكيتها؛ فقد تكون عامة أو خاصة، أو رسمية وغير رسمية(2). (1): موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، العلامة محمد علي التهانوي، تحقيق الدكتور رفيق العجم، الدكتور علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1996م، الجزء الأول، ص: 224. (2): الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي (كتاب منشور في شبكة الألوكة)، أبو بكر عزيز أحمد اللواع، كلية الإعلام، جامعة مرمرة، تركيا، 2017م، ص: 4 - 5. [28] المصدر نفسه، الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي، أبو بكر عزيز أحمد اللواع، ص: 4. [29] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، ص: 209. [30] المصدر نفسه، ص: 208. [31] الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي، أبو بكر عزيز أحمد اللواع، ص: 9، 11. [32] العقيدة الإسلامية في مواجهة التنصير، عبدالجليل إبراهيم حماد الفهداوي، دار ورد للنشر، عمان - الأردن، 2009م، ص: 148. [33] أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد فؤاد محمود، ص: 103. [34] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، ص: 67. [35] لماذا يخافون الإسلام؟ رسالة سلمان بن فهد العودة، ص: 24. [36] المسيح اليهودي ونهاية العالم، رضا هلال، مكتبة الشروق، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1421ه - 2000م، ص: 225. [37] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، ص: 207. [38] البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية، الدكتور يوسف الحسن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1990م، ص: 12. [39] إنجيل مرقس: الإصحاح الثالث عشر: الآية رقم: 10. [40] إنجيل مرقس: الإصحاح السادس عشر: الآيات من: 15 - 16. [41] إنجيل يوحنا: الإصحاح السابع عشر: الآية رقم: 18. [42] إنجيل يوحنا: الإصحاح العشرون: الآية رقم: 21. [43] اللعبة الكبرى: الشرق العربي المعاصر والصراعات الدولية، هنري لورنس، ترجمة: دكتور محمد مخلوف، دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، الطبعة الأولى، 1992م، ص: 5. [44] المحافظون الجدد: قراءة في خرائط الفكر والحركة، أميمة عبداللطيف، تصوير أبي عبدالرحمن الكردي، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1424ه - 2003م، ص: 4، 18. [45] البعد الديني لعلاقة أمريكا باليهود وإسرائيل وأثره على القضية الفلسطينية خلال الفترة (1948 - 2009م)، يوسف العاصي الطويل، مكتبة حسن العصرية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1435ه - 2014م، ص: 93. [46] دور المحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية، أحمد فايز صالح، رسالة ماجستير، باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2011م، ص: 52 - 53. [47] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، ص: 124. [48] العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، صالح عبدالرحمن الحصين، مكتبة العبيكان للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1429ه - 2008م، ص: 36. [49] وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه، الدكتور محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طبعة خاصة، 1401ه - 1999م، ص: 86 - 87. [50] الإسلاموفوبيا في أوربا: الخطاب والممارسة، مجموعة باحثين، ص: 38. [51] المصدر نفسه، ص: 27. [52] صحيح البخاري، الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256ه)، دار ابن كثير للطباعة والنشر، دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1423ه - 2002م، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى وذكره بعد، حديث: 3410، ص: 843 - 844. [53] الجامع لأحكام القرآن، تأليف: أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت: 671ه)، تحقيق: الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، شارك في تحقيق هذا الجزء محمد رضوان عرقسوسي، ماهر حبوش، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1427ه - 2006م، الجزء السابع عشر، ص: 234. [54] الجامع لأحكام القرآن، تأليف: أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، الجزء التاسع عشر، ص: 368. [55] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (700 - 774ه)، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، السعودية، الطبعة الثانية، 1420ه - 1999م، الجزء الرابع، ص: 136.
الميسر في علم علل الحديث لمحمد عبد الله حياني صدرت حديثًا نسخة مزيدة ومنقحة من كتاب "الميسر في علم علل الحديث"، تأليف: أ.د. "محمد عبد الله حياني"، نشر: "دار السلام للنشر والتوزيع". وَهدفَ المؤلف من هذا الكتاب تبسيط علم علل الحديث لجمهور الباحثين، وذلك للتصور الخاطئ عند طلبة العلم من صعوبة ذلك العلم وتعقيده، حيث بيَّنَ الكاتب ضوابط وخطوات كشف العلة، وأجناسها، وقرائن الترجيح. كما هدفَ الكاتب من مؤلفه إيضاح ما اشتبه لدى غير المتخصص؛ بأن علم العلل دليل على الشك حتى في الأحاديث الصحيحة، وتحرير هذا الفهم من الغلط بالأدلة الدامغة. وقد عمد الكاتب إلى تقسيم وتنويع مباحث ذلك العلم لما يمكن تقسيمه، مع ذكر ضوابط كل مسألة أو مبحث اقتضاها أو تضمنها، بصورة مستقلة ومعدودة، واستيعاب ما يحتاجه الدارس لهذا العلم، من كليات وجزئيات علمية ضرورية؛ للإلمام الإجمالي بمعالم هذا العلم. كما جعل خطوات كشف العلة ضمن مسار وسياق متسلسل، ومبين إجمالًا ثم تفصيلًا. كما وضع تصورًا عامًا لتعدد أجناس العلة، ثم للقرائن؛ ليسهم ذلك في استيعاب أسباب التعدد، مع دراسة خاصة للقرائن وذكر ضوابطها المستنبطة من سير عمل المحدثين واستخداماتهم، ومن تصريحاتهم أيضًا. مع تقسيم القرائن إلى ثلاثة أقسام، تيسيرًا على الدارس معرفة نوع كل قرينة عند دراسته لتعليل المحدثين لبعض الأحاديث في كتبهم، والتصرف الصحيح في ترجيحه بين طرفي الاختلاف. وقد انتظمت خطة الكتاب في تمهيد وأربعة فصول، جاءت على النحو التالي: تمهيد: تضمن معالجة ما يلي: أ‌- دعوى صعوبة علم علل الحديث، ومعالجتها. ب‌- بعض المصنفات في هذا العلم. ت‌- ضرورة عدم التحدث بعلم العلل، في حضور غير المتخصص بعلوم السنة. ث‌- إيضاح مصطلحات استعملها المحدثون في هذا العلم. ج‌- الهجمة الشرسة عل السنة من خلال هذا العلم، والرد عليها بالتالي: • صورة موضحة لواقع إسناد دخلته علة خفية، وتم كشفها من ناقد بصير. • صورة من واقع علم علل الحديث لموضوعه. • صورة متخيلة، موضحة لموقع هذا العلم بالنسبة لعلوم الحديث، وعلم الجرح والتعديل. • منهج المحدثين في تضمينهم علم علل الحديث، خلال تصنيفهم للسنة الصحيحة. • واقع الكتب المصنفة في الأحاديث المعلة على وجه الخصوص، ومقدار وجود الضعيف فيها. الفصل الأول: التعريف بالعلة، وخطوات كشفها. تضمن المباحث التالية: المبحث الأول: في تعريف العلة، وضوابطها. حوى المطالب الآتية: أ‌- تعريف العلة لغة واصطلاحًا. ب‌- ضوابط التعريف المتفق عليه عند الجمهور، وأدلة ذلك. ت‌- أنواعها من حيث التأثر والقدح في صحة الحديث، أو عدمه. ث‌- أسباب وجود العلة في الأحاديث الصحيحة. المبحث الثاني: خطوات كشف العلة إجمالًا: اشتمل على المطالب الآتية: أ‌- الهاجس في صدر الناقد فور سماعه الحديث بإسناده ومتنه بوجود علة. ب‌- جمع طرق الحديث، وفوائد جمعها. ت‌- المقارنة بين طرق الحديث، وما يحتاجه الناقد من أنواع المعرفة عند المقارنة. ث‌- معرفة مدار الإسناد. ج‌- الاختلاف على الشيوخ، وفوائد معرفته. ح‌- أجناس العلة. خ‌- قرائن الترجيح. الفصل الثاني: أهم خطوات كشف العلة بعد معرفة الاختلاف على الشيوخ. تضمن المباحث التالية: المبحث الأول: التفرد. انتظم بالمطالب التالية: أ‌- تمهيد لمفهوم التفرد عمومًا. ب‌- أقسام التفرد. ت‌- موقف المحدثين من الفرد بقسميه. ث‌- الفرق بين التفرد المطلق والنسبي. ج‌- موقف المحدثين من المتفردين من الرواة حسب الطبقات الزمانية. ح‌- ما يشرط في المتفرد لقبول تفرده. خ‌- ضوابط قبول الحديث الفرد. المبحث الثاني: معرفة طبقات أصحاب الشيوخ في الملازمة لهم، والضبط لأحاديثهم؛ لكشف التفرد، ثم حال المتفرد ليسعف ذلك في ميزان الترجيح. شمل المطالب الآتية: أ‌- طبقات أصحاب الشيوخ في درجة الملازمة لهم، والعناية بأحاديثهم. ب‌- منهج المحدثين في اعتبار أعلى وأدنى درجات الملازمة للشيخ والضبط لأحاديثه. ت‌- فوائد دراسة أصحاب الشيوخ. المبحث الثالث: أسباب التفرد. حوى المطالب الآتية: أ‌- أسباب تفرد الثقات عن الشيوخ لظروف تعتري المتفرد حال التحمل. ب‌- أسباب تفرد الثقات لظرف من ظروف الأداء ت‌- مخالفة المتفرد وضوابطها، وحكمها. ث‌- الفارق بين الشاذ والمعلل. المبحث الرابع: زيادات الثقات. احتضن المطالب التالية: أ‌- مفهوم الزيادة عند المحدثين. ب‌- الزيادة في الإسناد وتنوعها. ت‌- الزيادة في المتن وتنوعها. ث‌- أحكام زيادات الثقات، والحكم المعتمد عند المحققين، وضوابطه. الفصل الثالث: وجه تعدد أجناس العلة، وذكر جملة منها مع الأمثلة. الفصل الرابع: قرائن الترجيح. تضمن المباحث الآتية: المبحث الأول: التعريف بالقرينة. ضم المطالب التالية: أ‌- تعريف القرينة لغة واصطلاحًا. ب‌- ضابط استخدامها في الترجيح. ج‌- مهمتها ووظيفتها. د‌- ضوابط تفي العلة. المبحث الثاني: منهج المحدثين في العمل بالقرائن، ووصف الاختلاف على الشيوخ. ائتلف المطالب التالية: أ‌- منهج المحدثين في العمل بالقرائن، في ضوء أحوال الاختلاف على الشيوخ. ب‌- أحوال طرفي الاختلاف، من حيث التساوي أو التفاوت بينهم في القرائن. ت‌- أنواع الاختلاف عل الشيوخ. ث‌- وجه تنوع القرائن. المبحث الثالث: أنوع القرائن في الاختلاف على الشيوخ. اتسق بالمطالب الآتية: أ‌- مدخل إلى أنواع القرائن. ب‌- أنواع القرائن إجمالًا. ت‌- أنواع القرائن تفصيلًا، وقد ضم الأنواع التالية: • ما يُجزم فيه بوهم المتفرد، فيرجح عليه الطرف السالم من الوهم. • لا يرجح فيه أحد الطرفين على الآخر في الظاهر، فيُلجأ فيها إلى القرائن. • ما يرجح فيه قبول الوجهين. أما المؤلف فهو الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد حياني الحلبي الطائي، ولد في مدينة حلب في شهر ربيع الأول من سنة 1373هـ، وقرأ القرآن على والده وحفظه وهو ابن عشر سنوات في شهرٍ واحد، وحفظ الألفية في النحو للإمام ابن مالك، وغير ذلك من المتون. تلقى العلم مند نعومة أظفاره في مدارس حلب، وبعد إتمامه المرحلة الابتدائية انتظم طالبًا في المدرسة الشعبانية التي عرفت بعلمائها الربانيين الأكابر فنهل من علومهم، ولم يكتف بدروسهم في المدرسة بل كان كثير الحضور لمجالسهم العلمية في عدد من مساجد حلب. كما أفاد من غيرهم من العلماء الذين كانوا يدرِّسون في المدرسة الخسروية وغيرها من المدارس العلمية الشرعية في حلب، كما توّج علمه بالاختلاف إلى علماء السلوك. وبعد حصوله على الإجازة من المدرسة الشعبانية سافر إلى مصر لمتابعة التحصيل في الأزهر، والتحق بكلية أصول الدين وحصل منها على الإجازة والماجستير ثم درجة العالِمية (الدكتوراة) في عام 1986م وعنوان الرسالة (موطأ الإمام مالك رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني: تحقيق ودراسة) . ومن شيوخه: الشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ بكري رجب، الشيخ عبد الرحمن زين العابدين، والشيخ نجيب خياطة، والشيخ محمد الغشيم، والشيخ عبد المجيد قطان، والشيخ مصطفى مزراب، والشيخ أحمد قلاش، والشيخ سامي بصمه جي، والشيخ محمد ياسين الفاداني، والشيخ محمد عوامة، والشيخ زهير الناصر، وغيرهم كثير من علماء حلب ومصر في فنون عدة. كما حصل على إجازات عدّة في الحديث النبوي الشريف من عدد من العلماء، رحم الله من توفي منهم وحفظ من بقي وأمتع بهم جميعًا. وقد درَّس في المدرسة الشعبانية والمدرسة الخسروية وغيرهما من المدارس الحكومية في حلب، كما خطب في عدد من جوامعها. ثم ارتحل إلى السعودية مدرِّسًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المدينة المنورة لمدة خمس سنوات، محاضرًا فيها من عام 1981م إلى 1986 م. ثم انتقل إلى الأحساء مدرسًا في جامعة الملك فيصل في عام 1986م، وما زال فيها أستاذًا لعلوم الحديث الشريف. من آثاره العلمية: 1- الاقتران عند المحدثين. 2- الانتخاب عند المحدثين أثره وأهميته. 3- ثقافة المحدثين في التعامل مع النص النبوي والنص التاريخي. 4- خصائص الإسلام. 5- لماذا نجني على علاقاتنا. 6- لمحات في دقة المحدثين المنهجية للحفاظ على السنة النبوية. 7- مدخل إلى الثقافة الإسلامية. 8- مدى الثقة المنهجية في تخريج الحديث من المعجم المفهرس و البرامج الحاسوبية. 9- مدى عناية العلماء بكتاب موطأ الإمام مالك بن أنس. 10- موطأ الإمام مالك رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني دراسةً وتحقيقًا. 11- اليقين بمعرفة من رُمي من المحدثين بقبول التلقين.
التأليف بجِوار الكعبة المشرفة: نموذج ابن آجروم الفاسي ومحمد عَلاَّن المكي شهدت مكة المكرمة منذ زمن الفتح وقيام الدين الإسلامي حركة تأليف وتصنيف مطردة، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بخصوصية قدسية المكان المبارك، والسكينة والأمان لكل طائف ومجاور وناسك، ولم تفارق بركةُ البيت العتيق، والجوُّ النفسي الطاهر الذي يشعر به المرء منذ اكتحال عينيه برؤية الكعبة المشرفة ومشهد الطواف، قلتُ لم تفارق هذه البركة والحالة النفسية العديدَ من العلماء الذين استندوا إلى عمود من أعمدة المسجد الحرام لتبييض تأليف أو نسخ كتاب أو تحرير مسألة أو نازلة، طمعا في السَّند والمدد وحُسن التوفيق والسداد مع تخليص النية وسَبْق الاحتساب. ويقف الباحث في تراجم الأعلام والفهارس وغميس المخطوطات والمطبوعات على أخبار البعض منهم ألف كتابا أو حرر فتوى أو نظم قصيدة في المدح النبوي أو السيرة ببطن مكة داخل الحرم المكي تيمنا وتبركًا. وسنقتفي أثر عَلَمين بارزَيْن، الأول مغربي فاسي من القرن الثامن الهجري، والثاني حجازي مكي من القرن الحادي عشر الهجري. 1) أبو عبد الله محمد بن محمد ابن آجَرُّوم الفاسي [1] (672- 723 هـ): هو العالم المُبرز في اللغة والقراءات صاحب المقدمة الآجرومية، وبسببها يقع الخلط بينه وبين ابنه الشيخ محمد مَنْديل بن محمد بن محمد بن داود ابن آجَرُّوم الصنهاجي المكنى بأبي المكارم [2] . ويميزون الأخير عن أبيه بابن آجَرُّوم الابن (المتوفى سنة 772هـ) [3] . وقال عن أبيه مصنف الآجرومية الأديبُ الغرناطي أبو الوليد إسماعيل ابن الأحمر (ت807هـ) :" وأبوه أبو عبد الله محمد كان فقيها متفننا، أستاذا نحويا، لغويا، مقرئا، شاعرا بصيرا بالقراءات، ولم يكن في أهل فاس في وقته أعرف منه بالنحو... " [4] صنف أبو عبد الله محمد ابن آجروم ورقات في قواعد النحو المركزة والمختصرة للمبتدئين، ومنها استنتج علماء اللغة مذهبه الكوفي في النحو، قال السيوطي في "بغية الوعاة طبقات اللغويين والنحاة": "... واستفدنا من مقدمته أنه كان على مذهب الكوفيين في النحو." [5] ثم نقل السيوطي فائدة تخص مكان تأليفه لهذا المتن النحوي فقال:" وذكر الراعي أنه ألف مقدمته تجاه الكعبة الشريفة" [6] . وأورد محمد الكتاني في سلوته:"...ذكروا أنه رحل إلى المشرق، وحج وزار، ولقي الشيخ أبا حيان وروى عنه، واستجازه فأجازه، وصنف مقدمته المذكورة تجاه بيت الحرام، وممن أخذ عنه أيضا: وَلَداهُ: الأستاذ الأثير العالِم الكبير أبو محمد عبد الله، وبِرَسمه وضع والده المذكور المقدمة المذكورة، فنفعه الله بها، وانتفع بها أيضا مل من قرأها، وهي من أجَلِّ ما أُلِّفَ في النحو، قريبة المرام، سهلة للحفظ والفهم، كثيرة النفع لمن هو مبتدئ. قال سيدي الشريف في شرحه لها: ولما حضرتها على ولده أبي محمد المذكور بمدينة فاس وجدت لها بركة عظيمة. وثاني ولدَيه اللذين أخذا عنه الأستاذ المحقق الناظم الناثر؛ أبو عبد الله محمد المدعو ب:مَنْديل " [7] ويتوضح من هذه النقولات والمعلومات التي ظفرت بها كتب التراجم أن ابن آجروم الأبَ كان له ولدان، صار لهما باع وذكر بعده [8] ، وأن الوالد العالم النحوي والرجل الصالح حَمَلَ همَّ ولدِهِ عبد الله الذي استعصى عليه فهم النحو، وخصَّه بهذا التصنيف وهو بالبيت العتيق لعل الله تعالى يفتحُ على ابنه (عبد الله) في فاس فَهْمَ وضبطَ قانونِ وقواعد لغة القرآن، فالنحو مدخل أساس لكل من تتشوف نفسه للغوص في تفسيره وتأويله، وهكذا كتب الله لهذا المتن/ الآجرومية أن حقق الله به مُراد واضعه وزيادة، ذلك أن متن مخطوطته منذ زمن وَضْعِه (القرن الثامن الهجري) بدأت نسخٌ منه تُنْسخ وتتفرق في الأمصار والأقطار، وصل الكون كلَّه بدون مبالغة، فلا تجد مكتبة خاصة أو عامة ببلد من البلدان، إلا ومخطوطة الآجرومية من أوائل ما تصدافك وأنت تتصفح فهارس مخطوطاتها ومطبوعات محتوياتها. لاشك أن ارتباطَ زمنِ الوضع والتأليف بجلال المكان وبركة البيت، والمؤكد أيضا كما سبق أنه كان فترئذ يُرابط بالمقام والمشاعر أيام المناسك والشعائر، انعكس كل ذلك على هذه الورقات التي أرقت عالم اللغة والمفتتن بدرس النحو وقواعده، وكأنه كان يُحس بمسؤولية وأهمية وضع هذا التصنيف الذي سيكون له شأن في المنظومة التعليمية لأمة الإسلام قاطبة وليس للعرب فقط. ويقف الباحث التراثي مضطربا غير حاسمٍ ودقيقٍ، وهو يريد أن يُحصي ما أُنْجِزَ على هذا النص ببلاد العرب والعجم من شروح وحواشٍ وتعليقات وتذييلات، بل وتُرجم النصُّ للغات كثيرة أيضا. وصدق رب العالمين إذ قال في محكم التنزيل:" والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين" [9] . وقال:" أَوَلم نُمكِّن لهم حَرَما أمنا تُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا مِن لَدُنا" [10] ، أَليسَ الأمنُ والسكينةُ وبركةُ المجاورة ثمرةً من هذه الثمرات المُجباة... 2)   محمد علي بن محمد عَلان الصِّدِّيقي المكي (ت1057هـ): محمد علي ابن محمد عَلان الصِّديقي المكي [11] (996ـ 1057هـ) ينتسب لبيت من البيوتات المكية المعروفة، وقد هيأ الله له بذلك وغيره أسباب التلقي وفرص النبوغ جعلته يتصدَّر للتدريس والإفتاء مبكرا بالبلد الأمين. وتتحدث عنه مصادر ترجمته وما تشهد به كثرة تآليفه المخطوطة والمحققة أن له مشاركة وتأليف في علوم وفنون شتى، تفسيرا وحديثا وعقيدة وفقها ولغة وأدبا وزهدا... شُغِف ابن عَلان بالمسجد الحرام شغفا كبيرا، فقد رزق بيتا بجبل أبي قبيس يُشرف على المسجد الحرام، وجاور البيت تدريسا وتأليفا، للحد الذي جعل كثرة النظر للكعبة المشرفة إثمدَ العينين وسَكَنَ الفؤادِ وشفاء العِللِ. وتروي كتبُ التراجم أن سَنة السيل الذي عمَّ البيت الشريف وحطم جزءاً من أركانه [12] وذهب بالكتب التي حوتها مكتبة الحرم المكي عام 1039هـ، جعل الشيخَ ابن عَلان لا يتوقف عن تدريس "صحيح البخاري"، فأصرَّ على عدم مغادرة صحن المطاف وأركان المسجد فدخل الحِجْر الإسماعيلي ليُتِمَّ إقراءَهُ به. ولما قِيل أو عِيبَ عليه، صنفَّ" القول الحق والنقل الصريح بجواز أن يقرأ بجوف الكعبة الحديث الصحيح". قال المحبي (ت 1111هـ) في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر:"... ومقرئ كتاب صحيح البخاري من أوله إلى أخره في جوف كعبة الله" وعلَّقَ محقق الذخر والعدة قائلا: وقد ذكر ابن عَلان نفسه هذه النعمة عليه أيضا في مقدمات بعض مصنفاته [13] . خلف ابن عَلان مكتبة زاخرة من التآليف في مختلف العلوم الفنون، أحصى منها الدكتور أحمد طوران أرسلان مائة وخمسة 105 كتاب. وظفرنا بتصريح يُستشف منه أنه كان يحرر بعض أوضاعِه العلمية وهو في المطالع البهية للكعبة الشريفة، فقد أورد في خاتمة كتابه " المواهب الفتحية على الطريقة المحمدية" ما نصه:" وكان تمام تسويدي بعد الظهر يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وألف الكعبة الغراء، في محلي من المدرسة الأشرفية عند باب السلام" [14] . وعُثِر بآخر مخطوطة تفسيره" ضياء السبيل إلى معاني التنزيل" على ما نصه:" قال مؤلفه: كان انتهاء تسويده وقت الإشراق من يوم الأربعاء ثاني عشر محرم سنة (فراغ) بالمجمع القايتباي مشاهد بيت الله الحرام" [15] وهكذا يقف الباحثُ وهو يتتبع مخطوطات ومطبوعات التراث العربي الإسلامي على تقاييدَ ألَّفَها أصحابُها في أزمنة قديمة وحديثة بصحن المطاف أو بِسارية من سواري المسجد الحرام تيمنا وتبركا بطهر المقام وما يمنحه من سكينة وفتح وشفوف. إنه بيتٌ مباركٌ كلُّه، ومن زاره وجاوره بحقه احتضنته بركةُ البيت؛ " إن أولَ بيتٍ وُضع للناس لَلَّذي ببكة مُباركا وهُدى للعالمين" [16] . [1] بيت ابن آجروم من بيوتات فاس الشهيرة، رغم أن إسماعيل ابن الأحمر لم يذكر هذا البيت العلمي في كتابه: ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم الذي نُشر تحت اسم" بيوتات فاس الكبرى"ط1972، ذلك أن إسماعيل ابن الأحمر نفسه في نثير الجمان تحدث عن جده وعن ولديْه ووشَّحهم بِسماتٍ من تحليات العلم والأدب. [2] ترجمته: في نثير الجمان 416- 417، وفهرسة السراج 10، وسلوة الأنفاس 2- 156، وسلسلة المشاهير لعبد الله كنـــــون رقم 20. [3] ترجمه الكتاني في السلوة، ومما جاء في مادة الترجمة:" كان رحمه الله فقيها مقرئا، لغويا نحويا، أديبا شاعرا، مكثرا مُجيدا، كثير الانبساط والمداعبة، جميل المجالسة والمعاشرة، من أعجب المقرئين فصاحة وحسن إلقاء" السلوة 2/ 175. 772هـ [4] النثير 417. [5] البغية: 1 / 238. [6] نفسه. [7] سلوة الأنفاس: 2/ 126. [8] ينظر نثير الجمان لابن الأحمر، وسلوة الكتاني، وغيرهما. [9] التين: 1 و2. [10] القَصَص: 57. [11] اعتنى بتركيب وتجميع ترجمة وافية له من المعاصرين الدكتور أحمد طوران أرسلان محقق كتاب ابن عَلان " الذخر والعدة في شرح البردة" منشورات كلية الإلهيات بجامعة مرمرة سنة 1999. وأيضا الدكتور محمد علي فهيم بيومي في مقاله" مؤرخ البيت الحرام ابن عَلان الصِّديقي المكي" مجلة الفيصل 2006/ ع 357. [12] صنف ابن علان عن هذا الحدث كتاب " إعلام سائر الأنام بقصة السيل الذي سقط منه بيت الله الحرام". [13] الذخر والعدة في شرح البردة: 45. [14] نفسه:68 هـ 173. [15] نفسه: 53. [16] آل عمران: 96.
قصة موسى عليه السلام (13 ) ما ورد من صفات موسى أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة - عيب في الخصيتين - وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا عن موسى، فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على حجر كبير ساتر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإذا بالحجر يعدُو بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ - هنا أداة النداء محذوفة أي: ثوبي يا حجرُ - حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا؛ فذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]))، وعن أبي هريرة، قال: استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجل من اليهود: فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العالمين - في قسَم يُقسم به - فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال: ((لا تخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش - آخذ بقوة - بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله))، وهذه ميزةٌ كبيرة لموسى، وفي رواية ابن الفضل: (( لا تفضِّلوا بين أنبياء اللهِ )). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: (( عُرضت عليَّ الأمم، ورأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق، فقيل: هذا موسى في قومه )).
التعريف بالإمام الترمذي وجامعه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن أئمة الحديث لهم فضل كبير على الأمة؛ فقد خدموا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فصنفوا المصنفات، وجمعوا الأحاديث، وميزوا بين صحيحها وسقيمها، وصانوها بعد الله عز وجل من عبث العابثين ووضع الكذابين وشبهات المستشرقين، وإن من باب الوفاء بهؤلاء العلماء التعريف بهم وبكتبهم، ومنهم الإمام محمد بن عيسى الترمذي رحمه الله صاحب الجامع الشهير المعروف بجامع الترمذي، فقد اختصرت من كتابي الموسوم (شرح سبعة أحاديث من جامع الترمذي) التعريف به وبكتابه ورأيت من المناسب أن أفرده في مقال مستقل، وقد وضعته على مبحثين: المبحث الأول : التعريف بالإمام الترمذي وفيه خمسة مطالب: (اسمه ونسبه – ولادته ونشأته وطلبه للعلم - أبرز شيوخه وتلاميذه – ثناء العلماء عليه – آثاره العلمية، ووفاته) . والمبحث الثاني: التعريف بجامع الإمام الترمذي وفيه مطلبان: (مكانة الكتاب، وثناء العلماء عليه - خدمة أهل العلم للكتاب، وأبرز مؤلفاتهم في ذلك) . والله أسأل أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون إنه ولي ذلك والقادر عليه. المبحث الأول: التعريف بالإمام الترمذي المطلب الأول: اسمه ونسبه: هو الحافظ العلم الإمام البارع: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك. وقيل: هو محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن [1] . وقيل: محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلمي الترمذي [2] . وكان رحمه الله من قرية "بوغ" ولذا تجد في ترجمته عند المتقدمين قول: البوغي الترمذي. قال السمعاني في الأنساب: البوغي بضم الباء وسكون الواو، وفي آخرها الغين المعجمة، هذه النسبة إلى بوغ وهي قرية من قرى ترمذ [3] ثم ذكر أن منها أبوعيسى الترمذي. المطلب الثاني: ولادته ونشأته وطلبه للعلم: ولد الإمام أبي عيسى الترمذي في حدود سنة عشر ومائتين [4] . وكان عمره رحمه الله مليئًا بطلب العلم، فقد رحل وصنف وجمع وذاكر، فكانت مسيرة حياته زاهرةً بالعلم، فرحمه الله وأجزل له المثوبة. نشأ الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في دوحة العلم والعلماء، فقد رحل إلى كثير من الأمصار لطلب العلم وتحصيل الحديث، فقد كان رحمه الله يحب العلم ويرحل إليه حيثما كان ومنها ما ذكره الإمام الذهبي حيث قال: وارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين [5] . وقول الإمام السيوطي: طاف البلاد وسمع خلقًا كثيرًا من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين وغيرهم [6] . وكان رحمه الله من الحفاظ الأعلام فقد قال رحمه الله: كنت في طريق مكة فكتبت جزأين من حديث شيخ، فوجدته فسألته وأنا أظن أن الجزأين معي، فسألته فأجابني، فإذا معي جزآن بياض، فبقي يقرأ علي من لفظه، فنظر فرأى في يدي ورقًا بياضًا، فقال: أما تستحي مني؟ فأعلمته بأمري، وقلت: أحفظه كله، قال: اقرأ، فقرأته عليه، فلم يصدقني، وقال: استظهرت قبل أن تجيء؟ فقلت: حدثني بغيره، قال: فحدثني بأربعين حديثًا، ثم قال: هات، فأعدتها عليه، ما أخطأت في حرف [7] . قلت: ومن كان همه طلب العلم، وسماع الحديث ونشره للناس، وتفقيه الناس في دينهم، ولو تكبَّد في ذلك عناء السفر ومشقته؛ فإن الله يجزيه الجزاء الأوفى ما دام أنه صدق في نيته ويكفي من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) [8] ومن سلك طريق الجنة فاز فوزًا عظيمًا. المطلب الثالث: أبرز شيوخه وتلاميذه: للحافظ أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى شيوخ كثر منهم من أجمع العلماء على فضله وإمامته مثل جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث الإمام العلم الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى صاحب الجامع الصحيح الشهير المعروف بصحيح البخاري والذي لا ينقص من قدره إلا جاهل معلوم الجهل. قال ابن خلكان: وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري [9] . ومن شيوخه أيضًا: قتيبة بن سعيد، و إسحاق بن راهويه، و محمد بن عمرو السواق البلخي، ومحمود بن غيلان، وإسماعيل بن موسى الفزاري، وأحمد بن منيع، وأبي مصعب الزهري، وبشر بن معاذ العقدي، والحسن بن أحمد بن أبي شعيب، وأبي عمار الحسين بن حريث، والمعمر عبد الله بن معاوية الجمحي، وعبد الجبار بن العلاء، وأبي كريب، وعلي بن حجر، وعلي بن سعيد بن مسروق الكندي، وعمرو بن علي الفلاس، وعمران بن موسى القزاز، وإسحاق بن موسى الخطمي، وإبراهيم بن عبد الله الهروي [10] وغيرهم. تلاميذه رحمه الله: ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ اﻟﺴﻤﺮﻗﻨﺪﻱ، ﻭﺃﺑﻮ ﺣﺎﻣﺪ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺩاﻭﺩ اﻟﻤﺮﻭﺯﻱ اﻟﺘﺎﺟﺮ، ﻭﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻠﻲ اﻟﻤﻘﺮﺉ، ﻭﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﻮﺳﻒ اﻟﻨﺴﻔﻲ، ﻭﺃﺑﻮ اﻟﺤﺎﺭﺙ ﺃﺳﺪ ﺑﻦ ﺣﻤﺪﻭﻳﻪ اﻟﻨﺴﻔﻲ، ﻭاﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻳﻮﺳﻒ اﻟﻔﺮﺑﺮﻱ، ﻭﺣﻤﺎﺩ ﺑﻦ ﺷﺎﻛﺮ اﻟﻮﺭاﻕ، ﻭﺩاﻭﺩ ﺑﻦ ﻧﺼﺮ ﺑﻦ ﺳﻬﻴﻞ اﻟﺒﺰﺩﻭﻱ، ﻭاﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻦ ﺣﻴﺎﻥ اﻟﺒﺎﻫﻠﻲ، ﻭﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻧﺼﺮ ﺑﻦ ﺳﻬﻴﻞ اﻟﺒﺰﺩﻭﻱ، ﻭﺃﺑﻮ اﻟﺤﺴﻦ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺘﻘﻲ ﺑﻦ ﻛﻠﺜﻮﻡ اﻟﺴﻤﺮﻗﻨﺪﻱ اﻟﻮﺫاﺭﻱ، ﻭاﻟﻔﻀﻞ ﺑﻦ ﻋﻤﺎﺭ اﻟﺼﺮاﻡ، ﻭﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺃﺣﻤﺪ اﻟﻨﺴﻔﻲ، ﻭﺃﺑﻮ ﺟﻌﻔﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﺑﻦ اﻟﻨﻀﺮ اﻟﻨﺴﻔﻲ اﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﺑﺎﻷﻣﻴﻦ، ﻭﺃﺑﻮ ﻋﻠﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ اﻟﻘﺮاﺏ اﻟﻬﺮﻭﻱ [11] وغيرهم. المطلب الرابع: ثناء العلماء عليه: حظي الإمام أبي عيسى رحمه الله تعالى بمكانة عظيمة عند العلماء أهل العلم والعقل والثقة والدين فأثنوا عليه رحمه الله تعالى. قال الحاكم: سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريرًا سنين. [12] وقال ابن حبان: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر [13] . وقال أبو سعد الإدريسي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الحافظ الضرير، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف كتاب الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ. [14] وقال ابن خلكان عن الترمذي: الحافظ المشهور أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث صنف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن وبه كان يضرب المثل وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وشاركه في بعض شيوخه مثل قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر وابن بشار وغيرهم [15] وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني: محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأجلاء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم. [16] وقال السمعاني: إمام عصره بلا مدافعة [17] وقال ابن العماد: كان مبرزًا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان [18] وقال ابن كثير: وهو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه وله المصنفات المشهورة منها الجامع والشمائل وأسماء الصحابة وغير ذلك [19] . وقال ابن الأثير: وكان إمامًا حافظًا له تصانيف حسنة منها: الجامع الكبير في الحديث وهو أحسن الكتب. [20] وقال الترمذي رحمه الله: قال لي محمد بن إسماعيل ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي. [21] المطلب الخامس: آثاره العلمية، ووفاته. للإمام الحافظ أبي عيسى الترمذي مؤلفات عظيمة النفع، منها ما وصل إلينا ومنها ما هو مفقود، ومن هذه المؤلفات: 1- جامع الترمذي ويسمى أيضًا سنن الترمذي: وهو أشهر مؤلفاته وسيأتي الكلام عن مكانته في المبحث الثاني إن شاء الله. [مطبوع عدة طبعات]. 2- الشمائل المحمدية: وهو كتاب جميل اشتمل على أوصاف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخَلقية والخُلقية. ولشيخ مشايخنا العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله اختصار وتحقيق على هذا الكتاب النافع، وهو اختصار طيب نافع. [مطبوع عدة طبعات]. 3- العلل الكبير: وهو عبارة عن عدة أحاديث يرويها الترمذي بأسانيده، ثم يذكر الحكم عليها إما بكلامه أو كلام شيوخه، وقد طبع عدة طبعات. 4- العلل الصغير: وهو ملحق بكتاب الجامع ومطبوع معه، ومنهم من يفصله عن الجامع ولعل الصحيح أنه تبَعٌ لكتاب الجامع والله تعالى أعلم. 5- كتاب الزهد (لم أقف عليه) . 6- كتاب التفسير (لم أقف عليه) . 7- كتاب التاريخ (لم أقف عليه) . 8- كتاب الأسماء والكنى (لم أقف عليه) . وفاته: توفي الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله تعالى ليلة الإثنين لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب سنة تسع وسبعين ومئتين [22] المبحث الثاني: التعريف بجامع الإمام الترمذي ( [23] ) المطلب الأول: مكانة الكتاب، وثناء العلماء عليه. مكانته: حظي جامع الترمذي بمكانة عظيمة بين العلماء وطلبة العلم، وكيف لا يكون كذلك وهو يحمل كلام النبي المصطفى، خير من وطئ الثرى، صلوات الله وسلامه عليه. قال أبو عيسى رحمه الله تعالى: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب - يعني الجامع – فكأنما في بيته نبي يتكلم. [24] وقال أيضًا: ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء، سوى حديث: (فإن شرب في الرابعة فاقتلوه) وسوى حديث: (جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، من غير خوف ولا سفر) . [25] وقال الذهبي: في (جامع الترمذي) علم نافع، وفوائد غزيرة، ورؤوس المسائل، وهو أحد أصول الإسلام، لو لا ما كدره بأحاديث واهية، بعضها موضوع، وكثير منها في الفضائل. [26] وقال ابن الأثير: وكان إمامًا حافظًا له تصانيف حسنة منها: الجامع الكبير في الحديث وهو أحسن الكتب. [27] وقال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ: سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري (عن جامع الترمذي) كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم لأن كتابي البخاري ومسلم لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، وكتاب أبي عيسى يصل فائدته كل أحد من الناس. [28] وقال ابن كثير: وله المصنفات المشهورة منها الجامع والشمائل وأسماء الصحابة وغير ذلك، وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في سائر الآفاق. [29] المطلب الثاني: خدمة أهل العلم للكتاب، وأبرز مؤلفاتهم في ذلك. من عادة أهل العلم أنهم يخدمون كتب العلماء المتقدمين، فيشرحون تارة، ويختصرون تارة، ويحققون تارة، إلى غير ذلك. ومن الكتب التي نالت عناية عظيمة هو جامع الترمذي، وسأذكر بعض هذه المؤلفات: 1- مختصر الأحكام (مستخرج الطوسي على جامع الترمذي) 2- المؤلف: أبو علي الحسن بن علي بن نصر الطوسي (المتوفى 312 هـ) . 3- فضائل الكتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي. المؤلف: تقي الدين أبو القاسم عُبيد بن محمد بن عباس الإسعردي (المتوفى 692 هـ) . 4- قوت المغتذي على جامع الترمذي، لعبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (المتوفى 911 هـ) . 5- العرف الشذي شرح سنن الترمذي، لمحمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري الهندي المتوفى (1353 هـ) . 6- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لأبي العلاء محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري المتوفى (1353 هـ) . وهناك أيضا بعض المؤلفات لا سيما من المتأخرين والتي لا يسع المقام لذكرها كلها هنا. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه: فرحان بن سعيد العتيبي Farhanalotaibi7394@gmail.com [1] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 270). [2] البداية والنهاية لابن كثير (11 / 77). [3] الأنساب للسمعاني (2 /361). [4] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 271). [5] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 271). [6] طبقات الحفاظ للسيوطي (1 / 282). [7] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 273). [8] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم 2699 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظه. [9] وفيات الأعيان لابن خلكان (4 / 278). [10] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 271). [11] تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (26 / 251). [12] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 273). [13] الثقات لابن حبان (9 / 153). [14] تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (1 / 172) [15] وفيات الأعيان لابن خلكان (4 / 278). [16] البداية والنهاية لابن كثير (11 / 77). [17] الأنساب للسمعاني (2 / 362). [18] شذرات الذهب لابن العماد (3 / 327). [19] البداية والنهاية لابن كثير (11 /77). [20] الكامل في التاريخ لابن الأثير (6 / 474). [21] تهذيب التهذيب لابن حجر (9 / 389). [22] تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (26 / 252). [23] اشتهر عند طلبة العلم فضلًا عن العامة تسمية جامع الترمذي بسنن الترمذي، والأولى والأفضل تسميته بالجامع؛ فقد اشتمل على السير والآداب والعقائد والفتن والأحكام والأشراط والمناقب والله تعالى أعلم. [24] تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي (2 / 154). [25] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 274). [26] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (13 / 274). [27] الكامل في التاريخ لابن الأثير (6 / 474). [28] تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (1 / 172). [29] البداية والنهاية لابن كثير (11 / 77).
الخصوصية والاستثناء الثقافي نوقش في مقالات سابقة مصطلح العلمانية على أنه من النماذج السبعة التي تم انتقاؤها لتكون أمثلة لاضطراب المصطلح المنقول وقلقه،وربما وجد ارتباطٌ بين العولمة والعلمانية، من منطلق أن لهما صلة بالعالمية من وجه من الوجوه حسبما جرى تفصيله في الفصل الأول،وإن أقرب نسبة إلى العالمية هي ما اصطلح عليه بالعولمة بجعل الأمم معولمة؛ أي منصهرة في عالم واحد، أو قرية صغيرة اقتصاديًّا وسياسيًّا، كما يكثر ترديده، بدلًا من كونها شعوبًا وقبائل لتتعارف فيما بينها وتتعاون وتتحالف. القرية الصغيرة أو العالم الواحد أو الأممية أو عالمية المواطن (الكوسموبوليتية) أو النظام العالمي الجديد أو الكونية أو الكوكبية، كلُّها تعبيرات مختلفة لمؤدى واحد، هو - باختصار شديد - الهيمنة في أحد مفهومات العولمة، التي يراها كثيرون على أنها ثوب جديد للاحتلال [1] ،وهناك من يرى أن التعبير بالكوكبية ألصق بالمقابل الأجنبي من العولمة، إلا أن مصطلح "العولمة" قد طغى استخدامه على نطاق واسع، وأقرَّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فلا مجال للتنصُّل منه [2] . ربما يُعدُّ الإقبال على هذا المفهوم كذلك نمطًا جديدًا من أنماط التغريب في التعليم والثقافة والحياة الاجتماعية [3] ،ويختلف الطرح على أي حال بين القبول والرفض للعولمة، وداخل التوجهين نفسيهما اختلاف في الموقف بين اللين والحدة [4] ،وربما تبين من محصلة النقاش الطويل حول مفهوم العولمة أنه لفظ جديد لمفهوم قديم، وليس ظاهرةً جديدة، كما يظن البعض [5] . ومن هنا يبرز المصطلح "العولمة" على أنه مصطلح مخادع، لا صلة له بالعالمية ( Universalism ) ، والفرق بينهما "كبير" جدًّا؛ لأن العالمية هي الارتقاء بالخصوصية نحو مصاف التعميم العالمي بطريقة العرض لا الفرض،أما العولمة - كما يتضح من سياستها - فهي كبتٌ للخصوصيات الأخرى، ومنع لانطلاقها، ووَأْدٌ وإقصاء لكل هوية تريد إظهار نفسها، يترافق ذلك مع تعميم النمط الثقافي الاستهلاكي الأمريكي" [6] ،والملاحظ هنا أن معظم الأطروحات السلبية من العولمة إنما تعرفها بالهيمنة عمومًا، والأمريكية خصوصًا، حتى قيل: إنها "أمركة" أكثر من كونها عولمة ذات اتجاهين [7] . ومع أن مصطلح العولمة مخادع، فإن فيه كذلك كثيرًا من التضليل والتزييف لوعي الأمم والشعوب [8] ، اختلطت فيه مفهومات قديمة؛ كالتنصير والغزو الفكري، أو الغزو الثقافي بلفظ أكثر قبولًا وأكثر حيادية من تلك المصطلحات، التي اكتسبت على مر الزمن مفهومات غير مقبولة في أذهان العرب المسلمين وغيرهم من الأمم التي أدركت أن هذا النهج لا يعدو كونه تلاعبًا بالألفاظ، وفي الوقت نفسه الإبقاء على مفهومات قديمة موجهة إلى المجتمعات النامية [9] . ومن هنا يأتي رفض العولمة عند بعض المفكرين، بحجة أنها، بمفهوماتها لا بلفظها، تتعارض مع الإسلام،مع أن هناك طرحًا استقبل المصطلح من مفهوم أن الإسلام نفسه دينٌ عولمي، ويستفيد من العولمة، لا سيما العولمة الثقافية والاتصالية والتقنية، ثم أخيرًا العولمة الاقتصادية التي كانت هي مبعث هذا المفهوم، وذلك بعد الهزة الاقتصادية التي أودت بالعالم في شهر رمضان المبارك من سنة 1429هـ الموافق سبتمبر 2008م،فالتفت اقتصاديون إلى التفكير، مجرد التفكير، في البدائل للرأسمالية، فوجدوا من البدائل الحاضرة والممارسة المنهج الإسلامي في الاقتصاد؛ حيث يدور حوار جادٌّ وتخصصي حول إمكانية تبني هذا المنهج، إلى أن وصل النقاش والحوار في النظر إلى تبني المفهوم الإسلامي للاقتصاد إلى الأجهزة البرلمانية في الدول الغربية (الكونجرس الأمريكي نموذجًا) . ولا بُدَّ من الاعتراف بأن عناصر مستفيدة من الوضع الاقتصادي المتأزم ستسعى إلى الحيلولة دون النظر في هذا البديل الفاعل، وربما ساندهم فيه بعض من مفكري العربية الذين آمنوا بالنموذج الغربي منهجًا للحياة، وما اقتنعوا بجدوى البديل على اعتبار أنه ذو دلالة دينية غير مقبولة لمن عدُّوا الدِّين قيدًا من القيود التي تحول دون الإقلاع، وربما أن بعضهم يدخل في دائرة المستفيدين من الوضع الاقتصادي الحالي،بل لقد قيل من أحد المسلمين ممن درسوا الاقتصاد من وجهة نظر غربية وفي مدارس غربية، وذلك في إحدى المناسبات الرسمية: إنه لو طُبِّق المفهوم الإسلامي للاقتصاد، لانهار الاقتصاد العالمي خلال أربع وعشرين ساعة! ومن هنا يأتي الرفض لنقاش البديل الإسلامي في هذه الحال، ناهيك عن الاقتناع به؛ولذلك يقول مؤلفا كتاب: ما العولمة: "إن من الحصافة بمكان أن ندرس النظام الاقتصادي العالمي من منظور تاريخي أطول، وأن نُقرَّ بأن التغيرات الحالية وإن كانت مهمة ومتميزة فإنها ليست بلا سابق، كما أنها لا تنطوي بالضرورة على نقلة باتجاه نمط جديد من النظام الاقتصادي" [10] ،وعلى أي حال فالنقاش هنا لا يرقى إلى الخوض في الجانب الاقتصادي من العولمة، وإنما ينصبُّ النقاش على العولمة الثقافية. "عندما يكون المقصود بالعولمة أن الليبرالية الجديدة ينبغي أن تُفرض في كل مكان، وأنه ما من طريق آخر إلا الذي ترضى عنه العولمة الكبرى، وأن فكرًا واحدًا ينبغي أن يسود، فإن ذلك ولا شك إساءة لاستخدام اللغة، لا تختلف في شيء عن إساءة استعمال السلطة" [11] . رفض العولمة جملة وتفصيلًا وقبولها جملة وتفصيلًا يعود فيما يعود إليه إلى غموض المصطلح، وعدم تحريره عندما يطرح كلمة مفردة غير مقيدة بوصف يعين على تحديد مفهومها،أما إذا قيدت بوصف كان الموقف متوازنًا، كأن يُقال: العولمة الاقتصادية، أو عولمة الاتصال، أو العولمة السياسية، أو العولمة الثقافية، أو حتى العولمة الاجتماعية،وعليه فإن لفظ العولمة لا يحتمل الوقوف كلمة مفردة دون داعم من وصف يحدد الموقف منه قبولًا أو رفضًا، أو بين بين في موقف حيادي إيجابي متوازن [12] . الموقف الحيادي الإيجابي المتوازن من العولمة من منطلقها الفكري يأتي ليؤكد على الخصوصية الثقافية الدالة لا الحاصرة، ذات السمات البنائية القابلة للتمثل عالميًّا، غير المحصورة على عِرْق أو إقليم أو قومية، ويدعو إلى "عولمة تؤكد السيادة الفكرية العربية، وترسِّخ الهوية الثقافية العربية، وتتعاون مع الدول الأخرى في تبادُل الثقافات والمعلومات؛ توخيًا لإشاعة قِيَم التسامح الفكري وترسيخ الهوية الثقافية العربية" [13] ،والواضح مِن هذا النص المنقول عن محمدإبراهيم الفيومي أنه يركز على العولمة الثقافية. ولذلك يستحضر هنا مرة أخرى ما سبق طرحه في الفصل الأول من هذا الكتاب لأهميته ومناسبته للمقام ما ظهر بالأفق الغربي قبل أن يظهر بالأفق العربي والإسلامي والآفاق الثقافية الأخرى من مصطلح "الاستثناء الثقافي" الذي دعت إليه فرنسا على لسان صنَّاع القرار الثقافي سنة 1413هـ/ 1993م، في رد فعل للسعي إلى طغيان الثقافة المهيمنة ذات الاتجاه الواحد، من خلال منظمة الجات General Agreement on Tariffs and Trade (Gatt) [14] ، وقد وافقت على هذا المفهوم في الاستثناء الثقافي عددٌ من الثقافات الأخرى التي تنادي بقدر من "الخصوصية الثقافية" الدافعة لا الحاضرة [15] . وكما ذُكر من قبلُ، فقد تأكد مطلب "الاستثناء الثقافي" في اللقاء الذي عُقد في اليونسكو في شهر رمضان المبارك من سنة 1426هـ الموافق أكتوبر من سنة 2005م، بموافقة 185 دولة، ومعارضة كل من الولايات المتحدة والدولة اليهودية في فلسطين المحتلة، وامتناع أربع دول عن التصويت،ومنذ ذلك الوقت تقود فرنسا مفهوم "الاستثناء الثقافي" في وجه منظمة التجارة العالمية [16] ،جاء ذلك كله للحيلولة دون تعميم النموذج الثقافي الأمريكي الذي يتَّسم بالسطحية والحداثة على حساب الموروث الأوروبي الضارب في القدم، ويأتي على حساب الانتماء الثقافي كذلك. ومِن اضطراب المفهوم تأتي الدعوة إلى "العولمة الإسلامية"، ويقصد بها هذا الفريق الداعي إليها حصر المفهوم على المسلمين، بحيث تقوى عُرَى المسلمين وتحافظ على دينهم ومعتقداتهم وتراثهم، وترفع من شأنهم دون اعتبار للجهوية أو الحدود، بل المقصود المسلمون في كل مكان،وأحسب أنه ينبغي أن يكون لهذا المفهوم اصطلاحٌ غير العولمة [17] . [1] انظر: علي حسين الجابري. العرب ومنطق الإزاحات: دراسة في حقيقة العولمة ومصيرها - عمان: دار مجدلاوي، 1426هـ/ 2005م - ص 29 - 43. [2] انظر: عصام عبدالله. الأسس الفلسفية للعولمة - الرياض: المجلة العربية، 1430هـ - ص40 - (سلسلة كتاب العربية، التأليف؛ 1). [3] انظر: عصام نور. العولمة وأثرها في المجتمع المسلم - الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 2005م - ص 18. [4] انظر: حسن حنفي وصادق جلال العظم. ما العولمة؟ - ط 2 - دمشق: دار الفكر، 1422هـ/ 2002م - ص11 - 17 - (سلسلة حوارات لقرن جديد). [5] انظر: حسن حنفي وصادق جلال العظم. ما العولمة؟ - المرجع السابق - ص 17 - 23 و87. [6] انظر: أحمد الرمح. تهافت العولمة: رؤية إسلامية - دير الزور: مكتبة الإيمان، 2004م - ص 18. [7] انظر: إبراهيم نافع. انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة - القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1422هـ/ 2002م - ص 256ص. [8] انظر: حسين عبدالهادي. العولمة النيوليبرالية وخيارات المستقبل - جدة: مركز الراية للتنمية الفكرية، 1424هـ/ 2004م - ص 106. [9] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 62 - 73. [10] انظر: بول هيرست وجارهام طومبسون. ما العولمة؟: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم/ ترجمة فالح عبدالجبار - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1422هـ/ 2001م - ص 7 - (سلسلة عالم المعرفة؛ 273). [11] انظر: فهد بن عبدالعزيز السنيدي. حوار الحضارات: دراسة عقدية في ضوء الكتاب والسنة - الرياض: قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1430هـ/ 2009م - ص 35 - (رسالة علمية). [12] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب: ثقافة ازدراء وحوار مفقود وعولمة استياء - القاهرة: دار الفكر العربي، 1427هـ/ 2006م - ص 69 - 101 و117 - 130. [13] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 120. [14] انظر: http:/ / en. Wikibedia. Oig/ wiki/ cultural - exception (1/ 12/ 1429هـ 29/ 11/ 2008م). [15] انظر: علي بن إبراهيم النملة. السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1428هـ/ 2007م - 312ص، وعلى هذا المرجع وغيره من إسهامات الباحث حول موضوع الخصوصية الثقافية تتكئ هذه الدراسة وتقتبس كثيرًا منها. [16] انظر: Catherine Trautmann. The cultural exception is not negotiable - . Le Monde - . (October 11 th 1999) (1/ 12/ 1429هـ - 29/ 11/ 2008م). [17] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 120.
قصة موسى عليه السلام (12) وفاة موسى عليه السلام ورَد في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي ربِّ، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كنت ثَمَّ لأريتُكم قبره، إلى جانب الكثيب الأحمر) ). يدل هذا الحديث على أن موسى لم يدخل الأرض المقدسة، وهناك أسئلة ترِد، إذا كان موسى قد قضى في التيه أربعين سنة يتنقل مع قومه من مكان إلى آخر في هذه الصحراء، وقد حدثت في هذه الفترة أحداث. منها: ♦ قصة البقرة؛ حيث قُتل ثري إسرائيلي معه القناطير من الذهب، وقد اشتُريت البقرة من ماله بملء جلدها ذهبًا، فمن أين جمعوا هذا الذهب إذا كانوا في التيه وربهم يطعمهم المن والسلوى تعويضًا لهم عن التيه، علمًا بأن الذهب الذي صنعوا منه العجل قد نسفه موسى في البحر ولم يُبقِ منه شيئًا. ♦ عندما سأل بنو إسرائيل موسى أنهم ملوا أكل المن والسلوى ويريدون البقل والفوم والعدس والبصل، كان الجواب: ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]، فأين نزلوا؟ ♦ حين أُمر بنو إسرائيل بدخول البلدة: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]، فهل دخلوا هذه البلدة أم حرموا منها لتبديلهم غير الذي قيل لهم؟ وما اسم هذه القرية؟ فقد ذكر عند أغلب المفسرين وأهل السير وأهل الكتاب أن موسى أمضى معظم السنوات الأربعين في التيه، وتوفي قبل انقضائها، فلم يستقر بمكان، وكانت سيناء والنقب متنقلهم، يعيشون عيشة البدو الرحَّل؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 26]، فالآية تفيد حرمانهم من دخول الأرض المقدسة أربعين سنة، لكن ليس معناه ألا يسكنوا في أماكن أخرى ضمن دائرة سيناء والنقب، فمن المعلوم أن الأديان لا تكون بدوية، وإنما تحتاج إلى مكان حضري مستقر، وهي سنة الله في الأرض، والأنبياء جميعهم كانوا في تجمعات حضرية، وليس موسى استثناءً، وعليه فلا بد أنه استقر في مواضع في سيناء عند العيون التي انفجر منها اثنتا عشرة عينًا، أو في الطور، وربما في أريحا؛ لأن المقصود بدخول البلدة المقدسة بيت المقدس، وعليه فأريحا خارجة عن القدسية، والمعنى أن بني إسرائيل قد تاهوا في الأرض سنين عديدة وأكلوا من المن والسلوى، ثم لما تاقت نفوسهم للتغيير وطلبوا الخضار أمروا بالمتمصر؛ أي: الاستقرار واتخاذ بلدة يقيمون فيها، وبعد الإقامة حرموا من نعمة المن والسلوى، ووكلوا إلى أنفسهم وجدهم وكدهم، ومنها عملوا وكسبوا وجمعوا الأموال، وحدثت عندهم المشكلات الاجتماعية التي كان يحكم فيها موسى بما يجده في التوراة، ومنها مشكلة القتيل الذي احتاج إلى بقرة، وكان ثمن البقرة - كما ورد - ملء جلدها ذهبًا، هذا رأي. والرأي الآخر: أن موسى عاش إلى ما بعد انقضاء الأربعين وفتح أريحا أو بيت المقدس وكان على مقدمة جيشه يوشع بن نون، ثم حكم فترة من الزمن حصلت فيها تلك الأحداث ومنها قصة البقرة، وبهذا قال بعض المفسرين وأهل السير، ومنهم ابن إسحاق، لكن رد عليه بأن هارون مات في التيه قبل موسى بسنتين، وكذلك موسى، وفي الحديث الصحيح أنه طلب من ربه أن يقربه إلى بيت المقدس، كما ذكر أهل الكتاب أن الذي خرج بهم من التيه هو يوشع بن نون، ويبقى أن الذي اخترناه من تأسيس مدن في التيه أو مدينة كبيرة هو الراجح؛ لكي تكون القصص التي حدثت والأموال التي جمعت واكتنزها الأغنياء لها المكان المناسب والحرف المناسبة كالتجارة والصناعة، ولا تقوم مثل هذه الحرف إلا في تجمعات حضرية.
موطأ الإمام مالك رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي (ت 221 هـ) من إصدارات جمعية دار البر - دبي صدر حديثًا كتاب "موطأ الإمام مالك رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي (ت 221 هـ)" ، اعتنى ب ه: "عمر بن أحمد بن الشيخ علي الأحمد آل عباس" ، نشر: "جمعية دار البر للنشر والتوزيع" ، دبي- الإمارات العربية المتحدة. وهذه النسخة هي أكمل طبعات الكتاب حتى الآن، فقد سبق أن طبعت هذه الرواية بتحقيق عبد الحفيظ منصور في الدار التونسية سنة ( 1392هـ = 1972م ، وطبعت بتحقيق عبد المجيد تركي في دار الغرب الإسلامي، سنة (1419هـ = 1999م). وقد تمت مقابلة هذه الرواية برواية أبي مصعب الزهري (ت 242 هـ) . وتمتاز الطبعة بـ: • تفردت باستدراك روايات كثيرة سقطت من الطبعات السابقة. • تصحيح التصحيفات الواقعة في الطبعات السابقة. • ضبط النص ضبطًا كاملًا. • معارضة هذه الرواية برواية أبي مصعب الزهري (ت 242 هـ) ، ومسند الموطأ للجوهري. * تخريج أحاديث الكتاب على "تحفة الأشراف" للمزي، و"إتحاف المهرة"، لابن حجر. * ذيل الكتاب بفهارس للأحاديث والآثار، وآخر للموضوعات. والراوي عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي، من كبار رواة الحديث والفقهاء من أصحاب مالك، جاور بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازم مالكَ بنَ أنس، فتحمَّل عنه شيئًا كثيرًا حتى كان أعظم رواة الموطَّأ، وكانت نسختُه أصح الروايات للموطَّأ عن مالك، قال العجلي: "قرأ مالك عليه نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي" ولد بعد سنة 130 هـ وتوفي حوالي 221 هـ في مكة، قال عنه الذهبي: "سكن البصرة ثم مكة وبها توفي... وهو أوثق من روى الموطأ" ، وقال عنه: "شيخ الإسلام، الحافظ" ، وقال الصفدي: "أخذ العلم عن مالك رضي الله عنه، وهو من جلة أصحابه وفضلائهم وخيارهم" . وقال أبُو عُمرَ بنُ عَبدِ البَرِّ: حدثنا عبدُ الوارثِ بنُ سُفيانَ، حدثنا قَاسمُ بنُ أَصْبغَ، حدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ الرَّقِّيُّ: سمعت القَعْنبيَّي قول: لزمتُ مالكًا عشرينَ سنةً حتَّى قرأت عليه "الموطَّأَ" . كان ابنُ معين يرى أن القعنبي "أثبت الناس في مالك هو ومَعْن" ، بل "أثبتهم على الإطلاق" في شهادة رواية. ولعبدِ اللهِ إخوةٌ ثلاثةٌ: إسماعيلُ، ويحيى، وعبدُ الملكِ بنو مَسْلَمة بنِ قَعْنَبٍ، والأَربعةُ أخذُوا عن مالكٍ بن أنس. ومن شيوخ القعنبي الذين أخذ عنهم العلم وروى عنهم فضلًا عن مالك: أفلح بن حميد، وابن أبي ذئب، وشعبة بن الحجاج، وأسامة بن زيد بن أسلم، وداود بن قيس الفراء، وسلمة بن وردان، ويزيد بن إبراهيم التستري، ونافع بن عمر الجمحي، والليث بن سعد، والدراوردي، وإبراهيم ين سعد، وإسحاق بن أبي بكر المدني، والحكم بن الصلت، وحماد بن سلمة، وسليمان بن بلال، وعيسى بن حفص بن عاصم بن عمر، وسليمان بن المغيرة، وهشام بن سعد وغيرهم. أما أشهر تلاميذه الذين رووا عنه: فالبخاري، ومسلم، وأبو داود، والخريبي وهو من شيوخه، ومحمد بن سنجر الحافظ، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبو حاتم الرازي، وعبد بن حميد، وعمرو بن منصور النسائي، وأبو زرعة الرازي، ومحمد بن غالب تمتام وإسماعيل القاضي، ومحمد بن أيوب بن الضريس، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن معاذ دران وإسحاق بن الحسن الحربي، ومعاذ بن المثنى وأبو مسلم الكجي، وأبو خليفة الجمحي، وغيرهم. ومن أحسن من عرَّف به القاضي عياض في "ترتيب المدارك" ، وترجم له ترجمة موجزة جامعة. أما عن النسخ الخطية التي اعتمد عليها المحقق في إخراج رواية القعنبي للموطأ فهي: - نسخة جار الله تحت رقم (428) ورمز لها المحقق بالرمز ( ج ). - نسخة مكتبة العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب (ت 1968م) والتي ألحقن بدار الكتب الوطنية بتونس. وقد رمز لها بالرمز (س). - نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة، تحت رقم (3857 - حديث)، ورمز لها بالرمز (ز). - قطعة جامعة برنستون، في ثلاث ورقات بخط الحافظ الذهبي، ورمز لها بالرمز (ن). وقد قام المحقق بخدمة الكتاب خدمة علمية لا بأس بها، ظهرت في التقدمة للكتاب بالتعريف بالموطأ وصاحبيه، وبيان منهج التحقيق، كما أمد الكتاب بجملة من الفهارس اللازمة التي ألحقها بخاتمة متن الموطأ.
المتشَبِّعُ بما لم يُعْطَ.. لابسٌ ثَوْبَي زُورٍ د. علي عبدالباقي (مدير تحرير شبكة الألوكة ) السَّرقةُ العلميةُ هي نوع من السطو والإغارةِ على أفكار الآخرين، وهي من أقبح أنواع السرقات، وواحدة من أخطر الجرائم التي تضرب البحث العلميَّ في الصَّميمِ. فالسرقة العلمية جريمة أخلاقية مكتملة الأركان يتج رَّد فيها السارقُ من أخص خصائص سالك طريق العلم وهي " الأمانة " في التحمل والأداء. فإذا لم يكن طالبُ العلم أمينًا في تحمله للعلم أمينًا في أدائه فرَّغ العملية التعليمية كلَّها من محتواها، وأذهب غايتها أدراج الرياح. والمتجرئُ على السرقة العلمية متشبِّعٌ بما لم يُعطَ، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»؛ متفق عليه (خ 5219، م 2130) من حديث أسماء رضي الله عنها. وهذا النوع من السرقة قديمٌ لا تختص به أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات أو دولة من الدول فقد انتشر منذ القديم انتشارًا واسعًا. وقد تطرق العلماء والنقاد المسلمون القدماء لموضوع السرقة والانتحال في عدَّة مجالات؛ فتعرَّضوا لها وكشفوها في رواية الحديث وفي نقد الشعر. وبنظرة سريعة في كتاب "المجروحين" لأبي حاتم ابن حبان (ت 354هـ) أو كتاب " الكامل في الضعفاء " لابن عدي (ت 365هـ)، أو " ميزان الاعتدال " للذهبي (ت 748هـ) نجد عشرات الرواة ترك أهل العلم روايتهم بهذه التهمة: « كان يسرق الحديث »، ومعنى سرقة الحديث أنَّه يدَّعي سماع روايات وأحاديث لم تقع له روايتها. وتطرق نقاد الشعر ورواته أيضًا لقضية السرقات الشعرية فصنَّف المهلهل بن يموت بن المُزَرِّع (ت بعد 334هـ) كتابه " سرقات أبي نواس" ، طبع بتحقيق وشرح الدكتور محمد مصطفى هدَّارة رحمه الله، بل صنَّف محمد مصطفى هدَّارة نفسه " مشكلة السرقات في النقد العربي " كان رسالته للحصول على الماجستير، وقد طبع سنة 1958م، ولأبي سعيد محمد بن أحمد العميدي (ت 433هـ) كتاب "الإبانة عن سرقات المتنبي"، وهو مطبوع متداول.. وغير ذلك كثير. أمَّا سرقة المصنفات والبحوث وانتحالها فأمرٌ يطول تتبعه، وقد كثرت هذه الظاهرة وعمَّت وطمَّت، وهي في الحقيقة راجعة لعدَّة أسباب، أهمها: 1- غياب الوازع الديني والأخلاقي لدى السارق. 2- حبُّ الظهور مع فتور الهمة والعجز عن إنجاز الأعمال = الذي يدفع من لا خلاق لهم إلى انتحال جهود الآخرين والسطو عليها. 3- عدم وجود مؤسسات وهيئات دولية لملاحقة هؤلاءِ اللصوص وإنزال العقوبة اللائقة بهم. وقد وقفت أخيرًا على سرقة علمية وقعت من بعض أساتذة الجامعات نبَّه عليها الدكتور الباقر أحمد عبد الله في "صحيفة السوداني" الصادرة يوم الاثنين 12 أبريل 2021م الموافق 30 شعبان 1442هـ؛ حيث قام دكتور عراقي بقسم العقيدة في كلية العلوم الإسلامية بالجامعة العراقية.. بنشر بحث في مجلة العلوم الإسلامية في المجلد الثاني، العدد 25، الصادر في 2020 (ص 435 – 466)، هذا البحث مسروق تم سرقته ونسخه بنسبة 80% من بحث كتبه ونشره صاحب السمو الملكي الأمير أ.د. عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز، أستاذ السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في مجلة الجمعية الفقهية السعودية العدد الثاني عشر، صفر / جمادى الأولى 1433. ولمَّا كان هذا البحث منشورًا أيضًا على صفحات شبكة الألوكة يوم الأحد 23 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 15 أبريل 2012م، فقد قمت بمقابلة البحثين فتبين لي الآتي: 1- بحث الدكتور العراقي مكون من 24 صفحة غير صفحات العنوان وثبت المراجع والمصادر يشغل في المجلة الصفحات من ص 437 إلى ص 461. 2- العنوان هو نفس العنوان: فقد جاء عنوان البحث المسروق ( سيرة عمر بن عبد العزيز في سن الأنظمة: قاعدة "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" إنموذجًا) بينما عنوان بحث سمو الأمير (سياسة عمر بن عبد العزيز في سن الأنظمة بناء على قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) . 3- نقل الدكتور حوالي 18 صفحة من صفحات البحث الـ 24 ربط بينها ببعض العبارات تعمية على القارئ. من أمثلة تلك النقول التي أخذها بنصها وفصها؛ قال في مقدمة بحثه المسروق (ص437): « فإن من الخصائص التي خصَّ الله بها الشريعة الإسلامية، أن جعلها سمحاء حنيفية تقوم على السهولة والرفق، وتدعو إلى التيسير والتخفيف، ورفع الحرج، والمشقة عن المكلفين، ومن ثم فاضت بأحكام الرحمة للعالمين جميعاً، فقال سبحانه وتعالى بطريق الحصر، مبيّنًا الهدف من بعثة رسول الإسلام ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]؛ وتهدف الشريعة إلى تحقيق مصالح المكلفين في العاجل والآجل، حيث راعت أحوالهم المختلفة والمتفاوتة قوةً وضعفًا، وما يطرأ عليها من أعذار، ومن ثَمَّ جاءت التكاليف الشرعية مناسبة لكل هذه الحالات، بما يتفق مع المصالح الشرعية، ويحافظ على المصالح الدنيوية والأخروية لهم، ومن تلك الأمور التي راعت سنَّة الله عز وجل في دوام تغير الأحوال، تشريع أدواتٍ ووسائلَ وضوابطَ لرفع الحرج والتوسعة والتيسير». وهذا الكلام بنصه في بحث سمو الأمير أ.د. عبد العزيز بن سطام (ص 15). وقال في مقدمة البحث المسروق (ص 438): « أهداف البحث: دراسة مدى إمكانية استثمار أسس ومعالم الفكر السياسي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - يرحمه الله - والمتمثل في مقولته "تُحدَث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور" في صياغة أساس يصلح ليكون أصلاً لسياسة شرعية في سنّ الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة من جهة النطاق والمدى وكمية الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة ». ونص الكلام عند سمو الأمير الدكتور عبد العزيز (ص 17): « مسألة البحث: دراسة مدى إمكانية استثمار أسس الفكر السياسي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز – يرحمه الله – ومعالمه، والمتمثل في مقولته "تُحدَث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور " في صياغة أساس يصلح ليكون أصلاً لسياسة شرعية في سنّ الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة من جهة النطاق والمدى وكمية الأنظمة الاجتهادية والسياسات العامة». وقوله في البحث المسروق (ص 440 - 442): « ومن هذه الخطبة تتبين بعض جوانب السياسة الشرعية التي قرر عمر بن عبد العزيز اتباعها في الحكم أبرزها: أولاً: الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين على أساس أنه حاكم منفذ، وأن الشرع بَيِّنٌ من حيثُ تحليلُ ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة. ثانياً: حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه بشروط أهمها: 1- أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس وينظر فيها. 2- أن يعينه على الخير ما استطاع. 3- وأن لا يغتاب عنده أحداً. 4- ألاّ يتدخل أحد في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه. لقد كانت سياسة عمر بن عبد العزيز – يرحمه الله - التي ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد بعد بيعته، تسير على كتاب الله وسنة رسوله r، وكان بذل الوسع والاجتهاد في التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم بكل ما ليس فيه ما يخالف شرع الله، أمراً سهلاً وغير معقد نسبياً، فالمصالح والمفاسد واضحة والتداخل بينهما قليل بسبب بطء وتيرة التغير والتطور في واقع الناس». والنص بتمامه مع تصرف يسير موجود عند سمو الأمير الدكتور عبد العزيز (ص 19 – 20). وقال في البحث المسروق (ص441 – 442): « ترتب على ذلك توسيع وتطويل النظر إلى ما تؤول إليه تصرفات الدولة من مصالح ومفاسد إلى مجالات متداخلة أوسع وإلى مدد زمنية أطول لضبط عدم اختلاف المآلات عن المقدمات، وقد نبه الشاطبي إلى اختلاف مآل المصالح والمفاسد عن مقدماتها، فقال: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل المشروع لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تُدْفَع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى دفع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة". وهذا الكلام بنصه وفصه في بحث الدكتور عبد العزيز (ص 21). وهكذا جاء نحو ثلاثة أرباع البحث نسخًا حرفيًّا لبحث الدكتور عبد العزيز والربع الأخير نقلًا بتصرف. 4- ومما يدل على سوء قصده وفساد طويته أنَّه لم يشر إلى بحث سمو الأمير من قريب أو بعيد ولا أورده في قائمة مراجعه، وذلك إمعانًا منه في السرقة والاحتيال والتعمية على القارئ. 5- أعاد ترتيب المصادر والمراجع فرتبها على العناوين بدلًا من اسم المؤلف وحذف المراجع الأجنبية. وأخيرًا: أقول كما قال الدكتور الباقر أحمد عبد الله: « ليست المفاجأة من السرقة العلمية فهي للأسف تحدث وإنَّما للأسلوب الفاضح». السرقة يمكن أن تقع أمَّا بهذه الصورة الفجة فدليل على أن صاحبها لا يخاف من الله ولا يستحيي من خلق الله... وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
نماذجُ مِن المصطلحات وهذه جملة من المصطلحات التي نالت قسطًا وافرًا من الغموض،وهي تمثل نماذج من عدد كبير من المصطلحات الشائعة فكريًّا وثقافيًّا، مما يحتاج معه إلى إعادة النظر في صياغتها وليس في مدلولاتها، مع إدراك الباحث أنه من شبه المستحيل إعادة النظر في صياغتها ما لم تتوافر عواملُ عدة تعين على هذه الخطوة، الأمر الذي قد يحدو ببعض الناس إلى القول بقبولها كما هي، بحجة أنه لا مُشاحة في الاصطلاح، فيضحي طرحُها بهذه الصورة من باب الترف الفكري الذي يمكن الاستغناء عنه. وقد تعمَّدت أن أورد بعد المصطلح العربي المضطرب ما يقابله من المصطلح الأجنبي باللغة الإنجليزية؛ لمعرفتي بهذه اللغة، ولكون مصطلحاتها قد طغت على كثير من اللغات الحية، بحكم أنها أضحت لغة الاتصال الأولى بالعالم اليوم. واكتفيت من حيث التحليل بسبعة مصطلحات شاعت بين المفكرين والكتَّاب، وكثر استخدامها في الإعلام على نطاق واسع، رأيت أنها كافيةٌ للتدليل على ما مرَّ نقاشه، والسبعة عند العرب كثير، وإلا فالقائمة طويلة، وتتفرَّع بحسب العلوم والفنون والمهن، وتحتاج إلى نقاشٍ مستفيض؛ لعله يكون نقاشًا قريبًا جدًّا من الموضوعية دون تهوين ولا تهويل. ويستدعي هذا التوسع في هذه القائمة التي يجمعها جميعًا الاضطراب والغموض، مما أورد إشكالًا فكريًّا في المصطلح العربي،وأجَّلت الحديث عن مصطلح مهم كذلك هو العولمة؛ ليكون مستهل الفصل الثاني الذي يتمركز حول الخصوصية الثقافية في مقابل العولمة،كما أجَّلت الحديث عن الإشكالية في مفهوم الحقوق؛ لأني عقدت لها فصلًا خاصًّا، كانت نواته محاضرة في مقر المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بباريس. ورتبت هذه المصطلحات هجائيًّا على النحو الآتي: 1- الإرهاب. 2- الاستشراق. 3- الأصولية. 4- التسامح. 5- العلمانية. 6- الغرب. 7- الليبرالية. وقد يتَّضح للمتابع أن البحث قد توسع في بعض هذه المصطلحات دون بعض؛ ذلك لأن الباحث قد يكون ألصق ببعضها دون البعض الآخر،وهذا واضحٌ جدًّا في الوقفة عند مصطلح الاستشراق، الذي لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ناقش الباحث فيها غموض هذا المصطلح في الفكر العربي، فاستأنس بما سبق طرحه في مجال الاستشراق، ثم يأتي مصطلح التسامُح الذي توسع الباحث فيه كذلك؛ نظرًا لأنه يبدو أن المفهوم الإسلامي قد ظُلم عندما أعطي هذا المصطلح المستخدم بثقافة دينية أخرى، له فيها دلالة لا تتفق والدلالة الإسلامية الأشمل للمفهوم،وقد بدأت مناقشة الإشكالية والغموض والاضطراب في هذه المصطلحات السبعة على أنها نماذج منتقاة على النحو الآتي: 1- النموذج الأول: الإرهاب ( Terrorism ): في نبذ الإرهاب مثلًا حفظ للحق في الحياة، وفي الإرهاب نفسه نفي لهذا الحق في الحياة الآمنة المستقرة،ونحن نؤكد دائمًا على حفظ الضرورات الخمس التي هي الدِّين والنفس والمال والنسل والعقل، يقول الإمام أبو حامد الغزالي في المستصفى: "إن مقصود الشرع من الخلق خمسة؛ وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّتُ هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" [1] . تلك الضرورات التي فصلها الإمام الشاطبي، وهو من أئمة المسلمين في القرن الثامن الهجري (790 هـ) الرابع عشر الميلادي (1388م) في كتابه الموافقات أيضًا، يقول: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعةَ وُضِعَتْ للمحافظة على الضروريات الخمس، هي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل" [2] . ومع هذا فإنه لم يتفق دوليًّا على صيغة واضحة لتعريف الإرهاب، رغم محاولات البعض الوصول إلى تعريف مشترك يجمع شتات الأفكار التي تتضمنها التعريفات الكثيرة، حيث وصلت تعريفات الإرهاب إلى أكثر من مائة وعشرة (110) تعريفات، بحيث قيل: إن وصف ظاهرة الإرهاب أسهلُ من تعريفها [3] . لا يعني هذا الاضطرابُ في المفهوم والتعريف الدخولَ في جدال أو تشكيك حول شجب الممارسات الواضحة إنسانيًّا أنها الإرهاب بعينه، ولا مسوغ البتة لأي سلوك يكون من أهدافه التعرُّض لحقوق الإنسان وضروراته في الحياة وفي إنسانيته، على اعتبار أن الإرهاب بالمفهوم المتعارف عليه هو من أبرز أنواع النُّكران الفعلي لحقوق الإنسان وأوضحها. الإشكالية المصطلحية هنا هي التقصير في تعميم المصطلح على جميع الأعمال التي ينطبق عليها مفهوم الترويع والعنف والقتل والتخريب للمصالح المدنية، دون النظر إلى الجهة المنفذة ومَن يقف وراءها، فكما أن أحداث يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 1422هـ الموافق الحادي عشر من سبتمبر من سنة 2001م، وأحداث إرهابية تلتها في مدريد والرياض ولندن ومومباي، وغيرها تعدُّ أعمالًا إرهابية، فإن أعمالًا أخرى لها النتائج ذاتها في أوكلاهوما، وفي أيرلندا الشمالية وفي فلسطين المحتلة ليست أعمالًا إجرامية فحسب [4] ، بل هي كذلك أعمال إرهابية، مما يدعو إلى استقرار دولي على المفهوم بمصطلح يعبِّر عنه خير تعبير، والابتعاد في الوقت نفسه عن الكيل بمكيالين في إطلاق مصطلح الإرهاب [5] . 2- النموذج الثاني: الاستشراق ( Orientalisan ): يجري التفصيل هنا حول الاستشراق؛ لأنه عند الباحث من أكثر المصطلحات غموضًا من حيث المفهوم [6] ؛ فقد دخل مصطلح "الاستشراق" القاموس الإنجليزي سنة 1204هـ الموافق 1779م، والقاموس الفرنسي سنة 1245هـ الموافق 1839م [7] . وانطلق المصطلح رسميًّا سنة 1290هـ/ 1873م في باريس، حيث بدأ تبني المصطلح في أول مؤتمر عام جمع عددًا من المستشرقين الأوروبيين، وأنشئت للمفهوم جمعية دولية تعنى به وتعين عليه [8] ، ثم أنشئت جمعيات إقليمية ومحلية، بعضها نشِط، وبعضها دون ذلك. وفي سنة 1393هـ/ 1973م وفي باريس نفسها تخلى المستشرقون عن المصطلح، وسعَوا إلى رميه في زبالة التاريخ على رأي المستشرق الإنجليزي الأمريكي برنارد لويس، والاستعاضة عنه بمصطلحات أكثر جاذبية وأكثر هروبًا من المصطلح نفسه الذي صاحبه الشؤم والتلوث [9] ، وأصبحت شخصية المستشرق شخصية مشؤومة [10] ،ومن هذه المصطلحات البديلة: الاستعراب، والاختصاص في العلوم الإسلامية أو الشرق أوسطية أو الأنثروبولوجيا، وما إلى ذلك من مصطلحات أخرى تسهم في السعي إلى إلغاء المصطلح "الاستشراق"، دون إلغاء المفهوم بالضرورة، في محاولات للتنصُّل منه والالتفاف عليه [11] . أدى هذا التحول إلى تخلي بعض المستشرقين عن العمق الاستشراقي في الدراسات والبحوث والميل إلى الشهرة والظهور الإعلامي من خلال التحليلات السريعة لأحداث راهنة، ولكنها ورثت أجندتها من الاستشراق، فلم تنفكَّ عنه [12] . مما يؤخذ على هذا المفهوم الإجرائي: أنه يقف عاجزًا عن تصنيف بعض المستشرقين، الذين تخصصوا في الجاهلية عند العرب - إن وجدوا - فهؤلاء إن تخصصوا بالجاهلية عند العرب، دون التعرُّض للإسلام، من قريب أو بعيد، فإنه قد يصدق عليهم مفهوم المستعربين،ويُشكُّ في أي مستشرق يتخصص في أصول العرب، ولا يتعرض للإسلام، وإن ركز في دراساته على الجاهلية؛ إذ قد لا يسلَم - من وراء هذه الدراسات - من لمز الإسلام بشيء، بالنظر إلى أنه قدِم بعد الجاهلية العربية، وغير العربية [13] . لا يتَّفق بعض المفكرين المسلمين ممن اهتموا بدراسة الاستشراق مع هذا المفهوم، فهذا عمر فروخ - رحمه الله تعالى - يقول: "والمستشرق لا يكون شرقيًّا ولا عربيًّا، مسلمًا أو غير مسلم،إن مولانا محمد علي الهندي الذي نقل القرآن إلى اللغة الإنجليزية ليس مستشرقًا، بينما القس ج.م.رودول الذي نقل القرآن إلى اللغة الإنجليزية ثم ريجيس بلاشير الذي نقل القرآن الكريم أيضًا إلى اللغة الفرنسية مستشرقان،وكذلك لا نعُدُّ لويس شيخو، الذي سلك في التأليف وفي نشر المخطوطات وفي موقفه من الإسلام موقف المتحاملين لا نعده مستشرقًا؛ لأنه شرقي الأصل عربي اللغة. ومثله فيليب حتي الذي اعتنق الجنسية الأمريكية وعاش في الولايات المتحدة منذ سنة 1924 للميلاد، ووضع كتبه باللغة الإنجليزية، لا يُعدُّ من المستشرقين" [14] . ويضيف عمر فرُّوخ القول: "ونحن لا نعُدُّ طه حسين وقد سلك في كتابه الشعر الجاهلي مسلك المستشرقين،وكان في كتابه: مستقبل الثقافة في مصر أشدَّ على العرب والمسلمين من نفرٍ كثيرين من المستشرقين - مستشرقًا؛فالمستشرق إذًا شخص غربي غير مسلم، من أوروبة أو أمريكا، يدرس اللغة العربية وبعض وجوه الثقافة الإسلامية" [15] . إذا تجاوزنا رأي الأستاذ عمر فرُّوخ - رحمه الله تعالى - في عدم عد هذه الفئة من المستشرقين باعتبار الجغرافيا "الجهوية" محددًا من محددات المفهوم، وعُدنا إلى آراء نجيب العقيقي ومصطفى السباعي وعبدالرحمن بدوي - وجدنا في البلاد العربية مجموعة غير يسيرة من المستشرقين العرب ممن كتبوا عن الإسلام وعن علوم المسلمين، أمثال "الأب" لويس شيخو وفيليب حتي وجرجي زيدان ممن توفوا، وغيرهم من الأحياء من يكتبون عن الإسلام، دون الانتماء إلى ما يكتبون عنه [16] . على أنه لا يدخل في هذا المفهوم كُتَّاب العربية النصارى أو اليهود، والمنظِّرون النصارى أو اليهود، ممن يَدْعون للقومية العربية، أو يسعَون إلى تغليب الفكر القومي على حساب الانتماء الديني، أمثال: ميشيل عفلق، ولويس عوض، وسعيد عقل، وغيرهم كثير من نصارى العرب [17] ،ويشاركهم في هذا التوجُّه بعض المفكرين العرب ذوو الخلفية الإسلامية. ومع هذا، فلا يدخل في مفهوم المستشرق العلماء والمفكِّرون المسلمون الذين استوطنوا الغرب (أوروبا وأمريكا)، رغم أن ميشال جحا لا يوافق عمر فرُّوخ في عَدِّ المسلمين غيرَ مستشرقين، ويضرب مثلًا بالدكتور فؤاد سزكين على أنه "أستاذ في جامعة فرانكفورت، ويحمل الجنسية الألمانية، ويعمل في حقل تاريخ الأدب العربي، ويكمل ما قام به بروكلمان؛فالأدب العربي بالنسبة إليه أدبٌ غريب، وكذلك اللغة العربية، ومن هذه الناحية لا يختلف عن بروكلمان سوى أنه مسلم،ومتى كان الدين عاملًا يدخل في الأعمال الأكاديمية والإبداعية؟!" [18] . ونفيُ أن يكون للدين دخل في الأعمال الأكاديمية والإبداعية يؤكد ما تسعى هذه الوقفة إليه من أن عدم الانتماء إلى الثقافة لا يخدمها دائمًا من قِبَل أولئك الذين يكتبون عنها، إن لم يكن هناك تعمُّد إلى إغفالها وأثرها في الإبداع. لا يدخل في مفهوم المستشرق كذلك من كانوا مواطنين غربيين "أصليين"، إلا أنهم مسلمون يكتبون عن الإسلام والمسلمين، أو كانوا مستشرقين ثم أسلموا، من أمثال المجري عبدالكريم جرمانوس [19] ، والفرنسي نصر الدين دينيه، والنمساوي محمد أسد وعبدالواحد يحيى غينون، والألماني محمد هوبهوم، والفرنسي رجاء جارودي، والألماني مراد هوفمان، كما أوردهم لخضر شايب في كتابه القيِّم: نبوة محمد (في الفكر الاستشراقي المعاصر) [20] ، حتى لو كتبوا بروح استشراقية، أو كانوا تبعًا للمستشرقين في نظرتهم لبعض قضايا المسلمين، إن كان بعضهم كذلك. وليس العالم البوسنوي إسماعيل باليتش - رحمه الله تعالى - (1338 - 1424هـ الموافق 1920 - 2002م) مثلًا مستشرقًا [21] ، كما يصفه محمد موفق الأرناؤوط، وإن تأثر بالاستشراق الصربي، بخاصة إبان وجود يوغوسلافيا، وبالاستشراق بعامة [22] ،وليس العلماء المسلمون الآخَرون - الذين ذكرهم الدكتور الأرناؤوط الباحث في الاستشراق اليوغوسلافي بعامة، والشأن العلمي والثقافي البوسنوي بخاصة - بمستشرقين [23] . ورغم ما للاستشراق اليوغوسلافي من خصوصية تمثلت فيه الثنائية: الذات والآخر، فإن ذلك ليس مسوغًا لجعل علماء ومثقفين ومفكرين بوسنويين في عداد المستشرقين، من أمثال مَن ذكرهم الباحث محمد موفق الأرناؤوط في دراساته حول الاستشراق اليوغوسلافي والألباني؛ من أمثال: حسن كلشي، وسليمان غروزدانيتش وبسيم كركوت وصالح عليتش ومحمد مويتش وحميد حاجي بيغيتش وعمر موشيتش وحازم شعبانوفيتش وآدم خانجديتش وتوفيق مفتيتش وفتحي مهدي وأحمد عليتش، وغيرهم كثير ممن تعرَّض لهم المؤلف المرجع في الاستشراق البلقاني، بما فيه الاستشراق البوسنوي كما يسميه المؤلف، مع أن معظم - إن لم يكن جميع - العلماء البوسنويين مسلمون [24] . مِن باب أولى ألا يُعدَّ العلماء المسلمون من المستشرقين، وإن تبنوا نظريات المستشرقين في القضايا الإسلامية والعربية في الشريعة والعقيدة والأدب واللغة والاجتماع، من أمثال طه حسين ومنصور فهمي وعلي عبدالرازق ولطفي السيد [25] ، وغيرهم ممن "استمالتهم أوروبا، فانتموا عليها، فهم أجانب منا، وإن تكلموا لغتنا وسكنوا وطننا، بل وإن دانوا بديننا"، كما يقول عبدالله النديم [26] . إن اعتبار هؤلاء العلماء والمفكرين والأدباء والمثقفين ونحوهم مستشرقين، وعَدَّ المسلمين المقيمين في الغرب مستشرقين كذلك لا يستند إلى مؤيدات قوية، بل إنه يضيق على مفهوم الانتماء إلى هذا الدين، ويصادر هوية هذه الفئة من بني الإسلام، التي لم يتخلوا عنها، ولم يتبرؤوا منها، بل ربما أنهم بإخلاص منهم، وإن جانَبَهم الصواب، أرادوا الإفادة من الآخرين في سبيل النهوض بالأمة، التي كانت تعاني من ركود واضح،ويظلُّون مسلمين حتى وإن نُظر إليهم على أنهم يمثلون "الجيل الذي نهل من ثقافة الغرب واكتمل نموه بمؤثرات بينة كانت المدارس الغربية قد تعهدتها بالرعاية والحنان" [27] ؛ولذلك فإنه من غير المقبول أن يُطلق على أيٍّ من هؤلاء مهما كان تأثُّرهم مصطلح "المستشرق المسلم"؛ فلا جمع بين المفهومين [28] . 3- النموذج الثالث: الأصولية ( Fundammentlism ): لهذا المصطلح معانٍ متفاوتة في الثقافتين العربية الإسلامية والغربية المسيحانية،فهو عند الغربيين، لا سيما بين البروتستانت الأمريكيين مؤخرًا [29] ، الالتزام بحرفية الإنجيل الداعية إلى التخاصم مع الواقع، ورفض التطور والعلم والتقنية، ومعاداة المجتمعات العلمانية خيرها وشرها، ثم تسرب المصطلح إلى الطوائف النصرانية الأخرى في أوروبا، وسُربت إلى الأديان والملل والنحل الأخرى، ومنها اليهودية والإسلام [30] ، فيقال: الأصولية اليهودية، والأصولية الإسلامية، أحيانًا بحسن قصد في هذا الإطلاق؛ لغياب البديل الإسلامي الصحيح،وهذا ينبئ عن جهل غير مستغرب، وأحيانًا عن سوء قصد؛ رغبةً في التنفير من مفهوم الأصولية المنفور منها ابتداءً [31] . ولذا نجد من يعمد إلى تعريف "الأصولية الإسلامية" قريبًا من تعريف الأصولية النصرانية في أنها الالتزام بحرفية النص القرآني الكريم،يقول آرشي أوغتساين وهو يدافع عن الجهاد في الإسلام: "تقوم الأصولية الإسلامية على الاعتقاد بالتفسير الحرفي لآيات القرآن الكريم كما تنزلت تمامًا؛ رغبة في إعطاء المعنى الظاهر للآيات، وهو ما يتوافق مع القواعد المعاصرة لتفسير نصوص القانون؛ لذا تعتنق هذه الأصولية ما هو واضح وجلي وصادق، ولا يمكن نقده من محتوى الكتاب الكريم" [32] . والأصولية - عند بعض المفكرين الغربيين المناقشين للحركات الإسلامية المعاصرة - تعني التوجه المتطرف للمسلمين [33] ،يتمثل ذلك التطرف، المعتبر في مقاييس بعض المفكرين الغربيين، في رفض المسلمين لكل سمات التغريب ومحاكاة الحياة الثقافية والاجتماعية الغربية المعلمنة [34] ، ودعوتهم إلى العودة إلى أصول الدين وثوابته والفهم الإسلامي الصحيح للحياة، ذلك الفهم الذي يمزج الروحاني بالمادي، فيجعل من الفعل المادي روحانية، دون غلو في الروحانية ودون غلو في المادية، ودون غلبة أحد الوجهين على الآخر، في توازن يعطي للدنيا حقها وللآخرة حقها، من منطلق الآية الكريمة: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]،والقول المأثور المرفوع عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"، ولا تعارض بين الاتجاهين؛ لأنهما في واقعهما اتجاه واحد. هذا يعني بدوره غموض مفهوم التطرُّف، وأنه إنما يُطرحُ غالبًا طرحًا جزافيًّا لا يستند إلى مفهوم دقيق،وربما يُقصد بالتطرف عندنا ذلك السلوك الديني الذي نسميه نحن المسلمين بالغلو المنهي عنه شرعًا في مناحي الحياة كلها، ويوصف الناهجون هذا النهج بالغُلاة، وهم موجودون في كل زمان ومكان، ولكنهم لا يمثلون التيار الإسلامي العام الذي يتبنى المنهج الوسط والاعتدال والسماحة والتيسير في أمور الدين والدنيا،أما أن ينتقل المصطلح إلى مفهوم آخر غير الغلو في الدين فأمر يدعو إلى التوقف في قبوله مصطلحًا يكثر ترديده على المستوى الإعلامي خاصة. والأصولية في الثقافة الإسلامية مصطلح حادث، ولم يؤثَرْ عن السلف استخدامهم له بهذا الإطلاق، ولم يرِدْ له تعريف في المعاجم العربية والقواميس،والموجود في المعاجم العربية المعتبرة هو لفظ الأصول، و"أصول العلوم: قواعدها التي تبنى عليها الأحكام" [35] ، ويقرُّ ريتشارد ميتشي المَعْنِيُّ بالحركات الإسلامية المعاصرة، لا سيما حركة الإخوان المسلمين، بأنه "لا يوجد في اللغة العربية مقابل حقيقي لمصطلح الأصولية، ومن ثم لا يجوز تطبيق هذا المصطلح على الإسلام" [36] ،ويقرُّ مارتن كريمر، شريك بايبس في الموقف السلبي من الإسلام والمسلمين، أن الأصولية الإسلامية ما زالت لغزًا [37] ،وإنما استخدم المتأخرون لفظة الأصول لتدلَّ على "القواعد الأصولية الشرعية التي استمدها علماء أصول الفقه من النصوص التي قررت مبادئ تشريعية عامة، وأصولًا تشريعية كلية" [38] . وعلى هذا ليس للمدلول الكنسي الغربي مقابلٌ في الدين الإسلامي، بحيث يقالُ: إنه ظهرت طائفةٌ من المسلمين تقف في وجه العلم والتطور والتجديد واستخدام التقنية باسم الدين، وتحرِّم ذلك، وتخطئ من يستفيد من ذلك، فتدلل على منهجها هذا - لو وُجد - بنصوص من الكتاب والسنَّة وأقوال السلف،وهذا من مفهومات الأصولية في الفكر الغربي [39] ، أو أن هناك فئة ثورية أيديولوجية متطرفة تسعى إلى تغيير سياسي سريع [40] . وربما يُقال: إن هناك أفرادًا مسلمين يرفضون العلم والتقدم والرقي، ويريدون العودة على الماضي المادي ببدائيته، وذلك برفض المدنية والتقنية، وبأنه يمكن تسميتها بالأصولية الجديدة، على طريقة إضافة السابقة اللاتينية (neo) على المصطلح، لتصبح ( neofundametalism ). وفي هذا الإطلاق مغالطة بين الروحاني والمادي؛ إذ العودة إلى الماضي في تمثل الدين لا تعني الوقوف في وجه التطور والتقدم؛ فالماضي قام على التطوُّر والتقدم وتقدير العلم والعلماء،وفي القرآن الكريم: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27، 28]، و﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]،والشواهد من الكتاب والسنة والواقع المتمثل لها واضحة وجلية في هذا المقام. والعجيب أن يقال: إن في هذا التوجه توافقًا مع العولمة [41] ! بل أن يقال: إن العولمة نفسها هي شكل من أشكال الأصولية،يقول الباحث ستوارت سيم: "يمكن اعتبار العولمة شكلًا من أشكال الأصولية" [42] ،ويعني هذا أنه عندما يطلق مصطلح الأصولية لا ينبغي أن يذهب الذهن على الأصولية الدينية، ذات الخلفية المسيحية فقط؛فالأصولية أشمل من ربطها بالدين؛ إذ إن هناك الأصولية السياسية والأصولية الوطنية، وأصولية التفكير، حتى لقد عُدت العولمة نوعًا من أنواع الأصولية. 4- النموذج الرابع: التسامح ( Tolerance ). التسامح صيغة تفاعل،والغالب على هذه الصيغة مفهوم التبادل والتقابل في الأداء بين طرفين فأكثر، بغض النظر عن مدى هذا التبادل وتطابقه بين الأطراف،والذي يظهر أن السماحة أبلغ وأعم دلالة من التسامح؛ فالسماحة لا تنتظر مقابلًا كما هو في صيغة تفاعل، بل هي موقف ومنهج وأداء مستمر، وإن لقي ذو السماحة منه عنتًا وصدًّا؛فالسماحة هنا هي جزء من مفهوم إسلامي أوسع يعبر عنه بحسن الخلق الذي يقتضي تحمل ما يكون من الناس، وعدم الغضب وعدم الحقد، وسهولة العريكة ولين الجانب وطلاقة الوجه وقلة النفور وطيب الكلمة، وما ذُكرت السماحة في كتب التراث العربي الإسلامي إلا ذكرت معها مفهومات حُسن الخُلُق [43] . وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل المؤمنين رجلٌ سمحُ البيع، سمحُ الشراء، سمح القضاء، سمحُ الاقتضاء))؛رواه الهيثمي في المجمع (75: 4)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط،وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخل الجنة رجلٌ بسماحته قاضيًا ومتقاضيًا))؛رواه أحمد واللفظ له،وهناك أكثر من حديث باللفظ والمعنى،وأقوال السلف تؤيد استخدام المصطلح "السماحة"، وتؤكد حداثة المصطلح "التسامح"،ويمكن الرجوع إليها مجموعة في كتاب: نضرة النعيم في مكارم وأخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم [44] . وينقل شيخ الإسلام أبو حامد الغزالي (505م/ 112 هـ) أن من يتصف بالسماحة هو من يجمع علامات حسن الخُلُق بالعبارة الآتية: "أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان قليل الكلام كثير العمل قليل الزلل قليل الفضول برًّا وصولًا وقورًا صبورًا شكورًا رضيًّا حليمًا رفيقًا عفيفًا شفيقًا لا لعَّانًا ولا سبَّابًا ولا نمامًا ولا مغتابًا ولا عجولًا ولا حقودًا ولا بخيلًا ولا حسودًا، بشَّاشًا هشَّاشًا، يحب في الله ويُبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله، فهذا هو حسنُ الخُلق" [45] ،وقلما تجتمع هذه العلامات كلها في البشر، إلا في صفوة الخلق،واجتمعت في رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان خُلقه صلى الله عليه وسلم القرآنَ. ويأتي من معاني السماحة التسامُح مع الآخر في المعاملات المختلفة، "ويكون ذلك بتيسير الأمور والملاينة فيها، التي تتجلى في التيسير وعدم القهر" [46] ؛ولذا فالتسامح قد يكون جزءًا من السماحة، ولا تقصر السماحة على التسامح فحسب،ويظهر أن رهطًا من كتَّابنا المتأخرين قد وقعوا في هذا المزلق الفكري،ولعل ذلك ناتج عن تلك الموجة التي سعت إلى إلصاق ما هو إيجابي في ثقافة الآخر المتأصلة أو الحادثة بالإسلام عن حسن قصد، وصاحب عن غير قصد؛ إذ إن المنطق كان، فيما يبدو، تسويغيًّا اعتذاريًّا، مع أن المقابل الأجنبي ( Tolerance ) يوحي بالسماحة والتحمل أكثر من إيحائه بالتسامح. وتزخر الإسهامات الفكرية، لا العلمية، بكثرة استخدام المصطلح "التسامح"، بحيث توحي هذه الكثرة بصعوبة الإنكار على المستخدمين، وربما اتهام من ينكر ذلك بالتقعر والتشدق،وهو اتهام لا تريد هذه الوقفات تأييده أو تقويته، ومن ثم يضطر من يريد تقويم الفكر قبل اللسان إلى التسليم بأن الإسلام دين التسامح تجوزًا بمعنى السماحة،ولعل كثرة استخدام المصطلح المفضول "التسامح" جاءت بسبب كثرة ترديده من قِبل رهط من المستشرقين، وقليل من مفكري العربية الذين اطلعوا على بعض المذاهب الفلسفية،وقد شاع هذا في الكتابات المعاصرة، بحيث يمكن القول: إنه كلما أطلق مصطلح "التسامح" أُريد به مصطلح "السماحة" [47] ،ولولا ضيق المقام هنا لأوردت عددًا من النصوص التي تؤيد استخدام التسامح بمعنى السماحة [48] . قد يكون من المسوغات لهذا الاستخدام المفضول عدم حضور المصطلح الفاضل، في ضوء استخدام المفضول في الأدبيات الأجنبية، ومن ثم ترجمة المفهوم بالمصطلح المفضول، مما أوجد هذا الخلط الذي أثر على المعنى، وقصر المفهوم على العلاقة التبادلية القائمة على التسامح بين طرفين فأكثر،وربما فهم بعض المتلقين أن يكون معنى السماحة هنا مأخوذًا مما يؤثر عن عيسى بن مريم عليه السلام: "إذا صفعك أحدهم على خدك الأيمن، فأدِرْ له خدك الأيسر"،وفي هذا الأثر نظر في نسبته لعيسى بن مريم عليه السلام؛ إذ إنه لا يتوافق مع الأحكام الدينية العامة التي جاءت بها الأديان، ولا يدلُّ هذا الإطلاق على مفهوم السماحة بحال، فليست السماحة كذلك، كما سيأتي ذكره. ويرى رضوان السيد أن المصطلح "التسامح" دخيلٌ على اللغة العربية والفكر العربي الإسلامي، من حيث لفظه ومن حيث مفهومه؛ إذ ليس المقصود به سماحة الإسلام، لكن بعض المعنيين بالفكر الإسلامي سُرُّوا به، وأرادوا منه التوكيد على أن الإسلام دين متسامح [49] ، وطفقوا ينسجون على هذا المفهوم الفرعي المقالات والكتب والأفكار والرؤى، إلى درجة السعي إلى تعريف التسامُح بما تُعرَّف به السماحة [50] . ويكاد يُجمع علماء المسلمين المعاصرين الذين يثيرون هذا المفهوم على استخدام مصطلح "السماحة"، فيكثر بينهم هذا التعبير، وإن عرَّجوا على مصطلح "التسامح" في الإسهامات المتأخرة من باب التجوز في اللفظ، فالمقصود السماحة [51] ، ويوافقه في هذا محمد سعيد البوطي الذي يذكر أنه بحث في التراث الفقهي الإسلامي فلم يجد التعبير بالتسامُح مشهورًا بين الفقهاء [52] ، حتى لتكاد تجد هذا "الاضطراب" في استخدام المصطلح في سِفر واحد يحوي عدة أبحاث لباحثين مختلفين حول المفهوم بتعبيرين أو مصطلحين؛ السماحة والتسامح،والأصل أن يتفق المحررون على المصطلح المختار [53] ،بل ربما حصل هذا الخلط في كتاب واحد لمؤلف واحد يتحدث عن التسامح ويريد به السماحة [54] ،ومن هنا يمكن القول: إن المراد هو مفهوم السماحة، مع تجاوز هذه الدقة المتناهية التي تصل إلى حد التشدق في الإصرار على مصطلح دون آخر لمفهوم واحد هو "السماحة". كما يرى حسين أحمد أمين أنه مصطلح يوحي بالاضطهاد الديني الذي ساد في الغرب في القرن السابع عشر الميلادي "وقت كتابة جون لوك لرسالته في التسامُح لمقاومة ما ساد في زمنه من اضطهاد ديني، فهي لا تعني اليوم غير قلَّة الاكتراث بالتفرقة بين الحقيقة الروحية والخطأ الروحي، ولا سند لها على الإطلاق من حب الآخرين واحترامهم،هي كلمة توحي في واقع الأمر بنوع من الاحتقار للدين ذاته" [55] . ويقول آرشي أوغستاين عن مفهوم التسامح: "ليس من الكافي أن نقول: إننا نمارس التسامح الديني، بل يجب أن نتفحص تعبير التسامح بمعناه الحقيقي والفعال، إنه لا يعني الاحترام فقط، إنه في حقيقته سلوك،والتسامح ليس موقفًا إيجابيًّا، وأن تكون متسامحًا دينيًّا، فليس ذلك بإنجاز،إن الضروري هو الاحترام الإيجابي للإيمان بالاعتبار المستحق للمحتوى الحقيقي الفعلي لجوهر ذلك الإيمان" [56] . ولذا فالتسامح مفهوم غربي فلسفي مذهبي يُعزى في اضطرابه إلى عدد من الفلسفيين الغربيين، فيُقال: مذهب سبينوزا في التسامُح، ومذهب جون لوك في التسامُح، ومذهب فرانك أبوزيت في التسامح، ومذهب غابريل مارسيل في التسامح، ومذهب ريمون بولان في التسامح [57] ،وإذا تعددت مذاهب التسامح لم يبقَ منه شيء على أرض الواقع، وإن بقي بقي تنظيرًا لا فائدة تطبيقية منه [58] . أدى غموض المصطلح بغموض المفهوم إلى الخوض الفكري حول مفهوم التسامح بصور أساءت إلى المفهوم، وإن كثُر ترديد المصطلح،ومن ثم فإن بعض المفكرين العرب ركزوا على ما كان من هجوم على المفهوم بأعمال عنيفة في الشرق والغرب المتهم فيها عدد قليل جدًّا من المسلمين، ومن ثم جرى التعميم على جميع المسلمين،وربما تغاضى هؤلاء المفكرون عن الهجوم على المفهوم نفسه عندما يكون المستهدف فيه مسلمين وغير مسلمين في المجتمعات النامية في الشرق والغرب، كما هو الحال في فلسطين المحتلة وكشمير والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان [59] ، وكذا الحال في العراق وأفغانستان وجنوب غرب الصين. وكأن هؤلاء المفكرين العرب يريدون السماحة من طرف واحد هو الجانب المسلم، فعبَّروا عن السماحة بالتسامح، وذلك بأسلوب المعتذر عن فعل اتُّهم به عدد محدود من الشباب المشتبه بهم، ولم يقم به المسلمون ولا يقرونه ولا يتحملون مسؤولية من اتهم بالقيام به،ولا يريد هؤلاء المفكرون العرب بالضرورة ذلك التسامح من باب التفاعل؛ أي: التبادل في السماحة، فلا تعمم تبعات الفعل على الجميع،ومن هذا الموقف فإنه ليس من سماحة الإسلام الذل والهوان أو الخنوع للظلم أو الاستكانة تجاه الظالمين [60] ؛ولذلك فإن للسماحة حدودًا شرعية تقف عندها لتفرق بينها وبين الهوان والصغار والطأطأة والتهاون في بعض الواجبات وما تقوم به هذه الواجبات [61] والضعف [62] ، مما قد لا يلتفت إليه مَن أخذ بالمفهوم المثالي للتسامح [63] ، وما إلى ذلك من الصفات السلبية التي تتعارض مع الإيمان القوي الذي بقوته - وليس بضعف أهله - تبرز السماحة،وانظر إلى النقاش القوي بين كذا طرف من الأطراف المعنية بالتسامح من شرقيين وغربيين [64] ،يقول عادل العوا: "يستطيع المسؤولون عن النظام العام استعمال القسر لمنع وقوع ما يسيء إلى هذا النظام إساءة خطيرة،ولا يمكن اعتبار هذا القسر عدوانًا على الكرامة الإنسانية؛ لأن المرء يكون قد فقَدَ احترام هذه الكرامة ذاتها من قبلُ برفضه مراعاة ما ينبثق عنها من حقوق وواجبات" [65] . وربما قيل من قبيل التفريق بين المفهومين باللغة العربية: إن السماحة مطلب ديني ثقافي اجتماعي والتسامح مطلب سياسي، على اعتبار أن السياسة تعطي اهتمامًا واعتبارًا للمعاملة بالمثل، مما يقتضي أن تكون السماحة أخذًا وعطاءً، فلا تخلو من "التفاعل"، مع أن بعض الدول تتعامل بالأريحية في هذا الجانب فلا تغلِّب التقليد الدبلوماسي القائم على المعاملة بالمثل، بل ربما تغلِّب المصالح أكثر من تعاملها بذلك التقليد الدبلوماسي،وقد كان أول ظهور للمصطلح الأجنبي بدافع سياسي على يد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 - 1704م) [66] ، في رسالة له عن التسامح ترجمتها مُنى أبو سنة [67] . وتبقى الإشكالية المفهومية هنا، وهي أن يظن المتلقي أن هذا النقاش حول المصطلح يصادر وجوده بين الناس، وأنهم ملزمون شرعًا بأن يكونوا متسامحين، دون ضياع حقوقهم بالضرورة،المقصود هنا هو التوكيد على أن البديل الإسلامي أبلغ وأرقى دلالة وفعلًا وأكثر تأثيرًا وقبولًا من المفهوم المنقول عن ثقافات أخرى. 5- النموذج الخامس: العَلمانية ( Sacularism ): ذكر جورج طرابيشي العَلمانية بفتح العين من العالم لا من العلم، وذلك في معرض حديثه عن تاريخ العلمانية، وأنه ربما يُظن أنها منحوتة في نهاية القرن الثالث عشر الهجري، النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي لكلمة Laicitie، ويربطها بعد البحث والتنقيب عن أصلها باللاهوت المسيحي المكتوب بالعربية [68] . وقد ورد ذكر العلمانية عند ساويروس الأشمونين الملقب بأبي بشر بن المقفع المولود سنة 298هـ/ 910م أو 302هـ/ 915م (القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي) وتوفي أواخر القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي عن عمر يناهز الخمسة وسبعين عامًا، وهو صاحب كتاب طبِّ الغمِّ وشفاء الحزن [69] ، وكتاب آخر في اللاهوت المسيحي عنوانه: مصباح العقل [70] ، وكان يشغل منصب كاتب في الدولة الإخشيدية في العهد الفاطمي، ويُذكر أنه أول من كتب باللغة العربية من الكُتاب الأقباط،وذكر لفظ العلمانية في معرض حديثه عن خروج الكاهن عن التبتل ونزوعه للزواج والانشغال بأمور الدنيا والعالم على حساب خدمة الكنيسة، مما أضحى يتعارض عندهم مع تعاليم الكنيسة. ويذكر جورج طرابيشي أن المصطلح قد يعود إلى القرن الثاني الهجري أو قبل ذلك، وهو القرن الذي بدأ فيه تعريب الكنائس المسيحية؛ وذلك لاعتماده على أن ابن المقفع لم يشرح الكلمة عندما أرودها في كتابه: مصباح العقل، مما يعني أنها كانت مستخدمة قبله،فهو هنا ليس خروجًا عن الدين، بقدر ما هو تمرُّد على نهج ديني كنسي يتعارض مع فطرة الإنسان،ويتنافى هذا المفهوم مع بعض الذين يتبنون العلمانية الشاملة التي تفصل الدين عن الحياة، والتي قد يُفهم منها التعارض مع الدين، أو رفض إظهار مشاعر التديُّن. كما يؤكِّد جورج طرابيشي أن المصطلح جاء بفتح العين نسبة إلى الخروج إلى العالم بالزواج والملكية والتجارة والإنجاب وتربية الأولاد وغيرها مما يتطلبه العيش في العالم؛ أي: الدنيا، وليست الكلمة تعود إلى العلم،وهو أصل الاشتقاق اليوناني Laikos واللاتيني Laicus ،إلا أن الشيخ يوسف القرضاوي يخطئ من ينطقها بالفتح وينسبها إلى العلم، على اعتبار أن العلم مناقض للديانة النصرانية في فهم النصارى للدين وللعلم، وأنهما متضادان "فما يكون دينيًّا لا يكون علمًا، وما يكون علميًّا لا يكون دينيًّا؛ فالعلم والعقل يقعان في مقابل الدين، والعلمانية والعقلانية في الصفِّ المضاد للدين" [71] . ولو كانت بفتح العين نسبة إلى العالم - على رأي الشيخ يوسف القرضاوي - لكان المصطلح العالمية،وقد ذكر لي أحد المهتمين بهذا الشأن أن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي قد رجع عن رأيه السابق القائل بأنها بكسر العين. ولو ردَّد بعضنا العَلمانية بفتح العين لقيل عنه: إنه متشدق متقعر وخارج عن التعبير بالمألوف؛ ذلك أنه شاع الإطلاق في الفكر العربي المعاصر بكسر العين، رغبة في النسبة إلى العِلم لا إلى العالم، ويبعد أن يُعَدَّ المفكر العربي جورج طرابيشي متشدقًا وخارجًا عن التعبير بالمألوف عندما يحقق مصطلحًا كهذا. والعلمانية - مصطلحًا ومفهومًا - من المصطلحات التي يكتنفها الغموض،وقد سعى كل من عبدالوهاب المسيري وعزيز العظمة إلى مناقشة المصطلح والمفهوم في كتاب كامل،ولم يظهر من خلال قراءة هذا الكتاب أنهما خرجا برؤية واضحة حول هذه الإشكالية، رغم أن طبيعة تحرير الكتاب تتيح مجالًا للردود والتعليقات بين الطرفين المتناقشين [72] . يقول عبدالوهاب المسيري عن غموض مصطلح العلمانية: "مصطلح "العلمانية" مصطلح خلافي جدًّا، شأنه شأن مصطلحات أخرى مثل "التحديث" و"التنوير" و"العولمة"، شاع استخدامها وانقسم الناس بشأنها بين مؤيد ومعارض. ولعل مصطلح "العلمانية" خاصة من أكثر المصطلحات إثارة للفرقة؛ إذ يتم الحوار والشجار حوله بحدة واضحة، تعطي انطباعًا بأنه مصطلح محدد المعاني والأبعاد والتضمينات،ولكننا لو دققنا النظر قليلًا لوجدنا أن الأمر أبعدُ ما يكون عن ذلك" [73] ، ويذكر ستة أسباب لبُعد مصطلح العلمانية عن الوضوح على النحو الآتي: 1 - إشكالية العلمانيتين [74] ؛ أي شيوع العلمانية باعتبارها فصلَ الدين عن الدولة، وهو ما سطَّح القضية تمامًا وقلَّص نطاقها، وحصرها في العلمانية الجزئية التي اقتصرت على فصل الدين عن الدولة، أو بتعبير آخر: فصل الدين عن السياسية، من منطلق أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين [75] . 2 - التصوُّر أن العلمانية مجموعة أفكار وممارسات واضحة، الأمر الذي أدى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة والبنيوية. 3 - تصوُّر العلماني بأنها فكرة ثابتة لا متتالية آخذة في التحقُّق، فالعلمانية لها تاريخ، الأمر الذي يعني أن الدارسين - كلًّا بحسب لحظته الزمنية - درسوا ما هو قائم وحسب، دون أن يدرسوا حلقاته المتتالية. 4 - إخفاق علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية، الأمر الذي أدى إلى تعدد المصطلحات التي تصِفُ جوانب وتجليات مختلفة للظاهرة نفسها، والافتقار إلى وضوح الرؤية العامة العريضة، والعجز عن تحديد البؤرة المحددة. 5 - الظن بأن مصطلح العلمانية قد استقر في الغرب في الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية من القرنين الماضيين، بينما ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات للعلمانية من منظور جديد، فزادت المصطلح إبهامًا، مما يفضي إلى تقديم مصطلح جديد للعلمانية يحمل اسم "العلمانية المجددة" أو المتجددة ( Neosecularism ) [76] . 6 - حدوث مراجعة للمصطلح في المحيط العربي، ما أدى إلى التصالح بين القوميين العلمانيين والإيمانيين،ويفصِّل المؤلف القول في هذه الأسباب الستة [77] . وهناك مَن يربط بين العلمانية والديمقراطية والليبرالية، وأنها تشترك جميعها بأنها تقف ضد الدين، سواء من منظور جزئي أم من منظور شامل،ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى استقاء هذه الرؤى والأفكار من الفكر الغربي الذي مارَس الفصل بين الكنيسة والحياة، فرفض أو تمرَّد على تعاليم الكنيسة [78] ، وقاس بعض الناس تعاليم الأديان الأخرى كالإسلام على تعاليم الكنيسة في موقفها من العلم والسياسة [79] ،والذي يظهر أن هذا المنحى هو بؤرة الإشكالية التي يعاني منها المصطلح المنقول؛ إذ إنه نُقل بمفهومه لا بلفظه. ويغلِب استخدام العلمانية في السياسة التي تقتضي فصل الدين عن الدولة، مما يسميها عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية،أما فصل الدين عن الحياة فيطلق عليه عبدالوهاب المسيري العلمانية الشاملة [80] ،ومن هنا فالمقصود من ذلك كله هو تحييد الدين، وألا تكون له "سلطة" أو "سيطرة" على الحياة، وقد يعبر عن ذلك بالاستقلال عن الدين في الحياة العامة،وواضح من هذا الطرح الهروب من وضع جُعل فيه الدين "محتلًّا" للحياة العامة [81] ،وقد تكون الدعوة إلى العلمانية الجزئية أو الشاملة مخرجًا عند بعض الأقليات عندما لا تُحسن الأكثرية التعامُل معها من مفهوم ديني ضيق، لا يتسع للتعايش الحضاري [82] . يقول آرشي أوغستاين: "السبب الصحيح الوحيد لوجود العلمانية يمكن أن يكمن في: أن الإيمان يجب ألا يُفرض على أولئك الذين لا يرغبون بأن يكون الإيمان مفروضًا عليهم،بالطريقة نفسها العلمانية يجب أيضًا ألا تكون مفروضة على أولئك الذين لا يرغبون بأن تكون مفروضة عليهم،وهذا التعايش المشترك معترفٌ به كحقيقة في القرآن الكريم، فهو يتصور ويتنبأ بأن المؤمنين سوف ويجب أن يعيشوا جنبًا إلى جنب مع غير المؤمنين!" [83] . 6 - النموذج السادس: الغرب: ( West ) : ليس الغرب غربًا واحدًا، وليس له حد مانع جامع على حد قول جورج قرم في كتابه الأخير بالفرنسية: أوروبا وأسطورة الغرب، الذي يعيد فيه موقف أوروبا من العالم الثالث إنما جاء خدمة للكنيسة التي شجعت التنصير وموَّلت الاستكشافات وباركت الاحتلال [84] . يقول مفرِّح القوسي: "وتستعمل كلمة (الغرب) للدلالة على البيئة الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي تكونت عبر صراعات وتفاعلات طويلة كانت أوروبا مهدها، ثم انتشرت في قارات أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا" [85] ،وينقل عن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "الإيسيسكو" أن "مفهوم الغرب لا يُحيل بالضرورة على المعنى الجغرافي للكلمة، بل هو مفهوم جيوإستراتيجي تأسس نتيجة تراكمات، وبفعل صيرورة تاريخية ابتدأت منذ حوالي أربعة قرون، ووصلت ذروتها في مرحلة العولمة الاقتصادية" [86] . وهذا مما يؤكد دائمًا أن الغرب ليس غربًا واحدًا، بل هو غرب وثانٍ وثالث،فهناك الغرب الأدنى بالنسبة للشرق "أوروبا الشرقية"، والغرب الأوسط "أوروبا الغربية"، والغرب الأقصى "أمريكا" الشمالية والوسطى والجنوبية،وداخل الغرب الواحد تفريعات [87] ،على أن من الغربيين من يفرِّق "عقائديًّا" بين أوروبا والغرب وبين أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى،ويتَّهم من يسمِّيهم بـ: "المسلحين المسلمين" بأنهم لا يميزون كثيرًا بين أوروبا والغرب [88] . ويشترك الغرب الأدنى مع الشرق الأدنى في بعض السمات العامة، بل إنه من حيث الجهة "الجغرافيا" موقع واحد، اختلطت فيه الثقافات من نصرانية أرثوذوكسية وكاثوليكية وإسلامية وشيوعية؛ ولذلك فموقف الغرب الأدنى من الإسلام والمسلمين ظاهرةٌ فيه النزعة الدينية في الخلافات التي تحدث بين شعوب هذا الغرب،وهي واضحة في الحروب التي دارت في البوسنة والهرسك وكوسوفا. وللغرب الأوسط من حيث موقفه من الشرق سماته السياسية التي تختلف عن الشعبية؛ فالشعبية لا تزال تعيش ظروف حروب الفرنجة التي سماها الغرب الأوسط بالحروب الصليبية،وهي حقبة لا تزال مسيطرة على أذهان هذه الشعوب،أما السمات السياسة فهي أقرب إلى مهادنة المسلمين؛ لأن القرب الجغرافي والمصالح تقتضي ذلك. وللغرب الأقصى سماته الشعبية التي تختلف عن السياسية كذلك؛ فالسمات الشعبية لا تبالي بالشرق الإسلامي كثيرًا، ولا تحمل له ما تحمله السمات الشعبية في الغرب الأوسط، وهي واقعة تحت التأثير الإعلامي الذي يخدم السياسة، بينما السمات السياسية في الغرب الأقصى تعمل على ما يتعارض مع مصالحها في الشرق عمومًا، وفي الشرق الأوسط خصوصًا، وإن قيل: إن أصل العلاقات قائم على المصالح، فهي إلى السعي إلى الهيمنة على هذا الشرق تتوق. ومن هنا تأتي هذا التفريعات التي ننظر إليها من منطق مفهوماتنا حول هذه التجزئة، ومن مدى قربها منا أو بعدها عنا،على أن مفهوماتنا هذه لم تَعُد تنظر إلى الجهة الجغرافية أكثر من نظرتها إلى الأبعاد الثقافة التي تتجسَّد فيها تلك السمات السابق ذكرها. 7 - النموذج السابع: الليبرالية ( Liberalism ) : الليبرالية تعني هنا التحررية أو مذهب الحرية، وأصل إطلاقها كنسي ثم علماني،وقد جاءت ردَّ فعل للحروب الدينية داخل النصرانية نفسها ومظالم الكنيسة والإقطاع في أوروبا التي أزهدت الناس في الدين الذي سيطر عليه ما تعارف الناس عليه برجال الدين، مما أدى إلى ظهور البروتستانتية على يد مارتن لوثر (1483 - 1546) محتجة على سيطرة رجال الدين على الدين نفسه والوصاية عليه، ومن ثم على الحياة من وجهة نظر رجال الدين أنفسهم، لا من وجهة نظر الدين الذي جاء به عيسى بن مريم - عليهما السلام. وهناك مَن يُعيد أصول الثقافة الليبرالية إلى الفلسفة اليونانية، بمعنى أنها ثقافة غير دينية [89] ،وهي تسمية أقرب إلى الغموض [90] ،وغموضها يأتي من غموض الحرية نفسها، ومن ثم اضطراب المصطلح،ويؤكد على غموضها عدد من المفكرين الغربيين من أمثال برتراند رُسل ودونالد سترومبورج، وكذا في الموسوعات المعتبرة مثل الموسوعة الشاملة ( The World Book Encyclopedia ) والموسوعة البريطانية ( Encyclopedia Britanica ) [91] ؛ولذا فالليبرالية من أكثر المفهومات إثارة للإشكالية؛ إذ إنها هي مفهوم مراوغ [92] . وقد أعيدت الحرية في مفهومها وانطلاقها من الفلسفة اليونانية إلى كونها هي فلسفة تعددت مفهوماتها، وتخضع في تفريعاتها إلى المبادئ والمثُل والثوابت، أي الثقافة، التي يراد منها أن تنعكس على المفهوم،ولعلَّ هذا من أسرار هذا الغموض في مفهوم الحرية، ومن ثم الغموض في تعريفها [93] ، مما يقتضي استحضار المصطلح الفكري لهذه الكلمة، بحيث يُنظر إلى مفهوم الحرية بحسب المحيط الثقافي المراد استخدامها فيه، فالحرية في الإسلام مثلًا لها مدلولات تختلف عنها في مجتمعات لا تلقي بالًا للدين، ومن تلك المجتمعات التي لا تلقي بالًا للدين المجتمعات الحديثة التي جاءت من مجتمعات قديمة سلبتها الحرية أحيانًا باسم الدين، فكانت الإساءة إلى الدين التي حتمت الهروب منه ما دام يُنظر إليه على أنه مقيِّدٌ للحريات المطلقة. وكان من نتيجة ذلك أن انطلق مفهوم الحرية دون اعتبار لما أحدثه هذا الانطلاق من إشكالية في المفهوم التطبيقي لمعنى الحرية،ويظلُّ مفهوم الحرية مضطربًا إلى اليوم، وإذا اضطرب المفهوم اضطربت التعريفات وتعدَّدت [94] . وفي الساحة الفكرية العربية مَن يرى أن الليبرالية تتعارض مع الدين، كما جاءت في مبعثها للخروج من هيمنة الدين النصراني، لا سيما الكاثوليكية، بل ربما أن من أهدافها في الفكر العربي التهاون في أحكام الدين القائمة على خمسة أحكام، هي الاستحباب والوجوب والإباحة أو الجواز والكراهية والتحريم، مما يؤكد على تقييد مفهوم الحرية، حتى في المباحات تقيد بما لا يطلقها دون قيد، فالأكل مباح، ما لم يكن فيه ما يقيِّد إباحته، والتعدد مباح ما لم يعترضه ما يقيد إباحته من أحكام، وهكذا،فنرى في الردود على ذلك المفهوم وفي اجتماع الليبرالية والدين من صنَّف بعض العلماء المسلمين المعاصرين بأنهم ليبراليون معممون، من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعلي عبدالرازق وأحمد أمين وأمين الخولي [95] ، والقائمة تمتد وتطول إلى أن تصل إلى عصرنا الحاضر. ويزيد هذا الإطلاق من غموض المصطلح، حينما نسمع من يقول عن نفسه: إنه ليبرالي مسلم أو مسلم ليبرالي، ويتبع هذا الحديث عن الليبرالية الإسلامية،وينفي هذا الانتماءُ القول بأن الليبرالية العربية تهدُف إلى المروق من أحكام الدين، وإن ظهر عليها ما يمكن أن يُقال عنه: إنه تهاونٌ في تطبيق أحكام الدين،والتهاون في تطبيق بعض أحكام الدين لا يخرج من الملَّة، كما ينصُّ علماء المسلمون. وعلى الطريقة المحدثة في إعادة التفكير في المصطلح تُضاف إليه سابقة باللغات اللاتينية، تعني أنه يُعاد التفكير في مفهومه، فظهرت الليبرالية المجددة ( Neolibralism )، فهو ليس مفهومًا جديدًا ( new )، بل هو مفهوم مجدَّد ( neo )، وإن ركزت الليبرالية المجدَّدة على السياسة والاقتصاد [96] ، وسعت إلى أن تعمل الدولة لمصالح رجال الأعمال لكنها تصور هذه المصالح على أنها مصالح الأمة، كما يعرِّيها "نوشتاين فبلن [97] ،بينما يجري النقاش الفكري الآن عن موضوعات ما بعد الحداثة وما بعد الاستشراق وليس الحداثة المتجددة أو الاستشراق المتجدد، في رغبة فكرية في التخلص من المصطلحينِ، وليس بالضرورة التخلص من المفهومين. مصطلحات أخرى: على أن لدينا عددًا من المصطلحات الأخرى مبهمة الدلالة، ولا يزال يكتنفها الغموض والاضطراب، لكنها لم تُثر إشكالًا قويًّا كما أثارته مصطلحات أخرى مما ذُكرتْ له نماذجُ في هذه الوقفة، وأضحت هذه المصطلحات متداولة واستساغها الناس، رغم ما يكتنفها من غموض واضطراب. ومن تلك المصطلحات التي لم تستقرَّ في مفهوماتها: الثقافة ويقابلها بالأجنبي Culture ، وقد زادت تعريفات هذا المصطلح على مائتي تعريف [98] ،وكثيرًا ما يخلط بينها وبين السلوكيات الاجتماعية أو الفكرية، فتسمى هذه السلوكيات بثقافات، بينما هي تصرفات قد تترى ويكثر ورودها من أطراف مختلفة من المجتمع الواحد، مما يزيد المصطلح اضطرابًا وقلقًا وإشكالًا. العلوم ويقابلها بالأجنبي Sciences ،وقد تلغي هذه الترجمة العلوم الأخرى التي لا ينطبق عليها المصطلح الأجنبي والتي يجمعها حقلَا العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. المعرفة ويقابلها بالأجنبي Knowledge ،وغيرها كثير، مما يستدعي مزيدًا من التركيز والبحث في مدى غموض بعض المصطلحات المنقولة إلى اللغة العربية، ومدى اضطرابها وتقصيرها في التعبير عن دلالات الألفاظ. [1] انظر: محمد بن محمد الغزالي، أبو حامد. المستصفى من علم الأصول - 1: 287. [2] إبراهيم اللخمي الشاطبي. الموافقات في أصول الأحكام - 2: 4. [3] انظر: أمل يازجي ومحمد عزيز شكري. الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن - دمشق: دار الفكر، 1423هـ/ 2002م - ص 93. [4] في التعامُل مع تفجير المبنى الفدرالي في مدينة أوكلاهوما بولاية أوكلاهوما يوم الأربعاء 19/ 11/ 1415هـ الموافق 19/ 4/ 1995م الذي نفذه تيموثي ماكفي، وراح ضحيته 168 شخصًا، وُصف في البدء بأنه عمل إرهابي، وعندما تبينت الطبيعة الفكرية للقائمين عليه وُصِف بأنه عملٌ إجرامي. [5] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 85 - 94. [6] معظم النقاش حول مفهوم مصطلح "الاستشراق" هنا مستلٌّ من كتاب المؤلف: الالتفاف على الاستشراق: محاولة التنصل من المصطلح - الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1426هـ/ 2005م - 173ص. [7] انظر: فراج الشيخ الفزاري. في معنى الاستشراق وبداياته - ص14 - 17 - في: شُبهات حول الاستشراق - الدوحة: دار الثقافة، 1420هـ/ 2000م - 126ص. [8] انظر: مازن بن صلاح مطبقاني. الاستشراق المعاصر في منظور الإسلام - الرياض: دار إشبيلية، 1421هـ/ 2000م - 216ص. [9] انظر: بيرنارد لويس. مسألة الاستشراق - ص159 - 182 - في: هاشم صالح/ معدٌّ ومترجم. الاستشراق بين دعاته ومعارضيه - ط 2 - بيروت: دار الساقي، 2000م - 261ص. [10] انظر: ناديا أنجيليسكو. الاستشراق والحوار الثقافي - الشارقة: دار الثقافة والإعلام، 1420هـ/ 1999م - ص 72 - (سلسلة كتاب الرافد؛ 4). [11] انظر: علي بن إبراهيم النملة. الالتفاف على الاستشراق: محاولة التنصُّل من المصطلح - الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، 1427هـ/ 2006م - 173ص. [12] انظر: طاهر عبد مسلم. تعارف الحضارات من أطروحات الاستشراق إلى التمركز الإعلامي والدعاية المضادة - ص 115 - 141 - في: زكي الميلاد، معد. تعارف الحضارات - دمشق: دار الفكر، 1427هـ/ 2006م - 226ص. [13] انظر في مناقشة هذا المفهوم، من حيث العموم والخصوص: علي بن إبراهيم الحمد النملة. ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والارتباطات - الرياض: مكتبة التوبة، 1424هـ/ 2003م - ص 25 - 27. [14] انظر: عمر فروخ. الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة - ص 126 - 127 - في: نخبة من العلماء المسلمين. الإسلام والمستشرقون - مرجع سابق - 511ص. [15] انظر: عمر فرُّوخ. الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة - ص 126 - 127. في: نخبة من العلماء المسلمين. الإسلام والمستشرقون - المرجع السابق - 511ص. [16] انظر: طارق سري. جرجي زيدان - ص 110 - 115 - في: المستشرقون ومنهج التزوير والتلفيق في التراث الإسلامي - القاهرة: مكتبة النافذة، 2006م - 185ص. [17] انظر: سليمان موسى. عربيٌّ وليس مستشرقًا - العربي - ع 88 (3/ 1966م) - ص 6 - 7. [18] انظر: ميشال جحا. موقف الدكتور عمر فرُّوخ من الاستشراق والمستشرقين - ص81 - 90 - والنص من 89 - في: الاستشراق - ع 4 (شباط 1990م) - بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1990م - 221 + 39ص. وأعيد نشر هذا البحث بعنوان: عمر فرُّوخ والاستشراق - الاجتهاد - ع 25 (خريف العام 1415هـ/ 1993م) - ص 131 - 151 - والنص من ص 150 - 151. [19] انظر: محمد عبدالمنعم خفاجي. المستشرق المسلم عبدالكريم جرمانوس في وصف رحلته إلى الجزيرة العربية - المنهل - مج 30 ع 10 (10/ 1384هـ - 2/ 1965م) - ص 705 - 710. [20] انظر: لخضر شايب. نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الاستشراقي المعاصر - الرياض: مكتبة العبيكان، 1422هـ/ 2002م - ص151 - 200. [21] ربطتني بالأستاذ إسماعيل باليتش - رحمه الله - علاقة لأكثر من سنة وثلاثة أشهر، عندما التقينا بمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت، تحت إدارة الأستاذ الدكتور محمد فؤاد سزكين، ولم أكن أرى فيه مستشرقًا البتة. [22] انظر: محمد الأرناؤوط. من دار الإسلام إلى الوطن، ومن الوطنية إلى القومية: حالة البوسنة - بيروت: الدار العربية للعلوم، 1425هـ/ 2004م - ص83 - 98، والردُّ على البحاثة بالشأن البوسنوي الأستاذ محمد موفق الأرناؤوط لا يُقلل من علميته وقدراته البحثية المستقصية. [23] انظر: محمد الأرناؤوط. مراجعة الاستشراق: ثنائية الذات/ الآخر نموذج يوغوسلافيا - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002م - ص7 - 9. [24] انظر: محمد الأرناؤوط. مراجعة الاستشراق: ثنائية الذات/ الآخر نموذج يوغوسلافيا - المرجع السابق - ص 22. وانظر، أيضًا: محمد م. الأرناؤوط. حوار/ صراع الحضارات: دور الاستشراق في النموذج اليوغوسلافي - الآداب - مج 48 ع 3 و4 (آذار/ مارس - نيسان/ إبريل 2000م) - ص 67 - 71. [25] انظر: في الجدال حول إسهامات هؤلاء، فيما له علاقة بالتأثر برؤى المستشرقين: أنور الجندي، محاكمة فكر طه حسين - القاهرة: دار الاعتصام، 1404هـ/ 1984م، وانظر أيضًا: إبراهيم نويري. زكي مبارك شارك طه حسين التشكيك في القرآن - المجلة العربية - مج 315 (ربيع الآخر 1424هـ/ يونيو 2003م) - ص 34 - 35، وانظر كذلك: محمود مهدي الإستانبول. طه حسين في ميزان العلماء والأدباء - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ/ 1983م - 672ص. [26] انظر: محمد عمارة. الانتماء الثقافي - القاهرة: دار نهضة مصر، 1997م - ص 77 - (سلسلة في التنوير الإسلامي؛ 6). [27] انظر: مصطفى نصر المسلاتي. الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين - طرابلس: اقرأ، 1986م - ص 60. [28] انظر: المستشرق الألماني المسلم فريتز كرنكو، أو محمد سالم الكرنكوي - ص 142 - 145 - في: محمد عزَّت الطهطاوي. لماذا أسلم هؤلاء؟: قساوسة ورهبان وأحبار مستشرقون وفلاسفة وعلماء - القاهرة: مكتبة النافذة، 2005م - 194ص. وانظر، أيضًا: أحمد رضا حوحو. ملاحظات مستشرق مسلم على بعض آراء المستشرقين وكتبهم المتعلقة بالعرب والإسلام - المنهل - مج 2 ع 5 (4/ 1356هـ - 5/ 1937م) - ص 31 - 33. وع 7 (6/ 1356هـ - 7/ 1937م) - ص 27 - 31. وع 8 (7/ 1356هـ - 9/ 1937م) - ص 30 - 34. [29] انظر: زينب عبدالعزيز. هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة: الحداثة والأصولية - مرجع سابق - ص 65 - 81 - (سلسلة صليبية الغرب وحضارته؛ 4). [30] انظر: زينب عبدالعزيز. هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة: الحداثة والأصولية - مرجع سابق - ص 65 - 81. [31] انظر مثلًا: ديفيد لانداو. الأصولية اليهودية: العقيدة والقوة/ ترجمة مجدي عبدالكريم - القاهرة: مكتبة مدبولي، 1414هـ/ 1994م - 416ص، ولم أجد في هذا المرجع مناقشة للمفهوم. [32] انظر: آرشي أوغستاني. وجهة نظر مسيحية: دفاعًا عن الجهاد حقيقة الجهاد. مرجع سابق - ص 9. [33] انظر: بوبي س. سيد. الخوف الأصولي: المركزية الأوروبية وبروز الإسلام/ ترجمة عبدالرحمن إياس - بيروت: دار الفارابي، 2007م - ص 11 - 32. [34] انظر: محمد عمارة. السماحة الإسلامية: حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب - القاهرة: دار الشروق الدولية، 1426هـ/ 2005م - ص 77. (سلسلة هذا هو الإسلام؛ 2)، وينقل المؤلف عن صحيفة نيوزويك العدد السنوي (ديسمبر 2001 - فبراير 2002م). [35] انظر: إبراهيم مصطفى وآخرين. المعجم الوسيط - إسطنبول: دار الدعوة، 1406هـ/ 1986م - ص 20 - (عن الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، جمهورية مصر العربية). [36] انظر: عمرو الشوبكي. الأصولية - القاهرة: نهضة مصر، 2007م - ص 7 - (سلسلة الموسوعة السياسية للشباب؛ 5). [37] انظر: عمرو الشوبكي. الأصولية - المرجع السابق - ص 72. [38] انظر: محمد عمارة. الأصولية بين الإسلام والغرب - القاهرة: دار الشروق، 1418هـ/ 1998م - ص 7 - 9. [39] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 73 - 85. [40] انظر: عمرو الشوبكي. الأصولية - مرجع سابق - ص 71. [41] انظر: أوليفيه روا. عولمة الإسلام - بيروت: دار الساقي، 2003م - ص 141 - 174. [42] انظر: Stuart Sim. Fundamentalist: The New Dark Age of Dogma -. Cambridge: Icon Books -. 2005، p117. [43] انظر: صالح بن عبدالله بن حميد وعبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن ملوح، محرِّران. موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - ط2 - 12مج - الرياض: دار الوسيلة، 1420هـ/ 2000م - 5: 11569 - 1586. [44] انظر: صالح بن عبدالله بن حميد وعبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن ملوح، محرران. موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - المرجع السابق - 6: 2287 - 2300. فقد أورد الكتاب في السماحة ثماني عشرة (18) آية وأربعة وعشرين حديثًا وأربعة عشر أثرًا. [45] انظر: أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين - 3مج - بيروت: دار المعرفة، 1402هـ/ 1982م - 3: 70. [46] انظر: صالح بن عبدالله بن حميد وعبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن ملوح، محرران. موسوعة نضرة النعيم - مرجع سابق - 6: 2288. [47] انظر: مفرِّح بن سليمان بن عبدالله القوسي. العلاقة الفكرية الثقافية بين العالمين الإسلامي والغربي في العصر الحاضر: الحواجز والجسور - مرجع سابق - ص 107 - 132. [48] انظر على سبيل المثال: إسهامات ول ديورانت في قصة الحضارة، وجوستاف لوبون في حضارة العرب، ومراد هوفمان في إسهاماته في الإعلاء من شأن الإسلام، وقد أورد صالح بن عبدالرحمن الحصين شيئًا منها في كتابه: التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب - الرياض: مؤسسة الوقف الإسلامي، 1429هـ - 240ص، وبعض ما ورد ذكره في مراجع هذا البحث. [49] انظر: رضوان السيد وآخرين. من التسامح إلى احترام الآخر - ص 285 - 309 - في: حسين نصر وآخرون. التسامح ليس منَّة أو هبة - بيروت: دار الهادي، 1427هـ/ 2006م - 344ص. [50] انظر: عادل العوَّا. التسامح من العنف إلى الحوار - دمشق: دار الفاضل، 2002م - ص 116 - 125. [51] انظر: السد أحمد المخزنجي. العدل والتسامح في ضوء الإسلام - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م - ص 23 - 26 - (سلسلة مكتبة الأسرة، سلسلة الفكر). [52] انظر: شمس الدين الكيلاني. الإسلاميون وفكرة التسامُح - صحيفة الحياة - ع 17067 (9/ 1/ 1431هـ - 26/ 21/ 2009م) - ص 28. [53] انظر: جعفر عبدالسلام، محرر. التسامح في الفكر الإسلامي - القاهرة: رابطة الجامعات الإسلامية، 1425هـ/ 2005م - 240ص - (سلسلة فكر المواجهة؛ 13). [54] انظر على سبيل المثال: مفرِّح بن سليمان بن عبدالله القوسي. العلاقة الفكرية الثقافية بين العالمين الإسلامي والغرب في العصر الحاضر: الحواجز والجسور - مرجع سابق - ص 107 - 132. [55] انظر: حسين أحمد أمين. الطريق إلى تسامح دِيني حق - ص 24 - 38 - في: وليم سليمان قلادة وآخرون. التسامح الديني والتفاهم بين المعتقدات - القاهرة: مركز اتحاد المحامين العرب للبحوث والدراسات القانونية، 1986م - 158ص. [56] انظر: آرشي أوغستاين. وجهة نظر مسيحية: دفاعًا عن الجهاد حقيقة الجهاد - مرجع سابق - ص101. [57] انظر: عادل العوَّا. التسامح من العنف إلى الحوار - مرجع سابق - ص 127 - 169. [58] انظر: مناقشة مفهوم التسامح من منظور فكري غربي: عصام عبدالله. التسامح - مرجع سابق - 95ص. [59] انظر: عبدالله جان. حدود التسامح - ص 57 - 66 - في: خالد أبو الفضل وآخرين. مكانة التسامح في الإسلام - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م - 144ص. [60] انظر: صالح بن عبدالرحمن الحصين. التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب - مرجع سابق - ص 26. [61] المقصود العبارة الأصولية: "ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب". [62] انظر: عبدالله بن إبراهيم بن علي اللحيدان. سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين ونماذج من التعامل الاجتماعي في المملكة العربية السعودية - الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1429هـ/ 2008م - ص 14 - (سلسلة موقف الإسلام من الإرهاب؛ 6). [63] انظر: عادل العوَّا. التسامح من العنف إلى الحوار - مرجع سابق - ص 124 - 125. [64] انظر: حسين نصر وآخرون. التسامح ليس منَّة أو هبة - مرجع سابق - 344ص، وانظر أيضًا: خالد أبو الفضل وآخرين. مكانة التسامح في الإسلام - مرجع سابق - ص 144ص. [65] انظر: عادل العوَّا. التسامح من العنف إلى الحوار - مرجع سابق - ص 124. [66] انظر: علي رضا بهشتي. مفهوم التسامح - ص311 - 341 - في: حسين نصر وآخرون. التسامح ليس منة أو هبة - مرجع سابق - ص 344ص. [67] انظر: جون لوك. رسالة في التسامح/ ترجمة منى أبو سنة - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005م - 70ص - (سلسلة مكتبة الأسرة/ سلسلة الفكر؛ 2005). [68] انظر: جورج طرابيشي. هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية - بيروت: دار الساقي، 2006م - ص 216 - 217. [69] انظر: يوحنا نسيم يوسف. ساويرس الأشمونين: أول من استخدم اللغة العربية من الكتَّاب الأقباط - صحيفة الحياة - ع 17109 (22/ 2/ 1431هـ - 6/ 2/ 2010م) - ص 27. [70] انظر: ساويروس بن المقفع. مصباح العقل/ تقديم وتحقيق الأب سمير خليل - القاهرة: مطبعة العالم العربي، 1978م. [71] انظر: يوسف القرضاوي. الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه: رد علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين - القاهرة: دار الصحوة، 1408هـ/ 1987م - ص 48 - 50. [72] انظر: عبدالوهاب المسيري وعزيز العظمة. العلمانية تحت المجهر - دمشق: دار الفكر، 1421هـ/ 2000م - 334ص - (حوارات لقرن جديد). [73] انظر: عبدالوهاب المسيري. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - 2 مج - القاهرة: دار الشروق، 1423هـ/ 2002م - 1: 15. [74] المقصود بالعلمانيتين هنا العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. [75] انظر: ممدوح الشيخ. عبدالوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية - مرجع سابق - ص 223. [76] انظر: غي هارشير. العلمانية/ ترجمة رشا الصباغ، تدقيق حماد شحيد - دمشق: دار المدى، 2005م - ص 90 - 94. [77] انظر: عبدالوهاب المسيري. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - مرجع سابق - 1: 15 - 51. [78] انظر: غي هارشير. العلمانية/ ترجمة رشا الصباغ، تدقيق حماد شحيِّد - دمشق: دار المدى، 2005م - ص 79 - 106. [79] هناك رأي يرفض إطلاق كلمة "تعاليم" على الإسلام، ويرى حصرها على تعاليم الكنيسة، وإنما هي في الإسلام أحكام تطبق، لا تعاليم فحسب. [80] انظر: عبدالوهاب المسيري. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - مرجع سابق - 1: 15. [81] انظر: هنري بينا رويث. ما هي العلمانية؟/ ترجمة ريم منصور الأطرش ومراجعة جمال شحيد - دمشق: الأهالي، 2005م - ص 19 - 36. [82] انظر: جورج طرابيشي. هرطقات - 2 - عن العلمانية كإشكالية إسلامية - إسلامية - بيروت: دار الساقي، 2008م - ص 9 - 96، مع ملاحظة اتكاء المؤلف على عدد من الروايات التاريخية التي تدعم وجهته وتؤيدها، ولكن منها ما هو غير موثوق الرواية، وإن ورد ذكرها في بعض أمهات كتب التاريخ. [83] انظر: آرشي أوغستاين. وجهة نظر مسيحية: دفاعًا عن الجهاد حقيقة الجهاد - مرجع سابق - ص 108. [84] انظر: جورج قرم. أوروبا وأسطورة الغرب - بالفرنسية - انظر عرضًا عنه لدى: أحمد زين الدين. أوروبا وأسطورة الغرب صدر بالفرنسية: جورج قرم يواجه ثوابت الفكر الغربي - الحياة - ع 16842 (20/ 5/ 1430هـ - 15/ 5/ 2009م) - ص 28. [85] انظر: مفرِّح بن سليمان بن عبدالله القوسي. العلاقة الفكرية الثقافية بين العالمين الإسلامي والغربي في العصر الحاضر: الحواجز والجسور - مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي، 1429هـ/ 2008م - ص 13 - (سلسلة دعوة الحق؛ 226). [86] انظر: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. إستراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب - الرباط: المنظمة، 1422هـ - ص 57 - نقلًا عن: مفرِّح بن سليمان بن عبدالله القوسي. العلاقة الفكرية الثقافية بين العالمين الإسلامي والغربي في العصر الحاضر: الحواجز والجسور - المرجع السابق - ص 14. [87] انظر: زكاري لوكمان. تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط/ ترجمة شريف يونس - القاهرة: دار الشروق، 2007م - 428ص. [88] انظر: بوبي س. سيد. الخوف الأصولي: المركزية الأوروبية وبروز الإسلام - مرجع سابق - ص 41. [89] انظر: مرسي الأسيوطي. دراسة مقارنة في أصول وثوابت الثقافة الليبرالية بالمقارنة مع الثقافات المسيحية واليونانية واليهودية - القاهرة: مكتبة نهضة مصر، 2005م - ص 253 - 273. و316. [90] انظر: سليمان بن صالح الخراشي. حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها - د.م: د.ن.، 1429هـ - ص 14. [91] انظر: سليمان بن صالح الخراشي. حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها - المرجع السابق - ص 15 - 17. [92] انظر: ياسر قنصوه. الليبرالية: إشكالية مفهوم - مرجع سابق - ص 6 - 8. [93] انظر: مجموعة من المؤلفين. فلسفة الحرية: أعمال الندوة الفلسفية السابعة عشرة التي نظمتها الجمعية الفلسفية المصرية بجامعة القاهرة - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009م - 429ص. [94] انظر: فرانز روزنتال. مفهوم الحرية في الإسلام: دراسات في مشكلات المصطلح وأبعاده في التراث العربي الإسلامي/ ترجمة وتقديم معن زيادة ورضوان السيد. ط 2 - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2007م - ص 17 - 55. [95] انظر: رفعت السعيد. عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية - دمشق: دار المدى، 2002م - ص 19 - 155. [96] انظر: ديفد هارفي. الليبرالية الجديدة: موجز تاريخي/ نقله إلى العربية مجاب الإمام - الرياض: مكتبة العبيكان، 1429هـ/ 2008م - 406ص. [97] انظر: أشرف منصور. الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية - القاهرة: رؤية، 2008م - ص 5. [98] انظر: فؤاد السعيد وفوزي خليل. الثقافة والحضارة: مقاربة بين الفكرين الغربي والإسلامي/ تحرير منى أبو الفضل ونادية محمود مصطفى - دمشق: دار الفكر، 1429هـ/ 2008م - 216ص - (سلسلة التأصيل النظري للدراسات الحضارية؛ 4).
المنظومات العقدية عند أهل السنة والجماعة حتى نهاية القرن الثامن الهجري صدر حديثًا في طبعة جديدة كتاب " المنظومات العقدية عند أهل السنة والجماعة حتى نهاية القرن الثامن الهجري جمعًا ودراسة" ، تأليف: د. " خالد بن عبد العزيز النمر "، نشر: " وقفية التحبير بالمملكة العربية السعودية" ، توزيع: "دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع ". وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية نال بها المؤلف درجة الماجستير في العقيدة من جامعة الملك سعود بإشراف فضيلة الشيخ الدكتور " عبد الله بن دجين السهلي ". وفكرة هذا المصنف جمع وحصر المنظومات العقدية، حتى نهاية القرن الثامن الهجري، وبيان موضوعاتها، وتوضيح منهجها، وخدمتها خدمة علمية تليق بها، وذلك رغبةً في إظهارها والتعريف بها مع استقراء لمنهج السلف في تقرير مسائل الاعتقاد من خلالها. حيث جمع في تلك الدراسة ما نص على أنه منظومة أو قصيدة مستقلة، واشتمل هذا البحث على التعريف بإحدى وأربعين منظومة لأهل السنة منها إحدى عشر منظومة مخطوطة لم تطبع من قبل، وإحدى وعشرين منظومة في طيات الكتب، قل ما يُفطن لها، أو ينبه عليها، والباقي منها مفرد بالطباعة. ويرى الكاتب أن كثيرًا من هذه المنظومات غائب عن عامة طلبة العلم، فما يعرفه طالب العلم من منظومات أهل السنة والجماعة لا يتجاوز الخمس أو الست منظومات فحسب. وهذا الموضوع من الموضوعات ذات الجدة، كما أن دراسة هذه المنظومات في باب العقيدة خاصةً إظهار لما يتمتع به علماء أهل السنة والجماعة من قوة الحجة في بيان الحق، والرد على المخالفين، وعنايتهم البالغة بذكر الحجج النقلية والعقلية، وفي هذا قطع للطريق على من أراد أن يقلل من شأنهم أو يزهد الناس فيهم بزعم جمودهم على عبارات جافة وألفاظ مقلدة. وأما مصادر الكاتب فكانت أشهر كتب الاعتقاد التي صنفها علماء أهل السنة، ككتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لللالكائي، و"الشريعة" للآجري، و"الإبانة" لابن بطة، و"العلو للعلي العظيم" للذهبي، إلى جانب أن الكاتب قام بجرد أشهر كتب التراجم والسير والطبقات والتاريخ والمعاجم وتتبع ما أودعه العلماء فيها من إشارة إلى منظومات أهل السنة. كما قام بجرد فهارس المخطوطات والكتب التي تعني بذكر أسماء الكتب المصنفة ومؤلفيها وأماكن المخطوطات. وقد حرص الكاتب في التعريف بالمنظومة ومسائلها بطريقة يسهل معها للقارئ الخروج بتصور كامل عن المنظومة المعرف بها، بأسلوب سهل مختصر من حيث التعريف بالناظم وذكر المصادر التي ذكرت المنظومة أو أشارت إليها، وبيان عدد أبياتها والبحر الذي نظمت عليه، وذكر مطلع المنظومة، وعرض مجمل لبعض مسائل الاعتقاد التي حوتها، وبيان لعقيدة أهل السنة فيها، مع ذكر مظانها في كتب أهل العلم، والتعريف بمن ورد ذكرهم من الأعلام، وتخريج الآثار والأحاديث الواردة أو المشار إليها في تلك المنظومات، مع التنبيه على بعض المخالفات العقدية لطريقة السلف التي قد ترد في بعض أبيات تلك المنظومات، ورتب الكاتب هذه المنظومات في الفصل الأول تاريخيًا حسب القرون، وما كان منها في الرد على المبتدعة جعله في الفصل الثاني. ومن أهم تلك المنظومات التي أوردها الباحث في دراسته: • منظومة قواعد أهل السنة للزنجاني. • منظومة أبي الخطاب المقرئ. • عقيدة محمد بن طاهر المقدسي. • دالية الكلوذاني. • منظومة عروس القصائد في شموس العقائد. • منظومة الحسن بن جعفر الهاشمي. • منظومة بديع الزمان الهمذاني في مدح الصحابة والرد على من طعن فيهم. • منظومة الصرصري في الرد على الرافضة. • منظومة القونوي في الرد على القدري. • منظومة اليافعي الشافعي في الرد على السبكي. • منظومة جلاء الفصوص عن فهم كل تقي مخصوص. وللباحث إضافة إلى هذا المصنف كتاب " ضوابط فهم نصوص العقيدة عند أهل السنة والجماعة وفق معهود اللسان العربي " وهي أطروحته العلمية لنيل درجة الدكتوراه، منشورة أيضًا عن وقفية التحبير بالمملكة العربية السعودية.
من أشعار الحافظ السيوطي في مجالس الإملاء مِنْ عادة المحدِّثين ختمُ مجالس الإملاء بلطائف من الشعر والنثر، وممَّن جرى على هذه العادة الحسنة الحافظُ جلال الدين السيوطي (849-911)، وقد أملى (155) مجلسًا، وقفنا على بعضها. وكان تلميذُه الحافظ محمد بن علي الداودي المالكي (ت: 945) قد استخرجَ من هذه "الأمالي" كثيرًا مِن شعر شيخه فيها، وأوردَه في كتابه (المخطوط) "ترجمة العلامة السيوطي"، في (الباب الثامن) منه، وهو معقودٌ لـ "نظمهِ -غير النظم العلمي-، وشيءٍ من إنشائه وحكمه"، ورأيتُ نشرَ مقطوعاتٍ من هذا الشعر لفائدته العلمية والتربوية، ولإلقاء الضوء على مجالس السيوطي الحديثية، مُبيِّنًا بحر كل مقطوعة منه. قال الداودي رحمه الله: "فصل: ومِنْ نظم صاحب الترجمة -قدَّس الله روحه- في مجالس الإملاء: قال في المجلس الخامس: [من السريع] إنْ خفتَ يومَ الحشر أو هولَهُ ورمتَ أنْ تحظى بكلِّ المرامْ فعشْ على سُنَّة خير الورى مُقْتفيًا أهلَ الحديثِ الكرامْ هُمُ الأُلى يَنجون مِنْ هوله حين يُقادُون لدار السّلامْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس السابع: [من الخفيف] أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذاتِ وشديدِ الأهوالِ عند المَماتِ وافتتانِ القبورِ والضغطِ والحش ر وما فيه مِنْ عظيم الصِّفاتِ عجبًا لامرئٍ تذكّرَ هذا كيف يُلهيهِ فاخرُ الشَّهواتِ؟! ♦♦♦♦ وقال في المجلس الثامن: [من الكامل] إنَّ الثوابَ على الخُلوص مُعَوّلٌ أو فضلُ مَنْ إفضالُه ممدودُ فلئنْ فقدْنا نيّةً مَرْضيةً فالجودُ مِنْ ربِّ العلا موجودُ ♦♦♦♦ وقال في المجلس التاسع: [من السريع] لقد أتى في خبرٍ مسندٍ عن أحمدَ المبعوثِ بالمرحمَهْ [1] مَنْ حسَّنَ [الرحمنُ] مِنْ خَلقهِ أو خُلقهِ فالنارُ لن تَطعمَهْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الرابع والثلاثين بعد المئة: [من السريع] ارحمْ جميعَ الخلق إنْ رُمتَ أنْ تُرْحم في الحشر وتُعطى النَّعيمْ فقد روينا خبرًا مسندًا لا يدخلُ الجنةَ إلا رحيمْ ومَنْ يكن فظًا غليظًا يحدْ عن رحمة الله ويَصلى الجحيمْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الخامس والثلاثين بعد المئة: [من الرجز] إنْ رُمتَ أن تُرحمَ كن ذا رحمةٍ فإنما الرحمةُ مِنْ شأن التَّقي وقد روينا خبرًا معتبرًا لا تُنزع الرحمةُ إلا مِنْ شقي ♦♦♦♦ وقال في المجلس السابع والثلاثين بعد المئة: [من السريع] يا أيها العاجزُ ما أظلمَكْ لم تلف مَنْ للخير قد علَّمَكْ عجزتَ عن سهلٍ رفيعِ الذُّرى أعلاهُ ربُّ العرشِ لمّا سَمَكْ ظلمتَ نفسًا منك إذ لم تكن ترقى ولم تنصبْ له سُلَّمَكْ نزلتَ بالقسوة تحتَ الثرى تَظنُّ أنْ ترقى فما أوهمَكْ! ما ملتَ نحو الرِّفق في طرفةٍ ألم تخفْ ذا البطشِ أنْ يقصمَكْ ارحمْ عبادَ الله إنْ رُمتَ أنْ ينصرَك الرحمنُ أو يعصمَكْ فإنْ تدِنْ بالعفو تحظى بهِ والشاة إنْ رحمتَها يرحمَكْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس التاسع والثلاثين بعد المئة: [من الكامل] مَنْ كان مِنْ أهلِ الحديثِ فإنهُ ذو نضرةٍ في وجهه نورٌ سطعْ إنَّ النبيَّ دعا بنضرة وجهِ مَنْ أدّى الحديثَ كما تحمَّل واتَّبعْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الأربعين بعد المئة: [من الكامل] أهلُ الحديث لهمْ مفاخرُ ظاهرهْ وهمُ نجومٌ في البرية زاهرهْ في أيّ مصرٍ قد ثووا تلقاهمُ حقًا لأعداءِ الشريعةِ قاهرهْ بالنور قد مُلئتْ حشاشةُ صدرهم فلذا وجوههمُ تراها ناضرهْ وبضدهم تلك الفلاسفةُ التي غويتْ [وأغوتْ] [2] فهْيَ هلكى بائرهْ مُلئتْ بواطنُهم بآثارٍ أتتْ عن فرقةٍ بالرُّسلِ أضحتْ كافرهْ فقلوبُهمْ في ريبةٍ ووجوهُهمْ في ظلمةٍ ومردُّهمْ في الحافرهْ ناموا عن الدرج العُلا وتيقَّظتْ عينٌ لنا فإذا همُ بالسّاهرهْ باعوا أحاديثَ النبيِّ بمنطقٍ خسروا جميعًا في الدُّنا والآخرهْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الخامس والأربعين بعد المئة: [من الرمل] مَنْ أحبَّ اللهَ لا يسألْ سوى وجهه العالي ويتركْ كلَّ غَيرْ وليكنْ للهِ فردًا ذلة وليسرْ معْ [مَنْ] [3] إليه سارَ سَيرْ عند ربي كلُّ خيرٍ يُرتجى وسواهُ قد خلا مِنْ كلِّ خَيرْ مَنْ يقفْ بالباب يسألْه يجبْ ويُوقى ما اختشى مِنْ كلِّ ضَيرْ وهْوَ يهدي مَنْ إليه قصدُه وسواهُ مَنْ نواهم حارَ حَيرْ بانَ للألبابِ ما فيه الهُدى ونسيجُ الحقِّ قد ناروهُ نَيرْ ♦♦♦♦ وقال في المجلس السابع من التخريج على "الدرة الفاخرة" المنسوبة للغزالي، وهو السابع والثمانون من "الأمالي" عليها: [من الطويل] إذا احتُضِرَ الإنسانُ حفًّ به أولو مجالسه مِنْ أهلِ ذكرٍ أو اللغوِ فيا ربّ قرِّبنا من الخير والتُّقى وبعِّدْ بنا عن مجلس اللعبِ واللهوِ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الثامن من التخريج وهو الثامن والثمانون من "الأمالي": [من الكامل] لقِّنْ أخاك لدى الممات شهادةً لا تستهبْهُ ولا تلحَّ وتُبْرمِ مَنْ كان آخرَ ما يقولُ شهادةُ ال إخلاصِ يَخلدْ في الجنانِ ويُرْحمِ ♦♦♦♦ وقال في المجلس العاشر من التخريج وهو التسعون من "الأمالي": [من البسيط] يا مَنْ يرومُ حياةً لا ارتياح بها وقد تدفَّق بالأكدار صافيها في دار سجنٍ تُرى الأفراحُ ناقصةً وفي الهموم توافينا بوافيها الموتُ عندي ولُقيا صالحي سلفي أشهى إليَّ من الدُّنيا وما فيها ♦♦♦♦ وقال في المجلس الحادي عشر من التخريج وهو الثاني والتسعون من "الأمالي": [من الطويل] تصرمت الأعمارُ حِينًا تلا حِينًا وأكملتُ هذا اليومَ خمسا وعشرينا تمرُّ ليالي العُمْر كالبرق سرعةً ولم نستفدْ يا صاح دُنيا ولا دينا فلله عبدٌ لازمَ الخيرَ والتُّقى وحادَ عن الدنيا ولم يرتكبْ شينا وأيقظَ منه الطرفَ بعد رُقادهِ وفكَّر فيما في الشدائد يُنجينا ويأتي من الطاعات مبلغَ جهدهِ ويبدأ بالأولى وما هو يخطينا [4] ويتلو بالاستغفارِ ذنبًا، وسيئًا بحُسنى ولا يألو من الخُلْق تحسينا وإنْ نابهُ ضيقٌ وهمٌّ يدنْ له ويعلمُ أنَّ الأمر كُوِّنَ تكوينا يفوضُ للرحمن كلَّ أمورهِ ويتركُ تدبيرًا فيُوليه تهوينا فذاك الذي دنياه يقضي براحةٍ ويعطيه عند الموت بُشرى وتلقينا ويلقى من الرحمن كلَّ مرامهِ ويزدادُ في يوم القيامة تمكينا فيا ربِّ توفيقًا وعونًا وقوةً ورُشدًا إلى سُبْل النجاة وتبيينا وللهِ حمدي والصلاةُ على الذي بذكراه زادَ النَّظمُ والنثرُ تزيينا ♦♦♦♦ وقال في المجلس الثالث عشرَ من التخريج وهو الرابع والتسعون من "الأمالي": [من الطويل] تذكَّرْ أحاديثَ الممات فإنها تسَلِّي عن القلبِ الهمومَ وتُحييهِ وأقللْ من الضِّحك الذي ذُمَّ فعلُه إلى أنْ ترى نُزْلَ الكريمِ وتَحويهِ وعزةِ مَنْ أنشا الوجودَ ولم يكنْ ومُفني الذي أنشا جميعًا ومُحييهِ إذا ما حديثٌ في الممات رويتُه وددتُّ حلولَ الموتِ ساعةَ أرويهِ وأرتاحُ شوقًا للقاءِ وعفوهِ وخوفِ افتتانٍ بالذي ليس يُرضيهِ فيا ربِّ بلغْ كلَّ عبدٍ مرامَهُ وكلُ امرئٍ يُجزى بما هُوَ يَنويهِ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الرابع عشر من التخريج وهو الخامس والتسعون من "الأمالي": [من الطويل] تذكَّرْ إذا ما الموتُ وافاكَ وانثنتْ بك الأهلُ والأصحابُ تُسرعُ للقبرِ فإنْ كان خيرٌ قلتَ يا قومُ أسرعوا وإنْ كان شرٌّ قلتَ ويلٌ من الشرِّ فمَنْ كان يرجو ساعةَ الموتِ واللقا يقدّم جميلًا كي يُقدَّمَ للأجرِ ♦♦♦♦ وقال في المجلس السادس عشر من التخريج وهو السابع والتسعون من "الأمالي": [من الكامل] سعدَ الذين إذا المقابرُ زاروا زاد الهناءُ لهم وزال العارُ ورأوا هناك رياضَ حُسْنٍ ناضرًا ومن الحرير مفارشٌ ودثارُ إنَّ المماتَ محطُّ أرحالِ الورى فيه تساوى العبدُ والأحرارُ والقبرُ منزلُ كلِّ مَيْتٍ واردٍ ومقيلُ مَنْ لم تُزرهِ الأوزارُ والقبرُ إمّا روضةٌ أو حفرةٌ جاء الحديثُ بذاكَ والآثارُ ♦♦♦♦ وقال في المجلس الحادي والعشرين من التخريج وهو الثاني بعد المئة من "الأمالي" ما نصُّهُ: لطيفة: رأيتُ في النوم في العام الماضي -يعني تمام أربعٍ وسبعين وثمانمئة - أنني أملي حديثَ السؤالِ، وأني أقول في آخره: وأمّا الفاسقُ فيُمتحن بما كان يعملُ في الدنيا، أو كلمة تشبه هذه، ولعمري وهذا -وإنْ لم يُذكر في الحديث حتى تعرَّض له بعض الأئمةِ وسأل عن حكمهِ لأنَّ المسؤول إمّا مؤمنٌ فيجابُ بالنعيم وإلا فيجاب بالجحيم، فهل المؤمنُ الفاسق كالأول أو لا؟ فلا يبعد أنْ يُقال: إنه يسألُ عما كان يفسق به، بأنْ يقال مثلًا لتارك الصلاة: ما تقولُ في الصلاة؟ ونحو ذلك، ثم يَرى مقعده في الجنة ويُخبرُ أنه مقعده بعد المجازاة على فسقهِ، ثم وجدتُّ حديثًا يُشعر بذلك ففي "الفردوس" [5] من حديث ابن عباس: "إذا أمرَ اللهُ ملكَ الموت بقبض أرواح من استوجبَ النارَ من مذنبي أمتي قال: بشِّرهم بالجنة بعد انتقامِ كذا وكذا على قدرِ ما يحبسون في النار"، وبيَّض له في "مسنده" فلم يذكر له إسنادًا. وأنشد لنفسه: [من الكامل] آمنتُ باللهِ الذي خلقَ الوجو دَ وأرسلَ الرُّسْلَ الكرامَ إلى الورى ومحمدٍ خيرِ الخليقة مَنْ أتى للعالمين مبشِّرًا ومحذرا وبفتنةِ الملكين والتعذيب والتْ تسآل للإنسان إذ هو أُقبرا والبعثِ والحشرِ العظيمِ وهولهِ والوزنِ للأعمال وزنًا حرّرا والحوضِ والمَرِّ الفظيعِ على لظى فوق الصراط فيا سعادةَ مَنْ جرى وبجنةٍ للمؤمنين هنيئةٍ والكافرون لهم جحيمٌ سُعِّرا وتزاورِ الأعلين في درجاتهم وحلولِ رضوانٍ عليهم أكبرا وبرؤيةِ الرحمنِ كلَّ عَرُوبةٍ أو كلَّ يومٍ مرتين لمَنْ سرا ♦♦♦♦ وقال في المجلس الحادي والثلاثين من التخريج وهو الثاني عشر بعد المئة من "الأمالي": [من الكامل] زوروا القبورَ لِلاعتبار بحالها ولتأنسَ الأمواتُ حين تُسلِّموا فالروحُ يدرك ما يكونُ وفي الثرى منها شقيٌّ بائسٌ ومنعمُ والعبدُ ينظرُ مرتين محلَّه في كل يومٍ كي يُسَرَّ المُسلمُ واللهُ أرحمُ ما يكون بعبدهِ إذ أهلُه في حفرةٍ قد سلَّموا واللهُ أكبرُ أنْ يعذِّبَ مؤمنًا ما كان يَطغى في العباد ويَظلمُ [1] في الأصل: بالرحمه. [2] مِنْ كتاب "ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر " لابن طولون ص 252 (نسخة دار الكتب المصرية الحديثة). [3] زيادة مني. [4] كذا، ولعل الصواب: يحظينا. [5] لم أجده في غيره.
صدر حديثا من كتب السنة وعلومها (140) 1- الأمالي الأربعين في أعمال المتقين، للحافظ العلائي، تحقيق أ.د محمد إسحاق إبراهيم، 3ج. 2- الاستذكار بأحاديث كتاب الأذكار، للقسطلاني، تحقيق أ.د محمد إسحاق إبراهيم. 3- تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين، لزكريا الأنصاري، تحقيق محمود صالح علام، شجرة الكتب. 4- قيام الليل، للإمام ابن الجوزي، تحقيق محمد الخولي، حسن الصباغ، خالد الشوربجي، دار المحدث، دار الأوراق. 5- المهيأ في كشف مناهج شراح روايات الموطأ، دراسة تطبيقية مقارنة في باب المعاملات المالية، تأليف د. محمد عز الدين الشيباني، مؤسسة الرسالة، رسالة دكتوراه. 6- الأحاديث العوالي والمسلسلة من أسانيد الحافظ ضياء الدين المقدسي، تحقيق نادر بن عمر بله جي، دار المقتبس. 7- الصناعة الحديثية في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، تأليف د. رزان محمد عرفة، دار المقتبس. 8- الوفاء بأسماء النساء: موسوعة تراجم أعلام النساء في الحديث النبوي، تأليف د. محمد أكرم الندوي، دار المنهاج، دار طوق النجاة، 43ج. 9- الإيماء إلى طرق التحمل والأداء، تأليف د. محمد بن زايد العتيبي، دار الفتح للدراسات والنشر. 10- تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الآثار، لابن العجمي الوفائي، تحقيق د. محمد بن محمد خير هيكل، مؤسسة الرسالة ناشرون. 11- كفاية القاري بشرح ثلاثيات البخاري، لحميد الدين السندي، حققه أبو البركات السندي، دار الرياحين. 12- ختم عمدة الأحكام الصغرى لعبدالغني المقدسي، إعداد شعبان العودة، دار اليسر. 13- محاسن الإفادة في أحاديث العيادة، لأبي الحسن الصديقي البكري، تحقيق د. إياد العكيلي، دار المستقبل. 14- محو الأوزار بفضل الاستغفار، لأبي الحسن الصديقي البكري، تحقيق د. إياد العكيلي، دار المستقبل. 15- حقوق الطفولة في السنة النبوية المطهرة، تأليف د. محمد سعد عبدالمعبود، دار الإحسان للنشر والتوزيع.
قصة موسى عليه السلام (11) قارون وطغيان المال كان قارون من قوم موسى ومن أبناء عمومته، لكنه نحا منحى آخر مغايرًا لما كان عليه بنو إسرائيل، فكان ممالئًا لفرعون ومناصرًا له، بل وعينًا له على بني قومه؛ لذلك حظي من قِبل فرعون بالتكريم وإطلاق يده في العمل وجني ما يشاء من الأموال، وكان يحاول أن يكون في الظاهر مع موسى، ولكنه كان كارهًا له، وكان مع فرعون قلبًا وقالبًا؛ لذلك قرن اسمه مع فرعون وهامان، فكانوا الثلاثي المغضوب عليه، الذين ذكروا في سورتين: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 23، 24]، ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 39]. وسنستعرض ما ورد بالتفصيل بشأنه في سورة القصص، قال الله تعالى مخبرًا عن قارون وثروته وغناه وكفره ونهايته: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ﴾ [القصص: 76]، فكيف كان بغيُه على قومه؟ قيل: بالكِبْر والعلو وكثرة المال، ولكن الشيء الأهم من هذا والذي يحط من قدر الرجل هو الانضمام إلى عدوهم واتخاذهم سلَّمًا يصعد عليهم ويحطمهم ليربح ويجني من وراء ذلك المكاسب، وهذا يؤكده قول من قال: إنه كان عاملًا لفرعون على بني إسرائيل، فتعدى عليهم وظلمهم، وقد جمع ثروته الضخمة من هذا العمل، وقيل: كان يعمل بالكيمياء فجمع ثروته منها، ولكن هذا بعيد، والأول أقرب للصواب، وقد جمع الله هؤلاء الثلاثة "فرعون وهامان وقارون" في آية واحدة؛ لعملهم معًا في البغي والكفر والإجرام، لقد أقام قارون في مصر، وفيها جمع هذه الثروة، وقد حسَد موسى على نبوته؛ لأنه كان قريبه، وربما كان أكبر سنًّا منه، حيث ورد أنه كان ابن عم موسى، وهذا قول أكثر أهل العلم، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما، وقال ابن إسحاق: كان عم موسى، وكان يسمى النور؛ لحسن صورته، وقيل: ابن خالة موسى، ولكن عدو الله نافَق كما نافق السامري، ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76]، وقد قيل في حقيقة ثروته أقوال كثيرة، لكن ما أراه أنه خدم فرعون فنال منه المكافآت والأعطيات على جمع الضرائب من بني إسرائيل، والمال يجلب المال، حتى ملك الكنوز التي لها أبواب ومغاليق يحتاج حملُها إلى العصبة من الرجال الأقوياء الأشداء، وقد اختلف في عدد العصبة، والذي يناسب روح الخبر أن العدد يزيد على العشرة، وأما من فسر المفاتح بالخزائن فقد أبعد عن القصد؛ لأن المفتاح معروف لفتح الأقفال، ومَن ذكر آية: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ [الأنعام: 59] بأنها الخزائن فقد أبعد أيضًا؛ لأن هذه الخزائن ليست سائبة، وإنما لها مغاليق، والمغلاق له مفتاح، ومفاتح الغيب علم لا يعلمه إلا الله؛ فهو الذي استأثر بهذا العلم، ومفاتيحه معه، فلا يقل أحد: إني أعلمها، فذلك مستحيل، وهي: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، وقد يكون المفتاح أداة أو آلة، وقد يكون معنويًّا، رمزًا أو كلمة أو عبارة، وفي هذا المعنى أخرج البخاري أنه قيل لوهب بن منبه: أليس "لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟" ، قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك، وقصد هنا تتمتها "محمد رسول الله" ، والعمل بما قرَّرَتْه الشريعة، كما أخرج الترمذي وأحمد وأبو داود وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مِفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) )، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء) )، وعن أبي الدَّرداء قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشرَبِ الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر) )؛ أخرجه ابن ماجه، وفي العصر الحديث فإن المفتاح له معانٍ متعددة، منها المفتاح الأداة الذي نحمله لفتح الأقفال، والمفتاح رمز رقمي أو بالحروف؛ كمفتاح الشيفرة، أو مفتاح خط الهاتف الدولي والمحلي، وهكذا.. ولنعُدْ إلى قصة قارون: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، والفرَح هنا ليس بمعنى السرور، وإنما عنى بالفرح: البطَر والتعالي والكِبْر، وهذه من الأمور المنهي عنها، وفي الحديث الشريف الذي يرويه أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظَمة إزاري، فمَن نازعني واحدًا منها قذفته في النار) )؛ أخرجه أبو داود، لقد بلغ الكِبْر والبطر عند قارون مبلغه، فلم تعُدْ تسَعه أرضٌ مِن تعاليه على الناس، وبذخه، والظهور بمظهر التميز، واختراع أنواع الزينة والحلي، والتجمل بها، مع ملابس حريرية ذات ألوان مبهرة، وتزيين لمراكبه بالسروج، وأنواع اللجم المفضضة، فنسي بهذا آخرته التي لم يحسُبْ لها أي حساب، ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، وهذا أفضلُ مِن التكبُّر والفرح والتعالي على عباد الله؛ أي: اطلب رضاء الله بالعمل الصالح الموصل للآخرة بسلام، وأما الدنيا فلا مانع أن تأخذ منها حاجتك التي تقوِّي إيمانك وتزودك بالحسنات؛ لترقى بها إلى عالم الصالحين، ومنازل الأخيار، ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، وعليك أن تذكر إحسان الله وفضله عليك إذ جعلك في هذا النعيم، ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]؛ فالله سبحانه وتعالى استخلف آدم وذريته على هذه الأرض لإعمارها؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، وعليه فإن اللهَ لا يحب المفسدين المخربين لِما خلق الله في الكون من جمال وموادَّ لا تحصى لخدمته وليسخرها بمعرفته وما فيها من خواصَّ لتذلل له سبل الحياة، فالساعون لإفساد نظام الكون والعبث بقوانين الله في الأرض وسفك الدماء هم مِن أكثر الناس بعدًا عن رحمته، وهم المغضوب عليهم والمحرومون من جنته، فكان جواب قارون على النصح والإرشاد والعقلانية التكبُّر والتعالي، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، لقد نسب ما يرفل فيه من النعيم إلى شخصه وعلمه وجهده، وكأن له من الأمر شيئًا، وأن من يمرض ويضعف ويهرم وينام ويتعب ويموت، هو مخلوق بادي الضعف، عبد تابع ليس له من الأمر شيء حتى وإن ملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فهي لا تدفع عنه ألم ضرس، ولا داء خطيرًا، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 46]، ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78]، وهذا الخطاب له لأنه كما ذكر كان متعلمًا دارسًا، له اطلاع على تواريخ الأمم وما حدث لها من عقوبات لقاء الجحود والكفر، هو من قوم موسى، سمع ما تناقله الرواة عن قوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، وهذه الآية تدل على أن هلاك قارون في مصر كان قبل هلاك فرعون، وإلا لكان ذكَّره بمصيره كما ذكَّر قوم شعيب بهلاك جيرانهم قوم لوط: ﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]، ثم ختمت الآية بقاعدة عامة: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، فلقد سُجِّل المجرمون في قائمة أهل النار، "وليس بعد الكفر ذنب" ، فهؤلاء العتاة لا يطهرهم إلا النار؛ لكثرة جرائمهم، فعن أي شيء يسألون، وكل جريمة مما اقترفوه تودي بهم إلى النار، وقد ارتسم على جباههم سمات الشر، وأتوا سود الوجوه، زرق العيون، وهذا قارون واحد منهم، وسيأتي بعده ألوف، بل وملايين من هذا الصنف الذي شط به البعد عن الأهلية والإنسانية، بل قد يصدر عن الحيوان المفترس أحيانًا ما يدل على وجود نقطة مضيئة، بخلاف السجل المعتم المدلهم الطويل لعتاة المجرمين، فليس فيه بارقة من ضياء، ولكن قارون ظل يحمل في أعماقه الكبر والتعالي والاعتداد بثروته التي يشمخ بها على الناس، ويجعلها واسطته لتسليط الأضواء عليه لكي يلهج الناس بذكره، ويبقى حديث المجالس، فلا يذكرون سواه، يتحدثون عن ثروته وبغاله وزينته ورفاهيته وجواريه، ويطغى الحديث عنه على كل حديث آخر، ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾ [القصص: 79]، وقد وصفت هذه الزينة وصفًا حلق الخيال فيها إلى أقصى غاياته وتصوراته، فذكر من الذهب والفضة والمجوهرات والملابس والحرير الآلاف المؤلفة، وكأن كل شيء منها في العالم كان قد جعل في حيازة قارون، ومع كل هذا فقد وجد في هذه الدنيا من هو أكثر غنى من قارون، ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78]، فلم يكن في زينته سبقًا في الزمن، ولا الأغنى من الناس، وإنما كان هذا مثلًا وأنموذجًا في بني إسرائيل ظهر فيهم للعبرة، فقد وصل إلى منتهى الآمال في الغنى والثروة أو كاد، ولكن في هذه الدنيا لا يبقى الغني على غناه ولا الفقير المحروم على فقره وحرمانه؛ فتغيُّر الأحوال وعدم ثباتها من صفات هذه الدنيا، فلا يغتر بها مغرور، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ﴾ [القصص: 79]، مثل هؤلاء المتمنِّين هم الكثرة الغالبة في كل مجتمع وعصر، ينظرون إلى الآخرين نظرة محدودة سطحية ليس فيها تعمق وتفكر، يحسبون كل غني محظوظًا وكل ذي سلطان سعيدًا، وقد تكون الدنيا منتهى سعادتهم، ولكن ما بال الآخرة ينساها هؤلاء، فهي الدار الباقية، وفيها النعيم الدائم الذي لا يعادله نعيم في الدنيا مهما علا وارتقى وبلغ الأوج، وما هو ببالغه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار، فيقال: اغمسوه في النار غمسة، فيغمس فيها، ثم يقال: أيْ فلانُ، هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد المؤمنين ضرًّا وبلاء، فيقال: اغمسوه غمسة في الجنة، فيغمس فيها غمسة، فيقال له: أيْ فلانُ، هل أصابك ضر قط أو بلاء؟ فيقول: ما أصابني قط ضر ولا بلاء))؛ أخرجه ابن ماجه. فلا يغتر أحد بالدنيا ومظاهرها وما عليه بعض ذوي الثراء الفاحش ممن يسمون "مليونير وملياردير" ؛ فالعبرة بالعمل الصالح الموصل في نهاية هذه الدنيا إلى جنان الله ونعيمها؛ فالدنيا عرَض زائل مع ما فيها من شقاء أو سعادة، وقال المتمنون السطحيون الذين يحلمون أن يكونوا مثل قارون: ﴿ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79] هكذا الحظ وإلا فلا، لسان حال السطحيين الذين لا ينظرون إلى الدنيا إلا من زاوية المال التي تُعمي الأبصار عن الآخرة التي ينبغي ألا تغيب عن كل ذي عينين، فما معنى الموت الذي يعمل عمله في الناس؟ فليس فيه استثناء ولا تجاوز، وإنما هو طريق الجميع "كفى بالموت واعظًا لك يا عمر" ، فهل تمنى المؤمنون أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون؟ لم يفكروا بقارون ولا بثروته، بل إنهم رثَوْا لحال قارون وما سيواجهه من مصير أسود، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]، هذا هو موقف أهل الإيمان، نظرة تعفف ذاتية ونصح للآخرين الذين ينخدعون بالمظاهر، وتنبيه لهم بأن هذا الذي ترونه متبَّرٌ زائل، لا يساوي عند الله جَناح بعوضة، وهو استدراج لقارون وأمثاله، وأي استدراج، إنه من النوع القاتل المهلك الذي يغري صاحبه فيخرجه من حالة العقل المتزن المفكر إلى جنوح الفكر وهلوسة التصور، وضبابية الرؤية، وإلى حالة من الاعتقاد بأنه فوق الإنسان وقدراته، وأنه صانع هذا الثراء بعلمه وعبقريته، فهو يستطيع فعل أي شيء خارق، وهو لم يصل إلى هذا الحد إلا بذكائه الخارق الذي يفوق كل ذكاء بشري، أو ما فوق البشري، حتى إذا وصل إلى هذه الطريق ولم يعد بمقدوره العودة إلى طبيعته الإنسانية جرده الله من كل شيء ونتفه وهو في عليائه وتركه مقصوص الجناحين ليهوي من حالق محطَّمًا ذليلًا ضعيفًا وقد كتب عليه الشقاء الأبدي؛ ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81]، فكان جزاءُ التعالي والكِبْرِ الهويَّ والخسف لأسفل سافلين، ﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81]، فبعد النهاية الحتمية لقارون حيث الخسف وابتلاع الأرض له أمام جمع من الناس وهو يصرخ ويستغيث ولكن ليس من مغيث، الأمر أمر الله، وليس من مغيث سواه، وفي قصة نهاية قارون حيث حفر بيده قبره ورد ما يلي: "أن قارون قد حقد على موسى لنبوته ومحبة بني إسرائيل له، فأراد أن يدبر مكيدة لموسى، فاستأجر بغيًّا وأغراها بالمال على أن تقول: إن موسى زنى بها، واتفق معها على أن تأتي في جمع من الناس يكون فيه موسى، ثم جاء قارون إلى موسى وقال له: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال موسى: نعم، فجمعهم فقالوا له: ما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا - ذاكرًا أساسيات الشريعة، فقال قارون: يا موسى، ما حد من سرق؟ قال: تقطع يده، فإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فما حد من زنى؟ قال: أن يرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فإنك قد فعلت، قال موسى: ويلك! بمن؟ قال قارون: بفلانةَ، فدعاها موسى، فقال: أنشدك بالله أنا فعلت بك ما يقولون؟ قالت: لا، وكذبوا، ولكن جعلوا لي جُعلًا - أجرًا - على أن أقذفك بنفسي، فوثب موسى فخر ساجدًا وهو يبكي، فأوحى إليه ربه: ما يبكيك يا موسى؟ قال: يا رب، عدوك لي مؤذٍ أراد فضيحتي، يا رب، سلطني عليه، فقال: ارفع رأسك؛ فقد أمرت الأرض أن تطيعك، فقال موسى: يا أرض، خذيهم، فاضطربت الأرض فأخذت قارون ومن معه حتى بلغوا الكعبين، فقال قارون: يا موسى، ارحمني، قال: يا أرض، خذيهم، فاضطربت داره وساخت، وخسف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسى، وموسى يقول للأرض: خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه. قيل: عاتبه ربه، قال: يا موسى، ما أفظَّك! أما وعزتي وجلإلي، لو إياي نادى لأجبته، ولكن إرادة الله اقتضت عقاب قارون بالخسف فهو يتدهده في الأرض. وردت هذه القصة في التفاسير بروايات متقاربة، ولكن يعوزها الدقة في اختيار الكلمات، وعلى سبيل المثال: "ناشد موسى البغي بالتوراة"، وهذه العبارة تدل على أن القصة حصلت في سيناء؛ لأن التوراة نزلت في سيناء، ولو أنه ناشدها بالصحف لكان أولى؛ لأن الصحف نزلت على موسى في مصر، وهي مرحلة أولية تتناسب مع دعوة موسى في مصر، ثم تبعها في سيناء نزول التوراة كاملة، والآية: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81] تدل على الإقامة في مدن، وهذا يعني أنها حصلت في مصر، فالذي لا يعنيه المكان من المفسرين سرد القصة كما سمعها دون تدقيق، سواء أورد فيها ما يدل على حدوثها في سيناء تارة أو في مصر تارة أخرى دون التنبيه لورود الأمرين معًا. وهناك دلائل ترجح حدوثها في مصر أكثر من حدوثها في سيناء، منها: ♦ آية: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78]، وهي تدل على أنه هلك قبل فرعون، ولو هلك هو بعده لذكَّره به، على نهج ما ذكَّر به قوم شعيب: ﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]. ♦ أنه لم يرِدْ في العبور أن قارون عبر ببغاله وذهبه، كما لم يرد له ذكر عندما صنع السامري العجل من الذهب، ولكان الأولى أن يأخذ من ذهب قارون. ♦ لا يعقل أن يخرج قارون من مصر مع بني إسرائيل - وهو عين فرعون على قومه - دون أن يخبر فرعون بأمرهم، ويعلم أنهم خرجوا سرًّا. ♦ يوجد في مصر بركة ناتجة عن خسف، سُمِّيت باسم قارون، وهي المكان الذي كان يعيش فيه، فهي شاهد قوي. ♦ إن هذه الكنوز وما فيها لا تتحقق إلا في بلد مستقر، وبنو إسرائيل زمن موسى لم يستقروا. ♦ ذكر في القُرْآن الثالوث البغيض معًا في آيتين "فرعون وهامان وقارون"، دليل عملهم المشترك ضد موسى وقومه. ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82]، وصحَا مَن تمنَّوا مكان قارون من أحلام اليقظة بعدما رأوا الخسف عيانًا، فقالوا والدهشة المشوبة بالخوف تتملكهم، فأقروا أن الأمر كله بيد الله، هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء، ولا يعني كثرة الغنى لشخص ما أنه مقرب من الله محبوب، ولا التقتير على شخص ما أنه مبعَد من الله غير محبوب؛ فالإيمان والعمل الصالح الذي يختم به العبد آخرته هو الذي يقرر مصيره في الآخرة، وأن القاعدة في هذه الدنيا: أن الكافر خاسر لن يرى الفلاح. مثال ما ذكره أهل التفسير والسير نصًّا: ورد في كتاب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني ما يلي: "وقد أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: كان موسى يقول لبني إسرائيل: إن الله يأمركم بكذا، حتى دخل عليهم في أموالهم - أخذ منهم الزكاة - فشق ذلك على قارون، فقال لبني إسرائيل: إن موسى يقول: من زنى رجم، فتعالوا نجعل لبغي شيئًا حتى تقول: إن موسى فعل بها، فيرجم، فنستريح منه، ففعلوا ذلك، فلما خطبهم موسى قالوا له: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، فقالوا قد زنيت، فجزع، فأرسلوا إلى المرأة، فلما جاءت عظم عليها موسى، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل إلا صدقت، فأقرت بالحق، فخرَّ موسى ساجدًا يبكي، فأوحى الله إليه: إني أمرت الأرض أن تطيعك، فأْمُرْها بما شئت، فأمَرها، فخسفت بقارون ومن معه، وكان من قصة قارون أنه حصَّل أموالًا عظيمة جدًّا، حتى قيل: كانت مفاتيح خزائنه من جلود تحمل على أربعين بغلًا، وكان يسكن تنِّيس، فحُكي أن عبدالعزيز الحروري ظفر ببعض كنوز قارن وهو أمير على تنِّيس. تعليقي على النص: ورد أن موسى استحلف المرأة بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، ثم ورد أن قارون كان يسكن في تنيس، ومن المعلوم أن تنيس في مصر، وهي بالفعل مسكن قارون، وكانت عاصمة الفراعنة، أو من كبرى مدنهم، فبها خسفت الأرض، وهذا يدل على أن قارون قد هلك قبل عبور بني إسرائيل البحر، فكيف يسأل موسى المرأة بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وهذا حدث في خروج بني إسرائيل النهائي من مصر. مِن هذا التناقض يتبين أن المفسرين كانوا يجمعون المادة دون تمحيص؛ حيث لم يكن يعنيهم سوى القصة دون النظر إلى مكان الحدث.
المضامين الدعوية في تفسير الشيخ عبدالرحمن الدوسري لعابد العيلي صدر حديثًا كتاب "المضامين الدعوية في تفسير الشيخ عبدالرحمن الدوسري" ، تأليف: "عابد بن عبد الله العيلي العتيبي" ، إشراف: "خالد بن عبد الله القرشي" ، نشر: "دار العقيدة للنشر والتوزيع" . وهذا الكتاب رسالة جامعية تتضمن دراسة موضوعية في المضامين والدلالات الدعوية في تفسير الشيخ عبد الرحمن الدوسري (ت 1399 هـ) ، والمسمى بـ "صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم" . وقد نوقشت الرسالة لنيل درجة الماجستير في تخصص الدعوة والثقافة الإسلامية من كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، وذلك عام 1438 هـ / 2016 م. والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن خلف بن عبد الله بن فهد آل نادر الدوسري الشهير باسم عبد الرحمن الدوسري (1332هـ/1914م - 1399هـ/1979م) هو أحد أعلام الدعوة السلفية في شبه الجزيرة العربية، ولد في مدينة البحرين عام 1332 هـ، ونشأ في الكويت، وطلب العلم في المدرسة المباركية بالكويت، وكانت في أول نشأتها تفوق المعاهد والكليات العلمية الدينية؛ حيث كان الحفظ فيها إجباريًّا عن ظهر قلب، ولا يخرج منها الطالب إلا وهو حافظ للثلاثة الأصول مع بعض شرحها، وحافظ للدرة المضية نظم السفاريني (209) بيت في التوحيد، وحافظ للرحبية والبرهانية في الفرائض، ومنظومة "هدية الألباب في جواهر الآداب" للشيخ محمد الجسر، ومنظومة "الآداب المشهورة" لابن عبد القوي، ولامية ابن الوردي، ولامية العجم، وقصائد كثيرة متنوعة، قد حفظها عن ظهر قلب، وحفظ من متون الفقه "دليل الطالب" ومجموعة من عبارات غيره، وحفظ القرآن الكريم، وكان لصعوبة تحصيله كل الكتب يحفظ ما يعجبه بمجرد العثور مجلوبًا في السوق يطلب من صاحبه السماح بتصفحه، وقد حفظ جملة من أحاديث منتقى الأخيار، ومجموعات أخرى من غيره، ودرس السيرة النبوية، وطرفًا من التاريخ، وحفظ شيئًا كثيرًا من الكافية الشافية نونية ابن القيم، ولو ظهر توضيح الشيخ عبدالرحمن السعدي لها، لتقدم لحفظها كلها، ولكن عدم فهمه لبعض معانيها جعله لا يحفل بحفظها. قرأ في المدرسة المباركية على عدد من العلماء هم: "عبد العزيز الرشيد" ، و "محمد بن أحمد النوري الموصلي" ، و "يوسف بن عيسى القناعي" ، و "محمد خراشي المصري" . وقد مكث في المدرسة المباركية سبع سنين، وبعد خروجه منها درس التوحيد والفقه على يد "عبد الله بن خلف الدحيان" و "صالح بن عبد الرحمن الدويش" ، وأثناء تردده إلى البحرين كان يقابل "قاسم بن مهزع" ويتدارس معه. ويُذكر أنه تأثر بعبد الله بن خلف الدحيان وقاسم بن مهزع تأثرًا كبيرًا. وأخذ العلم أيضًا عن محمد سليمان الجراح. وبعد خروجه من المدرسة المباركية، أصبح يزاول البيع والشراء مع والده في تجارة "البشوت (المشالح)" ، ولم ينقطع من الدراسة الحرة عن طريق القراءة ومقابلة العلماء. واستمر في هذه التجارة حتى استقل بها عن والده سنة 1375هـ/1956م. وقد أمضى في الكويت خمسين سنة من حياته ثم انتقل إلى مدينة الرياض في السعودية في 12 صفر 1382هـ/14 يوليو 1962م واستقر بها حتى وفاته في 16 ذو القعدة 1399هـ/7 أكتوبر 1979م. ثم بعد خروجه من هذه المدرسة - المباركة في زمنها - درس الفقه والتوحيد على الشيخ المرحوم عبدالله بن خلف الدحيان، وعلى الشيخ صالح بن عبدالرحمن الدويش رحمه الله، وفي أثناء سفراته للبحرين يحظى بمقابلة الشيخ العلامة قاسم بن مهزع، ويتدارس معه البحوث المهمة. وقد تأثر بهذين الشيخين: عبدالله بن خلف، وقاسم بن مهزع - رحمهما الله تعالى. وقد صار له نشاط في نشر العلم والتوعية الروحية بإلقاء المواعظ والمحاضرات المتوالية في المساجد والمدارس والأسواق، ويعطي كل موقف حقه الملائم له؛ بحيث لا يلقي في المدرسة شيئًا مما يلقيه في المسجد، بل يلاحظ المناسبة ويرعى الاختصاص، وكانت الأسئلة تنهال عليه، فيجيب على بعضها شفهيًّا في وقفته مهما طالت، ويكتب باقي الأجوبة في الصحف عند ضيق الوقت عن الإجابة الشفهية، وله نشاط في تدعيم العلم الروحي وخدمة الدين بشراء مجموعات كبيرة من الكتب وتوزيعها على حسابه الخاص على مكتبات المدارس والجامعات، وغيرها من المكتبات العامة الهامة، كل ذلك يحتسبه لله. وللشيخ ولع بتتبع المذاهب المعاصرة المناقضة للإسلام وهدم أسسها، ومنها الماسونية والشيوعية والجمعيات اليهودية، واهتم بعلوم المناظرة والردود، وأثر ذلك ظاهر في كثير من مؤلفاته. ومن رسائله النافعة التي وضعها : تفسيره "صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير القرآن العظيم" وهو تفسير للقرآن الكريم صرف فيه - رحمه الله - جزءًا مهمًّا من وقته في سنينه الأخيرة في كتابة تفسيره للقرآن الكريم الذي أسماه: (صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم) ، وأُذيع معظمه على شكل حلقات في إذاعة المملكة العربية السعودية، فلقي إقبالًا ورواجًا بين أهل العلم والفضل، وفارق الحياة قبل أن يتمه، ورسالة "الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة" ، و "الجواهر البهية في نظم المسائل الفقهية على مذهب الحنابلة الأحمدية" وهي قصيدة تشتمل على اثنا عشر ألف بيت، و "إيضاح الغوامض من علم الفرائض" وهي قصيدة يبلغ عدد أبياتها حوالي 1048 بيتًا، ورسالة "نفثات داعية" ، و "مشكاة التنوير حاشية على شرح الكوكب المنير" (في علم الأصول) ، و "كيف نحارب إسرائيل: اليهودية والماسونية وكيفية المواجهة" ، و "النظم المرنيّ في الرد على الشاعر القرويّ" ، و "السيف المنكي في الرد على حسين مكي" ، و "يهود الأمس: سلف سيء لخلف أسوأ" .. وغيرها. وكان - رحمه الله - داعية حق، بان ذلك في كثير من مواقفه الحياتية حيث كان - رحمه الله - في وصيته مثالًا لأهل الخير وقدوة جديرة بالاتباع، فقد أوصى بثلث ماله للجمعيات والمراكز الإسلامية القائمة بأمر الدعوة إلى الله، وفي نشر الكتب والمنشورات الإسلامية وفي إطعام المحتاجين من الفقراء والمساكين وسائر القربات، مع مراعاة الأهم فالأهم حسب الترتيب الذي ذكره. وقد تتبع الباحث في هذه الدراسة أهم تلك الملامح والمدلولات الدعوية في تفسير الشيخ عبد الرحمن الدوسري، والذي بدأ فيه من سورة الفاتحة حتى المائدة، وتوفي قبل إتمامه، حيث جاءت تلك الدراسة في تمهيد وعدة فصول على النحو التالي: تناول في التمهيد التعريف بكتاب "صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم" للدوسري، ثم ترجم لصاحبه ترجمة وافية اعتمد فيها على ترجمة ولده إبراهيم بن عبدالرحمن الدوسري، وشهادات أقرانه في الدعوة، حيث تناول نشأته وطلبه العلم وأهم مؤلفاته ونشاطه ودعوته وأهم رحلاته وأسفاره في سبيل نشر العلم، وما تتميز به حياته العلمية والدعوية. ثم تلاه أربعة فصول في موضوع الدراسة على النحو التالي: الفصل الأول: المضامين الدعوية المتعلقة بموضوع الدعوة: المبحث الأول: المضامين الدعوية المتعلقة بالعقيدة: وفيه استقصى الشيخ عبد الرحمن الدوسري في تفسيره أهم مواقف أهل السنة من أهل البدع والتيارات المنحرفة في مجال العقيدة، وأبرز أهم الردود عليهم بأسلوبه الخاص، ومن ذلك ردودهم على الخوارج والرافضة والإباضية والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والصوفية، كما ركز الباحث على ردود الشيخ الدوسري في التيارات المعاصرة في عهده ومنها ردوده على فرق الماسونية والعلمانية والشيوعية والنعرات القومية. المبحث الثاني: المضامين الدعوية المتعلقة بالشريعة: وفي هذا الموضوع بين الشيخ عبدالرحمن الدوسري أهم كليات الشريعة في بيان منزلة تحكيم شرع الله ووجوب اتباعه ترغيبًا وترهيبًا، وبيان حقيقة الصلاة والصوم والزكاة والحج وأثرهم في الفرد والمجتمع. المبحث الثالث: المضامين الدعوية المتعلقة بالأخلاق: وقد ملأ الشيخ "عبدالرحمن الدوسري" تفسيره بالدعوة للأخلاق الحسنة كالأمانة والصبر والصدق والشكر والتواضع والحياء والعفو، وبين أثرها في نشر الدعوة وبيان محاسن الإسلام. كما حذر من الأخلاق السيئة كالبخل والحسد والظلم والكبر والكذب، وبين أنها من مثبطات الدعوة. الفصل الثاني: المضامين الدعوية المتعلقة بالداعي والمدعو: المبحث الأول: المضامين الدعوية المتعلقة بالداعي: وفيه بيان صفات الداعي من الإخلاص لله وحسن المقصد والصدق والصبر، وبيان لحال الداعي مع نفسه ومع الناس من حيث العفو والتسامح وقوة الحجة والالتجاء إلى الله بالدعاء والإعراض عن الجاهلين وعدم الالتفات للوراء ومتابعة الإرجافات والرفق واللين مع المثابرة على طلب العلم. المبحث الثاني: المضامين الدعوية المتعلقة بالمدعو: وفيه بيان موقف الدعوة والداعية من: عصاة المؤمنين، وأهل البدع، والمنافقين، ومشركي العرب، وبيان الموقف الشرعي تجاه كفر أهل الكتاب. الفصل الثالث: المضامين الدعوية المتعلقة بمنهج الدعوة: المبحث الأول: المضامين الدعوية المتعلقة بالمنهج الدعوي: وذلك من حيث وجوب اتباع منهج الصالحين، ومراعاة أحوال المخالفين، ومراعاة مقاصد الشريعة. المبحث الثاني: المضامين الدعوية المتعلقة بالوسائل الدعوية: وفيه الإنفاق في سبيل الله، وأهمية العلاقات الاجتماعية كوسيلة دعوية، وأهمية القدوة الحسنة في نشر الدعوة عمليًا. المبحث الثالث: المضامين الدعوية المتعلقة بالأساليب الدعوية: كأسلوب التعليم، وأسلوب ضرب الأمثال، وأسلوب الحوار، وأسلوب الموعظة. أما الفصل الرابع فكان عن: ما يستفاد من الدراسة. المبحث الأول: ما يستفيده الداعي والمدعو من الدراسة: وذلك باتباع الوسطية ونبذ الغلو، وضرورة اجتماع الكلمة ووحدة الصف على كلمة التوحيد. المبحث الثاني: ما تستفيده الدعوة من الدراسة. ثم خاتمة أجمل فيها الباحث أهم النتائج في رصد البعد الدعوي في تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي "صفوة الآثار" .
فقه العمران الإسلامي النشأة والتطور لم يكن الإنسان بداية أمره يهتم برونق العمران ونزعته الجمالية، إنما كان هذا - كما يقول ابن خلدون - بعد إذ اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفاه، ودعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر. لقد مُيزت الحضارة الإسلامية بأنَّ الشرع أصبح حاكمًا رسميًّا في كل توجه يسير به المجتمع على كل الأصعدة، سواء كان على الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو العلمي، ففي مجال العمران حكمت كل حركة بضوابط الشريعة وضوابطها، فليس الإنسان وحيدًا في منظومة القيم الأخلاقية داخل المجتمع الإسلامي، وانطلاقًا من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) لا يحق للمسلم أن يؤذي جاره، أي لا يُعلي بنيانه أكثر مما ينبغي ليكشف بيت جاره، ولأن الإسلام أوصى بالستر فقد أحاط المسلمون بيوتهم بسياج يمنع استراق النظر وكشف المحارم، فضلا عن لزوم الاستئذان لمن يطرق الأبواب في ليل أو نهار في رائعة إسلامية لها قدم السبق في الأمم وتعد من عناصر اللباقة الإنسانية في واقعنا المعاصر. أما خطط المنازل فقد اختلفت من مدينة لأخرى من بيت لآخر وفق الحاجة، والإمكانية الاقتصادية، وعليه اختلفت التسمية العامة للبيت فأطلق وصف البيت أو الدار أو المنزل على الشيء نفسه، إذ وجدت في المدينة بيوت مكونة من طابق واحد أو طابقين، حيث أورد ابن هشام في "السيرة النبوية": أن بيت أبي أيوب الأنصاري في المدينة المنورة كان مكونًا من طابقين، في حين كانت حجرات زوجات النبي (r) مكونة من طابق واحد، ويبدو من خلال ما توافر من نصوص أن كلمتي الدار والمنزل مترادفتان، وتدلان على المكان المتعدد الحجرات. ويتكون الدار من عدة بيوت أو حجرات وقد يكون فيه فناء واسع لتوفير الخدمات المنزلية كالطبخ، وبخصوص البيت المكون من طابقين فإن الحجرة التي تكون في الطابق الثاني تسمى (غرفة) بمعنى العلية، ويبدو أن الأساس الذي كان يبني عليه البيت هو الحجارة. أما في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث مصرت الأمصار وكان من شروطه في بناء بيوت مدينة الكوفة - وفق ما ذكر الطبري في التاريخ - أن لا يزد أحد على ثلاثة أبيات ولا يتطاولوا في البنيان وأن يلزموا السّنّة وأن لا يرفعوا بنيانًا فوق القدر، قالوا: وما القدر؟ قال: لا يقرّبكم من السّرف ولا يخرجكم عن القصد. ولكن هذا الأمر خرج عن المألوف عندما تطور المجتمع وساد الانفتاح على الحضارات الأخرى بعد الفتوح في العصر الأموي وبنيت القصور وأبدع المهندس الإسلامي بأبهى البناء والعمران والتزيين والزركشة الإسلامية الهندسية، فضلا عن خط الكتابات والنقوش الإسلامية في المباني العمرانية، في حادثة أكدت عمق الحضارة الإسلامية في مجال العمران وأحقية الأمة الإسلامية في فضاء الريادة العالمية آنذاك. لقد اهتم المسلمون بكل تفاصيل الحياة الضرورية في مجال العمران فكانت أماكن الغذاء والنوم والجلوس والتنزه واستقبال الضيوف حاضرة في حياة رجالات الدولة وأغنيائها، ولم يهملوا الجانب الكمالي حيث غرست الأشجار وزرعت الورود وأقيمت النافورات الفياضة التي تبهج النفوس رؤيتها وتسد الحاجة هيئتها، كما أنهم لم ينسوا قناديل العلم ومواقدها حيث بنوا المدارس للتعليم وخصصوا لها الأوقاف والأعطيات الجزيلة، وجعلوا لها أماكن لسكن الطلبة وخصصوا لهم الأغذية ولوازم الدراسة ووسائل التدفئة والإنارة، كما أنهم لم ينسوا في البناء مكان العلاج فبنوا البيمارستنات بمنتهى الأناقة، وجعلوا خدماتها متواصلة اللياقة، حتى اعجبت من رآها فذهب يتكلم عنها بجميل الكلام وأعذب العبارات. ولعل من الشواهد التي نراها حاضرة في مخيلة الرحالة المسلمين الذين زاروا المدن الإسلامية وكتبهم، مثل الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي زار مدينة الموصل فوصف وصفًا دقيقًا وما أجمل ما عبر حين قال: وللمدينة جامعان: أحدهما جديد، والآخر من عهد بني أمية. وفي صحن هذا الجامع قُبة، داخلها سارية رخام قائمة، قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رُخامها، وفي أعلاها خصة رُخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه مستقيم من البلور معتدل ثم ينعكس الى أسفل القبة. ويجمّع في هذين الجامعين القديم والحديث، ويجمّع أيضا في جامع الربض. وفي المدينة مدارس للعلم نحو الستّ أو أزيد على دجلة، فتلوح كأنها القصور المشرفة. ولها مارستان ما عدا الذي ذكرناه في الربض. ولعل هذا الفكر العمراني المتصاعد آنذاك لم يكن ليتحقق لولا أن له أساسًا ثابتًا، ألا وهو إيمان المسلمين آنذاك أنهم جاءوا لإعمار الأرض بعد عبادة خالقها، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم في آياته الكريمة.
إلى من أنار لي الطريق الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. قضى الله سبحانه – ولا راد لقضائه و لا معقب لحكمه – في صبح يوم الجمعة الثالث من شهر ذي الحجة لسنة ألف و أربعمئة وواحد وأربعين من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم – قبض روح عبده أبي الحسن ساعد بن عمر غازي آل مصبّح وكان الشيخ - رحمه الله- يعاني من الأدواء المزمنة، وكانت تزداد شدةً مع تقدم السن – الذي بلغ سبعين عامًا وبضعة أشهر - ومع ذلك كنت – أحسبه – صابرًا محتسبًا على هذا الابتلاء، وكانت - بحمد الله – لا تقعده عن فرض يؤديه، أو عن طاعة يفعلها، أو البحث والتفتيش في الكتب والمراجعة لمسائل العلم – الذي أفنى زهرة شبابه وكهولته وشيخوخته فيه – بهمّة منقطعة النظير إلى آخر يوم في حياته؛ فقد تواصلت معه قبل وفاته ببضع ساعات وظل يكلمني أكثر من ثلث ساعة في مواضيع متنوعة، وكان منها أن قال لي: إن الأخ صلاح هَلَل أرسل إلى ترجمة للشيخ محمد عمرو – رحمه الله - و هي من أحسن التراجم التي ترجمت للشيخ، والتراجم السابقة ظلمته. وقد سألت أخي صلاحًا – حفظه الله – متى أرسلت للشيخ الترجمة فأخبرني أنه أرسلها ظهر يوم الخميس – أي قبل أن أكلمه أنا بساعتين – فبالله عليك انظر لحب العلم، وشغف المعرفة، مع شدة المرض والهبوط الشديد لضغط الدم، ومحاليل...إلخ، ويقرأ الترجمة ويخبرني بما سبق من رأيه فيها!! وأحسبه - رحمه الله - ممن قال فيهم نبينا – صلى الله عليه وسلم –: «خيرُ الناس من طال عمرُه وحسن عمله». كان عاشقًا للعلم بمعنى الكلمة – سيما علم الحديث، محبًّا للحق، باذلًا فيه ما يستطيع من جهد، غير مبالٍ في الوصول إليه بما يلقى من تعب، أو أذىً، أو إعراض، و لا أدل على هذا التفاني في حب العلم من أنه لم ينشغل طوال عمره من يوم عرف الطريق إليه إلا به، كانت الدنيا مفتحة الأبواب له، تدعوه أن يعيش حياة المترفين المدللين؛ فقد ولد في بيت ثراء، وكان والده من أصحاب البكوِيَّة، وجده من أرباب الباشويَّة، ومع ذلك أراد الله له أن يحيا الحياة السعيدة الطيبة، فحماه الدنيا و فتنتها، حتى الفترة التي سافر فيها إلى السعودية لم ينشغل بغير العلم. وأيضا مع تقدمه في السن وتوارد وتداعي الأدواء عليه ربما يقرأ في اليوم ويبحث وينقّب ويكتب أكثر من ست عشرة ساعة، وكان في صدر شبابه يزيد على مثل هذا، وقد تعرفت على شيخي وأستاذي ومن دلني على الطريق، وأنار لي السبيل، وظل على هذه الحال معي إلى يوم وفاته. عرفته في مسجد عباد الرحمن بالمنصورة، وكان من المساجد التي تعمر بالنشاط الدعوي، ودروس العلم، وكان يؤمُّها الشباب من أمثالي ليتعرفوا على دينهم، ويقتبسوا من علوم السالفين، وكان ذلك عام 1989م من القرن الماضي، ومن يوم جلست إليه، أحببته في الله، وأحسب أن الله حببه فيّ، وكنت أكاد لا أتخلف عن درس من دروسه والتي كانت مختلفة عن دروس غيره من أهل العلم في ذلك الوقت، كان كلام الشيخ من عند نفسه قليلًا، وعامته من الكتب التي يحملها معه – ربما بلغت خمس أو سبع أو أكثر من المجلدات كانت في مصطلح الحديث، والقواعد الفقهية، وبعض الأحكام الفقهية – وقد رزقني الله في هذا المسجد بإخوة صدق، انتفعت بصحبتهم غاية الانتفاع، ولا زال الشيخ يقربني ويدنيني منه حتى كنت أذهب إليه في بيته وكان قد خصص غرفة كبيرة فيه للمكتبة، وكان يحضر معي بعض إخواني وربما ننسى الوقت فإذا به قد انتصف الليل وقد أتينا ربما عصرًا، وكان للشيخ دروسًا أخرى خارج المنصورة أذكر منها درسًا في بلدة "ترعة غنيم" وهي بلد الشيخ محمد رزق ساطور - رحمه الله - وكنت أذهب مع الشيخ وننتهي من الدرس و نبيت ثم نعود صباحًا إلى المنصورة، وأيضًا كان هناك درس في مدينة بلقاس في مسجد الزهراء، وكان فيه كثير من الأفاضل كالشيخ/ مجدي قاسم وغيره، وكنت أنهل من علم الشيخ ليس في هذه الدروس وحسب بل أثناء السفر ذهابًا وإيابًا. وحينما افتتحت المعاهد العلمية في المنصورة شارك الشيخ بالتدريس فيها منها: معهد مسجد عباد الرحمن، ومعهد الجمعية الشرعية، وكان يشرح فيها الشيخ القواعد الفقهية للشيخ السعدي ولازال تفريغ هذه الدروس عندي ولله الحمد. وللشيخ طريقة فريدة في التعليم، نافعة جدًّا لطالب العلم؛ ألا وهي: أنه يعرض المسألة ويصورها – أيّا كانت – فإن كانت خلافية ذكر فيها الخلاف وأدلة المختلفين والقائلين به، وردود بعضهم على أدلة بعض، ثم يدع الشيخ الطلاب يتمرنون على تبني ما يرونه من الأقوال ويناقشهم، وبذلك كانت ترسخ المسائل في الأذهان، وتتسع مدارك الطلبة، وتنمو الملكة أثناء هذه النقاشات، و مما كان يتميز به شيخنا أنه لا يتعجل مطلقًا بتبني رأي أو اعتماد معلومة دون بحث عميق وصبر مديد حتى يطمئن لصواب ما انتهى إليه بحثه، وكانت له طريقة خاصة وفريدة في قراءة الكتب؛ فكان قلما يقرأ كتابًا إلا وله عليه تعليقات، وربما استدراكات وتصويبات متنوعة، ثم إذا انتهى من ذلك يبحث عن سبيل لإيصال هذه التعليقات إلى صاحبها – مؤلفًا أو محققًا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا – ولقد رأيت عجبًا في مسارعة الشيخ بقراءة ما يناوله بعض الأفاضل من تأليف أو تحقيق، ويترك كل مشاغله وبرامجه ويقبل على ذلك بهِمّة عجيبة حتى إنه ربما لا يصبح الصباح إلا وقد انتهى شيخنا من جرد الكتاب، مع دقته المعهودة في مراجعة كثير من المواضع على أصولها، ثم يبادر بإعطاء ذلك كله لصاحبه، وربما لا يترك لنفسه نسخة من هذه التعليقات!! حتى إن من أعطاه يتعجب من هذه السرعة العجيبة في إجابة طلبه، مع هذا الاتقان العجيب في استخراج المواطن التي تحتاج إلى تعليق، فأين هذا بالله عليكم في دنيا الناس اليوم؟! فقد رأيت الكثير والكثير ممن إذا قرأ كتابًا فوجد فيه ما يستدرك على مؤلفه بادر بنشر ذلك على وسائل التواصل، وفي مجالسه العامة والخاصة، ولا يخطر بباله أن يتواصل مع صاحب الكتاب ناصحًا له بما عسى أن يكون قد وقع فيه من خطأ أو غيره. والشيخ دائمًا يقرر أنه لا يحسن أن يكون طالب علم!!! وأنه ليس عنده شيء!!! وكان في باب هضم نفسه آية، وفي طلب الخمول والخوف من الشهرة شيء عجيب – وربما فات بعض الطلبة من علم الشيخ بسبب هذا الأمر وحرصهم على الحضور للمشاهير-. وقد لزمت الشيخ قبل سفره – بحمد الله – ست سنوات ولم تنقطع صلتي به بعد سفره أبدًا، بل كنت دائم الاتصال به، وزرته مرات في الرياض، وحينما ينزل في إجازات إلى مصر، وقد نفعه الله بلقاء أكابر العلماء في الديار السعودية كأمثال الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين، والبراك، و الفوزان وغيرهم، حضر مجالسهم العامة والخاصة، وحدثني مرة أن الشيخ ابن باز قد استضافه بعض الفضلاء ودعا الشيخ للحضور، وقدمه للشيخ ابن باز بأنه من أهل العلم من مصر، فرحب به الشيخ ابن باز، قال لي الشيخ فسألت الشيخ ابن باز عن اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن بعضهم رأى أن يدفن في مكة، وبعضهم في بيت المقدس...إلخ، وأجاب الشيخ ابن باز على السؤال، وأن من خصائص الأنبياء أن تدفن حيث تقبض، ثم قال الشيخ ابن باز: (وهذ أمر قد فرغ منه، ولا يترتب عليه عمل ولا مصلحة الآن).. وأخبرني شيخي بإعجابه الشديد بإجابة الشيخ وهذا الاستدراك البديع الذي ذيل به الكلام، رحمهما الله تعالى وسائر علمائنا. وكان الشيخ قد صنف بعض الرسائل الطيبة المحققة لمسائل العلم منها: رسالة "الإنصاف"، ورسالة "كيف تنجو من عذاب القبر"، ورسالة "حكم التداوي بالمحرمات" وغيرها، وكان للشيخ مشروع تقريب علوم الشيخ الألباني، ولما رجع إلى مصر منذ سنتين نشر كتابًا له في هذا المشروع بعنوان "الغصن الداني على مصنفات الإمام محمد ناصر الدين الألباني"، وفيه بحمد الله تعالى من الفوائد العلمية و التحقيقات لمسائل حديثية دقيقة لا تجدها إلا في مثله، وللشيخ كثير من المقالات العلمية على مواقع الشبكة العنكبوتية، وأخرى في أدراج مكتبه – وإن شاء الله تعالى سأجتهد مع بعض إخواني من محبي الشيخ وعارفي فضله أن نجمع كل تراث الشيخ المخطوط والمطبوع والمقالات وتعليقاته على الكتب التي في مكتبته وقلما يخلو كتاب منها من ذلك، مع تحلية ذلك بمقدمة عن حياة الشيخ ورحلته مع العلم و الدعوة، كل ذلك بعنوان "الأعمال الكاملة لتراث الشيخ ساعد غازي"، أسأل الله أن ييسر ذلك، وأن يعين عليه سبحانه، وأن يجعله في موازين حسنات شيخنا، وأن يبقي له ذخره في الآخرة. وكان من حسنات صحبة شيخنا – غير العلم الذي استفدته منه – أن عرفني على فضلاء أهل العلم في بلدتي المنصورة وغيرها، وكان ممن عرفني بهم وأرسل معي رسالة إليه وأوصاني أن أستفيد من علمه شيخنا أبا إسحاق الحويني – شفاه الله وعافاه ورده سليمًا معافى إلى أهله ووطنه ومحبيه آمين – وأعطيت الرسالة للشيخ بعد أحد الدروس في مسجد عباد الرحمن بكفر الشيخ فرحب بي ودعاني إلى بيته، وأكرمني واستفدت من علمه، وتكررت اللقاءات بين الشيخين بحضوري وكم رأيت في لقاءاتهما من العَجَب، والاحتفاء، وإظهار فضل كل واحد منهما لصاحبه، ولذلك حديث آخر... وعرفني كذلك شيخنا على شيخي الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين - وقد جعله الله لي سلوى بعد سفر الشيخ ونفعني بصحبته وقرأت كثيرًا من كتب السنة على شيخنا الشيخ أحمد ولله الحمد – والشيخ ابن أبي العينين من أكثر العارفين بفضل علم شيخنا الشيخ ساعد – رحمه الله – وكان يجله و يعظمه ويقدمه على نفسه، و يطلب منه أن ينظر في كتبه وتحقيقاته، وينصحه بما يراه صوابًا، وقد رأيت في ذلك منهما جميعًا آيات مبهرة في إرادة الحق، وحب النصح، و التعاون الأخوي بين أهل الفضل والعلم، ومن أولى منهم بذلك!! ولا أدل على معرفة الشيخ ابن أبي العينين بفضل الشيخ ساعد وعلمه من ذلك الرثاء الذي رثاه به يوم وفاته وقوله إنه يعتقد أنه أعلم أهل مصر بالنقد الحديثي ودلل على ذلك بأدلة. وإذا أحببت أن أجمل ما سبق في نقاط محددة فأقول: ♦ حبب الله لشيخنا العلم، فأقبل على العلم بكل ما آتاه الله به من ملكات وجهد. ♦ كان رحمه الله صلبًا في دينه، لا تطمع أن تظفر منه بمداهنة على حساب الحق. ♦ كان رحمه الله معظِّمًا للوحي، ولا يقدم آراء الرجال – مهما بلغوا – على الآية والحديث. ♦ كان رحمه الله يحب الخير والعافية للمسلمين، وينصح لهم بما بلغه علمه. ♦ كان رحمه الله يحب التعاون بين العاملين للإسلام، ويدعوهم إليه. ♦ كان رحمه الله محبًّا لإخوانه من أهل العلم؛ يذكر مآثرهم لطلابه، ويحثهم أن ينتفعوا بهم. ♦ كان رحمه الله يؤثر مصالح إخوانه على نفسه، وينشغل بالنظر في أعمالهم العلمية أكثر من انشغاله بأعماله ومصنفاته الخاصة. ♦ كان رحمه الله لا يكاد يرد طالب علم بالزيارة، أو الاتصال، واسألوا من خالط الشيخ عن الساعات الطويلة التي كان يقتطعها من وقته في التواصل معهم لإفادتهم فيما يعرضونه عليه. ♦ كان رحمه الله لا يحتَدّ إلا في أمرين؛ أولهما: إذا أحس أن أحدًا يريد أن ينتقص من كرامته، والثاني: إذا رأى من يجادل بغير حق. ♦ كان رحمه الله غاية في ا لتواضع حتى مع طلابه، ويكفي أني لا أحصي عدد المرات التي لقيته فيها أو تواصلت معه عبر الهاتف وتباحثنا في مسألة أو مسائل إلا ويذيلها بقوله - رحمه الله –: جزاك الله عني خيرًا، لقد أزلت عني الجهل!! أو هذه الفائدة لم أكن أعرفها...إلخ، في أمور بهذا المعنى لا أحصيها، وهاهنا تسكب العبرات!! ♦ كان رحمه الله على ما ذكرنا سابقًا من بعض حدة قد تعتريه أحيانًا، إلا أنه كان يتمتع برقة مشاعر عجيبة، وطيبة قلب شديدة، وغزارة وقرب دمعة لا يستطيع حبسها لأقل المواقف التي كانت تثير شجونه، وقد زادت هذه الرقة وكثرة البكاء خاصة بعد عودته من رحلة سفره، فكان يأتي معي أحيانًا وربما كثيرًا وأنا أخطب في بعض مساجد المنصورة أو خارجها، وكان والله لا تمر خطبة إلا وأشاهده يبكي، ويظل متأثرًا بالكلام بما أغبطه عليه لمدة طويلة. وإلى هنا أنهي كلمتي، وإن لم ينته الحديث عن شيخي وأستاذي ومعلمي...رحمك الله يا شيخ ساعد، وطيب ثراك، وجزاك الله عني وعن إخواني من طلاب العلم خير الجزاء، وأسأل الله أن ينزلك منازل الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ونسأله أن ينزل السكينة على قلوبنا في مصابنا وعلى أهل بيته وأولاده ومحبيه. وكتب حامدًا مصلّيًا على نبيك صابرًا لقضائك، شاكرًا لحسن بلائك
بداية الإشكالية قد تكون الإشكالية في المصطلح المنقول قد بدأت بوضوح عند نهاية القرن التاسع عشر الميلادي عندما دخلت اللغة العربية ثمانية (8) مصطلحات تُرجمت ترجمة غير دقيقة، ومنها المعرفة والثقافة والعلم،ولعل مَن ذكرها هو الشيخ محمد حسين المرصفي (ت 1306هـ/ 1889م) في كتابه: الوسيلة الأدبية،وفي نهاية القرن العشرين الميلادي وصلت هذه المصطلحات إلى 100 مصطلح [1] ، ومنها: العلمانية والعولمة والحداثة والأصولية،وقد قيل الكثير عن هذه المصطلحات، على اعتبار أنها من المصطلحات المستوردة التي يُفهم منها الحط المباشر من الإسلام واللغة العربية من مفهوم الغزو الفكري أو الثقافي [2] ، بل الاحتلال الثقافي الباقي على أنه بديل أصعب من الاحتلال العسكري الزائل [3] ،ولا يقف الأمر على مجرد تبني مصطلحات وألفاظ. يقول سميح عاطف الزين: "وقد حقَّق الغربيون نجاحًا باهرًا في ذلك، وتمكنوا من إحداث شرخ عميق في البنى الفكرية الإسلامية وخلخلتها عند المسلمين حينما زيفوا الوقائع التاريخية، مفرغين تلك البنى من محتواها،وقد تم ذلك بتمويهات مُتأَنْسِنة تحت شعار العلم والإنسانية" [4] . ويضيف سميح الزين القول: "وبهذا الشعار الذي ظاهره التحضُّر وباطنه التمكن من مصادر العقول نجحوا في السيطرة على إدارة الفكر ووضعه في القنوات التي تخدم مصالحهم، وتحقِّق أهدافهم، من خلال الجامعات التي أغروا المسلمين بالانتساب إليها، ما نتج منه قولبةٌ ثقافيةٌ وبنًى فكرية أبعدتهم عن الانتماء إلى الفكر الإسلامي الأصيل، وجعلتهم يتبنون تلقائيًّا ما يُطرح من جرعات فلسفية أدت إلى جعل الغرب النموذج الأمثل في إقامة المجتمعات،الأمر الذي ساعد على احتلال بلاد المسلمين واستعمارها بعد احتلال عقولهم" [5] . وهذا ما أوجَد مصطلحًا فكريًّا جديدًا نبع من المجتمع الغربي "الأوروبي" أو الغرب الأوسط - كما سيأتي نقاشه في الفصل الثاني من هذا الكتاب - أولًا باسم "الاستثناء الثقافي"، للوقوف في وجه هذا النوع من الغزو الفكري، للحفاظ على الخصوصيات الثقافية التي تسعى العولمة الثقافية إلى صَهرها في ثقافة واحدة متحيزة للمفهوم القادم من الغرب الأقصى للثقافة [6] . وعودٌ على سميح الزين في تعبير دقيق عن محاولة ممارسة مفهوم الاستثناء الثقافي والخروج من هذا المأزق الثقافي، حيث يقول: "وبعد أن تبين للمسلمين زيف شعارات التحضر والأنسنة أخذوا يعيدون النظر في مدى صحة الأفكار والثقافة الغربية، ولكنهم ظلوا متخبطين في إيجاد طريق الإنقاذ: فمنهم من أرهقه البحث فاكتفى بالرفض، ومنهم من وجد في الماركسية إمكانية الخروج من المأزق، ومنهم من زاوَج بين الاشتراكية والإسلام الاقتصادي" [7] ،ولا يتسع المجال هنا لضرب الأمثلة الواقعية التي سعت إلى إلصاق أي مذهب جديد - كالاشتراكية مثلًا - بالإسلام، فجعلت من محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم إمام الاشتراكيين! ومن أبي ذر الغفاري رضي الله عنهم الاشتراكي الزاهد! [8] . ويُضيف سميح الزين أيضًا: "ولكن القاعدة الشعبية العريضة من المسلمين بقيت هي الخزَّان الأعرض بموروثها العقائدي المجذر إيمانيًّا، الذي لا يقبل الجدل في أهلية الإسلام لقيادة العالم،تلك القاعدة الشعبية هي التي احتضنت نواة الدعوة إلى صحوة إسلامية نشاهد إشراقاتها هنا وهناك على امتداد العالم الإسلامي" [9] . وفي نهاية هذا التمهيد الذي طال، يحسن التوكيد أن مناقشة بعض المصطلحات المضطربة لا تعني الإحاطة بما قيل عنها في هذا البحث، ناهيك عن الإحاطة بالمصطلحات التي تولَّد عنها أو منها غموضٌ أدى إلى القلق في الفهم، كما لا تعني بالضرورة تخطئة المصطلحات الواردة في هذا البحث على أنها نماذج في هذه الوقفة، وتخطئة من كبَّ على استخدامها؛ إذ إنها شاعت شيوعًا يصعُبُ معه قبول النقاش فيها، بحيث يُفهم من يقف في وجهها بأنه متطرفٌ فكريًّا ولغويًّا، ناهيك عن السعي إلى تقديم البديل الذي يعبِّر عن المفهوم المراد خيرَ تعبيرٍ. إنما المراد من هذا النقاش هو أن يُرمى حجر في ماء راكد لعله بحركته يخرج بعض اللآلئ الكمينة التي ما حال دون خروجها إلا قدرٌ من الركود الفكري والضعف الانتمائي، والعزوف عن العمق التحليلي لمعاني الألفاظ ومفهوماتها،يقول ممدوح الشيخ في معرض حديثه عن عبدالوهاب المسيري وتفاعله مع المصطلح: "ولا نبالغ إذا قلنا: إن دراسات عبدالوهاب المسيري حول التحيُّز والمصطلح من منظور إسلامي كانت أشبه بحجر كبير أُلقي في بحيرة راكدة؛ فقد فتحت كتاباته الباب أمام موجة لم تنقطع من الدراسات حول هذه القضية المنهجية المهمة" [10] . [1] حدثني بهذا فضيلة الشيخ الدكتور علي جمعة محمد مفتي الديار المصرية في لقاء معه في المنيا بمصر في صفر سنة 1428هـ/ مارس 2007م، وانظر: علي جمعة محمد. المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم - القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/ 1996م. [2] في المحيط الفكري العربي من ينفي وجود غزو فكري، وإنما هو عندهم تلاقُح الأفكار. [3] انظر: زينب عبدالعزيز. هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة: الحداثة والأصولية - دمشق: دار الكتاب العربي، 2004م - (سلسلة صليبية الغرب وحضارته؛ 4). [4] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1423هـ/ 2002م - ص 63. [5] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - المرجع السابق - ص 63 - 64. [6] انظر: علي بن إبراهيم النملة. الاستثناء الثقافي في مواجهة الكونية: ثنائية الخصوصية والعولمة - بحث مقدم إلى مؤتمر اتحاد المؤرخين العرب - القاهرة: اتحاد المؤرخين العرب، 11 - 12 ذو القعدة 1429هـ الموافق 10 - 11 نوفمبر 2008م - 38ص. [7] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 64. [8] انظر في هذا: عبدالحميد جودة السحار. أبو ذر الغفاري: الاشتراكي الزاهد - القاهرة: دار الهلال، 1385هـ/ 1966م - 201ص - (سلسلة كتاب الهلال: 178)، وانظر أيضًا: عبدالحميد جودة السحار. أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله: مصدر يبحث "الاشتراكية في الإسلام" - ط10 - القاهرة: مكتبة مصر، د.ت - 208ص، ويردُّ الدكتور عبدالحليم محمود على هذا التوجه عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - في: أبو ذر الغفاري والشيوعية - ط 4 - القاهرة: دار المعارف، 1985م - 87ص. [9] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 64. [10] انظر: ممدوح الشيخ. عبدالوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية - بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2008م - ص 147.
نظرية التلقي في الدراسات اللغوية لخلود بنت عبد الله النازل صدر حديثًا كتاب " نظرية التلقي في الدراسات اللغوية "، تأليف: د. " خلود بنت عبد الله إبراهيم النازل "، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع ". وهي دراسة تناولت " نظرية التلقي " من منظور اللسانيات الحديثة، وبيان أثرها في الدراسات اللغوية، لمدِّ جسور التواصل بين علم اللسانيات الحديث، وترثنا العربي من خلال تحليل كتاب " سيبويه " أنموذجًا، ونجد أن "نظرية التلقي" أو القراءة من أهم النظريات التي هيمنت مؤخرًا على الساحة النقدية، إلى جانب سبق نظرية التلقي في مجال النقد والأدب، ونجد أن الدراسة التطبيقية لأي نظرية تسهم بشكل كبير - لا يقل عن الجهود التنظيرية - في الكشف عن تلك النظرية. ونجد أنه منذ العقد السادس من القرن العشرين أخذ المهتمون بالتلقي يولون شخصية القارئ قدرًا عظيمًا من العناية والاهتمام، وأصبح القارئ المتلقي ذا شأن في النص نفسه، لأنه الطرف الآخر المعني به. ورأى كثير من الناس الذين كتبوا عن نظرية التلقي بعد ذلك أن ما يجري في مجال نظرية الأدب يمكن أن يؤدي في غضون سنوات أو عدة عقود على الأكثر إلى حدوث انقلاب في مفاهيمنا الخاصة بالأدب أو تصورنا له. إن كل قارىء أو سامع للنص الأدبي متلق، ويتلقى ما يقع تحت بصره بالقبول أو بالرفض. فهذا الاختيار وحده نقد. ومنذ القدم إلى الآن كانت ومازالت نظرية التلقي والتأويل محل نقاش وجدل؛ فعلى الرغم من أن علماء الغرب هم من وضع أسس هذا العلم؛ إلا أنه يمكن القول بأن العرب اهتموا كذلك بأهمية تلقي النصوص وتأويلها؛ وقد انصب اهتمامهم في هذا المجال على تلقي النص الديني؛ لأن فيه نصوصا تفهم منذ الوهلة الأولى، وأخرى تحتاج إلى الاستعمال العقلي. ونجد أن النحوي " سيبويه " قد أعطى للمعنى والدلالة قيمة مركزية في تحليلاته؛ فهي غاية التلقي، على خلاف النحاة المتأخرين الذين عنوا بالشكل على حساب المعنى، فكان " الكتاب " أنموذجًا يصور نظرية مكتملة الأركان بعناصرها التي سماها سيبويه ( المتكلم والمخاطب وسياق الحال)، وحرص على تناغم العناصر لصياغة العبارة التركيبية ما بين قصد المتكلم وحالته وصفاته، والمخاطب ونوعه وفهمه، والموقف والملابسات المحيطة به، لتحقيق اتصال لغوي ناجح. لم يكن " سيبويه " دراسًا للنحو فحسب في تقعيده، بل مفكرًا لغويًا كذلك، عنده القدرة على الوصف والتحليلي وملاحظة كلام العرب؛ عنايةً بالحدث الكلامي بجوانبه كافة. وبذلك يُعدُّ سيبويه رائدًا لنظريَّة لسانيَّة يفخر بِها العرب في القرن العشرين؛ وهي نظرية التَّلقِّي، ولم تكن النظريَّةُ مُجرَّد إشاراتٍ مبثوثةٍ في الكتاب أو إلْمَاحات، بل إنَّها الأساس الذي بُنِي عليه التَّوجيه النحوي عند سيبويه، وقد كانت مُعلنة واضحة صريحة، وعلى الرّغم من كون (الكتاب) أول عمل نحويّ وصل إلينا، وعلى الرغم من كونه يمثل مرحلة النشأة والتكوين لهذا العلم العربي، فإنه قد جاءنا في صورة مثلى، وعلى درجة عليا من درجات الرقي العلمي. وتصدر هذه الدراسة عن جملة من المعطيات، نحو التلقّي، المتلقّي، والسياق، إذ تهدف الدراسة إلى بحث أبعاد الاهتمام في المتلقّي من منظار حداثي في نظرية النحو العربي ممثلة بكتاب سيبويه، الكتاب الذي عُدّ في نظرهم قديمًا قرآن النحو، فالكتاب أول وثيقة وصلت إلينا، عرضت لنظرية النحو العربي بصورة شمولية، وأبانت الدراسة عن الاهتمام الذي أولاه القدماء والمحدثون للمتلقّي باعتباره ركنًا أساسيًا من أركان العملية التواصلية، وكشفت في أبعادها عن الدور الذي حظي به المتلقّي في كتاب سيبويه، فهو صاحب أثر قوي في توجيه القواعد وبنائها. والكاتبة د. " خلود بنت عبد الله إبراهيم النازل" رئيسة قسم اللغة العربية في إدارة تعليم تبوك بالمملكة العربية السعودية، صدر لها: • "من أروقة الجامعة". • "فتاة من أرض الزيتون". • "علّمني فقدُ الراحلين".
قصة موسى عليه السلام (10) بقرة بني إسرائيل مِن القصص المثيرة للانتباه قصة البقرة، وقد وردت في القُرْآن الكريم في أطول سورة فيه، وسميت السورة باسمها، وهي إضافة إلى كونها قصة تصف جانبًا من واقع بني إسرائيل في حب المال، فإنها أيضًا تكشف طبيعة المجتمع الإسرائيلي في الجدال العقيم، لنستعرض الآيات الكريمة التي تعرضت لهذه القصة. بدأت القصة بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67] فلماذا هذا الأمر؟ ورد أن رجلًا كان في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخًا كبيرًا، وله بنو أخ، وكانوا يتمنون موته ليرثوه، فعمَد أحدهم إليه ليلًا فقتله وطرح جثته في مجمع الطرق، وقيل: على باب رجل منهم، فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله؟! فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه إلى موسى عليه السلام، فقال موسى: أنشد الله رجلًا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به، فلم يكن عند أحد منهم علم، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه، فسأل اللهَ عز وجل في ذلك، فقال له: بلغهم بأن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة، فكيف وقع هذا الأمر عليهم؟ ولما داخلتهم الغرابة وعرتهم الدهشة، أخبرهم موسى عليه السلام أنهم إن أرادوا ظهور الحقيقة فعليهم تنفيذ الأمر الرباني، فانطلقوا في السوق لشراء بقرة وذبحها، وفي السوق حاروا في شكل البقرة المطلوبة ومواصفاتها، فعادوا إلى موسى يستوضحون، ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ﴾ [البقرة: 68] ما مواصفاتها الرئيسية؟ ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ [البقرة: 68]، فكانت المواصفات من حيث السن، فهي ليست كبيرة وليست صغيرة، بل هي عوان؛ أي: بينهما؛ أي: الأمر أن تكون ذات سن وسط، وهذا المطلب الرئيسي يكفي تحققه لاختيار البقرة المطلوبة. لكن بني إسرائيل اختلفوا في اختيار اللون، فرجعوا إلى موسى يستفسرون، ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ﴾ [البقرة: 69]، فحدَّد الله لهم اللون، وأصبح عندهم معطيات في السن واللون، واقتربت الصورة أكثر وضوحًا، ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69]، فليس لهم إلا البحث عنها في السوق، أو تعميم هذه الأوصاف على الناس ليرشدوهم إليها، واستمر البحث، لكن بني إسرائيل طلبوا مزيدًا من الأوصاف ليأتوا بها كما يحددها المولى تعالى: ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70]، وهنا ذكروا المشيئة معتمدين في البحث عنها على ربهم، فهُدوا إليها، ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 71]، فإذا بها بقرة مرفهة مدللة، لا تعمل في حرث ولا في سقاية كالتي تشد على دواليب الماء ليس فيها عيب أو أثر خدوش أو إصابة كالتي تظهر على الأبقار العاملة في الحراثة وسقاية الماء أو الركوب وجر العربات، فهي سليمة، وبعد البحث وجدوا هذه البقرة. ورد في الأخبار أن مالكَ هذه البقرة يتيم الأب، وكان والده قد ترك له بقرة ترعى في أجم، وقال: ربِّ، إني أستودعك ولدي حتى يكبر، وتوفي الرجل الصالح وحفظ الله البقرة للولد، وعندما بلغ الرشد أخبرته والدته بأن له بقرة في مكان كذا، وطلبت منه أن يحضرها، فذهب وأحضرها، أراد بيعها على شرط موافقة والدته على الثمن، ونزل بها السوق، وكان بنو إسرائيل يبحثون عنها، فوجدوها مطابقة للأوصاف، فدفعوا ثمنها أولًا كما هو واقع السوق، لكن الفتى طلب المزيد، وكلما زادوا في السعر طلب أكثر، وعلم أنها مهمة، فتمسك بها إلى أن دفعوا ملء جلدها ذهبًا، فكانت معجزة، حيث ضرب بجزء منها قتيل بني إسرائيل فأحياه الله ونطق باسم القاتل، وكان ابن أخيه الذي تباكى عليه، وكانت نعمة على اليتيم، فأغناه الله، وقد ذكر أن مالك البقرة امرأة، وقيل: رجل صالح، ولب القصة كما ذكرت.
تأريخ الكتاب العربي المخطوط بالعدد الترتيبي الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فهذا مبحث لطيف في نمطٍ من أنماط التواريخ المعماة في الكتاب العربي المخطوط، وهو باستعمال العدد الترتيبي [1] ، وقد جاء في ثلاثة مطالب وخاتمة. ♦ المطلب الأول: تعريف العدد الترتيبي، وصياغته. العدد الترتيبي: هو العدد الذي يصف معدوده، ويدل على ترتيبه. وتصاغ الأعداد الترتيبية بحسب أحوالها، ومنها الآتي: 1- يصاغ من العدد (واحد) على (الأول). 2- يصاغ من الأعداد المفردة (2-10) على وزن (فاعل)، مثل: الثاني، الثالث... العاشر. 3- يصاغ من الأعداد المركبة (11-19) على وزن (فاعل) من الجزء الأول من العدد، مثل: الحادي عشر. 4- يصاغ من العقود والمئة والألف على ألفاظها مسبوقة بـ(ال) التعريف، مثل: الأربعون، الألف. 5- يصاغ من الأعداد المعطوفة على وزن (فاعل) من الجزء الأول من العدد، مثل: الخامس والعشرون [2] . وعليه؛ فإن التأريخ بالعدد الترتيبي: هو تقييد زمن معين أو بعضه بأعداد ترتيبية مترابطة مستقلة، لا يُفْصَل بينها بميقات ظاهر [3] . أي: أن مؤرِّخه يعبِّر عن مقصوده باستعمال أعداد تصاغ لغرض الترتيب، على وجه الاستقلال لا أن تكون وسيطة لنمطٍ آخر، مع ترابط الأعداد المستعملة دون أن يُفْصَل بينها بتسمية الميقات الزماني. ♦ المطلب الثاني: التفريق بين الترتيبي [4] والكسري [5] . إن كلا النمطين يحتاج من أراد تفسيرهما إلى رياضة ذهنية، ثم دخول العدد الترتيبي في (الكسري) جعل الأذهان يسبق إليها وحدة النمطين وليس الحال كذلك بل بينها فروق عديدة؛ ومنها الآتي: 1- أن (الترتيبي) مباشر الدلالة على المقصود، أما (الكسري) فلابُدَّ للوصول إلى المقصود من ذكر أكثر من كسر؛ ففي تعمية (الأول من شهر المحرم) -مثلًا- يكفي ترتيبيًا أن نقول: (الأول من الأول)، أما كسريًا فنقول: (الثلث الأول من العشر الأول من السدس الأول من النصف الأول) ونحو ذلك من الصيغ الكسرية. 2- أن الأعداد الترتيبية المستعملة في (الكسري) هي (الأول - العاشر)، وتستعمل في (الترتيبي) مفردة ومركبة ومعطوفة، وفي الآحاد والعقود والمئة والألف. 3- أن المعدود في (الكسري) هو الكسر، والمعدود في (الترتيبي) هو الميقات الزماني -مباشرة- (الساعة، اليوم، الشهر، السنة، العقد، القرن). 4- لا استثناء في استعمال الأعداد الترتيبية في (الترتيبي)، ويستثنى (التُسْع: 1/9) من الاستعمال في (الكسري). 5- أن دخول العدد الترتيبي في (الكسري) هو دخول أصلي، أما دخول الكسري في (الترتيبي) -إن وقع- فهو استعمال زائد (لا أثر له وجودًا أو عدمًا) -سيأتي في النموذج الأول-. ♦ المطلب الثالث: نماذج من (التأريخ بالعدد الترتيبي). من نماذج (الترتيبي) الآتي: النموذج الأول: قال أبو البقاء الأحمدي (كان حيًا سنة 918هـ) في قيد فراغه من نظم وتأليف (نزهة النواظر): "وقع الفراغ من نظمه وتأليفه يوم الاثنين المبارك في ثالث رابع خامس السادس من سابع الثامن من العُشْر التاسع من تاسع سِنِي مِئي الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. أي: وقع يوم الإثنين سادس شهر رجب الفرد سنة ثمان وثمانين وثمانمائة. كتبه مؤلفه" [6] . وفي التأريخ المذكور مسائل؛ منها: 1- تَقَدُّم (التأريخ بالعدد الترتيبي) على (التأريخ بالكسور)؛ فالترتيبي -هنا- مؤرَّخ سنة (888هـ)، بينما كان أقدم تأريخ (كسري) في سنة (922هـ). 2- دخول كَسْرٍ في (الترتيبي)، وهو قوله: "العُشْر التاسع"، وهذا الاستعمال لا يصير به التأريخ كسريًا، وذلك لأمرين وهما: أ‌- عدم التراكم الكسري؛ وهو تولُّد الكسر من كسر آخر. ب‌- كون الكسر زائدًا، يتم المعنى بدونه. النموذج الثاني: جاء في قيد فراغ كتابة نسخةٍ من (البحر الرائق): "كان الفراغ من كتابته في الخامس من الثاني من العاشر من الخامس والخمسين من الثاني عشر من هجرة سيد البشر عليه أفضل الصلاة والتسليم". وفي هذا التأريخ مسائل؛ منها: 1- تعدد الصيغ المستعملة فيه؛ منها: أ‌- الأعداد المفردة (الخامس، والثاني، والعاشر). ب‌- الأعداد المعطوفة (الخامس والخمسون). ت‌- الأعداد المركبة (الثاني عشر). 2- صاحَبَ هذا التأريخ تفسيران يوضح بعضهما بعضًا، أحدهما: كُتِبَ بين الأسطر بقلم أحمر دقيق، وهو تفسيرٌ بذكر المواقيت الزمانية مصاحِبةً للأعداد المقصودة؛ فذكر: اليوم، والنصف، والشهر، والعام، والقرن. والتفسير الآخر: صريح؛ فقال في الحاشية: "تفسير هذا التأريخ في (20) شوال سنة (1155)". وهذان التفسيران هما تفسير واحد؛ فأحدهما يبيِّن الآخر ويكمِّله، وقد جاء اليوم عندهما على غير الصواب؛ وذلك للآتي: 1- جعلا اليوم من النصف الثاني؛ لقول الناسخ: "في الخامس من الثاني"، وهذا كسر، والمعدود في (الترتيبي) هي المواقيت الزمانية، وهو هنا: (العقد الثاني من الشهر) لا النصف الثاني منه، فيكون اليوم هو (15) لا (20). 2- اختلاف المعدود عندهما؛ فذكرا المواقيت الزمانية (اليوم، والشهر، والعام، والقرن)، وخالفا فيما بينها بذكر الكسر (النصف). الخاتمة: وبعد؛ فهذه أهم النتائج: 1- التأريخ بالعدد الترتيبي: هو تقييد زمن معين أو بعضه بأعداد ترتيبية مترابطة مستقلة، لا يُفْصَل بينها بميقات ظاهر. 2- أن (الترتيبي) أقدم من (الكسري). 3- أن بين التأريخين فروقًا، وسماتٍ يتميز بها كل تأريخ عن الآخر؛ غير أن دخول الأعداد لترتيب الكسور أوهم بوحدتهما، وليسا كذلك. وقع الفراغ من كتابته في ليلة الخميس التاسع من الثاني من الثامن من الثاني من الخامس من الخامس من الثاني من هجرة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. والحمد لله على مَنِّه وبلوغ التمام. [1] كتبتُ سنة (1435هـ) رسالة لطيفة في تسمية هذا النمط، والتفريق بينه وبين التأريخ بالكسور، وهي مطبوعة بعنوان (تأريخ المخطوط العربي بالكسور وبالعدد الترتيبي). [2] يراجع للمزيد: الألفاظ والأساليب (1 /177، 178، 184). [3] تأريخ المخطوط العربي بالكسور وبالعدد الترتيبي: (ص12) بتهذيب يسير. [4] هو اختصار للتأريخ بالعدد الترتيبي. [5] هو اختصار للتأريخ بالسكور. [6] نسخة دار الكتب المصرية.
العقل العربي والثقافة البيئية إن الحديث عن الثقافة البيئية في المجتمع العربي يظل باهتًا، كضوء قنديل لا يحمل إلا بعضًا من معاني الضوء لا الضوء نفسه، بالمقارنة مع غيرها من أشكال الثقافات التي ينبغي للناشئة أن تتشبع بها، كي تتحول إلى ممارسات عملية ومنهج في الحياة، فيظل الحديث عن البيئة مجرد كلمات وشعارات تُرَدَّدُ على الألسنة في المدارس يزكيها الخطاب الإعلاميُّ في مناسباتٍ عارضة كاليوم العالمي للشجرة واليوم العالمي للأرض وما شابه ذلك من ظرفيَّاتٍ تاريخيَّة يرسِل فيها الإعلام ُرسالةً سريعةً لا تلبثُ أن تتبَخَّر حروفُها وتذْهَبَ أدْراجَ الرياح، وهذا أمر طبَعِيٌّ لأنَّ التنْشِئة البيئِيَّة تظل غائبةً عن الذهنيَّة العربيَّة بمختلِف المشاربِ الثقافيَّة والمستويات الفكرية، فالأسرة ُالعربية في غالب المجتمعات التي تسود فيها الأميَّة ُلا تكترثُ للأبناء إلاَّ في مستويات ظاهرية كالنُّمو الجسميِّ والحركيِّ والحسيِّ أو مستويات عقدية كأداء الفرائض مثلا وينضاف إلى هذا وذاك لدى بعض الأسر التي أخذت بحظ وافر من الثقافة والوعي النمو النفسي ونمو الذكاءات والكفايات الذهنية وفقا للمراحل العمرية لا غير، فيحظى الطفل بهذه العناية دون أن تُرَبَّى فيه نزوعاتٌ إنسانية ترومُ تثقيفَه بيئِيًّا وتعليمَه أن البيئةَ جزءٌ من الذات الإنسانية وإن كانت خارجها فهي تسْكُنُ دواخِلنا بنوعٍ من مُرونة الخطاب وليونَته وتدريبهِ على الممارسة العمليَّة في واقع الحياة ومنْحه الفرصة للنَّقد البنَّاء للواقع حين يرى بأمِّ عينيْه سلوكًا مُنافيًا لما بَدأ يعتادُ عليه من ممارسةٍ نبيلةٍ، فيأتي دورُ المدرسة ليكَمِّل الدور التعليمي للأسرة بشكل فاعل عبر المناهج البناءة القادرة على تفتِيقِ ملكة الوعْيِ الجماعيِّ للناشئة، ذلك أنَّ حضورها وازنٌ وقوي ومؤثر وغياب الثقافة البيئية فيها، لابد أنَّه فُقْدان لحلقةٍ أساسية من حلقات بناء هاته الثقافة، التي تحتاج إلى دور الخطاب الإعلامي كحلقة فاعلة بما يحمله من توجهات تعليمية وتوعوية تمتلك من الأثر ما يكفي لصناعة جيل يَحْترم ُبيئتَه ويعْتني بمحيطِه، جيلٌ قادر بدوره على أن يَحْمِل مِشْعَل الثقافَةِ البيئِيَّة إلى الأجيال اللاحقة بنوع من التسلسل الذي تتواصل فيه الأدوار ولا تنقطع فيصبح الإيمان بالثقافة البيئية شُعلةً وهاجَة تتَّقِد منها النفوس فتسطع أضواؤها في مجتمعاتنا التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة قراءة الثقافة البيئية من منظور شمولي يتناول كل الأجزاء، فنصحح بذلك علاقتنا مع الخطاب الديني الذي نصَّ في كثير من مواضعه على الإحسان والاعتناء بالبيئة واجتهد كثيرًا في تبليغنا هاته الثقافة التي تعد من أساسيات الإسلام، ثقافة الطُّهْر والنَّقاء والنظافة والجمال وغرس النبات.. لكن للأسف كثيرٌ منَّا لم يمْنحْ هذه المبادئ والمكونات قيمتَها العلْيا فكانتْ آخر شيءٍ يمْكنُ التفكيرُ فيه فلا يكون الالتفاتُ إليها إلا حينما يُذَكِّرنا العالَم بأيَّامه البيئيَّة المتفرقة غافلينَ عن خطابنا الديني الذي جعل للبيئة في كل نصوصه أيامًا متواصلة لا تنقطع أبد الحياة حتى ولو حل الفناء قال النبي عليه السلام:" إذا قامت الساعة وكان في يد أحدكم فسيلة فليغرسها " رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح وصححه الألباني في " الصحيحة "، وإن كان الحديثُ حَمَّالًا لمعاني العمل والكسْبِ لكنَّ اختيار النبيِّ صلى الله عليه وسلم للغَرس والزَّرع دليل على أن الإسلام يُربِّي فينا حُبَّ الاعتناء بالمحيط فإن كان الغرس مستوجبا في آخر رمق، فكيف يكون أمره والإنسان يدب على هذه البسيطة، لذلك فنحن في حاجة إلى إعادة قراءة الخطاب الديني في شأن الثقافة البيئية قراءة متأنية، مدركة لعمق التناول الديني للعديد من أجزائها فنحقق بذلك المصالحة المنشودة مع النص و الذات والمحيط لنؤسس علاقة جديدة مبنية على الاحترام والإحسان إلى البيئة التي نعيش في كنفها وبين ظهرانها. إن تحقيق هاته المصالحة التي نتكلم عنها لن يكون أمرًا يسيرًا وإنما يحتاج منَّا جهودًا مكثفة تتظافر فيها القوى وتتضامن فيها السواعد الفتية وتتعانق فيها الضمائر الحية التي تتمتع بروح المواطنة الحقيقية، من أجل إحياء هاته الثقافة التي اتسمت بالاحتجاب عن العقل العربي، وبعثها من مرقدها لمنح الحياة في شرايينها سيتطلب حضورًا قويًّا وفاعلا لجميع مكونات المجتمع العربي من أصغر دائرة وهي الأسرة مرورًا عبر المدرسة والإعلام وصولًا إلى المجتمع المدني بمختلف تشكيلاته الجمعوية والمؤسساتية القادرة على فعل ما يلزم لترسيخ وتفعيل الثقافة البيئية في مجتمعاتنا وتثبيتها كمكون أساسي في الوعي الجماعي العربي.
النور اللائح في مآثر العلامة الأستاذ الدكتور محمد أديب الصالح رحمه الله تعالى (1345-1438 هـ، 1926-2017 م)
العلم وأصل الحياة لم يكن نجاح ستانلي ميللر الأمريكي، في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وكذا نظيره الروسي أوبارن، في تصنيع الأحماض الأمينية من خليط من الميثان والأمونيا وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، وغيرها من المواد غير العضوية، باستخدام أجهزة بسيطة عن طريق التفريغ الكهربي وتحت الضغط الجوي - إلا خطوة للحصول على اللبنات الأولى المكوِّنة للكائن الحي. وكان وما يزال الانتقال بالجزيئات العضوية إلى حياة تنبض، خارج مقدور جميع علماء الأرض، وفي ذلك إثبات للعجز البشري عن صنع حياة، أيِّ حياة، وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]. ويقينًا فإن يد القدرة الإلهية كانت وما تزال هي الوحيدة وراء إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي. إن إشعاعة الحياة سرٌّ من أسرار الله الخالق البارئ المصوِّر، ولا حرج على العلم في النظر في كيفية انبثاق الحياة، بشرط أن يؤمن بالخالق والخلق أولًا، ثم يبحث بجدٍّ بعد ذلك ليحقِّق قوله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ [العنكبوت: 20]. ويتفق أغلب العلماء على أن الحياة نشأت عن طريق "سلسلة من التفاعلات الكيميائية"، تمت تحت ظروف بيئية مغايرة تمامًا للظروف السائدة على الأرض اليوم، وأدَّت تلك الظروف إلى إنتاج تجمُّعات من الجزيئات العضوية، وانطلقت نماذجُ تلك النشأة من نظرية التطور، مترسمةً هُداها في أن نمو المادة الميتة أو الجزيئات غير العضوية التي سبقت الخلايا الحيةَ قد تأثَّر بالآليات التي تحكُم الكائناتِ اليومَ من التنافس، ونسخ الجزيئات، والانتقاء الطبيعي. بمعنى آخر: وقع أغلب هؤلاء العلماء في تفسيرهم لنشأة الحياة في أَسْرِ نظرية دارون، فإذا بطَلَتِ النظرية بطَلتْ معها التأويلات المنبثقة عنها، وقد سقطت النظرية فعلًا. ناقش هكسلي " T. H. Huxly " عالم الحياة البريطاني عام 1980م - الفكرة المحيِّرة والمثيرة للجدل التي تفترض أن الأنظمة الحية تطوَّرت عن جزيئات غير حية في محيطات بدائية تشبه الحساء العضوي، وفي أثناء مساجلات هكسلي كان معظم العلماء يعتقدون من خلال تجارِبهم أن الحياة يمكن أن تأتي فقط من حياة سابقة، أو ما يُعرَف بالتولد الذاتي. وقد تأكد فيما بعدُ عدمُ صحة هذا الفرض، وقد تمسَّكَ هكسلي بمعتقده في أن الحياة قد نشأت من كيماويات غير حية، إلا أنه أخفَقَ في شرح الطريقة التي تمَّت بها، ولكن غلبه الإحساس بأن ذلك وقَعَ على الأرض الابتدائية، وكان "يتوقع أن حكمة التطوُّر كانت وراء نشأة الجبلة الحية من المادة غير الحية". وبين عامي 1920 و1930 قام كلٌّ من الروسي أوبارن " A. I. Oprin " والإنجليزي هالدان " J. B. S. Haldane " بنشر مجموعة من الأفكار تدعم فرضية مجيء الحياة على الأرض نتيجة تفاعلات كيميائية في بيئات تفتقد الأكسجين، وتوقع أوبارن حدوث خطوة انتقالية بين الكيماويات غير الحية والخلايا الحية، تُشبِهُ ما يُعرَف اليوم بالقطيرات المتجمعة، وتلك القطيرات تحت ظروف معيَّنة. وفي عام 1954 قام هالدان بنشر ورقة علمية تتكهَّن بأربعة تفسيرات محتملة لكيفية ظهور الحياة، وأيَّد أكثرها قَبولًا، وهو التفسير المعبِّر عن أن الحياة قد صعدت من تطور كيماوي في بيئة قديمة فقيرة في الأكسجين. على أن التقدم الحقيقي في محاولات الكشف عن بداية الحياة بدأ مع التجرِبة التي أجراها ستانلي ميللر " Stanly L. Miller " في الخمسينيات من القرن المنصرم في معمل هارولد " Haroldk C. Urey " في جامعة شيكاغو، وقد قام ميللر بتحضير جزيئات عضوية متنوعة تُشبِهُ الكثير من الأنواع الموجودة في الكائنات الحية. ومنذ تلك التجربة أخذت الدراسات تتكهَّن بأن الغِلاف الجويَّ للأرض في مهدها ربما لم يكن محتويًا فقط على الأمونيا، ولكن أيضًا يحتوي على خليط من النيتروجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، كما اتفق العاملون في هذا المجال لاحقًا على أن الأكسجين الحرَّ لم يكن موجودًا في الغلاف الهوائي الأوليِّ للأرض. وتمكَّنت التجارِبُ المعمليَّة في ضوء المعلومات الجديدة عن ظروف الأرض في مهدها من إنتاج مجموعة من الجزيئات العضوية المعقَّدة من مثل الأحماض الأمينية، وتمثِّل تلك الأحماض اللبناتِ الأساسية للخلايا. وفي خلال الثمانينيات من القرن العشرين أُضيفت فرضيات جديدة للأفكار السابقة، وظهرت تكهنات من قِبَلِ جيولوجيين من أمثال كابرنيس سميث " A. S. Caprins- Smith " ونسبت " E. S. Nsbit "، تشير إلى أن ظهور الحياة قد يرتبط بمعادن الطين أو الزيوليت " Zeolites "، وربما تكونت لأول مرة في عيون حارة. وقد وُضع نموذج جديد في عام 1977م يفسِّر أصل الحياة، خلاصته أن الحياة جاءت من جوف الأرض من خلال القصبات "القنوات" التي تمر منها المحاليل الحرارية عند أحيد "مطبات" وسط المحيطات في أماكن اتساع قِيعانها، فهناك يأتي الكربون من الصهير الصاعد من جوف الأرض. واستندت تلك الفرضية على وجود بكتريا تُعرَف بالإركيوبكتريا، تعيش في العيون الكبريتية وقصبات البراكين، تتغذي على الكبريت دون الحاجة إلى الأكسجين وضوء الشمس، وهذا الفرض يعني أن الحياة ظهرت في قاع البحر من المحاليل الحرارية الصاعدة من جوف الأرض.
حول كتاب نيل الأماني بتخريج أحاديث المغني لابن قدامة المقدسي مقدمة المؤلف: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن استنَّ بسُنَّته، واهتدى بهداه. وبعد: فإن الله تعالى قد اصطفى هذه الأُمَّة المباركة وميَّزها عن سائر الأمم، وخصَّها بخصائص لم تكن لأُمَّة غيرها؛ تقديمًا لها وتفضيلًا على جميع الأمم. ومن هذه الخصائص التي اختُصَّت بها هذه الأمة: أنْ تعهد الله تعالى بحفظ شريعتها من التلاعب، والتبديل؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم من الذِّكْر الذي تعهد الله تعالى بحفظه. قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: «والذِّكْر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة»اهـ [1] . والسُّنَّة - أيضًا - وحي من الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]؛ والوحي محفوظ. قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: «فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي - بلا خلاف - ذِكْر، والذكر محفوظ بنص القرآن؛ فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله»اهـ [2] . وهذا كلام جامع مانع ماتع للعلامة ابن القيم -رحمه الله-؛ حيث قال: «قال الله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، وقال تعالى آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]. قالوا: فعُلِم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كلُّه وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذِكْر أنزله الله، وقد قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113]؛ فالكتاب القرآن، والحكمة السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»؛ فأخبر أنه أُوتي السُّنَّة كما أُوتي الكتاب، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه؛ ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر»اهـ [3] . ثم إن من سُبل حفظ هذه الشريعة الغراء أنْ قيَّد الله تعالى لسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم من الأئمة الجهابذة الحفاظ من يقوم بتنقيحها وتمحيصها مما أدخله المبطلون الكذابون، ومما أخطأ فيه العدول الصادقون. قال الإمام ابن أبي حاتم -رحمه الله-: «فإن قيل: كيف السبيل إلى معرفة ما ذكرت من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل: بالآثار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل رضي الله تعالى عنهم. فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمان؛ قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة»اهـ [4] . وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: «سُنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مأثورة بنقلها خلف عن سلف، ولم يكن هذا لأحد من الأمم قبلها، ولما لم يمكن أحد أن يُدخل في القرآن شيئًا ليس منه، أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقصون، ويُبدِّلون، ويضعون عليه ما لم يقل، فأنشأ الله عز وجل علماء يذبُّون عن النقل، ويوضحون الصحيح، ويفضحون القبيح، وما يخلي الله عز وجل منهم عصرًا من العصور، غير أن هذا النسل قد قَلَّ في هذا الزمان، فصار أعز من عنقاء مغرب [5] »اهـ [6] . وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت في الأمة تُحفظ في الصدور، كما يُحفظ القرآن، وكان من العلماء من يكتبها كالمصحف، ومنهم من ينهى عن كتابتها، ولا ريب أن الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتًا كثيرًا، ثم حدث بعد عصر الصحابة قوم من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه، وتعمدوا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام الله تعالى لحفظ السُّنَّة أقوامًا ميَّزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط، وحفظوه أشد الحفظ»اهـ [7] . وبعدُ؛ فعِلْم الحديث من الأهمية بمكان، والناس في حاجة إليه في كل عصر وزمان. قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «مَثَلُ الذي يطلب العلم بلا إسناد، مَثَلُ حاطب ليل؛ لعل فيها أفعى تلدغه, وهو لا يدري»اهـ [8] . ويقول الإمام الذهبي -رحمه الله-: «فإن الكذب أُسُّ النفاق، وآية المنافق، والمؤمن يُطْبَع على المعاصي والذنوب الشهوانية، لا على الخيانة والكذب، فما الظن بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه، وهو القائل: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». فهذا وعيد لمن نقل عن نبيه ما لم يقله مع غلبة الظن أنه ما قاله، فكيف حال من تهجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمد عليه الكذب، وتقويله ما لم يقل، وقد قال عليه السلام: «مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِيْنِ». فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما ذي إلا بلية عظيمة وخطر شديد ممن يروي الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقلتها بالكذب، فحق على المحدِّث [9] أن يتورع في ما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته. ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويُجَرِّحهم، جهبذًا إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة، والسهر، والتيقظ، والفهم، مع التقوى، والدِّين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري، والإتقان؛ وإلا تفعل: فَدَعْ عَنْكَ الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا *** وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ»اهـ [10] . ولكن في هذه العصور المتأخرة قَلَّ المشتغلون بهذا العلم الشريف؛ نظرًا لانشغال الناس بدنياهم عن دينهم، ونظرًا لدنوِّ الهمم عند أكثر طلبة العلم؛ فآثروا الراحة والدعة، وأصبح الأمر كما قال الإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله-: «فعِلْم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب» [11] . أقول: هذا كلام الحافظ الذهبي -رحمه الله- في زمانه، وأما نحن في هذه الأزمنة فنتمثل بقول القائل: وَقَدْ كَانُوا إِذَا عُدُّوا قَلِيلًا *** فَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنَ الْقَلِيلِ فعلى طلبة العلم الاعتناء بهذا العلم الشريف، وإعطائه حقه من البحث والمذاكرة والمدارسة، والاطلاع على مناهج أئمته، وطرق نقدهم للأحاديث؛ خدمة لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. ♦    ♦    ♦ وقد بدأت - مستعينًا بالله سبحانه وتعالى، متوكلًا عليه، متبرئًا من حولي وقوتي إلى حوله تعالى وقوته - في تخريج أحاديث كتاب «المغني»، للإمام الكبير أبي محمد موفق الدين ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-. ولما كان الأمر طويلًا والعمر قصيرًا، لم أشأ أن أتوسع في تخريج ما كان من أحاديث «الصحيحين» أو أحدهما؛ لأن إطالة النفَس فيما اتفقت الأمة على صحته ليس مجديًا؛ لا سيما مع طول الكتاب، وقِصَر العمر [12] ، إلا ما كان منتقَدًا من أحاديث «الصحيحين»، فهذا الذي أُطوِّل النفَس فيه؛ لبيان صحته أو علله. وأما ما كان خارج «الصحيحين»، فاجتهدت في جمع طرقه وشواهده؛ إذ لا سبيل إلى إصدار حكم صحيح على الحديث إلا بذلك. ♦    ♦    ♦ ثم إن كتاب «المغني» من الأهمية بمكان عند الحنابلة خاصة، وعند فقهاء المذاهب الأخرى عامة، وهو من أكبر دواويين الفقه الإسلامي. وقد مدح أهل العلم هذا الكتاب وأثنوا عليه بما يستحقه. حتى قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام -رحمه الله-: «ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلى»، وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدين بن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيهما»اهـ [13] . قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- معقبًا عليه: «لقد صدق الشيخ عز الدين». وقال ابن عبد السلام أيضًا: «لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغني»اهـ [14] . وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «ذكر الناصح ابن الحنبلي: أنه حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درس ابن المَنِّيِّ، قال: وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعًا على الشيخ أبي الفتح بن المَنِّيِّ، ثم رجع إلى دمشق واشتغل بتصنيف كتاب «المغني» في شرح «الخرقي»، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، تعب عليه، وأجاد فيه وجَمَّل به المذهب»اهـ [15] . وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله-: «ما رأيت مثل الشيخ الموفق، وله مصنفات كثيرة في أصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والأنساب، والزهد، والرقائق، وغير ذلك، ولو لم يكن من تصانيفه إلا «المغني» لكفى وشفى»اهـ [16] . فأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي، وفي ميزان حسنات والديَّ وأهلي جميعًا. ♦    ♦    ♦ تنبيهات قبل الشروع في المقصود: التنبيه الأول: الحكم على الأحاديث في هذه الأزمنة ليس نابعًا عن اجتهاد مطلق، وإنما نابع عن اتباع لأئمة هذا الشأن؛ فالحُكْم إذا خالف قول إمام فهو موافق لقول غيره من الأئمة، وما على المتأخر الذي امتلك الآلة إلا الترجيح فقط. والأمر كما قال الإمام البيهقي -رحمه الله-: «والأحاديث المروية على ثلاثة أنواع: فمنها: ما قد اتفق أهل العلم بالحديث على صحته؛ فذاك الذي ليس لأحد أن يتوسع في خلافه، ومنها: ما قد اتفقوا على ضعفه؛ فذاك الذي ليس لأحد أن يعتمد عليه، ومنها: ما قد اختلفوا في ثبوته؛ فمنهم من يضعفه بجرح ظهر له من بعض رواته خفي ذلك على غيره، أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره، وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذي يجرحه به لا يراه غيره جرحًا، أو وقف على انقطاعه، أو انقطاع بعض ألفاظه، أو إدراج بعض رواته قولَ رواته في متنه، أو دخول إسناد حديث في حديث خفي ذلك على غيره؛ فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا في اختلافهم، ويجتهدوا في معرفة معانيهم في القبول والرد، ثم يختاروا من أقاويلهم أصحها» اهـ [17] . التنبيه الثاني: أئمة هذا الشأن قد يحكمون على حديث بالضعف مع مجيئه من طرق كثيرة، وقد يُعلُّون حديثًا ظاهر إسناده الصحة؛ فهم لا يغترون بكثرة الطرق، ولا بظاهر الإسناد. يقول الإمام ابن دقيق العيد في «الإمام» (3/ 155): «لا يكفي في الاحتجاج كونه غير منفرد حتى ينظر مرتبته ومرتبة مشاركه، فليس كل من توافق مع غيره في الرواية يكون موجبًا للقوة والاحتجاج» اهـ. ولو كانت كثرة الطرق أو ظاهر الإسناد كافيين في الحكم على الحديث بالصحة، لَمَا كان لهؤلاء الأئمة ميزة على غيرهم، ولتساوى الجميع في هذا الفن الدقيق الغامض. التنبيه الثالث: إذا أجمع الأئمة على حكم ما على حديث ما، وجب علينا التسليم لهم وعدم مخالفتهم. قال الإمام أبو حاتم الرازي في «المراسيل» (703): «الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا, لا أنه لم يدركه, قد أدركه, وأدرك من هو أكبر منه, ولكن لا يثبت له السماع منه، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير, وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة»اهـ. ويقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في «شرح علل الترمذي» (2/ 339): «وأما أهل العلم والمعرفة والسنة والجماعة فإنما يذكرون علل الحديث نصيحة للدين وحفظًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصيانة لها، وتمييزًا مما يدخل على رواتها من الغلط والسهو والوهم، ولا يوجب ذلك عندهم طعنًا في غير الأحاديث المعللة؛ بل تُقبل بذلك الأحاديث السليمة عندهم لبراءتها من العلل وسلامتها من الآفات؛ فهؤلاء هم العارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًّا، وهم النقاد الجهابذة الذين ينتقدون الحديث انتقاد الصيرفي الحاذق للنقد البهرج من الخالص، وانتقاد الجوهري الحاذق للجوهر مما دلس به»اهـ. وذكر الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في «فتح الباري» له (1/ 362) حديث أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب، ولا يمس ماء، ثم قال: «وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق؛ منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومسلم بن حجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني، وحكى ابن عبد البر عن سفيان الثوري أنه قال: هو خطأ، وعزاه إلى كتاب أبي داود، والموجود في كتابه هذا الكلام عن يزيد بن هارون، لا عن سفيان. وقال أحمد بن صالح المصري الحافظ: لا يحل أن يروى هذا الحديث؛ يعني: أنه خطأ مقطوع به، فلا تحل روايته من دون بيان علته. وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواة ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدِّثين المتأخرين؛ كالطحاوي، والحاكم، والبيهقي»اهـ. وقال أبو شامة في «مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول» (ص55): «وأئمة الحديث هم المعتبرون القدوة في فنهم؛ فوجب الرجوع إليهم في ذلك... فقد يظهر ضعف الحديث وقد يخفى... وأصعب الأحوال أن يكون رجال الإسناد كلهم ثقات ويكون متن الحديث موضوعًا عليهم، أو مقلوبًا، أو قد جرى فيه تدليس، ولا يعرف هذا إلا النقاد من علماء الحديث، فإن كنت من أهله فبه، وإلا فاسأل عنه أهله. قال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزيف فما عرفوا منه أخذناه وما أنكروا تركناه»اهـ. التنبيه الرابع: إذا أعلَّ واحد من الأئمة المتقدمين [18] حديثًا، ولم نجد من خالفه ممن هو مثله، وجب علينا اتباعه في إعلاله، وإن وجدنا له مخالفًا ممن هو مثله، لجأنا إلى الترجيح. قال الحافظ العلائي -رحمه الله-: «الأئمة المتقدمون منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه؛ كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ونحوهم، ثم أصحابهم؛ مثل أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وطائفة منهم، ثم أصحابهم؛ مثل البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وكذلك إلى زمن الدارقطني والبيهقي؛ لم يجئ بعدهم مساوٍ لهم، بل ولا مقارب رحمة الله عليهم؛ فمتى وُجِد في كلام أحد من المتقدمين الحكم على حديث بشيء كان معتمَدًا؛ لِمَا أعطاهم الله من الحفظ العظيم والاطلاع الغزير، وإن اختلف النقل عنهم عُدِل إلى الترجيح»اهـ [19] . [1] «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 122). [2] «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 98). [3] «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة» (2/ 721). [4] «مقدمة الجرح والتعديل» (1/ 2، 3). [5] هو طائر خرافي وهمي، لا يُعرف له اسم ولا وجود له، جعلوه أحد المستحيلات. [6] «الموضوعات» (1/ 31). [7] «الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة» (ص23، 24). [8] «الإرشاد في معرفة علماء الحديث» (1/ 154). [9] المقصود بها هنا: كل من يتحدث في أمور الدين. [10] «تذكرة الحفاظ» (1/ 10). [11] السابق. [12] ثم بعد كتابة هذه الكلمات، وعزمي على سلوك هذه الطريقة، وجدت الحافظ ابن الملقن $ يقول في مقدمة «البدر المنير» (1/ 282): «فإن كان الحديث أو الأثر في صحيحي الإمامين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، أو أحدهما، اكتفيت بعزوه إليهما، أو إليه، ولا أعرج على من رواه غيرهما من باقي أصحاب الكتب الستة، والمسانيد، والصحاح؛ لأنه لا فائدة في الإطالة بذلك»اهـ. [13] «سير أعلام النبلاء» (18/ 193)، و«ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 294). [14] «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 294). [15] المصدر السابق (3/ 283). [16] «المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد» لبرهان الدين ابن مفلح (2/ 17). [17] «معرفة السنن والآثار» (1/ 180). [18] لا يعني هذا التفريق بين الأئمة المتقدمين والأئمة المتأخرين في المنهجية، بل المنهجية واحدة، وإنما التفريق من جهة التبحر في العلم. [19] «النقد الصحيح لما اعترض من أحاديث المصابيح» (ص26).
موجز كتاب "المضبوط في أخبار أسيوط" للسيوطي من فروع علم التاريخ: التاريخُ للمدن، وقد أبدع علماءُ المسلين في ذلك أيما إبداع، وقدَّموا في هذا المجال مؤلفات في غاية الفائدة والأهمية. وممن شارك في ذلك مشاركةً جليلةً: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (849-911)، فله في تاريخ مصر عامة: "حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة"، ومختصره: "الزبرجدة"، وله تاريخ خاص بأسيوط لأنها بلد والده وأجداده، مع أنه لم يسافر إليها ولم يرها. ذَكرَ السيوطي هذا الكتابَ لنفسه في قوائم كتبه الثلاث: ذكرَه في كتابه "التحدُّث بنعمة الله" في القسم الثالث من مصنَّفاته -وهو معقود لما تمَّ من الكتب المُعتبرة الصغيرة الحجم التي هي من كُراسين إلى عشرة-، وسمّاه: "تاريخ أسيوط". وذكرَه في كتابه "حُسن المحاضرة" بهذا الاسم أيضًا. وذكرَه في رسالته "فهرست مؤلفاتي" -وهي القائمةُ المعتمدةُ لما ارتضاه من المؤلفات وأبقاه- بصيغة: "جزء أخبار أسيوط يُسمّى المضبوط"، كما في نُسَخ تلاميذه الثلاثة: أحمد ابن الحمصي (851-934)، والداودي (886 تقديرًا-945)، والشاذلي (860-946 تقديرًا في كلا التاريخين) مِنْ هذه الرسالة. وذُكر في "كشف الظنون" باسم: "المضبوط في تاريخ أسيوط". وفي "هدية العارفين" باسم: "المضبوط في أخبار أسيوط". وكونُه ذُكر في "التحدُّث بنعمة الله" و"حُسن المحاضرة" فهذا يعني أنه ألَّفه قبل سنة (890). ♦   ♦   ♦ وقد بحثتُ عن نسخةٍ منه فلم أجد [1] . وكنتُ رأيتُ السيوطيَّ قدَّمَ (فصلًا) جيدًا عن مدينة أسيوط في أول كتابه في سيرته الذاتية المُسمّى: "التحدُّث بنعمة الله"، وختمَه بقوله: "وقد أفردتُ لها "تاريخاً" حسَناً في مجلدٍ لطيفٍ، اقتداءً بمَنْ أفردَ من المُحدِّثين لبلده تاريخًا، مع أني لم أرَها إلى الآن، فإني إنّما وُلدت بمدينة مصر، ولم أسافرْ إليها البتة، وإنما فعلتُ ذلك لكونها بلدَ الوالد والأجداد". وقد نقلَ هذا الفصلَ تلميذُه العلامة محمد بن علي الداودي المالكي في كتابه "ترجمة العلامة السيوطي". وظننتُ ظنًّا كبيرًا أنَّ هذا الفصلَ بمثابة الموجز والمُخطط لمضمون ذلك الكتاب (الجُزء) المُتواري، وأنَّ السيوطي اكتفى هنا بمقدمةٍ لغويةٍ وجغرافية،ٍ وذكرِ أسماء المنتسبين إليها، من المُحدِّثين، والأدباء والنُّحاة والشعراء، والأولياء، ومَنْ رحل إليه لسماع الحديث، ومَنْ ولي قضاءها وإمرتها، إذ أوردَ تراجمَهم وفصَّلَ القولَ هناك. ومن المُتوقع أيضًا أن يكون ترجمَ فيه والدَه كمال الدين أبا بكر المولود في أسيوط سنة (806 تقريبًا) والمُتوفى في القاهرة سنة (855) [2] ، وشيخيه: القاضيَ فخر الدين محمد بن محمد الأسيوطي (793-870)، والقاضيَ زكي الدين مسلم بن علي الأسيوطي (804-873) [3] . ورأيتُ من المُفيد استلالَ هذا (الفصل) ونشرَه، لتكوين تصوّرٍ عن أصلهِ، وما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه. وقد حقَّقتُهُ بالرجوع إلى نسخة "التحدُّث بنعمة الله" المخطوطة في جامعة توبنغن في ألمانيا، و"ترجمة العلامة السيوطي" المخطوطة في برلين، وأذكرُ النصَّ من الكتابين، مشيرًا إلى الفروق وهي يسيرةٌ، وأرمز إلى الداودي بـ (د)، وكلُّ ما كان بين معقوفين فهو منه. ♦   ♦   ♦ قال السيوطي -رحمه الله تعالى- في كتابه "التحدُّث بنعمة الله": "كان الوالدُ يَكتبُ في نسبه: السيوطي، وغيرُه يَكتبُ: الأسيوطي، ويُنكر كتابةَ الوالد بذلك. ولا إنكارَ في ذلك، بل كلا الأمرين صحيحٌ. والذي تحرَّرَ لي بعد مراجعة كتب اللغة، ومعاجم البلدان، ومجاميع الحفّاظ والأدباء وغيرهم أنَّ في سيوط خمس لغات: أسيوط -بضم الهمزة وفتحها- وسيوط -بتثليث السين-. قال الإمامُ أبو سعد ابنُ السمعاني في [كتاب] "الأنساب" [4] : "أُسيوط -بضم الألف وسكون السين المهملة وضم الياء المنقوطة بنقطتين مِن تحت وفي آخرها طاء مهملة-: بلدة بديار مصر من الريف الأعلى بالصعيد، ومنهم مَنْ يقول: سيوط بإسقاط الألف". وقال [الإمامُ رضيُّ الدين] الصاغاني في كتاب «العُباب» [5] [في اللغة]، وفي "تكملة الصحاح" في حرف السين: "سَيوط -بالفتح-: قرية جليلة مِن صعيد مصر، ويقال: أسيوط". وقال صاحبُ «القاموس» في حرف السين [6] : "سُيوط أو أسيوط بضمِّهما: بلد بصعيد مصر". وقال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» في حرف السين [7] : "سيوط -بفتح أوله وآخره طاء-: كورة جليلة من صعيد مصر خراجها ستة وثلاثون ألف دينار". وقال في حرف الهمزة [8] : "أسيوط -بالفتح ثم السكون وياء مضمومة وواو ساكنة وطاء مهملة-: مدينة في غربي النيل من نواحي صعيد مصر جليلة كبيرة". ♦   ♦   ♦ وقال علي بن سعيد في كتاب "المُغرب": "مدينة سيوط من غرب النيل: كثيرة الأهل عامرة، فيها من صنوف التجارة، وبساتين وكروم يسيرة، ونخيل كثيرة، ولها سفرجل رطب طيب الطعم، وفيه خاصية أنه لا يدود ولا يسوس، أخضر اللون إلى البياض، وليس بأعمال مصر كلها سفرجل إلا بها. قال بعضُ المؤرِّخين: كان محمد بن عبد الله قاضي أسيوط يرسلُ في كل سنة إلى كافور الأخشيدي خمسين ألف سفرجلة تُعمل شراب سفرجل. وبها عقارب كثيرة لا يقدر أحد معها يمشي بالليل في أيام الحرِّ إلا بعكاز فيه حديدٌ حتى تسمع العقربُ خشخشة الحديد فتهرب. ويحاذيها جزيرةٌ ينبتُ بها الخشخاشُ ليس هو في مكانٍ إلا هناك. وشرقيها جبل بوقير الذي فيه طلسمُ الطير". وقال الحسن [بن إبراهيم] المصري: "أسيوط مِن عمل مصر، وبها السفرجلُ يزيد في كثرته على كل بلدة، وبها يُعمل الأفيون مِن ورق الخشخاش ويُحمل إلى سائر الدنيا، وصُوِّرت الدنيا للرشيد فلم يَستحسن إلا كورة أسيوط، وبها ثلاثون ألف فدان في استواء من الأرض لو وقعتْ فيها قطرة ماء لانتشرتْ في جميعها، لا يظمأ فيها شبرٌ، وكانت إحدى منتزهات السلطان أبي الجيش خمارويه بن السلطان أحمد بن طولون، ويُنسب إليها جماعة". وقال الملكُ المؤيدُ صاحبُ حماه في "تقويم البلدان": "أسيوط من الصعيد من آخر الإقليم الثاني، طولها ن ك، وعرضها كج ل" [9] . وقال غيرُه: "طولها إحدى وخمسون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها اثنتان وعشرون درجة واثنتا عشرة دقيقة". وقال بعضُهم: "طولها نومط، وعرضها كومح". ♦   ♦   ♦ وأنشدتُ عن الجمال عبد الله بن الحافظ مغلطاي [10] عن أبي الفتح الخيمي عن الحافظ أبي علي البكري قال: أنشدنا الفاضلُ بهاء الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بالساعاتي في ثاني شهر رمضان سنة ثلاث وستمئة: للهِ يومٌ في سيوطَ وليلةٍ صرْفُ الزمان بأختِها لا يَغلطُ بتنا بها والليل ُفي غلوائه وله بنور البدر فرعٌ أشمطُ الطلُّ [11] في تلك الغصون كلؤلؤٍ رطبٍ يُصافحهُ النسيمُ فيَسقطُ والطيرُ تقرأُ والغديرُ صحيفةٌ والريحُ تَكتبُ والغمامُ يُنقِّطُ ♦    ♦   ♦ وقد خرجَ من أسيوط ونُسِبَ إليها خلائقُ مِنْ رُواة الحديث. منهم أبو بِشر أحمد بن الوليد [بن عيسى] الأسيوطي. [وأبو جعفر أحمد بن عمير بن موسى الأسيوطي]. وأحمد بن محمد بن إسماعيل الأسيوطي. وأبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي، صاحب النَّسائي وراوي "سُننه الكبرى". وأبو إسماعيل طاهر بن الحسن الجعفري الأسيوطي. وأبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن ميمون الأسيوطي. وأبو الحارث هشام بن أبي فديك الأسيوطي. وحفيده أبو سهل عبد الحكيم بن الحارث بن هشام [بن أبي فديك] الأسيوطي . وأبو البركات محمد بن علي الأنصاري الأسيوطي. وفي [12] المتأخرين: عبد العزيز [بن عبد المُحيي بن عبد الخالق] الأسيوطي. وأخوه عبد الخالق [بن عبد المُحيي] الأسيوطي. وابناه إسماعيل وأحمد [ولدا عبد الخالق] الأسيوطي. وعلي بن محمد بن أبي بكر (بن شيخ الدولة) [13] الأسيوطي. و[أبو حفص] عمر بن علي بن أبي بكر بن شيخ الدولة الأسيوطي. وشمس الدين محمد بن قاسم الأسيوطي. ومحمد بن محمد بن أحمد العرياني الأسيوطي. وهارون بن قاسم الأسيوطي. ويوسف بن علي بن قطب الأسيوطي. وغيرهم مِن رواة الحديث والمسندين. ♦   ♦   ♦ ورحلَ إليها لسماع الحديث خلقٌ مِنْ الأئمة والحفّاظ: منهم الحافظُ زكي الدين عبد العظيم المنذري. والحافظُ قطب الدين الحلبي. ♦   ♦   ♦ ويُنسبُ إليها من الأدباء والنحاة [14] والشعراء: أسعد بن المهذَّب [بن مماتي الأسيوطي]. و[أبو القاسم] عبد الحميد بن عبد المحسن الأسيوطي [15] مِن شعراء "الخَريدة" [16] . والصاحب جمال الدين بن مطروح الأسيوطي. وشمس الدين محمد بن الحسن الأسيوطي النحوي. والشريف صلاح الدين محمد بن أبي بكر الأسيوطي [17] . وغيرهم. ♦   ♦   ♦ ومن الأولياء: عمر بن أحمد الأسيوطي الحطاب. والشريف شهاب الدين [أحمد] بن أبي بكر الأسيوطي. ♦   ♦   ♦ ووليَ قضاءَها أئمة: منهم الإمام نجم الدين أحمد بن محمد القُمولي صاحب «الجواهر» و«البحر المحيط في شرح الوسيط». والإمام نور الدين إبراهيم [18] بن هبة الله الأسنائي، صاحب مصنَّفات في الفقه والأصول والنحو. وأبو إبراهيم [إسماعيل] بن علي [بن إسماعيل] العلوي. وعلم الدين صالح بن عبد القوي الأسنائي. وزين الدين عبد الله بن إدريس القمولي. وشرف الدين [عبد الله بن محمد بن عسكر] القيراطي. ونجم الدين الفتح بن موسى [بن حماد] القصري صاحب «نظم المُفصّل» وغيرهِ. وأئمة آخرون. ♦   ♦   ♦ وتولى إمرَتها وأعمالَها: الوزيرُ الملكُ الصالحُ طلائع بن رُزِّيك الغسّاني. ♦   ♦   ♦ وقد أفردتُ لها "تاريخاً" حسَناً في مجلدٍ لطيفٍ، اقتداءً بمَنْ أفردَ من المُحدِّثين لبلده تاريخًا، مع أني لم أرَها إلى الآن، (فإني إنّما وُلدت بمدينة مصر) [19] ، ولم أسافرْ إليها البتة، وإنما فعلتُ ذلك لكونها بلدَ الوالد والأجداد". [1] رأيتُ في كتاب "أسانيد المِصريين" للشيخ الدكتور أسامة السيد محمود الأزهري قوله عنه ص (74): "هو مخطوط لم يُطبع"، فظننتُ أنه وقفَ عليه، فسألتُه عنه فكتبَ إليَّ قائلًا: "فتشتُ عن أي خبر ٍ يتعلق به فلم أهتدِ لشيء، وسأتابعُ البحث، والمرجو من المولى سبحانه أنْ يفتح الأبواب"، فظهر أنَّ قصدَه مِن قوله "مخطوط لم يُطبع" أنه في عداد المخطوطات المُتوارية التي لم تَظهر ولم تُطبع. [2] له ترجمة في "التحدُّث بنعمة الله"، و"حُسن المحاضرة، و"بغية الوعاة"، و"نظم العقيان". [3] لهما ترجمة في "المنجم في المعجم". [4] (1/ 254). [5] "العُباب الزاخر" (1/ 269) نسخة المكتبة الشاملة. [6] ص (673). [7] (3/ 301). [8] "معجم البلدان" (1/ 193). [9] د: طولها: نه ك، وعرضها كج له. [10] د: مغطائي. خطأ. [11] د: والطل. [12] د: ومن. [13] ليس في كتاب الداودي هذا الاسم. [14] د: والنجباء. خطأ. [15] في "التحدُّث": الأسيوطيان. وقد أفردَ الداودي اللقبَ لكل واحد. [16] خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصبهاني. مطبوع. [17] (783-859)، له ترجمة في "نظم العقيان". [18] في "التحدُّث": بن إبراهيم. خطأ. [19] تجاوز الداودي هذه الجملة.
المنحى الفكري للمصطلح لعل هذا البحث يوفق في مناقشة الآلية الفكرية، وليس اللغوية الأدبية ولا النقدية المتروكة للمتخصصين الحاذقين في اللغة والنقد، ويكفي في النقاش هنا التركيز على الجانب الفكري في استخدام المصطلحات التي تتم بها ترجمة بعض المفهومات الغربية ونقلها من لغات غربية إلى اللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى، كالتركية والفارسية والأردية والملاوية وغيرها، مما يدخل تحت مفهوم علم اللغة التطبيقي. لا يستهين الباحث بنزوع بعض علمائنا ومفكرينا إلى المصطلح الأجنبي المألوف لديهم، بحكم تعليمهم وثقافتهم الأجنبية، أكثر من أُلفة البديل العربي، مما أوجد عندنا إشكالًا تمثَّل في ترسيخ شيوع المصطلح الغربي في ثقافتنا العربية المعاصرة [1] ، والاحتجاج دائمًا بأنه "لا مُشاحة في الاصطلاح"، وأن هذا المصطلح المتداول قد شاع بين الناس، دون أن يُعمل العلماء والمفكرون الذهن في السعي إلى أصيل المصطلح العربي والارتباط بالتراث العربي الإسلامي في الوصول إليه، بل دون إعمال الذهن في مفهوم اللفظ، مما يستدعي إعادة النظر في هذه العبارة: "لا مُشاحة في الاصطلاح" وعدم قبولها على علاتها، لا سيما عندما تُستخدم في التخلُّص من تفسير مصطلح غامض [2] ،ويمكن التمثيل السريع لذلك بكثرة التعبير عن العرقية بالإثنية، على اعتبار أن مدلولهما واحد، بل وجدت من يُرادف بينهما تلازمًا فيقول: العرقية والإثنية، وكأنه يقول: العرقية والعرقية، وقِسْ على ذلك عبارات متداولة، مثل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والببليوجرافيا...إلخ. هذا في الوقت الذي يفصِم فيه بعض المفكرين الحاضر العلمي عن الماضي الذي شهد "مجهودات معتبرة قام بها فلاسفة مقتدرون، إلا أن المترجمين المعاصرين قاموا بمحوِ حلقات نيِّرة كان بمقدورها أن تمدَّ المصطلح النقدي الجيد بمصطلحات مهمة" [3] ،مما يدخل في مفهوم الاستخفاف بإنجازات القدامى، كما يقول السعيد بوطاجين [4] . وتنشأ الإشكالية حينما يظهر التباسٌ فكري حول مفهوم ما يراد صياغة مصطلح له يعبر بوضوح عن مدلول المفهوم، "أو أن مشتبهات تحيط بالموضوع، وبالتالي تحول دون وجود دليل دامغ أو كافٍ يكشف عن طبيعة هذا الموضوع" [5] . يمكن القول: إنه بهذا الأسلوب الهيِّن والسريع في صياغة المصطلح برزت معضلة الإبهام في المفهوم، وإن أراد بعض الكتاب والمفكرين التشدق بإشعار المتلقين بما لديهم من سعة اطلاع،ويبرز هذا الهاجس في أوساط أنصاف المثقفين الذين ترى معظمهم يوحي إليك بسعة اطلاعه، عندما يستعير عبارات أو مصطلحات أجنبية قد يكتبها بلغتها؛ إمعانًا في ادعاء الثقافة وسعة الاطلاع، مما أحدَث عندنا إشكالًا واضحًا في المصطلح [6] ، وكان له أثره على تعريب المصطلحات، وربما عدم استساغتها عند ترجمتها أو تعريبها [7] . فلا نزال إلى يومنا هذا - على سبيل المثال - نجد صعوبة في استخدام مصطلح الحاسب الآلي أو الحاسوب في مقابل استخدام المصطلح الأجنبي الكمبيوتر، أو استخدام الناسوخ أو الراقم أو الهاتف المصور بدلًا من الفاكس، والشبكة العنكبوتية بدلًا من الإنترنت، والبريد الإلكتروني بدلًا من الإيميل، والحاسوب المحمول بدلًا من اللاب توب، ومثلها البال توك والفيس بوك، وما سيطرأ من تعبيرات الاتصالات الإلكترونية التي لا يجاريها المجتمع الثقافي العربي بالمصطلح الأصيل. ويقاس على ذلك بعض التسميات، مثل المذياع والرائي أو المرناه واللاقط الذي يعدُّ التلفُّظ بها اليوم مدعاة للسخريَّة والاستهزاء والتندُّر في ضوء شيوع اللفظ الأجنبي: الراديو والتلفزيون والمايكروفون، وكونها مصطلحات شاعت عالميًّا، وإن اختلف النطق بها من بيئة ثقافية إلى أخرى،والعجيب أن تكون هذه المحاولات التأصيلية للتعريب والترجمة مثار تندُّر من بعض من فئات المجتمع العربي؛ بحجة أن المصطلح الأجنبي قد أخذ مكانه في حيز القبول، بما يفضي إلى القول مرة أخرى بأنه لا مشاحة في الاصطلاح. وربما تعود فكرةُ التندُّر إلى بداية ظهور المسرح العربي ثم الأفلام العربية التي صورت متقن اللغة العربية المتحدث بها، سواء أكان شيخًا أم مأذون أنكحة أم له علاقة بالدين واللغة، على أنه رجل متشدق متقعر، يختار العبارات ويلفظها بطريقة هزلية، مما كان له أثره على تلقي اللغة العربية والعناية بها من الجمهور ومن الصفوة، ومن ثم سهولة اللجوء إلى اللغات الأخرى في التعبيرات الدارجة، ناهيك عن العناية بنقل المصطلحات وتعريبها. يُضاف إلى ذلك أثر البعثات العلمية العربية إلى " الخارج "، وتلقِّي العلوم والآداب والأفكار والمفهومات والمصطلحات باللغات الأجنبية واستساغتها، والتغييب شبه الكامل للتراث العربي الإسلامي في العلوم والفنون، بما في ذلك مصطلحاتها، في ضوء التدريس والتعليم باللغات الأجنبية وإتقانها أكثر من إتقان اللغة العربية، حتى المصطلحات التي نقلتها اللغات الأخرى من اللغة العربية وحرَّفتها لتناسب لسانها أعادها أبناء العربية على تحريفها؛ ظنًّا منهم أن أصلها غير عربي، مما أفضى إلى تدريس العلوم التطبيقية والبحتة باللغات ومصطلحاتها التي أجادها المبعوثون؛ بحجة مواكبة التقدم العلمي والإنتاج الفكري الغربي. يقول محمد كامل حسين في هذا الصدد - لكن بتشاؤم أكثر -: "أما البحث في بطون الكتب القديمة فقد انتهى عهده، وفيه عيوب كثيرةٌ جدًّا؛ لأن مصطلحات القدماء تقوم على تصورات قُضِي عليها من قديم،وإذا أردنا إحياءها من جديد كان الخلط واللبس،والطبيب المعاصر يستحيل عليه أن يتقمص روح الطبيب القديم فيفهم علمه، ولو فهمه لفسد عليه تفكيره" [8] ،وليت كثيرًا من الأطباء اليوم يتقمصون روح الأطباء القدماء دون تقمص تصوراتهم العلمية الآنية كلها بالضرورة. ويردُّ ممدوح محمد خسارة على محمد كامل حسين بقوله: "وفي هذا الكلام نظر، فنحن لا نعرف إن كانت المصطلحات القديمة قد استخدمت كلها، أما قيام المصطلحات القديمة على تصورات قُضي عليها من قديم فما نظنُّ أن كل المصطلحات القديمة هي كذلك، ثم إننا عندما نلتزم مصطلح القدماء فلسنا ملزمين بطريقة فهمهم؛ ذلك أن المصطلح هو رمز قبل أي شيء آخر، وليس منهج بحث وعلم" [9] . [1] انظر: سمير حجازي. إشكالية المصطلح الغربي في ثقافتنا المعاصرة - القاهرة: مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر والدراسات، 2006م. [2] انظر: محمد عمارة. معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام - ط 2 - القاهرة: نهضة مصر، 2006م - 220ص. [3] انظر: السعيد بوطاجين. الترجمة والمصطلح: دراسة في إشكالية ترجمة المصطلح النقدي الجديد - مرجع سابق - ص 208. [4] انظر: السعيد بوطاجين. الترجمة والمصطلح: دراسة في إشكالية ترجمة المصطلح النقدي الجديد - المرجع السابق - ص 12. [5] انظر: ياسر قنصوة. الليبرالية: إشكالية مفهوم - القاهرة: دار قباء، 2003م - ص 6. [6] انظر: سهيلة ميلاط. مدخل إلى مشكلة المصطلح - التعريب (دمشق) - مج 12، ع 24 (2002م) - ص 163 - 182. [7] انظر: شحادة الخوري: دراسات في الترجمة والمصطلح والتعريب - دمشق: دار طلاس للدراسات والنشر، 1992م - 240ص. [8] انظر: محمد كامل حسين. اللغة والعلوم - مجلة مجمع القاهرة - 12/ 28 - نقلًا عن: ممدوح محمد خسارة. علم المصطلح وطرائق وضع المصطلحات في العربية - مرجع سابق - ص 16. [9] انظر: ممدوح محمد خسارة. علم المصطلح وطرائق وضع المصطلحات في العربية - المرجع السابق - ص 34.
قصة موسى عليه السلام (9) موسى والخضر ورد أن موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل، حتى إذا فاضت العيون ورقَّت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، فهو الذي علمه وزوده به، ألم يقل الله تعالى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، ثم أُوحي إلى موسى أنه يوجد من هو أعلم منك، وفي رواية: ((إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال موسى: أي رب، فأين؟ قال الله تعالى: بمجمع البحرين، قال موسى: أي رب، اجعل لي علمًا أعلم ذلك به، قال له: تأخذ حوتًا - سمكة - ميتًا فتجعله في مِكتل، وسِرْ، فحيثما فقدت الحوت فثَمَّ))، وفي رواية: ((فحيث تنفخ فيه الروح))؛ أي: حين تعود له الحياة فستجده هناك. وكان التصوير القُرْآني لهذه القصة رائعًا، فيه يظهر جهد موسى وجده في البحث عن هذا العبد العالم الذي قيل: إنه الخضر عليه السلام، وهو نازل هناك في مجمع البحرين، فأين مكان مجمع البحرين يا ترى؟ إن منزل موسى عليه السلام كان في الطور تارة، وفي صحراء التيه تارة أخرى، متنقلًا في سيناء، فالمكان لا يبعد عنها، فإما أن يكون عند الرأس المسمى الآن رأس محمد، حيث التقاء خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا الراجح عندي، وهو قريب من الطور، لا يحتاج الوصول إليه من قِبل موسى إلى سفر طويل، وقد يكون التقاء فرع نهر النيل [دمياط] مع البحر المتوسط، كما ورد في سورة الرحمن: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾ [الرحمن: 19، 20]، عنَى بالبحرين الماء المالح مع الماء العذب، والمكان ليس بعيدًا عن سيناء أيضًا. والآن بعد هذه الاستطرادة نرجع إلى الآيات القُرْآنية التي صورت هذا اللقاء التاريخي والتعليمي بين موسى والخضر، فقد استعد موسى عليه السلام لهذه الرحلة، وأخذ معه فتاه يوشع، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60] يبدو من هذه الآية التصميم والجد من موسى في طلب الخضر، إنه يقول لفتاه يوشع: لا أزال أجد وأدأب ولو طال بي المسير، ولن أتراجع عن مقصدي إلى أن أبلغ مجمع البحرين، ولو اقتضى أن أسير حقبًا من الدهر حتى أبلغه، تصميم قوي وتوق للقاء ذلك العالم، يريد أن يعرف مدى تفوقه، ومن أين له هذا العلم؟ شيء ما في داخله يدفعه للتعرف على هذا العالم العابد، سار مجدًّا حتى أرهق فتاه، وكان مكلفًا بحمل الحوت في المكتل، ولعل الجو كان حارًّا على ساحل البحر، إن كان في المكان الذي ذكرناه (جنوب سيناء ). وتتابع الآيات القُرْآنية وصف الرحلة، ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 61، 62]، لقد وصلا إلى المكان المحدد، لكنهما ناما من التعب، وفي أثناء النوم دبت الحياة في الحوت، فانطلق من المكتل إلى البحر وغاص فيه، فلما أفاقا تابعا طريقهما دون الالتفات إلى الحوت نسيانًا له، وسارا حتى بلغ منهما الجهد مبلغه، فجلسا يستريحان، وهنا طلب موسى الغداء الذي كان في المكتل مع الحوت، فكان جواب يوشع: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾} [الكهف: 63]، وقد ذكر أن موسى قد أوكل أمر الحوت إلى فتاه يوشع بأن يخبره إذا دبت به الحياة، فكان جواب يوشع: هذا أمر سهل، لكنه نسيه في الوقت الذي كان ينبغي أن يتيقظ فيه، ومع ذلك قال: أتذكُرُ الصخرة التي استرحنا عندها، فقد كان من أمر الحوت أن أتخذ سبيله في البحر سربًا، وإني في منتهي العجب مما حصل، وما أنسانيه أن أذكره لك إلا الشيطان. وفي رواية الطبري: " رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربً ا"، فلم يناقش موسى فتاه يوشع عن هذا النسيان الذي كلفهما مسيرة نصف يوم، لكنه سارع من الفرح ليقول له: هذا الذي كنا نريده، فعادا أدراجهما يقصان أثر أقدامهما لكي يرجعا إلى المكان نفسه، فهناك عند الصخرة مكان الموعد مع الخضر، عادا على الأثر وقد نسيا من الفرح ما كان اعتراهما من التعب، وعند الصخرة كان اللقاء، وكان أثر انطلاق الحوت من المكتل إلى البحر ظاهرًا؛ فقد ترك في البحر سربًا مثل الطاق، كأنما حفر في صخر، فقد جمد الماء على هيئته حين دخل فيه الحوت علامة واضحة على المكان لا لبس فيها. وحان منهما التفاتة فإذا رجل عند الصخرة مسجى بثوب، فسلَّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض؟! تعجبًا منه لذكر السلام في أرض خلت منها هذه العبارة، فعرَف أن الذي ألقى عليه السلام غريب، قال: أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلمت رشدًا، لقد وصف الله الخضر بالعلم، ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، قيل: الرحمة: النبوة، والعلم: أطلعه الله على بعض المغيَّبات، وهو ما سنجده في سياق القصة. قال الخضر ردًّا على طلب موسى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 67، 68]؛ أي: إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تُحِطْ من علم الغيب بما أعلم، لكن موسى عليه السلام الذي تجشم مشقة السفر كان متلهفًا للتعلم ومتابعة الخضر والتتلمذ عليه؛ لهذا سيكون المتعلمَ المطيع لمعلمه، الصابر على تحصيل العلم، فكان رده:﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، وهنا شرط الخضر على موسى ألا يكلمه في أي أمر يراه، أو أن يستفسر عنه، وإنما ينتظر مبادرة الخضر لبيان الأمر من تلقاء نفسه، ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70]، وانطلق موسى مع الخضر على هذا الشرط، ولكن كما وصف موسى بأنه ذو صراحة وحدة، ولا يقبل أن يرى ما يخل ثم يدعه دون اعتراض أو استيضاح، مما سيجعل هذه الصحبة هشة، وقد تنهار في أية لحظة بالمفارقة. ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾ [الكهف: 71]، وبينما كانا على الساحل طلب الخضر من إحدى السفن نقلهما إلى مكان على الشاطئ الآخر، فعرف ربان السفينة الخضر ولم يأخذ منه أجرًا، ولما ركبا وأبحرت السفينة قام الخضر إلى أحد ألواحها فنزعه، فأحدث فيها خرقًا وعيبًا أعطبها وعرضها للغرق، رأى موسى هذه المخالفة الخطرة، فاعترض على ما فعله الخضر، ﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 71]، أتريد بهذا الخرق أن تغرق ركابها؟! لقد فعلت أمرًا عظيمًا فيه العجب، وله خطره وضرره البالغ، أهذا جزاء ربان السفينة الذي نقلنا بلا نول؟ فعاد الخضر بتذكير موسى بالشرط بينهما ولم يزد على ذلك،﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 72]، فاعتذر موسى عن خرق الشرط وتعجُّله في النكير على ما فعله الخضر،﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، كان ذلك نسيانًا مني للشرط بيننا؛ لهولِ ما رأيت، وأرجو أن تعاملني باليسر؛ أي: فخُذْني بالمسامحة لتعجُّلي. ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ﴾ [الكهف: 74] غلام صغير يلعب مع الغلمان، ينقضُّ عليه الخضر فيقتله بقطع رأسه، منظر كاد يطير له عقل موسى، وكان أشد إثارة لموسى من أمر السفينة وما أحدث فيها، ماذا فعل هذا الغلام حتى يقتل؟ أين أنا؟ أبين قوم لا تحكمهم شريعة ولا منطق سليم؟ ما هذا الذي أراه؟ لقد فقد السيطرة على ضبط نفسه؛ إنكارًا لما رأى، واستهجانًا لهذه الفعلة، ﴿ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]؛ فالمعروف في شريعة موسى أن النفس بالنفس، وهذا الغلام صغير بريء، لم يرتكب جريمة القتل، فهو كالزهرة المتفتحة الزكية الطاهرة من ارتكاب الآثام، فلمَ يقتل بهذا الشكل؟ فلم يحتمل موسى الصمت، بل لقد شدد في المعاتبة للخضر، ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، فكان التذكير من الخضر بالشرط السالف والصبر على ما يرى وألا يسأل، وهذه المرة شدد الخضر في العتاب وقلة الصبر، ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 75]، فزاد حرف الخطاب "لك"، وكان الاعتذار من موسى، وفيه وضَع لنفسه حدًّا نهائيًّا، إن سأل مرة ثالثة تكون المفارقة، ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ [الكهف: 76]، ففي العادة المتعارف عليها أن الفرص لا تزيد عن ثلاث، وهنا حسمها موسى من نفسه؛ لعلمه بها، فوضعها حدًّا لعدم صبره. ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ [الكهف: 77] قرية صغيرة من قرى جنوب سيناء، عُرفت بالبخل، أبى عليهم البخل أن يضيفوا هذين الصالحين بوجبة طعام، فخرجا منها جائعين، ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ [الكهف: 77]، لكن الخضر وجد جدارًا آيلًا للسقوط، فشمَّر عن ساعد الجِد وقوَّم بناءه، وهنا لم يستطِع موسى عليه السلام أن يصمت تجاه هذا الموقف، ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]، فلعل الجوع الشديد وبخل القرية دفعاه للاعتراض، فقد تمنى لو طلب أجرًا أقله إطعامها، فكانت هذه الثالثة، ولا عود بعد الثالثة، فقال الخضر: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ [الكهف: 78]، فأعلن المفارقة، وأن الدرس التعليمي قد انتهى، ولكن لم يشأ الأستاذ أن يترك تلميذه بعد هذه المشقة - التي تكبدها ليتلقى عنه العلم - أن يخرج دون فائدة، وإلا فما معنى هذا الدرس؟ أن يرى موسى ثلاثة أحداث جسام مستنكرة وقد حدثت ممن زكاه ربُّه بأن آتاه الرحمة والعلم! ثم يعود إلى دياره دون أن يفهم مدلول هذه الألغاز؛ لذلك استدرك الخضر بعد أن ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 78]، يجب أن تخرج بفائدة سفرك هذا إليَّ، ولكيلا تعود أدراجك كما أتيت، فكان حل هذه الألغاز الثلاثة: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]؛ فالسرُّ أن السفينة قد عطلت لكيلا تتجاوز بعيدًا في البحر، فهنا الملك القرصان الذي يصادر السفن الجيدة ويستولي عليها، وأصحاب هذه السفينة فقراء مساكين، لا يحتملون مصادرة سفينتهم؛ لفقرهم، وقد تجوع عائلاتهم لهذه المصادرة، وربما يقتل هذا الملك الضال مَن في السفينة جميعًا، ألا يكون الخضر قد كافأ هؤلاء المساكين الطيبين الذين لم يأخذوا منهما أجرًا رغم فقرهم؟ فكان أن حمى سفينتهم من المصادرة، يا له من سر عظيم! مَن كان يدرك أن وراء إعطاب السفينة وإحداث ضرر قليل فيها مِن أجل تجنيب أصحابها الضرر الأكبر، ولولا أنْ أطلَع الله الخضر على ما كان سيحدث فجلَّى له ما غيب عن الآخرين لوقع المحظور، وأمام دهشة موسى مما أعطاه الله للخضر، حل له لغز الحادثة الثانية. ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81]، إذًا هكذا كان شأن هذا الغلام! فلم يكن نفسًا زكية، وإنما مُلِئَ كفرًا وحقدًا، ولأن أبويه صالحان فقد عوضهما الله ابنًا خيرًا منه عابدًا بارًّا، ثم بيَّن له حل اللغز الثالث. ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 82]، وأصابت موسى الدهشةُ والعجب، فكل سرٍّ أغرب من الآخر، ولم يكن بخطر بباله أن يكون في هذه القرية رجل صالح وغلامان على طريقته سخر الله لهما الخضر ليحمي إرثهما من أبيهما الصالح في قرية ليست صالحة، وربما تمنى موسى بعد هذا التفسير ألا يكون استعجل ليرى مزيدًا من العجائب، وعند الخضر لا شك مهام كثيرة أخرى سيقوم بها من هذا القبيل، ولكن ليس مع موسى، فودعه لشأنه بعد أن قال له: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾} [الكهف: 82]، كله بإيحاء من الله، فليس هذا العلم الذي أعطانيه ربي هو من ذاتي؛ فالفضل فيه راجع إلى الله، واعلم أن ما أعطاك الله إياه ليس عندي منه شيء، وما أعطاني الله ليس عندك منه شيء، فكل منا قد خصه الله بعلم. وردت في هذه القصة أخبار، منها: • عن أُبَيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لقص الله علينا من خبره، ولكن ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ﴾ [الكهف: 76])). • ذكر أن الخضر عبد لا تراه الأعين، إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى. • أقول: لو كان هذا صحيحًا، فكيف ركبا في السفينة؟ وورد أن ربان السفينة عرفه فلم يأخذ منه أجرًا، وكذلك طلبهما الضيافة معًا من القرية فأبوا ضيافتهما. • ورد بشأن الكنز أنه أحل لمن كان قبلنا، وحرم على أمة محمد للآية 34 من سورة "التوبة": ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34]، والآية 35. • ورَد في التفاسير عن مكان مجمع البحرين "بحر فارس، والروم" وقيل: " بحر الأردن وبحر القلزم "، وقيل: مجمع البحرين "عند طنجة"، فأما بحر فارس والروم فهذا بعيد؛ حيث لا يوجد مجمع للبحرين بينهما، ويدل هذا على عدم العلم بالجغرافيا لمن قال بهذا القول، وبحر الأردن وبحر القلزم، عنى بذلك البحر الميت والبحر الأحمر، وكذلك لا التقاء بينهما إلا عبر وادي عربة، وهذا جائز، وأما عند طنجة فالالتقاء جيد بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، لكن كم المسافة بين سيناء وذلك الموضع، وهذا يحتاج إلى شهور من السفر، وقد جرَّب موسى غياب أربعين يومًا عن قومه فعاد وقد عبدوا العجل فهل سيكرر الغياب الطويل ثانية؟ لقد احتاج موسى إلى يوم واحد للوصول إلى مجمع البحرين، فلم يأكلا من الحوت إلا وجبة واحدة وعندها كانا عند الصخرة، ووجود الصخرة يدل على أن المكان هو الذي ذكرناه سابقًا "عند رأس محمد"، حيث التقاء خليج السويس مع خليج العقبة مع البحر الأحمر، وقد ورد في الأخبار أن الملك الذي كان يصادر السفن هو "هرد بن برد"، وهذا اسم عربي، دليل حدوث القصة في المكان الذي حددناه، واسم الولد المقتول "جيسور"؛ الآيات من سورة الكهف [60 - 82].
صدر حديثا من كتب السنة وعلومها (139) 1- منار الإسلام بترتيب كتاب الوهم والإيهام، للحافظ مغلطاي، تحقيق د. حمدة أحمد المهيري، مطبوعات جامعة الشارقة، ٤ ج. 2- صفات رب العالمين، لابن المحب الصامت، تحقيق د. عمار تمالت، دار الخزانة، 5ج. 3- شرح الحديث النبوي: دراسة في التأريخ للعلم، والتأصيل له، وتقويم المصنفات فيه، والتدريب عليه، تأليف أ.د الشريف حاتم العوني، مركز نماء للبحوث والدراسات. 4- الفوائد المنتقاة العوالي الحسان من حديث أبي بكر عبدالله بن أبي داود السجستاني، تحقيق طارق الخطابي، مكتبة أهل الحديث. 5- تعديل الناقد للراوي وعدم كتابته عنه، مقاربة الأحوال والأسباب، تأليف أ.د عبدالله بن فوزان الفوزان، الروضة للنشر والتوزيع. 6- أحاديث الغسل من تغسيل الميت والوضوء من حمله، جمع ودراسة، تأليف أ.د عبدالله بن فوزان الفوزان، الروضة للنشر والتوزيع. 7- منهج الإمام أحمد في انتقاء الشيوخ (شيوخه الذين جرحهم وروى عنهم) ، تأليف أ.د عبدالله بن فوزان الفوزان، الروضة للنشر والتوزيع. 8- نقد المتن الحديثي في كتب غريب الحديث، دراسة استقرائية تطبيقية، جمع ودراسة، تأليف أ.د عبدالله بن فوزان الفوزان، الروضة للنشر والتوزيع. 9- إشارات النقد الحديثي في بعض تراجم صحيح الإمام البخاري، جمع ودراسة، تأليف أ.د عبدالله بن فوزان الفوزان، الروضة للنشر والتوزيع. 10- الجزء الأول من كتاب الصيام للفريابي، تحقيق د. رضا بوشامة، دار الميراث النبوي. 11- أبو العلاء المباركفوري: حياته ومؤلفاته، وكتابه تحفة الأحوذي في شرح الترمذي، تأليف عبدالسميع المباركفوري، دار المقتبس. 12- الصناعة الحديثية في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، تأليف د. رزان محمد ماجد عرفة، دار المقتبس. 13- التراجم الأثنائية في كتاب الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، جمع وترتيب أ.د مازن السرساوي، مركز السنة والتراث النبوي. 14- أصل أصول العلة في اللغة، وعلاقته بالتعريف الاصطلاحي في علوم الحديث، تأليف د. إدريس العبد، الرنيم للنشر. 15- الانقلاب الدلالي للمعضل في تعريف الحاكم عن تطبيقات من سبقه من الأئمة، والتطور الدلالي لتعريفه عند من جاء بعده، تأليف د. إدريس العبد، الرنيم للنشر.
منتقيات السيوطي من كتب العلم والأدب مِنْ طرق العلماء في المطالعة: انتقاءُ بعض الكتب التي يطالعونها، وذلك بدوافع متعددة: منها قراءة ذلك المنتقى على شيخٍ. ومنها الاستعانة به في مشروع علمي. ومنها استملاحُ محتوى معين فيُنتقى ليكون تحت النظر، ويُستحضر في المجالس. والمنتقى غير التلخيص لمؤلَّفات الغير، أو لمؤلَّفات النفس. ولمعرفة المنتقيات فوائد متعددة، منها الاستعانة بها في تحقيق نصوص أصولها، والاستفادة منها إذا لم نر تلك الأصول. وممن انتقى فأكثرَ الحافظ جلال الدين السيوطي. وقد راجعتُ لاستخراج تلك المنتقيات قوائم مؤلفاته الثلاث: في كتابه عن سيرته الذاتية "التحدُّث بنعمة الله" - وقد قسم مصنفاته فيه إلى سبعة أقسام، ومن المهم معرفة القسم الذي ذكر فيه ذلك المنتقى-. و" حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ". و" فهرست مؤلفاتي ". وهذه القائمة الأخيرة هي المعتمدة، فقد أودعَ فيها ما اختارَه من المؤلفات وأبقاه إلى الممات، وما لم يذكره فيها فهو مما رجع عنه، أو اكتفى بوروده أو إدراجه ضمن كتابٍ آخر من كتبه ك "الفلك المشحون". ثم راجعتُ كتابه "أنشاب الكثب في أنساب الكتب" واستخرجتُ ما ذكره من منتقيات لنفسه، ورأيتُ فيه منتقى لم أره في موضع آخر. أمّا ما انتقاه في كتابه "المحاضرات والمحاورات" فلا أذكره، فمبناه كله على الانتقاء، وربما كانت منتقياته مِن "طبقاتِ ابن سعد"، و"تاريخِ ابن عساكر" التي ساقها فيه هي منتقياته التي كانت مفردة مستقلة [1] . وهذا بيانُ ما انتقاه مرتبًا على الحروف، وأذكرُ بجانب كلِّ منتقى مواضعَ ذكره من القوائم الثلاث المذكورة وغيرها ليُعرف ذلك، ثم أذكرُ ما انتقاه في تذكرته "الفلك المشحون"، وقد وقفتُ على أربعة أجزاء منها فقط، ومن المتوقع وجود عدد آخر من نصوص المنتقيات في الأجزاء الأخرى، وهي الآن في عداد المجهول. 1- إنجاز الوعد بالمنتقى من طبقات ابن سعد. (فهرست مؤلفاتي) [2] . 2- تحفة المذاكر في المنتقى من تاريخ ابن عساكر. (التحدُّث [3] : القسم السابع [4] ، حسن المحاضرة) [5] . 3- الملتقط من الخطط للمقريزي. (التحدُّث "ق7"، فهرست مؤلفاتي). 4- الملتقط من الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لابن حجر، مجلد. (التحدُّث: القسم السادس [6] ، حسن المحاضرة، فهرست مؤلفاتي). 5- المنتقى من أحاسن المِنن في الخُلق الحسن [7] . (التحدُّث "ق6"). 6- المنتقى من أسنى المطالب [في مناقب علي بن أبي طالب] لابن الجزَري. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب). 7- المنتقى من الأدب المُفرد للبخاري. (فهرست مؤلفاتي). 8- المنتقى من تاريخ الخطيب. (التحدُّث "ق6"). 9- المنتقى من تفسير ابن أبي حاتم. (التحدُّث "ق6"، فهرست مؤلفاتي). 10- المنتقى من تفسير الفريابي. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب، فهرست مؤلفاتي). 11- المنتقى من تفسير عبد الرزاق. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب، فهرست مؤلفاتي). 12- المنتقى من سنن البيهقي. (التحدُّث "ق6"، الفلك المشحون). 13- المنتقى من سنن سعيد بن منصور. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب). 14- المنتقى من سيرة ابن سيد الناس. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب). 15- المنتقى من شعب الإيمان للبيهقي. (فهرست مؤلفاتي). 16- منتقى من فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب، الفلك المشحون). 17- المنتقى من مستدرك الحاكم. (فهرست مؤلفاتي). 18- المنتقى من مسند ابن أبي شيبة. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب). 19- المنتقى من مسند أبي يعلى. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب وفيه: مسند أبي يعلى الكبير). 20- المنتقى من مسند الحارث بن أبي أسامة. (أنشاب الكثب). 21- المنتقى من مسند مسدد. (التحدُّث "ق6"، أنشاب الكثب وفيه: مسند مسدد الكبير). 22- المنتقى من مشيخة ابن البخاري. (التحدُّث "ق6"). 23- منتقى من المصنَّف لعبد الرزاق. (التحدُّث "ق6"، الفلك المشحون، فهرست مؤلفاتي) [8] . 24- المنتقى من معجم ابن قانع. (التحدُّث "ق6"). 25- المنتقى من معجم الدمياطي. (التحدُّث "ق6"). 26- المنتقى من معجم الطبراني. (التحدُّث "ق6"). 27- المنتقى من الوعد والإنجاز [9] . (التحدُّث "ق6"). *** وهذه منتقياتٌ ساقها في تذكرته "الفلك المشحون"، ولم يَذكرها في قوائم مؤلفاته الثلاث: 1- ملتقط من ديوان الشيخ أبي المواهب المغربي. 2- منتخب من الكامل لابن عدي. 3- منتقى من أخبار النحويين لأبي طاهر عبد الواحد بن عمر بن هاشم المقرئ. 4- منتقى من الأربعين الثقفية -من الجزء الأول-. 5- منتقى من الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي. 6- منتقى من تاريخ قَزوين للرافعي [10] . 7- منتقى من ديوان الشهاب المنصوري. 8- منتقى من كتاب المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا. (وذكره في أنشاب الكثب أيضًا). 9- منتقى من مسند أحمد بن منيع. (وذكره في أنشاب الكثب أيضًا). 10- منتقى من مسند إسحاق بن راهويه. (وذكره في أنشاب الكثب أيضًا). 11- منتقى من مشيخة ابن سُكينة. 12- منتقى من المصاحف لأبي بكر بن داود السجستاني. 13- منتقى من مصنَّف ابن أبي شيبة [11] . 14- منتقى من نوادر الأصول للحكيم الترمذي الحافظ. [1] وقد أفردتُ مصادره ووصفتُ عمله في مقالٍ خاصٍّ فليُنظر. [2] وفي كتابه "المحاضرات والمحاورات": "ذكرُ مستحسنات انتقيتُها من طبقات ابن سعد" ص 55-96. [3] سمّاه فيه: منتقى من «تاريخ» ابن عساكر. [4] وهو معقودٌ لما شرعَ فيه وفترَ العزمُ عنه وكتبَ منه القليل. التحدث بنعمة الله ص 129. [5] وفي "المحاضرات والمحاورات" نقولٌ من "تاريخ دمشق"، انظر ص (106-111)، و(125)، و(296-325)، و(448-450)، وقد ختم النقل عنه ص 325 بقوله: "آخر المنتقى مِن تاريخ ابن عساكر". [6] عرَّف السيوطي بهذا القسم فقال: "القسم السادس: مؤلفات لا أعتدُّ بها لأنها على طريق البطالين الذين ليس لهم اعتناء إلا بالرواية المحضة، ألَّفتُها في زمن السماع وطلب الإجازات، مع أنها مشتملةٌ على فوائد بالنسبة إلى ما يكتبه الغير". التحدث بنعمة الله ص 126. [7] ولم يَذكر المؤلف، وهو لابن الجزري، انظر: الضوء اللامع (9/110). [8] وفي كتابه "المحاضرات والمحاورات" ص137أيضًا: "ذكر مستحسنات انتقيتها من مصنف عبد الرزاق"، وهي غير ما ورد في "الفلك المشحون". [9] ‌الوعد ‌والإنجاز في المستخرج من الحديث العالي للطالب المجتاز تخريج الحافظ أبي القاسم القاسم بن محمد بن الطيلسان الأوسي القرطبي. [10] وهو غير ما انتقاه منه في "المحاضرات والمحاورات". [11] وفي "المحاضرات والمحاورات" ص111: "منتقى من المصنف لابن أبي شيبة مما يحسن في المحاضرات"، وهي غير ما ورد في "الفلك المشحون".
مصادر السيوطي في كتابه "المحاضرات والمحاورات" " المحاضرات والمحاورات " كتابٌ رائقٌ للحافظ السيوطي (849-911) أودعَ فيه نقولًا جميلة مما رآه يصلح للمحاضرة والمحاورة، في أثناء جولاته في الكتب، قال في مقدمته: "هذا مجموعٌ حسنٌ انتخبتُ فيه ما ‌رقَّ وراق، من ثمار الأوراق، والتقطتُ فيه من درر الكتب الجواهر، ومن شجر الحدائق الأزاهر، ممّا يصلح لمحاضرة الجليس، ومشاهدة الأنيس، وسمَّيته: المحاضرات والمحاورات، والله المستعان وعليه التكلان". وقد رجع فيه إلى مصادر كثيرة، منها ما هو مفقودٌ اليوم أو نادرٌ، وقد اكتفى محقِّقه [1] بقوله عنها: " والكتب التي اختارَ منها متنوعة العلوم والثقافات، ففيها المجاميع الأدبية والإخبارية، والرسائل، والمقامات، والتراجم، وكتب الطبقات، والتفاسير، والمسانيد، والمعجمات، وكتب آداب التعليم ومكارم الأخلاق، والتعازي، والطرف والنوادر وغيرها " [2] . ورأيتُ من المفيد تتبعها وتقييدها وبيانَها لينتفع بها مَن له اهتمام بواحد منها في تحقيق، أو مطالعة، أو بحث، ودرس، وهي تنفع كثيرًا أيضًا في معرفة ما كان بين يدي السيوطي من الكتب، في القرن التاسع وأول العاشر. وقد تفاوت نقلُه عنها بين إكثار وإقلال، ففيها ما نقلَ عنه مرة واحدة، ومنها ما أطال النقل كطبقات ابن سعد، والزهد لأحمد، وتاريخ ابن عساكر، والمصنف لابن أبي شيبة، وتاريخ الصفدي، والغرر لوكيع، ومصنف عبد الرزاق، وتاريخ مَن دخل مصر من المحدِّثين للمنذري، وتذكرة اليغموري ... ومِن أساليبه في النقل قولُه: ‌‌" ذكرُ ‌مستحسنات انتقيتُها من طبقات ابن سعد ". ‌‌" ذكرُ ‌مستحسنات انتقيتُها من كتاب الزهد لأحمد ". " في تاريخ ابن عساكر ". " منتقى من المصنف لابن أبي شيبة مما يحسن في المحاضرات ". ‌‌" ذكرُ ‌مستحسنات انتقيتُها من كتاب الغرر في الأخبار... ". ‌‌" ذكرُ ‌مستحسنات انتقيتُها من مصنف عبد الرزاق ". "وقفتُ على كتاب "‌ حكايات الصوفية " تأليف أبي عبد الله محمد بن باكويه الشيرازي، مات سنة ٤٢٨، وهو مرويٌّ بالأسانيد، فانتقيتُ منه ما يصلحُ للمحاضرة". ‌‌"المُغرب في أخبار المَغرب للأديب علي بن سعيد، اختصره الحافظُ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي الدمشقي، المعروف باليغموري، في [3] كتابٍ سمّاه «‌المُعجب»، وقفتُ عليه بخطه، وهذا منتقى منه، ممّا يصلح في المحاضرة". وقد يبينُ مصدرَ مَن يَنقلُ عنه كقوله في أثناء نقلهِ عن "تاريخ دمشق" لابن عساكر: "قال عثمان بن أبي شيبة في الأوائل " [4] ، وهذه من فوائده. وقد ينقلُ عن كتابٍ في موضعٍ واحدٍ، كما في نقلهِ عن كتاب " الزهد " لأحمد (ص 97-106)، وقد ينقلُ عن آخرَ في مواضعَ، كما في نقله عن "تاريخ" ابن عساكر (106-111)، و(125)، و(296-325)، و(448-450). وهناك مقاماتٌ ورسائلُ أوردَها كاملة. وأوردَ مِن مؤلفات نفسه: " المقامة اللازوردية " في موت الأبناء. وأبهمَ مصادر فقال: " قال غيرُه "، " قال بعضهم ". وقال ص 51: " مِن إنشاء الشهاب المراغي في ذكر العلم... "، ولم يَذكر مصدر النقل. وقال ص 243: " لغز في النّدّ الذي يتبخر به، من إنشاء الشهاب محمود ". وقال ص153: " وأخرجَ البغوي وابنُ قانع والطبراني والدارقطني وابن عساك ر". وقال ص 245: قال ابن الأنباري في بامية". وقال ص 246: "كتب الجمالُ ابن نباته في محضر جرائحي". مِن غير ذكر كتبٍ كذلك. وثَمَّ نقولٌ أخرى مثلها. ونقلَ ص 159عن بعض كتب الهند: "‌ليس ‌مِن ‌خلّة ‌يُمدح بها الغنيُّ، إلا ذُمّ بها الفقيرُ، فإنْ كان شجاعًا، قيل: أهوج، وإنْ كان وقورًا، قيل: بليد، وإنْ كان لسِنًا، قيل: مهذار، وإنْ كان زمّيتًا، قيل: عيي"، وهذا القولُ موجودٌ في "عيون الأخبار" لابن قتيبة، و" المجالسة " للدينوري، ولا ذكرَ للكتابين في هذا الكتاب. وقد ينقلُ مِن كتابٍ وتقوم القرينةُ على أنه نقلٌ بالواسطة كنقله ص 222 مِنْ " مرآة الزمان " لسبط ابن الجوزي، فإنَّ النقل بواسطة تاريخ الصفدي، ولم ينقل عن "مرآة الزمان" في غير هذا الموضع، نعم نقلَ عن أبي المظفر ابن الجوزي [5] روايةً عن جدِّه أبي الفرج، وهذه الراوية في تاريخ الصفدي أيضًا: "الوافي بالوفيات". وقد كشفَ التتبعُ أمرًا لطيفًا وهو أنه نقلَ مِن خمس " تذكرات ". وهناك كتابان نقلَ عنهما وسمّاهما ولم يَذكر مؤلفيهما، وبحثتُ فلم أقفْ لهما على مؤلف! وهما: " نزهة المذاكرة وأنس المحاضرة "، و" نزهة النُّدماء ". وقد نقلَ السيوطي عن الأول في كتبه: " اللآلئ المصنوعة "، و" لقط المرجان في أخبار الجا ن"، و"تحفة الأديب في نُحاة مغني اللبيب" ولم يَذكرْ له مؤلفًا أيضًا. وذكر حاجي خليفة الثاني " نزهة النُّدماء " ولم يتكلم عليه. وقد يَنقلُ فيذكر المؤلِّفَ ولا يَذكر المؤلَّفَ، فإنْ عرفتُه ذكرتُه بين معقوفين. وبعد: فقد اجتهدتُ أن أكون دقيقًا في استخراج مصادر هذا الكتاب، ومَن عانى استخراج المصادر علم أنه بحثٌ شاقٌّ يتطلبُ انتباهًا ومراجعاتٍ وخبرةً بأسلوب صاحب الكتاب، حتى لا يهم في ذكر مصدرٍ لم يرجع إليه المؤلفُ رجوعًا مباشرًا، ومع ذلك فقد يكون نقلَ -بندرةٍ- عن كتابٍ بواسطة ولم يصرِّح بها، وإذا وقع هذا فقد يكونُ فيما قلَّ ذكرُه له ونقلُه عنه. *** وهذه هي مصادرُه مرتبة على الحروف: 1- الإبانة لأبي نصر السجزي. 2- الإشراف لابن أبي الدنيا. 3- الإصابة لابن حجر. 4- الألقاب للشيرازي. 5- الأمالي للرافعي. ويريد: "الأمالي الشارحة لمفردات الفاتحة". 6- بعض المجاميع. نقل عنه ص 391 مرتين، وأعادَ خبرًا نقله منه في ص 430 وعزاه إلى "مجموع القاضي أمين الدين بن الزبير"، فلعله هو المقصود بما أبهمَه أولًا. 7- تاريخ ابن عساكر. 8- تاريخ الصفدي. 9- تاريخ المدينة الشريفة للحافظ جمال الدين المطري. 10- تاريخ المدينة لأبي بكر بن الحسين المراغي. 11- تاريخ بغداد لابن النجّار. 12- تاريخ بغداد للخطيب. 13- تاريخ مَن دخلَ مصرَ مِن المُحدِّثين للمُنذري قال: "وقفتُ على المجلد الأول". 14- التدوين في أخبار قزوين للرافعي. 15- تذكرة ابن مكتوم [6] . نقل من خطه. 16- التذكرة الحمدونية. 17- تذكرة المَقريزي. 18- تذكرة الوداعي. 19- تذكرة اليغموري: "كنوز الفوائد ومعادن الفرائد" [7] . 20- تذكرة عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي. 21- تفسير ابن أبي حاتم. 22- تفسير ابن جرير 23- تفسير القرطبي. 24- [تلخيص المستدرك] [8] للذهبي. 25- التمهيد لابن عبد البر. 26- التنوير في مولد السراج المنير لابن دحية. 27- جامع المسانيد لابن الجوزي. 28- جزء نُعَيم بن الهَيْصم. 29- حاشية الكشاف للطِّيبي. 30- حكايات الصوفية لمحمد بن باكويه الشيرازي. ثم سمّاه في آخر النقل: "حكايات العارفين". 31- حكاية القاضي واللص. رواها بإسناده، والحكاية في "طبقات الشافعية الكبرى" وغيره. 32- حلية الأولياء لأبي نُعيم. 33- حياة الحيوان للدَّميري. 34- دلائل النبوة للبيهقي. 35- [ديوان] ابن الوردي. نقل منه "مفاخرة السيف والقلم"، و"مقامة الحرقة للخرقة"، و"المقامة المنبجية"، و"المقامة الصوفية"، ولم يصرحْ، لكن رأيتُها كلها في "الديوان"، وهو يضمُّ نثر ابن الوردي وشعره. 36- ذم الغضب لابن أبي الدنيا. 37- رسالة السكين لتقي الدين بن حجة. ساقها كلها. 38- رسالة حول حديث أم زرع [9] لأبي الحسن علي بن وفا. ساقها كلها. 39- الزهد لأحمد بن حنبل. 40- سنن أبي داود. 41- السنن للبيهقي. 42- [شرح البخاري] [10] لابن حجر. 43- شرح البخاري للكرماني. 44- شرح لامية العجم للصفدي. 45- شعب الإيمان للبيهقي. 46- طبقات ابن سعد. 47- الطبقات الكبرى للسبكي. 48- الطيوريات. 49- العلل المتناهية لابن الجوزي. 50- العلم لابن عبد البر. 51- الغرر من الأخبار لوكيع. 52- الفرق الإسلامية لابن أبي الدم. 53- فضل العلم للمرهبي. [جاء اللفظ في المطبوع: "للذهبي" وهو تحريف!]. 54- فوائد النجيرمي. 55- القسطاس للزمخشري. 56- الكامل للمبرد. 57- كتاب البسملة لأبي شامة. 58- لطائف المعارف للقاضي أبي بكر النيسابوري. 59- اللطائف واللطف للثعالبي. 60- مجموع للقاضي أمين الدين بن الزبير 61- مساوئ الأخلاق للخرائطي. 62- المستدرك للحاكم. 63- مسند أحمد. 64- [مسند الفردوس] [11] للديلمي. 65- مشيخة أبي الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون النرسي. 66- مصباح الظلام لمحمد بن موسى بن النعمان. 67- المُصنَّف لابن أبي شيبة. 68- المُصنَّف لعبد الرزاق. 69- المُعجِب من المُغرِب في أخبار المَغرب لليغموري. وقفَ عليه بخطه. 70- معجم السَّفر لأبي طاهر السِّلفي. 71- معجم الصحابة للبغوي. 72- المعجم الكبير للطبراني. 73- معرفة الصحابة لأبي موسى المديني. 74- معرفة الصحابة لأبي نُعيم. 75- المقامة اللازوردية له. ساقها كلها. 76- مكارم الأخلاق للخرائطي. 77- نزهة المذاكرة وأنس المحاضرة [لم يذكر مؤلفه]. 78- نزهة النُّدماء [لم يذكر مؤلفه]. 79- النهاية لابن الأثير. 80- نوادر الأصول للحكيم الترمذي. 81- النوادر لابن الأعرابي. 82- [هواتف الجنّان] [12] للخرائطي. [1] حققَ هذا الكتابَ الأستاذ يحيى الجبوري -رحمه الله-، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، ط1 (1424هـ-2003م). [2] المحاضرات ص 26. [3] في المطبوع: "مِن" وهو تحريفٌ جعلَ المحقق يعلق تعليقًا غريبًا فيقول: "المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، طبع في مصر سنة 1949". [4] المحاضرات والمحاورات ص 301. [5] كذا سمّاه في هذا الموضع ص 208 وهو سبط ابن الجوزي. [6] وهي من مصادره في "بغية الوعاة" قال عنها في المقدمة (1/5): "خمس مجلدات وفيها تراجم نحاة كثيرة". [7] وهي من مصادره في «بغية الوعاة» قال عنها في المقدمة (1/ 5): «ست مجلدات، ثلاث بمكة، وثلاث بالقاهرة بخطه". [8] لم يسمِّه. [9] لم يذكر لها عنوانًا. [10] لم يسمِّه. [11] لم يسمِّه. [12] لم يسمِّه.
الرد على من يطعن في معاوية بن أبي سفيان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: سوف نذكر بعض الطعون التي يثيرها بعض الحاقدين على الإسلام ضد معاوية بن أبي سفيان، رضي اللهُ عنهما، ونذكر الرد عليها، فأقول وبالله تعالى التوفيق: الشبهة الأولى: قال الطاعنون: معاويةُ بنُ أبي سفيان هَوَ الطَّلِيقُ ابْنُ الطَّلِيقِ. الرد على هذه الشبهة: هَذَه لَيْسَتْ صِفَةُ ذَمٍّ؛ فَإِنَّ الطُّلَقَاءَ هُمْ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ، الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَطْلَقَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا نَحْوًا مَنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَفِيهِمْ مَنْ صَارَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ يَهْجُوهُ ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ الَّذِي وَلَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ لَمَّا فَتَحَهَا، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ381). الشبهة الثانية: قال الطاعنون: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِي فَاقْتُلُوهُ». الرد على هذه الشبهة: الرد من وجهين: أولًا : مَا ذَكَرَوه مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ مُعَاوِيَةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ إِذَا رُؤِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي عِلْمِ النَّقْلِ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الحديثُ لَمْ يُذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. ثانيًا : يُبَيِّنُ كَذِبَ الطاعنين أَنَّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَعِدَ عَلَيْهِ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ مَنْ كَانَ مُعَاوِيَةُ خَيْرًا مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ كَانَ يَجِبُ قَتْلُ مَنْ صَعِدَ عَلَيْهِ لِمُجَرَّدِ الصُّعُودِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَبَ قَتْلُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ. ثُمَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ صُعُودِ الْمِنْبَرِ لَا يُبِيحُ قَتْلَ مُسْلِمٍ. وَإِنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِهِ تَوَلَّى الْأَمْرَ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ، فَيَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى الْأَمْرَ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ مِمَّنْ مُعَاوِيَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَقِتَالِهِمْ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ381: 379). الشبهة الثالثة: قال الطاعنون: "سَمَّوْا معاوية ابن أبي سفيان كَاتِبَ الْوَحْيِ وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنَ الْوَحْيِ". الرد على هذه الشبهة: هَذَا قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا عِلْمٍ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنَ الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ لَهُ رَسَائِلَ؟ روى الشيخانِ عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ ﴾ (النساء: 95) مِنَ المُؤْمِنِينَ "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا (ابن ثابت)، فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا. (البخاري حديث: 2831/مسلم حديث: 1898). وَكَتَبَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضًا: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ428: 427). الشبهة الرابعة: قال الطاعنون " إِنَّ مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا مُدَّةَ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثًا ". الرد على هذه الشبهة: الرد من عِدة وجوه: أولًا: لَا شَكَّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ وَأَخَاهُ وَغَيْرَهُمْ أَسْلَمُوا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُشْرِكًا مُدَّةَ الْمَبْعَثِ. وَمُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَغِيرًا. وَمُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ مَعَ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، مِثْلُ أَخِيهِ يَزِيدَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ،وَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ أَعْظَمَ كُفْرًا وَمُحَارَبَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُعَاوِيَةَ. فَصَفْوَانُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو سُفْيَانَ كَانُوا مُقَدَّمِينَ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ أُحُدٍ، رُءُوسَ الْأَحْزَابِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ وَعِكْرِمَةُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ إِسْلَامًا، وَاسْتُشْهِدُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. ثانيًا: مُعَاوِيَةُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَذًى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ، فَإِذَا كَانَ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مُعَادَاةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُعَاوِيَةَ قَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَصَارَ مِمَّنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَلِكَ؟. ثالثًا: كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً فِي وِلَايَتِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَلَوْلَا مُحَارَبَتُهُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَوَلِّيهِ الْمُلْكَ، لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ، كَمَا لَمْ يُذْكَرْ أَمْثَالُهُ إِلَّا بِخَيْرٍ. وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ - مُعَاوِيَةُ وَنَحْوُهُ - قَدْ شَهِدُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةَ غَزَوَاتٍ، كَغَزَاةِ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ وَتَبُوكَ، فَلَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مَا لِأَمْثَالِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا وَقَدْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ مُجَاهِدِينَ تَمَامَ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعٍ وَعَشْرٍ، وَبَعْضَ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ؟! (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ429: 428) الشبهة الخامسة: قال الطاعنون: دعا النبي (ص) على معاوية بن أبي سفيان، فقال: (لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ). الرد على هذه الشبهة: روى مسلمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً وَقَالَ اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ. قَالَ ثُمَّ قَالَ لِيَ اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ. فَقَالَ: لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ. (مسلم حديث 2604). قال العلماء: هذا الحديث مِن مناقب معاوية بن أبي سفيان، وذلك لما أخرجه مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ لَعَنْتُهُ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (مسلم حديث 2601). الشبهة السادسة: قال الطاعنون: نَزَلَ فِي معاوية بن أبي سفيان قوله تعالى: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا). أولًا: هذا قولٌ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، لَمَّا أُكْرِهَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ عَلَى الْكُفْرِ. ثانيًا: لَوْ افترضنا أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ ; فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَبِلَ إِسْلَامَهُ وَبَايَعَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 89: 86] (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ443). الشبهة السابعة: قال الطاعنون: «رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَمُوتُ عَلَى غَيْرِ سُنَّتِي فَطَلَعَ مُعَاوِيَةُ. وَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا، فَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ بِيَدِ ابْنِهِ يَزِيدَ وَخَرَجَ وَلَمْ يَسْمَعِ الْخُطْبَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَعَنَ اللَّهُ الْقَائِدَ وَالْمَقُودَ. " فَأَيُّ يَوْمٍ يَكُونُ لِلْأُمَّةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ ذِي الْإِسَاءَةِ». الرد على هذه الشبهة: الرد مِن عِدة وجوه: أَوَّلًا: نَحْنُ نُطَالِبُ بِصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ. ثَانِيًا: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ، وَلَا لَهُ إِسْنَادٌ مَعْرُوفٌ. ثالثًا: قَوْلُهمُ: " إِنَّ معاويةَ أَخَذَ بِيَدِ ابْنِهِ يَزِيدَ " يَزِيدُ بن معاوية وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمُعَاوِيَةَ وَلَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ نَاصِرٍ: خَطَبَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امرأةً- فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُزَوَّجْ، لِأَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا،وَإِنَّمَا تَزَوَّجَ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَوُلِدَ لَهُ يَزِيدُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. رابعًا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ ذَمِّ الصَّحَابَةِ، وَأَرْوَى النَّاسِ لِمَنَاقِبِهِمْ، وَقَوْلُهُ فِي مَدْحِ مُعَاوِيَةَ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ عَنْهُ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ446: 443). روى أبو بَكْر الخَلَّال عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَسْوَدَ(أَيْ أَسْخَى) مِنْ مُعَاوِيَةَ». قَالَ: قُلْتُ: هُوَ كَانَ أَسْوَدَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ أَخْيَرُ مِنْهُ، وَهُوَ وَاللَّهِ كَانَ أَسْوَدَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ". قَالَ: قُلْتُ: فَهُوَ كَانَ أَسْوَدَ مِنْ عُمَرَ؟ قَالَ: عُمَرُ وَاللَّهِ كَانَ أَخْيَرَ مِنْهُ، وَهُوَ وَاللَّهِ أَسْوَدُ مِنْ عُمَرَ ". قَالَ: قُلْتُ: هُوَ كَانَ أَسْوَدَ مِنْ عُثْمَانَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ عُثْمَانُ لَسَيِّدًا، وَهُوَ كَانَ أَسْوَدَ مِنْهُ ". (السنة ـ لأبي بكر الخَلَّال جـ2صـ441). الشبهة الثامنة: يقول الطاعنون:: " قَتَلَ يَزِيدُ بنُ معاويةَ مَوْلَانَا الْحُسَيْنَ وَنَهَبَ نِسَاءَهُ ". الرد على هذه الشبهة من عِدة وجوه: أولًا: إِنَّ يَزِيدَ بنَ معاوية لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بن علي بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العلمِ، وَلَكِنْ كَتَبَ يزيدُ إِلَى عُبَيْدِ الله بْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَنْصُرُونَهُ وَيَفُونَ لَهُ بِمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا قَتَلُوا مُسْلِمًا وَغَدَرُوا بِهِ وَبَايَعُوا ابْنَ زِيَادٍ، أَرَادَ الْحُسَيْنُ بنُ عليٍّ الرُّجُوعَ فَأَدْرَكَتْهُ السَّرِيَّةُ الظَّالِمَةُ، فَطَلَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ بن معاوية، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمَ نَفْسَه أسيرًا لَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ثانيًا: لَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ بنَ معاوية، مَقْتَلَ الحسين أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَظَهَرَ الْبُكَاءَ فِي دَارِهِ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُ حَرِيمًا أَصْلًا، بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ. ثالثًا: وَلَوْ افترضنا أَنَّ يَزِيدَ بنَ معاويةَ قَتَلَ الْحُسَيْنَ بن علي، فما ذنْبُ معاوية في ذلك. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (فاطر: 18) (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ472). الشبهة التاسعة: يقول الطاعنون: إن الخلاف بين علي ومعاوية كان سببه طمع معاوية في الخلافة وأن خروج معاوية على علي وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام. الرد على هذه الشبهة: هذا كذبٌ وافتراءٌ، لأن معاويةُ بنُ أبي سفيان لم يعترض على خلافة علي بن أبي طالب،ولكن طلب منه القصاص مِن قتلةِ عثمان بن عفان. • جَاءَ أَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلاَنِيُّ وَأُنَاسٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَقَالُوا: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا، أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لاَ وَاللهِ، إِنِّيْ لأَعْلَمُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنِّي، وَأَحَقُّ بِالأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُم تَعْلَمُوْنَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُوْمًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَالطَّالِبُ بِدَمِهِ، فَائْتُوْهُ، فَقُوْلُوا لَهُ، فَلْيَدْفَعْ إِلَيَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأُسْلِمَ لَهُ. فَأَتَوْا عَلِيًّا، فَكَلَّمُوْهُ، فَلَمْ يَدْفَعْهُم إِلَيْهِ. (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 3 صـ 140). قال الإمامُ ابن حجر الهيتمي: حدثت الفتنة عندما طلب معاوية ومن معه من علي بن أبي طالب تسليم قتلة عثمان بن عفان، إليهم، وذلك لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي ظنًا منه أن تسليم قتلة عثمان إليهم على الفور، مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر علي، يؤدي إلى اضطراب في أمْر الخلافة، التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام خاصة وهي في بدايتها، فرأى علي بن أبي طالب أن تأخير تسليم قتلة عثمان رضي الله عنه أصوب إلي أن يرسخ قدمه في الخلافة، ويتحقق التمكن من الأمور فيها، ويتم اتفاق كلمة المسلمين، ثم بعد ذلك يلتقطهم واحدًا فواحدًا ويسلمهم إليهم، ويدل على ذلك أن بعض قتلة عثمان رضي الله عنه عزم على الخروج على علي بن أبي طالب ومقاتلته لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان رضي الله عنه. (الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي صـ325). الشبهة العاشرة: قال الطاعنون: إن أبا بكر الصديق قد ولَّى معاوية فأقره عمر طيلة حياته. الرد على هذه الشبهة: هذا كذب وافتراء، لأن المعروف عند كل مَن درس سيرة الخلفاء أن أبا بكر قد ولى يزيد بن أبي سفيان الشام، وبقي واليًا عليها في خلافة عمر وأقره عمر فلما توفي يزيد ولى أخاه معاوية بن أبي سفيان. الشبهة الحادية عشرة: قال الطاعنون: إن عمر بن الخطاب كان يلين مع معاوية ولا يحاسبه أبدًا. الرد على هذه الشبهة: الرد على هذه الشبهة من وجهين: أولًا: هذا كذبٌ وافتراءٌ على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. ونقول للطاعنين : ما هو الدليل على قولكم هذا؟ ثانيًا: الثابت في كتب السير والتاريخ يؤكد شدة محاسبة عمر لجميع ولاته،وكل من ثبت في حقه التقصير في عمله عزله أمير المؤمنين عمر، وولى غيره مكانه، فعمر، رضي الله عنه، لا يجامل أحدًا من ولاته على حساب المسلمين. قَالَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا الصَّحَابَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ وَثَبَ إِلَيْهِ بِالدِّرَّةِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ فِيَّ. فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا فِي قَوْمِكَ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا بَلَغَنِي إِلَّا خَيْرٌ، ولو بلغني غيرَ ذلكَ لكانَ مِني إليه غيرَ مَا رأيتم،ولكِنْ رَأَيْتُهُ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ- فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَضَعَ مِنْهُ ما شمخ. (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ125). الشبهة الثانية عشرة: قال الطاعنون أن عمر بن الخطاب لم يعزل معاوية بن أبي سفيان رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية. الرد على هذه الشبهة: هذا الطعن يكذبه التاريخ فقد مكث معاوية أربعين عامًا يحكم أهل الشام، كانت سياسته مع رعيته من أفضل السياسات، وكانت رعيته تحبه ويحبُّهم، لدرجة أنهم أجابوه بقوة للأخذ بدم عثمان، ووقفوا معه في حربه مع علي بن أبي طالب. الشبهة الثالثة عشر: قال الطاعنون: إن معاويةَ بن أبي سفيان قتلَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ،وهو من الصحابة. الرد على هذه الشبهة: أولًا: حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ عَدَّهُ البخاريُّ وابنُ أبي حاتم وخليفة بن خياط وابنُ حبان، وابنُ سعدٍ مِن التابعين. (الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ1صـ313). ثانيًا: روى محمد بن سيرين أن زياد ابن أبيه- وهو أمير الكوفة- خطبَ خطبةً أطال فيها، فنادى حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصلاة! فمضى زيادٌ في خطبته، فحصبه حُجْرٌ (ألقى عليه الحصى) وحصبه آخرون معه. فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغى حجر على أميره في بيت الله، وعد ذلك من الفساد في الأرض. فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إليَّ فلما جيء به إلى معاوية أمر بقتله. ثالثًا: سببُ قتل معاوية لحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ هو محاولة حُجْرٍ البغي على الجماعة وشق عصا المسلمين، فاعتبر معاوية ذلك من السعي بالفساد في الأرض وخصوصًا في الكوفة التي خرج منها جزء من أصحاب الفتنة على عثمان، فأراد معاوية قطع دابر الفتنة من منبتها بقتل حجر بن عدي. رابعًا: لعل حجة معاوية في قتل حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ ما رواه مسلمٌ عَنْ عَرْفَجَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ. » (مسلم حديث: 1852). خامسًا: ولو افترضنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر بن عدي فإن هذا لا مطعن فيه عليه، فهذا اجتهادٌ من معاوية،وقد سبق هذا الخطأ في القتل من اثنين من الصحابة،هما: خالد بن الوليد،مع بني جزيمة، وأسامة بن زيد،عندما قتل الرجل بعد أن قال: لا إله إلا الله. (العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي صـ220: 219). سادسًا: قال عبد الله بن أبي مُليكة: لما قدم معاوية دخل على عائشة فقالت: أقتلت حُجْرًا؟ قال: يا أم المؤمنين: أني وجدت قتلَ رَجُلٍ في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم. ( تاريخ دمشق لابن عساكر جـ12صـ229). الشبهة الرابعة عشر: قال الطاعنون: " كَانَ معاويةُ بنُ أبي سفيان بِالْيَمَنِ يَوْمَ الْفَتْحِ يَطْعَنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ أبي سُفيانَ بْنِ حَرْبٍ يُعَيِّرُهُ بِإِسْلَامِهِ، وَيَقُولُ: أَصَبَوْتَ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ؟ صَبَوْتَ: أي تركت دين الآباء ودخلت دين محمد. الرد على هذه الشبهة: هَذَا مِنَ الْكَذِبِ الْمَعْلُومِ ;فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا كَانَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْيَمَنِ، وَأَبُوهُ أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ لَيْلَةَ نَزَلَ بِهَا، وَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ يُحِبُّ الشَّرَفَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ» ". ثانيًا: أَبُو سُفْيَانَ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ، لَمَّا سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فِي الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهُمْ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، لَكِنَّ الْحَسَدَ مَنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، حَتَّى أَدْخَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ، بِخِلَافِ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عَنْ أَخِيهِ يَزِيدَ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ4صـ435: 434). الشبهة الخامسة عشر: قال الطاعنون: " إن معاوية بن أبي سفيان أخذ الخلافة من غيرِ مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة " . الرد على هذه الشبة: هذا الادعاء باطلٌ،لأن الحسن بن علي قد تنازل لمعاوية بالخلافة،وقد بايعه جميعُ الناس، ولا نعلم أن أحدًا من الصحابة، الموجودين في ذلك الوقت، امتنع عن مبايعة معاوية. 1- روى البخاريُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ البصري، يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ(الجيش) أَمْثَالِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا (الكفء في الشجاعة)، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ،: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ (أي من يقوم بأطفالهم وضعفائهم)، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ(الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ)، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولاَ لَهُ: وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالاَ لَهُ: فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ (أي أيام الخلافة)، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا، قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ البصري: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» (البخاري حديث: 2704). 2- روى الطبرانيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالنَّخِيلَةِ (مكان) حِينَ صَالَحَهُ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِذَا كَانَ ذَا فَقُمْ فَتَكَلَّمْ، وَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّكَ قَدْ سَلَّمْتَ هَذَا الْأَمْرَ لِي. فَقَامَ فَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى، وَإِنَّ أَحْمَقَ الْحُمْقِ الْفُجُورُ، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي اخْتَلَفْتُ فِيهِ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ إِمَّا كَانَ حَقًّا لِي تَرَكْتُهُ لِمُعَاوِيَةَ إِرَادَةَ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، أَوْ يَكُونُ حَقًّا كَانَ لِامْرِئٍ أَحَقَّ بِهِ مِنِّي، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ،﴿ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [الأنبياء: 111] (معجم الطبراني الكبير جـ3صـ26) الشبهة السادسة عشر: يقول الطاعنون: كيف تريدون أن يكون معاوية بن أبي سفيان صحابيًا عادلًا وقد دسَّ السم للحسن بن علي، سيد شباب أهل الجنّة وقتله؟ الرد على هذه الشبهة: الرد على هذه الشبهة من عِدة وجوه: أولًا: لم يثبت دليلٌ صحيحٌ على هذا الادعاء. ثانيًا: تضاربت الأقوال فيمن سمَّ الحسن غير معاوية فقيل هي زوجته، وقيل: أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك، وقيل: يزيد بن معاوية،وهذا التضارب يضعف هذه النقول لأنه ينقصها النقل الثابت بذلك. ثالثًا: هذا الادعاء بأن معاوية قد دس السمَّ للحسن بن علي،قد تقبله العقول في حالة واحدة وهي رفض الحسن الصلح مع معاوية ومقاتلته على الخلافة،وهذا لم يحدث، ولكن الحسن صالحَ معاوية وسلَّمَ له بالخلافة وبايعه فعلى أي شيء يسمّ معاوية الحسن؟! رابعًا: لم يرد في وفاة الحسن بن علي بالسم خبر صحيح أو رواية ذات أسانيد صحيحة. خامسًا: إذا كان معاوية يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من أخذِ البيعة لولده يزيد بالخلافة من بعده، بدون معارضة، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة،ولن تقتصر التصفية على الحسن فقط. سادسًا: قالَ الإمامُ ابنُ كثير: رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْثَ إِلَى جَعْدَةَ بِنْتِ الْأَشْعَثِ أَنْ سُمِّي الْحَسَنَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُكِ بَعْدَهُ، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَمْ نَرْضَكِ لِلْحَسَنِ أَفَنَرْضَاكِ لِأَنْفُسِنَا؟ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بِطَرِيقِ الْأُولَى والأحرى. (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ43). هذا النقل باطلٌ مِن وجهين: 1- هل معاوية أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير، وما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما! 2- هل جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له؟! أليست جَعْدَةُ ابنة أمير قبيلة كِندة، وهو الأشعث بن قيس؟!،ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفًا ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة وجده الرسول) ص) وكفى به فخرًا وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين؟! ما هو الشيء الذي تسعى إليه جَعْدَةُ وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير؟! سابعًا: هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول، فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسنُ صفعةً قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حدًا لصراع المسلمين. وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب، فربما أرادوا الانتقام لقتلاهم في النهروان وغيرها بسَمِ الحسن بن علي. وهكذا تظهرُ براءة معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد مِن تهمة سَمِّ الحسنِ بن علي. (شبهات طال حولها الجدل صـ869: 864) الشبهة السابعة عشر: قال الطاعنون: "إن معاويةَ بن أبي سفيان أعطى مِصْرَ طُعمَةً لعمرو بن العاص، لقاء تأييد عمروٍ له في حربه ضد علي بن أبي طالب". الرد على هذه الشبهة: الرد من عدة وجوه: أولًا: هذه الأخبار تحوي روحًا عدائية لعمرو ومعاوية وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر سريع. ثانيًا: مِن الدلائل القوية التي تدلُ على بُطلانِ هذه الشبهة، تزكية نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص. روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ. (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 3018). وروى الترمذيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ» (حديث حسن) (صحيح الترمذي للألباني حديث 3020). ثانيًا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حَوالة الأَزْدِيّ: ما كَانَ لمعاوية بن أبي سفيان هَمٌ إلا مصرَ، وَكَانَ لأهلها هائبًا خائفًا، لقربهم مِنْهُ، وشدتهم عَلَى مَن كَانَ عَلَى رأي عُثْمَان،وَقَدْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ علم أن بِهَا قومًا قَدْ ساءهم قتل عُثْمَان،وخالفوا عَلِيًّا،وَكَانَ مُعَاوِيَة يرجو أن يكون إذا ظهر عَلَيْهَا ظهر عَلَى حرب علي، لعِظَمِ خَراجها(ما يخرج منها مِن الخيرات). (تاريخ الطبري جـ5صـ97). هنا نسألُ سؤالًا مهمًا: كيفَ يهبُ معاوية ذلك الخراج كله لعمرو بن العاص وهو في شدة الحاجة إليه؟! ثالثًا: قَالَ عُبَيْدُ اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر: كتب معاوية إلى وردَان مولى عمرو بن العاص أن زِدْ عَلَى كل امرئ منَ القِبط قيراطًا (مبلغًا من المال)، فكتب إليه: كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم. (فتوح البلدان لياقوت الحموي صـ215). هذه الرواية صريحةٌ قاطعةٌ في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة. رابعًا: كيفَ يستحلُ معاويةُ أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لعمرو بن العاص، وهو فرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه. (معاوية بن أبي سفيان ـ لعلي محمد الصلابي صـ288: 285). خامسًا: قَالَ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُنَا يَقُولُ: إِنَّ فِي بَيْتِ مَالِكُمْ فَضْلًا بَعْدَ أُعْطِيَاتِكُمْ، وَإِنِّي قَاسِمُهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنْ كَانَ يَأْتِينَا فَضْلٌ عَامًا قَابِلًا قَسَّمْنَاهُ عَلَيْكُمْ، وَإِلَّا فَلَا عَتَبَةَ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ. (منهاج السنة لابن تيمية جـ6صـ234). الشبهة الثامنة عشر: قال الطاعنون: "إن معاوية بن أبي سفيان تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج (دار بجرد) وأن يعطيه مِن بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية". الرد على هذه الشبهة: هذا الكلامُ كذبٌ وافتراءٌ على معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي، رضي الله عنهم. ونسألُ سؤالًا هامًا: هل هذا يليق بالحسن بن علي، سيد شباب أهل الجنة.؟! روى البخاريُّ عَنْ الحَسَنِ البصري قَالَ: (وهو يتحدث عن الصلح بين معاوية والحسن بن علي) بَعَثَ (أي معاوية) إِلَيْهِ (أي الحسن) رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولاَ لَهُ: وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالاَ لَهُ: فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ(أي الحسن): فَمَنْ لِي بِهَذَا (أي من يضمن لي هذا)، قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ. (البخاري حديث: 2704). في هذا الحديث يتحدث الحسنُ بن علي عن أموالٍ سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، ويريد الحسنُ ألا يطالبهم بها معاوية، ولا يوجد ذِكْرٌ لأموالٍ يطلبُ الحسنُ من معاوية أن يدفعها إليه في المستقبل. (معاوية بن أبي سفيان ـ لعلي محمد الصلابي صـ289: 288). الشبهة التاسعة عشر: قال الطاعنون: إن معاويةَ بن أبي سفيان قال: "أني رأيت أن منبر رسول الله وعَصَاه، لا يُتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه.". الرد على هذه الشبهة: الرد من عِدة وجوه: أولًا: لا يوجد دليلٌ على صحة هذه الرواية، فضلًا عن أن دِين معاوية، وعدالته، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو ما رواه الشيخانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ»0 البخاري حديث: 1195/مسلم حديث: 1390). روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ صَالِحٍ، أَنَّ بَاقُولَ، مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ «صَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْبَرَهُ مِنْ طَرْفَاءَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ» فَلَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ زَادَ فِيهِ. (مصنف عبد الرزاق جـ3صـ182 حديث: 5244). هذا الحديث أشار إلى زيادة درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر، أو أخذ عصا النبي(ص) معه إلى الشام. ثانيًا: اتهام معاوية، رضي الله عنه، ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، هذا الخبر كذبٌ وافتراءٌ على معاوية. وموقف الأنصار في الدفاع عن عثمان معروفٌ. روى خليفةُ بنُ خياط عَن قَتَادَة أَن زيد بْن ثَابت قَالَ لعُثْمَان: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَار بِالْبَابِ يَقُولُونَ إِن شِئْت كُنَّا أنصار اللَّه مرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَة لي فِي ذَلِكَ كفوا. (تاريخ خليفة صـ: 173). ثالثًا: زعمهم أن معاويةَ يبغض الأنصار، رضي الله عنهم، لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذا الكذب، ومن الشواهد على ذلك: 1- توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر. 2- تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميرًا على الكوفة. 3- تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميرًا على مصر والمغرب معا. 4- تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميرًا على طرابلس. (معاوية بن أبي سفيان ـ لعلي محمد الصلابي صـ349: 347). الشبهة العشرون: قال الطاعنون "إن معاوية بن أبي سفيان أمَرَ بلعنِ علي بن أبي طالب على المنابر.". الرد على هذه الشبهة: الرد من وجهين: أولًا: هذا كذبٌ وافتراءٌ على معاوية بن أبي سفيان ويحتاج إلى دليل صحيح. ثانيًا: ادعاء الطاعنين بأن معاوية أمرَ بسب علي بن طالب ولعنه على المنابر مردود عليهم لعدة أمور: 1- ما كان معاوية يَسُبُّ عليًا فكيف يأمر غيره بسبه، بل كان معاوية معظمًا لعليٍّ، معترفًا له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه. 2- لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية تعرض لعلي بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه. 3- انفرد معاوية ا بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ودانت له الأمصار بالملك فأي نفع له في سب علي بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك لما فيه من تهدئة النفوس وتسكين الأمور ومثل هذا لا يخفى على معاوية ا الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير. 4- كان بين معاوية بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي بن أبي طالب مِن الألفة والتقارب ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ. وهذا مما يقطع بكذب ما ادَّعاه الطاعنون في حق معاوية من حمله الناس على سب علي. (شبهات طال حولها الجدل صـ904: 898). قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَفَدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لِلْحَسَنِ: مرحبًا وأهلًا بابن رسول الله، وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ درهم. (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ127). • وَفَدَ مَرَّةً الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَجَازَهُمَا عَلَى الْفَوْرِ بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لَهُمَا: مَا أَجَازَ بهما أَحَدٌ قَبْلِي، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ، وَلَمْ تُعْطِ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنَّا. (البداية والنهاية لابن كثير جـ8صـ127 ). الشبهة الحادية والعشرون: قال الطاعنون: "لم يثبت في فضل معاوية بن أبي سفيان حديث صحيح.". الرد على هذه الشبهة: هذا كذبٌ وافتراءٌ على معاوية بن أبي سفيان. لقد ثبتَ في فضل معاوية أحاديث صحيحة: 1- روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ. (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 3018). 2- روى الترمذيُّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ حِمْصَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ النَّاسُ عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ عُمَيْرٌ: لَا تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ. (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 3019). 3- روى البخاريُّ عن ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ. قَالَ: أَصَابَ إِنَّهُ فَقِيهٌ. (البخاري حديث 3765) الشبهة الثانية والعشرون: قال الطاعنون: روى مسلمٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ، خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي» وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ: «ادْعُوا لِي عَلِيًّا» فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61] دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي» (مسلم حديث: 2404). الرد على هذه الشبهة: قال الإمامُ النووي (رحمه الله): قَوْلُهُ: (إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ الَّتِي فِي ظَاهِرِهَا دَخَلٌ عَلَى صَحَابِيٍّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا. قَالُوا: وَلَا يَقَعُ فِي رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ إِلَّا مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ: أولًا: قَوْلُ مُعَاوِيَةَ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ سَعْدًا بِسَبِّهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنِ السَّبَبِ الْمَانِعِ لَهُ مِنَ السَّبِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَلِ امْتَنَعْتَ تَوَرُّعًا أَوْ خَوْفًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ تَوَرُّعًا وَإِجْلَالًا لَهُ عَنِ السَّبِ فَأَنْتَ مُصِيبٌ مُحْسِنٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَهُ جَوَابٌ آخَرُ. ثانيًا: لَعَلَّ سَعْدًا قَدْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ يَسُبُّونَ فَلَمْ يَسُبَّ مَعَهُمْ وَعَجَزَ عَنِ الْإِنْكَارِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فَسَأَلَهُ هَذَا السُّؤَالَ. ثالثًا: قَالُوا وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخَطِّئَهُ فِي رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَتُظْهِرَ لِلنَّاسِ حُسْنَ رَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا وَأَنَّهُ أَخْطَأَ قَوْلُهُ. (مسلم بشرح النووي جـ8صـ193) الشبهة الثالثة والعشرون: قال الطاعنون: "اسْتَلْحَقُ مُعَاوِيَةَ بنُ أبي سفيان زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ الْمَوْلُودَ عَلَى فِرَاشِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وقد خالف أحكام الإسلام، وذلك بدليل ما رواه الشيخانِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (أي يُنْسَبُ لصاحب الفراش) وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ (أي الرجمُ بالحجارة حتى الموت). (البخاري حديث: 2053/ مسلم حديث: 1457). الرد على هذه الشبهة: الرد مِن عِدة وجوه: أولًا: اسْتَلْحَقَ معاويةُ بنُ أبي سُفيان زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا، وكان منها أن الجماعة يجامعون البَغِيَّ، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرَّمَ هذا النكاح، إلا أنَّه أقرَّ كل ولد كان يُنسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فظن معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يُفَرِّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام. وهذا اجتهادٌ من معاوية، رضي الله عنه. (الكامل في التاريخ لابن الأثير جـ2صـ 471) (تاريخ التشريع الإسلامي ـ لمناع القطان صـ259). فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَة شَهِدَ جَمَاعَة عَلَى إِقْرَار أَبِي سُفْيَان بِأَنَّ زِيَادًا وَلَدَهُ فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَة لِذَلِكَ. قال معاوية: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ الإِسْلامَ لَمْ يَزِدْنِي إِلا عِزًّا،وَأَنِّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ. (تاريخ الطبري جـ5صـ215). ثانيًا : زيادُ بنُ أبيه هو الذي ألحقَ نَسَبَهُ بنسَبِ أبي سفيان. قال أبو نُعَيم الأصبهاني: زِيَادُ بْنُ سُمَيَّةَ ادَّعَى أَبَا سُفْيَانَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ. (معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني جـ3صـ 1217). ثالثًا: هذه مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، اختلف فيها الفقهاء. هَلْ يَجُوزُ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ أَحَدًا؟ أَمْ لَا يَجُوزُ؟ فقال الإمامُ مالكٌ: يرث ولا يثبت النسب. وقال الشافعي - في أحد القولين - يثبت النسب ويأخذ المال، هذا إذا كان المقر به غير معروف النسب. (العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي صـ: 252). رابعًا: معاويةُ بنُ أبي سفيان لم يستلحق زياد ابن أبيه. قال أبو الحسن المدائني: أخبرنا أبو الزبير الكاتب عن ابن إسحاق قال: اشترى زيادٌ أباه عُبيدًا، فقدم زياد على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال له: ما صنعت بأول شيءٍ أخذتَ مِن عطائك قال: اشتريتُ به أبي، قال: فأعجبَ ذلكَ عمر، رضي الله عنه. قالَ ابنُ خَلِّكَان (رحمه الله): وهذا ينافي استلحاق معاوية إياه. (وفيات الأعيان لابن خلكان جـ6صـ359). خامسًا: لعل معاوية بن أبي سفيان وأبيه لَمْ يَبْلُغْهُم حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ.". قال الإمامُ ابنُ تيمية(رحمه الله) (وهو يتحدث عن عُذْرِ مُعَاوِيَةَ في اسْتِلْحَاقِه لزِيَادِ بْنَ أَبِيهِ) لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْوَلَدَ لِمَنْ أَحْبَلَ أُمَّهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هُوَ الْمُحْبِلُ لِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا سِيَّمَا قَبْلَ انْتِشَارِ السُّنَّةِ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ هَكَذَا. (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ20صـ: 268). سادسًا: قَالَ ابْنُ خلدون: كَانَت سُمَية أم زِيَاد مولاة لِلْحَارِثِ بن كلدة الثَّقَفِيّ الطَّبِيب وَولدت مِنْهُ أَبَا بكرَة نفيع بن الْحَارِث ثمَّ زَوجهَا بمولى لَهُ فأتتْ مِنْهُ بِابْن سَمَّاهُ نَافِعًا ثمَّ إِن أَبَا سُفْيَان قد ذهب إِلَى الطَّائِف فِي بعض حاجاته فَأصَاب سميَّة هَذِه بِبَعْض أَنكِحَةِ الْجَاهِلِيَّة وولدَت زيادًا هَذَا ونسبته إِلَى أبي سُفْيَان وأقرَ لَهَا بِهِ إِلَّا أَنه كَانَ يخفيه. (سمط النجوم العوالي ـ لعبد الملك العصامي ـ جـ3صـ114). أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأنْ ينفعَ بِهِ طُلاَّبَ العِلْمِ الكِرَامِ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
طبعتان جديدتان لكتاب "المنهاج في بيان مناسك الحاج" لابن الحاج القرطبي صدر حديثًا كتاب "المنهاج في بيان مناسك الحاج" ، تأليف: الفقيه المشاور ابن الحاج "أبي عبد الله محمد بن أحمد بن خلف التجيبي القرطبي المالكي" (ت 529 هـ) ، تحقيق: "عبد الله محمد المذكوري" ، نشر: "دار اللباب للنشر والتوزيع" ، وذلك الإصدار يطبع لأول مرة عن نسخة خطية وحيدة. وقدم له: أ. د. "محمد جميل" عضو المجلس العلمي الأعلى بالمملكة المغربية، وأ. د. "قطب الريسوني" أستاذ الفقه ومقاصد الشريعة في جامعة الشارقة، وقد قدم محققه له بدراسة وافية عن الكتاب ومؤلفه وتآليف المالكية في مناسك الحج. وصدر تحقيق لنفس الكتاب "المنهاج في بيان مناسك الحاج" ، وذلك بتحقيق: "يونس بقيان" ، من منشورات "دار الحديث الكتانية" في سلسلة "أعلاق أندلسية" . وقدم له محققه بمقدمة نفيسة في التعريف بكتاب "المنهاج في بيان مناسك الحاج" ومؤلفه وتحقيق أقواله ومؤلفاته. وهذا الكتاب يعد أقدم منسكٍ مالكيٍّ أندلسي يصلنا كاملًا، ويطبع أول مرة. للإمام الفقيه المُشاوَر ابن الحاج محمد بن أحمد بن خلف التجيبي القرطبي المتوفى سنة (529هـ) . وهذا الكتاب في تقريب المناسك للحاج وتبصيره بفرائض الحج وسننه وفضائله، على مذهب الإمام مالك، مع الإشارة إلى المذاهب الأخرى حال الاقتضاء. وقد شكل هذا الكتاب مصدرًا مهمًا لفقهاء المالكية وغيرهم، ومع ذلك لم يحظ مؤلفه بالشهرة الكافية بين الباحثين حتى بلغ الأمر أن أخطأ بعضهم في نسبة أقواله إلى غيره بسبب تشابه الأسماء. ونجد أن هذا المصنف من أهم الكتب المالكية وأجودها التي صنفت في مناسك الحج، حيث انتقاه المؤلف من أمهات المصادر المالكية، ولم يكن فيها ناقلًا فقط، بل ناقدًا ومرجحًا ومحققًا ومستدلًا لمذهب مالك، وتعتبر هذه الأخيرة منهجًا بارزًا في أكثر مسائل الكتاب التي نقل فيها أقوال المذاهب الأخرى. فالكتاب يعطي مثالًا رائدًا لنوع جديد من المؤلفات الفقهية، وهي المفردة الجامعة التي تتناول عددًا ضخمًا من المسائل المندرجة تحت أبواب الفقه كلها بصورة شاملة، وبصيغة موجزة. وقد اعتمد المحققان في إخراج هذا الكتاب على النسخة الفريدة التي توجد في الخزانة اليوسفية بمراكش تحت رقم (152) وقد وضع على غلافها في آخر الصفحة ختم الخزانة، وهي نسخة عتيقة كتبها أحمد بن عبدالرحمن التادي في موفي عشرين محرم ثمانية وعشرين وسبعمائة، وتقع في ثلاث وسبعين ورقة. والمؤلف : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبي المعروف بابن الحاج القرطبي (مواليد 458هـ - توفي صفر 529هـ) شيخ الأندلس ومفتيها وقاضي الجماعة وكان من كبار فقهاء دولة المرابطين جنبًا إلى ابن رشد الجد. تفقه على يد أبي جعفر بن رزق وتأدب على يد أبي مروان بن سراج وسمع من أبو علي الغساني وأحمد بن مفرج وخازم بن محمد. روى عنه ابنه أبو القاسم محمد بن الحاج، وهو من أجداد أبي الوليد المالكي إمام محراب المالكية بجامع بني أمية بدمشق. وهو من أعلام قرطبة المبرزين في الحديث، والمعتنين برواية أصوله وأسانيده، معدودًا في المحدثين، والأدباء، عارفًا بالفتوى، وكانت الفتوى تدور عليه لمعرفته ودينه وثقته، وكان معتنيًا بالآثار، جامعًا لها، ضابطًا لأسماء رجالها ورواتها، مقيدًا لمعانيها وغريبها، ذاكرًا للأنساب، واللغة والنحو، عالمًا بمعاني الأشعار والسير والأخبار، قيد العلم عمره كله، وعني به عناية كاملة. وكان له مجلس بالمسجد الجامع بقرطبة يسمع الناس فيه، وتقلد القضاء بقرطبة مرتين، وكان في ذاته لينًا، صابرًا، طاهرًا، حليمًا، متواضعًا، لم يحفظ له جورٌ في قضية، ولا ميل بهوادة، ولا أصغى إلى عناية. وكان كثير الخشوع والذكر لله تعالى، ولم يزل آخر مدته يتولى القضاء بقرطبة إلى أن قتل ظلمًا بالمسجد الجامع بقرطبة يوم الجمعة وهو ساجد وله إحدى وسبعون سنة لأربع بقين من صفر سنة تسع وعشرين وخمس مائة (529هـ) . ودفن عشية يوم السبت بمقبرة أم سلمة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم وشهده جمع عظيم من الناس، وأتبعوه ثناءً حسنًا.
عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازي اسمه ونسبه : هو عبد الرحمن بن محمد بن ادريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو محمد بن ابى حاتم الحنظلي الرازي. ذكر ابن السمعاني في " الأنساب " (179 ب) عن ابن طاهر قال: (أ بو حاتم الرازي الحنظلي منسوب إلى درب حنظلة بالري، وداره ومسجده في هذا الدرب رأيته ودخلته ) ثم ساق ابن طاهر بسند له إلى ابن ابى حاتم قال: ( قال أبى: نحن من موالي بنى تميم بن حنظلة من غطفان ) قال ابن طاهر: ( والاعتماد على هذا أولى والله اعلم ). وتعقبه ياقوت في "معجم البلد": أن ( حنظلة ) فقال: (هذا وهم لأن حنظلة هو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وليس في ولده من اسمه تميم، ولا في ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان من اسمه تميم بن حنظلة البتة على ما أجمع عليه النسابون ... ) فإن صح السند إلى ابن أبى حاتم فهم من موالى بنى حنظلة من تميم، والتخليط ممن بعده. مولده ونشأته وطلبه العلم : ولد سنة 240 قال (ولم يدعني أبى أطلب الحديث حتى قرأت القرآن على فضل بن شاذان) والفضل بن شاذان هذا من العلماء المقرئين. ثم شرع في الطلب على أبيه الإمام أبى حاتم الرازي والإمام أبى زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي وغيرهما من محدثي بلده الري. ثم حج به أبوه سنة (255هـ) ذكر ذلك في ترجمة أبيه من "التقدمة". وفى "تذكرة الحفاظ" عنه: (رحل بي أبى سنة خمس وخمسين ومائتين وما احتملت بعد، فلما بلغنا ذا الحليفة احتلمت، فسر أبى حيث أدركت حجة الإسلام). وفى "التذكرة" أيضا: (قال أبو الحسن على بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لعبد الرحمن ( ... ، ثم قال أبو الحسن: رحل مع ابيه، وحج مع محمد بن حماد الطهراني، ورحل بنفسه إلى الشام ومصر سنة 262 ثم رحل إلى أصبهان سنة 264) ولم تؤرخ سنة حجه مع الطهراني، وفى كتابه في ترجمة الطهراني: (سمعت منه مع أبى بالري، وببغداد واسكندرية). وفى "التذكرة" عنه: (كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل: فأتينا يوما انا ورفيق لي شيخا، فقالوا هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكاد أن ينضى فأكلناه نيئا لم نتفرغ نشويه. ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد). مشايخه والرواة عنه : ذكر الذهبي في التذكرة جماعة من قدماء شيوخ ابن أبى حاتم الذين ماتوا سنة 256 فما بعدها إلى الستين، منهم: عبد الله بن سعيد أبو سعيد الاشج، وعلى بن المنذر الطريفي، والحسن بن عرفة، ومحمد بن حسان الأزرق، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي. ومن أئمة شيوخه: أبوه، وأبو زرعة الرازي، ومحمد بن مسلم ابن وارة، وعلى بن الحسين بن الجنيد، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وجماعة كثيرة، ومن الرواة عنه الحسين بن على (حسينك) التميمي الحافظ، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني الحافظ، وعلى بن عبد العزيز بن مدرك، وأبو احمد الحاكم الكبير، وأحمد بن محمد البصير، وعبد الله بن محمد بن أسد، وحمد الأصبهاني، وإبراهيم بن محمد النصراباذى، وأحمد بن محمد بن يزداذ، وعلى بن محمد القصار، وأبو حاتم ابن حبان السبتي صاحب "الثقات" ذكر ذلك في ترجمة أبى حاتم الرازي من الثقات. ثناء أهل العلم عليه: قال أبو الحسن الرازي: (كان - رحمه الله - قد كساه الله بهاءً ونورًا يسرُّ من نظر إليه). وقال على بن أحمد الفرضى: (ما رأيت أحدًا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط، ويروى أن أباه كان يتعجب من تعبد عبد الرحمن، ويقول: من يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف له ذنبًا). وقال أبو عبد الله القزويني: (إذا صليت مع ابن أبى حاتم فسلم نفسك إليه يعمل بها ما شاء). وقال أبو يعلى الخيلي الحافظ: (أخذ علم أبيه وأبى زرعة وكان بحرًا في العلوم ومعرفة الرجال صنف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار.. وكان زاهدًا يعد من الأبدال). وقال الخليلي - في ترجمة أبى بكر بن أبى داود -: (كان يقال: أئمة ثلاثة في زمن واحد، ابن أبى داود، وابن خزيمة، وابن أبى حاتم). أقول: قدم ذكر ابن أبى داود لأنه في ترجمته وإلا فابن أبى حاتم أجل، مع أنه عاش مدة طويلة بعد ابن أبى داود وابن خزيمة، تفرد فيها بالإمامة. وفى "لسان الميزان" (1 / 265): (روى ابن صاعد ببغداد في أيامه حديثًا أخطأ في إسناده فأنكره عليه ابن عقدة فخرج عليه أصحاب ابن صاعد وارتفعوا إلى الوزير على بن عيسى فحبس ابن عقدة، ثم قال الوزير: من يرجع إليه في هذا؟ فقالوا: ابن حاتم، فكتبوا إليه في ذلك فنظر وتأمل فإذا الصواب مع ابن عقدة فكتب إلى الوزير بذلك فأطلق ابن عقدة وعظَّم شأنه). وقد كان في ذاك العصر جماعة من كبار الحافظ ببغداد وما قرب منها فلم يقع الاختيار إلا على ابن أبي حاتم مع بعد بلده. وقال مسلمة بن قاسم الأندلسي الحافظ: (كان ثقة جليل القدر عظيم الذكر إمامًا من أئمة خراسان). وقال أبو الوليد الباجي: (ابن أبى حاتم ثقة حافظ). وقال ابن السمعاني في "الأنساب": (من كبار الأئمة صنف التصانيف الكثيرة منها كتاب الجرح والتعديل وثواب الأعمال وغيرهما، سمع جماعة من شيوخ البخاري ومسلم). وقال الذهبي في "التذكرة": (الإمام الحافظ الناقد شيخ الاسلام ... كتابه في الجرح والتعديل يقضى له بالرتبة المتقنة في الحفظ، وكتابه في "التفسير" عدة مجلدات، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدل على إمامته). وقال في "الميزان": (الحافظ الثبت ابن الحافظ الثبت.. وكان ممن جمع علو الرواية ومعرفة الفن وله الكتب النافعة ككتاب "الجرح والتعديل"، و"التفسير الكبير"، وكتاب "العلل". وما ذكرته لولا ذكر أبى الفضل السليماني له فبئس ما صنع فإنه قال: ذكر أسامى الشيعة من المحدثين الذين يقدمون عليًّا على عثمان: الأعمش، النعمان بن ثابت، شعبة بن الحجاج، عبيد الله بن موسى، عبد الرحمن بن أبي حاتم). وفى "لسان الميزان" (2 / 128) عن الحاكم قال: (سمعت أبا على الحافظ يقول دخلت مرو وفاتني حديث ... فدخلت في بعض رحلاتي الري فإذا الحديث عندهم عن جعفر بن منير الرازي عن روح بن عبادة عن شعبة فأتيت ابن أبى حاتم فسألته عنه فقال: ولم تسأل عن هذا؟ فقلت: هذا حديث تفرد به عثمان بن جبلة عن شعبة وهو في كتب روح بن عبادة عن سعيد.. وقد أخطأ فيه شيخكم هذا على روح فلما كان بعد أيام عاودته في السؤال عن هذا الحديث فأخرج إلى كتابه، على الحاشية: قلت أنا هذا الحديث كذا وكذا وساق الكلام الذي ذكرته له، فقلت له متى قلت أنت هذا؟ وإنما سمعته منى وانقبضت عنه). أقول: هذه مشاحة من أبى على، ويظهر من قول ابن أبى حاتم أولًا: (ولم تسأل عن هذا؟) أنه قد عرف علة الحديث وإنما أراد امتحان أبى على ينظر أتفطن لها أم لا؟ وابن ابى حاتم في طبقة شيوخ أبى على رحمهما الله. وفى "طبقات الشافعية": ( الإمام ابن الإمام حافظ الري وابن حافظها كان بحرًا في العلم وله التصانيف المشهورة ). وقال أبو الحسن الرازي: ( سمعت علي بن الحسين المصري ونحن في جنازة ابن أبى حاتم يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء، وما هو بعجب، رجل من ثمانين سنة لم ينحرف عن الطريق ) توفى في شهر المحرم سنة 327هـ. مصنفاته: 1- "التفسير" في أربع مجلدات. 2- كتاب "علل الحديث" (طبع بمصر في مجلدين). 3- "المسند" في ألف جزء. 4- "الفوائد الكبير". 5- "فوائد الرازيين". 6- "الزهد". 7- "ثواب الأعمال". 8- "المراسيل". 9- "الرد على الجهمية". 10- "الكنى". 11- "تقدمة المعرفة للجرح والتعديل". 12- كتاب "الجرح والتعديل" وقد تقدم عن الخليلي أنَّ له مصنفات في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. المصدر: « مقدمة تحقيق كتاب الجرح والتعديل»
كلمات في رثاء العلَّامة الشَّيخ محمَّد الحسن ولد أحمدُ سالم الشَّنقيطي رحمه الله تعالى ‏ توفِّي فجر يوم الإثنين: 8 شعبان 1442 هـ، في المدينة النَّبويَّة عن ستٍ وتسعين سنة، شيخ الكلِّ أستاذنا العلَّامة المُفيد المعمَّر الزَّاهد، اللُّغوي الفقيه المُتفنِّن الماجد، الشَّيخ محمَّد الحسن ولد أحمدُ سالم الحسني الشِّنقيطي رحمه الله رحمة واسعة (1346هـ-1442هـ)، من علماء شنقيط المُفيدين، وأعلامها المُجيدين، وهو النَّاظم النَّاثر، ذو المناقب والمآثر، والبحرُ الزَّخَّار، وطودُ الفضائل والفخار، أعجوبة في التَّواضع وعلومه الجمَّة، وفضائله الَّتي لم يكن أمرُها على الناس غُمَّة، ابتهج به ذوو المعارف، وأقرُّوا له بالفضائل والعوارف، مفيدُ الطَّلبة بالمنقول والمعقول، والمنطوق والمفهوم، تصدَّر للإفادة في فنون عديدة، وكان لطيفَ المجالسة، حسَنَ المؤانسة، يجري في مجالسه المُطارحات الأدبيَّة، والمذاكرات الشعريَّة، والمواعظ النثريَّة، ومدارسة الفقه والنَّحو والبلاغة والتَّصريف، يطرِّزُ بها دُروسَه، ويجلِّي بها في المجالس عروسَه، فصيحَ اللِّسان، مليحَ البيان، مثابرًا على تعلُّمِ العلم وتعليمه، وتوضيحه وتفهيمه، مع شهامة طِباع، وجودة ذهنٍ وكمال اطِّلاع، وتقنُّعِ الزُّهد والكفاف، وارتداء الصَّون والعفاف، غفرَ الله له وأعلى في المَدارج مُرتقاه، وجعلَ الجنَّة مثواه ومأواه، وأحسن الله عزاء أهله وتلامذته ومحبِّيه، وعوَّض الأمَّة بفقد علمائها، وأخلف على المسلمين خيرًا، ﴿ كُلُّ مَن عَلَيها فانٍ * وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكرامِ ﴾ [الرحمن: 26 ، 27]. تغمَّده الرَّحمنُ بالعفو والرِّضا وجادت ثراه ديمة الرَّحماتِ
الإمام الذهبي ومنهجه في نقد متن الحديث الشريف لحسن فوزي صدر حديثًا كتاب "الإمام الذهبي ومنهجه في نقد متن الحديث الشريف "، تأليف: د. " حسن فوزي "، نشر: " دار القلم للنشر والتوزيع "- دمشق. تناول هذا البحث مظاهر تفرد الإمام الذهبي في علم الحديث، مع جمع أقوال الذهبي في قواعد علم الحديث، ورؤيته لمناهج الحفاظ، وآرائه النقدية لمتون الأحاديث التي ساقها في مؤلفاته، ومنهجه النقدي في نقض المتون المنكرة، وتضعيف الراوي من أجلها، والاتجاه التنظيري والتطبيقي لنقد المتن عند الحافظ الذهبي وأقرانه من علماء الحديث. وقد احتوى البحث على توطئة تبين مكانة السنة المطهرة، وقدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مقدمة في محتوى البحث وبيان مفردات البحث لغة واصطلاحًا ثم الحديث عن دوافع البحث ومنهجية الباحث في دراسة الموضوع. ثم جاء صلب البحث في ثلاثة أبواب، تناول كل باب فصولًا ثلاثة: الباب الأول: حول الحافظ الذهبي؛ وفيه تناول الفصل الأول عصره وحياته وآثاره، وأظهر أثر العوامل السياسية والاجتماعية والعلمية في تكوين الحافظ الذهبي، وتطرق الكاتب إلى مؤلفاته المتعددة، وإلى ما انتحل عليه من مؤلفات مع البيان بالدليل القاطع لزيف تلك النسبة. وتناول الفصل الثاني ملامح المنهج النقدي عند الحافظ الذهبي، ومن ذلك: الإنصاف والمرونة والاعتدال والاهتمام بالكتب الستة ونقد المصنفات ومناقشة الحفاظ واستقراء المصادر وتقييم العلوم، وما قعده من قواعد وسمها الكاتب بالذهبية. وجاء الفصل الثالث ليتناول المقومات العلمية للحافظ الذهبي، وكيف كان الرجل موسوعي العلوم متعدد المشاركات في كثير من ألوان المعرفة، فمن مصطلح الحديث إلى الجرح والتعديل، مرورًا بالفقه، وعودة إلى التاريخ، أضف إلى ذلك الأدب وقواعد العربية وعلم اللغة، والعقيدة، وكان له نظرات تربوية والتفاتات سياسية إلى غير ذلك من مناحي العلوم وجوانب المعرفة. وجاء الباب الثاني ليشمل نقد المتن، ففي الفصل الأول كان الحديث عن نشأة نقد المتن وتطوره، وكيف كانت آيات القرآن الكريم من أهم الروافد التي اعتمد عليها نقد المتن، ثم تحدث الكاتب عن دوافع نشأة نقد المتن، وتتبع ذلك تاريخيًا حتى القرن السابع الهجري. وفي الفصل الثاني تحدث الكاتب عن مباحث نقد متن الحديث الشريف، متحدثًا عن نقد المبنى ونقد المعنى، ومقاييس نقد متون السنة إلى غير ذلك من مباحث. وفي الفصل الثالث جاء الحديث عن مكانة الصحيحين من نقد متن الحديث الشريف، مبينًا تلك المنزلة الرفيعة للصحيحين وتلقي الأمة لهما بالقبول، وكيف ينبغي أن يكون العقل موافقًا للشرع لا مخالفًا له، وبين بعض انتقادات وأقوال العلماء لأحرف يسيرة في الصحيحين، وهو من أبرز ما شرف به الكتابين، وكفى بالمرء فخرًا أن تعد معايبه. ثم جاء الباب الثالث ليربط بين الحافظ الذهبي وبين نقد المتن، ففي الفصل الأول حديث عن علاقة المتن بالإسناد. وفي الفصل الثاني بيان لطرائق نقد المتن عند الحافظ الذهبي بشقيه الإيجابي والسلبي. وفي الفصل الثالث الحديث عن الإمام الذهبي بين معاصريه في نقد متن الحديث الشريف مسلطًا الضوء على جهود علماء القرن الثامن في نقد متن الحديث الشريف. ثم أتبع ذلك بذكر أطراف الأحاديث التي انتقد الحافظ الذهبي متونها في مصنفاته وذكر حكمه عليها. ثم خاتمة بها ملخص الرسالة والنتائج واقتراحات الباحث. وهدف الكاتب من بحثه إلى الدفاع عن منهج المحدثين في نقد متن الحديث الشريف، فقد دأب المستشرقون على التشنيع على علم الحديث بأن المحدثين الحفاظ كانوا كثيرًا ما يهتمون بسند الأحاديث وينقلونه دون النظر إلى المتن نفسه، وهل ينطبق على الواقع أم لا، وادعوا عدم وجود منهج نقدي يشمل متن الحديث الشريف عند المحدثين، فكانت هذه الرسالة لوضع أسس ومنهجية الحافظ الذهبي في نقد متن الحديث النبوي، بصفته من كتاب التاريخ العظام الذين تمتلأ كتبهم التأريخية والترجمية بأحاديث وآثار تغلب عليها صفة القص أحيانًا، مما جعله ينظر بعين الحيطة لنص المتن، ويرده كثيرًا إذا تبين له شذوذ ما جاء به رغم إسناده، وقام الكاتب باتباع المنهج الوصفي حيث قام برصد جهود الحافظ الذهبي في نقد متن الحديث الشريف والتتبع التاريخي لبيان جهود المحدثين في نماذج من السنة انتقد العلماء متونها، حيث اهتموا بنقد مبنى المتن، وذكر غريب الحديث والتصحيف والقلب، وكذلك اعتنوا بنقد معنى المتن، فذكروا التعارض والنسخ والإشكال والاضطراب والإدراج والتفرد والنكارة وزيادة الثقة.. وغيرها من مصطلحات الحديث شديدة الصلة بنقد المتن. والمحقق هو د. " حسن فوزي حسن الصعيدي " حصل على درجة الماجستير من كلية التربية بجامعة عين شمس وكان عنوان أطروحته " المنهج النقدي عند المتقدمين من المحدثين وأثر تباين المنهج" وذلك عام 1421 هـ - 2000 م. له من التحقيقات: • "الإقناع في مسائل الإجماع " تأليف: أبي الحسن بن القطان؛ تحقيق حسن بن فوزي الصعيدي.
تمجيد الآخَر ويتبع هذا أن هذا البحث لا يسعى كذلك إلى تمجيد الآخر والمبالغة في الثناء عليه فيما وصل إليه من وضوح في المفهومات الحديثة للحياة،هذا الوضوح الذي أعان على نحت مصطلحات حديثة، يبالغ بعضنا عندما يوصلها إلى أربعمائة ألف (400.000) مصطلح في السنة، وهي مبالغة واضحة قد تعكس مدى التمجيد الذي وصل إليه بعض قومنا للآخر. ويستدعي الطرح الموضوعي استخدام الأرقام الواقعية - وهي حقًّا قليلة - في التهوين من وجودنا الفكري، ومن ثم تبني المنهج الذهني الذي أوصل إلى هذا الرقم المبالغ فيه، لا سيما أنه رقم لا يستند قائله على قاعدة توثيقية تؤيده،وبحسب المنظمة الدولية للثقافة والآداب والعلوم (اليونسكو) فإن ما يدخل الاستخدام اليومي دوليًّا من المصطلحات يصل إلى خمسين (50) مصطلحًا يوميًّا، أي نحو عشرين ألف (20.000) مصطلح سنويًّا [1] ،ويبقى هذا الرقم كبيرًا إذا ما كان تراكُميًّا. على أنه لا بد من التوكيد أن إشكالية توحيد المصطلح فكريًّا ليست خاصّة بالفكر العربي وحده، بل إن "جميع" الثقافات تعيش معاناة مع المصطلح، إلى درجة اليأس في الوصول إلى اتفاق عام على التغلب على هذه الإشكالية المعرفية [2] ، ما دامت طبيعتها تتطور، ودلالاتها تتغير، تبعًا للزمان والمكان وللموقف والكاتب، كما يقول فاروق مواسي في مقالة له في مجلة دروب الإلكترونية بعنوان: إشكالية المصطلح [3] . وفي مقابل عدم التمجيد للآخر لا يهدُف هذا البحث كذلك إلى التقليل من الجهود الفكرية التي يضطلع بها الآخر، مما انعكس على قدرته أو قدراته على نحت مصطلحات حديثة لمفهومات جديدة أو متجددة في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية والبحتة على حد سواء،ويرجو هذا البحث أن يقف في الوسط بين تهويلٍ وتهوينٍ. إنما يأتي هذا الاحتراز هروبًا من ركوب موجة الاستهانة بالأمة التي غلبت على بعض مفكرينا في الآونة الأخيرة؛ نتيجة للإحباطات التي تمرُّ بها الأمة في مناح شتى من مناحي حياتها الفكرية والثقافية والسياسية التي تُعلق عليها عادة جلُّ المشكلات،فكانت الإملاءات حينما توافر عنصر القابلية للاستملاء،مع الاعتراف بما يعتري الأمة من هوان في عديد من مناحي حياتها مما يقبل في الوقت نفسه الزوال. [1] انظر: ممدوح محمد خسارة. علم المصطلح وطرائق وضع المصطلحات في العربية - مرجع سابق - ص 16. [2] انظر: يوسف وغليسي. إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد - مرجع سابق - ص 56. [3] انظر: فاروق مراسي. إشكالية المصطلح - موقع دروب - (22/ 7/ 1430هـ - 15/ 7/ 2009م).
حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية لأحمد بن محمد الضبيب صدر حديثًا "حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية: دراسة تاريخية تحليلية نقدية" ، تأليف: د. "أحمد بن محمد الضبيب "، نشر " دار العبيكان ". يهدف هذا الكتاب إلى دراسة حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية دراسة علمية، تؤرخ لهذه الحركة منذ دخلت المطبعة أرض هذه البلاد سنة 1300هـ/ 1883م، حتى قبيل صدور هذا الكتاب. وهي ( أي الحركة ) ملحمة فكرية وعلمية، وثقافية مضيئة، "خاضتها بلادنا، وبخاصة بعد توحيدها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، ثم نمت بعد ذلك، وتطورت بتعدد الجهات التي رعت هذه الحركة، من مؤسسات رسمية، وجامعات، ومراكز علمية، ومنافذ نشر متنوعة. وكان لها أثرها الكبير في إخراج الجم الغفير من كنوز التراث العربي إلى النور". وقد ضم الكتاب وقفات تأريخية لإسهامات معظم هذه الجهات، ودراسة لأثر كل منها في مسيرة نشر التراث وتعضيده. كما يهدف الكتاب أيضًا إلى وضع هذه الحركة في مساقها التاريخي والموضوعي بين حركات الإحياء في البلاد العربية المختلفة، التي تعد المملكة من أكثرها نشاطًا في هذا المجال. لقد وقفت هذه الدراسة عند معالم حركة الإحياء، وواكبت نشر كتب التراث تاريخيًّا منذ البدايات المبكرة، واحتفت بالريادات الأولى، سواء من حيث دور الأفراد أو المؤسسات الرسمية والخاصة، وكذلك من حيث الموضوعات المتنوعة، والكتب المهمة، التي دار حولها النشاط، كما أبانت الدوافع والمحركات التي أسهمت في تنشيط هذه الحركة في أثناء مسيرتها الطويلة. والكتاب لا يقتصر على الجانب التاريخي من الموضوع، وإنما يعمد أيضًا إلى التحليل والنقد في بعض الفصول، لتبيين أبعاد بعض القضايا المطروقة في الكتاب. وانقسم الكتاب إلى مقدمة وتمهيد في تطور الحركة الأدبية بالمملكة العربية السعودية، ثم قسمين على النحو التالي: القسم الأول: حركة نشر التراث والإحياء قبل توحيد المملكة العربية السعودية، والغرض منه إعطاء خلفية تاريخية عن موضوع هذا الكتاب في ذلك العصر: الباب الأول: طباعة التراث خارج الجزيرة العربية. الباب الثاني: طباعة التراث داخل الجزيرة العربية. القسم الثاني: حركة نشر التراث والإحياء بعد توحيد المملكة العربية السعودية، في عهد الملك عبد العزيز حين دخل مكة سنة 1343 هـ/1924 م. ومن الواضح أن كل حقبة منهما تختلف عن الأخرى من حيث الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها. وتناولت الدراسة في الحقبة السعودية مرحلتين متمايزتين: الأولى هي مرحلة الريادة، وقد أعطيت مساحة أكبر من الدراسة التفصيلية، وذلك للتعرف على جهود المحققين الرواد، والأساليب التي اتخذوها في نشر الكتب، وهي أساليب تختلف بين كل رائد والآخر، ويمكن القول بأن هذه المرحلة هي مرحلة اجتهادية من قبل المحققين والناشرين قد لا تتفق وأصول المنهج المتبع الآن عند المحققين، إلا من اطلع من أولئك الرواد على أعمال المستشرقين، واحتذى حذوهم في نشر الكتب وهم قلة. أما المرحلة الثانية فهي التي أطلقنا عليها اسم المرحلة المنهجية أو الأكاديمية، فهي مرحلة نتاج أساتذة الجامعات، وطلاب الدراسات العليا، ومن حذا حذوهم من غيرهم، وفيها استقر المنهج العلمي في التحقيق على صور متقاربة ومتماثلة، متحدة غالبًا في الأسس التي قامت عليها، وقد اهتمت الدراسة في هذه المرحلة بذكر الريادات الأولى والتتبع للنتاج البارز، والوصف الموجز لبعض الأعمال مع التعليق على بعضها بما يراه المؤلف، مع التعليق على بعضها بما يراه المؤلف، دون الدخول في تفاصيل كثيرة، ويرجع ذلك إلى كثرة المؤلفات المنشورة وإلى ما ذكره الكاتب من تطابق المحققين في منهج التحقيق والنشر. وقد ضمت حركة الإحياء أنماطًا أخرى من التأليف لا تدخل ضمن التحقيق لكنها لصيقة بحركة الإحياء، وتعد امتدادًا لها في موضوعات كثيرة، وهذه الأنماط هي تفاسير القرآن الكريم التي ألفها سعوديون معاصرون، وكتب التجويد التي ألفوها، وشروح الكتب القديمة التي أعادوا إحيائها، والمختصرات التي وضعوها لها، والردود التي تمثل نتاجًا متعلقًا ببعض القضايا التراثية في العقيدة والفقه وغير ذلك. وقد ضم الكاتب ما رصده من تلك المؤلفات والمصنفات بتفصيل مسهب، حتى تتضح صورة هذه الحركة بجميع أبعادها. أما المؤلف فهو أحمد بن محمد الضبيب عضو مجلس الشورى السعودي سابقًا، ومدير جامعة الملك سعود سابقًا في الفترة (1410 هـ / 1990 - 1416 هـ / 1996). ولد الدكتور أحمد بن محمد بن حسن الضبيب بمكة المكرمة سنة 1354 هـ الموافق 1935، ونشأ في المدينة المنورة، وبها أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي. ثم رحل إلى مصر لاستكمال دراسته فحصل على البكالوريوس من قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1380 هـ الموافق 1960، ثم ابتعث إلى إنجلترا وحصل على الدكتوراه من قسم اللغات السامية بجامعة ليدز سنة 1386 هـ الموافق 1966. عمل الضبيب كأستاذ جامعي، وهو باحث في اللغة العربية والتراث، وكاتب ومؤلف لعدة كتب عن اللغة العربية والأدب، عين رئيس تحرير في مجلة العرب، وتولى عدة مناصب في جامعة الملك سعود، فكان رئيس قسم اللغة العربية في الفترة (1972 - 1974)، وعميد شؤون المكتبات في الفترة (1974 - 1980)، وكان عضو في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضو في اجتماعات أكاديمية المملكة المغربية في الرباط، وعضو في مجلس الشورى السعودي في الفترة (1998 - 2010)، إضافةً إلى عضوية عدة مجالس عليا وعلمية في المملكة العربية السعودية والعالم العربي. تولى الضبيب منصب نائب مدير جامعة الملك سعود في الفترة (1986 - 1990) ومدير جامعة الملك سعود في الفترة (1410 هـ / 1990 - 1416 هـ / 1996)، وخلال فترة إدارته للجامعة قام الضبيب بفك التداخل بين كليتي الآداب والعلوم من جهة، وكلية التربية من جهة أخرى، وقام بإنشاء كلية اللغات. قام الضبيب بتأليف وتحقيق عدد من الكتب: • كتاب الأمثال لأبي فيد مؤرج بن عمرو السدوسي، دراسة وتحقيق. • دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية، ترجمة مع تقديم وتعليق لكتاب د. ت. م. جونستون. • الأعمش الظريف. • آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب. • على مرافئ التراث، أبحاث ودراسات نقدية. • بواكير الطباعة والمطبوعات في بلاد الحرمين الشريفين. • أوراق رياضية (نسبة إلى الرياض) - مقالات. • اللغة العربية في عصر العولمة.
الترجمة ودورها في تقريب الثقافات مما لا مرية فيه أن الترجمة أحد الفنون الراقية قد ازدهرت وبلغت أوجَ كمالها منذ القديم إلى عصرنا الراهن، وقد ازدادت أهمية الترجمة في عصر العولمة، أصحبت الدنيا قرية، كأن الناس في البسيط كله يستوطنون قرية صغيرة، أسهل للناس إيصال أخبار من ناحية الدنيا إلى آخر في ثوان ودقائق، ولهذا تحمل الترجمة أهمية كبيرة ومكانة وقداسة بين الناس، وللمترجم مكانة كبيرة، ولكن لا بد للترجمة رعاية قواعدها، وضوابطها، وأصولها وشروطها، كما أن للقائمين لعميلة الترجمة شروطًا ومؤهلات ومهارات معينة، وإن الترجمة وسيلة نقل ثقافات وحضارات الأمم العالمية وعاداتها وطقوسها وتقاليدها من لغة إلى أخرى، كما أنها وسيلة إقامة التعامل والتعاون التجاري والصناعي والعسكري والدبلوماسي بين دولتين أو كثر، كما أنها وسيلة كبيرة لإثراء اللغة وتطويرها بالثقافات والحضارات المختلفة على أرجاء المعمورة، وهي توصل مفاهيم الخطب، والندوات والمؤتمرات والمحاضرات والنصوص من لغة إلى أخرى إلى شعوب العالم أجمع، كما أنها أهم أداة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونشر الإسلام النازل في العرب في العرب إلى البشرية جمعاء، وكما أن هذه حقيقة ناصعة لا ينطح فيه عنزان أن عملية الترجمة ليست سهلة، بل أصعب من أي فنون، بمختلف أنواعها التحريرية، والشفهية والآلية والعلمية، والتقنية، والأدبية، والطبية والعسكرية والفقهية، وما إلى ذلك، وهي تتطلب من المترجم مزيدًا من المهارة والنبوغ والممارسة لفترة طويلة لإجادتها، والبلوغ إلى أقصى غاياتها. يقول الدكتور محمد أحمد منصور وهو يبيِّن أهمية الترجمة وما لها من قيمة في تبادل الحضارات والثقافات بين الأمم: "مما لا مراء فيه حاجة الإنسان والمجتمعات قديمًا وحديثًا إلى الترجمة؛ ذلك لأن الترجمة بين اللغات تمثل حاجة من الحاجات الأصلية للبشرية، وترتقي في بعض الأحيان إلى درجة الضرورة، أو الفريضة الواجبة، فهي تمكِّن الأفراد والأمم من تخطي الحواجز اللغوية بسبب اختلاف الألسنة، فيقوم كل بدوره الفاعل والمؤثر في النهوض بالحضارة الإنسانية، وقد تتفاوت الشعوب أو الأجيال في نصيب كلٍّ منها في هذا الدور، فبعضها قد يكون فاعلًا، وبعضها متفاعلًا، وبعضها منفعلًا، غير أن بناء الحضارة الإنسانية ليس مقصورًا على شعب واحد من الشعوب، أيًّا كانت عبقريته، ومهما كان إبداعه وتميُّزه، كما أنها ليست منحصرة في مكان بذاته، أو حقبة تاريخية بعينها، بل إنها حصيلة للتجربة الإنسانية المشتركة، فيها تسهم كل أمة بجهدها" [1] . الترجمة لغة: إن الترجمة كلمة عربية أصلية؛ كما جاء في لسان العرب: "التُّرجمان، والتَّرجمان: المفسر، السان، الترجمان بالضم، والفتح، هو الذي يترجم الكلام؛ أي: ينقله من لغة أخرى، والجمع "التراجم" [2] . الترجمة اصطلاحًا: يذكر خبراء الترجمة والمختصون فيها عدة تعريفات اصطلاحية لها؛ يقول الدكتور صفاء خلوصي في تعريف الترجمة: الترجمة فن جميل يُعنى بنقل ألفاظ ومعان وأساليب من لغة إلى أخرى؛ بحيث إن المتكلم باللغة العربية إليها يتبيَّن النصوص بوضوح، ويشعر بها بقوة كما يتبينها ويشعر بها المتكلم باللغة الأصلية [3] . خلاصة ما جاء في تعريفاتها الاصطلاحية في الكتب والمجلات: أنها تعني نقل الأفكار والمفاهيم من لغة إلى أخرى مع مراعاة التسلسل المنطقي، وقواعد اللغة النحوية والصرفية والصوتية والدلالية والبلاغية والمصطلحات والتقابلات، وما إلى ذلك، ومع الحفاظ على روح النص المنقول. ويطالب معظم علماء الترجمة بالاهتمام بالمعنى، وليس بالمفردات اللغوية، ذلك أنه إذا لم تقم الترجمة بالوظيفة الإيصالية؛ أي: إذا لم يكن لها معنى لدى الملتقى، فإنها في هذه الحالة لا تكون قد بررت وجودها. وبالإضافة إلى ما تنقله التراجم من معنى، فيجب أن تنقل أيضًا "روح النص الأصلي"، ذلك أن المعنى الحرفي قتل الترجمة، ولكن روح المعنى يمنحها الحياة. أهمية الترجمة في تقريب الثقافات: ولا يخفى أن الترجمة من لغة إلى لغة ثانية تعني خلق نوع من المثاقفة بينهما، من شأنه أن يسهم إسهامًا كبيرًا في التقريب بين الشعوب والأمم، وهذا يؤدي بدوره إلى تواصل المجتمعات وقطع عزلتها، وفي هذا نفع كبير لكل البشر؛ إذ إن العبقريات وهي نادرة جدًّا، تكف عن أن تكون ملكًا خاصًّا لشعب من الشعوب، بل تصبح ملكًا مشاعًا للبشرية كلها عندما ترى النور . وقد ذكرنا من قبل أن الترجمة - بوصفها سبيلًا من سبيل التفاهم والتواصل اللغوي - نوعًا من النشاط البشري قام به الإنسان في مجتمعاته الأولى لتنظيم علاقته بجيرانه، وتأمين أغراضه وتدبير حاجاته، بسبب انسياح عناصر بشرية من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، أو من جراء حركات الهجرة الفردية أو الجماعية العشوائية منها، أو المنظمة، أو نتيجة المصادمات الحربية بين الشعوب والأمم، أو احتكاك الجماعات البشرية عن طريق القوافل التجارية التي يفترض أنه كان بها مترجمون يعرفون لغة من يتعاملون معهم. • يقول جان ديك حول الترجمة: "الترجمة هي الوسيلة الوحيدة لتبادل ما عند الأمم من أفكار ومعارف وآراء في شتى الحقول الفكرية: (علم - أدب - طب - فن - موسيقا - سحر - تنجيم - زراعة - صناعة - تجارة - إدارة - سياسة - فلسفة)، ولنا على ذلك أكبر شاهد، الحركة التعريبية التي حدثت أيام الدولة العباسية بنوع خاص؛ إذ نقل علماء اللغة العربية عن اليونانية والفارسية والسريانية والهندية ... معلومات كثيرة لم تكن معروفة بعدُ عند العرب، أو كما حدث في مطلع النهضة الأدبية الحديثة، ويحدث في يومنا هذا، من تبادل معلومات ومعارف بين مختلف اللغات بواسطة الترجمة، وقد كان لهذا التبادل الفكري والتمازج الروحي فوائدها الجمة، فالترجمة إذًا ما هي إلا تمازج أفكار وتلاقي عبقريات وتبادل معارف، وكيف يمكن أن يتم هذا العمل الجبَّار إن لم يستقص القائم به شوارد اللغتين، ويطَّلع على دقائقها" [4] . يقول الدكتور مصطفي العبدالله الكفري عن أهمية الترجمة، وتأثيرها في التبادل بين الحضارات والثقافات المختلفة: "الترجمة فعل ثقافي لغوي حضاري والرابط بين الحضارات، والمترجمون رسل التنوير وخيول بريد التنوير، من قديم الزمان وحتى يومنا هذا لم تفقد الترجمة أهميتها أو ضرورتها أو فاعليتها، فهي الوعاء الذي تنقل من خلاله المعرفة من بلد إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى . فالترجمة إذًا هي نافذة فكرية ومدخل حضاري يَضمن لهويتنا القومية المزيد من التواصل مع الآخر في كل مجالات إبداعه، ويقول بوشكين شاعر روسيا العظيم: "المترجمون هم خيول بريد التنوير" [5] . • ويقول في موضع آخر وهو يدلي الأضواء على أهمية الترجمة في التقريب بين الأمم، وكونها أداةَ التواصل بين الشعوب والحضارات: "الترجمة فعلُ خيانة أصلًا وتذكُّر ثانيًا، وتنوير ثالثًا، هي فعل خيانة؛ لأن النص المترجم يزيد قليلًا أو ينقص قليلًا عن النص الأصلي، وهي فعل تذكُّر؛ لأن المترجم يفعل هذا مع نص جيد على الأقل، فيحييه في مكان آخر ولغة أخرى، ووسط بيئة اجتماعية مختلفة، كما أنها فعل تنوير؛ لأن النص المترجم في لغته الجديدة ومكانه الآخر وبيئته المختلفة، يقوم حتمًا بدور رائد في وعي من يقرؤه. وتكتسب الترجمة مكانة مهمة في مجال انتقال العلوم والفكر والأدب من مجتمع إلى آخر للأسباب التالية: 1- الترجمة محرض ثقافي يفعل فعل الخميرة الحفَّازة في التفاعلات الكيماوية؛ إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها، ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة ويبدع فيها، ويبتكر ويخترع. 2- تجسر الترجمة الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة. 3- الترجمة هي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم والتكنولوجيا ونقلها وتوطينها. 4- الترجمة عنصر أساسي في عملية التربية والتعليم والبحث العلمي. 5- الترجمة هي الأداة التي يمكننا عن طريقها مواكبة الحركة الثقافية والفكرية في العالم. 6- الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطويرها وعصرنتها [6] . • ويقول أسامة طبش عن دور الترجمة في بناء الحضارات، وإقامة الأسس القويمة بين أمة وآخر، وبين شعب وشعب: " علاقة الترجمة بالثقافة علاقة وطيدة جدًّا، فالثَّقافة هي العادات والتقاليد والمبادئ والقِيَم والأخلاق والموروث الشعبِي، وغيرها من المكوِّنات التي تُشكِّل عناصر أساسيَّة في ضمير الأمم وتاريخها وحاضِرها ومستقبلها أيضًا . أمَّا الترجمةُ فهي ذلك العلم الذي يرتبط أساسًا بالعامل اللُّغوي، والهدف منها ربطُ علاقاتٍ بين الشعوب والأمَم والتلاقح والتبادل الثقافي في عالَم أصبح اليوم قريةً صغيرة، لا بدَّ فيه من هذا التواصل في إطار احترام كلِّ أمَّة للأمَّة الأخرى لكِيانها ومقوماتها الأساسيَّة [7] . أهمية الترجمة: فالترجمة على امتداد التاريخ كانت ركيزة من ركائز الحضارة، وأساسًا من أسس النهضة مجتمع بشري، فمع النهضة يزداد النشاط الترجمي ويزدهر، فللترجمة العديد من الدوافع والأهداف؛ منها ما هو سياسي، أو ديني، أو ثقافي، أو اجتماعي، أو علمي. أهمية الترجمة سياسيًّا: إنما تجريها إرادة سياسية واعية تسعى للحصول على أسباب القوة التي تَملكها إرادة سياسية منافسة معاصرة لها أو سابقة عليها، قد أورثتها أرضها وشعبها، وبقيت صامدة أمامها بتراثها؛ مما اضطرها للاستفادة منه واستيعابه لتجاوزه، وهو ما نجده لدى كافة الحضارات التي كانت تستقي قوتها ودعائمها مما سبقها من حضارات أخرى. أهمية الترجمة دينيًّا : هي التي تسعى إلى التعرف على الأديان الأخرى وفَهْمها بدقة، بهدف مهاجمتها أو الدفاع أمامها والمجادلة معها؛ أي: بهدف التبشير أو الجدل الديني، كما هو الحال بين أتباع الأديان السماوية. أهمية الترجمة ثقافيًّا: هي وسيلة لنقل المعارف والجناس الأدبية، كما أنها مرآة للذوق الأدبي السائد في فترة ما في مجتمع معين، فهي وسيلة لمعرفة الآخر؛ لأن الرسالة خير معبر عن ذات صاحبها ونزعاته ودخائل نفسه، وهي وسيلة لاستيعاب المنجزات الفكرية والفنية للشعوب الأخرى، وهي بذلك تحقِّق هدفها الثقافي، بالإضافة إلى كونها محقِّقة للمتعة والبهجة النفسية في آن واحد. أهمية الترجمة عمليًّا وتقنيًّا : فهي تهدف للاستفادة من علوم الآخرين ومعارفهم، ومحاولة إنشاء أعضاء مفقودة في الحضارة المتلقية، من خلال نقل التكنولوجيا والعلوم الأساسية التي ترتكز عليها أية حضارة، كما كان الحال بالنسبة للترجمة من اليونانية إلى العربية في أول عهد الدولة الإسلامية بالترجمة. أهمية الترجمة على المستوى الاجتماعي: قد تكون الترجمة سببًا في بلوغ أصحابها مراتب عليا من السُّلَّم الاجتماعي في المجتمع، كما أنها علمية نقل للتقاليد والأعراف والأساطير بين الشعوب. أهمية الترجمة على مستوى اللغة والاتصال : من أهم دوافع الترجمة: الرقي باللغة القومية، فهذه هي الغاية الأولى والأخيرة للترجمة؛ حيث تترك اللغة المنقول منها طابعها على اللغة الهدف؛ لأنها الوعاء الذي استُخدم في عملية النقل [8] . الترجمة وأهميتها عبر العصور: إن الترجمة والنقل من لغة إلى أخرى تحمل أهمية كبيرة عند الشعوب والناس، والمسلمون خاصة لما توسعت رقعة سيطرتهم جعلوا ينقلون الثقافات القديمة قبل الإسلام من فنون وعلوم إلى اللغة العربية، وبسبب تطلُّعهم في العلوم التي لم تكن لديهم، وباختصار نقول: إن الترجمة في العصر العباسي مرت بحقبتين: أولاهما من قيام الدولة العباسية إلى بداية عهد المأمون، وتشمل هذه الحقبة نشاطًا كبيرًا في ترجمة الطب والهندسة والفلك والطبيعيات، وقد عرفت ذروتها في أيام أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، أما الحقبة الثانية فتبدأ في عهد الخليفة العباسي السابع المأمون الذي أنشأ بيت الحكمة في بغداد، وتمتد هذه الحقبة حتى نهاية فترة خلافته. ثم توقَّفت حركة الترجمة إلى العربية عمليًّا في عصور الانحطاط، وذلك بسبب توقُّف الاجتهاد اللغوي، وانحسار العربية وانغلاقها في قوالب محنَّطة، غير أن النشاط الثقافي بما فيه حركة الترجمة، عاد إلى الحياة عندما بدأت العربية تجدِّد نفسها في القرن التاسع عشر للميلادي في الفترة التي يطلق عليها اسم "عصر النهضة". إن من ينظر إلى تاريخ الفكر العربي وتطوُّره، يرى أن حركات كبيرة من الترجمة قد واكبت انطلاقه الحضارة الغربية الإسلامية ابتداءً من العصر الأموي، ومرورًا بالعصر العباسي، لتبلغ عصر النهضة، ومن المعروف أن عصر النهضة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد شهد حركة كبيرة من التلاقح بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وذلك عن طريق تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الرسمية والخاصة والإرسالية، وعبر إرسال البعثات للدراسة في الجامعات الكبرى بالدول الغربية، وكذلك عن طريق ترجمة الكتب الفرنسية والإنكليزية إلى العربية، وتعليمها في الدول العربية باللغة الأم، وكان لذلك دور كبير في حثِّ الفكر العربي على متابعة التطور الهائل والسريع الذي عرَفته قوالب المعرفة والتكنولوجيا في العالم المعاصر، وعلى الاستفادة من آخر الإنتاجات المعرفية، كما اضطلع بدور كبير في تطوير المنظومات الفكرية والثقافية في العالم العربي الحديث. خلاصة القول: للترجمة أهمية كبيرة من حيث الدين، والثقافة، ونقل الأفكار والآراء، وتبادل المعرفة من قوم إلى قوم، ومن بلد إلى آخر، وهناك في ترجمت كتب كثيرة من اللغات المختلفة إلى العربية، وكذلك هنا في الهند علماء قاموا بتراجم كتب مهمة لعلماء ومفكري الهنود، وفي طليعة الذين قاموا بتراجم كتب مهمة، الدكتور سعيد الرحمن الأعظمي، والشيخ نور عالم خليل الأميني، الأستاذ واضح رشيد الندوي، والأستاذ عارف جميل القاسمي، والأستاذ ساجد القاسمي، وغيرهم لهم فهرس كبير وإسهام كبيرة في نقل الكتب الأردية إلى العربية للعلماء والمفكرين الكبار في الهند. [1] الدكتور محمد أحمد منصور، الترجمة بين النظرية والتطبيق، مبادئ ونصوص وقاموس للمصطلحات الإسلامية، 13، دار الكمال للطباعة والنشر، القاهرة، طبع 1427هـ/2006م. [2] ابن منظور، لسان العرب1/361، دار لسان العرب، بيروت. [3] د .صفاء خلوصي، فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة: 13، دار الرشيد للنشر، 1982م. [4] جان الديك، دليل الطالب في الترجمة:8، مكتبة جبيب، الطبعة الجديدة عام 1984م. [5] الدكتور مصطفي العبدالله الكفري، التواصل بين الشعوب بوساطة الترجمة ، شبكة الألوكة. [6] المرجع السابق، شبكة الألوكة. [7] أسامة طبش، الترجمة ودورها الحضاري المؤسس ، شبكة الألوكة. [8] د. عامر الزناتي الجابري، مقدمة في علم ترجمة، المستوى الرابع، الفصل الدراسي الثاني: 1430 /1431م، جامعة الملك سعود، كلية اللغات والترجمة، قسم اللغات الآسيوية والترجمة برنامج اللغة العبرية.
بيان المقصود مِنْ كتاب "الوجيز" للسيوطي من المعلوم كثرة مؤلفات الحافظ السيوطي (849-911) في شتى علوم الشريعة والعربية، ومن المهم جدًّا التثبت من صحة النسبة لكثرة ما عُزي إليه مما لا تصح نسبتُه، كما من المهم معرفة موضوعات تلك المؤلفات. وهذا مقالٌ عن كتابٍ ذُكر بعنوانٍ لم يُذكر في قوائم مؤلفاته: قال الشيخ محمد طاهر بنُ علي الصدِّيقي الهندي الفَتَّنِي (المتوفى سنة: 986) في مقدمة كتابه "تذكرة الموضوعات": "وأنا أوردُ بعضَ ما وقعَ في "مختصر" الشيخ محمد بن يعقوب الفيروزابادي من كتاب "المُغني عن حمل الأسفار في الأسفار" للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي في تخريج "الإحياء"، وفي "المقاصد الحسنة" للشيخ العلامة أبي الخير شمس الدين السَّخاوي، وفي كتاب "اللآلئ" للشيخ جلال الدين السيوطي، وفي كتاب "الذيل" له، وفي كتاب " الوجيز " له..." [1] . ونقلَ -رحمه الله- عن كتاب "الوجيز" في أكثر مِن (130) موضعًا. ولم أرَ في فهارس مؤلفات السيوطي كتابًا بعنوان "الوجيز". نعم رأيتُ في رسالة السيوطي "فهرست مؤلفاتي" [2] : " وجيز الموضوعات". وقد اعتمدَ الدكتور المحقق في هذا العنوان على نسخة الداودي مِن "فهرست مؤلفاتي" التي ساقها في كتابه "ترجمة العلامة السيوطي"، ورجعتُ إلى النسخة بنفسي فرأيتُ الكلام هكذا: " وحرّر "الزيادات على الموضوعاتِ" في مجلدٍ لطيفٍ"، فالمذكور هو "الزيادات على الموضوعات" وهو المعروف بـ "الذيل على الموضوعات" أيضًا، ويبدو أنَّ كلمة "وحرَّر" لم تتضحْ للأستاذ المحقق فقرأها: " وجيز ". فما المقصودُ بكتاب الوجيز الذي يسمِّيه وينقلُ عنه الشيخُ الفتني؟ أقولُ: إنَّ للسيوطي في الموضوعات، وفي تعقُّب القول بالوضع، عدة كتبٍ، وهي: 1- اللآلئ المصنوعة في الأخبار الموضوعة "الموضوعات الصغرى" [3] . 2- النُّكت البديعات على الموضوعات لابن الجوزي (فيه 338 حديثًا) [4] . 3- الذيل المُمهَّد على "القول المُسدَّد" [5] . 4- القول الحسن في الذبِّ عن السُّنن [6] . 5- اللآلئ المصنوعة في الأخبار الموضوعة " الموضوعات الكبرى ". 6- الزيادات على الموضوعات. والأربعةُ الأُولُ مؤلَّفةٌ قبل سنة (890)، سوى "الموضوعات الكبرى"، و"الزيادات على الموضوعات" فإنه ألفهما سنة (905). ونظرتُ فتبينَ لي أنَّ مقصودَ الشيخ الفتني بـ "الوجيز" هو "النُّكت البديعات على الموضوعات"، ورأيتُ السيوطي أطلقَ عليه وصفَ الوجيز في مقدمته إذ قال بعد أنْ ذكرَ كتابًا كبيرًا له في تعقُّب ابن الجوزي: "فأردتُ أنْ ألخِّص الكتابَ المذكورَ في تأليفٍ وجيزٍ ... واعلمْ أنَّ هذا الكتاب وإنْ كان وجيزَ الحجم فهو عندي مِنْ مفردات الكتب التي يتعيَّنُ على كل طالبٍ تحصيلُها" [7] . وقال في قصيدةٍ في آخرهِ: فدونك تأليفًا وجيزًا مُحرَّرًا *** إذا أبهمَ الداجي به يَهتدي الهادي [8] وتتبعتُ نُقولَ الشيخ الفتني فرأيتُها كلها فيه، سوى مواضع يسيرة، ولعل مرد هذا إلى اختلاف النسخ، -فلا بدَّ مِن تتبع نُسخ "النكت البديعات"-، أو سهو من الناقل. ثم رأيتُ هذه النقولَ التي نقلَها الفتني من "الوجيز" رأيتُها في كتاب "الزيادات على الموضوعات"، وهي أليقُ به؛ فإنها من الزيادات على الموضوعات، وليست من المستدرك على ابن الجوزي، بل فيها نقلٌ يؤيدُ ابنَ الجوزي، في الحكم على حديث "مَنْ قال في ديننا برأيه فاقتلوه" وهو قوله: "وضعَه إسحاق الملطي"، فلعل الفتني وهمَ في عزوها إلى "الوجيز". وقد نقلَ المُلا علي بن سلطان محمد القاري (ت: 1014) في كتابه " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع " عن " الوجيز " للسيوطي في موضعين [9] ، ولكن النقل بواسطة الفتني الذي لم يذكره -سامحه الله- مطلقًا، مع أنه بنى كتابَه "المصنوع" عليه! وكذلك ينقلُ عن "الوجيز" الشوكانيُّ (ت:1250) في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"، ولكن يبدو من سياق مقدمته أنَّ نقلَه بواسطة "تذكرة الموضوعات" أيضًا [10] . الخلاصة : أنَّ المقصود بكتاب "الوجيز" الذي يذكرُه وينقلُ عنه الفتني -والقاري والشوكاني بواسطته - هو كتاب " النُّكت البديعات على الموضوعات "، وليس هو كتابًا جديدًا للسيوطي. [1] تذكرة الموضوعات ص 4. [2] نُشرت في مجلة مجمع اللغة العربية في الأردن في ثلاثة أعداد (56)، و(57)، و(64). [3] كان عند الشيخ عبد الحي الكتاني (ت:1382) نسخة منه في مجلد كما قال في "فهرس الفهارس" (2/ 1015). [4] طُبع في الهند سنة (1303) باسم "تعقُّبات السيوطي على موضوعات ابن الجوزي"، ثم طبع كذلك بتحقيق: عبد الله شعبان، دار مكة المكرمة، ط1 (1425-2004)، والعزو هنا إلى هذه الطبعة. [5] ذكرَه في كتابيه "التحدُّث بنعمة الله" ص 115، و"حسن المحاضرة" (1/ 293)، ولم يدرجه في رسالته "فهرست مؤلفاتي". [6] انظر كلام السيوطي على كتابه هذا في "تدريب الراوي" (3/ 453-461)، ولا أعرفُ له نسخة. [7] النكت البديعات ص 24. [8] النكت البديعات ص 361. [9] ص (190) و(249). [10] والنقل في أربعة عشر موضعًا فحسب.
قصة موسى عليه السلام (8) التيه وبعد ما مر بهم من الآيات عند جبل الطور وقويت نفوسهم وعقيدتهم كانت الخطوة التالية، وهي الانتقال من سيناء إلى فلسطين وسكنى الأرض المقدسة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى قوة وجرأة وتضحية، ففي الأرض المقدسة قوم من الجبارين الأقوياء وليس من السهل قهرهم. كانت كبرى مدنهم أريحا، فقصدها موسى بمن معه من قومه، ولما اقتربوا منها أرسل موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل ليأتوه بخبر الجبارين القاطنين أريحا، ويقال: إن أحد الجبارين وكان حطابًا يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب رآهم فقبض عليهم وحملهم كأنهم لعب صغيرة وأخذهم إلى زوجته وقال لها: يريدون أن يقاتلونا، ما أصنع بهم؟ هل أطحنهم برجلي، فقالت له: لا، بل أطلق سراحهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبي الله وهو الذي يرى رأيه، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق ليكتموه، ثم رجعوا فنكث عشرة منهم العهد، وأخبر كل واحد منهم ذويه وعشيرته، ما عدا اثنين حافَظَا على العهد وهما يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا، فأخبرا موسى وهارون الخبر، وشجعا على غزو الجبارين، وهذا الخبر ذكر مجملًا في القُرْآن: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ﴾ [المائدة: 12]، ولعل الذين جبنوا عن لقاء الجبارين وقتالهم بالغوا في وصف قوتهم ليعطوا لأنفسهم العذر المسوغ في عدم قتالهم، ووصفوا حبة الرمانة التي يأكلها أحد الجبارين إذا فرغت يجلس فيها خمسة من بني إسرائيل، وأن عنقود العنب عندهم يحتاج لخمسة من بني إسرائيل ليحملوه، وبهذا بثوا الرعب في قومهم، لكن موسى كان يصر على دخولهم مدينة أريحا؛ تلبية لأمر الله، فبث فيهم الحماسة والقوة، وذكرهم بنعم الله عليهم، وأنه ناصرهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20]، وهذا التذكير لم ينفع معهم، وغلب جبنهم على النظر في عاقبة أمرهم، فعدم مطاوعة موسى في الجهاد هو إغضاب لله وعصيان لأوامره، بينما الإقدام في هذا الأمر يحقق لهم طاعة الله، ونصرًا على الأعداء، وحسن الآخرة، ثم أعاد موسى عليهم الطلب ثانية في دخول مدينة الجبارين، ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]، لقد وعَدكم اللهُ الأرض المقدسة، وهذا بابها من أريحا، والله كتبها لكم، وما عليكم إلا العمل لنيلها، وستنالونها إن شاء الله، فإذا تراجعتم وخِفتم وانقلبتم على أدباركم فستكونون من الخاسرين، والخسارة كبيرة، خسارة التأييد من الله القوي العزيز، وخسارة الأرض المقدسة، وخسارة خيرات البلد، ألا ترون أننا الآن في صحراء قاحلة؟! فماذا كان جواب الأغلبية؟ ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22]، هكذا يريدونها جاهزة خاوية من أبنائها وساكنيها، ومن هو الذي يترك وطنه إلا مضطرًّا أشد الاضطرار؟ فإن لم تكن هناك قوة ترهبه فلن يخرج من وطنه، ولكن أهل الجد والاجتهاد والتضحية والفداء لهم قول مختلف عن أقوال الجبناء الذين أحبوا عيش الذل والخنوع، وكرهوا العزة التي لا تأتي إلا بالجهاد والتضحية والدماء والشهداء، ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وهما مَن ذكرناهما آنفًا؛ يوشع وكالوب، الفتح لا يكون بالأماني، وإنما بالعمل، ادخلوا عليهم الباب، عليكم تلبية دعوة موسى بدخول الأرض المقدسة، وإلا لن تتمكنوا من دخولها، وكان الرفض من الغالبية ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، موقف لا رجعةَ فيه، وتصميم أكيد، لن ندخلها ما داموا فيها، أصابهم الضعف والخَوَر، وأثر فيهم الوصف المرعب للجبارين، فهزموا نفسيًّا، ومهما بثت فيهم من الحماسة وتقوية الروح المعنوية فإنهم مهزومون؛ ولذا فلن يفلح هؤلاء - حتى وإن تشجعوا - في اقتحام البلدة أو إحراز نصر على أعدائهم، لقد شعروا بالدونية والصغار، ولا بد من مرور أجيال سواهم يربون على الحمية والتضحية وبذل النفس في سبيل الله؛ لكي يفلحوا في إحراز النصر على الجبارين وتحرير الأرض، ولما امتنعوا عن تنفيذ الأمر بدخول المدينة رفع موسى شكواه إلى ربه، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25]، وبهذا فإن موسى عليه السلام بيَّن تمرُّد بني إسرائيل على الأمر، وأنه وأخاه سينفذان ما يطلب منهما، لقد دب الرعب في هذا الجيل، وأصبح عندهم عقدة العماليق الذين لا يقهرون، ونسوا أن الله خالقهم وخالق العماليق وهو الذي يأمرهم بدخول المدينة، ولما كان منهم هذا الخوف وهو غير مبرر، كتب عليهم التيه إلى أمد، ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]، أربعون سنة من التيه والضياع كانت عقابًا لهم على جُبنهم ورعبهم من العماليق، وفي هذه السنين سيتغير جيل الخائفين، وسينشأ جيل أقوى قلبًا وصمودًا، جيل يخرج من الصحراء القاسية ومن الترحال والتنقل والبعد عن المدنية الزائفة، لا تُخيفه الأهوال، يقتحم المخاطر بجدارة مع رسوخ في العقيدة وتمسُّك بها. الحياة في التيه: لم يكن عقابهم في التيه بقصد إبادتهم، وإنما طبقًا لقانون الله في الأرض، ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، فجيل الهزيمة سيدفع ثمن جبنه تيهًا وتشريدًا، ولكن سيخرج منهم الجيل الجديد الصُّلب، ولأجل هذا كان العقاب إجهادًا مع عدم استئصال؛ ولذلك سخَّر لهم ما يُبقي على حياتهم، فالصحراء أرض قاحلة مع جفاف وحر في الصيف وبرد في الشتاء وندرة في الماء، فكان الماء المطلب الأساس عند بني إسرائيل، وهو في الصحراء مثارُ خلاف وقتال وصراع، ولكيلا يحصل هذا في بني إسرائيل فتتفرق كلمتهم فيزدادوا ضياعًا إلى ضياعهم، كان الحل الأمثل إفرادَ كل عشيرة بمورد ماء مستقل، ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60]، فكان لكل عشيرة عين ماء تخصهم، وبقي بعد الماء الطعام وما توفره الصحراء من طعام قليل، وسكان الصحراء يأكلون مما تنتجه إبلهم وأغنامهم، ولكن أنى لهم هذا وقد أتوا مع موسى من مصر بلد الزراعة والخضروات؟! كما أخرج اللهُ لهم الماء من الصخر ضمِن لهم الطعام، ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 57]؛ فالمنُّ حُلْو المذاق، يأتيهم من السماء كمثل الثلج حين هطوله، ثم ينعقد كالصمغ، فيأخذون حاجتهم ويذيبونه في الماء ويشربون شرابًا لذيذًا، والسلوى طائر وسط بين الحمامة والعصفور، لذيذ الطعم، يأتي إليهم، فيمسكون منها حاجتهم، ولا يدخرون، وبما أنهم ليسوا من سكان الصحراء ولم يجربوا شظف العيش فيها، فكان لا بد لهم من بعض الرفاهية ريثما يتأقلمون، فظلل الله عليهم بالغم،ام فكان يمنحهم البرد في الصيف، والدفء في الشتاء، ثم جاء: الامتحان الثاني: وهو دخول بلدة دون قتال – قيل: إنها بيت المقدس، وقيل: أريحا - ولكن بوضعية السجود والذكر والدعاء، ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58]، ولكن بني إسرائيل لم يأخذوا الأمر بالجد، فغيروا وضع الدخول، وحرفوا الذِّكر إلى استهزاء، ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59]، فكان الأمر أن يدخلوا سجَّدًا باتجاه القبلة، وأن يقولوا: حطة - دعاء بلغتهم بحط الخطايا - فزحفوا على مقعدتهم مولين أدبارهم للقبلة وهم يقولون - كما ورد في الصحيحين -: ((حبَّة في شعرة) )، ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 59]، والرِّجز العذاب، وعادوا إلى عيش الصحراء، والتيه في سيناء. تبديل الطعام: واستمرَّ عيش بني إسرائيل في التيه يأكلون المن والسلوى ويشربون الماء القراح، يظلهم الغمام من حر الشمس ولهيب الصحراء صيفًا، ومن قرِّها ولسعة بردها شتاء، والحكم عليهم في التيه أربعون سنة، وربما كانت القرية لو دخلوها كما أمروا ملاذًا لهم من عيش التيه إلى حين، ولكن أنى لهم هذا وهم كلما عفي عنهم من معصية وقعوا في غيرها؟ ومضت سنوات على إقامتهم في التيه، ثم ملوا طعامهم من المن والسلوى، فراحوا إلى موسى يشكون، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، لقد اشتهوا أكل الفقراء والمزارعين، وملُّوا حياة الرفاهية، صحيح أنهم طلبوا استبدال الأعلى بالأدنى، لكن هذا له دلالة مهمة على تحول بني إسرائيل إلى حياة الشظف وخشونة العيش وهو المبتغى من هذه التربية، فثباتهم على المن والسلوى والحصول عليهما بلا تعب ولا كد معناه المراوحة في المكان والتعود على العيش الهنيء والسكون وقلة الحركة، لكن طلبهم الأكل مما تخرج الأرض أمر يبعث على التفاؤل في تحسن الحال وتقدمها، وأنها في الطريق إلى مقارعة الأهوال، ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61].
مشرفيات أبحاث ومقالات عن دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب وعلمائها صدر حديثًا كتاب "مشرفيات: أبحاث ومقالات عن دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب وعلمائها "، تأ ليف: د. "عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف"، نشر: "دار آفاق المعرفة للنشر والتوزيع". يسعى هذا الكتاب إلى تقديم عرض مبسط عن الدعوة الوهابية في شبه الجزيرة العربية وأعلامها، حيث لا تزال الدعوة الإصلاحية التي جدَّدها الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - مجالًا رحبًا لمن أراد أن يقدم بحثًا بديعًا، أو يحرر قضية شائكة، أو يُظهِرَ أمرًا خفيًا يتعلق بهذه الدعوة، بعيدًا عن الرتابة والتكرار. وهذا الكتاب محاولةٌ لإضافة جديد، وإبراز خفي، وتحرير مشكل متعلق بقضايا هذه الدعوة الإصلاحية، ويتكون هذا الكتاب من شِقَّيْن: "أبحاث" و"مقالات": أما الأبحاث فهي أربعة أبحاث محكمة: (1) التعامل مع النوازل العقدية "أنموذج تطبيقي لعلماء الدعوة الإصلاحية". (2) موقف عثمان بن معمر من الدعوة "مراجعاتٌ من خلال رسالتَي ابن عفالق". (3) جوانب دعوية من سير علماء الدعوة السلفية بنجد. (4) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية خلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر. وأما المقالات فهي مجموعة من المقالات التي تناولت قضايا مهمة تُعنى بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلمائها، ورد الشبهات التي ألصقت بالحركة الوهابية زورًا وبهتانًا، وعناوين تلك المقالات: 1- التكفير والقتال لدى خصوم الدعوة. 2- التكفير والقتال لدى أئمة الدعوة. 3- واقع نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 4- الوهابية في مواجهة غلاة التكفير. 5- الوهابية في مواجهة الغلاة. 6- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. مرارة الحال وحلاوة المآل. 7- أبو بطين.. الفقه والاحتساب 8- الدعوة الإصلاحية.. القبول والبهتان. 9- جهود علماء الدعوة السلفية بنجد تجاه النوازل والأحداث. 10- وقفات مع جهود علماء الدعوة السلفية في نجد في الرد على المخالفين. 11- الدعوة في شخصية الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ثم خُتِمَ هذا المجموع بالحديث عن الجوانب التعبدية عند علماء هذه الدعوة الإصلاحية. يقول الكاتب: "وفق الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاستعمال الحكمة في دعوته، فنجده مراعيًا أحوال الناس، ومنازلهم، ومدى قربهم من الحق أو عكسه، ومن ثم يتنوع أسلوبه في الدعوة حسب حال المدعو ومكانته. فعندما يخاطب أمير العُيينة عثمان بن معمر - والذي ناصر الدعوة في أول أمرها - يخاطبه بأسلوب فيه ترغيب وتحبيب فيقول: "إني أرجو إن قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى، وتملك نجدًا وأعرابها". ويخاطب شيخه عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي بأسلوب تظهر فيه المحبة وصدق المودة فيقول له: "فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقًا لدين الله تعالى كعمر رضي الله عنه". أما عن أعداء هذه الدعوة السلفية ممن شرق بها، فأظهروا العداوة والصد عن دين الله، فنجد أن الشيخ يخاطبهم وبما يناسب حالهم بأسلوب فيه شدة وغلظة، بعد أن استعمل معهم أسلوب اللين والملاطفة. يقول الشيخ مخاطبًا أحد مراسليه عند الحديث عن خصومه: "هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام، وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن وما زادهم ذلك إلا نفورًا" ويقول عن عبد الحق المويس بالذات: "استدعيته أولًا بالملاطفة، وصبرت منه على أشياء عظيمة" فلما ظهرت عداوتهم، ولم ينفع معهم الأسلوب اللين، استعمل الشيخ معهم الشدة والحزم، فها هو يقول عن أحد خصومه الألداء وهو ابن سحيم: "لولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر، بل والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتالهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجًا من ذلك" ويخاطب ابن سحيم قائلًا له: "ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال" لقد كان الشيخ رحمه الله حاد المزاج وقد صرف حدته في مكانها الصحيح، فجعلها في الانتصار لدين الله، والغيرة على محارم الله، والعداوة والبراءة من الشرك وأهله". و المؤلف هو د. "عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف"، عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض، تخرّج من كلية أصول الدين بالرياض سنة 1403/1404هـ، عُيّن معيدًا سنة 1404هـ، ثم محاضرًا سنة 1407هـ، ثم أستاذ مساعدًا سنة 1414هـ، ثم أستاذ مشاركًا سنة 1427هـ. درّس جملة من متون وكتب العقيدة مثل: كتاب التوحيد، وفتح المجيد، والحموية، والعبودية، والتدمرية، ولمعة الاعتقاد، وعقيدة السلف للصابوني، والعقيدة الطحاوية وغيرها. كما شارك في إعداد مناهج قسم العقيدة وموادها سواء في المرحلة الجامعية أو مرحلة الدراسات العليا. وشارك ضمن فريق تأليف العلوم الشرعية للمرحلة الثانوية بوزارة التربية والتعليم. كما أنه شغل منصب عضو هيئة التحرير ووحدة الدراسات لمجلة البيان، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة وموقع الصوفية. من مؤلفاته: • نواقض الإيمان القولية والعملية (رسالة دكتوراه) وأجيزت مع مرتبة الشرف الأولى. • دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض (رسالة ماجستير) ومنح صاحبها درجة الماجستير بتقدير ممتاز. • معالم في السلوك وتزكية النفوس. • الإباضية وهل هم خوارج. • مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل. • التوحيد للناشئة والمبتدئين.
اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير دراسة وموازنة صدر حديثًا كتاب " اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير دراسة وموازنة " من أول القرآن الكريم إلى سورة الإسراء، ومن أول سورة الكهف إلى آخر القرآن الكريم ، تأليف: د. " محمد بن عبد الله بن جابر القحطاني " ود. " محمد عبدالله الدوسري "، في مجلدين، نشر: " كرسي القرآن الكريم وعلومه - جامعة الملك سعود" . وهي دراسة محررة تتبعت اختيارات العلامة محمد ابن قيم الجوزية الدمشقي (ت 751 هـ) وترجيحاته في التفسير، حيث أظهرت هذه الدراسة مواطن تميز ابن القيم في التفسير، وسعة علمه به، وبعد غوره في مناقشة أقوال المفسرين، وطول نفسه في إيراد الحجج، وبيان الأدلة التي يبني عليها اختياره وترجيحه، ودراسة هذه الأقوال وفهمها وإتقانها مما يساعد طالب العلم على بناء الملكة التفسيرية، والتدرب على أساليب الاحتجاج والاستدلال للمعنى الصحيح في التفسير، وقد ظهر في منهج ابن القيم آثار شيخه العلامة ابن تيمية (ت 728 هـ). وقد درس الباحثان اختيارات ابن القيم وترجيحاته التفسيرية مع موازنتها بأقوال أئمة التفسير، مع الحرص على استنباط الفوائد التفسيرية منها وجمعها في هذا السفر المستقل، مع التذكير بأهم كتب التفسير التي يعتني مصنفوها بجانب الموازنة بين الأقوال، ويحرصون على الترجيح والاختيار مع ذكر ترجيحاتهم واختياراتهم. وقد اشتملت هذه الرسالة على مقدمة وقسمين رئيسين وخاتمة وفهارس تفصيلية حسب التفصيل التالي: المقدمة : في بيان أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة ذات الصلة به، ومجاله وحدوده، وشرح عنوانه، وخطته، ومنهج كتابه. التمهيد : الاختيار والترجيح وأهميتهما في علم التفسير، وفيه: 1- تعريف الاختيار والترجيح، والفرق بينهما. 2- أثر الاختيارات والترجيحات في علم التفسير. 3- ترجمة الإمام ابن القيم بإيجاز. القسم الأول : منهج ابن القيم في الاختيار والترجيح في التفسير: وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: منهج ابن القيم في التفسير، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: جهود ابن القيم في التفسير. المبحث الثاني: منهجه في التفسير. المبحث الثالث: مزايا تفسير ابن القيم. الفصل الثاني: منهج ابن القيم في الاختيار في التفسير، وفيه مبحثان: المبحث الأول: صيغ وأساليب الاختيار في التفسير عند ابن القيم. وفيه مطلبان: المطلب الأول: صيغ الاختيار عند ابن القيم. المطلب الثاني: أساليب الاختيار عند ابن القيم. المبحث الثاني: قواعد الاختيار عند ابن القيم. الفصل الثالث: منهج ابن القيم في الترجيح في التفسير: وفيه مبحثان: المبحث الأول: صيغ وأساليب الترجيح عند ابن القيم. وفيه مطلبان: المطلب الأول: صيغ الترجيح عند ابن القيم. المطلب الثاني: أساليب الترجيح عند ابن القيم. المبحث الثاني: قواعد الترجيح ووجوهه عند ابن القيم. وفيه مطلبان: المطلب الأول: قواعد الترجيح عند ابن القيم. المطلب الثاني: وجوه الترجيح عند ابن القيم. القسم الثاني : دراسة اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير من أول القرآن الكريم إلى نهاية سورة الإسراء: وقد تضمن هذا القسم عشرين ومئة مسألة، في كل مسألة دراسة لأحد اختيارات ابن القيم أو ترجيحاته في التفسير. وقد سلك الباحث الطريقة التالية في دراسة كل مسألة: 1- إثبات نص الآية أو الآيات التي ورد في تفسيرها اختيار أو ترجيح. 2- نقل نص كلام ابن القيم المراد دراسته. 3- الدراسة والموازنة. 4- النتيجة؛ وفيها الخلاصة والترجيح. 5- تنبيهات وفوائد متعلقة بالدراسة. خاتمة في أهم نتائج البحث. ومن أهم تلك النتائج: ظهر للباحث أن القيمة العلمية لتفسير ابن القيم تختلف من موضع إلى آخر، ومن جانب إلى آخر، فابن القيم متميز جدًا في استخراج كنوز الآيات واستنباط الفوائد والأحكام منها، وأما من جانب التفسير التحليلي للقرآن، وما يلحق به من عرض الأقوال، وذكر الراجح والمرجوح، والصحيح والضعيف فالحكم مختلف، فهو في المواضع التي يعني بها ويقصد تحريرها، وتتعلق بصلب الموضوع الذي يوردها من أجله يعد في طبقة كبار المفسرين، مع التنبيه على وقوعه في المبالغة أحيانًا: إما في الجزم بصحة ما يراه، ونفي ما سواه، وإما في رد بعض الأقوال المعتبرة، وشدته في الرد والتضعيف، وجرأته على ذلك ظاهرة. قال الذهبي بعدما أثنى على ابن القيم: "... لكنه معجبٌ برأيه، جرئ على الأمور، غفر الله له". ونجد أن المفسرين يتفاوتون في العناية بالترجيح بين الأقوال في التفسير، واختلفت طرائقهم في ذلك؛ فمنهم من يهتم بهذا الجانب، ويستدل ويناقش، ومنهم من يورد الأقوال دون نقد أو ترجيح، ومنهم من يرجح أحيانًا ويسكت أحيانًا، وأكثر المفسرين الذين لهم عناية بهذا الجانب هم السبعة الذين اعتمد عليهم الباحث في موازنة أقوال ابن القيم وهم: ابن جرير، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، وابن عاشور، ويضاف إليهم: الآلوسي، والشنقيطي، ومن المفسرين الذين لترجيحاتهم قيمة كبيرة في آيات الأحكام: أبو بكر الجصاص، وابن العربي. وابن القيم هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزُّرعي الدمشقي الحنبلي. الشهير بشمس الدين، أبو عبد الله وابن قيم الجوزية. كان والده رحمه الله قَيِّمًا على المدرسة الجوزية بدمشق، والقيّم هو الناظر أو الوصي، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا، وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق. فكان أبوه قيم الجوزية فأطلق عليه ابن قيم الجوزية، والبعض يقول ابن القيم وهو الأكثر لدي المتأخرين. ولِد ابن القيم في عام 691 للهجرة، مولده ووفاته في دمشق. تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهو الّذي هذب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وأهين وعذب بسببه. وأُطلِق بعد موت ابن تيمية. سمع من عدد كبير من الشيوخ، منهم والده "أبو بكر بن أيوب" فأخذ عنه الفرائض، وأخذ عن "ابن عبد الدائم"، وعن "أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية" أخذ التفسير والحديث والفقه والفرائض والأصلَين: (أصول الدين وأصول الفقه)، وعلم الكلام، وقد لازمه منذ قدوم ابن تيمية إلى مدينة دمشق سنة 712هـ/1313م حتى توفي سنة 728هـ/1328م، وعلى هذا تكون مدة ملازمته ودراسته على ابن تيمية سبعة عشر عامًا تقريبًا، وذكر صلاح الدين الصفدي جملة من الكتب التي قرأها ابن القيم على ابن تيمية فقال: "قرأ عليه قطعةً من المحرر لجدّه المجد" وقرأ عليه من المحصول، ومن كتاب الأحكام للسيف الآمدي، وقرأ عليه قطعة من الأربعين والمحصل، وقرأ عليه كثيرًا من تصانيفه". وسمع من "الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمن النابلسي" في سنٍ جدّ مبكرة، في السادسة أو السابعة من عمره. وعن "ابن الشيرازي" الذي لم يذكر المترجمون نسبه، فيذكر بعضُهم أن المقصود هو "المسند زيد الدين إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الشيرازي"، ويذكر آخرون أن المقصود هو "كمال الدين أحمد بن محمد بن الشيرازي". وسمع من "المجد الحراني" وأخذ عنه الفقه وقرأ عليه "مختصر أبي القاسم الخرقي" وكتاب "المقنع" لابن قدامة وأخذ عنه الأصول وقرأ عليه أكثر "الروضة" لابن قدامة. وسمع من "إسماعيل أبي الفداء بن يوسف بن مكتوم القيسي"، و"أيوب زين الدين بن نعمة الكحال"، و"البهاء بن عساكر"، و"الحاكم سليمان تقي الدين بن حمزة بن قدامة المقدسي"، وأخذ الفقه عن "شرف الدين بن تيمية"، و"علاء الدين الكندي الوداع"، وسمع من "عيسى شرف الدين بن عبد الرحمن المطعِّم"، و"فاطمة أم محمد بنت الشيخ إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي"، وقرأ العربية على "مجد الدين التونسي"، و"بدر الدين بن جماعة"، وأخذ العربية والفقه عن "محمد شمس الدين بن أبي الفتح البعلبكي"، فقرأ عليه "الملخص" لأبي البقاء و"الجرجانية" و"ألفية ابن مالك" وأكثر "الكافية الشافية" وبعض "التسهيل"، و"محمد بن شهوان"، و"شمس الدين الذهبي"، و"صفي الدين الهندي" فأخذ عنه الأصلين (أصول الفقه والتوحيد)، وقرأ عليه في أكثر "الأربعين" و"المحصل"، و"أبي المعالي محمد بن علي الزملكاني"، و"ابن مفلح" وكان ابن القيم يراجعه في كثير من مسائله واختياراته، و"جمال الدين المزي" وكان ابن القيم يعتمده وينقل عنه في كثير من كتبه خاصة في الحديث ورجاله معبرًا عنه بلفظ "شيخنا"، وسمع من "محمد بن عثمان الخليلي"، ومن "عز الدين عبد العزيز ابن جماعة". وقد تولى ابن قيم الجوزية الإمامة في "المدرسة الجوزية"، والتدريس في "المدرسة الصدرية" في سنة 743هـ. وكان حسن الخلق محبوبًا عند الناس، أُغري بحب الكتب، فجمع منها عددًا عظيمًا، وكتب بخطه الحسن شيئًا كثيرًا. تفق كتب التراجم أن ابن القيم توفي في ليلة الخميس 13 رجب سنة 751هـ في وقت أذان العشاء، وقد كان عمره عند وفاته ستون سنة. يقول ابن كثير في ترجمته: "وكان حسن القراءة والخلق كثير التودد، لا يحسد أحدًا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد وبالجملة كان قليل النظر في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق والفضيلة". ويقول أيضًا معتزًا بصحبته ومحبته له: "وكنتُ من أصحب الناس له وأحب الناس إليه". ويقول ابن رجب: "وكان رحمه الله تعالى ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر. وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان أعلم منه وليس هو المعصوم ولكن لم أر في معناه مثله". ألف ابن القيم العديد من المصنفات، واشتهرت مصنفاته شهرةً كبيرة، يقول ابن حجر العسقلاني: "وكلُّ تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف". وكان تصنيفه في أنواع مختلفة من العلوم الإسلامية، يقول ابن رجب الحنبلي: "وصنف تصانيف كثيرة جدًا في أنواع العلم". وقد عدَها العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد 98 مؤلفًا. من أشهرها: • اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. • الإعلام باتساع طرق الأحكام. • إعلام الموقعين عن رب العالمين. • إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. • إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان. • روضة المحبين ونزهة المشتاقين. • الروح. • زاد المسافرين إلى منازلِ السعداءِ في هَدي خاتم الأنبياء. • زاد المعاد في هدي خير العباد. • الطب النبوي. • طريق الهجرتين وباب السعادتين. • الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّة في السِّياسَة الشَّرعية. • عِدَةُ الصَّابرين وذخيرةُ الشَّاكرين. • الفوائد. • قُرَّةُ عيونِ الْمُحِبِّين، وروضةُ قلوبِ العارفين. • الكافية الشافية في النحو. • الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية. • الكبائر. • كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء. • اللَّمْحَة في الرَّدِّ على ابن طلحة. • مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. وغيرها..
فكر التهويل ومع هذه المقدمة فإن هذا البحث لا يسعى إلى الخوض في مناقشة المصطلح في الفكر العربي المعاصر من منطلق التهوين من الذات وجلدها، على ما هو متبع الآن في بعض الأطروحات الفكرية العربية المعاصرة التي تميل إلى التهويل، إلى درجة القول: إن اللغة العربية تلفظ أنفاسها الأخيرة، بحيث أضحى جلد الذات سمة من سمات الطرح الفكري العربي المعاصر، بما في ذلك العناية باللغة العربية، أو قل إن شئت: قلة العناية باللغة العربية، مما يساعد على حال التقهقر التي يعيشها هذا الفكر. وربما يُلتمس العذر لهؤلاء الغيورين على لغة الضاد نظرتهم التهويلية؛ نظرًا لما يُعايشونه من ضعف في اللغة واستهانة بها على مختلف الأصعدة من الشارع إلى الجامعة والمجمع، ولم يسلم من ذلك حتى المسجد والجامع والمنبر، والسعي إلى البدائل اللغوية المتاحة التي لا تصل إلى مستوى اللغة العربية، من حيث الأسلوب والجزالة والقدرة على التعبير عن الظواهر المستجدة، مما يستدعي وقفة تقويم صارمة وقوية من الأطراف المعنية بهذا الجانب، بما فيها المؤسسات السياسية العربية،ويتكرر هنا إيراد ما يؤثر عن الخليفة الراشد الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: إن الله يزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن. ولمن يجلد ذاته ويجلد الأمة نظرتُه التي يتكئ عليها من هذا الضعف الشامل في شتى مناحي الحياة المعاصرة، بما فيها مناحي الفكر والثقافة، فهو معذور من وجه، لكن يمكن أن يختار مسارًا أكثر بنائية وإيجابية في مسيرة تعديل الوضع الذي تعيشه الأمة في الزمن الحالي، بدلًا من الإسهام في تعميق الجراح، مما ينتج عنه قدر من الإحباط يعود سلبًا على السعي إلى إعادة اللغة العربية إلى مكانتها التي تليق بها،على أن هذه الوقفة لا تناقش المواقف من المفهومات من حيث القبول أو الرفض، وإنما هي تُعْنى بإشكالية المصطلح في التعبير عن المفهوم وحسب. وربما يعود هاجس الهوان إلى العقد السابع من القرن الرابع عشر الهجري الخامس من القرن العشرين الميلادي، حينما ظهرت الدعوة إلى كتابة القرآن الكريم نفسه بالحروف اللاتينية، تلك الدعوة التي تقدم بها عبدالعزيز فهمي لمجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة في 6/ 1/ 1360هـ الموافق 2/ 2/ 1941م، حيث دعا إلى أن تُكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وكان ذلك المقترح قد نوقش في جلستي 24 و31 من شهر محرم 1363هـ الموافق يناير من سنة 1944م،إلا أن أعضاء المجمع آنذاك اعترضوا على هذا الاقتراح، "حتى اندثر هذا الموضوع وطواه النسيان منذ عام 1944م" [1] . [1] انظر: عبدالحي حسين الفرماوي. كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية: اقتراح مرفوض - في: المؤتمر الحادي عشر لمجمع البحوث الإسلامية - ج2 - القاهرة: المجمع، 1995م - ص 391 - 416.
قائمة المفردات الشائعة في اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث للدكتور فتحي علي يونس صدر حديثًا موسوعة " قائمة المفردات الشائعة في اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث "، تخطيط وإشراف: د. " فتحي علي يونس "، إعداد: "خالد السادات إبراهيم"، ود. " السيد العربي يوسف" ، و "البراء صفوان عبدالغني "، نشر: " مكتبة وهبة للنشر والتوزيع ". وتشكل هذه الموسوعة بأجزائها الثلاثة مدخلًا إلى تنمية وإثراء الثروة اللغوية لدى المهتمين بعلوم اللسانيات ودارسي اللغة العربية؛ حيث عكف الباحثون على وضع منهج دراسي كامل يتوسط بين الدراسات اللغوية المتكاملة والمعاجم المؤرخة لألفاظ اللغة العربية، وكان نتاج ذلك الجهد العلمي البارز ثلاثة مجلدات على النحو التالي: الجزء الأول: القوائم الأربع عشرة. الجزء الثاني: عدد تكرار ورود الكلمة في كل عصر ومعجم القائمة. الجزء الثالث: المفردات الأساسية في اللغة العربية ومشتقاتها. الجزء الأول من تلك الموسوعة بعنوان: "القوائم الأربع عشرة" يضم مقدمة ومدخلًا نظريًا عن القوائم وتاريخها وأنواعها، وشرح تفصيلي عن القائمة الحالية وطريقة العمل التي سارت فيها، ثم القوائم الأربع عشرة التي وضعها الباحثون عن كل عصر من العصور التالية: ( العصر الجاهلي - صدر الإسلام - الأموي - العباسي - الحديث ) ، وفي كل عصر قائمتان: • واحدة حسب الترتيب الأبجدي تصاعديًا. • وأخرى حسب الترتيب التكراري تنازليًا. ثم قائمة نهائية لكل هذه العصور ( مرتبة مرة أبجديًا، وأخرى تكراريًا) . يتبعها قائمة العربية الأساسية؛ حيث تضم الأخيرة خمسمائة مصدرًا ( مرتبة مرة أبجديًا، وأخرى تكراريًا ). الجزء الثاني من الموسوعة بعنوان: "عدد تكرار ورود الكلمة في كل عصر ومعجم القائمة"؛ ويضم قائمة تحتوي على عدد تكرار ورود الكلمة في كل عصر، ثم عصور ورودها مجتمعة في ترتيب أبجدي، يتبعها معجم لمفردات القوائم كلها مرتب ترتيبًا أبجديًا، وفي نهاية هذا الجزء قائمة بأهم مصادر المادة العلمية التي أُخذت منها عينات المفردات الشائعة، ويتبعه ثبت بأهم المراجع العلمية. الجزء الثالث من الموسوعة فينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ هي: الأول: المفردات الأكثر شيوعًا في اللغة العربية: وفي هذا القسم تم استخراج المفردات الأساسية الخمسمائة من خلال: (قائمة المفردات الشائعة في اللغة العربية من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث)، أو ما يسمى في القائمة نفسها بـ(قائمة العربية الأساسية= Basic Arabic ) والتي تضم مجموعة من الكلمات الأكثر شيوعًا في اللغة العربية، وقد اقتصر عددها على (500) مصدرًا. الثاني: مشتقات المفردات الأساسية في اللغة العربية: في هذا القسم تم تناول الباحثون مجموعة الكلمات التي سبقت الإشارة إليها وهي (500 مصدر)، حيث جِيء بكل مشتق مستعمل يأتي من الجذر الثلاثي الأصلي للكلمة الواحدة من الخمسمائة مصدر، وتم استخراج تلك المشتقات بالرجوع إلى مجموعة من المعاجم العربية القديمة، مثل: "لسان العرب" لابن منظور، و "تاج العروس " لابن سيده.. وغيرها من المعاجم القديمة، وكذلك المعاجم الحديثة مثل: "معجم اللغة العربية المعاصر" للدكتور أحمد مختار عمر، وذلك لمعرفة مشتقات الجذر المستعملة، هذا على المستوى الرأسي للقائمة، أما على المستوى الأفقي فقد تم الاقتصار على مجموعة من الصيغ لمشتقات الكلمة العربية التي بُنيت القائمة على أساسها. الثالث: أدوات وروابط ومواقف لابد منها لبناء النص اللغوي: في هذا القسم تم تناول الأدوات والروابط والمواقف التي تعد من أساسيات التواصل اللغوي، ومن الكلمات التي لابد منها لبناء النص اللغوي في اللغة العربية، وهي على النحو التالي: 1- الأدوات في اللغة العربية. 2- الأسماء الأساسية في اللغة العربية. 3- الأفعال الأساسية في اللغة العربية. 4- كلمات لابد منها في المواقف اليومية. وهذه الموسوعة تسعى لتحقيق عدد من الأهداف، أهمها: تمكين الباحثين من إعداد الدراسات والأبحاث المتعلقة بتقييم تراثنا الفكري والعلمي في ضوء ما تقدّمه تلك الموسوعة المفهرسة الببليوغرافية من معطيات جديدة، واستثمار مدونتها الشاملة في بناء عدد من البرامج الحاسوبية الخاصة بالمعالجة الآلية للغة العربية مثل: الترجمة الآلية، والإملاء الآلي، والمدققات النحوية، والمحللات الصرفية والنحوية والدلالية. كما سيوفِّر المشروع عددًا من المعاجم الفرعية التخصصية التي تفتقر إليها المكتبة العربية للباحثين. ويعد هذا المعجم معجمًا مفهرسًا يجمع ألفاظها المُستعملة في نصوصها المطبوعة من أقدم استعمال لها، وأيًّا كان مكان استعمالها الجغرافيّ؛ فيتضمّن "ذاكرة" كلّ لفظٍ من ألفاظها، ويُسجِّلُ تاريخَ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخَ تحوّلاته البنيويّة والدّلاليّة، وتحوّلات استعمالاته، ويوثِّق تلك "الذّاكرة" بالنّصوص الّتي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها. إلى جانب كونه كتابًا مرحليًّا مبنيًّا بطريقة تراكميّة، نسقيّة، يخضع لضوابط الصّناعة المعجميّة المعاصرة المرتبطة بالتطوّرات الراهنة في علم المعجم ونظريّاته؛ فهو يُقدّم المعلومات عن الألفاظ في مداخلها المعجميّة بطريقة موحّدة ومنظّمة: اللّفظ تحت جذره، يليه وَسْمُه، فتاريخ استعماله، مُردفًا برأس التّعريف، فالتّعريف، ثمّ الشّاهد النّصّيّ، واسم مستعمله، ثم مصدر توثيق الشاهد. إلى جانب كون الموسوعة بأجزائها الثلاثة موسوعة لغويّة معنيّة أساسًا بألفاظ اللّغة العربيّة ومعانيها، وتقديم المعلومات الّتي تُسلّط الضّوء على اللّفظ والمعنى، بطريقة منظّمة لا تختلف من لفظ لآخر، كما أنّها تربط ألفاظ اللّغة العربيّة بنظيراتها في اللّغات "الساميّة" المنتمية إلى العائلة اللّغويّة الواحدة نفسها، حيثما توافر ذلك، وترجع باللّفظ العربيّ إلى استعمالاته الأولى في النصوص، كما ترجع باللّفظ العربيّ المقترض إلى أصله اللّغويّ، فارسيًّا كان أو يونانيًّا، أو غير ذلك. وتتقصى صلة المفردة اللغوية بألفاظ القرآن الكريم، وبقراءاته المتواترة سواء حملت معنى جديدًا، أو لم تحمله. كما أنها تُعنى بلغات العرب ولهجاتها؛ فلا تقتصرُ على لهجةٍ واحدةٍ دون غيرها، وهي تشمل جميع ألفاظ اللّغة العربيّة المستعملة في النّصوص، بما فيها الألفاظ المشتقّة اشتقاقًا قياسيًّا؛ كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغيرهما، وتعرضها مُوثِّقةً كلّ لفظ بنصّ شاهد يدلّ على استعماله بمعانيه، مقرونًا باسم مستعمله، وتاريخ استعماله، أو تاريخ وفاة مستعمله، مع توثيق مصدر النّصّ. وتعني برصد المصطلحات في مجالاتها العلميّة والمعرفيّة والفنّيّة، على النّحو الذي يرصد به الألفاظ. ونجد أنه لا تظهر أهمية الحصيلة اللغوية من ألفاظ اللغة فقط، مهما بلغت هذه الحصيلة من الثراء، ما لم تكن هناك قدرة على صياغة وتركيب وسبك وربط المفردات اللغوية المكتسبة على نحو سليم، يقول عبد القاهر الجرجاني: "ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل إن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"، إذ يتعذر على ذاكرة الإنسان - مهما قويت أو اتسعت - أن تحتفظ بكل ما أودع أو اختزن فيها من معلومات لأمد طويل، فالإنسان معرض لأن ينسى الكثير مما حفظ واكتسب من معلومات أو معارف مع مرور الزمن، لذا نجد أن مستخدمي اللغة لا يستطيعون استخدام مفردات اللغة بأكملها، فهم بحاجة ماسة إلى مراجع كتلك الموسوعات يعتمدون عليها وتمدّهم بما يحتاجون إليه، كما تزودهم بمعاني ومدلولات هذه المفردات. والمؤلف هو د. "فتحي علي يونس" أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية المتفرغ بكلية التربية ​ - جامعة عين شمس، مهتم بالدراسات اللغوية وتصنيف المناهج التربوية، وله فيها عدد من المصنفات والبحوث منها: • "تصميم منهج لتعليم اللغة العربية للأجانب: بحث تجريبي". • "أساسيات تعليم اللغة العربية والتربية الدينية" بالاشتراك مع: محمود كامل الناقة، علي أحمد مدكور. • "دليل المعلم للكتاب الأساسي في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها". • "أسس ومعايير اختيار مادة تعليمية للكبار". • "التربية الدينية الإسلامية: بين الأصالة والمعاصرة" بالاشتراك مع: محمود عبده أحمد، مصطفى عبدالله إبراهيم. • "اللغة والتواصل الاجتماعي". • "أثر العرب والمسلمين في الحضارة الأوروبية". • "تحليل المناهج وتقويمها". • بحث: كفايات معلم المرحلة الإبتدائية بدول الخليج. • بحث: بعض خصائص تعليم الكبار في الإسلام. • بحث: القراءة: الفصل الأول في كتاب التربية . • "المرجع في تعليم اللغة العربية للأجانب "من النظرية إلى التطبيق". • "اتجاهات حديثة وقضايا أساسية في تعليم القراءة وبناء المنهج". • "الكتاب الأساسي في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها". • "تعليم اللغة العربية للمبتدئين: (الصغار والكبار)".
العلامة في النحو العربي لمحمود سليمان ياقوت صدر حديثًا كتاب " العلامة في النحو العربي "، تأليف: د. " محمود سليمان ياقوت "، نشر: " دار النابغة للنشر والتوزيع ". وهي دراسة لغوية بلاغية تقوم على تتبع نصوص القدماء التي ورد فيها المصطلح العلامي فقط من خلال تحليل علامات الاسم والفعل، وعلامة الحرف، وعلامات الإعراب، وإيضاح علاقة الكلمة ببعض أبواب النحو والصرف: الضمائر والمثنى والجمع السالم والعدد والممنوع من الصرف والتصغير، وكذلك علاقتها باللهجات، واللغة المنطوقة، وينتهي الكتاب ببيان أنواع العلامات عند القدماء، وقاعد العلامة. ونجد أن " العلامة " من المصطلحات الأصيلة في الدرس النحوي عند القدماء؛ لأنه ورد عند سيبويه (ت 180 هـ) في الصفحات الأولى من " كتابه "، وعقد له عدة أبواب، ودرس بعض موضوعات النحو اعتمادًا عليه، ومن أهمها "باب الضمير" الذي ذهب فيه إلى أن الضمائر علامات على " معلم " بعينه. ونجد أن النظام اللّغويّ في لغتنا العربية يرتكز على العلامة بأشكالها المختلفة في تصنيف الظواهر ‏اللغوية وتحليلها، وتُعدّ العلامةُ ركيزةً أساسيّةً من ركائز بناء النحو العربي وتصنيفه، فلا غنى عنها ‏في معالجة كثير من الموضوعات النحوية، وتأتي هذه الدراسة لتتناول أهم العلامات النحوية التي استعان بها النحويون في بناء النظام النحوي وتصنيفه، ‏وشرح المصطلحات النحوية وتأكيدها؛ لتكشف عن موقع العلامة في النظام النحوي، والدور الكبير ‏الذي تقوم به في تمييز المبنى والمعنى في اللغة العربية، بدءا من تقسيم الكلمة الثلاثي (اسم، فعل، ‏حرف ) إلى التقسيمات الأخرى، وتضع لها تصنيفًا حسب نوعها ووظيفتها، يسبقها رؤية تمهيدية في ‏مفهوم الاستدلال والعلامة وأشكالها. وقد اهتم علماء النحو من الذين أتوا بعد سيبويه بالمصطلح، وأكثروا من استعماله، معتمدين على ما ورد عنده، مع إضافة ظواهر أخرى تتصل بالعلامة، على وجه العموم. ولذلك نستطيع أن نقول - تجوّزًا - إن النحو العربي هو " علم العلامات "، ولا يمكن تجاهل العلامة اللغوية في النحو العربي على اختلاف أشكالها ووظائفها، لأنها ركيزة أساسٌ من ركائز بناء النحو العربي وتصنيفه. ونجد أن العلامات وسيلة لنقل اللغة من الإدراك الذهني إلى الإدراك البصري، ومن ثم تتخذ العلامة وظائفها التي وضعت لها في اللغة. ومن ثم نجد العلامة تقوم بدور أكبر لفرز المعنى ومنع اللبس لتتحقق الغاية وهي فهم النص، كما تمنح العلامة اللغة المرونة وتتيح لها الاختيارات اللغوية وحرية التقديم والتأخير ولولا العلامة لما تحقق هذا، فالعلامة المنطوقة أو المكتوبة ليست جزءًا من نظام الصرف أو نظام النحو لكنها جزء رئيسي من الكلام. والمؤلف هو د. " محمود سليمان ياقوت "، الأستاذ بجامعة طنطا بمصر، حصل على درجة الماجستير عام 1978 م، وكان عنوان الرسالة ( المعجم الموضوعي عند العرب حتى نهاية القرن الثالث الهجري )، ثم الدكتوراه عام 1982 م، وكان عنوان الرسالة ( قضايا التقدير النحوي بين القدماء والمحدثين ). صدرت له الدراسات التالية: • "النحو التعليمي والتطبيق في القرآن الكريم". • "فن الكتابة الصحيحة" (قواعد الإملاء، علامات الترقيم، الأخطاء الشائعة، لغة الإعلانات الصحفية). • "إعراب القرآن الكريم". • "شرح جمل سيبويه". • "اللغة والرؤيا والحلم". • "ظاهرة التحويل في الصيغ الصرفية". • "علم الجمال اللغوي: المعاني، البيان، البديع". • "التراكيب غير الصحيحة نحويا فى الكتاب لسيبويه: دراسة لغوية". • "معاجم الموضوعات في ضوء علم اللغة الحديث". • "المبني للمجهول في الدرس النحوي والتطبيق في القرآن الكريم".
قصة موسى عليه السلام (7) ما بعد العبور للإنسان الحقُّ في أن يحاول تصور البحر الذي عبره بنو إسرائيل، فإذا كانت البلدة التي خرج منها بنو إسرائيل هي منف؛ أي: قريبة من القاهرة، ثم خرج المهاجرون الفارون من فرعون باتجاه الشرق، فما البحر الذي سيصادفهم؟ قد يكون نهر النيل، وهذا يصح إذا كانت البلدة غربية، وعبر القُرْآن عنه بالبحر؛ لسَعته عرضًا، وكان قد عبر عنه في بداية قصة موسى باليم، وإذا ما اتجهنا شرقًا من القاهرة باتجاه سيناء فلا يصادفنا بحر، وإنما بحيرات، وقد تكون إحداها المقصودة [البحيرات المرة]، وهي عميقة، ولسَعتها تبدو كالبحر، وحاليًّا متصلة بقناة السويس وتمخر فيها أكبر السفن، وقد يكون خليج السويس في جزئه الشمالي، إلا أن الطريق إليه من الغرب جبلي صعب وشاق، فخليج السويس تحفُّه من جهتيه الشرقية والغربية جبال يصعب اختراقها للوصول إلى الشاطئ، والله أعلم. المهم أن موسى عبَر بقومه سالمين جميعًا إلى سيناء، وهناك بدأت مرحة جديدة في حياة موسى وقومه، وينبغي عبور سيناء للوصول إلى الأرض المقدسة، والأرض المقدسة لم تكن خِلْوًا من السكان، بل كان فيها العماليق، وهم القوم الجبَّارون، وهذا يعني أن صراعًا جديدًا سيخوضه موسى وأتباعه، وقد يكون أشد مِن صراعهم مع فرعون، وإزاء هذا يجب أن يعبِّئ موسى أتباعه تعبئة إيمانية قوية ليتمكنوا من مواجهة هؤلاء القوم، ومِن أجل هذا فقد خضعوا لامتحانات في العقيدة والصبر وقوة التمسك بالدين، قد يكون صراعهم مع فرعون قد أخذ طابع القومية عند بعضهم، فتعصبوا لموسى لأنه منهم، ووقفوا معه ضد فرعون، إلا قلة منهم كانوا يدورون مع مصلحتهم في تولِّي فرعون وملئه، أمثال قارون، لكن الغالبية كانت مع موسى حمية؛ لذلك كانوا يترددون في الولاء ولا يصبرون على التحدي، ويؤثِرون حياة الذل عند فرعون على حياة التحرر من العبودية التي تكلفهم المقاومة وبذل الدم والنفس، وقد بين الله تعالى حالهم هذه؛ ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]، وعليه فإن قلة منهم كانوا متمسكين بالعقيدة، وناضلوا من أجلها؛ لينعموا بعبادة الله الواحد وتحكيم شريعته القويمة العادلة، ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83] - وكان الآخرون لهم تبعًا يحتاجون إلى فترة من التوجيه والتعليم ليسلكوا طريق الهدى عن علم وقناعة، لا عن تبعية وتقليد، وكان الامتحان الأول لهم. الامتحان الأول: رأى بنو إسرائيل المعجزة الكبرى عيانًا وممارسة، رأوا انفلاق البحر، ثم مروا بالطريق اليبس، وكان اثني عشر طريقًا، مروا وهم يرون بعضهم بعضًا لم يضِعْ منهم أحد أو يغرق أحد، ورأوا فرعون مع جنده يغرقون فلم ينجُ منهم أحد؛ ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، فهذه معجزة ظاهرة ظهرت جلية للجميع، لم تحصل بتدبير أحد من البشر، وكل ما صنعه موسى أنه ضرب بأمر ربه البحر فانفلق، ثم لما عبروا إلى شاطئ الأمان وكان فرعون وجنوده لا يزالون في الطريق اليابس، ضرب موسى البحر بعصًا بأمر ربه، فأطبق البحر على فرعون وجنوده فغرقوا جميعًا، وبنو إسرائيل مع نبيهم موسى يشهدون هذه المعجزة الخالدة، وقد شفى الله صدورهم التي امتلأت غيظًا من فرعون الظالم لهم، وبعد أن ودعوا هذه المعجزة وقد امتلؤوا عزة وإيمانًا تابعوا السير إلى الأرض المقدسة، مروا على قوم من عبدة الأصنام لهم طقوس وترتيل، فأعجبوا بما رأوا، وكان الواجب عليهم الاستنكار والإشفاق على هؤلاء الضائعين التائهين، ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138]، لقد وصفهم موسى بالجهل وعدم الوقوف على حقيقة التوحيد والتفرغ لطلب العلم، وقد يعذر هؤلاء بسبب تسلط فرعون وأتباعه على المؤمنين فوقعوا في هذا الخطأ الكبير، ومن هذا الطلب يتبين الهُوَّة الكبيرة بين المتعلمين والجاهلين، بين من آمنوا بالله الواحد ومن لا يزالون متأثرين بالفكر السائد عند الوثنيين وما كان يبثه فرعون، ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127]، وأصبح من الواجب تعليم هؤلاء التوحيد، وأن هؤلاء القوم الذين يعكفون على الأصنام كفَّار غير موحدين، مصيرهم إلى النار، كان هذا جواب موسى على تساؤلهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]، و﴿ مُتَبَّرٌ ﴾ بمعنى: هالك ومَقْضِيٌّ عليه، وأنهم منغمسون في الباطل، وهم لهذا ضالون لا يقتدى بأفعالهم، ثم كان تصعيد الزجر من موسى لأتباعه وبيان الحق الواجب اتباعه، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 140]، وذكَّرهم بما كان قريبًا، حيث أنقذهم من بطش فرعون وظلمه، ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 141]، وهكذا مرَّ الابتلاء الأول، وأخذ بنو إسرائيل درسًا في الإيمان، وهذا يحصل في كل مجتمع عندما يتلقون دعوة الأنبياء فيكونون أصنافًا، صنف يلازم النبي ويحرصون على التلقي منه، وهم الصفوة، كما في الحواريين أتباع عيسى، والمهاجرين والأنصار أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وصنف وسط يجمعون بين التلقي والعمل، وهم لا بأس بهم، ولكن قد يخدعون عندما يدعوهم داع ضال، إنما يؤوبون إلى الحق مع دعوة الداعية المخلص، وصنف من ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف، فهؤلاء لم يتعلموا العلم الذي يحصِّنهم من نزغات الشيطان، وهم سريعو التقلب، وفيهم تظهر الفتن والانحرافات، لقد قالوا لنبينا: "اجعل لنا ذات أنواط" شجرة يتبركون بها ويعلق الجاهليون عليها سلاحهم - فشابهوا بني إسرائيل: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، وكذلك الرِّدة التي حصلت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت دعوة موسى إلى ذلك الوقت لا تزال تؤكد على التوحيد لبناء العقل الطاهر والفكر النظيف، كدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ومن أتى من الأنبياء قبله: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾. وبعد الهجرة إلى سيناء مع هذه الجموع الغفيرة من بني إسرائيل احتاج الأمر إلى تأسيس مجتمع له عقيدة وشريعة تنظم حياته في بيئته الجديدة، وفكر راشد يشد من قوتهم وعزيمتهم على الصمود أمام الخصوم من غير المؤمنين، ويربطهم برباط الأخوة، ويفتح لهم طريق العمل الصالح، ويعرِّفهم بالثواب والعقاب وما يرضي الله وما يسخطه، وأن مرضاته موصلة إلى الجنة، ومخالفته مفضية إلى النار، وقد اختار الله - جلت قدرته - طريقة الوحي إلى موسى بأن جعله كليمه، يكلمه الله فيسمع كلام ربه، ويعمل بما أمر به، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]، وكانت هذه المواعدة من الله تعالى لموسى بأن يكون على جبل الطور بسيناء: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، ليتلقى من ربه التوراة كاملة، وفيها التشريع الذي ينظم حياة بني إسرائيل، وقد ذكر أن الثلاثين يومًا هي شهر ذي القعدة وتمام العشرة من أيام ذي الحجة، وكان الكلام في نهايتها من رب العزة والجلال لموسى أي - وفق هذا القول - في يوم النحر، وقد ورد في سورة البقرة ذكر الليالي الأربعين مجملة: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وذهَب موسى إلى الموعد، ومكث هناك ثلاثين يومًا يتعبد ربه ويصوم، فتغيَّرت رائحة فمه - خُلوف فم الصائم - فاستاك، فأمره الله بصوم عشرة أيام أُخَرَ؛ لكي يكلمه وعليه أثر العبادة، وهي خُلوف فم الصائم، عند ذلك كلمه ربه، فحصل عند موسى شوق عارم دفعه أن يطلب من ربه رؤيته: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]؛ فكان البيان بعدم قدرة موسى أو أي مخلوق على رؤية الله في الدنيا؛ فطبيعة الإنسان الدنيوي لا تحتمل ذلك، وكان البرهان المقنع من رب العالمين بأن ينظر موسى إلى الجبل الضخم من الصخر الأصم في شموخه وتحديه لعوامل الزمن والشمس والريح والمطر، فقد تجلى الله للجبل، فكانت النتيجة تصدُّع الجبل وتهشُّمه إلى ذرات رملية، وقد ورد في الحديث الذي رواه أنس وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، قال: هكذا، وأشار بأصبعيه، ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، بمعنى أن التجلي كان بهذا المقدار، فكان هذا الاندكاك من الجبل، فكيف بالتجلي الكامل؟! لأضحت الأرض هشيمًا، أوَيطيق مِثلَ هذا الإنسانُ؟ فسبحان من دلنا على وجوده بصفاته وبديع خلقه، وأما موسى فقد خر صعقًا من رؤية الجبل وهو يندك وينهار، وأغشي عليه مدة، ثم أفاق وقال: ﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، مِن بني قومه، وإلا فقد سبقه مؤمنون كُثر، وكانت توبته عن جراءته في هذا الطلب وأنه تمنى ألا يكون قد طلب الرؤية، وقد ذكَر العلماء أن الرؤية ستكون في الآخرة، وأن أهل الجنة سيرون ربهم؛ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والحسنى: الجنة ونعيمها، والزيادة: هي رؤية الله تعالى، وفي الحديث عن جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: ((إنكم سترَوْن ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا))؛ أخرجه البخاري، ومعنى لا تضامون: لا تشكُّون، ولا يشتبه عليكم، وعنى بالصلاتينِ الفجرَ والعصر. وبعد الإفاقة جدَّد الله تعالى لموسى الاصطفاء والنبوة، واختصه بكلامه دون واسطة؛ منًّا منه وفضلًا، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]، فقد كان التكليف من قبل في إرساله وأخيه إلى فرعون: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ﴾ [طه: 47]، وهنا على جبل الطور: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، وكان الاصطفاء والتكليف نبيًّا على بني إسرائيل، وهو بمثابة تجديد العهد له ورضا عنه ليبدأ رسالته بقوة، ثم أيده بالتوراة كتابًا منزلًا من عند الله، فيه تفصيل الأحكام: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، وقد نزلت التوراة على موسى دفعة واحدة في ألواح نفيسة من زمردة خضراء أو ياقوتة حمراء، وقيل: عددها سبعة، فهي كلام رب العالمين الخالد لا تنمحي مدى الدهر، ولا تبلى مع الزمن، فيها هدى ونور وتفصيل كل شيء من الأحكام وأمور الحياة؛ لذلك وردت في الآية كلمة "شيء" مرتين؛ للتأكيد على شمولية التوراة للأحكام وأمور الحياة، وقد أمر موسى أن يتمسك بدعوته بقوة؛ لأنه على الحق، وألا يستمع للمعارضين وأهل الزيغ والانحراف، كما أوصاهم ربهم بأن يأخذوا بأحسنها، وهل في التوراة أحسن وأقل حسنًا؟ كلام الله كله حسن، ولكن المعنى أن يعملوا بصريحها ومحكمها، ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، ثم قال: ﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، بمعنى أنه سيصف لهم النار التي هي دارهم ومستقرهم كأنهم يرونها رأي عين، ولقد تغيب موسى عن قومه أربعين ليلة، وهذه مدة طويلة، صحيح أن هارون كان معهم، ولكنه وصف بأنه كان لينًا رفيقًا بقومه، متأنيًا، أضف إلى أن القرار كان بيد موسى، أما هارون فكان بمثابة النائب له؛ ولهذا كان موسى قلقًا على مصير قومه، متشوقًا للعودة السريعة إليهم كأنما أحس بأن أمرًا ما قد وقع عندهم، وهو نبي يملك القلب الشفيف والرؤية البعيدة، وهو الخبير بما عليه قومه، ثم زال الشك باليقين؛ فقد أخبره ربه وهو في الطور: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 83 - 85]، والآية تفيد بأن المواعدة كانت لموسى ولعدد من قومه المخلصين المختارين، ولكن شوق موسى لهذا اللقاء جعله يتعجل ويخلِّف المختارين من قومه وراءه، وقد عوتب من ربه عن فعلته هذه؛ فالله تعالى أراد أن يشهد عدد من خيرة بني إسرائيل هذا اللقاء؛ لتقوية موقف موسى أمام قومه؛ كيلا يتشكك أحد بصدق دعوته، تمامًا كما كان يشهد الصحابة نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوصفوه كما رأوه، وكان موسى حركيًّا دائبًا غير متقاعس؛ لذلك لم يبطئ في التلبية، فسبق قومه ابتغاء مرضاة الله وخشية التأخر، وقد أزعجه بعد ذلك خبر فتنة قومه، فحمل الألواح وعاد إلى قومه: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا ما كان يحذر من حدوثه موسى، بل لم يكن يتوقع مثل هذا الانحدار الخطير في العقيدة بعد كل ما رأوه من المعجزات والآيات التي ترسخ العقيدة في القلوب، رجع وهم يعبدون عجلًا من ذهب، وقد خُدعوا بما له من خوار، ولكن ليس في هذا عذر لهم، كيف يعبدونه وقد صنعوه بأيديهم وهو من حليهم؟! ولذلك عنفهم المولى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا يدلُّ على ضعف في التفكير وانحدار في العلم إلى حد الأمية، يعيشون جهلًا مطبقًا، فما ميزتهم على غيرهم من الأمم التي تعبد الأصنام؟ وبنو إسرائيل يقودهم نبي ويحيا بين ظهرانيهم ثم ينحدرون هذا الانحدار في العقل والتفكير، وأولئك الأمم الذين شاهدوهم يعكفون على أصنام لهم قد ضلوا وتاه تفكيرهم؛ لبعدهم عن تعاليم الأنبياء، وبنو إسرائيل ضلوا بعد غياب أربعين يومًا لنبيهم فأحدثوا بعده من الضلال ما فاق غيرهم من عبدة الأصنام، فكيف يؤتمنون على الشريعة بعد موسى عندما يتوفاه الله؟! ولهذا فلا غرابة إن قيل عنهم فيما بعد بأنهم حرفوا التوراة، لكن العقلاء منهم الذين انجرفوا مع التيار الطاغي ندموا على ما وقع منهم، ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، وهذا تعبيرٌ قُرْآني جميل: ﴿ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأعراف: 149] فُسِّر بالندامة والتحيُّر، وقيل: هو أشد الندامة والحسرة، فإن من يبلغ هذه الدرجة من الندامة على ما فعل من تقصير فإنه يلجأ إلى عض يده بشدة، وقد لا يشعر بما يفعل؛ لشدة انفعال النفس في التأثر من الخطأ الذي وقع فيه، إن هذا التعبير القُرْآني البديع يبدي لنا حال ذوي النهى النفسية الذين آبوا وتابوا مما وقع منهم، وهو فظيع شنيع ما كان أن يحصل، لكن الشيطان له فعله وعمله في فتنة القلوب والنفوس، والعاقل من يتخلص من حبائله ويعلن توبته وعودته الحميدة إلى الله فلا يقف عند العصيان، وباب الله واسع، فتحه على مصراعيه للتائبين؛ لذلك أتبعوا توبتهم وندامتهم بأن دلفوا إلى رحمة الله خاضعين خاشعين؛ ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، فقد عرَفوا الطريق فعادوا وقد خلعوا ما كانوا عليه من التيه والضلال، ولبسوا ثوب التوبة والعبودية لله مخلصين له، ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ [الأعراف: 150] عاد وقد تملَّكه الغضب، واشتد به حتى بدا في ملامح وجهه واحمرار عينيه، فلم يسلم على قومه، ولم يهش أو يبش كعادة من يغيب ثم يعود، بل بادرهم بالسخط والتعنيف، ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، و"بئس" كلمة تستعمل للذم، لقد تركتكم على خير حال، فما إن غبتُ عنكم انحرفتم، ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 150] تعجلتم سخط ربكم وغضبه، قبل أن تأتيكم تعليماته لتبسط لكم الشريعة وتبين لكم أسس التوحيد، لقد تصرَّفتم التصرف الخاطئ الذي تلامون عليه، ألم يكن فيكم صبر حتى أعود إليكم ومعي ما أنزل إليَّ ربي من الشريعة الغراء لنتبعها على هدى وعلم؟ قال هذا وهو في غاية الغضب: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 92 - 94]، فكان عليه السلام ذا رأي حصيف وعقل كبير، تصرف بحكمة إلى أن يرى موسى فيهم رأيه، وحين أشرف موسى على قومه ورآهم عاكفين على العجل يعبدونه امتلأ غيظًا واشتد أسفًا؛ فألقى الألواح من يده ومال إلى هارون - وكان قد اعتزل القوم بعد أن تهددوه - وكأنه أراد أن يحمِّله مسؤولية ما حدث من انحراف؛ لأنه كان المؤتمن عليه في غيابه، وعليه ألا يدعهم ينحرفون، فصب جام غضبه عليه، وأمسك برأسه يجره إليه وبلحيته تارة، وهذا تصرف الغاضب - ولم يكن موسى يغضب لأذية مسته في شخصه، وإنما غضبه لهذا الانحراف العقدي وهكذا الأنبياء - ولكن الأخ الهادئ هارون شرح له الموقف وأعلمه أنه لم يكن ليرضى عما فعلوه، وأنه حاول منعهم من ذلك، لكنهم استضعفوه، ووصل الأمر بهم إلى تهديده بالقتل إن وقف حائلًا دون رغبتهم، فلم تكن عندهم له مهابة كمهابة موسى القوي، وأثرت كلمات هارون بموسى، فقد بذل أخوه جهده، ومن الخطأ أن يعامله معاملة الظالمين المخطئين، أو أن يظن أنه جارَاهم في عبادة العِجل - معاذ الله أن يكون فعل هذا، ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ [طه: 90، 91]، لقد اعتزلهم في هذه الفترة، كما بيَّن له أن النزاع بين الأخوين يُشمِت بهما الأعداء الذين يتمنون هذا الخصام؛ لأنهم بالطبع ضد الدعوة، وإلا لما فتنوا بني إسرائيل بالعجل الذي صاغوه، وهنا رجع موسى إلى نفسه بعد الغضبة الفولاذية، ورأى أن الأمر قد حدث، وعليه رأب الصدع والعودة ببني إسرائيل إلى جادة الحق، ومحاسبة من تسبب في هذا الشرخ الكبير، ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151]، ولقد كان نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حِلمًا، وكان يغضب إذا انتُهك حد من حدود الله، وهكذا الأنبياء، وعلينا أن نعرف أن عبارة: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 150] رماها من الغضب دون شعور منه؛ لأن ما شاهد أمامه من الارتداد وعبادة العجل لم يكن ليحتمله موسى، ولم يقصد عدم الاهتمام بقدسيتها؛ فهي كلام رب العالمين، وحاشا لموسى أن يصدر منه هذا، وأن يفضي غضبه إلى انتهاك المقدسات وهو الحريص على حمايتها واحترامها، فما مصير المتسببين في هذه الفتنة؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ﴾ [الأعراف: 152]؛ أي: إلهًا، ﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف: 152]، وغضب الله معناه النار والعذابُ في الآخرة، وهذا لمن عبدوه متعلقين به ومعتقدين ألوهيته. أما الذين تابوا وأنابوا فمغفرة الله واسعة ورحمته كبيرة؛ لذلك أتبع الآية السابقة بما يفيد عفوه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 153]، كما توعدهم الله بالذلة والصَّغار في الحياة الدنيا، فهذا جزاء الذين يفترون الكذب على الله ويقلبون الحقائق، ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [الأعراف: 154] وهنا لم ينسب الغضب لموسى، بل استعار للغضب محركًا آخر وأخرج موسى من دائرة الغضب المباشر، وهذه استعارة مكنية، ولكن اللافت هنا أنه لما أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة، وكانت لما أحضرها حافلة بالمعطيات من كل شيء، فماذا حصل؟ إن إلقاء الألواح ساعة الغضب حطم بعضها، فنسخ الله جزءًا كبيرًا منها، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة، ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفًا على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع"، وفي رواية سعيد بن جبير قال: "كانت الألواح من زمرد، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى والرحمة"، وبعد هدوء موسى واسترجاعه، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ﴾ [طه: 86]، لقد ذكرهم بوعد الله لهم بالجنة إذا التزموا طاعته وتوحيده، وقال: هل أنساكم طول العهد ما التزمتم به من الطاعة وهذا عهد وموعود الله لكم قائم في حال التزامكم؟ فلمَ أخلفتم ما عاهدتموني عليه من الإقامة أثناء غيابي على الطاعة فنقضتم عهدكم، فعدت لأراكم تعبدون العجل؟ ما أكثر تقلبكم وما أضعف نفوسكم! لقد انحطت من عال، وفارقها شموخ العزة بالإيمان، لكن قومه سارعوا إلى تبرير فعلتهم، ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ [طه: 87] فكان ما حصل بغير إرادتنا، حيث قادنا إلى ذلك أمر ظنناه من الدين، ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 87] خرجنا من مصر ومعنا الحلي من الذهب الذي استعرناه من المصريين ورأينا أن هذا لا يحل لنا وهو وزر نحمله فقذفناه في النار تخلصًا منها، وهذا ما قاله لنا السامري بأن موسى تأخر عنكم واحتبس لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعناه ودفعناه إليه، وقد وافق كرهنا للحلي ومحاولتنا التخلص منها هوى في نفس السامري، فاستغل هذا الكره لما خطط له من الخبث، فأخذ الحلي وقذفها في النار أمامنا، ثم أخرج لنا عجلًا جسدًا له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88]، وانطلت الحيلة على هؤلاء الجاهلين وخدعوا بخواره وهم حديثو عهد بالتدين وظنوا أن هذا من لوازمه، كما يفعل جهلة اليوم عندما يتمسحون بالأضرحة ويظنون فيها التقرب إلى الله وينسون العبادة الحقة من الصلاة وقصد الدعاء والتضرع لله وحده، فكثير منهم يترك اللب ويتبع القشور ويعتقدون فيها الأصل، وهو جهل وبُعد عن تلقي العلم الصحيح، ﴿ فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88] لقد اتهم السامري موسى بأنه نسي مكان إلهه فراح يبحث عنه بينما هو مقيم بين ظهرانيهم، وهنا التفت موسى إلى السامري بعدما لزمته الحجة وأشارت إليه أصابع الاتهام، فهو الضال المضل الذي لعب بالعقول وفتن الألباب ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ﴾ [طه: 95] ما الذي حملك على ما صنعت مخالفًا عقيدة التوحيد؟! كان فتًى أوتي حظًّا من الذكاء تبع موسى وهو من قوم يعبدون البقر، فظل هذا الأمر يلازمه ولم يتخلص منه، فوجد فرصته بغياب موسى ليجرَّ بني إسرائيل إلى عبادة آلهة قومه الذين يقطنون في منطقة السامرة، ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]، رأى جبريل على فرسه التي وطئت بحافرها الأرض فتركت أثرًا لهذا الحافر وهي من العام العلوي، ووقع حافرها على الأرض فيه سر الحياة، فأخذ هذا الأثر وألقاه على العجل الذي صاغه من الذهب فدب به نوع من الحياة، ومن ذلك أنه أظهر صوتًا يشبه خوار البقر، ثم أردف قائلًا: هكذا زينت لي نفسي هذا الفعل ففعلته، اعتراف فيه استهتار بالقيم، يتكلم وكأنه ليس من أتباع موسى، فما كان من موسى إلا أن دعا عليه دعوة فريدة من نوعها يستحقها جزاء ما اقترفت يداه من تضليل المؤمنين، ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾[طه: 97]؛ أي: لا يقرب أحدًا ولا أحد يقربه، وهو نفي عن القوم؛ لخطره ودرء فتنته، وزجرًا لغيره، فقد خلق الله فيه خاصية المباعدة، فهرب من الناس وهام في البراري مع الوحوش وكفى الله المؤمنين شره في الدنيا، وله في الآخرة حساب عسير، ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾ [طه: 97]، وبعد أن عرَّفه قدر نفسه وأنه خرج مغضوبًا عليه ثم بين له قدر هذا الإله المصنوع وأنه لا يدفع عن نفسه ضرًّا ولا يجلب خيرًا، فحطمه وحرقه حتى أذابه قطعة واحدة ثم دقه قطعًا صغيرة ونسفه في البحر نسفًا، وبدأ التركيز أكثر على التوحيد؛ ليصون به قومه من الانزلاق في مهاوي الشرك وسوء الاعتقاد، ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وعاد موسى إلى قومه بعد طرد السامري، وتلقينهم التوحيد ليبلغهم بأن الله قد عفا عنهم، ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52]، ولكن استثنى من العفو عددًا ممن كانوا السبب في عبادة العجل، حيث تقرر أن يطهروا أنفسهم بالقتل، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، فكيف تم هذا التطهيرُ؟ وقد رُوِيَ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، قال: أمَر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، وجعل للقاتل توبة وللمقتول شهادة، وتعددت الروايات مع اتفاق على أن القتلى سبعون ألفًا، وأن الله تعالى قد تاب على الجميع. بنو إسرائيل لا يزالون في سيناء: وتوالت الأحداث على بني إسرائيل في سيناء، فقد اصطحب موسى معه سبعين رجلًا من خيار قومه إلى جبل الطور ليعتذروا عن بني إسرائيل وما كان منهم من عبادة العجل وليسمعوا ويشاهدوا موسى وهو يكلمه ربُّه، وقال لهم موسى: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، وتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل غشى الجبل عمود من الغمام، وقال موسى لمن معه: ادنوا، ولما دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا لله فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمر انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم موسى، غير أنهم شكوا بما حدث، فطلبوا رؤية الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]؛ أي: علانية هكذا جهارًا نهارًا، وهذا الطلب فيه جراءة على الله وقلة تأدب، فكان الرد عليهم حاسمًا قاهرًا، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]، فماتوا واحدًا إثر واحد، فكان ينظر بعضهم إلى بعض وهم يموتون، وفي هذا ألم وتعذيب لهم وردع لمن خلفهم من التمادي في الضلال، ولما رأى موسى هؤلاء النخبة من قومه وقد حلت بهم مصيبة الموت، قام يبكي ويدعو ربه ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ فاستجاب الله لتضرع موسى، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾} [البقرة: 56]، وهناك رواية ثانية عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أن موسى عاد إلى قومه ومعه الألواح، قال لهم: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمرُكم الذي أمركم به ونهيُكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى، وقرأ قول الله: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، ثم أحياهم الله من بعد موتهم. وهذه الرواية جيدة، فالعقاب كان لهذا التمادي في الباطل وطلب الرؤية بوقاحة واستهتار وإملاء لما سيكون عليه ظهور الرب كما يطلبون، ولكن أين طلبهم هذا من طلب موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، طلب محبة وشوق وخضوع لله؛ لذلك كان الرد رفيقًا بموسى، لا صاعقًا مميتًا.