text
stringlengths 0
233k
|
---|
أحبيني.. ولا تتساءلي كيفا.. |
ولا تتلعثمي خجلاً.. ولا تتساقطي خوفا |
أحبيني بلا شكوى.. أيشكو الغمد إذ يستقبل السيفا؟ |
وكوني البحر والميناء.. كوني الأرض والمنفى |
وكوني الصحو والإعصار: كوني اللين والعنفا |
أحبيني بألفٍ وألف أسلوب |
ولا تتكرري كالصيف.. |
إني أكره الصيفا |
ـ 4 ـ |
أحبيني.. وقوليها |
لأرفض أن تحبيني بلا صوت |
وأرفض أن أواري الحب في قبر من الصمت |
أحبيني.. بعيداً عن بلاد القهر والكبت |
بعيداً عن مدينتنا التي شبعت من الموت.. |
بعيداً عن تعصبها.. |
بعيداً عن تخشبها.. |
أحبيني.. |
بعيداً عن مدينتنا التي من يوم أن كانت |
إليها الحب لا يأتي.. |
إليها الله.. لا يأتي.. |
ـ 5 ـ |
أحبيني.. ولا تخشي على قدميك – سيدتي – من الماء |
فلن تتعمدي امرأة.. وجسمك خارج الماء |
وشعرك خارج الماء.. |
فنهدك بطة بيضاء.. لا تحيى بلا ماء.. |
أحبيني.. بطهري.. أو بأخطائي.. |
بصحوي.. أو بأنوائي.. |
وغطيني.. |
أيا سقفاً من الأزهار.. يا غابات حناء |
تعرّي.. |
واسقطي مطراً |
على عطشي وصحرائي.. |
وذوبي في فمي.. كالشمع |
وانعجني بأجزائي.. |
تعرّي |
واشطري شفتي إلى نصفين |
يا موسى بسيناء. |
1970 "قصائد متوحشة" |
ومن الجدير بالذكر ما يقوله د. محي الدين صبحي: "المعرفة التامة التي تؤدي إلى أن يحفظ أحد الطرفين صاحبه عن ظهر قلب، كالتلميذ، فتلك خطيئة لا يمكن تجاوزها إلا بنسيان تلك المعرفة، أية فاجعة لعاشق يحرمه المعشوق من لذة الدهشة ومفاجأة الاكتشاف! |
وأية فاجعة أقسى من أن يشعر المرء بالسلامة حيث يجابه "النهد الذي يحترف القتل وجاهياً، وما زال على القتل صغيراً" إن الجانب الأكبر من العشق يقوم على الإحساس بالخطر والمجازفة، بل يحس المرء بأنه مقدر عليه "أن يمشي أبداً في بحر الحب بغير قلوع". أما أن يحفظ "جغرافية النهدين عن ظهر قلب" وأن يعرف "طعم العرق المالح، والجرح الطفولي على ركبتك اليسرى.. وتوقيت الأعاصير" فهذا سقوط في الابتذال والتفاهة، سقوط في وهدة التملك البورجوازي الذي يجعل من المعشوق رجلاً كان أو امرأة قطعة أثاث.." |
الثاناتوس في تجربة نزار الإبداعية |
يقول نزار في سيرته الذاتية: "إن أخطر ما يقع فيه الشاعر هو السقوط في صمغ الطمأنينة، ومهادنة الأشياء التي تحيط به. والشاعر الذي لا يعرف قشعريرة الصدام مع العالم يتحول إلى حيوان أليف، استؤصلت منه غدد الرفض والمعارضة. |
إنني منذ طفولتي، كنتُ أجد متعة كبرى في التصادم مع التاريخ والخرافة، ولم أكن راغباً أبداً في أن أكون درويشاً في حلقة ذكر.. أو طفلاً يغني في جوقة الكنيسة.." |
إن بذور التحدي والرفض لدى الشاعر نزار قباني تعود عميقاً إلى طفولته الأولى، فالثاناتوس أو "غريزة الموت" حسب فرويد، تحتوي جذور العدوان الموجودة فيها كما افترض فيما بعد. ونستطيع أن نسميها "النزعة العدوانية" الكائنة في صميم الكائن البشري، هذه النزعة تتجلى بادئ ذي بدء في الطور السادي الفموي وهي المرحلة الأولى لتطور الليبيدو عند الطفل حسب فرويد. |
يتحدث نزار عن رغبته في تحطيم الأشياء والألعاب عندما كان في سن العاشرة تقريباً، وأن هذه الرغبة كانت قد أتعبته وأتعبت أهله معه، والحال، فإن عبرت عن شيء فهي تعبّر عن استيقاظ النزعة العدوانية الكائنة في صميم الكائن البشري موازية للنزعة الجنسية، وكان قد عبر عنها فرويد في ثنائية الايروس والثاناتوس، وعندما يواكب النزعة العدوانية النضج والوعي تصبح ثورة حقيقية على العادات البالية والجهل المستحكِم وراءها من جهة، وعلى الظلم والضعف ومحاباة الوجوه من جهة ثانية. |
في الواقع، كان شعر نزار السياسي تعبيراً صارخاً لرغبته القديمة في الطفولة في تحطيم الأشياء وكسرها.. لقد كان يريد تحطيم الواقع السياسي المرير المحيق بالوطن العربي ليخرج منه وعي جديد يتمثل بانتفاضة أو صحوة أو يقظة، وهذه اليقظة لا تحصل إلا من الداخل. حتى شعر نزار الغزلي لم يخفِ إلى حد ما بذور الرفض والتحدي لواقع تغييب جسد المرأة، والتعتيم الملقى عليه، في الحين أنه في عتمة الظلال والخفاء يلتهب شوق آخر يعبّر عن ازدواجية مؤلمة تحكم المجتمعات التي ما زالت ترزح تحت نير التكافلية مع الغرب والجهل، والكبت.. |
هكذا مجموعته الأولى "قالت لي السمراء" كانت في الواقع ردة فعل عنيفة على رياء المجتمع آنذاك وازدواجيته المؤلمة، وبالتالي فإن بذور التحدي والرفض كانت كامنة فيها، ناهيك أنه استطاع أن يعبّر عن نفسه كما هي، فها نحن نسمعه يقول: "كنت أبحث باستمرار عن وجهي وصوتي بين ألوف الأوجه والأصوات. استعارة أصابع الآخرين وبصماتهم لم أحترفها. كنت أريد أن أكتب بأصابعي أنا.. وأترك على الورق بصماتي المميزة..". |
إذن، استطاع نزار منذ البداية أن يعثر على وجهه وينزع بالتالي من خلال قصائده سواء الغزلية أو السياسية الأقنعة البربرية التي يحاول بعض رجالات عصرنا أن يضعوها على وجوههم إن في الأدب أو في السياسة أو في الدين أو في الأخلاق..!! |
هكذا كانت قصيدته التي كتبها في لندن "خبز.. حشيش.. خمر" ونشرها عام 1954 تحدياً ورفضاً، وأثارت زوبعة آنذاك في البرلمان السوري حيث طالب رجال الدين بمحاكمته وطرده من عمله الدبلوماسي. ومن جملة ما تحمله القصيدة من ثورة، ما أشار إليه الناقد ايليا الحاوي في إحدى مقاطع القصيدة التي تمثل ثورة الشاعر على الإيمان الغيبي القانع بقسمة الحياة الذليلة المتعثرة بالشقاء. |
يقول الناقد: "القصيدة تتطور من خلال الإشارات الحسية العميقة الإيحاء المتمثلة في ضمير الشاعر.. فهو قد استخدم العالم الخارجي لتجسيد عالمه الداخلي أو لتجسيد التقائهما في حالة من الثورة القاتمة التي تنظر إلى كل مظهر من مظاهر الواقع نظرة سخط ونقمة. فالشاعر يدعو إلى التجدد والنهوض من خلال تصويره المزري للتقاليد، وقد رسمها رسماً إيحائياً ذاهلاً من الداخل، التقط به من الواقع الشذرات العالقة بانفعاله، المستمدة منه عمق التجربة والدلالة". |
أما الانعطافة في مسيرته الشعرية فقد حدثت كما يشير الدارسون على أثر هزيمة حزيران حيث كانت ثمرتها قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" التي كانت العتبة لتفجّر شعره السياسي الذي تناول فلسطين والعرب، ثم احترق فيما بعد مع احتراق بيروت فكتب "إلى بيروت الأنثى مع حبي" وقد صدرت هذه المجموعة عام 1978. |
وجُمِعَت قصائد نزار السياسية فيما بعد في مجلدين، المجلد الأول وفيه اثنان وخمسون قصيدة تتناول مختلف القضايا التي تهم الواقع العربي قبل هزيمة حزيران وبعدها. أما عن المجلد الثاني فتقول الأستاذة فلك جميل الأسد في أطروحتها للماجستير "التحدي والرفض في شعر نزار قباني" ما يلي: "فيه أربع مجموعات: المجموعة الأولى هي "قصائد مغضوب عليها". وفيها عشرون قصيدة، ترسم صورة للعربي المقهور في وطنه، والذي يتحمل أبشع أنواع القمع والإرهاب. وهذه المجموعة تمثل رفضاً وتحدياً وتمرداً على الواقع العربي، وهي تتسم بقسوة واضحة على الشعب العربي وحكامه، وقد برز ذلك في معظم قصائد هذه المجموعة لاسيما في قصائده (تقرير سري جداً من بلاد قمعستان) و(السيمفونية الجنوبية الخامسة) و(لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان).. والمجموعة الثانية "تزوجتك أيتها الحرية" وتضم أربعين قصيدة، عالج فيها الشاعر موضوع الحرية المفقودة في معظم البلاد العربية، ويرى الشاعر في هذه البلاد معتقلات يعاني فيها أبناء الشعب العربي شتى ضروب القهر والاضطهاد. أما المجموعة الثالثة "الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق" ففيها أربع وعشرون قصيدة.. وهو يهاجم في بعض هذه القصائد الكتاب والشعراء العرب الذين جعلوا من مهنتهم حرفة كالدعارة يبيعون أقلامهم لمن يدفع لهم.. وأخيراً يضم المجلد الثاني مجموعته الشعرية الرابعة "هوامش على الهوامش" وفيها ثماني قصائد.. وهناك قصائد سياسية قالها الشاعر بعد ذلك، ومن أشهرها "المهرولون" وهي صرخة رفض وتحد لهؤلاء الذين كانوا يدّعون أنهم رموز الثورة والفداء، فإذا بهم يهرولون ويتزاحمون لتقبيل حذاء القتلة، ليحصلوا على وطن أصغر من حبة قمح، كما يقول الشاعر. تلك كانت اتفاقيات أوسلو التي قضت على أحلام المناضلين العرب في استرجاع حقوقهم. |
..كذلك هناك قصيدته "المتنبي وأم كلثوم على قائمة التطبيع" وهي قصيدة يرفض فيها الشاعر كل محاولات بعض حكام العرب جر شعوبهم وإرغامها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.." |
من آخر ما كتب نزار في شعره السياسي قصيدته التي يصف فيها مجزرة قانا. وتشير إلى نضج شعوري كبير للمعاناة الإنسانية في فلسطين.. يقول فيها: |
1 |
وجه قانا شاحب اللون كما وجه يسوع |
وهواء البحر في نيسان، |
أمطار دماء ودموع.. |
2 |
دخلوا قانا على أجسادنا |
يرفعون العلم النازي في أرض الجنوب |
ويعيدون فصول المحرقة.. |
هتلر أحرقهم في غرف الغاز |
وجاؤوا بعده كي يحرقونا.. |
هتلر هجرهم من شرق أوروبا.. |
وهم من أرضنا هجرونا |
هتلر لم يجد الوقت لكي يمحقهم |
ويريح الأرض منهم.. |
فأتوا من بعده.. كي يمحقونا!! |
3 |
دخلوا قانا.. كأفواج ذئاب جائعة |
يشعلون النار في بيت المسيح |
ويدوسون على ثوب الحسين.. |
وعلى أرض الجنوب الغالية.. |
4 |
قصفوا الحنطة، والزيتون، والتبغ، |
وأصوات البلابل.. |
قصفوا قدموس في مركبه.. |
قصفوا البحر.. وأسراب النوارس.. |
قصفوا حتى المشافي.. والنساء المرضعات.. |
وتلاميذ المدارس |
قصفوا سحر الجنوبيات |
واغتالوا بساتين العيون العسليه!.. |
5 |
ورأينا الدمع في جفن علي |
وسمعنا صوته وهو يصلي |
تحت أمطار سماء داميه.. |
6 |
كل من يكتب عن تاريخ (قانا) |
سيسميها على أوراقه: |
(كربلاء الثانية)!!.. |
7 |
كشفت قانا الستائر.. |
ورأينا أمريكا ترتدي معطف حاخام يهودي عتيق.. |
وتقود المجزره.. |
تطلق النار على أطفالنا دون سبب.. |
وعلى زوجاتنا دون سبب.. |
وعلى أشجارنا دون سبب.. |
وعلى أفكارنا دون سبب.. |
فهل الدستور في سيدة العالم.. |