text
stringlengths
0
233k
تسترجع في مثل البوحِ
آياتٍ مُحزِنَةَ الإرنانْ
في سورةِ "مريم..
والفتحِ"
..
..
القيد يعض على القدمين
وسجائر تُطفأ في النهدين
ودمٌ في الأنف..
وفي الشفتين..
جراح جميلة بوحَيْرَدْ
هي والتحرير على موعدْ
امرأةٌ دوَّخت الشمس
جرحت أبعاد الأبعادِ
ثائرةٌ من جبل الأطلسْ
يذكرها زَهْرُ الكُبَّادِ.."
كما يأتي التوازن الإيقاعي الذي يتولد عن انفعالية البنية النصية، والفعاليات الدلالية التي تحقق تلك الانفعالات، لتخلق نوعاً من التناغم العضوي، والانسجام بين النص والمتلقي، ولاسيما على المستوى الدلالي كما نرى في قصيدة "بلقيس" تفعيلة "الكامل".
عالمية أدبه:
يقول نزار: "إنني في شعري أحمل جنسيات العالم كله.. وأنتمي لدولة واحدة، هي دولة الإنسان".
لشعر نزار ترجمات للإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، والروسية.
وقد قام المستشرق الإسباني بدرو مارتينز مونتافث بترجمة مختارات من شعر نزار إلى اللغة الإسبانية، وقد صدرت هذه المختارات عن المعهد الثقافي الإسباني العربي تحت عنوان (أشعار حب عربية). ويقول نزار بهذا الصدد: "الواقع كنت مبهوراً بقدرة اللغة الإسبانية على نقل انفعالاتي وهواجسي بمثل هذه الدقة والصفاء. بل لا أكون مبالغاً إذا قلت إن النص الإسباني لبعض القصائد كان يتفوق في جماليته وموسيقيته على النص العربي.."
أما عن الترجمة الروسية الأخيرة لمجموعة منتخبة من قصائد نزار من مختلف دواوينه، يذكر د. فالح الحمراني: "تضمن ديوان نزار بالروسية قصائد مثل: جسمك خارطتي، وبيروت حبيبتي، ومدرسة الحب، ورسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان، وقولي أحبك، ونهر الأحزان، وأيظن، وخبز وحشيش وخمر، وأشهد ألا امرأة إلا أنت، واختاري، وحارقة روما، وقصائد حب قصيرة جداً.."
وأدرج المستشرق الروسي دياكونوف الشاعر نزار قباني ضمن كوكبة الشعراب العرب المشهورين الذين أسسوا لانطلاقة الشعر الحديث ووضع مفهوم حديث للقصيدة العربية بعيداً عن المفهوم الكلاسيكي لها.
كما أن دياكونوف يعقد مقارنة بين ما جاء في قصيدة "خبز وحشيش وخمر" من أفكار، وطروحات المفكر الروسي التنويري الكبير بيتر تشادايف (1756 – 1794)، كما يذكر انعكاس هذه الأفكار أكثر في قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" التي كُرِّسَت لهزيمة العرب في الحرب مع إسرائيل عام 1967.
الملامح الإبداعية الأساسية في أدب نزار:
أفروديت في أدب نزار
تُعرَف أفروديت على أنها إلهة الحب والجمال البشريين عند اليونان. إلا أن أفروديت الكونية قد أسماها القدماء أورانيا، أو إلهة السماء. وهكذا فمن خلال هذه الشخصية الكونية نتواصل مع الجمال الذي يملأ الطبيعة والكون ويتجسد في المرأة.
إن حضور أفروديت في العالم وثورتها تحدث مع الانقلاب الربيعي، حيث الربيع هو فصل الحب والجمال، فصل الشباب، وليس غريباً أن تكون ولادة عبقرية شعرية نزارية متزامنة مع هذا الانقلاب، فأتت صرخة من الأعماق لتعيد أفروديت إلى عرشها المفقود، لتذوق الجمال والإحساس به.
إلا أن أفروديت لها سرها الخاص فهي إلهة الجمال من جهة والغواية والإغراء من جهة أخرى. كيف لنا أن نفهم هذه الازدواجية؟!..
إن فينوس – وهي نفسها أفروديت ولكن في الثقافة الرومانية – تستطيع أن تقدّم لنا الإجابة عن هذه الازدواجية، فهي نجمة المساء، التي ترمز للجانب الإغوائي، وهي نجمة الصباح التي ترمز للجانب التأملي.
عندما تختفي نجمة الصباح من حياتنا، يبقى جانب واحد وهو نجمة المساء حيث يهيمن الجانب الإغوائي، وهنا تظهر أفروديت مشوّهة، حيث تتكاثف شحنتها الإلهية في البورنو، والبورنو Porne كلمة يونانية تعني عاهرة، وكانت تُستخدَم كلقب يطلق على الإلهة العظيمة أفروديت، إلا أن البورنو قد يكون بدوره دعوة لتنشيط وإحياء نجمة الصباح في حياتنا!!
وهذا ما يعبّر عنه الروائي جوليان غرين في مذكرات طفولته وحداثته التي نُشِرَت بعنوان "الانطلاق قبل طلوع النهار"، ويروي لنا كوستي بندلي كيف أن الروائي كان ينفّس عن نزعته الجنسية المكبوتة بتأثير تربية قاسية، بانصرافه إلى رسم أجساد عارية. كانت هذه الرسوم تدخله في حالات من الانخطاف يغيب أثناءها عما حوله، وتغذي فيه رغبات، لم يكن يدرك عند ذاك ماهيتها، ولكنها، كما يقول: "رغبات كان محكوماً عليها أن تبقى غير مشبعة لأنها كانت تتجاوز الإمكانات البشرية".
كتب الأديب جبرا ابراهيم جبرا: "مهما تكن العواطف أولية، فإن ثمة صورة شعرية لابد متحققة في مكان ما، على شكل غير متوقع يعود بنا إلى أصول تجارب الإنسان، وأنماطه العليا. الحب، أو الإثارة الجنسية التي يسببها، يلهب خيال الشاعر فيرى الحياة في سلسلة من "الأزواج" أو النظائر يعكس الواحد منها الآخر: الشيء والشيء المشبه به. الإنسان والطبيعة: شيء ومرآة، متبادلان. وذلك بالطبع هو سر الشعر، عندما تغدو الكلمة وسيلة للاتصال بظواهر الكون، والتوحد بالطبيعة في شتى حالاتها وغزاراتها."
كنموذج لما تحدثنا عنه نعرض قصيدة "إلى مضطجعة" التي يقول نزار فيها:
ويقال عن ساقيك إنهما في العري.. مزرعتان للفل
ويقال: أشرطة الحرير هما ويقال: أنبوبان من طل
ويقال: شلالان من ذهب في جورب كالصبح مبتل
*
هرب الرداء وراء ركبتها فنعمت في ماء.. وفي ظل
وركضت فوق الياسمين..فمن حقل ربيعي ... إلى حقل
فإذا المياه هناك باكية تصبو إلى دفء.. إلى وصل
*
يا ثوبها، ماذا لديك لنا؟ ما الثلج.. ما أنباؤه؟ قل لي
أنا تحت نافذة البريق.. على خيط غزير الضوء.. مخضلّ
لا تمنعي عني الثلوج.. ولا تخفي تثاؤب مئزر كحلي
إني ابن أخصب برهة وُجِدَت لا تزعجي ساقيك.. بل ظلي
1948 "طفولة نهد"
إن حضور أفروديت بازدواجيتها المتكاملة والرائعة، يشرحها لنا الدكتور محي الدين صبحي، يقول: "مشهد الساق الواقعية يثير فينا أحاسيس وغرائز، في حين أن مشهد الساق في لوحة أو في قصيدة يثير لدينا تداعيات صورية. لكن الشاعر رأى ساقاً طبيعية فثارت في نفسه تداعيات صورية، وإذن فالشاعر أو الفنان على العموم ينظر إلى الطبيعة على أنها فن وإلى الفن على أنه طبيعة.. فالتحريف في صورة الموجود الطبيعي تمليه الرغبة فيه، اشتهاؤه، من جهة، وزاوية النظر التي يسلّطها الشاعر عليه من جهة أخرى، فالشاعر حين نظر إلى الساق كان كأنه ينظر إلى حديقة فيها فل وطل وحرير وماء وظل وياسمين..
وهذه النظرة هي التي أسميناها موقف المتذوق. حيث يغلب عنصر التأمل على عنصر الرغبة..
وحتى التصريح بالرغبة حافظ على الطابع الفني في الحوار، أي احتفظ بالرؤية الأساسية في دمج جمال المرأة بجمال الطبيعة. وكان منسجماً مع هذا المستوى الرفيع من الإحساس في خاتمة القصيدة."
يقول د. محي الدين صبحي: ".. وبينما تحيل الأخلاق البورجوازية المرأة إلى جمال والجمال إلى متعة، والمتعة إلى تملك واستهلاك، يحيل المذهب الإنساني الشعري المرأة إلى حرية، والحرية إلى جمال، والجمال إلى تأمل وتذوق يؤديان إلى المزيد من الحرية".
إنما جمال أفروديت في شعر نزار ينعكس في تصويره لسحر العيون، ورقة الثغر، وانضفار الساق، وجماح النهد، واسترسال الشعر.. وهذا كله يمتلئ بسيل من الصور الشعرية الخالصة تدعو الحواس كلها لكي تمتلئ بهذا المهرجان من الجمال عبقاً ولحناً وإحساساً وذوقاً ورؤى..
أشياء أفروديت:
لاشك أن الإحساس بأفروديت تملأ العالم سحراً وجمالاً وفتنة لهو إحدى أهم مصادر السعادة للإنسان في هذه الحياة.
منذ أن يبدأ الطفل يقف على قدميه وينظر إلى قبة السماء في الليل تملؤها النجوم أو إلى زهرة أو حيوان أليف أو ينبوع يتدفق أو وجه يبتسم حتى يرتعش دهشة وفرحاً..!!
وحين ينضج الطفل ويصبح راشداً، فإن أفروديت تلبس اللحم والدم، فيرى روعة السماء والنجوم والعطر تنضح في جسد الآخر،.. لكنه، إن أساء فهم دعوة أفروديت له أو خشَيَها فحاول الهرب منها، أو حاول مقاومتها، فإن لها طريقتها في ملاحقته والانتقام منه، فلها القدرة مثلاً على أن تختفي في بعض أشيائها.. وحينئذ قد يصبح عبداً لهذه الأشياء.. وهذا ما قد حلله بإسهاب فرويد ودرسه محللون آخرون، وأشار إليه كولن ويلسن.. من الصعوبة بمكان أن نتهم شاعراً كبيراً، إن لم نقل ظاهرة شعرية في التعبير عن سحر أفروديت وجمالها وفتنتها، بأنه قد وقع عبداً لأشيائها، كما قد ظن بعض الدارسين والنقاد..!!
وبعبارة أخرى، قد عرف الشاعر بإحساسه المرهف أن أفروديت تقدس المرآة، ومتعة الظهور، ومواد التجميل، والأزياء، والزينة، والمجوهرات، والعطر،.. ومن هنا أتت كثير من قصائده على اختلاف مشاربها وصفاً لعالم أفروديت المترامي الأطراف.
وفي هذا السياق، يقول د. محي الدين صبحي: "إن الشعر الذي يتعرض لأشياء الجمال في نتاج نزار قباني يكاد يكون من أكثر نتاجه إبداعاً، على الرغم من أن الأنظار لم تلتفت إلى ما فيه من جدة وأصالة.
يقول مثلاً:
يتألق القرط الطويل بجيدها مثل الشموع بليلة الميلاد
أليس في هذه الصورة فرح وقدسية معاً.. بل وفيها أيضاً أضواء ذابلة، أضواء شموع تتمايل وتتراجف من الثمل والسهر.."
الايروس في أدب نزار:
من المعروف في الأساطير اليونانية أن أفروديت كانت أماً لـ(ايروس) و(انتيروس)، ومما لاشك فيه أن الحب (ايروس) وليد الجمال (أفروديت)، وهذا الحب (ايروس) الذي هو الرفيق الأزلي للجمال (أفروديت) هما سر الوجود وكنهه..
وكذلك تروي الأسطورة، أنه في عيد ميلاد أفروديت في السماء، تزوج ايروس من فتاة بشرية (بسيكه)، وهكذا فمن خلال الايروس يشترك الإنساني بالإلهي..
لسنا بصدد نقد مفكرين كبار يتعالون على الايروس، ويعتبرونه مجرد تحريض بيولوجي. ويصفونه أنه توق الأعضاء بعضها للبعض الآخر، ويعتبرون الشخص في الايروس غير هام.
وهم أيضاً يتعالون على مفهوم الليبيدو، وهو الطاقة الجنسية عند فرويد، وتمثل طاقة الايروس، ويصرحون أن الليبيدو هو نبض الحياة، وهو يأتي من القلب.
والقلب هو العضو الذي يفتح أبوابه من أجل استقبال شخص آخر، ويقولون أن هذه هي المعادلة الإنسانية في مقابل المعادلة الحيوانية التي لا تتعامل إلا مع المصلحة الذاتية.
ولعل للتواضع كلمة أخرى.. إن بذرة الحب تكمن في الايروس، ومن خلال الايروس يضرب الإنسان جذوراً في الأرض، تشكل له الدعامة والغذاء لنمو أغصانه وهي أجنحته في السماء.
ليس بوسعنا أن نتعالى على الايروس، فهو حيوية الكائن وسره، وهو بالتالي يروي القلب بزخمه، وبدونه ليس بوسع الإنسان أن يحب حباً حقيقياً..!!
لا بل بوسعه أي الايروس أن ينقل الإنسان إلى تخوم الكون، ويكشف له حقائقه وأسراره ويعلمه مزيداً من التواضع..
"الحب الحقيقي يحرر الذات من ضغط القوى الأخلاقية التي تقيم السدود في وجه عمليات إشباع الغرائز".
وهو"مشاركة فعالة تتم بين حريتين تمنح كل منهما نفسها للآخر بلا حساب".
كتب الأديب جبرا ابراهيم جبرا: "الحب هنا يجعل من كل رجل عاشقاً، ومن كل امرأة معشوقة، رغم ما يملأ الحياة من كل ما يحض الرجال والنساء على إغماض العين وتبليد الحس".
"الجنس في هذا الشعر لا يبقى نزوة في فراش: إنه ينبوع فرح يتفجر مع كل شمس، مع كل قمر، مع كل رفة عصفور، أو انحسار تنورة. والذي يرفعه إلى مرتبته الخاصة، هو جدية الشاعر، وشاعريته، اللتان تؤكدان على قواه الفائضة على الكون."
في تعليقه على "القصيدة المتوحشة" يقول د. محي الدين صبحي: "لاشك أن هنالك فرقاً شاسعاً بين الإنسان المتحرر من داخله بحيث يقدر على ممارسة كل فعالياته، والإنسان المستَعبَد لنمط واحد من أنماط السلوك المتكرر والممل بسبب تصلبه حسب القوالب التي وضعه فيها المجتمع.
.. إن الشاعر يرفض النموذج الذي تصلب حسب القوالب التي صبه فيها المجتمع، لأنه يرفض أصلاً هذا المجتمع ومثله القائمة على الكبت والمداورة والنفاق. وهو ينطلق من صدامه مع مثل المجتمع من قضية بسيطة، فالمجتمع يفرض على المرأة أن تكتم عواطفها فلا تبوح بها.. بل أن تكبت رغباتها فلا تمارسها ولا تسعى لإشباعها.. فالحب الصامت مرفوض لأنه يقوم على القهر والكبت.. الحب القديم المليء بالصمت والتأمل وليالي العذاب والوحشة ومناجاة العين للعين والخوف من الرقيب والعاذل والحسود.. أسلوب بال من أساليب الحب يرفضه الشاعر وينادي بأسلوب جديد متحرر.
.. الحب الصامت الذي يؤدي إلى الكبت والمعاناة، والحب المتكلم الفعال الذي يستعين في سبيل سعادته بكل ملكات النفس وفعاليات الجسد.
..الإنسان الصامت إنسان يكبت عواطفه ويكبح جماح انفعالاته ويكتم ميوله ونزعاته حتى عن نفسه، ويقضي عمره في حبس انفعالاته ومجاهدة عواطفه وقتل غرائزه."
القصيدة المتوحشة
ـ 1 ـ
أحبيني .. بلا عقد
وضيعي في خطوط يدي
أحبيني.. لأسبوع.. لأيام.. لساعات
فلست أنا الذي يهتم بالأبد
أنا تشرين.. شهر الريح.. والأمطار.. والبرد
أنا تشرين.. فانسحقي
كصاعقة على جسدي
ـ 2 ـ
أحبيني.. بكل توحّش التتر
بكل حرارة الأدغال.. كل شراسة المطر
ولا تبقي.. ولا تذري
ولا تتحضري أبداً..
فقد سقطت على شفتيك كل حضارة الحضر..
أحبيني.. كزلزال.. كموت غير منتظر..
وخلّي نهدكِ المعجون بالكبريت والشرر..
يهاجمني.. كذئب جائع خطرِ..
وينهشني.. ويضربني كما الأمطار.. تضرب ساحل الجزر
أنا رجل بلا قدر.. فكوني أنتِ لي قدري
وأبقيني.. على نهديكِ.. مثل النقش في الحجر..
ـ 3 ـ